تفسير سورة الفاتحة

اللباب
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم. وبه نستعين.
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهذيه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فهذا كتاب جمعته من أقوال العلماء في علوم القرآن وسميته :" اللباب في علوم الكتاب "، ومن الله أسأل العون، وبلوغ الأمل، والعصمة من الخطأ والزلل.
الاستعاذة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
هذا ليس من القرآن إجماعا، وإنما تعرضت له ؛ لأنه واجب في أول القراءة، أو مندوب، وقيل : واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم وحده.
وأصح كيفيات اللفظ هذا اللفظ المشهور ؛ لموافقته قوله تعالى :﴿ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ] ورووا فيه حديثين :
قال الشافعي١-رضي الله عنه- : واجب أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو قول أبي حنيفة٢-رضي الله عنه- قالوا : لأن هذا النظم موافق للآية المتقدمة وموافق لظاهر الخبر.
وقال أحمد٣-رضي الله تعالى عنه- : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه هو السميع العليم ؛ جمعا بين الآيتين.
وقال بعض الشافعية : الأولى أن يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ؛ لأن هذا –أيضا- جمع بين الآيتين.
وروى البيهقي٤ : في كتاب " السنن " بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم كبّر ثلاثا، وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم٥.
وقال الثوري٦، والأوزاعي٧ : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم.
وروى الضحاك٨ عن ابن عباس، أن أول ما نزل جبريل-عليه السلام- على محمد- عليه الصلاة والسلام- قال : قل يا محمد : استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال : قل :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ [ العلق : ١ ].
ونقل عن بعضهم، أنه كان يقول : أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد.

فصل


اتفق الأكثرون على أن وقت الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة.
وعن النخعي٩ : أنه بعدها، وهو قول داود الأصفهاني١٠، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين١١.
وقالوا : إذا [ قرأ ]١٢ الفاتحة وأمّن، يستعيذ بالله.
دليل الجمهور : ما روى جبير بن مطعم١٣-رضي الله عنه- : أن النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم-حين افتتح الصلاة قال :" الله أكبر كبيرا، ثلاث مرات، والحمد لله كثيرا، ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ثلاث مرات، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " ١٤.
واحتج المخالف بقوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط، وذكر الاستعاذة جزاء، والجزاء متأخر عن الشرط ؛ فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن القراءة.
ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل ؛ لأن من قرأ القرآن، فقد استوجب الثواب العظيم، فربما يداخله العجب ؛ فيسقط ذلك الثواب، لقوله –عليه الصلاة والسلام- :( ثلاث مهلكات ) وذكر منها إعجاب المرء بنفسه١٥، فلهذا السبب أمره الله- تعالى- [ بأن يستعيذ من الشيطان ؛ لئلا يحمله الشيطان بعد القراءة ]١٦ على عمل محبط ثواب تلك الطاعة.
قالوا : ولا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ﴾ أي : إذا أردت قراءة القرآن ؛ كما في قوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ﴾ [ المائدة : ٦ ].
والمعنى : إذا أردتم القيام فتوضئوا ؛ لأنه لم يقل : فإذا صليتم فاغسلوا ؛ فيكون نظير قوله :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ ﴾ وإن سلمنا كون هذه الآية نظير تلك، فنقول : نعم، إذا قام يغسل عقيب قيامه إلى الصلاة ؛ لأن الأمر إنما ورد بالغسل عقيب قيامه، وأيضا : فالإجماع١٧ دل على ترك هذا الظاهر، وإذا ترك الظاهر في موضع لدليل، لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل.
أما جمهور الفقهاء –رحمهم الله تعالى- فقالوا : إن قوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه : إذا أردت، وإذا ثبت الاحتمال، وجب حمل اللفظ عليه توفيقا بين الآية وبين الخبر الذي رويناه، ومما يقوّي ذلك من المناسبات العقلية، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة ؛ قال تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسولا ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ﴾ [ الحج : ٥٢ ] فأمره الله تعالى –بتقديم الاستعاذة قبل القراءة ؛ لهذا السبب.
قال ابن الخطيب١٨ –رحمه الله تعالى- :" وأقول : هاهنا قول ثالث : وهو [ أن ]١٩ يقرأ الاستعاذة قبل القراءة ؛ بمقتضى الخبر، وبعدها ؛ بمقتضى القرآن ؛ جمعا بين الدلائل بقدر الإمكان ".
قال عطاء٢٠-رحمه الله تعالى- : الاستعاذة واجبة لكل قراءة، سواء كانت في الصلاة أو غيرها.
وقال ابن سيرين –رحمه الله تعالى- : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره، فقد كفى في إسقاط الوجوب، وقال الباقون : إنها غير واجبة.
حجة الجمهور : أن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجّل وعظّم- لم يُعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة.
ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة، فلم يلزم من عدم الاستعاذة فيه، عدم وجوبها.
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه :
الأول : أنه –عليه الصلاة والسلام- واظب عليه ؛ فيكون واجبا- لقوله تعالى :﴿ واتبعوه ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ].
الثاني : أن قوله تعالى :﴿ فاستعذ ﴾ أمر ؛ وهو للوجوب، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل [ قراءة ]، لأنه تعالى قال :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ] وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل، والحكم يتكرر بتكرر العلة.
الثالث : أنه -تعالى- أمر بالاستعاذة ؛ لدفع شر الشيطان ؛ وهو واجب، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب٢١.

فصل في حكم التعوذ قبل القراءة


التعوذ في الصلاة مستحب٢٢ قبل القراءة عند الأكثرين.
وقال مالك٢٣-رضي الله تعالى عنه- لا يتعوذ في المكتوبة، ويتعوذ في قيام شهر رمضان للآية والخبر، وكلاهما يفيد الوجوب، فإن لم يثبت الوجوب، فلا أقل من الندب.

فصل في الجهر والإسرار بالتعوذ


روي أن عبد الله بن عمر٢٤ –رضي الله تعالى عنهما- لما قرأ، أسر بالتعويذ.
وعن أبي هريرة٢٥-رضي الله تعالى عنه- : أنه جهر به ؛ ذكره الشافعي –رحمه الله تعالى- في " الأم "، ثم قال : فإن جهر به جاز، [ وإن أسرّ به جاز ]٢٦.

فصل في موضع الاستعاذة من الصلاة


قال ابن الخطيب٢٧ :" أقول : إن الاستعاذة إنما تقرأ بعد الاستفتاح، وقبل الفاتحة، فإن ألحقناها بما قبلها، لزم الإسرار، وإن ألحقناها بالفاتحة، لزم الجهر، إلا أن المشابهة بينها، وبين الاستفتاح أتمّ ؛ لكون كل منهما نافلة ".

فصل في بيان هل التعوذ في كل ركعة ؟


قال بعض العلماء –رحمهم الله- : إنه يتعوذ في كل ركعة.
وقال بعضهم : لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى.
حجته : أن الأصل هو العدم، وما لأجله أمرنا بالاستعاذة ؛ هو قوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ﴾ [ النحل : ٩٨ ] وكلمة " إذا " لا تفيد العموم.
ولقائل أن يقول : إن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلة ؛ فيتكرر الحكم بتكرر العلة.

فصل في بيان سبب الاستعاذة


التعوذ في الصلاة، لأجل القراءة، أم لأجل الصلاة ؟
عند أبي حنيفة٢٨ ومحمد٢٩-رضي الله تعالى عنهما- أنه للقراءة٣٠ [ وعند أبي يوسف٣١ : أنه للصلاة ]٣٢ ويتفرع على هذا الأصل فرعان :
الأول : أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام ؟
عندهما : لا يتعوذ ؛ لأنه لا يقرأ، وعنده يتعوذ ؛ وجه قولهما قوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ ﴾ [ النحل : ٩٨ ] علّق الاستعاذة على القراءة، ولا قراءة على المقتدي.
وجه قول أبي يوسف-رحمه الله- أن التعوذ لو كان للقراءة ؛ لكان يتكرر بتكرر القراءة، ولما لم يكن كذلك، بل يتكرر بتكرر الصلاة ؛ دل على أنها للصلاة.
الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللهم، هل يقول : أعوذ بالله، ثم يكبر، أم لا ؟
عندهما أنه يكبر التكبيرات، ثم يتعوذ عند القراءة.
وعند أبي يوسف-رحمه الله- يقدم التعوذ على التكبيرات.

فصل


السنة أن يقرأ القرآن مرتلا ؛ لقوله تبارك وتعالى :﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ [ المزمل : ٤ ]
والترتيل : هو أن يذكر الحروف مبنية ظاهرة، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه ؛ فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ، وأفهم غيره تلك المعاني، وإذا قرأها سردا، لم يفهم ولم يفهم، فكان الترتيل أولى.
روى أبو داود٣٣ -رحمه الله تعالى- بإسناده عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقال للقارئ : اقرأ وارق، ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا ؛ [ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها )٣٤ ]٣٥.
قال أبو سليمان الخطابي٣٦-رحمه الله- : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة ؛ يقال للقارئ : اقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن، فمن استوفى، فقرأ جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة.

فصل في استحباب تحسين القراءة جهرا


إذا قرأ القرآن جهرا، فالسنة أن يحسن في القراءة ؛ روى أبو داود، عن البراء بن عازب٣٧-رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( زينوا القرآن بأصواتكم )٣٨.

فصل في صحة الصلاة مع النطق بالضاد والظاء.


قال ابن الخطيب-رحمه الله تعالى- :" المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء عندنا لا يبطل الصلاة ؛ ويدل عليه أن المشابهة حاصلة بينهما جدا، والتمييز عسر، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق.
بيان المشابهة أنهما من الحروف المجهورة، وأيضا من الحروف الرّخوة، وأيضا من الحروف المطبقة، وأيضا : أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب ؛ قال-عليه الصلاة والسلام- :" أنا أفصح من نطق بالضاد " ٣٩ فثبت بما ذكر أن المشابهة بينهما شديدة، والتمييز عسير.
وأيضا : لم يقع السؤال عنه في زمن النبي –عليه الصلاة والسلام- وأزمنة الصحابة، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذا البتة، علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين، ليس في محل التكليف.

فصل في عدم جواز الصلاة بالوجوه الشاذة


اتفق على أنه لا تجوز القراءة [ في الصلاة ]٤٠ بالوجوه الشاذة : لأن الدليل ينفي جواز القراءة مطلقا، لأنها لو كانت من القرآن، لوجب بلوغها إلى حد التواتر، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنها ليست من القرآن، عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة بها خارج الصلاة، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.

فصل في قولهم :" القراءات المشهورة منقولة بالتواتر "


اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالتواتر٤١، وفيه إشكال ؛ وذلك لأنا نقول : هذه القراءة إما أن تكون
١ - محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافعي بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم. وشافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، وأسلم أبوه السائب يوم بدر فإنه كان صاحب راية بني هاشم. وكانت ولادة الشافعي بقرية من الشام يقال لها غزة. قاله ابن خلكان وابن عبد البر. وقال صاحب التنقيب (بمنى) من مكة، وقال ابن بكار (بعسقلان)، وقال الزوزني (باليمن) والأول أشهر، وكان ذلك في سنة خمسين ومائة، وهي السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله. حمل إلى مكة وهو ابن سنتين ونشأ بها وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثم سلمه أبوه للتفقه إلى مسلم بن خالد مفتي مكة فأذن له في الإفتاء وهو ابن خمسة عشر سنة، فرحل إلى الإمام مالك بن أنس بالمدينة فلازمه حتى توفي مالك رحمه الله، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة وأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها وأخذوا عنه العلم. ثم خرج إلى مكة حاجا ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة فأقام بها شهرين أو أقل فلما قتل الإمام موسى الكاظم خرج إلى مصر فلم يزل بها ناشرا للعلم وصنف بها الكتب الجديدة. وانتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين ينظر التاريخ الكبير: ١/ ٤٢، الجرح والتعديل ٧/ ٢٠١، حلية الأولياء ٩/٦٣: ١٦١، طبقات الفقهاء للشيرازي (٤٨: ٥٠)، طبقات الحنابلة: ١/ ٢٨٠، صفة الصفوة: ٢/٩٥، وفيات الأعيان: ٤/ ١٦٣-١٦٩، تذكرة الحفاظ: ١/ ٣٦١-٣٦٣، الكاشف: ٣/١٧؛ طبقات الشافعية لابن هداية الله: ص (١١: ١٤)..
٢ - النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، الكوفي، أبو حنيفة: إمام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، قيل: أصله من أبناء فارس. ولد ونشأ بالكوفة سنة ٨٠هـ. وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء، وأراده عمر بن هبيرة (أمير العراقين) على القضاء، فامتنع ورعا. وأراده المنصور العباسي بعد ذلك على القضاء ببغداد فأبى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل، فحبسه إلى أن مات. وكان قوي الحجة، من أحسن الناس منطقا، قال الإمام مالك، يصفه: رأيت رجلا لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته. وكان كريما في أخلاقه، جوادا، حسن المنطق والصورة، جهوري الصوت، إذا حدّث انطلق في القول وكان لكلامه دوي. وعن الإمام الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. له مسند في الحديث جمعه تلاميذه، والمخارج في الفقه، صغير. توفي ببغداد سنة ١٥٠هـ.
ينظر الإعلام: ٨/٣٦، تاريخ بغداد: ١٣/٣٢٣-٤٢٣ وابن خلكان: ٢/١٦٣ والنجوم الزاهرة: ٢/ ١٢ والبداية والنهاية: ١٠/١٠٧ والجواهر المضية: ١/ ٢٦..

٣ -أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي. ولد سنة ١٦٤، أخذ الفقه عن الشافعي، وسلك مسلكه، صنف المسند. قال إبراهيم الحربي: كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين. توفي سنة ٢٤١.
ينظر طبقات ابن القاضي شهبة: ١/٥٦، وحلية الأولياء: ٩/١٦١، وتذكرة الحفاظ: ٢/٤٣١..

٤ -أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، الإمام الحافظ الكبير، أبو بكر البيهقي. سمع الكثير ورحل، وجمع وصنف، مولده سنة ٣٨٤، تفقه على ناصر العمري، وأخذ علم الحديث عن أبي عبد الله الحاكم، وكان كثير التحقيق والإنصاف، قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منّة إلا البيهقي، فإن له على الشافعي منّة لتصانيفه في نصرة مذهبه، ومن تصانيفه: السنن الكبير، والسنن الصغير، ودلائل النبوة وغيرها. مات سنة ٤٥٨. انظر: ط. ابن قاضي شهبة ١/٢٢٠، الأعلام ١/١١٣..
٥ - أخرجه أبو داود (١/٢٦٥) رقم (٧٧٥). وأخرجه البيهقي (٢/٣٤) كتاب الصلاة: باب الاستفتاح بسبحانك الله وبحمدك..
٦ - سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة على الصحيح، وقيل: من ثور همدان، الثوري أبو عبد الله الكوفي أحد الأئمة الأعلام، كان من الفضلاء، وكان لا يسمع شيئا إلا حفظه، كان متقنا ضابطا زاهدا ورعا. ولد سنة سبع وسبعين، وتوفي بالبصرة سنة ١٦١هـ.
ينظر الخلاصة: ١/٣٩٦ (٢٥٨٤) ابن سعد: ٢/٢٥٧-٢٦٠ والحلية: ٦/٣٥٦-٤٩٣ و٧/٣-١٤١..

٧ - عبد الرحمان بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، أبو عمرو، من قبيلة الأوزاع، إمام الديار الشامية في العلم والورع، ولد بـ "بعلبك" سنة ٨٨هـ، وسكت بيروت، وتوفي بها، وعرض عليه القضاء فامتنع. قال صالح بن يحيى: "كان الأوزاعي عظيم الشأن بالشام، وكان أمره فيهم أعز من أمر السلطان.." له كتاب "المسائل" يقدر ما سئل عنه بسبعين ألف مسألة، أجاب عنها كلها، وكانت الفتيا تدور على رأيه ببلاد الأندلس. توفي بـ "بيروت" سنة ١٥٧هـ.
ينظر ترجمته في وفيات الأعيان: ١/ ٢٧٥، حلية الأولياء: ٦/١٣٥، الأعلام: ٣/٣٢٠..

٨ - الضحاك من مزاحم البلخي الخراساني: مفسر، كان يؤدب الأطفال، ويقال: كان في مدرسته ثلاثة آلاف صبي، قال الذهبي: يطوف عليهم على حمار، ذكره ابن حبيب تحت عنوان أشراف المعلمين وفقهاؤهم له كتاب في التفسير توفي ١٠٥هـ.
ينظر ميزان الاعتدال: ٤٧١، المحبر: ٤٧٥، العبر للذهبي: ١/ ١٢٢٤. تاريخ الخميس: ٢/ ٣١٨، الأعلام: ٣/٢١٥..

٩ - إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي: من مذحج، ولد في ٤٦ هـ، من اكابر التابعين صلاحا وصدق رواية وحفظا للحديث من أهل الكوفة، مات مختفيا من الحجاج.
قال فيه الصلاح الصفدي: فقيه العراق، كان إماما مجتهدا له مذهب، ولما بلغ الشعبي موته قال: والله ما ترك بعده مثله، توفي في ٩٦هـ.
ينظر الأعلام: ١/ ٨٠، وطبقات ابن سعد: ٦/١٨٨-١٩٩، وتاريخ الإسلام: ٣/ ٣٣٥، وطبقات القراء: ١/٢٩..

١٠ - أبو سليمان داود بن علي بن خلف بن سليمان الأصبهاني، ثم البغدادي إمام أهل الظاهر، ولد سنة ٢٠٠، وأخذ العلم عن إسحاق وأبي ثور. قال العبادي: وكان من المتعصبين للشافعي، وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه. مات سنة ٢٧٠.
انظر طبقات ابن قاضي شهبة: ١/٧٧، وفيات الأعيان: ٢/٢٦، وطبقات الفقهاء: ص ٥٨.

١١ - محمد بن سيرين الأنصاري، مولاهم أبو بكر الأنصاري إمام وقته، عن مولاه أنس وزيد بن ثابت وعمران بن حصين وأبي هريرة وعائشة وطائفة من كبار التابعين، وعنه الشعبي وثابت وقتادة وأيوب ومالك بن دينار وسليمان التيمي وخالد الحذاء والأوزاعي وخلق كثير، وقال بكر المزني: والله ما أدركنا من هو أورع منه، قال حماد بن زيد: مات سنة عشر ومائة..
١٢ - في أ: أفرغ..
١٣ - جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف النوفلي، أبو محمد أو أبو عدي المدني، أسلم قبل حنين أو يوم الفتح، له ستون حديثا، اتفقا على ستة وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر، وروى عنه ابناه محمد ونافع وسليمان بن صرد وابن المسيب وطائفة، وكان حليما وقورا عارفا بالنسب، وذكر ابن إسحاق أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أعطاه مائة من الإبل، توفي سنة تسع أو ثمان وخمسين بالمدينة.
ينظر ترجمته في تهذيب الكمال: ١/ ١٨٥، وتهذيب التهذيب: ٢/٦٣، وتقريب التهذيب: ١/ ١٦١، والكاشف: ١/١٨٠، وتاريخ البخاري الكبير: ٢/٢٢٣، وتاريخ البخاري الصغير: ١/٦، ١٠، ١٠٥ والجرح والتعديل: ٢/ ٢١١٢، وتجريد أسماء الصحابة: ١/٧٨، وأسد الغابة: ١/٣٢، والإصابة ١/٤٦٢، والاستيعاب: ١/٤٣٢، وشذرات الذهب: ١/٥٩، ٦٤..

١٤ - أخرجه أبو داود (٧٦٤)، وابن ماجه (١/٢٦٥) رقم (٨٠٧)، والطيالسي (٩٤٧)، والبيهقي (٢/٣٥)، وأحمد (٤/٨٥)، والحاكم (١/٢٣٥).
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وأخرجه من حديث "ابن مسعود" ابن ماجه (١/ ٢٦٥) رقم (٨٠٨)، والحاكم (١/٢٠٧) والبيهقي (٢/٣٦)، وأحمد (١/٤٠٤)..

١٥ - أخرجه أبو نعيم (٢/٣٤٣) من حديث "أنس"، وعزاه الهندي في "الكنز" (٤٣٨٦٧) للطبراني في "الأوسط"، وأبي الشيخ في "التوبيخ"، والخطيب في "المتفق والمفترق".
وأخرجه البزار (١/٦٠) من حديث "ابن عباس" مرفوعا..

١٦ - في أ: أن يستعيذ بعد القراءة..
١٧ - الإجماع في اللغة على معنيين: أحدهما: العزم، يقال: أجمعت المسير والأمر، وأجمعت عليه أي: عزمت، فهو يتعدى بنفسه وبالحرف، وقد جاء بهذا المعنى في الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿فأجمعوا أمركم﴾ [يونس: ٧١] أي: اعزموا، وقال –صلى الله عليه وسلم-: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له)، أي: لم يعزم عليه فينويه.
ثانيهما: الاتفاق: ومنه يقال: أجمع القوم على كذا، إذا اتفقوا، قال في القاموس: "الإجماع: الاتفاق، والعزم على الأمر".
قال الغزالي والإمام الرازي، والآمدي والعضد وغيرهم: الإجماع لغة: يقال بالاشتراك اللفظي على معنيين: أحدهما: العزم على الشيء والتصميم عليه؛ قال الله تعالى: ﴿فأجمعوا أمركم وشركاءكم﴾ [يوسف: ١٥] وقال –صلى الله عليه وسلم-: (لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل)، وعلى هذا يصح إطلاق اسم الإجماع على عزم الواحد.
والثاني: الاتفاق: يقال: أجمع القوم على كذا، أي: صاروا ذوي جمع كما يقال: ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر، وعلى هذا فاتفاق كل طائفة على أمر من الأمور دينيا كان أو دنيويا، يسمى إجماعا؛ حتى اتفاق اليهود والنصارى، وقال صاحب "المسلّم من المسلّم"، وحاشيته: وهو لغة: العزم والاتفاق وكلامه من الجمع، أي: منقول، ومأخوذ منه، لأن العزم باجتماع الخواطر، والاتفاق باجتماع الأعزام، وفيه رد على شارح المختصر، حيث قال: الإجماع لغة يطلق على معنيين: أحدهما: العزم، "فأجمعوا أمركم"، أي: اعزموا، ومنه: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل".
وثانيهما: الاتفاق، وحقيقة: أجمع، صار ذا جمع، كألبن وأتمر، وكلامه يفيد أن الإجماع مشترك معنوي موضوع لصيرورة المرء ذا جمع، الشاملة لصيرورته ذا جمع لخواطره، وصيرورته ذا جمع لعزمه أو رأيه مع أعزام القوم أوآرائهم. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: العزم يرجع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شيء، فقد عزم عليه، وعلى هذا يكون العزم لازما للاتفاق، فالإجماع عنده حقيقة في الاتفاق مجاز في العزم.
وقال ابن أمير حاج صاحب "التقرير": لقائل أن يقول: المعنى الأصلي له العزم، وأما الاتفاق فلازم اتفاقي ضروري للعزم من أكثر من واحد، لأن اتحاد متعلق عزم الجماعة يوجب اتفاقهم عليه، لا أن العزم يرجع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شيء، فقد عزم عليه، كما ذكره القاضي، فإنه ليس بمطرد، ولا أنه مشترك لفظي بينهما كما ذكره الغزالي أو لا ملجئ إليه مع أنه خلاف الأصل. وقال ابن برهان، وابن السمعاني: العزم أشبه باللغة، والاتفاق أشبه بالشرع، ويجاب عنه بأن الاتفاق، وإن كان أشبه بالشرع، فذاك لا ينافي كونه معنى لغويا، وكون اللفظ مشتركا بينه وبين العزم. قال أبو علي الفارسي: يقال: أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع كما يقال: ألبن وأتمر: إذا صار ذا لبن وتمر، والذي يظهر في تحرير المعنى اللغوي: أن بين العزم والاتفاق عموما وخصوصا وجهيا يجتمعان في اتفاق الجماعة في إرادة شيء وينفرد العزم في إرادة الواحد، وينفرد الاتفاق في اتفاق الجماعة؛ من قول، أو فعل بدون إرادة وعزم.
ولا ريب في أن المعنى الثاني بالاصطلاحي أنسب، فإن الاتفاق مطلق يشمل اتفاق جمع ما ولو كفارا على أمر ما ولو معصية، والاصطلاحي اتفاق مقيد.
وقال صاحب التقرير: كون المعنى الثاني أنسب مبني على أنه إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد، لا يكون قوله حجة كما هو أحد القولين، أي: وأما على رأي من يقول أنه حجة، يكون المعنى الأول أنسب، فمن قال: إنه حجة، لا يقول: إنه إجماع؛ لأنه لا يصدق عليه تعريف الإجماع، فلا يكون المعنى الأول أنسب، ويكون المعنى الثاني هو الأنسب.
الإجماع اصطلاحا عرّفه الرازي في "المحصول" بأنه: "عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. على أمر من الأمور".
وعرّفه الآمدي بقوله: عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر من الأعصار على واقعة من الوقائع.
=وعرّفه النظام من المعتزلة بقوله: هو كل قول قامت حجته حتى قول الواحد.
وعرّفه سراج الدين الأرموي في "التحصيل: بقوله: هو اتفاق المسلمين المجتهدين في أحكام الشرع على أمر ما، من اعتقاد، أو قول، أو فعل.
ويمكن أن يعرّف بأنه: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة بعد وفاة –محمد صلى الله عليه وسلم- في عصر على أمر شرعي.
فقولنا: "اتفاق" جنس في التعريف يعم كل اتفاق، وخرج عنه أمران، اختلاف المجتهدين، وقول المجتهد الواحد إذا انفرد في عصر، فإنه لا يكون إجماعا؛ لأن الاتفاق أقل ما يتحقق بين اثنين، والمراد به الاشتراك في الاعتقاد، أو القول، أو الفعل، أو ما في معناه؛ كالسكوت عند من يرى أن ذلك كاف في الإجماع، ولما كانت العبرة في الإجماع بالاعتقاد كما يؤخذ من كلامهم في مواضع، فالمراد به الاشتراك في الاعتقاد فقط، أو في الاعتقاد مع القول، أو في الاعتقاد مع الفعل، وهذا معنى قول من قال: أو مانعة خلو تجوز الجمع، ومعنى الاشتراك في الاعتقاد: أن يعتقدوا جميعا الحكم المجمع عليه، وفي القول: أن يتكلموا بما يدل عليه، وفي الفعل: أن يأتوا بمتعلقه، إذا كان من باب الفعل، وفي السكوت: أن يقول بعضهم حكما في مسألة اجتهادية، ويسكت الباقون بعد العلم به، ومضي مدة التأمل عادة سكوتا مجردا عن أمارة سخط وتقية، وكل من الاتفاق القولي والعملي يسمى عزيمة، والسكوتي يسمى رخصة.
وقول المجتهدين فيه للاستغراق، فيقضي أنه لا بد من الكل، فخرج به أمران: اتفاق العوام؛ إذ لا عبرة به على التحقيق، واتفاق بعض المجتهدين مع مخالفة الآخرين.
وقولنا: "من هذه الأمة" خرج به اتفاق مجتهدي الشرائع السالفة.
وقولنا: "بعد وفاة –محمد صلى الله عليه وسلم-" متعلق باتفاق لا بالمجتهدين لأن قبل وفاته اتفاقهم حجة بعد وفاته، وخرج به اتفاق المجتهدين في حياته؛ لأن قولهم دونه لا يصح، وإن كان معهم، فالحجة في قوله، وقولنا "في عصر" أي: في زمان قل أو كثر، وهو نكرة، فالمراد الاتفاق في أي عصر كان، وقيل: لولاه لم يدخل إلا اتفاق كل المؤمنين إلى يوم القيامة، ولكن الحق أن الأمة تطلق على الموجودين في عصر؛ كما تطلق على كل المؤمنين من لدن البعثة إلى يوم القيامة، والمتبادر هو الإطلاق الأول، فيصح الاستغناء عنه؛ ولذا قال في التلويح: ولا يخفى أن من تركه، أي: قيده في عصر إنما تركه لوضوحه، لكن التصريح به أنسب بالتعريفات اهـ، أي: لاحتمال لفظ الأمة المعنى الثاني.
ينظر البرهان لإمام الحرمين: ١/ ٦٧٠، والبحر المحيط للزركشي: ٤/٤٣٥، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ١/ ١٧٩، وسلاسل الذهب للزركشي ص ٣٣٧، والتمهيد للإسنوي ص٤٥١، ونهاية السول له: ٣/ ٢٣٧، وزوائد الأصول له: ص ٣٦٢، ومنهاج العقول للبدخشي: ٢/٣٧٧، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري: ص ٢٠٩، والتحصيل من المحصول للأرموي: ٢/ ٣٧، والمنخول للغزالي: ص ٣٠٣، والمستصفى له: ١/ ١٧٣، وحاشية البناني: ٢/١٧٦، والإبهاج لابن السبكي: ٢/ ٣٤٩، والآيات البينات لابن قاسم العبادي: ٣/ ٢٧٨، وحاشية العطار على جمع الجوامع: ٢/٢٠٩، والمعتمد لأبي الحسين: ٢/٣، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي: ص ٤٣٥، والتحرير لابن الهمام: ص ٣٩٩، وتيسير التحرير لأمير بادشاه: ٣/ ٢٢٤، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج: ٣/ ٨٠، وميزان الأصول للسمرقندي: ٢/ ٧٠٩، وكشف الأسرار للنسفي: ٢/١٨٠، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى: ٢/٣٤، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني: ٢/ ٤١، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين: ص ٢٠٩، وشرح المنار لابن ملك: ص٩٩، والوجيز للكراماسي: ص ٦١، وتقريب الوصول لابن جزي: ص١٢٩، وإرشاد الفحول للشوكاني: ص ٧١، وشرح مختصر المنار للكوراني: ص ٩٩، ونشر البنود للشنقيطي: ٢/ ٧٤، وشرح الكوكب المنير للفتوحي: ص ٢٢٥..

١٨ - محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، سلطان المتكلمين في زمانه، فخر الدين، أبو عبد الله الرازي، ولد سنة ٥٤٤، واشتغل أولا على والده ضياء الدين عمر، ثم على الكمال السمناني، وعلى المجد الجيلي وغيرهما، وأتقن علوما كثيرة، وبرز فيها وتقدم وساد، وصنف في فنون كثيرة، وروي عنه ندمه على الدخول في علم الكلام، وله التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" وهو مطبوع، وكذلك كتاب "المحصول" وغيرهما –مات سنة ٦٠٦. انظر ط. ابن قاضي شهبة: ٢/ ٦٥، ولسان الميزان: ٤/ ٤٢٦، والأعلام: ٧/٢٠٣..
١٩ - في أ: أنه..
٢٠ - عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم أبو محمد الجندي اليماني، نزيل مكة وأحد الفقهاء والأئمة، عن عثمان، وعتاب بن أسيد مرسلا، وعن أسامة بن زيد، وعائشة، وأبي هريرة، وأم سلمة، وعروة بن الزبير وطائفة، وعنه أيوب، وحبيب بن أبي ثابت، وجعفر بن محمد، وجرير بن حازم، وابن جريج، وخلق. قال ابن سعد: كان ثقة عالما كثير الحديث، انتهت إليه الفتوى بمكة. وقال أبو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء. وقال ابن عباس –وقد سئل عن شيء-: يا أهل مكة، تجتمعون عليّ وعندكم عطاء. وقيل: إنه حج أكثر من سبعين حجة. قال حماد بن سلمة: حججت سنة مات عطاء، سنة أربع عشرة ومائة. ينظر تهذيب الكمال: ٢/ ٩٣٣، والخلاصة: ٢/ ٢٣٠، والحلية: ٣/ ٣١٠، والكاشف: ٢/٢٦٥..
٢١ - هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا جازما؛ كالصلاة المدلول على طلبها طلبا جازما، بقوله تعالى: ﴿أقيموا الصلاة﴾؛ وكالحج المدلول على طلبه جازما، بقوله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ [آل عمران: ٩٧]؛ وكالصيام المدلول على وجوبه بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ [البقرة: ١٨٣].
ينظر: البحر المحيط للزركشي: ١/١٧٦، والبرهان لإمام الحرمين: ١/٣٠٨، وسلاسل الذهب للزركشي: ١١٤، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ١/٩١، والتمهيد للإسنوي: ٥٨، ونهاية السول له: ١/٧٣، وزوائد الأصول له: ٢٣٢، ومنهاج العقول للبدخشي: ١/٥٤، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري: ١٠، والتحصيل من المحصول للأرموي: ١/١٧٢، والمستصفى للغزالي: ١/٢٧، وحاشية البناني: ١/٨٨، والإبهاج لابن السبكي: ١/ ٥١، والآيات البينات لابن قاسم العبادي: ١/١٣٥، وحاشية العطار على جمع الجوامع: ١/١١١، والمعتمد لأبي الحسين: ١/٤. والتحرير لابن الهمام: ٢١٧. وتيسير التحرير لأمير بادشاه: ٢/ ١٨٥، وحاشية التفتازاني والشريف علي مختصر المنتهى: ١/ ٢٢٥، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني: ٢/١٢٣، والموافقات للشاطبي: ١/١٠٩، وميزان الأصول للسمرقندي: ١/١٢٨، والكوكب المنير للفتوحي: ١٠٥..

٢٢ - النوافل جمع نافلة، والنفل والمندوب والمستحب والتطوع والسنة والمرغب فيه ألفاظ مترادفة عرفا، معناها واحد؛ هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبا غير جازم عند أكثر العلماء، خلافا لبعضهم القائل بعدم ترادف المستحب والتطوع والسنة؛ لأن الفعل المطلوب طلبا غير جازم إن واظب عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- بأن لم يتركه إلا لعذر، فهو السنة، أو لم يواظب عليه، بأن تركه في بعض الأحيان لغير عذر، فهو المستحب، أو لم يفعله، وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوع، أما المندوب والنفل والمرغب فيه فهي مرادفة لكل من الثلاثة المتباينة؛ لصحة حمل كل واحد منها عليها، فيقال مثلا: التطوع مندوب، والمستحب مرغب فيه وهكذا، وهذا الخلاف لفظي، أي: أنه يؤول إلى اللفظ والتسمية؛ إذ هو يتلخص في أنه كما سمي كل قسم من الأقسام الثلاثة باسم من الأسماء الثلاثة كما سبق، هل يسمى بغيره منها؟ فقال البعض: لا يصح أن يطلق اسم من هذه على مدلول كل، لعدم وجود المناسبة بينه وبين الاسم؛ لأن السنة الطريقة والعادة، والمستحب المحبوب، والتطوع الزيادة. وقال الأكثر: يصح أن يطلق اسم كل على مدلول الآخرين؛ لوجود المناسبة؛ لأنه يصدق على كل من الأقسام الثلاثة أنه طريقة وعادة في الدين، ومحبوب للشارع حيث طلبه، وزائد على الواجب.
ينظر البحر المحيط للزركشي: ١/ ٢٨٤، والبرهام لإمام الحرمين: ١/٣١٠، وسلاسل الذهب للزركشي: ١١١، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ١/١١١، ونهاية السول للإسنوي: ١/٧٧، وزوائد الأصول له ١٦٨، ومنهاج العقول للبدخشي: ١/ ٦٢، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري: ١٠، والتحصيل من المحصول للأرموي: ١/١٧٤، والمستصفى للغزالي: ١/٧٥، وحاشية البناني: ١/٨٠، والإبهاج لابن السبكي ١/٥٦، والآيات البينات لابن قاسم العبادي: ١/١٣٥، وحاشية العطار على جمع الجوامع: ١/١١٢، والمعتمد لأبي الحسين: ١/٤، وتيسير التحرير لأمير بادشاه: ٢/٢٢٢، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى: ١/ ٢٢٥، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني: ٢/ ١٢٣، والموافقات للشاطبي: ١٠٩، وميزان الأصول للسمرقندي: ١/١٣٥، والكوكب المنير للفتوحي: ١٢٥..

٢٣ - مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي، أبو عبد الله المدني، أحد أعلام الإسلام، وإمام دار الهجرة، عن نافع، والمقبري، ونعيم بن عبد الله، وابن المنكدر، ومحمد بن يحيى بن حبان، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وأيوب، وزيد بن أسلم، وخلق. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة ودفن بالبقيع.
ينظر ترجمته في تهذيب الكمال: ٣/١٢٩٦، وتهذيب التهذيب: ١/٥، (٣)، وتقريب التهذيب: ٢/٢٢٣، وخلاصة تهذيب الكمال: ٣/٣، والكاشف: ٣/١١٢، وتاريخ البخاري الكبير: ٧/٣١٠، والجرح والتعديل: ١/١١، وسير الأعلام: ٨/٤٨، والحلية: ٦/٣١٦، ومعجم الثقات: ١٨، ونسيم الرياض: ٢/١٢..

٢٤ - عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمان المكي، هاجر مع أبيه وشهد الخندق وبيعة الرضوان، له ألف وستمائة حديث وثلاثون حديثا. قال شمس الدين بن الذهبي: كان إماما متينا واسع العلم، كثير الاتباع، وافر النسك، كبير القدر، متين الديانة، عظيم الحرمة، ذكر للخلافة يوم التحكيم، وخوطب في ذلك، فقال: على ألا يجري فيها دم. قال أبو نعيم: مات سنة أربع وسبعين.
ينظر ترجمته في تهذيب الكمال: ٢/٧١٣. وتهذيب التهذيب: /٣٢٨ (٥٦٥)، وتقريب التهذيب: ١/٤٣٥ (٤٩١)، وخلاصة تهذيب الكمال: ٢/٨١، والكاشف: ٢/١١٢، وتاريخ البخاري الكبير: ٥/٢، ١٤٥، وتاريخ البخاري الصغير: ١/١٥٤، ١٥٧، والجرح والتعديل: ٥/١٠٧، وأسد الغابة: ٣/ ٣٤٠، وتجريد أسماء الصحابة: ١/٣٢٥، والإصابة ٤/١٨١، والاستيعاب: (٣-٤)/٩٥..

٢٥ -أبو هريرة، اسمه: عبد الرحمان بن صخر الدوسي، له خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعون حديثا، اتفق على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، روى عنه: إبراهيم بن حنين، وأنس، وبسر بن سعيد، وغيرهم. قال ابن سعد: كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة. قال الواقدي: مات سنة ٥٩هـ.
ينظر الخلاصة: ٣/٢٥٢ (٥٢٩)، والإصابة: ٧/٤٢٥-٤٤٥، وصفة الصفوة: ١/٦٨٥-٦٩٤، والعبر: ١/٦٢-٦٣..

٢٦ - سقط في أ..
٢٧ - ينظر الفخر الرازي: ١/٥٧..
٢٨ - النعمان بن ثابت الفارسي، أبو حنيفة إمام العراق وفقيه الأمة، عن عطاء، ونافع، والأعرج، وطائفة، وعنه حماد، وزفر، وأبو يوسف محمد، وجماعة، وثقه ابن معين. وقال ابن المبارك: ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة. وقال مكي: أبو حنيفة أعلم أهل زمانه. وقال القطان: لا نكذب الله ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة. قال ابن المبارك: ما رأيت أورع منه –مات سنة خمسين ومائة.-
ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال: ٣/١٤١٥، وتهذيب التهذيب: ١٠/٤٤٩ (٨١٧)، وتقريب التهذيب: ٢/٣٠٣، وخلاصة تهذيب الكمال: ٣/٩٥٣، والكاشف: ٣/٢٠٥، وتاريخ البخاري الكبير: ٨/٨١، وتاريخ البخاري الصغير: ٢/٤٣، ١٠٠، ٢٣٠، الجرح والتعديل: ٨/٢٠٦٢، وميزان الاعتدال: ٤/٢٦٥، وتاريخ أسماء الثقات: ١٤٧٧، والأنساب: ٦/٦٤، والكامل: ٧/٣٤٧٢، والضعفاء الكبير: ٤/٢٦٨، والمعين: ٥٤٦، وتراجم الأحبار: ٤/٢٦٨، والتاريخ لابن معين: ٣/٦٧، وتاريخ الثقات: ٤٥٠، وتاريخ بغداد: ١٣/ ٤٢٣، ٤٢٤..

٢٩ - محمد بن الحسن بن فرقد، من موالي بني شيبان، أبو عبد الله، إمام بالفقه والأصول، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة، ولد بـ "واسط" سنة ١٣١ هـ، له كتب كثيرة في الفقه والأصول منها: المبسوط، الزيادات، الجامع الكبير، الجامع الصغير، الآثار، الأمالي، الأصل، وغيرها كثير. توفي في ١٨٩هـ ينظر: الفهرست لابن النديم: ١/٢٠٣، والفوائد البهية: ١٦٣، والوفيات: ١/٤٥٣، والبداية والنهاية: ١٠/٢٠٢، والجواهر المضية: ٢/ ٤٢، وذيل المذيل: ١٠٧، ولسان الميزان: ٥/١٢١، والنجوم الزاهرة: ٢/ ١٣٠، ولغة العرب: ٩/٢٢٧، وتاريخ بغداد: ٢/١٧٢-١٨٢، والانتقاء: ١٧٤، والأعلام: ٦/ ٨٠..
٣٠ - في أ: للصلاة..
٣١ - يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، أبو يوسف: صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيها علامة من حفاظ الحديث، ولد بالكوفة وتفقه بالحديث والرواية، ثم لزم أبا حنيفة، فغلب عليه الرأي، وولي القضاء بـ "بغداد"، أيام المهدي، والهادي، والرشيد، وهو أول من دعي: "قاضي القضاة"، ويقال له: قاضي قضاة الدنيا، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب، من كتبه: الخراج، والآثار، والنوادر، واختلاف الأمصار، وأدب القاضي، والأمالي في الفقه، والرد على مالك ابن أنس، والفرائض، والوصايا، والوكالة، والبيوع، والصيد، والذبائح، والغصب، والاستبراء، والجوامع في أربعين فصلا ألفه ليحيى بن خالد البرمكي. ينظر الأعلام: ٨/ ١٩٣..
٣٢ - سقط في أ..
٣٣ - أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد، الأزدي السجستاني، ولد سنة ٢٠٢هـ، وطوف وسمع بـ "خرسان"، والعراق، والجزيرة، والشام، والحجاز، ومصر من خلق كثيرين، وقد روى عنه السنن: ابن داسة، واللؤلؤي، وابن الأعرابي، وأبو عيسى الرملي. قال ابن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقها، وعلما، وحفظا، ونسكا، وورعا، وإتقانا. توفي سنة ٢٧٥هـ. بـ"البصرة".
ينظر: تهذيب الكمال: ١/٥٣٠، وتهذيب التهذيب: ٤/١٦٩، والكاشف: ٤/١٦٩، والجرح والتعديل: ٤/ ٢٥٦..

٣٤ - أخرجه أبو داود (١/ ٤٦٣) رقم (١٤٦٤)، والترمذي (٢٩١٤)، وأحمد (٢/١٩٢)، والبيهقي (٢/٥٣)، والحاكم (١/٥٥٣). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح..
٣٥ - سقط في أ..
٣٦ - حَمْد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، أبو سليمان البستي المعروف بالخطابي، كان رأسا في علم العربية والفقه والأدب وغير ذلك، أخذ الفقه عن أبي علي بن أبي هريرة، وأبي بكر القفال، وأبي عمر الزاهد، وصنف التصانيف الواسعة المشهورة منها: معالم السنن، وغريب الحديث، وكتاب العزلة، وله شعر حسن. مات سنة ٣٨٨.
انظر ط. ابن قاضي شهبة: ١/ ١٥٦، والأنساب: ٢/٢٢٦، وتذكرة الحفاظ: ٣/١٠١٨..

٣٧ - البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة الأوسي الأنصاري، أبو عمارة، نزل الكوفة، له ثلثمائة حديث وخمسة أحاديث اتفقا على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة، وعنه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعدي بن ثابت، وسعد بن عبيدة، وأبو إسحاق، وخلق، شهد أحدا والحديبية.
توفي سنة إحدى أو اثنتين وسبعين.
ينظر ترجمته في تهذيب الكمال: ١/١٣٩، وتهذيب التهذيب: ١/٤٢٥، وتقريب التهذيب: ١/٩٤، وخلاصة تهذيب الكمال: ١/١٢٠، والكاشف: ١/١٥١، وتاريخ البخاري الكبير: ٢/١١٧، وتاريخ البخاري الصغير: ١/٦، ١٢٠، ١٣٠، ١٦١، ١٦٤، ١٦٥، والجرح والتعديل: ٢/٣٦٩، وأسماء الصحابة الرواة: ت ١٤، وتجريد أسماء الصحابة: ١/٤٦، وأسد الغابة: ١/٢٠٦، والإصابة: ١/٢٧٨، وطبقات ابن سعد: ٢/٣٧٦، ٣/٤٥١، ٤/٣١٥، ٣٥٥، ٦/١٧٨، ٢٤٧، ٨/٤٧٩، ٤٨٠، والوافي بالوفيات: ١/١٠٤، وشذرات الذهب: ١/٦٣، ٧٧، وتاريخ بغداد: ١/١٧٧..

٣٨ - أخرجه أبو داود (١/٤٦٤) رقم (١٤٦٨)، والنسائي (٢/١٧٩) رقم (١٠١٥)، وابن ماجه (١٣٤٢)، وأحمد (٤/٢٨٣)، والدارمي (٢/٤٧٤)، وابن حبان (٦٦٠ موارد)، والحاكم (١/٥٧١)..
٣٩ - أورده العجلوني في "كشف الخفا" (٦٠٩) وقال: قال في اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له، كما قال ابن كثير وغيره..
٤٠ - سقط في أ..
٤١ -"السنة المتواترة" والحديث المتواتر: هو ما رواه جمع يحيل العقل تواطؤهم على الكذب عادة، من أمر حسي، أو حصول الكذب منهم اتفاقا، ويعتبر ذلك في جميع الطبقات إن تعددت.
وشروط التواتر:
١-أن يكون رواته عددا كثيرا.
٢-أن يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، أو أن يحصل الكذب منهم اتفاقا عادة.
٣-أن يرووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، في كون العقل يمنع من تواطئهم على الكذب، أو حصوله منهم اتفاقا عادة.
٤-أن يكون مستند انتهائهم الإدراك الحسي؛ بأن يكون آخر ما يئول إليه الطريق، ويتم عنده الإسناد أمر حسي مدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة؛ من الذوق واللمس والشم والسمع والبصر.
تقييم المتواتر إلى لفظي ومعنوي
من المتفق عليه عند العلماء وأرباب النظر: أن القرآن الكريم لا يجوز الرواية فيه بالمعنى، بل أجمعوا على وجوب وروايته لفظة لفظة، وعلى أسلوبه وترتيبه، ولهذا كان تواتره اللفظي لا يشك فيه أدنى عاقل، أو صاحب حس. وأما سنة رسول الله: فقد أجازوا روايتها بالمعنى، لذلك لم تتحد ألفاظها ولا أسلوبها، ولا ترتيبها.
فهل يكون الحديث متواترا تواترا لفظيا أو معنويا، إذا تعددت الرواية بألفاظ مترادفة، وأساليب مختلفة من التمام والنقص، والتقديم والتأخير من الواقعة الواحدة حتى بلغت مبلغ التواتر؟
ومن ناحية أخرى فإذا تعددت الوقائع، واتفقت على معنى واحد، دلت عليه تارة بالتضمن، وتارة بالإلتزام، حتى بلغ القدر المشترك من تلك الوقائع المتعددة مبلغ التواتر، فإنه حينئذ يكون متواترا تواترا معنويا؟ لا خلاف في ذلك.
وعلى ذلك فالتواتر ثلاثة أقسام:
١- تواتر لفظي لا شك فيه: كالقرآن الكريم.
٢- تواتر معنوي لا شك فيه: كما إذا تعددت الوقائع، واشتركت جميعها في معنى تضمني، أو التزامي.
٣- أما إذا اتحدت الواقعة، وتعددت روايتها بألفاظها مختلفة، وأساليب متغايرة، واتفقت في المعنى المطابقي، وبلغت في تتابعها وتعددها حد المتواتر، كان متواترا تواترا لفظيا.
وعلى ذلك ينقسم المتواتر إلى قسمين: لفظي، ومعنوي، وينقسم "اللفظي" إلى قسمين، كما ينقسم "المعنوي" إلى قسمين أيضا، وعلى هذا فالمتواتر أربعة أقسام:
١-أن يتواتر اللف والأسلوب في الواقعة الواحدة.
٢-أن تتواتر الواقعة الواحدة بألفاظ مترادفة، وأساليب كثيرة متغايرة، متفقة على إفادة المعنى المطابقي للوقعة الواحدة.
٣-أن يتواتر المعنى التضمني في وقائع كثيرة.
٤-ـأن يتواتر المعنى الالتزامي في وقائع كثيرة.
ولهذه الأقسام أمثلة كثيرة ذكرها المحدثون في كتب الاصطلاح، فلتنظر من هناك.
وأما حكم المتواتر: ذهب جمهور العلماء إلى أن المتواتر يفيد العلم ضرورة، بينما خالف في إفادته العلم مطلقا المنية والبراهمة.
وخالف في إفادته العلم الضروري الكعبي وأبو الحسين من المعتزلة، وإمام الحرمين من الشافعية، وقالوا: إنه يفيد العلم نظرا.
وذهب المرتضى من الرافضة، والآمدي من الشافعية إلى التوقف في إفادته العلم، هل هو نظري أو ضروري؟
وقال الغزالي: إنه من قبيل القضايا التي قياساتها معها، فليس أوليا، وليس كسببيا.
واحتج الجمهور أنه ثابت بالضرورة، وإنكاره مكابرة وتشكيك في أمر ضروري؛ فإنا نجد من أنفسنا العلم الضروري بالبلدان البعيدة، والأمم السالفة، كما نجد العلم بالمحسوسات لا فرق بينها فيما يعود إلى الجزم، وما ذاك إلا بالإخبار قطعا.
ولو كان نظريا لافتقر إلى توسط المقدمتين في إثباته، واللازم باطل، لأننا نعلم قطعا علمنا بالمتواترات من غير أن نفتقر إلى المقدمات وترتيبها.
كما أنه لو كان نظريا، لساغ الخلاف فيه ككل النظريات، واللازم باطل.
فثبت مما تقدم أن المتواتر يفيد العلم، وأن العلم به ضروري كسائر الضروريات.
ينظر: البحر المحيط للزركشي: ٤/٢٣١، والبرهام لإمام الحرمين: ١/٥٦٦، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ٢/١٤، ونهاية السول للإسنوي: ٣/ ٥٤، ومنهاج العقول للبدخشي: ٢/ ٢٩٦، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري: ٩٥، والتحصيل من المحصول للأرموي: ٢/ ٩٥، والمنخول للغزالي: ٢٣١، والمستصفى له: ١/١٣٢، وحاشية البناني: ٢/١١٩، والإبهاج لابن السبكي: ٢/٢٦٣، والآيات البينات لابن قاسم العبادي: ٣/ ٢٠٦، وحاشية العطار على جمع الجوامع: ٢/ ١٤٧، والمعتمد لأبي الحسين: ٢/ ٨٦، والإحكام في أصول الأحكام لابن جزم: ١/١٠١، وتيسير التحرير لأمير بادشاه: ٣/٣٢، وكشف الأسرار للنسفي: ٢/٤، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني: ٢/٣، وشرح المنار لابن ملك: ٧٨، وميزان الأصول للسمرقندي: ٢/٦٢٧، وتقريب الوصول لابن جزي: ١١٩، وإرشاد الفحول للشوكاني: ٤٦..

فصل في اشتقاق البسملة
البسملة : مصدر " بسمل "، أي : قال :" بسم الله، نحو :" حوقل، وهيلل، وحمدَل، وحيعل "، أي قال : لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، وحي على الصلاة ومثله " الحسبلة " وهي قوله :" حسبنا الله "، و " السبحلة " وهي قول :" سبحان الله " و " الجعفلة " ١١٧ : قول " جعلت فداك "، و " الطلبقة والدمعزة " حكاية قولك :" أطال الله تعالى بقاءك، وأدام عزك ".
وهذا شبيه بباب النحت في النسب، أي أنهم يأخذون اسمين، فينحتون منهما لفظا واحدا ؛ فينسبون إليه ؛ كقولهم :" حضرمي، وعبقسين وعبشمي " نسبة إلى " حضرموت "، وعبد قيس " ١١٨وعبد شمس " ؛ قال الشاعر١١٩ :[ الطويل ]

٦-
وتضحك مني شيخة عبشمية *** كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا١٢٠
وهو غير مقيس، فلا جرم أن بعضهم قال في :" بسمل، وهيلل " : إنهما لغة مولدة.
قال الماوردي١٢١ رحمه الله تعالى : يقال لمن قال :" بسم الله " :" مُبسمل " وهي لغة مولدة ؛ وقد جاءت في الشعر ؛ قال عمر بن أبي ربيعة١٢٢ :[ الطويل ].

٧-
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل١٢٣
وغيره من أهل اللغة نقلها، ولم يقل إنها مولدة كـ " ثعلب " ١٢٤و " المطرزي " ١٢٥.
" بسم الله " : جار ومجرور، والباء متعلق بمضمر، فنقول : هذا المضمر يحتمل أن يكون اسما، وأن يكون فعلا، وعلى التقديرين ؛ فيجوز أن يكون متقدما ومتأخرا، فهذه أقسام أربعة.
أما إذا كان متقدما، وكان فعلا ؛ فكقولك : أبدأ ببسم الله.
وإن كان متقدما، وكان اسما ؛ فكقولك : ابتدائي ببسم الله.
وإن كان متأخرا، وكان فعلا ؛ فكقولك : بسم الله أبدأ.
وإن كان متأخرا، وكان اسما ؛ كقولك : بسم الله ابتدائي.
وأيهما أولى التقديم أم التأخير ؟
قال ابن الخطيب : كلاهما ورد في القرآن الكريم، أما التقديم، فكقوله ﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾ [ هود : ٤١ ] وأما التأخير ؛ فكقوله تعالى :﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ [ العلق : ١ ] وأقول : التقديم أولى ؛ لأنه-تعالى- قديم واجب الوجود لذاته، فيكون وجوده سابقا على وجود غيره، لأن السبق بالذات يستحق السبق في الذكر ؛ قال تبارك وتعالى :﴿ هو الأول والآخر ﴾ [ الحديد : ٣ ] وقال تعالى :﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد ﴾ [ الروم : ٤ ] وقال تعالى :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ [ الفاتحة : ٥ ].
قال أبو بكر الرازي١٢٦-رحمه الله تعالى- إضمار الفعل أولى من إضمار الاسم ؛ لأن نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل، وهو الأمر، لأنه –تبارك وتعالى- قال :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ فكذا قوله تعالى ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ التقدير : قولوا : بسم الله.
وأقول : لقائل أن يقول : بل إضمار الاسم أولى ؛ لأنا إذا قلنا : تقدير الكلام : بسم الله ابتداء كل شيء، كان هذا إخبارا عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث، ومخالفا لجميع الكائنات، سواء قاله قائل، أو لم يقله، ولا شك أن هذا الاحتمال أولى، وتمام الكلام يأتي في بيان أن الأولى أن يقال : الحمد لله وسيأتي لذلك زيادة بيان في الكلام في الاسم إن شاء الله تعالى.

فصل فيما يحصل به الجر



الجر يحصل بشيئين :

أحدهما بالحرف ؛ كما في قوله تعالى :" بسم الله ".
والثاني : بالإضافة ؛ كما في قوله تعالى :" الله " من قوله " بسم الله ".
وأما الجر الحاصل في لفظة " الرحمان الرحيم " فإنما حصل، لكون الوصف ثابتا للموصوف في الإعراب، فها هنا أبحاث :
أحدها : أن حروف الجر لم اقتضت الجر ؟
وثانيهما : أن الإضافة لم اقتضت الجر ؟
وثالثها : أن اقتضاء الحروف أقوى، أم اقتضاء الإضافة ؟
ورابعها : أن الإضافة بين الجزء والكل، أو بين الشيء الخارج عن ذات الشيء المنفصل ؟
قال مكي١٢٧-رحمه الله تعالى- كُسرت الباء من " بِسم الله " ؛ لتكون حركتها مشبهة لعملها ؛ وقيل : كسرت ليفرق بين ما يخفض، ولا يكون إلا حرفا ؛ نحو : الباء، واللام، وبين ما يخفض، وقد يكون اسما نحو : الكاف.
وإنما عملت الباء وأخواتها الخفض ؛ لأنها لا معنى لها إلا في الأسماء، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأسماء، وهو الخفض، وكذلك الحروف التي تجزم الأفعال، إنما عملت الجزم ؛ لأنها لا معنى لها إلا في الأفعال، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأفعال، وهو الجزم.
والباء-هنا- للاستعانة ؛ كـ " عملت بالقدوم " لأن المعنى : أقرأ مستعينا بالله، ولها معان أخر تقدم الوعد بذكرها وهي :
الإلصاق : حقيقة أو مجازا نحو : مسحت برأسي، " مررت بزيد ".
قال ابن الخطيب١٢٨ –رحمه الله تعالى- فرّع أصحاب أبي حنيفة –رحمه الله- على " باء " الإلصاق مسائل :
إحداها : قال محمد –رحمه الله تعالى- في " الزيادات " : إذا قال لامرأته : أنت طالق بمشيئة الله، لا يقع الطلاق ؛ وهو كقوله : أنت طالق إن شاء الله، ولو قال : لم يشأ الله يقع ؛ لأنه أخرج مخرج التعليل، وكذلك أنت طالق بمشيئة١٢٩ الله تعالى لا يقع الطلاق، ولو قال أو بإرادة١٣٠الله لا يقع، [ ولو قال لإرادة الله يقع ]١٣١أما إذا قال : أنت طالق بعلم الله، أو لعلم الله، فإنه يقع في الوجهين، ولا بد من الفرق.
وثانيهما : في باب الأيمان لو قال : إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني، فأنت طالق، تحتاج في كل مرة إلى إذنه، ولو قال : إن خرجت إلا أن آذن لك، فأذن لها مرة كفى، ولا بد من الفرق.
وثالثها : لو قال : طلقي نفسك ثلاثا بألف، فطلقت نفسها واحدة، وقعت بثلث الألف، وذلك أن الباء تدل على البدلية، فيوزع البدل على المبدل، فصار بإزاء كل طلقة ثلث الألف، ولو قال : طلقي نفسك ثلاثا على ألف، فطلقت نفسها واحدة، لم يقع عند أبي حنيفة ؛ لأن لفظة " على " كلمة شرط١٣٢ ولم يوجد الشرط، وعند صاحبيه يقع واحدة بثلث الألف دلت وها هنا مسائل متعلقة بالباء.
قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الثمن إنما يتميز عن المثمّن بدخول " الباء " عليه، فإذا قلت : بِعت كذا بكذا، فالذي دخل عليه " الباء " هو الثمن وعلى هذا تبنى مسألة البيع الفاسد، فإذا قال بعت هذا الكرباس من الخمر صح البيع، والعقد فاسد.
وإذا قال : بعث هذا الخمر، فالكرباس لم يصح، وله الفرق في الصورة الأولى : أن الخمر ثمن، وفي الثانية الحمر مثمن، وجعل الخمر مثمنا لا يجوز.
ومنها قال الشافعي-رضي الله تعالى عنه- : إذا قال : بعتك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم.
وعند أبي حنيفة –رحمه الله- لا يتعين.
والسببية :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا ﴾ [ النساء : ١٦٠ ] أي : بسبب ظلمهم.
والمصاحبة : نحو :" خرج زيدٌ بثيابه " أي : مصاحبا لها.
والبدل : كقوله –عليه الصلاة والسلام- :" ما يسرني بها حمر النعم " ١٣٣، أي : بدلها ؛ وكقول الآخر :[ البسيط ].

٨-
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا١٣٤
أي بدلهم.
والقسم :" أحلف بالله لأفعلن ".
والظرفية : نحو :" زيد بمكة " أي : فيها.
والتعدية : نحو ﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ [ البقرة : ١٧ ].
والتبعيض : كقول الشاعر في هذا البيت :[ الطويل ].

٩-
شرِبْنَ بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر، لهن نئيج١٣٥
أي : من مائه.
والمقابلة :" اشتريت بألف " أي : قابلته بهذا الثمن.
والمجاوزة : نحو قوله تعالى :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ]، ومنهم من قال : لا يكون كذلك إلا مع السؤال خاصة ؛ نحو :﴿ فاسأل به خبيرا ﴾ [ الفرقان : ٥٩ ] أي : عنه، وقول علقمة١٣٦ :[ الطويل ]

١٠-
فإن تسألوني بالنساء فإنــني خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء [ أو ]١٣٧ قلّ ماله فليس له في ودهن نصيب١٣٨
والاستعلاء : كقوله تعالى :﴿ من إن تأمنه بقنطار ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ]، أي : على قنطار.
وبمعنى " إلى " : كقوله ﴿ وقد أحسن بي ﴾ [ يوس : ١٠٠ ].
والجمهور يأبون جعلها إلا للإلصاق، أو التعدية، ويردون جميع المواضع المذكورة إليهما، وليس هذا موضع استدلال.

وقد تزاد مطردة، وغير مطردة :

فالمطردة : في فاعل " كفى " نحو :﴿ كفى بالله ﴾ [ العنكبوت : ٥٢ ] أي : كفى الله. بدليل سقوطها في قول الشاعر :[ الطويل ].

١١-
......................... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا١٣٩
وفي خبر " ليس " و " ما " أختها غير موجب بـ " إلا " ؛ كقوله تعالى :﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] ﴿ وما ربك بغافل ﴾ [ الأنعام : ١٣٢ ]، وفي " بحسبك زيد ".
وغير مطردة : في مفعول " كفى " ؛ كقوله :[ الكامل ].

١٢-
فكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا١٤٠
أي : كفانا، وفي البيت كلام آخر، وفي المبتدإ غير " حسب ".
ومنه في أحد القولين :﴿ بأييّكم المفتون ﴾ [ القلم : ٦ ].
[ أي : أيكم المفتون ]١٤١ وقيل : المفتون مصدر كالمعقول والميسور، فعلى هذا ليست زائدة.
وفي خبر " لا " أخت " ليس " ؛ كقول الشاعر :[ الطويل ]

١٣-
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلا عن سواد بن قارب١٤٢
أي : مغنيا.
وفي خبر " كان " منفية ؛ نحو :[ الطويل ].

١٤-
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل١٤٣
أي : لم أكن أعجلهم.
وفي الحال، وثاني مفعولي " ظن " منفيين أيضا ؛ كقول القائل في ذلك البيت :[ الوافر ].

١٥-
فما رجعت بخائبة ركاب حكيم بن المسيب منتهاها١٤٤
وقال الآخر :[ الطويل ]

١٦-
دعاني أخي والخيل بيني وبينه فلما دعاني لم يجدني بقعدد١٤٥
أي : ما رجعت ركاب خائبة، ولم يجدني قعددا.
وفي خبر " إنَّ " ؛ كقول امرئ القيس١٤٦ :[ الطويل ].

١٧-
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فإنك مما أحدثت بالمجرب١٤٧
أي : فإنك المجرب.
وفي ﴿ أولم يروا أن الله ﴾ [ الإسراء : ٩٩ ].
والاسم لغة : ما أبان عن مسمى، واصطلاحا : ما دل على معنى في نفسه فقط غير متعرض ببنيته لزمان، ولا دال جزء من أجزائه على جزء من أجزاء معناه.
وبهذا القيد الأخير خرجت الجملة الاسمية، والتسمية : جعل اللفظ دالا على ذلك المعنى.
قال أبو عبيدة :-رحمه الله تعالى- : ذكر الاسم في قوله تعالى :" بسم الله " صلة زائدة، والتقدير :" بالله "، وإنما ذكر لفظة " الاسم " : إما للتبرك، وإما أن يكون فرقا بينه وبين القسم.
قال ابن الخطيب١٤٨-رحمه الله تعالى- : وأقول : المراد من قوله تعالى :" بسم الله " ابدءوا بـ " بسم الله "، وكلام أبي عبيدة ضعيف، لأن الله أمرنا بالابتداء، فهذا الأمر إنما يتناول فعلا من أفعالنا، وذلك الفعل، هو لفظنا وقولنا، فوجب أن يكون المراد : ابدءوا بـ " بسم الله ".
وقال صاحب " البحر المحيط " : اختلف الناس : هل الاسم عين المسمى، أو غيره ؟ وهي مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
واستشكلوا على كونه هو المسمى إضافته إليه ؛ فإنه يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه. وأجاب أبو البقاء١٤٩-رحمه الله- عن ذلك بثلاثة أجوبة :
أجودها : أن الاسم -هنا- بمعنى التسمية، والتسمية غير الاسم ؛ لأن التسمية هي : اللفظ بالاسم، والاسم هو : اللازم للمسمى ؛ فتغايرا.
الثاني : أن في الكلام حذف مضاف تقدير : بسم مسمى الله.
الثالث : أن لفظ " اسم " زائد ؛ كقوله :[ الطويل ].

١٨-
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر١٥٠
أي : السلام عليكما.
وقول ذي الرمة١٥١ :[ البسيط ].

١٩-
لا ينعش الطرف إلا ما تخونه داع يناديه باسم الماء مبغوم١٥٢
وإليه ذهب أبو عبيدة١٥٣، والأخفش١٥٤ وقطرب١٥٥ -رحمهم الله- واختلفوا في معنى الزيادة :
فقال الأخفش :" ليخرج من حكم القسم إلى قصد التبرك ".
وقال قطرب :" زي
فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا ؟
قال الشافعي - رضي الله عنه - : التّسمية آية من الفاتحة، ويجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي، - رضي الله تعالى عنهما - : إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً، إلاّ في قيام شهر رمضان، فإنه يقرؤها.
وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فلم ينص عليها، وإنما قال : يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها، ولم يقل : إنها آية من أول السورة أم لا.
قال : سُئل محمد بن الحسن - رحمه الله - عن " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال : ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله - عز وجل - القرآن.
قلت : فَلِمَ يُسَرّ بها ؟ فلم يجبني.
وقال الكَرْخي٤١ - رحمه الله تعالى - : لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة.
وقال بعض الحنفية - رحمهم الله - : تورّع أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - عن الوقوع في هذه المسألة ؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن، أو ليست من القرآن أمر عظيم، فالأولى السّكوت عنه.

حُجّة من قال : إن التسمية من الفاتحة :

روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج٤٢ عن ابن أبي مُلَيْكة٤٣ عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت :
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية، إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ آية، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية " ٤٤، وهذا نَصّ صريح.
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة٤٥ عن أبيه قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام - غيري " ؟ فقلت : بلى قال :
" بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاَة ؟ " قلت : ببسم الله الرحمن الرحيم قال :" هِيَ هِي " ٤٦ وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن.
وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحَمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - " أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له :" كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة " ؟ قال : أقول : الحمد لله رب العالمين، قال :" قل : بسم الله الرحمن الرحيم " ٤٧.
وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تبارك وتعالى :﴿ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [ الحجر : ٨٧ ] قال : فاتحة الكتاب، فقيل للنابغة٤٨، أين السَّابعة ؟ فقال :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾.
وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، والنبي يحدث أصحابه، إذ دخل رجل يصلّي، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رجل، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد ؟ من تركها فقد تَرَكَ آيةً منها، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا " ٤٩.
وروى بإسناده عن طَلْحَةَ بن عبيد الله٥٠ - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالَى ".
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما - :" " مَا أعظم آيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى " ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ".
ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامةً في أوّل الفاتحة.
وروي أن معاوية٥١ - رضي الله عنه - لما قدم " المدينة " فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها، فقرأ أمّ القرآن، ولم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ٥٢، فلما قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت ؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن ؟
فأعاد معاوية الصَّلاة ؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها.

فصل في بيان عدد آيات الفاتحة


حكي عن الزَّمخشري : الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات.

وحكى ابن عطية قولين آخرين :

أحدهما : هي ستّ آيات، فأسقط البَسْمَلَة، وأسقط " أنعمت عليهم ".
والثاني : أنها ثماني آيات فأثبتهما.
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول : إنّ هذه السورة ثماني آيات، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات، وبه فسّروا قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي ﴾ [ الحجر : ٨٧ ].
إذا ثبت هذا، فنقول : إنَّ الذين قالوا : إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا : قوله تعالى :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] إلى آخرها آية تامة منها.
وأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال : قوله تعالى :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ آية، وقوله :﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ ﴾ آية أخرى.
ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة، ورعاية التَّشابه في المَقَاطع لازم، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين : مُتَقَاربة، ومُتَشَاكلة. فالمتقاربة كَسُورَةِ " ق ".
والمُتشَاكلَة في سورة " القمر "، وقوله تعالى :﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ليس من القسمين، فامتنع جعله من المَقَاطع.
وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى :﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ ابتداء آية، فقد جعلنا أول الآية لفظ " غير "، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله، أو استثناء مما قبله، والصّفة مع الموصوف كالشَّيءِ الواحد، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد، وإيقاع الفَصْل [ بينهما ]٥٣ على خلاف الدليل، أما إذا جعلنا قوله تعالى :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ إلى آخر السورة آية واحدة [ كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً، وآية واحدة ]٥٤، وذلك أقرب إلى الدّليل.
فَصْلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا ؟

وللشافعي قولان :

قال ابن الخطيب :" والمُحَقّقون من أصحابنا٥٥ اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة، أو هي مع ما بعدها آية ".
وقال بعض الحنفية : إنّ الشّافعي خالف الإجماع في هذه المسألة ؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل : إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور.
ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخطّ القرآن، فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال في سورة " الملك " إنها ثلاثون آية، وفي سورة " الكوثر " إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أنَّ هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب ألاّ تكون التسمية آية من هذه السّور.
والجَوَاب أنا إذا قلنا : بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعدها آية واحدة، فالإشْكَال زائل.
فإن قالوا : لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة، فكيف يمكنكم أن تقولوا : إنها بعض آية من سائر السور ؟
قلنا : هذا غير بعيدٍ، ألا ترى أن قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ آية تامة ؟ ثم صار مجموع قوله تعالى :﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠ ] آية واحدة، فكذا ها هنا.
وأيضاً فقوله : سورة " الكوثر " ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشّيء المشترك فيه بين جميع السُّور، فسقط هذا السُّؤال، والله أعلم.

فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها


يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - أن التسمية آية من الفاتحة إلاّ أنه يُسرّ بها في كل ركعة.
وأما الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال : ليست آية من الفاتحة ويجهر بها.
وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : ليست آية من الفاتحة، ولا يجهر بها.
والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً، وإما أن يكون بعضها سرياً، وبعضها جهرياً، فهذا مفقودٌ في جميع السور، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية.
وقالت الشِّيعة : السُّنة هي الجَهْر بالتسمية، سواء كانت الصلاة [ جهرية أو سرية ]٥٦.
والذين قالوا : إن التسمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة، وفيه قولان :
الأول : أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان :
منهم من قال : كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً، فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ.
ومنهم من قال : إنه يجب إثباتها في المُصْحف، ولا يجوز تركها أبداً.
والقول الثاني : أنها من لقرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست بآية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان :
منهم من قال : إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ.
ومنهم من قال : لا، أنزلها مرة واحدة، وأمَرَ بإثباتها في [ أول ]٥٧ كل سورة.
والذي يدلّ على أن الله - تعالى - أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد " بسم الله الرحمن الرحيم " آية فاصلةً.
وعن إبراهيم بن يزيد قال : قلت لعمرو بن دينار٥٨ : إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليست من القرآن، فقال : سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل ! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أنزل عليه " بسم الله الرحمن الرحيم " علم أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها.
وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال : من ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " فقد ترك مائةً وثلاث عشرة آيةً.
قولُه تعالى: ﴿الحمد للَّهِ﴾.
الحمدُ: الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعمةً مُبْتدأة إلّى أَحَدٍ أَمْ لاَ.
يُقال: حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به، وحمدتُه على شَجَاعته، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ، دون عمل الجَوَارح، إذ لا يُقالُ: حمدت زيداً أيْ: عملت له بيدي عملاً حسناً، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير.
يُقال: شَكَرْتُه على ما أعطاني، ولا يُقالُ: شكرتُه على شَجَاعَتِه، ويكون بالقلبِ، واللِّسانِ، والجَوَارح؛ قال الله تعالى: ﴿اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ [سبأ: ١٣] وقال الشاعرُ: [الطويل].
٣٧ - أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا
فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه.
وقيل: الحمدُ هو الشكر؛ بدليلِ قولِهم: «الحمدُ لِلَّهِ شُكراً».
وقيل: بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق.
والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
وقيلَ: الحمدُ: الثناءُ عليه تعالى [بأوصافِه، والشكرُ: الثناءُ عليهِ بِأَفْعاله] فالحامدُ قِسْمَانِ: شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة.
وقيل: الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِن كان منقولاً عن ثَعْلَب؛ لأنَّ المقلوبَ اقلُّ استِعمالاً من المقلوب منه، وهذان مُسْتَوِيانِ في الاستعمالِ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْسِ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيِن.
168
وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المَدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْدِ، فإنه يُقالُ: حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال: مَدَحْتُه، ولو كانَ مَقْلُوباً لما امتنع ذلك.
ولقائلٍ: أَنْ يقولَ: منع من ذلك مانِعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك.
وقال الرَّاغِبُ: «الحَمْدُ لله» : الثناءُ بالفَضِيلَةِ، وهو أخصُّ من المدحِ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار، فقد يُمْدَح الإنسانِ بطولِ قَامَتِهِ، وصَبَاحةِ وجهه، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ.
قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه:
أحدها: أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلحَيِّ، ولغيرِ الحَيِّ، أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ، فإنه يَمْدَحُها؟ فثبتَ أنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ.
الثَّاني: أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ، وقد يكونُ بعدَه، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان.
الثالث: أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهُ المَدَّاحينَ». أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ»
الرابعُ: أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل.
وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدَّالُّ على كونه مختصَّا بِفَضيلة مُعَيَّنَةٍ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ.
وأمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ، فهو أنَّ الحمدَ يَعَمُّ إذا وَصَلَذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك، وأما الشُّكْرُ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك.
وقال الرَّاغِبُ - رَحِمَهُ اللهُ -: والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً، وكل حمد مَدْحٌ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً.
169
ويقال: فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ.
واحمدُ أَيْ: أَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ.
والألفُ: واللام في «الحَمْد» قِيل: للاستغراقِ.
وقيل: لتعريفِ الجِنْس، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقال الشاعر: [الطويل]
٣٨ -..................... إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ
وقيل: للعَهْدِ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ، ولم يُبَيِّنْ وجهةَ ذلك، ويشبه أن يُقالَ: إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ، لا الإخبار به، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه، بخلاف كونها للجِنسِ.
والصلُ في «الحَمْدِ» المصدريّة؛ فلذلك لا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ.
وحكى ابنُ الأَعْرَابِيُّ جَمْعَهُ على «أَفْعُل» ؛ وأنشد: [الطويل]
٣٩ - وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنضاءِ خَصَصْتُهُ بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي
وقرأ الجُمْهُورُ: «الحَمْدُ للهِ» برفْعِ وكسرِ لاَمِ الجَرِّ، ورفعُهُ على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة.
ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَهُ [اسْماً، وهو المُخْتارُ، وإن شِئْتَ قَدَّرْتَهُ] فِعْلاً أَي: الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله، واسْتَقَرَّ لله.
والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ: أَنَّ ذَلك يَتَعَيَّنُ في بَعضِ الصورِ، فلا أَقَلُّ مِنْ
170
ترجيحِه في غَيْرِها، وذلك أنّك إذا قُلْتَ: «خَرجتُ فإِذَا في الدَّارِ زَيْدٌ» وأمَّا في الدَّارِ فَزَيْدٌ «يتعيّنُ في هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ [أن يقدر بالاسم] ؛ لأنَّ» إذا «الفُجائية وأَمَّا الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيليَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأ. وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعضِ الصُّورِ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ، نحو: الَّذي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره؟ والجوابُ: أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ، أَو الخبر، وليس أَجْنَبِيَّا، فكان اعتباره أوْلَى، بخلاف وقوعه صِلةً، [والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ].
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ - ها هنا - لعُمُومِ فائدتها، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً، أو حالاً، أو خبراً تَعلقا بمحذوفٍ، وذلك أن المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً: فأمّا قول الشاعر: [الطويل]
٤٠ -... - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاكَ عَزَّ، وَإِنْ يَهُنْ
فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كائِنُ... وأما قولُه تبارك وتَعَالى: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ﴾ [النمل: ٤٠] فلم يقصدْ جعلِ الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلِّقَ به، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرهُ باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعلاً. واختلفُوا: أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة؟
فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ، [وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ]، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين. وقُرِىءَ شَاذَّاً بنصب الدالِ من»
الحَمْد «، وفيه وجهان:
أظهرُهُما: انه منصوبٌ على المصدريَّةِ، ثم حُذِف العاملُ، ونابَ المصدرُ مَنَابه؛ كقولِهِم في الأخبار:»
حمداً، وشكراً لا كُفْراً «والتقدير:» أَحمد الله حمداً «، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ.
وقال الطَّبريُّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه، فكأَنَّهُ
171
قال:» قولوا: الحَمْد للهِ «وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا: إيَّاكَ».
فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيَّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً، ولا يجوزُ إظهار الناصب، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه.
والثاني: أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ، أَي: اجْمَعْ ضَبُعاً، والأوّلُ أَحْسَنُ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ. وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ، بخلافِ النَّصبِ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله -: إن جوابَ إِبْرَاهيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه: ﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ [هود: ٦٩] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة: ﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ [هود: ٦٩] امتثالاً لقولِه تعالى: ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ [النساء: ٨٦].
و «لله» على قراءةِ النصبِ يتعّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ، لأنَّها للبيانِ، تقديرهُ: أَعْنِي لله، كقولِهم: «سُقْياً له ورَعياً لك» تقديرُه: «أَعْنِي له ولك»، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام، فينصبوه به فيقُولُوا: سُقْياً زيداً، ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى: ﴿والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ [محمد: ٨]، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ؛ لأنَّ «لَهُمْ» لا يتعلَّقُ ب «تَعْساً» كما مَرَّ.
ويحتملُ أَنْ يُقالُ: إن اللام في «سُقياً لك» ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده.
وقُرىءَ: - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال، وجهُهُ: أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده، وهي لُغَةُ «تَمِيم»، وبَعْضِ «غَطَفَان»، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني؛ للتَّجانسِ. ومنه: [الطويل]
٤١ -.................. اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ
172
بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ، ومثلُه، [البسيط]
٤٢ -... - وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً
وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ... الأصل: وَيْلٌ لأُمِّهَا، فحذفَ اللَّامَ الأُولَى، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها، وحذَفَ الهَمْزَةَ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ، فصار اللفظ: «وَيْلِمِّهَا».
ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ، فيقول: «وَيْلُمِّهَا» بِضَمِّ اللاَّمِ، قال: [البسيط]
٤٣ - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ
ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ، لأنَّ الإعرابَ نُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ.
قرىء أيضاً: «لُلَّهِ» بضم لاَمِ الجَرِّ، قَالُوا: وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ، وهي لغةُ بَعْضِ «قَيْس»، يُتْبِعُون الثانِي نحو: «مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ» بضم الدَّال والقاف لأجل الميم، وعليه قرىء:
﴿مُرُدفين﴾ [الأنفال: ٩] بِضَمِّ الراءِ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ.
فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في «الحَمْدِ للهِ».
ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ: الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي:
المُلْكُ: المالُ لِزَيْدٍ. والاستحقاقُ: الجُل لِلْفَرَسِ. والتَّمْليكُ: نحو: وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو: ﴿جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ [الشورى: ١١] لتسكنوا إليها.
والنسب: نحو: لِزَيْدٍ عَمٌّ.
والتعليلُ: نحو: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس﴾ [النساء: ١٠٥]، والتبليغُ: نحو: قُلْتُ لَكَ.
والتبليغُ: نحو قلتُ لك.
وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً؛ كقوله: [البسيط]
173
٤٤ - للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ
والتَّبيِينُ نحو قولِه تَعَالَى: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣].
والصيرورةُ: نحو قولِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى «فِي» : كقوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة﴾ [الأنبياء: ٤٧]، أَوْ بِمَعْنَى «عِنْدَ» : كقولِهم: «كَتَبُتُهُ لِخَمْسٍ»، أيْ: عِنْدَ خَمْسٍ، أَوْ بِمَعْنَى «بَعْدَ» : كقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: ٧٨] أيْ: بَعْدَ دُلُوكها.
والانتهاءُ: كقوله تعالى: ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ [الرعد: ٢].
والاستعلاءُ: نحو قوله تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ﴾ [الإسراء: ١٠٩].
وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه؛ كقولِه تَعَالى: ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] [وإذا] كان العامِلُ فرعاً، نحو قوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧].
وَبِغَيْرِ اطرادٍ؛ نحو قوله في ذلك البيت: [الوافر]
٤٥ - فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَليلاً أَنَخْنَا لِلكَلاَكِلِ فَارتَمَيْنَا
وأما قولُه تَعَالَى: ﴿عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢] فقِيل: على التَّضْمِينِ، وقِيلَ: هي زَائِدَةٌ.
ومن الناسِ مَنْ قال: تقديرُ الكَلام: قُولُوا: الحمد لله.
174
قال ابنُ الخَطِيب: - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصارُ إليه ليصحّ الكلامُ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكلامِ، والدليل عليه: أن قوله - تعالى - «الحَمْدُ للهِ» إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقَّا [لله تعالى] وملكاً له، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه، فلا حاجةَ إلى الإضمار.
وأيضاً فإن قولَه: «الحمد لله» يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته، وبحسبِ أَفْعَالِه، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه.
قال ابنُ الخَطِيب: رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «الحَمْدُ للهِ ثمانيةُ أَحْرُفٍ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [أبواب]، فمن قال:» الحمد لله «بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية» والله أعلم.
فَصْلٌ
تمسَّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى: «الحمدُ للهِ» أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه: الأولُ: اَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ اشْرَفَ وأَكْمَل، وكانت النعمةُ الصادِرةُ عنه أَعْلَى وأفضل، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ، فلو كان الإيمانُ فِعلاً للعبد، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له، ولما لم يكنْ كذلك، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ.
الثاني: أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم:: الحمدُ للهِ على نعمةِ الإيمانِ «؛ باطلاً، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لاَ يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ [آل عمران: ١٨٨].
الثالثُ: أّن قوله تعالى:»
الحمدُ للهِ «يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله، وانه لَيْسَ لِغَيْرِ الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى.
الرابعُ: أَن قولَه:»
الحَمد لله «مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بينَ الخَلْقِ، فلما بدأ كتابَهُ بمدح النفْسِ، دلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ، وذلك يدلُّ على أنه - تبارك وتعالى - مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ.
175
الخامسُ: عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ، وإلا كان عبثاً، وذلك في حقه تعالى محالٌ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [أن تَكُونَ] واجِبةً، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ.
أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب، والعوض إلى المُكَلَّفِين.
وأما الذي يكونُ من باب التفضل، فهو مثلُ أنَّه يزيدُ على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ.
فنقولُ: هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا: الحمدُ لله.
وتقريرهُ أن نقولَ: أما أداةُ الواجِباتِ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارِ، فادّاه، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [له] عن الذَّمِّ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد.
وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ، لما حَصَل له الحمدُ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح.
السَّادسُ: قولُه: الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ، فنقولُ: استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْرا ثابتاً لذاتِه، فإن كان الأوّل، امتنَع ثُبوتُه لغيره، فامتنع - أيضاً - أن يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه، فوجب ألاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوابِ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة.
وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول: فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُستكملاً بغيره، وذلك على الله - تعالى - محالٌ.
أما قول المعتزلة: إنَّ قَوْلَهُ:» الحَمْدُ لله «لا يتم إلاَّ على قولِنَا؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ، ولا جَورَ في قَضِيَّتِهِ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ، وعندنا أنَ الله - تعالى - كذلك؛ فكان مُسْتَحِقَّاً لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح.
أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر، ثم يعذبُه عليه، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد؟
وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسب الإلهيَّة؛ إِمَّا أن يستحِقُّهُ على
176
العبدِ، أَوْ عَلَى نفسه، فغن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ.
وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ؛ وذلكَ بَاطِلٌ، قالوا: فثبت أَنَّ القولَ لا يصحُّ إلا على قولنا.
فَصْل هل وجب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟
اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ.
مِنَ الناس مَنْ قال: إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ، لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥]، ولقوله تبارك وتعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾ [النساء: ١٦٥].
ومِنْهم من قال: إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع، وبعد مجيئه على الإطلاقِ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى: «الحَمدُ للهِ» وبيانه من وجوه:
الأولُ: أَن قولَه تعالى: «الحمدُ لله» يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ، وملكُه على الإطْلاَقِ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع.
الثاني: أنه تعالى قال: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢] ؛ وقد ثَبَتَ في [أصُول] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوصف، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمينِ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي، أو بعده.

فصل


قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا: الحمدُ للهِ، إخبارٌ عن كُلِّ فِعْلٍ عن كُلِّ فِعلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعِماً، وذلك الفعل: إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ، أو فعل اللِّسان، أوْ فِعلِ الجوارح.
أمَّا فعلُ القلبِ: فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُفاً بصفات الكمالِ والإجْلاَل.
وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [والإجلال].
177
[وأما فعل الجوارح؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال].
واعلم أن أهل العلم - رحمهم الله - افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً:
فمنهم مَنْ قال: إنه لا يجوزُ عقلاً أن يأمرَ الله عَبِيدَه بان يَحْمَدُوه، واحتجوا عليه بوجوه:
الأولُ: أن ذلك التحميدَ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم، أَوْ لا بِنَاءَ عليه، فالأول باطِلٌ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة.
وأما الثاني: فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ.
الثاني: قالُوا: إنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ، والكامل [لذاته] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً.
الثالثُ: أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ: أنه لَوْ لم يفعل لاسْتَحَقَّ العذابَ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه: أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ، لَعَاقَبْتُكَ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ، ولو تركته [لعاقبتك] أَبَدَ الآبادِ، وهذا لا يليقُ بالحَلِيم الكريم.
والفريقُ الثاني: قَالُوا: الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه:
الأولُ: أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابَلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ.
والثاني: أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ.
والثالثُ: أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعْمَةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ، وحظُّ النَّفسِ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ.
وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّمَ وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى: ﴿وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين﴾ [آل عمران: ٥٤]، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] وغَيْرِه.
178
فإن قِيل: إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة، قُلْنَا: نُسلِّمُ، ولكنه قد سمى نفسه به، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به.
وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع، فقال اللهُ تعالى: ﴿فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢].
قولُه تَعَالَى: ﴿رَبِّ العالمين﴾.
الرَّبُّ: لُغَةً: السيدُ، والمَالِكُ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه: [الطويل]
٤٦ - أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
والمُصْلِحُ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى: الصّاحبِ؛ وأنشد القائل: [الكامل]
٤٧ - قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ
والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك، فليس هو معنى زائداً.
وقيل: يكون بمعنى الخَالِقِ.
واختُلِفَ فيه: هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟
فمنهم من قال: [هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى «مُرَبٍّ» ]، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه. [فمنهم من قال] : هو على «فَعِل» كقولك: «نَمَّ - يَنِمُّ - فهو نَمٌّ» من النّمام، بمعنى غَمَّاز.
وقيل: وزنه «فَاعِل»، وأصلُه: «رَابٌّ»، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم: رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ.
ولقائلٍ أن يقولَ: لا نسلم أن «بَرَّ» مأخوذ من «بَارّ» بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ «ربَّا» أصله «رابٌّ».
ومنهم مَنْ: قال إنه مَصْدرٌ «رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبَّاً» أي: مَلَكَهُ.
179
قال: «لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ».
فهو مصدر في معنى الفاعل نحو: «رجل عَدْل وصَوْم».
ولا يُطْلقُ على غَيْرِ الباري - تعالى - إلاّ بقيد إضافةٍ، نحو قوله تعالى: ﴿ارجع إلى رَبِّكَ﴾ [يوسف: ٥٠]، ويقولون: «هو رَبُّ الدَّارِ، ورَبُّ البَعِير»، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: [الخفيف]
٤٨ - وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ
وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ.
وقرأ الجمهورُ: «رَبِّ» مجروراً على النعتِ «لله»، أو البَدَلِ منه.
وقرِئَ مَنْصوباً، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
إمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ، تقدِيرُه: «أحمد ربُّ العالمين».
أو على القطع من التبعية، أو على النِّداءِ وهذا أضعفُهَا، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف.
وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذّوفٍ، أيْ: «هُوَ رَبُّ» وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ، لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ فنقول:
اعلم أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته، وكان الوصفُ مَدْحَاً، أو ذماً، أو ترحُّما - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ.
والقطعُ: إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرَّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإ مَحْذُوفٍ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ، ولا هذا المبتدإ، نحو قولِهم: «الحَمْدُ لله أَهْلُ الحَمْدِ» رُوِيَ بنصبِ «أهْل» ورفعِه، أيْ: أعني أَهْلَ، أو هو أَهلُ الحمدِ.
وإِذا تكررتِ النُّعوتُ، والحالةُ هذه، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه:
180
إما إتباعُ الجَميعِ، أو قَطْعُ الجَميع، أوْ قَطْعُ البَعْضِ، وإتباعُ البَعْضِ.
إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ، نحو: «مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ» ؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ.
و «العَالَمِينَ» خَفْضٌ بالإضافَةِ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ، وهم اسْمُ جَمْعٍ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً ل «عَالَم» مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره، فيزولَ المحذْورُ المذكور؟
وأُجِيبَ عنه: بأنه لَوْ جاز ذلك، لَجَازَ أَنْ يُقالَ: «شَيْئُون» جَمْعُ «شَيءٍ» مُرَاداً به العاقل دون غيره، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك.
وفي الجواب نَظَرٌ، إذْ لِقائل أنْ يقول: شيئون «منع منه مانِعٌ آخرُ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ» عَالَمِين «مراداً به العاقل.
ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ «عَالَمِين»
إنما جمع هذا الجمع؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ.
وقال الراغِبُ أيضاً: «إنَّ العَالَم في الأصلِ اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ» وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه.
وقال الرَّاغبُ أيضاً: «إنَّ العَالَم في الأصل لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ» وجُعِلَ بناؤه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانِعه.
وقال الرَّاغِبُ: أيضاً: «وأما جمعُه جَمْعُ السَّلامةِ، فلكون الناس في جُمْلَتِهِم، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللَّفظِ غَلَبَ حُكْمُ»، فظاهر هذا أَنَّ «العَالَمِين» يطلق على العُقَلاء وغَيْرِه، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء، كما زعم بعضُهم، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ.
181

فصل في وجوه تربية الله لعبده


قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ، ونحن نذكر منها أمثله:
الأولُ: لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً، ثم مُضْغَةً ثانيةً، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ، مثلُ العِظَامِ، والغَضَارِيفِ، والرّبَاطَاتِ، والأَوْتَارِ، والأوردَةِ، والشرايِين، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ، ثمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ، والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ»
!.
والثَّاني: أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب.
أما الشق الأعلى، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ، واللطافة، وهي القُشُور، واللّبوبُ، ثم الأدهان.
وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياع منعقدة، ومع غايةِ لُطْفِها، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة، وأودع فيها قُوى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها، والحكمةُ في كلِّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ، والإدام، والفواكه، والأشربةِ، والأدْوِيَةِ؛ كما قال تعالى: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً﴾ [عبس: ٢٥، ٢٦].
فَصْلٌ
اختلفوا في ﴿العالمين﴾.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «هُمُ الجنُّ والإِنْسُ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ» ؛ قال الله تعالى:
﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: ١].
182
وقال قتادةُ: والحَسَنُ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم -: «جميعُ المخلوقينَ» ؛ قال تبارك وتعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ [الشعراء: ٢٣ - ٢٤].
واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ، سُمُّوا بذلك؛ لظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم.
قال أَبُو عُبَيد - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: هم أرْبَعُ أُمَم: والإنسُ، والجِنُّ، والشَّيَاطِينُ، مُشْتَقٌّ من العلم، ولا يُقَال للبهائِمِ؛ لأنها لا تَعْقِلُ.
واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم.
قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «للهِ ألْفُ عَالَمٍ: سِتُّمائةٍ في البَحْرِ، وأربعمائة في البرِ».
183
وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «ثَمانُونَ أَلْفاً، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ، وأربعونَ ألفا في البَرِّ».
وقال وَهْبٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ، الدّنيا منها، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسطاطٍ في صَحْراء».
وقال كَعْبُ الحبارِ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -» ؛ قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١].
قوله
تعالى
: ﴿الرحمن
الرحيم﴾

نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ - وقرئا منصوبين، ومَرْفُوعَيْنِ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في: ﴿رَبِّ العالمين﴾، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في «البَسْمَلَةِ» فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه.
قوله تعالى: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾
يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً، أوْ بَدَلاًَ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مُشْتَقٌّ من «المُلْك» - بفتح الميم - وهو: الشَّدُّ والرَّبْطُ، قال الشاعرُ في ذلك: [الطويل]
٤٩ - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
ومنه: إِمْلاَكُ العَرُوسِ؛ لأنّه عَقْدٌ، ورَبْطٌ، للِّنِكاحِ.
184
وقُرِىءَ: «مَالِك» بالألَفِ.
قال الأَخْفَش - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - يُقال: مَلِك بَيَّنُ المُلْكِ - بضم الميم، و «مَالِك» من «المَلِكِ» بفتح الميم وكسرها.
ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى.
وروي عن العربِ: «لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ» مُثَلَّثُ الفاء، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ:
فالمفْتُوح: الشَّدُّ والرَّبْطُ.
والمضْمُومُ: هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطَاعَةُ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه، والمقصور: هو التَّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه.
وقال الرَّاغِبُ: المِلْكُ أي «بالكَسْرِ» كالجِنْسُ للملك، أي «بالضَّم» فكُلُّ مِلْكٍ «بالكسر» ملك، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً، فعلى هذا يكُونُ بينما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنَ المُلْكِ بالضمِ ومالِكا مأخوذ من المِلك «بالكَسْرِ» وقيل: إنَّ الفرقَ بينهما: أنَّ المَلِكَ: اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة، إِمَّا في نَفْسِه، بِالتمكُّنِ مِنْ زمام ِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا.
وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ.
وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَائَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أنه قال: إِذَا اخْتَلَفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السَّبعةِ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَابَاً على إعراب في القرآنِ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ، فصَّلْتُ الأَقْوَى. نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في «اليَوَاقيت».
قال أَبُو شَامَة - رَحِمَهُ اللهُ: - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ
185
بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، ولَيْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِرَاءَتَيْنِ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ - سبحانه وتعالى - بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ، وبهذه في رَكْعةٍ، ذكر ذلك عند قَوْلِهِ تعالى: مَالِك يَوْمِ الدِّين. وَرَوى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ، عَنْ اَبِي عَمْروٍ: «مَلْكِ» بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً.
وقرأ الأَعْمَشُ، ومحمدُ بنُ السّمفيع، واَبُو عَبْد الملك قاضي الجُنْد: «مَالِكَ» بنصب الكاف على النِّداءِ. روي أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في بعض غزواته: يا مالك يوم الدين، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس، وقرأ عَوْن
186
العُقَيْلِيُّ بالأَلَف وَرَفْعِ الكَاف، على مَعْنَى: «هُوَ مَالِك».
وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر «مالك» بالإمالة والإضجاع البليغ. وقرأ أيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ: بَيْنَ الإمَالةِ والتّفْخِيم، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي.
وقرأ الحَسَنُ «مَلَك يَوْمَ الدِّين» على الفِعْلِ، وهو اختيارُ أبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة «مَالِكِ» أَنَّها أمْدَحُ؛ لعُمُوم إضافَتِه، إذ يُقالُ: «مَالِكُ الجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيْرِ» ولا يُقالُ: «مَلِك الطّيْرِ»، وأنشدوا على ذلك: [الكامل]
٥٠ - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [الوُجُوهُ] لِوَجْهِهِ مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ
وقالُوا: فُلاَنُ مَالِك كَذَا، لِمَنْ يَمْلِكُه، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ
187
نحو: «مَلِكِ العَرَب، والعَجَمِ»، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُّلُّ على الزيادةِ في المعنى، كما تقدم في «الرحمن» ولأنَّ ثواب تالِيها أَكثرُ من ثوابِ تَالِي «مَلِك».
ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ «مَلِكِ» ما حكاه الفَارسيّ، عن ابن السّرَّاجِ، عَنْ بَعْضِهِم: أنه وصف [نَفْسَه] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، بقوله: «رَبِّ العَالَمينَ»، فَلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ «مَالِكِ» ؛ لأنها تَكْرَارٌ.
قال أَبُو عَليٍّ: ولا حُجَّةَ فِيه؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ، يَذْكُرُ العَامَُّ، ثُمَّ الخَاصُّ؛ نحو: ﴿هُوَ الله الخالق البارىء المصور﴾ [الحشر: ٢٤].
وقال حَاتم: «مَالِكِ» أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ، و «مَلِكِ» أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ، والفرق بَيْنَهُمَا: اَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [أيضاً] واختاره ابنُ العَرَبيِّ.
ومِنْهَا: أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للملوكِ وغَيْرِ المَمْلوكِ، بخلاف «مَالِكِ» فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم، ولإشْعَارِه بالكثرةِ، ولأنه تَمَدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - «مَالِكِ المُلْكِ»، وبقوله تعالى: ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك﴾ [آل عمران: ٢٦]، ومَلِكق مأخوذٌ منه [كما تقدّم، ولم يمتدح ب «مالك المِلْك» بكسر الميم الذي «مالك» مأخوذ منه].
وقال قَوْمٌ: «مَعْنَاهُمَا: واحِدٌ؛ مثلُ: فَرِهين وفَارِهِين، وحَذِرِين وحَاذِرِين».
ويُقالُ: المَلِكِ والمالِكِ: هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود، ولا يَقْدِرُ عليه
188
أحد غير الله تعالى. وجمع «مَالِكِ» : مُلاَّك ومُلَّك، وجَمْعُ «مَلِك» : أَمْلاَك ومُلُوك.
وقُرِىء: «مَلْك» بسكون اللاّم، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
٥١ -... - وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طوَالٍ عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا
كما يُقالُ: فَخِذٌ وفَخْذٌ، وجَمْعُه على هذا: أَمْلُك ومُلُوك، قاله مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللهُ.
و «مَلِيك»، ومنه: الكامل
٥٢ - فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا... قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا
و «مَلَكي» بالإشْبَاعِ، وتُرْوَى عن نَافِع - رَحِمَهُ اللهُ -.
إذا عُرِفَ هذا فيكونُ «مَلِك» نعتاً لله - تعالى - ظاهراً، فإنه معرفة بالإضافة.
وأما «مَالِك» فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضّيِ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة فيتعرَّفُ بها، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ: «مضلَكَ يَوْمَ الدِّينِ» فجعل «مَلَكَ» فِعْلاً مَاضِياً، وإن أُرِيد به الحالُ، أو الاستقبالُ [فَيُشَكِلُ؛ لأنه: إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله، ولا يجوزُ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفاعلِ بمعنى الحالِ، أو الاستقبال] غَيْرُ محضةٍ، فلا
189
يُعْرَف، وإذا لم يتعرَّفْ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ؛ لما عرفت فيه تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً.
وإِمَّا أنْ يُجْعَلَ بَدَلاً، وهو ضَعيفٌ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم.
والذي يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: إنه نعت على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ؛ لأَنَّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ، ولاَ اسْتِقْبالٍ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمة الله تعالى.
وإضافَةُ «مَالِكِ» و «مَلِكِ» إلى «يَوْمِ الدِّينِ» مِنْ بَابِ الاتِّساعِ؛ إذْ متعلّقهما غيرُ اليومِ، والتقديرُ: مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ.
ونظيرُ إِضَافَةِ «مَالِكٍ» إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ «طَبَّاخٍ» إلى «ساعات» في قول الشاعر: [الرجز]
٥٣ - رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسَلْ
إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو «زادَ الكَسِلْ»، وف الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ؛ للدلاَلةِ علَيه.
190
ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [على ظاهِرِه] من غيرَ تَقْدِيرِ حَذْفٍ.
ونسْبَةُ «المِلك» والمُلْك «إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلِةٍ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرِاءَةِ مَنْ قَرأ:» مَلَكَ يَوْمَ الدّين «فِعْلاً ماضياً، فإن ظاهِرَهَا كونُ» يَوْمَ «مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى» اللامِ «، لأنَّها الأصل.
ومِنْهم مضنْ جَعلها في هذا النحو على معنى»
في «مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِهِ تبارك وتعالى: ﴿بَلْ مَكْرُ الليل والنهار﴾ [سبأ: ٣٣] قال: المعنى» مَكْرٌ في اللَّيْلِ «إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه.
والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ: إِمَّا على معنى»
اللامِ «وإما على مَعْنى [مِنْ]، وكونٌُها بمعنى» في «غَيْرُ صَحِيحٍ.
وأَمَّا قولُه تعالى:»
مَكْرُ اللَّيْلِ «فلا دَلاَلَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِم، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت: [البسيط]
٥٤ - أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْد وَسِلْسِلَةٍ وَاللَّيْلِ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ
لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك، وهو مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ.
و «اليَوْمُ»
لُغَةً: القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، أيَِّ زَمَنٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق﴾ [القيامة: ٢٩ و٣٠] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار. وأما في العُرْف: فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس.
وقال الرَّاغِبُ: «اليوم» يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [غُرُوبِها].
وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعةِ، قال تبارك وتعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليومِ، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمٌ؛ كما يُقالُ: لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ. ذكره القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى. و «الدِّينِ» مضافٌ إِلَيْه أَيْضاً، والمرادُ به - هنا - الجَزَاءُ؛ ومنهُ قولُ الشاعر: [الهزج]
191
أي: جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا.
وقال آخَرُ في ذلك: [الكامل]
٥٥ - وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
٥٦ - وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ
ومثله: [المتقارب]
٥٧ - إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمُ وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا
ومثله [الطويل]
٥٨ - حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّمَا يُدانُ [الفَتَى] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ
وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تَعَالَى عنهما - ومُقاتِلٌ والسُُّدَّيِّ: «مَالِكِ يَوْمِ لدِّينِ» : قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى: ﴿ذلك الدين القيم﴾ [التوبة: ٣٦]. أي الحسابُ المستقيمُ.
وقال قَتَادَةُ: «الدِّين: الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً».
وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، يوم لا ينفعُ فيه إلاََّ الدِّين».
192
وقيل: الدين القَهْرُ: يُقالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: قَهَرْتُهُ فذلّ.
وقيل: الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً»، أيْ: طَاعَةٌ، وله مَعَاٍ أُخَرُ: العادَةُ؛ كقولِهِ هذا البيت: [الطويل]
٥٩ - كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلِهَا وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ
أَيْ: كَعَادَتِكِ. ومثله: [الوافر]
٦٠ - تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي
ودَانَ: عَصَى وأطاعَ: وذَلَّ وعَزَّ، فهو من الأضدَادِ [قاله ثعلب].
والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله﴾ [النور: ٢]، أَيْ: في قَضَائِهِ وحُكْمِهِ.
والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال: «لو كنتُ على دِينٍ غير هذه، لأَجَبْتُكَ»، أَيْ: على حَالَةٍ.
والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك: [البسيط]
٦١ - يَا دِينَ قَلبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا... ويُقالُ: جِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً - بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر - أيْ: جَازَيْتُه.
﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
ويُقَالُ: دِينُ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ، ومنه قِيل للعبدِ: مَدِين، ولِلأَمَةِ: مَدِينَة. وقِيل: هو من دِنْتُهُ: إذا جازيته بطاعته، وجعل بعضُهم «المَدِينَة» مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِن شاء الله تعالى.
193
وإنما خُصَّ «يوم الدين» بالذكر مع كونِه مالِكا للأيّام كُلِّها؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه؛ قال الله تعالى: ﴿الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن﴾ [الفرقان: ٢٦]، وقال: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]، وقال تعالى: ﴿والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩].

فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا


قرأ أَبُو عَمْرو - رَحِمَهُ اللهُ تعالى: - «الرَّحِيم ملك» بإدغام الميمِ في الميمِ، وكذلك يُدْغِمُ كُلُّ حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَخْرج واحد، أو [كانا] قرِيبَي المَخْرج، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً، إلاُّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً، أَوْ مُنَوَّناً، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً، أوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإدغَامِ الكَبيرِ، وافَقه حَمْزَة من إدغام المتحركِ في قوله تعالى: ﴿بَيَّتَ طَآئِفَةٌ﴾ [النساء: ٨١] [الصافات: ١ و٢ و٣]، ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١].
وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء، وخَلَف،
194
والكِسَائِي [في إدغام الساكن في المتحرك] إِلاَّ في الراءِ عند اللام، والدال عند الجيم، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة.

فصل في كلام القدرية والجبرية


قال ابنُ الخَطِيب: قالتِ القدريَّةُ: إن كان خَالِقَ أَفْعالِ العبادِ، هو الله - تعالى - امتنع القول بالثواب، والعقاب، والجزاءِ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ وعلى هَذا التقديرِ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين.
وقالت الجبريةُ: لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه، لم يكن مالكاً لها، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد، ولأعمالِهم، عَلِمْنَا أَنَّهُ حالقٌ لها مقدرٌ لَهَا.
195
﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله تعالى :﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾
يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً، أوْ بَدَلاًَ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مُشْتَقٌّ من " المَلْك " - بفتح الميم - وهو : الشَّدُّ والرَّبْطُ، قال الشاعرُ في ذلك :[ الطويل ]
٤٩ - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا- -يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا١
ومنه : إِمْلاَكُ العَرُوسِ ؛ لأنّه عَقْدٌ، ورَبْطٌ، لِلنِّكَاحِ.
وقُرِئََ٢ :" مَالِك " بالألَفِ.
قال الأَخْفَش٣ - رحمه الله تعالى - يُقال : مَلِك بَيِّنُ المُلْكِ - بضم الميم، و " مَالِك " من " الِمَلْكِ " بفتح الميم وكسرها.
ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى.
وروي عن العربِ :" لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ " مُثَلَّثُ الفاء، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ :
فالمفْتُوحُ : الشَّدُّ والرَّبْط.
والمضْمُومُ : هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطاعَةُ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه، والمقصور : هو التّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه.
وقال الرَّاغِبُ٤ : المِلْكُ أي " بالكَسْرِ " كالجِنْسُ للملك، أَي " بالضَّم " فكُلُّ مِلْكٍ " بالكسر " ملك، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً، فعلى هذا يكُونُ بينهما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنْ المُلْكِ بالضمِ ومالِكاً مأخوذ من المِلك " بالكَسْرِ " وقيل : إنَّ الفرقَ بينهما : أَنَّ المَلِكَ : اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة، إِمَّا في نَفْسِه، بِالتمكُّنِ مِنْ زمامِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا.
وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ.
وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَاءَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب - رحمه الله تعالى - أنه قال : إِذَا اخْتَلفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السّبعةِ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَاباً على إعراب في القرآنِ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ، فضَّلْتُ الأَقْوَى. نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في " اليَوَاقيت ".
قال أَبُو شَامَة٥ - رحمه الله :- قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِراءَتَيْنِ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ - سبحانه وتعالى - بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ، وبهذه في رَكْعة، ذكر ذلك عند قَوْلِه تعالى : مَالِك يَوْمِ الدِّين.
وَروَى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ٦، عَنْ أَبِي عَمْرو٧ :" مَلْكِ " بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً.
وقرأ الأَعْمَش٨، ومحمدُ بنُ السّميفع٩، وأَبُو عَبْد الملك١٠ قاضي الجُنْد :" مَالِكَ " بنصب الكاف على النِّداءِ. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته : يا مالك يوم الدين، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس١١، وقرأ عَوْن العُقَيْلِيُّ١٢ بالأَلف وَرَفْعِ الكَاف، على مَعْنَى :" هُوَ مَالِك ".
وقرأ أَبُو حَيْوَة شُرَيح بنُ يَزيد١٣ : برفع الكافِ مِنْ غَيْر أَلِف.
وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر١٤ " مالك " بالإمالة والإضجاع البليغ. وقرأ أَيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ : بَيْنَ الإِمَالةِ والتّفْخِيمِ، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي١٥.
وقرأ الحَسَنُ ﴿ مَلَك يَوْمَ الدِّين ﴾ على الفِعْلِ، وهو اختيارُ أَبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة " مَالِكِ " أَنَّها أمْدَحُ ؛ لعُمُومِ إضافَتِه، إِذْ يُقالُ :" مَالِكُ الجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيرِ " ولا يُقالُ :" مَلِك الطّيْرِ "، وأنشدوا على ذلك :[ الكامل ]
٥٠ - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [ الوُجُوهُ ]١٦ لِوَجْهِهِ- -مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ١٧
وقالُوا : فُلاَنُ مَالِك كَذَا، لِمَنْ يَمْلِكُه، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ نحو :" مَلِكِ العَرَب، والعَجَمِ "، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُلُّ على الزيادَةِ في المعنى، كما تقدم في " الرحمن " ولأَنَّ ثواب تَالِيها أَكثرُ من ثَوابِ تَالِي " مَلِك ".
ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ " مَلِكِ " ما حكاه الفَارسِيّ١٨، عن ابن السّرَّاجِ١٩، عَنْ بَعْضِهم : أنه وصف [ نَفْسَه ]٢٠ بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، بقوله :" رَبِّ العَالَمِينَ "، فلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ " مَالِكِ " ؛ لأنها تَكْرَارٌ.
قال أَبُو عَليٍّ : ولا حُجَّةَ فِيه ؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ، يَذْكُرُ العَامَُّ، ثُمَّ الخَاصُّ ؛ نحو :﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ ﴾[ الحشر : ٢٤ ].
وقال أَبُو حَاتم٢١ :" مَالِكِ " أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ، و " مَلِكِ " أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ، والفرق بَيْنَهُمَا : أَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [ أيضاً ]٢٢ واختاره ابنُ العَرَبيِّ.
ومِنْهَا : أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للمملوكِ وغَيْرِ المَمْلُوكِ، بخلاف " مَالِكِ " فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم، ولإشْعَارِه بالكثرةِ، ولأنه تَمدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - " مَالِكِ المُلْكِ "، وبقوله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾[ آل عمران : ٢٦ ]، ومَلِكٌ مأخوذٌ منه [ كما تقدّم، ولم يتمدح ب " مالك المِلْك " بكسر الميم الذي " مالك " مأخوذ منه ]٢٣.
وقال قَوْمٌ :" مَعْنَاهُمَا : واحِدٌ ؛ مثلُ : فَرِهِين وفَارِهِين، وحَذِرِين وحَاذِرِين ".
ويُقالُ : المَلِكِ والمالِكِ : هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود، ولا يَقْدِرُ عليه أحد غير الله تعالى.
وجمع " مَالِكِ " : مُلاَّك ومُلَّك، وجَمْعُ " مَلِك " : أَمْلاَك ومُلُوك.
وقُرِئ٢٤ :" مَلْك " بسكون اللاّم، ومنه قول الشاعر :[ الوافر ]
٥١- وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طوَالٍ *** عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا٢٥
كما يُقالُ : فَخِذٌ وفَخْذٌ، وجَمْعُه على هذا : أَمْلُك ومُلُوك، قاله مَكِّيٌّ رحمه الله.
و " مَلِيك "، ومنه : الكامل
٥٢ - فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا- -قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا٢٦
و " مَلَكي " بالإشْبَاعِ، وتُرْوَى عن نَافِع٢٧ - رحمه الله -.
إذا عُرِفَ هذا فيكونُ " مَلِك " نعتاً لله - تعالى - ظاهراً، فإنه معرفة بالإضافة.
وأما " مَالِك " فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضِيّ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً ؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة٢٨ فيتعرَّفُ بها، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ٢٩ :﴿ مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ ﴾ فجعل " مَلَك " فِعْلاً مَاضِياً، وإن أُرِيد به الحالُ، أو الاستقبالُ [ فَيُشْكِلُ ؛ لأنه : إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله، ولا يجوزُ ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفَاعِلِ بمعنى الحالِ، أو الاستقبال ]٣٠ غَيْرُ محضةٍ٣١، فلا يُعرف٣٢، وإذا لم يتعرّفْ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ ؛ لما عرفت فيما تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً.
وإِمَّا أنْ يُجعَلَ بَدَلاً، وهو ضَعيفٌ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم.
والذي يَنْبَغِي أَنْ يُقالَ : إنه نعتٌ على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبرٍ ؛ لأَنّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقْييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ، ولاَ اسْتِقبالٍ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمه الله تعالى.
وإضافَةُ " مَالِكِ " و " مَلِكِ " إلى " يَوْمِ الدِّينِ " مِنْ بابِ الاتِّساعِ ؛ إذْ متعلّقُهما غيرُ اليومِ، والتقديرُ : مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ.
ونظيرُ إِضَافَةِ " مَالِكٍ " إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ " طَبّاخٍ " إلى " ساعات " في قول الشاعر :[ الرجز ]
٥٣ - رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ- -طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ٣٣
إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو " زادَ الكَسِلْ "، وفي الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ ؛ للدلاَلةِ علَيه.
ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [ على ظاهِرِه ]٣٤ من غيرَ تَقْديرِ حَذْفٍ.
ونسْبَةُ " المِلْك " و " المُلْك " إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلَةٍ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرأ :﴿ مَلَكَ يَوْمَ الدّين ﴾ فِعْلاً ماضياً، فإن ظاهِرَهَا كونُ " يَوْمَ " مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى " اللامِ "، لأَنَّها الأصل.
ومِنْهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى " في " مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِه تبارك وتعالى :﴿ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [ سبأ : ٣٣ ] قال٣٥ : المعنى " مَكْرٌ في اللَّيْلِ " إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه.
والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ : إِمَّا على معنى " اللامِ " وإما على مَعْنى [ مِنْ ]٣٦، وكونُها بمعنى " في " غَيْرُ صَحِيحٍ.
وأَمَّا قولُه تعالى :" مَكْرُ اللَّيْلِ " فلا دَلاَلَةَ فِيه ؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما ؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ : نَهَارُهُ صَائِم، ولَيْلُهُ قَائِم ؛ وقول الشاعر في ذلك البيت :[ البسيط ]
٥٤ - أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وَسِلْسِلَةٍ- -وَاللَّيْلُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ٣٧
لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ.
و " اليَوْمُ " لُغَةً : القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، أيَِّ زَمَنٍ كَان مِنْ لَيْلٍ وَنَهار ؛ قال اللهُ تبارك وتعالى :﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ﴾[ القيامة : ٢٩ و٣٠ ] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار. وأما في العُرْف : فهو من طُلُوعِ الفَج
١ - البيت لقيس بن الخطيم. ينظر ديوانه: ٣، حماسة أبي تمام بشرح التبريزي: ١/١٧٨، المرزوقي: ٢/٥١، القرطبي: ١/١٦٦، مشكل القرآن لابن قتيبة: ١٧٤، ديوان المعاني: ٢/٥١، المختار من شعر بشار: ٩١، البحر المحيط: ٨/١٨٤، الأغاني: ٣/١٦٠، الصحاح: ٤/١٦١١، اللسان: ملك، الحجة: ١/٩، روح المعاني: ١/٨٣، الدر: ١/٦٩..
٢ - وبها قرأ عاصم، والكسائي. ينظر السبعة: ١٠٤، والحجة للفارسي: ١/٥..
٣ -ينظر معاني القرآن: ٥٥٠..
٤ -ينظر المفردات: ٤٩٣.
٥ - عبد الرحمان بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي أبو القاسم: شهاب الدين أبو شامة، مؤرخ محدث باحث. توفي سنة ٦٦٥هـ. فوات الوفيات: ١/٢٥٢، بغية الوعاة: ٢٩٧ـ غاية النهاية: ١/٣٦٥، الأعلام: ٣/٢٩٩..
٦ - عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التيميمي العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري البصري أحد الأعلام، رمي بالقدر ولم يصح. عن عبد العزيز بن صهيب وأبي التياح وأيوب وسليمان التيمي وخلق. وعنه ابنه عبد الصمد والقطان وعفان بن مسلم وخلائق. قال النسائي: ثقة ثبت. وقال الحافظ الذهبي: أجمع المسلمون على الاحتجاج به. قال ابن سعد: توفي سنة ثمانية ومائة. ينظر الخلاصة: ٢/١٨٥، تهذيب التهذيب: ٦/٤٤١ (٩٢٣)، تقريب التهذيب: (١/٥٢٧ (١٣٩٤)، البداية والنهاية: ١٠/١٧٦، طبقات ابن سعد: ٧/٣٠٨، الثقات: ٧/١٤٠.
٧ - أبو عمر بن العلاء بن عمار بن عبد الله المازني النحوي المقرئ. أحد القراء السبعة المشهورين، توفي سنة ١٥٤هـ. بغية الوعاة: ٢/٢٣١..
٨ - سليمان بن مهران الكاهلي، مولاهم، أبو محمد الكوفي الأعمش، أحد الأعلام الحفاظ والقراء. قال ابن المديني: له نحو ألف وثلثمائة حديث. وقال ابن عيينة: كان أقرأهم وأحفظهم وأعلمهم. وقال عمرو بن علي: كان يسمى المصحف لصدقه. وقال العجلي: ثقة ثبت، يقال: ظهر له أربعة آلاف حديث ولم يكن له كتاب، وكان فصيحا وقال النسائي: ثقة ثبت وعدّه في المدلّسين. قال أبو نعيم: مات سنة ثمان وأربعين ومائة، عن أربع وثمانين سنة.
ينظر الثقات: ٤/٣٠٢، تهذيب التهذيب: ٤/٢٢٢، تقريب التهذيب: ١/٣٣١، تاريخ البخاري الكبير: ٤/٣٧، الجرح والتعديل: ٤/٦٣٠، سير الأعلام: ٦/٢٦..

٩ - محمد بن عبد الرحمان بن السميفع بفتح السين أبو عبد الله اليماني، له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه أخبرني به الإمام محمد بن عبد الرحمان الصائغ قال قرأته على الحافظ عبد الكريم بن منير الحلبي وقرأته على ابن اللبان عن ابن منير بسنده إلى أبي معشر الطبري، وقد أفرده الحافظ أبو العلاء الهمذاني وذكر أنه قرأ به على أبي العز القلانسي عن غلام الهراس ذكر أنه قرأ على أبي حيوة شريح بن يزيد عن أبي البرهسم، وقيل إنه قرأ على نافع وقرأ أيضا على طاوس بن كيسان عن ابن عباس كذا قال الحافظ أبو العلاء.
ينظر الغاية: ١/١٦٢، ١٦٣..

١٠ -أبو عبد الملك الشامي قاضي الجند، عرض على يحيى بن الحارث الذماري، روى القراءة عنه أيوب بن تميم، أبو عبيد القاسم بن سلام.
ينظر غاية النهاية: ت (٢٥٢١)..

١١ -عطية بن قيس أبو يحيى الكلابي الحمصي الدمشقي تابعي قارئ دمشق بعد ابن عامر ثقة، ولد سنة سبع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وردت الرواية عنه في حروف القرآن عرض القرآن على أم الدرداء. قال أبو حاتم صالح الحديث، قال عبد الله بن قيس كان الناس يصلحون مصاحفهم على قراءته وهم جالسون على درج مسجد دمشق من قبل أن يبنيه الوليد، مات سنة إحدى وعشرين ومائة وقد جاوز المائة سنة. ينظر غاية النهاية: ١/٥١٣ (٢١٢٥)..
١٢ -عون العقيلي، له اختيار في القراءة أخذ القراءة عرضا عن نصر بن عاصم، روى القراءة عنه المعلى بن عيسى. ينظر غاية النهاية: ١/٦٠٦ (٢٤٧١)..
١٣ - شريح بن يزيد أبو حيوة الحضرمي الحمصي صاحب القراءة الشاذة ومقرئ الشام، وقد ذكره ابن حبان في الثقات وهو والد حيوة بن شريح الحافظ وله اختيار في القراءة، مات في صفر سنة ثلاث ومائتين.
ينظر غاية النهاية: ١/٣٢٥ (١٤١٩)..

١٤ - يحيى بن يعمر الوشقي والعدواني، أبو سليمان: أول من نقط المصاحف، كان من علماء التابعين، عارفا بالحديث والفقه ولغات العرب، من كتاب الرسائل الديوانية، أدرك بعض الصحابة، وأخذ اللغة عن أبيه والنحو عن أبي الأسود الذؤلي، صحب يزيد بن المهلب والي خرسان (سنة٨٣) ولد بالأهواز وسكن البصرة وتوفي بها سنة ١٢٩ هـ حيث كان قاضيا.
انظر إرشاد: ٧/٢٩٦، تهذيب: ١١/ ٣٠٥، بغية الوعاة: ٣١٧، غاية النهاية: ٢/٣٨١، الأعلام: ٨/١٧٧..

١٥ - قرأ بها عاصم والكسائي، وكذا يعقوب، وخلف ووافقهم الحسن والمطوعي، انظر: الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي: ١/٧، وإعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه ١/٤٧، وحجة القراءات لابن زنجلة: ٧٧، والعنوان في القراءات السبع لأبي طاهر إسماعيل بن خلف المقرئ الأنصاري الأندلسي: ص٦٧، وإتحاف فضلاء البشر: ١/٣٦٣. والبحر المحيط: ١/١٣٣، وقال أبو حيان: وهي قراءة العشر إلا "طلحة"، و"الزبير"، وقراءة كثير من الصحابة، منهم أبي، وابن مسعود، ومعاذ وابن عباس والتابعين منهم: قتادة والأعمش..
١٦ - في أ: الملوك..
١٧ - ينظر البحر: ١/ ١٣٨، الدر: ١/٦٩..
١٨ -الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل، أبو علي: أحد الأئمة في علم العربية، ولد في فسا (من أعمال فارس). ودخل بغداد سنة ٣٠٧هـ، وتجول في كثير من البلدان، وقد حلب سنة ٣٤١هـ، فأقام مدة عند سيف الدولة. وعاد إلى فارس، فصحب عضد الدولة ابن بويه، وتقدم عنده، فعلمه النحو، وصنف له كتاب "الإيضاح" في قواعد العربية. ولد سنة ٢٧٧هـ وتوفي سنة ٣٧٧هـ. انظر وفيات الأعيان: ١/١٣١، نزهة الألبا: ٣٨٧، الأعلام: ٢/١٧٩..
١٩ -محمد بن السري بن سهل، أبو بكر، أحد أئمة الأدب والعربية، من أهل بغداد ويقال: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله، كان عارفا بالموسيقى من كتبه الأصول، الشعر والشعراء، الخط والهجاء، العروض وغيرها توفي شابا في ٣١٦هـ.
ينظر بغية الوعاة: ٤٤، الوفيات: ١/٥٠٣، طبقات النحويين واللغويين: ١٢٢، الوافي: ٣/٨٦، نزهة الألبا: ٣١٣، الأعلام: ٦/١٣٦..

٢٠ - سقط في أ..
٢١ - سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم أبو حاتم السجستاني صاحب إعراب القرآن وغير ذلك، توفي سنة خمسين –أو خمس وخمسين- أو أربع وخمسين أو ثمان وأربعين ومائتين، وقد قارب التسعين. ينظر البغية: ١/٦٠٦-٦٠٧..
٢٢ - سقط في ب..
٢٣ - سقط في أ..
٢٤ -قرأ بها: أبو هريرة، وعاصم الجحدري، ورواها الجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو، وهي لغة بكر بن وائل. انظر البحر المحيط: ١/١٣٣، ١٣٤، والشواذ: ١.
٢٥ - البيت من معلقة عمرو بن كلثوم. ينظر شرح المعلقات للتبريزي: ٣٩٢، شرح المعلقات للزوزني: ١٢٧، شرحها للشنقيطي: ٩٩، الصحاح: ٥/٢١١٩، اللسان: دين، القرطبي: ١/٩٨، الدر: ١/٧٠..
٢٦ -البيت للبيد من معلقته. ينظر ديوانه: ٣٢٠، شرح المعلقات للزوزني: ١٣٠، شرحها للشنقيطي: ٩٦، الصحاح: خلق، القرطبي: ١/٩٨، الدر: ١/٧٠..
٢٧ - نافع بن عبد الرحمان بن أبي نعيم أو رويم ويقال أبو نعيم ويقال أبو الحسن وقيل أبو عبد الله وقيل أبو عبد الرحمان لليثي مولاهم وهو مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب. المدني أحد القراء السبعة والأعلام ثقة صالح. أصله من أصبهان وكان أسود اللون حالكا صبيح الوجه حسن الخلق فيه دعابة أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة قال محمد بن إسحاق: لما حضرت نافعا الوفاة قال له أبناؤه أوصنا قال: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. مات سنة تسع وستين ومائة.
ينظر تهذيب الكمال: ٣/١٤٠٤، تهذيب التهذيب: ١٠/٤٠٧ (٧٣٢). تقريب التهذيب: ٢/٢٩٥، خلاصة تهذيب الكمال: ٣/٨٨، الذيل على الكاشف: ١٥٦٧، تاريخ البخاري الكبير: ٨/٨٧، الجرح والتعديل: ٨/٢٠٨٩، لسان الميزان: ٧/٤٠٨. ثقات: ٧/٥٣٢، تاريخ الثقات: ٤٤٧، تاريخ أسماء الثقات: ١٤٧٠، سير الأعلام: ٧/٣١٦..

٢٨ - في أ: مختصة..
٢٩ - قرأ بها أبو حيوة، وأبو حنيفة، وجبير بن مطعم، وأبو عاصم الليثي، وأبو المحشر الجحدري. انظر البحر المحيط: ١/١٣٤، والشواذ: ١، وقيل: هي قراءة أنس بن مالك..
٣٠ - سقط في أ..
٣١ - في أ: مختصة..
٣٢ - اعلم أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فإن العرب تضيفه إضافتين:
الأولى: إضافة؛ طلبا للتخفيف.
الثانية: إضافة على جهة التعريف، وتكون هذه الإضافة كإضافة سائر الأسماء، فإذا أضفته على جهة التخفيف، كان حكمه كحكمه لو لم تضف؛ فيبقى نكرة، وإذا أضيف إضافة الأسماء على جهة التخصيص والتعريف، جرى مجرى الأسماء، فيجري حينئذ ضاربك، مجرى غلامك، وإن كان بمعنى الحال والاستقبال فنقول:
أزيدا أنت ضاربه: إذا لم ترد التعريف، فإذا أردت التعريف، فلا يكون في "زيد" إلا الرفع، ولا يجوز أن ينتصب، فنقول: أزيد أنت ضاربه؛ كما تقول: أزيد أنت غلامه، وإنما لم يجز لـ"زيد" أن ينتصب هنا؛ لأن "ضاربا" إذا أضيف إضافة التعريف، فلا يجوز أن يعمل؛ لأنه قد باعد الأفعال، وما لا يعمل لا يصح أن يفسر.
انظر من البسيط: (٢/١٠٤٠-١٠٤١)، وانظر الارتشاف: (٣/١٨٦-١٨٧)..

٣٣ - البيت للشماخ في ديوانه ص ٣٨٩، والكتاب ١/١٧٧، ولجبار بن جزء في خزانة الأدب: ٤/٢٣٣ و ٢٣٥-٢٣٧و ٢٣٩، ٨/٢١٢، و٢١٣، وشرح أبيات سيبويه: ١/١٣، وشرح شواهد الإيضاح: ص ١٦٧، وشرح المفصل: ٢/٤٦، ولسان العرب (عسل)، ومجالس ثعلب: ١/١٥٢، المخصص: ٣/٣٧، الكامل: ١١٣، البسيط في شرح جمل الزجاجي: ٢/٨٨٩، الأمالي الشجرية: ٢/٢٥٠، الدر: ١/٧١، وأراد بقوله: "ابن عم سليمى" زوجها الشماخ، إذا كانت سليمى هذه زوجا له، وهذا مما يرجع نسبة الرجز إلى جبار بن جزء..
٣٤ - سقط في أ..
٣٥ - في أ: فإن..
٣٦ - سقط في أ..
٣٧ - ينظر شواهد الكتاب: ١/١٦١، المقتضب: ٤/٣٣١، المحتسب: ٢/١٨٤، الكامل: ٣/٤١٠، البحر: ٤/٣١٥، شرح أبيات سيبويه لأبي جعفر النحاس: ٥٤، الدر: ١/٧١..
إِيَّاكَ: كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل، وإيَّاكَ أَسْأَلُ؛ ولا يُسْتَعْمَلُ مؤخراً إلاّ منفصلاً؛ فيُقال، ما عنيتُ إلاَّ إِيَّاكَ.
وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على «نعبد» قدِّم للاختصاصِ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ.
واخْتَلَفُوا فيه: هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهورُ: على أنه مُضْمَرٌ.
وقال الزَّجَّاجُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو اسمٌُ ظاهر.
والقَائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ:
احدُهما: أنه كلمةُ ضَمِيرٍ.
والثاني: عَلَى أَنَّ «إِيَّا» وَحْدَهُ ضَمِيرٌ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [من تكلّم وغيبة وخطاب].
وثَالِثُها: أَنَّ «إِيَّا» وحده ضميرٌ، وما بعده حُرُوفٌ تبين ما يُرادُ به [من تكلم وغيبة وخطاب].
195
ورابعُها: أَنَّ «إيَّا» عمادٌ وما بعده هو الضميرُ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم: «إذا بلغ الرَّجُلُ السِّتِّينَ، فإياه وإيَّايَ الشَّواب» بِإضَافَةِ «إيَّا» إلى «الشواب»، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ، والهاء، والياء في محلّ جر، إِذا قُلْتَ: «إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ» وقد اَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ، فجعل له اشْتِقَاقَا، ثمَّ قال: هَلْ هو مشتقٌّ من «أَوَّ» ؛ كقول الشاعر في ذلك: [الطويل]
٦٢ - فَأوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا.....................
أَوْ منْ «آيَة» ؛ كقوله [الرجز]
٦٣ - لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ... وهل وَزْنُه: «إفْعَل، أو فَعِيل، أو فَعُول» ثم صَيَّره التصريفُ إلى صِيغةِ «إيَّا؟ وهذا الذي ذكره لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلان في المتوغِّل في البناءِ وفيه لُغاتٌ: أَشْهَرُها: كَسْرُ الهمزةِ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ، ومنها، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفها؛ قال الشَّاعر: [الطويل]
196
٦٤ - فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذي إِن الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ
وقال بعضُهم:» إيَّاكَ «بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه؛ لأنه بَصيرُ:» شَمْسَك نعبد «؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ: ضَوْؤُها - بكسر الهَمْزةِ، وقد تُفْتَحُ. وقيل: هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر، فإذا حذفت التاءَ، مَدَدْتَ؛ قال: [الطويل]
٦٥ - سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمسِ إِلاَّ لِثَاتِه أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ
وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذَّاً.
وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسِعٌ لا يحتمله هذا الكتاب، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به.
و»
نَعْبُدُ «فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازِم، وقيل: لوقوعِه موقعَ الاسمِ، وهذا رأيُ البصريين.
ومعنى المضارع المشابه، يعني: أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ، وسكناتِهِ، وعدَدَ حُرُوفِهِ، ألاَ تَرَى أَنَّ»
ضَارِباً «يُشْبِهُ» يَضْرِب «فيما ذكرت، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ، ويختص في الأَشْخاصِ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مرَّ في الاستعاذة.
والعبادَةُ: غايةُ التذللِ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غاية الإفْضَالِ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ، ويُقالُ: طريقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ: مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه. وقال طَرَفة في ذلك: [الطويل]
197
ومنه: العَبْدُ؛ لِذلَّتِهِ، وبَعيرٌ معبَّدٌ: أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطْرَان.
وقيل: العبادةُ التَّجَرُّدُ، ويُقالُ: عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجل - بالتشديدِ فقط، أَيْ: ذللتُه، واتخذتُه عبداً.
وفي قوله تعالى: «إيَّاكَ نَعْبُد» التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ، إِذْ لو جرى الكلامُ على اصله، لَقِل: الحمد لله، ثم قيل: إيَّاهُ نَعبدُ، والالتفاتُ: نوعٌ مِن البلاغَةِ.
قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه:
أحدُها: أن المصلِّي كان أَجْنَبِيَّاً عند الشروعِ في الصَّلاةِ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة، إلى قوله: «يَوْمِ الدِّينِ»، ثم إنه تعالى كأنه قال له: حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً، ربَّا، رحماناً، رحيماً، مالكاً ليوم الدين، فَنَعْمَ العبْدُ أنت، فرفعنا الحجابَ، وأبدلنا البُعْدَ بالقُرْبِ، فتكلّم بالمخاطبة وقل: إياك نعبد.
الثاني: أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ، [والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِلَ] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ.
ومن الالتفاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢] ولم يَقُلْ: «بكم» ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله: [المتقارب].
٦٦ - تُبَاري عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
٦٧ - تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ
وقد خطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في جَعْلِهِ هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ، وقال: بل هما التفاتان:
أحدُهما: خُروجٌ مِنَ الخِطابِ به في قولِهِ: «لَيْلُك»، إلى الغَيْبَةِ في قوله: «وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ».
والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلِّم، في قولِه: «مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ».
198
والجوابُ: أَنَّ قولَه أَوّلاً: «تَطَاوَلَ لَيْلُك» فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ: «تطاول لَيْلِي» ؛ لأنه هو المقصودُ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبة، ثمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل.
وقُرِىءَ شاذّاً: «إِيَّاكَ يُعْبَدُ» على بنائِهِ للمفعول الغائب؛ ووجهُها على إشْكَالِها: أن فيها استعارةً والتفاتاً:
أما الاستعارةُ: [فإنه استُعِير] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائع؛ كقولِهم: «عَسَاكَ، وعَسَاهُ، وعَسَانِي» في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر: [الرجز]
٦٨ - يا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا وَطَالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيْكَا
فالكافُ في «عَصَيْكَا» نائبةٌ عن التاءِ، والأصل: «عَصَيْتَ».
وأما الالتفاتُ: فكان من حقِّ هذا القارئ أَنْ يَقْرَأَ: «إِيَّاكَ تُعْبَدُ» بالخطابِ، ولكنه التفت من الخطاب في «إِيَّاكَ» إلى الغَيْبَةِ في «يُعْبَدُ» إلاّ أن هاذ الالتفاتَ غَريبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه: [الطويل]
٦٩ - أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذي كُنْتَ مَرَّةً سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ
فقال: «بِهِ» بعد قوله: «أَنْتَ» و «كُنْتَ».
و «إِيَّاكَ» واجبُ التقديم على عامله؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهُ «، من نحو:» الدرهم إياه أعطيتك «لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ:» الدِّرْهَمُ أَعْطَيُكَ إِيَّاهُ «لم يَلْزَم الاتصالُ، لما سيأتي بل يجوزُ:» أعطيتكَهُ «.
199

فصل في معنى العبادة


قال ابنُ الخَطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تَعْظِيم الغَيْرِ، من قولهم: طريقٌ مُعّبَّدٌ، أَيْ: مذلَّلٌ، فقوله: إيَّاكَ نَعْبُدُ، معناه: لا أعبد أحداً سواك، ويدلُّ على هذا الحصر وجوه:
فَذّكَر من جملتها: تسميَة الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وكونَهُ قادراً بان يُمسِكَ السّماءَ بلا إعانة، وأَرْضاً بلا دِعَامة، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر، ويسكن القُطْبَيْن، ويخرجُ من السَّماء تارة النَّارَ؛ وهو البرق، وتارة الهواءَ؛ وهو الريح، وتارة الماء؛ وهو المطر.
وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ؛ وتارةً يُخْرج الحجرَ من الماء؛ وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر؛ [وهي الجبال]، وأجساماً مسافرة لا تقيم؛ وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ، ودفع محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى قَاب قَوْسَيْن، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون؛ لقوله: ﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [نوح: ٢٥]، وجعل النارَ بَرْدَا وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - ورفع مُوسَى - عليه السلام - فوق الطُّورِ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ، وجعل البحر يبساً لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فهذا من أداة الحَصْرِ.
والكلام في» إِيِّاكَ نَسْتَعِينُ «كالكَلاَمِ في» إِيَّاكَ نَعْبُدُ «.
والواو: عاطِفَةٌ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى، ولا تقتضي تَرْتِيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى.
وأصل»
نَسْتَعِين «:» نَسْتَعْوِنُ «؛ مَثْلُ:» نَسْتَخْرِجُ «في الصحيح؛ لأنه من العَوْنِ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ، فنقلت إلى السّاكنِ قَبْلَها، فسكنت الواوُ بعد النَّقلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ياءً.
وهذه قاَعِدةٌ مطّردَةٌ؛ نَحْوَ:»
مِيزَان، وميِقَات «، وهما من: الوَزْنِ، والوَقْتِ.
والسِّينُ فيه معناها: الطلبُ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي ل»
استفعل «وله معََانٍ أُخَرٌ:
الاتخاذُ: نحو:»
اسْتَحْجَرَ الطِّينُ «، أَيْ: نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي ل» استفعل «، وله مَعَانٍ أُخَرٌ:
الاتخاذُ: نحو:»
اسْتَعْبِدْهُ «أي: اتخذْهُ عبداً.
والتحولُ؛ نحو: «اسْتَحْجَرَ الطِّينُ»
أَيْ: صار حجراً، ومنه قوله: «إنَّ البُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ» أي: تتحولُ إلى صفة النُّسور.
ووجودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه؛ نحو: «اسْتَعْظَمَهُ» أَيْ: وجده عظيماً.
200
وعَدُّ الشَّيْ كذلك، وإِن لم يكُنْ؛ نحو: «اسْتَحْسَنَهُ».
ومطاوعةُ «أَفْعَل» ؛ نحو: أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى «.
وموافقتُه له أيضاً؛ نحو:»
أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ «.
وموافقةُ»
تَفَعَّلَ «؛ نحو:» اسْتَكْبَرَ «بمعنى» تكبر «.
وموافقةُ»
افْتَعَلَ «؛ نحو:» اسْتَعْصَمَ «بمعنى» اعْتَصَمَ «.
والإِغْنَاءُ عن المجرد؛ نحو:»
اسْتَكَفّ «و» اسْتَحْيَا «، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه.
والإغْنَاءُ بهما عن»
فَعَلَ «أي المجرد الملفوظ به نحو:» اسْتَرْجَعَ «و» استعان «، أيْ: رجع وحَلَق عانته.
وقُرِىءَ:»
نِسْتَعِينُ «بكسرِ حرف المضارعة؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة. وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً؛ لثقل ذلك، على أنَّ بعضَهُم قال:» ييجَلُ «، مضارع» وَجَلَ «، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء، فكسر ما قبلها لتنقلب؛ وقد قُرِىءَ: ﴿فإنَهم ييلَمُون﴾ [النساء: ١٠٤]، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إنْ شاء الله تعالى.
وأن يكونَ المُضَارع من ماضٍ مكسورِ العَيْنِ؛ نحو:»
تِعْلَمْ «من» عَلِمَ «، أو في أوله همزةُ وصلٍ، نحو» نِسْتَعِينُ «من» اسْتِعَانَ «، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ؛ نحو:» نِتَعَلَّمُ «من» تَعَلَّمَ «، فلا يجوزُ في» يضْربُ «و» يقتلُ «كشر حرف المُضَارعة؛ لعدم الشرُّوط المذكورة.
والاستعانَةُ: طلبُ العَوْنَ: وهو المُظَاهرة والنصرة، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة.
وقال ابنُ الخَطيبِ: كأنه يقولُ: شَرَعْتُ في العِبَادَةِ: فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالمَْوتِ، ولا بالمرضِ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِها.
وقال البَغَوِيُِّ: رَحِمَهُ اللهُ تعالى - فإن قيل: لم قدم ذِكْرُ العِبَادَةِ على الاستعانَةِ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة؟
201
قلنا: هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانةَ قبلَ الفعل، ونحن نَجْعلُ التوفيقَ، والاستعانةَ مع الفعل، فلا فرق بيت التقديم والتأخير.
وقيل: الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً؛ ليتناول كل معبود به، وكلَّ مُسْتَعان [عليه]، أَوْ يكون المُرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول؛ نحو: ﴿كُلُواْ واشربوا﴾ [البقرة: ٦٠] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ.

فصل في نظم الآية


قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: قال تعالى:» إيَّاكَ نَعْبُدُ «فقدَّمَ قولَه:» إيَّاكَ «على قوله:» نعبد «ولم يقل:» نعبدك «لوجوه:
أحدُها: أنه - تبارك وتَعَالَى - قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ؛ لينبه العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ - تعالى - فلا يتكاسَلُ في التعظيم.
وثانيها: أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه: «إياك»
؛ لتذكرني، وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي، وعلمت أني مولاك، وأنك عبدي؛ سهلت عليك تلك العبادة.
وثالثها: أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على لمحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار.

فصل في نون «نعبد»


قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: لقائلٍ أّنْ يقولَ: النُّون في قوله تعالى: «نعبد» إما أن تكون نونَ الجمع، أو نونَ العظمةِ، والأول باطِلٌ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعَاً، والثاني باطل أيضاً؛ لأن عند أداء العبوديةِ، اللَّائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْزِ والذّلة لا بالعَظَمَةِ.
واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه:
أحدها: أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة.
الثاني: أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة، فقوله: «نعبد»، المُرَاد منه ذلك الجمعُ، وإن كان يصلّي الصَّلاة بالجماعة.
الثالث: أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ، فلو قال: «إياك أعبدُ» كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه، ولم يذكر
202
عبادَةَ غَيْرِه، أما إذا قال: «إياك نعبدُ» كان قد ذكر عبادَة نفسِه، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً.
203
اهْدِ: صِيغَةُ أمْرٍ، ومعناها: الدعاءُ، فقِيلَ معناه: أَرْشِدْنَا.
وقال عَليٌّ: وأُبَيُّ بن كَعْب - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - ثبتنَ؛ كما يُقال للقائِم: قم حتى أعودَ إليك، أَيْ: دُمْ على ما أنت عليه، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من الله - تعالى - لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة.
قال ابنُ الخَطِيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: المرَادُ من قوله تعالى: «اهِدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» هو: أنْ يكونَ الإنسانُ مُعْرِضاً عما سوى الله - تعالى - مُقْبِلا بكليةِ قلبه وفِكْرِه وذِكْرِه على الله تعالى.
مثالُه: أنْ يصيرَ بحيثُ لو أُمِرَ بذبح غيرُه، لأطاعَ؛ كما فعل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولو أُمِرَ بأَنْ ينقادَ، لأن يذبَحهُ غيرُه، لأطاعَ؛ كما فعله إسْماعِيلُ عليه الصلاةُ والسَّلام، ولو أُمِرَ باَنْ يُلْق] نفسَهُ في البحر، لأطاعَ؛ كما فعله يُونُس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولو أُمِرَ بأن يتلمذَ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المَنْصب إلى أعلى الغايات، لأطاع؛ كما فعله موسى - عليه الصَّلاة والسلام - مع الخَضِر [عليه الصَّلاةُ والسلامُ]، ولو أُمِرَ بأنْ يصبرَ في المر بالمَعْرُوف، والنهي عن المنكر على القتل، والتفريقِ بنصفين، لأطاع؛ كما فعله يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا - عليهما الصَّلاة والسلام - فالمراد بقوله تعالى «اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ»، هو الاقتداءُ بأنبياء اللهِ في الصَّبرِ على الشدائدِ، والثبات عند نزُولِ البلاءِ، ولا شَكّ أن هذا مقامٌ شَدِيدٌ؛ لأن أكثر الخَلْقِ لا طاقة لهم به.
واعلم أن صيغةَ «أَفْعَلْ» تَرُِ لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ.
وقال بعضُهم: إن وردت صيغةُ «افعل» من الأعلى للأدنى، قيل فيها: أَمرٌ، وبالعكس دُعاء، ومن المُساوي التماسٌ، وفاعله مستتر وُجُوباً، لِمَا مَرَّ، أي: اهْدِ أنت، و «ن» مفعولٌ أَوَّلٌ، وهو ضميرٌ متصل يكون للمتكلم مع غيره، أو المعظّم نفسه، ويستعملُ في موضع: الرّفع، والنصب، والجر، بلفظ واحد؛ نحو: «قُمْنَا»، و «ضَرَبَنَا زَيْدٌ»، و «مَرَّ بِنَا»، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيره من الضَّمائر.
وقد زعم بعضُ النَّاسِ أن الياء كذلك؛ تقولُ: «أكرمني»، و «مرّ بي»، و «أنت تقومين يا هند»، و «الياء» في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ، وفي الثاني مجرورته، وفي
203
الثالث مرفوعتهُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع، ليست تلك الياء التي في حالة النَّصبِ والجر؛ لأن الأُولَى للمتكلم، وهذه المخاطبة المؤنثة.
وقيل: بل يشاركُه لفظُ هُم؛ تقول: «هم نائمون» و «ضربتهم» و «مررت بهم»، ف «هم» مرفوعُ المحلِّ، ومنصوبُهُ، ومجروره بلفظ واحد، وهو للغائبين في كل حالٍ، وهذا وإِنْ كان اَقربَ منَ الأولِ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضميرٌ منفصل، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متّصل.
فافترقا، بخلاف «نَا» فإنَّ معناها لا يختلِفُ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة.
و «الصِّراطَ» مفعولٌ ثانٍ، و «المستقيم» صِفَتُه، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة.
وأصلُ «هَدَى» أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ، وهو إما: «إلى» أو «اللام» ؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، ﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] ثم يُتَّسَعُ فيه، فَيُحْذَفُ الجَرُّ، فيتعدى بنفسه، فأصلُ «اهْدِنا الصِّرَاطَ» : إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط، ثم حذف. والأمرُ عند البصريين مَبْنِيٌّ وعند الكوفين مُعْرَبٌ، ويَدَّعُونَ في نحو: «اضْرِبْ»، أنَّ أصله: «لِتَضْرِبْ» بلامِ الأَمْرِ، ثم حذف الجازم، وتبعه حرفُ المُضَارعةِ، وأتي بهمزة الوصل؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن، وهذا مما لا حاجة إليه، وللرد عليهم موضعٌ يليق به. ووزْنُ «اهْدِ» «افْعِ» ؛ حُذِفَتْ لاَمُه، وهي الياءُ حملاً [للأمر على المجزوم، والمجزوم تُحْذَفُ] منه لامه إذا كانت حرف علّة.
ومعنى الهِدايَة: الإرشادُ أو الدلاَلَةُ، أو التقدّم. ومنه هواد الخيل لتقدمها. قال امرؤُ القَيْسِ: [الطويل]
٧٠ - فَاَلْحَقَنَا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ
أي: المتقدّمات الهَادية لغيرها.
أو التَّبيينُ؛ نحو: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] أي: بيّنّا لهم؛ ونحو: ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠]، أيْ: أَلْهَمَهُ لمصالحه.
أو الدعاءُ؛ كقوله تعالى ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: ٧]، أيْ دَاعٍ.
204
وقيل: هو المَيْلُ؛ ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] والمعنى: بقلوبِنا إِلَّيْكَ، وهذا غلط؛ فإن تَيْك مادةٌ أخْرى من «هَادَ - يَهُودُ».
وقال الرَّاغِبُ: الهِدَايَةُ: دَلاَلَةٌ بِلُطْفٍ، ومنه الْهَدِيَّةُ، وخصّ ما كان دلالةً ب، «هديت» وما كان إعْطَاءً ب «أهديت».
و «الصِّرَاط» : الطَّريقُ المستسهلُ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ؛ قال [الرجز]
٧١ - فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ... ومثله: [الوافر]
٧٢ - أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ
وقال آخَرُ: [الوافر]
٧٣ - شَحَّنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
أَي: الطَّريقِ.
وهو مُشْتَقٌّ من «السَّرْطِ» وهو: الابتِلاَع؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه؛ ألا ترى إلى قولهم: قَتَلَ أَرْضَاً عَالِمُهَا، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلُها؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام: [الطويل]
٧٤ - رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُ سَاكِبُهْ
وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه، أو يلتقمُهُ سالِكُه.
205
وأصله: السّين: وقد قرأ به قُنْبُل رَحِمَهُ اللهُ تعالى حيث ورد، وإنما أُبْدِلَتْ صَاداً؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلاَءِ وإبدالها صاداً مُطَّرد عنده؛ نحو: «صَقَر» في «سَقَر»، و «صَلَخ» في «سَلَخ»، و «أَصْبغ» في «أَسْبَغ»، و «مُصَيْطر» في «مُسَيْطر» لما بينهما من التَّقارب.
وقد تُشَمُّ الصادُ في «الصِّرَاطِ» ونحوه زَاياً، وقرأ به خَلَفٌ، وحَمْزَةُ حيث ورد، وخَلاَّد: الأوَّلَ فقط، وقد تُقْرأُ زاياً مَحْضة، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم.
و «الصِّراطَ» يُذْكَرُ ويُؤَنَّثُ: فالتذكيرُ لُغَة تَميم، والتَّأنيثُ لغةُ «الحِجَازِ»، فإِنِ اسْتُعمِلَ مُذكَّراً، جمع على «أَفْعِلَة» في القلّةِ، وعلى «فُعُل» في الكَثْرَةِ، نحو: «حِمَارِ»، و «أَحْمِرَة» و «حُمُر»، وإِنِ اسْتُعْمِلَ مُؤَنثاً، فقياسه أن يجمعَ على «اَفْعُل» : نحو: «ذِرَاع» و «أذْرُع».
و «المُسْتَقيمَ» اسمُ فَاعِلِ من استقامَ، بمعنى المُجَرّد، ومعناه: السَّوِيِّ مِنْ غَيْرِ
206
اعْوِجَاج، واَصْلُه: «مُسْتَقْوم» ثُم أُعِلّ كإعلالِ «نَسْتَعِيْن» وسيأتي الكلامُ [مُسْتَوْفى] على مادتِه إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاة﴾ [البقرة: ٣].
و «الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» قال ابنُ عَبَّاسٍ، وجَابِرٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: هو الإسْلام، وهو قولُ مُقَاتِلٍ، وقال ابنُ مَسْعودٍ رضي الله تعالى عنهما: هو القرآن الكريم، وروي عن علي - رضي الله تعالى عنه - مرفوعاً: الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ: كِتَابُ اللهِ تَعَالى.
وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه «طَريقُ الجَنَّة».
وقال سَهْلُ بن عَبْدِ الله رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو طريقُ السُّنَّةِ والجَمَاعة. وقال بَكْرُ بنُ عبد الله المُزْنِيِّ: هو طريقُ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
207
وقال أَبُو العَالِيةِ، والحَسَنُ: رسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصَاحِبَاه.
قال ابنُ الخَطيب: الحِكْمَةُ في قوله: «اهْدِنَا» ولم يَقُلْ «اهدني» ؛ إما: لأن الدعاءَ مهما كان أعم، كان إلى الإجابة أَقْربَ.
وإمَّا لقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «ادْعوا الله تعالى بأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوه بها» قالُوا: يَا رَسُولِ الله، فمن لنا بتلك الأَلسِنَةِ؟ قال: «يَدْعُو بَعْضَكُمْ لبعضٍ؛ لأنك ما عصيت بِلِسَانه، وَهُوَ ما عَصَى بِلِسَانِكَ».
الثالث: كانّ العبدَ يقولُ: سمعتُ رَسُولَك يقولُ: «الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ»، فلما أَرَدْتُ حمدك، قلتُ: الحَمْدُ لله، ولما ذكرت العبادة، ذكرُ عبادةَ الجَمِيع، ولما ذكرتُ الاستعانةَ، ذكرتُ استعَانَة الجَمِيع، فلا جرم لَمَّا طلبتُ الهدايةَ، طلبتُها للجميع، ولما طلبتُ الاقتداءَ بالصالحين، طلبتُ اقتداءَ الجميع؛ فقلتُ: «غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّيْنَ»، فلما لَمْ أُفارِق النبياءَ والصالحين في الدنيا، فأرجو ألا أفارِقََهم في الآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم﴾ [النساء: ٦٩] الآية الكريمةَ.
208
قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾
«صِرَاطَ الذِيْنَ» بدل منه، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ.
والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها:
208
بدلُ كُلَ من كُلّ، ولد بَعْضٍ من كُلّ، وبدلُ اشتِمَالٍ، وبدلُ غَلَطٍ، وبدل نِسْيَان، وبدل بَدَاء، وبدل كُلّ من بعض.
أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ، فلا خلاَف فِيها.
وأما بدلُ البدَاء، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاً بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُها إلى العُشُرِ» ولا يَرِدُ هذا القرآن الكريمِ.
وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ: فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ: [البسيط]
٧٥ - لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ
قال: لأنَّ «الحُوّة» السّوادُ الخالِصُ، و «اللَّعَسُ» سواد يشوبه حُمْرَة، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ.
وأما بدل الكُلّ من البعض، فأثبته بعضهُم، مُسْتَدِلاَّ بظاهِر قوله: [الخفيف]
٧٦ - نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
في رواية مَنْ نَصَبَ «طَلْحَةَ»، قال: لأنَّ «الأَعْظُمَ» بعضُ «طَلْحَةَ»، و «طَلْحَةَ» كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرئ القيس [الطويل]
٧٧ - كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
ف «غَدَاةَ» بعضُ «اليوم»، وقد أُبْدِلَ «اليوم» منها.
ولا حُجَّةَ في البيتَيْنِ، أما الأولُ: فإنَّ الأَصْلَ «أعظماً دفنوها أَعْظَمَ طلحة» ثم حُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ «طَلْحَةَ» على أن الأصل: «اعظم طلحة» ولم يَقُم المضاف إليه مقامَ المضاف.
وأما الثاني: فإنَّ «اليَوْمَ» يُطلقُ على القطعةِ من الزمان، كما تقدّم، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن.
209
وقيل: «الصراط» الثاني غير الأول، والمرادُ به: العلمُ بالله تعالى. قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ.
والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى:
بدل ظاهِر من ظاهرٍ: ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، وظاهرٍ مٍنْ مضمر، ومضمرٍ من ظاهر.
وفائدةُ البَدَلِ: الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل.
و «الذين» في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صلةٍ وعائدٍ، وهو جمع «الذي» في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرَّاً؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه: [الرجز]
٧٨ - نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحا يَومَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا
وقد تُحْذَفُ نُونُه استِطَالةً بصلته؛ كقوله: [الطويل]
٧٩ - وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمَ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمِّ خَالِدِ
ولا يقع إلاّ على أولي العلم، [ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم] وغيرهم.
210
و «أَنْعَمْتَ» : فِعْلٌ، وفاعلٌ، صِلَة المَوْصُولِ.
والتاء في «أنعمتَ» ضميرٌ مرفوعٌ مُتَّصل. و «عليهم» جار ومجرور متعلّق ب «أنعمتَ»، والضميرُ هو العائدُ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِهِ ومُنْفَصِلِهِ.
والهمزةُ في «أنعمتَ» ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه، ولكن ضُمِّنَ معنى «تَفَضَّلَ» فَتَعَدَّى تَعْدِيَتُهُ.
وقرأ عمر بنُ الخَطّاب، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - «صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ».
ول «أَفْعَلَ» أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى، تقدّمَ وَاحِدٌ.
والتعدِيَةُ؛ نحو: «أَخْرَجْتُه».
والكثرةُ؛ نحو: «أظْبَى المَكَانُ» أَيْ: «كَثُرَ ظِبَاؤُه».
والصَّيرورة؛ نحو: «اَغَدَّ البَعِيرُ» صار ذا غُدّة.
والإعانةُ؛ نحو: «أَحْلَبْتُ فُلاَناً» أي: أعنتُه على الحَلْبِ.
والتَّشْكِيَةُ؛ نحو: «أَشكيته» أي: أزلتُ شِكَايَتَهُ.
والتَّعرِيضُ؛ نحوك «أبعتُ المبتاعَ»، أي: عرضتُه للبيع.
وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو: «أحمدتُه» أي: وجدتُه محموداً.
وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو: «أعشَرتِ الدَّرَاهِمُ»، أي: بلغتِ العَشَرَة.
أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو «أصبح»، أو مَكَانٍ؛ نحو «أَشْأَمَ».
وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو: «أحزتُ المكانَ» بمعنى: حُزْتُهُ.
أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو: «أَرْقَلَ البعيرُ».
ومطاوعةُ «فَعَلَ» ؛ نحو قَشَعَ الريح، فَأَقْشَع السّحابُ.
211
ومطاوعةُ «فَعَّلَ» ؛ نحو: «فَطَّرْتُهُ، فَأَفْطَرَ».
ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو: «أسرع».
والتَّسميةُ؛ نحو: «أخطأتهُ»، أَيْ: قلتُ له: سَقَاكَ الله تعالى.
والاستحقاقُ؛ نحو «أَحَصدَ الزرعُ»، أيْ: استحقَّ الحصادَ.
والوصولُ؛ نحوه: «أَعْلَقْتُهُ»، أيْ: وصَّلتُ عقلي إليه.
والاستقبالُ نحو: «أَفَفْتُهُ»، أي: استقبلتُه بقول: أُفٍّ.
والمجيءُ بالشيء؛ نحو: «أكثرتُ» أَيْ: جئت بالكثير.
والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَلَ، نحو: أَشْرَقَتِ الشَّمسُ: أضاءتْ، وشَرَقَتْ: طَلَعَتْ.
والهجومُ؛ نحو: اَطْلَعْتُ على القوم، أيْ: اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ.
و «على» حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَيْنٌ: ولها معانٍ أُخَرُ، منها:
المُجَاوزة؛ كقوله: [الوافر]
٨٠ - إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لِعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
أيْ: عَنِّي.
وبمعنى «الباءِ» ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ﴾ [الأعراف: ١٠٥]، أي: بأَنْ، وبمعنى «في» ؛ ﴿الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: ١٠٢] أيْ: فِي [مُلْكٍ]، ﴿المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى﴾ [البقرة: ١٧٧].
والتعليلُ: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٥] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم.
وبمعنى «مِن» :
﴿حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ﴾ [المؤمنون: ٥، ٦]، أيْ: إلاّ مِنْ أَزواجهم.
212
والزيادة كقوله: [الطويل]
٨١ - أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ عَلَى كُلِّ أَفْنَانٍ العِضَاهِ تَرُوقُ
لأنَّ «تُروقُ» يتعدى بنفسِه، ولكل موضع من هذه المواضع مَجَالٌ للنظر.
وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكونه اسماً في موضعين:
213
أحدهُما: أن يدخلَ عليها حَرْفَ الجَرّ؛ كقول الشاعر: [الطويل]
٨٢ - غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا تَصِلُ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ
ومعناها «فَوق»، أيْ: من فوقه.
والثاني: أنْ يؤدي جعلُه حرفاً، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله: [المتقارب]
٨٣ - هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا
ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيَن «عن»، وستأتي إن شاء الله تعالى.
وزعم بعضُهم أنَّ «على» مترددةٌ بين الاسم، والفِعْلِ، والحرفِ.
أما الاسمُ والحرفُ، فقد تقدما.
وأما الفعلُ: قال: فإنك تقولُ: «عَلاَ زيدٌ» أي: ارتفع. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن «عَلاَ» إذا كان فِعْلاً، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً، فلا اشتقاقَ له، فليس هو ذَاكَ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلُ يَرُدَُّ هذا النظرَ، [بقولهم: إنَّ «خَلاَ»، «وَعَدا» مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ، ولم يلتفتوا إلى هاذ النظر].
والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإن تقدمها ياءٌ ساكنة، أو كسرةٌ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو: عَلَيْهِم وفِيهِمْ وبِهِمْ.
والمشهورُ في مِيمِها السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبل ساكن، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء، أما إذا ضممتَ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله: «وفِيهُمِ الحكام» بِكَسْرِ المِيمِ.
وفي «عَلَيْهِمْ» عشرُ لُغاتٍ:
214
قُرِىءَ بِبَعْضِها: «عَلَيْهُمْ» بكسر الهاء وضمها، مع سُكُون الميم.
«عَلَيْهِمي»، بكسر الهاء، وزيادة الياء، وبكسر الميم فقط.
«عليهُمُو» بضم الميم، وزيادة واو، أو الضم فقط.
«عليهِمُو» بِكَسْرِ الهاءِ، وضم الميمِ، بزيادة الواو.
«عليهُمِي» بِضَمِّ الهاء، وزيادة ياي بعد الميم.
أو الكسر فقط «عليهِمُ» بكسر الهاء، وضم الميم، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَاري.
والتفسيرُ، قال البَغَويُّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «صراط الذين أنعمت عليهم أي: مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق، وقال عِكْرِمة - رضي الله تعالى عنه -: مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَةِ وعلى الأنبياء عليهم السلام.
وقِيل: على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تعالى - في قوله: ﴿فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين﴾ [النساء: ٦٩] وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام، قبل أن غيروا دينهم. وقال أَبُو العَالِيَةَ: هم آلُ الرسولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر، وعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: هم أصحابُ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأهل بَيْتِهِ.
215
وقرأ حَمْزَةُ «عَلَيْهُمْ»، و «إلَيْهُمْ»، و «لَدَيْهُمْ» بضم الهاء.
ويضم يَعْقُوب كُلُّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً، إلاّ قوله تعالى: ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ [الممتحنة: ١٢].
والآخَرونَ: بكسرها. فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الإنفراد.
ومَنْ كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة.
وضم ابنُ كَثِير، وأَبُو جَعْفَر كلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصلِ، إذا لم يلقها ساكن، فإن لقيها ساكِنٌ فلا يُشبِعُ.
ونَافِعٌ يُخَيَّرُ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع.
وإذا تلقته ألفُ الوصلِ، وقبل الهاء كسرٌ، أو ياءٌ ساكنةٌ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكَسَرَهُما أبُو عَمْرو، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله.
216
والآخرون: بضمّ الميم، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها، وضمّ الميم على الأصل، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: «صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ».
قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: اخْتُلِفَ في حَدِّ النّعْمَةِ:
فقال بعضُهم: إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعَةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ.
ومنهم مَنْ يقولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلَى الغير]. قالوا: وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان]، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ السكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ ألاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ، والذَّمِّ بمعصيةِ الله تعالى، فلا يجوزُ أن يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك.
ولنرجع إلى تفسير الحَدِ: فنقول: أما قولُنا: «المنفعةُ» ؛ فلأن المَضَرَّةَ المحضةَ لا تكونُ نِعمَةً.
وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان؛ لأنه لو كان نفعاً وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه، نَفْعَ المفعولِ به، فلا يكونُ نِعْمَةً، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ، ليربَحَ عليها.
وها هنا فوائدُ:
الفائِدَةُ الأُوْلَى: أنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع، ودفع الضَّرر، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ [النحل: ٥٣]، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ:
أحدُها: نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا، نحو: أنْ خَلَق وَرَزَقَ.
وثانيها: نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غيرِ الله - تعالى - في ظاهرِ الأمْرِ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلت إلينا من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ، كان ذلك العبدُ مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى: ﴿أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير﴾
[لقمان: ١٤] فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى.
وثالثها: نِعْمُ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه
217
لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفَّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإلاّ لَمَا وصلنا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة كم الله تَعَالى.
الفائدةُ الثانيةُ: اختلفوا [في أنه] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا: ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة.
وقالت المعتزلةُ: لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية. واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [الكريم]، والمعقول.
أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ؛ وذلك لأنه لو طلب كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلينَ تحت قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فيكون طلباً لصراطِ الكُفَّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ.
فإن قَالُوا: إنَّ قَوْله: ﴿الصراط المستقيم﴾ يدفعُ ذَلِكَ.
قلنا: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بدل مِنْ قَوْلِهِ: ﴿الصراط المستقيم﴾ ؛ فكان التَّقْدير: «اهدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم»، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوف المذكورُ.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ [آل عمران: ١٧٨].
وأما المَعْقُولُ: فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مقابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرةِ في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً﴾ [البقرة: ٢١، ٢٢]، على أنه يَجِبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ [البقرة: ٢٨]، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم.
وقولِه تعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠].
وقولِه تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣].
وقول إبليس: ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧].
218
ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاّ عند حصول النعمة.
الفائدة الثالثةُ: قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يدل على إمامةِ أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية: «اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم» والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ ﴿الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من هم؛ بقوله تعالى: ﴿فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين﴾ [النساء: ٦٩] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - امرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمام، لما جَازَ الاقتداء به]، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين.
فنقول: كل نعمة ديِنيَّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى: ﴿١٦٤٩; هْدِنَا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام:
الأول: أنه لما ثبت أن المرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
الحكم الثاني: يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ مذكور في معرض التَّعظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التعظيم.
الحكم الثالث: دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [الصلاح والأصلح] في الدين؛ لأنه لو كان الإرشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً،
219
وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب.
الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حقّ الكفار، فلما خلص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع.
قوله تعالى: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾
«غير» بدل من «الذين» بدل نكرة من معرفة.
وقيل: نعت ل «الذين»، وهو مشكل؛ لأن «غير» نكرة و «الذين» معرفة، وأجابوا عنه بجوابين:
أحدهما: أن «غير» إنما يكن نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف «غير» حينئذ بالإضافة، تقول: «مررت بالحركة غير السكون» والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح.
والثاني: أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات.
220
وقيل: إن «غير» بدل من المضمر المجرور في «عليهم»، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محل المبدل منه، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلة الصّلة من العائد، ألا ترى أن التقدير يصير: «صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم».
و «المغضوب» خفض بالإضافة، وهو اسم مفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، ف «عليهم» الأولى منصوبة المَحَلّ، والثانية مرفوعته، و «أل» فيه موصولة، والتقدير: «غير الذين غُضِب عليهم».
والصحيح في «أل» الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ.
واعلم أن لفظ «غير» مفرد مذكر أبداً، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول: «قامت غيرك»، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها، أعني نحو: «مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِذن وتِرب».
وقد يستثنى بها حملاً على «إلاّ» كما يوصف ب «إلاّ» حملاً عليها، وقد يراد بها النفي ك «لا»، فيجوز تقديم معمولها عليها، كما يجوز في «لا» تقول: «أنا زيداً غَيْرُ ضارب» أي: غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
٨٤ - إِنَّ امرْءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ عَلَى التَّنَائِي لَعِندِي غَيْرُ مَكْفُورِ
تقديره: غير مكفور عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي.
لو قلت: «جاء القوم زيداً غير ضارب»، تزيد: غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى «لا» التي لا يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في «لا».
وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً.
وقول ثالث: يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ، فيمتنع فيها ذلك، وبين ألاّ يكون فيجوز.
وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدخَال الألف واللام عليها خَطَأ.
واختلفوا هل يجوز دخول «أل» على «غير وبعض وكل» والصحيح جوازه.
قال البغوي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «غير» ها هنا بمعنى «لا» و «لا» بمعنى «غير»، ولذلك جاز العَطْفُ عليها، كما يقال: «فلان غير مُحسن ولا مجمل»، فإذا كان «غير»
221
بمعنى «لا»، فلا يجوز العَطْفُ عليها ب «لا» ؛ لا يجوز في الكلام: «عندي سوى عبد الله ولا زيد».
وقرىء: «غَيْرَ» نصباً، فقيل: حال من «الَّذِين» وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى: وقيل: من الضمير في «عليهم».
وقيل على الاستثناء المنقطع، ومنعه الفَرَّاء؛ قال: لأن «لا» لا تُزَادُ إلاّ إذا تقدمها نفي، كقول الشاعر: [البسيط]
٨٥ - مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ
وأجابوا بأن «لا» صلة زائدة مثلها في قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] ؛ وقول الشَّاعر: [الرجز]
٨٦ - فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا... وقول الآخر: [الطويل]
٨٧ - وَيَلْحَيْنَني في اللهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
وقول الآخر: [الطويل]
٨٨ - أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
ف «لا» في هذه المواضع كلها صلةٌ.
وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل: إنها غير زائدة، وقولهم: إن «لا» زائدة في الآية، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا: وجدت «
222
لا» زائدةً من غير تقدّم نفي، كهذه المواضع المتقدمة.
ويحتمل أن تكون «لا» في قوله: «لا البُخْلَ» مفعولاً به ل «أَبَى»، ويكون نصب «البُخْلَ» على أنه بدل من «لا» أي: أبى جُودُهُ قَوْلَ لا، وقول: لا هو البخل، ويؤيد هذا قوله: «واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ» فجعل «نَعَمْ» فاعل «اسْتَعْجَلَتْ»، فهو من الإِسْنَادِ اللّفظي، أي: إلى وجود هذا اللَّفظ، واستعجل به هذا اللفظ.
وقيل: إن نصب «غير» بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل، وقدّر بعضهم بعد «غير» محذوفاً قال: التقدير: «صِرَاطِ المَغْضُوب»، وأطلق هذا التَّقدير، فلم يقيده بِجَرّ «غير»، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها، وتكون صفةً لقوله تعالى: ﴿الصراط المستقيم﴾ وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف، فالأولى أن تكون صفةً ل «صراط الذين»، ويجوز أن تكون بدلاً من «الصراط المستقيم»، أو من «صراط الذين» إلا أنه يلزم منه تكرار البدل، وفي جوازه نَظَر، وليس في المَسْألة نقل، إلاّ انَهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة، أو حالاً من «الصراط» الأول أو الثاني.
واعلم أنّه حيث جعلنا «غير» صفةً فلا بد من القول بتعريف «غير»، أو إبهام الموصوف، وجريانه مجرى النكرة، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ «غير».
و «لا» في قوله تعالى: ﴿وَلاَ الضآلين﴾ زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من «غير» لئلا يتوهّم عطف «الضّالين» على «الذين أنعمت».
وقال الكوفيون: هي بمعنى «غير» وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح ب «غير» كانت للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
و «الضَّالين» مجرور عطفاً على «المغضوب»، وقرىء شاذاً «الضَّأَلِّينَ»، بهمز الألف؛ وانشدوا: [الطويل]
223
قال الزَّمَخْشَرِي «:» وفعلوا ذلك، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين «.
وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر: [الرجز]
٩٠ - وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذّا العَأْلَمِ... بهمز»
العألم «.
وقال آخر: [البسيط]
٩١ - وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْرَأَةً.....................
بهمز ألف»
زَوْرَأَة «، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في القراءة ابن ذَكْوَان:» مِنْسَأَتَهُ «بهمز ساكنة: إنَّ اصلها ألف، فقلبت همزة ساكنة.
فإن قيل: لم أتى بصلة»
الذين «فعلاً ماضياً؟
قيل: ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة»
أل «اسماً ليشمل سائر الأزمان، وجاء مبنيَّاً للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطُّف، وترفُّق لطلب الإحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.
والإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره.
224
والغضب: ثَوَرَان دم القلب إرادة الانتقام، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابنِ آدَمِ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه «.
وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات.
ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ] له أول وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.
ويقال: فُلاَن غُضبَّة: إذا كان سريع الغَضَب.
ويقال: غضبت لفلان إذا كان حيَّا وغضبت به إذا كان ميتاً.
وقيل: الغضب تغيُّر القلب لمكروه.
وقيل: إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل، وإن أريد به إرادة العقوبة كانت صفة ذاتٍ.
والضلال: الخَفَاء والغيبوبة.
وقيل: الهلاك، فمن الأول قولهم: ضَلَّ الناءُ في اللبن.
[وقال القائل] :[الوافر]
٨٩ - وَلِلأَرْضِ أمَّا سُودُهَا فَتَجَلّلََتْ بَيَاضاً، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ
٩٢ - أَلَم تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ عَن الحَيِّ المُضَلِّلِ أَيْنَ سَارُوا؟
» والضَّلضلَة «: حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي.
ومن الثاني: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض﴾ [السجدة: ١٠]، وقيل: الضّلال: العُدُول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسيْانِ كقوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا﴾ [البقرة: ٢٨٢] بدليل قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
التفسير: قيل: «المغضوب عليهم»
هم اليهود.
225
وقيل: «الضالون» هم النصارى؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى: ﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦٠]، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى: ﴿وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ﴾ [المائدة: ٧٧].
وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز من دينهم أولى.
وقيل: «المغضوب عليهم» : هم: الكُفَّار، و «الضّالون» : هم المنافقون.
وقال سهل بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «غير المغضوب عليهم» بالبِدْعَةِ، «والضّالين» عن السُّنَّة.
والأَوْلَى أن يحمل «المغضوب عليهم» على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل.
فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «غير المغضوب عليهم» يدلُّ على أن أحداً من الملائكةِ، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلَّ عن الحق، لقوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ [يونس: ٣٢]، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فَضْلٌ في إضافة الغضب لله
قالت المعتزلة: غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم، وإلاّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم.
وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى -: لما ذكر غضب الله عليهم، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد.
أما لو قلنا: إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك مُحَال.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق:
226
أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾.
وأهل البغي والعدوان، وهم المراد بقوله تعالى: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾.
وأهل الجهل في دين الله، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَلاَ الضآلين﴾.
فإن قيل: لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟
قلنا: لأن كل أحد يحترز عن الكفر، أما قد لا يحترز عن الفِسْق، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: ها هنا سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال: إنه قديم، أو محدث، فإن كان قديماً فلم خلقه، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [يعقل] إقدامه على إِجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاَّ للحوادث، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر، وتسلسل، وهو مُحَال.
والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
سؤال آخر
وهو من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه، وأن يكون من الضَّالين، فلما ذكر قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، فما الفائدة في أن ذكر عقبيه: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ ؟
والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرَّجاء والخوف، كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا»، فقوله: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يوجب الرَّجَاء الكامل، وقوله تعالى: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حَدِّ الكمال.
سؤال آخر
ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضَّالين؟
227
فالجواب: أنّ الذين كلمت نعم الله - تعالى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقِّ لذاته، والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المُرَادون بقوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ، وهم المغضوب عليهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ [النساء: ٩٣].
وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ [يونس: ٣٢].

فصل في حروف لم ترد في هذه السورة


قالوا: إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهو الثاء، والجيم، والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب، فالثناء أوّل حروف الثبور.
والجيم أوّل حروف جهنم.
والخاء: أول حرف الخِزْيِ.
والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق، والزّقوم والشّقاوة.
والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء.
والفاء أول حروف الفراق تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ [الروم: ١٤].
قلنا: فائدته أنه - تعالى - وصف جهنَّم بأن ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ [الحجر: ٤٤] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذّاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة، وآمن بها، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة.
القول في «آمين» : ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: اللهم اسمع واستجب.
وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما -: معناه كذلك يكون فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ.
وقيل: ليس باسم فعل، بل هو من أسماء البَارِي تعالى، والتقدير: يا آمين، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ، لنه منادى مفرد معرفة.
228
والثاني: أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ.
ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى: أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل، وهو توجيه حسن نقله صاحب «المُغْرِب».
وفي «آمين» لغتان: المَدّ، والقَصْر، فمن الأول قول القائل: [البسيط]
٩٣ - آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ حَتَّى اُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا
وقال الآخر: [البسيط]
٩٤ - يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَاً... ويَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ: آمينَا
ومن الثاني قوله: [الطويل]
٩٥ - تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحَلٌ إِذ رَأَيْتُهُ أضمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا
وقيل: الممدود: اسم أَعْجَمِيّ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيلَ وهَابِيل.
وهل يجوز تشديد الميم؟
المشهور أنه خطأ، نقله الجَوْهَرِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ، من أمِّ: إذا قصد، أي: نحن قاصدون نحوك.
ومنه: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ [المائدة: ٢].
229
وقيل: معناه: هو طابع الدعاء.
وقيل: هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ، وظهور ما فيه. وقال النَّووي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في «التهذيب» : وقال عطية العرفي: [ «آمين» ] كلمة عبرانية، أو سُرْيانية، وليست عربية.
وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد: «آمِينَ» كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى.
وروي فيها الإمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل: أَيْنَ وَكَيْفَ.
وقيل: آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها.
وقيل: معناه: اللهم استجب، وأعطنا ما سألناك «.
وقالوا: إن مجيء»
آمِين «دليلٌ على أنها ليست عربية] ؛ إذ ليس في كلام العرب» فَاعِيل «.
فأما»
آري «فليس ب» فاعِيل «، بل هو عند جماعة» فَاعُول «.
وعند بعضهم»
فَاعلي «.
وعند بعضهم [»
فَاعِي «] بالنقصان.
وقال بعضهم: إن»
أمين «المقصورة لم يجئ عن العرب، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو: [الطويل]
٩٦ -.............................
230
فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إِذّا قَالَ الإمَامُ: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾، فقولوا: آمِين، فإنّ المَلائِكَةَ تقول: آمين، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ «.

فصل في وجوب القراءة في الصلاة


قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة.
وعن الَصَمِّ والحسن بن صالح - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا: لا تجب لنا [أن كلّ دليل نذكره في بيان أن] قراءة الفاتحة واجبة، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب، ونزيد - ها هنا - وجوهاً:
الأول: فهو قوله تبارك وتعالى:
﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر﴾ [الإسراء: ٧٨].
والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر الوجوب.
الثاني: عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله تعالى عنه - أن رجلاً سال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أفي
231
الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال: «نَعَمْ» فقال السائل: وجبت، فأقر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك الرجل على قوله: «وَجَبَتْ».
الثالث: عن ابن مَسْعُودٍ: رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَتَكُونُ صَلاَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ»، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني «.
وحجّة الأصم - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي «جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست مرئية، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة، والجواب: أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.
فصْلٌ
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته، وبه يقال الأكثرون.
وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ.
لنا وجوه:
الأول: انه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة، فوجب علينا ذلك، لقوله تعالى: ﴿واتبعوه﴾ [الأعراف: ١٥٨]، ولقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣]، ولقوله تعالى: ﴿فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ [آل عمران: ٣١].
232
ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - انه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ، في أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مسح على النّاصية، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - واظب على قراءة الفاتحة، ثم قال: إن صحّة الصَّلاةِ غير موقوفةٍ عليها، وهذا من العَجَائب.
الثاني: قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ [البقرة: ٤٣]، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام، فيكون المراد منها المعهود السَّابق، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاةِ إلى الأعمال التي كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي بها.
وإذا كان كذلك كان قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة، وظاهر الأمر الوجوب، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتِحَةِ في الصَّلاةِ.
الثالث: أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدلُّ عليه ما روي في» الصّحيحين «أن النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة ب ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾، وإذا ثبت هذا وَجَب علينا ذلك، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي»
.
ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ» رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
والعجب من أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - أنه تمسّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْه -
233
مع أن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث، فلم يتمسّك بعمل [كل] الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - على سبيل الإطباق، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن، والإخبار، والمعقول!
الرابع: أن الأمّة [وإن] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول: إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين، فيدخل تحت قوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين﴾ [النساء: ١١٥] فإن قالوا: إنَّ الذين اعتقدوا انَّه لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد النّدبية، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها.
فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بيَّنَّا إطباق الكُلُّ على الإتيان بالقراءة، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَل فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ، وهذا القدر يكفينا في الدَّليلِ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادّعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.
الخامس: قوله عزَّ وجَلَّ: «قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن، فإذا قَالَ العَبْدُ: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ يقول الله تَعَالى: حَمِدَنِي عَبْدِي... »، إلى آخر الحديث.
وجه الاستدلال: أنه - تَعَالى - حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلا بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب
234
كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا: قراءة الفاتحة شرط في صحّة الصلاة.
السَّادس: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ».
قالوا: حرف النفي دخل على الصَّلاة، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال.
والجواب من وجوه:
الأول: أنه جاء في بعض الرِّوَايات: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة، وإنما دخل على حصولها للرَّجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبتَ أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة، وهذا [هو] أول المسألة، فثبت أن قولنا: يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه معنى تعذَّر العمل بالحقيقة، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما: أقرب إلى الحقيقة، والثاني: أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب.
إذا ثبت هذا فنقول: المُشَابهة بين المعدوم، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [أتم من المُشابَهةَ بين المعدوم وبين لموجود الذي لا يكون صحيحا]، لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى.
الحُجَّة السَّابعة: عن أ [ي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج، فهي خداج» أي غير تمام، قالوا: الخِدّاجُ هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز.
235
قلنا: بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاةِ دائم، والأصل في الثابت، البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ، فعند الإتيان بها على سبل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - يصح الصوم يوم العيد إلا أنه قال: لو صام يوم العيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصُّوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب ألا يفيد هذا للقضاء الخروج عن العُهْدَة.
وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟
الحُجَّة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في «تعليقه» عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرَأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَاب».
الحجّة التاسعة: روى رفاعة بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى، فلما فرغ من صلاته، ذكر في الخبر أن للرجل قال: علّمني الصَّلاة يا رسول الله، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبَّرُوا، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَاب»، وهذا أمر، والأمر للوجوب.
الحُجّة العاشرة: روي أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها» قالوا: نعم، قال: «فما تقرءونه في صَلاَتكم» ؟ فقالوا: الحمد لله ربّ العالمين، قال: «هِيَ هِيَ».
وجه الدليل: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما قال: «ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم» قالوا: الحمد لله رب العالمين، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم.
236
الحُجَّة الحادية عشرة: التمسُّك بقوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ [المزمل: ٢٠] فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ.
فنقول: المراد بما تيسّر من القرآن، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة، وذلك باطل بالإجماع، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها.
وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز.
واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين، فهي متيسّرة للكل، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة، وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ.
الحُجّة الثَّانية عشرة: الأصل بقاءُ التكليف، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس.
237
أما الأول فباطل.
238
[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ وقد بينا أنه دليلنا.
239
[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ وقد بينا أنه دليلنا.
240
[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ وقد بينا أنه دليلنا.
241
وأما القياس] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاَة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.
الحُجّة الثالثة عشرة: أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع، وذلك حرام لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا»، و «أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرّ الأمُورِ مثحْدَثَاتُهَا».
واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر.
أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾.
وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما -
242
قال «أمرني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن أخرج وأنادي: لاَ صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ، ولو بفاتحة الكِتَاب».
والجواب عن الأول: أنا بيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا.
وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة، وأيضاً لا يجوز أن يقال: المراد من قوله: «لا صَلاَةَ إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب» وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى.

فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟


قال الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: التّسمية آية من الفاتحة، ويجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي، - رضي الله تعالى عنهما -: إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً، إلاّ في قيام شهر رمضان، فإنه يقرؤها.
وأما أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - فلم ينص عليها، وإنما قال: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها، ولم يقل: إنها آية من أول السورة أم لا.
قال: سُئل محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللهُ - عن «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله - عَزَّ وَجَلَّ - القرآن.
قلت: فَلِمَ يُسَرُّ بها؟ فلم يجبني.
وقال الكَرْخي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة.
وقال بعض الحنفية - رحمهم الله -: تورّع أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن، أو ليست من القرآن أمر عظيم، فالأولى السّكوت عنه.
حُجّة من قال: إن التسمية من الفاتحة:
243
روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - أنها قالت: «قرأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاتحة الكتاب، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية، إيَّاكِ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية، اهْدِنَا السِّراطَ المُسْتَقِيمَ آية، صِرَاطَ الَّذِينّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية»، وهذا نَصّ صريح.
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام - غيري» ؟ فقلت: بلى قال:
«بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاة؟» قلت: بسم الله الرحمن الرحيم قال: «هِيَ هِي» وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن.
وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحِمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له: «كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة» ؟ قال:
244
أقول: الحمد لله رب العالمين، قال: «قل: بسم الله الرحمن الرحيم».
وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - في قوله تبارك وتعالى: ﴿آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾ [الحجر: ٨٧] قال: فاتحة الكتاب، فقيل للنابغة، أين السَّابعة؟ فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم».
وبإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - فقال: كنت مع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المسجد، والنبي يحدث أصحابه، إذ دخل رجل يصلّي، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا رجل، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها تَرَكَ آيةً منها، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا».
وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى».
وروي أنَّ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبيّ بن كَعب - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: «مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى» ؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة.
245
وروي أن معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْه - لما قدم «المدينة» فصلّى بالناس: «مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى».
وروي أنَّ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبيّ بن كَعب - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: «مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى» ؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة.
وروي أن معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْه - لما قدم «المدينة» فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها، فقرأ أمّ القرآن، ولم يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم»، فلمى قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟ فأعاده معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها.

فصل في بيان عدد آيات الفاتحة


حكى عن الزَّمخشري: الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات.
وحكى ابن عطية قولين آخرين:
أحدهما: هي ستّ آيات، فأسقط البَسْمَلَة، وأسقط «أنعمت عليهم».
والثاني: أنها ثماني آيات فأثبتهما.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: إنّ هذه السورة ثماني آيات، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات، وبه فسّروا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾ [الحجر: ٨٧].
إذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ الذين قالوا: إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا: قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين
246
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: ٧] إلى آخرها آية تامة منها.
وأما أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال: قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ آية، وقوله: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ آية أخرى.
ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة، ورعاية التشابه في المَقَاطع لازم، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين: مُتَقَاربة، ومُتَشَاكلة. فالمتقاربة كَسُورَةِ «ق».
والمُشَاكلَة في سورة «القمر»، وقوله تعالى: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ليس من القسمين، فامتنع جعله من المَقَاطع.
وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ ابتداء آية، فقد جعلنا أول الآية لفظ «غير»، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله، أو استثناء مما قبله، والصّفة مع الموصوف كالشَّيء الواحد، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد، وإيقاع الفَصْل [بينهما] على خلاف الدليل، أما إذا جعلنا قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ إلى آخر السورة آية واحدة [كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً، وآية واحدة]، وذلك أقرب إلى الدّليل.
فَصلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟
وللشافعي قولان:
قال ابن الخطيب: «والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة، أو هي مع ما بعدها آية».
وقال بعض الحنفية: إنّ الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل: إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور.
ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن، فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آله وسلم - قال في سورة «الملك» إنها ثلاثون آية، وفي سورة «الكوثر» إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أنَ هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب ألاّ تمون التسمية آية من هذه السّور.
والجَوَاب أنا إذا قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم كع ما بعدها آية واحدة، فالإشْكَال زائل. فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنها بعض آية من سائر السور؟
قلنا: هذا غير بعيدٍ، ألا ترى أن قوله تعالى: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠] آية واحدة، فكذا ها هنا.
247
وأيضاً فقوله: سورة «الكوثر» ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السُّور، فسقط هذا السُّؤال، والله أعلم.

فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها


يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال: ليست آية من الفاتحة ويجهر بها.
وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ليست آية من الفاتحة، ولا يجهر بها.
والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً، وإما أن يكون بعضها سرياً، وبعضها جهرياً، فهذا مفقودٌ في جميع السور، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية.
وقالت الشِّيعة: السُّنة هي الجَهْر بالتسمية، سواء كانت الصلاة [جهرية أو سرية].
والذين قالوا: إن السمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة، وفيه قولان:
الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان:
منهم من قال: كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً، فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ.
ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المُصْحف، ولا يجوز تركها أبداً.
والقول الثاني: أنها من لقرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست بآية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان:
منهم من قالك إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ.
ومنهم من قال: لا، أنزلها مرة واحدة، وأمَرَ بإثباتها في [أول] كل سورة.
والذي يدلّ على أن الله - تعاىل - أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية فاصلةً.
وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينا: إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن «
248
بسم الله الرحمن الرحيم» ليست من القرآن، فقال: سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول: سمعت ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - يقول: كان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا أنزل عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها.
وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال: من ترك «بسم الله الرحمن الرحيم» فقد ترك مائة وثلاث عشرة آيةً.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن.
واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا: إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عالماً فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل.
وإن قلنا: النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال: إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية.
والأغلب على الظن أن يقال: هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ، والله الهادي إلى الصواب، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب.
249
سورة البقرة مدنية
مائتان وستة وثمانون آية نزلت في مُدَد شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت ب " المدينة " إلا قوله تعالى: ﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله﴾ [البقرة: ٢٨١] فإنها آخر آية نزلت، ونزلت يوم النحر في حَجّة الوداع ب " منى "، وآيات الرِّبا أيضاً من أواخر ما نزل من القرآن. قال خالد بن معدان: ويقال لها: فُسطاط القرآن. وتعلمها عمر - رضي الله عنه - بفقهها، وما تحتوي عليه في اثني عشرة سنة، وابنه عبد الله في ثماني سنين. قال ابن العربي رضي الله عنه: " سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أَمْر، وألف نَهْي، وألف حُكْم، وألف خَبَر ". وهي مائتان وستة وثمانون آيةً، وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمةً، وخمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف. عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لكل شيء سَنَاماً وإنِّ سَنَام القرآن سورةُ البقرة، من قَرَأَهَا في بيته نَهَاراً لم يدخله شَيْطَانٌ ثلاثةَ أيامٍ، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخله شيطانٌ ثلاثَ ليالٍ ".
250
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثا ثم أتبعهم بسفر، فجاء إنسان منهم فقال: " ما معك من القرآن؟ " حتى اتى على أحدثهم سنا فقال له: " ما معك من القرآن؟ " قال: كذا وكذا، وسورة البقرة فقال: " اخرجوا وهذا عليكم أمير " فقالوا: يا رسول الله هو أحدثنا فقال: " معه سورة البقرة ".

بسم الله الرحمن الرحيم

251
Icon