أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يكاد يوجد في المسلمين من لا يحفظ سورة الفاتحة. فالمسلمون يقرأونها في صلواتهم، ويترحّمون بها على أمواتهم، ويتبركون بتلاوتها عند كل مناسبة. وإذا كان لأهل كل دين شعار فشعار أهل الإسلام بعد الشهادتين فاتحة الكتاب.وسورة الفاتحة مكية، على اختلاف في ذلك. وقد سُميت الفاتحة لأنها أول سورة في كتابة المصاحف وأول سورة نزلت بتمامها في القرآن، والسورة التي تُفتتح بها الصلاة، وهي تشتمل على جميع ما في القرآن من مقاصد.
ومقاصد القرآن هي : بيان التوحيد، وبيان الوعد والبشرى للمؤمن المحسن، والوعيد والإنذار للجاحد والمسيء، وبيان العبادة طريقِ السعادة في الدنيا والآخرة، وقصص الذين أطاعوا الله وفازوا، والذين عصوه فخابوا.
وتشتمل الفاتحة على هذه المقاصد، لذلك سميت أم الكتاب، وأم القرآن، كما سميت السبع المثاني، لأن المؤمن يكررها على مرور الأوقات وتثنّى.
ويبسُط المفسرون القول في تفسير الفاتحة ويفصّلونه تفصيلا، وقد أفرد كثير منهم تفسير الفاتحة بالتأليف قديما وحديثا، وذلك لما لها من الأهمية وعظم المنزلة عند المسلمين.
والاستعاذة ليست جزءا من الفاتحة، ولا من القرآن، وليست مدوّنة في المصحف الشريف، وإنما يفتتح بها المسلمون التلاوة اتباعا لقوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ ( النحل : ٤٥ ). والتعوذ مستحب لكل قراءة عند الجمهور، سواء في الصلاة أو في غيرها.
والشيطان في كلام العرب : كل عات ومتمرد من الإنس والجن والدواب وكل شيء. وقال " الراغب " في كتاب " المفردات في غريب القرآن " : وسمي كل خلق ذميم للإنسان شيطانا، فقال عليه السلام :( الحسد شيطان والغضب شيطان )، ويقول تعالى :﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم ﴾ البقرة : ١٤. أي أصحابهم المتمردين، و﴿ إن الشياطين لَيوحون إلى أوليائهم ﴾ الأنعام ١٢١.
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : أستجير بالله دون غيره من أن يضرني الشيطان في ديني أو يصدّني عن حق ربي.
الرجيم : المرجوم المطرود من الخيرات وعن منازل الملأ الأعلى. قال الفخر الرازي : " إن سرّ الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم إن أجلّ الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن... ازدادت رغبته في الطاعات وعن المحرمات، فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم أن يكون سعي الشيطان في الصدّ عنه أبلغ، واحتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة ".
والفاتحة سبع آيات بالاتفاق، إلا أن منهم من عد ﴿ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ آية واحدة، والبسملة آية. ومنهم من عد ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ آية، و﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ آية، ولم يعدَّ التسمية كذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
أجمع المسلمون على أن ما في المصحف الشريف كلام الله سبحانه وتعالى، واتفقوا على إثبات ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ في المصاحف. واختلفوا : فقال قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما هي آية من كل سورة، وقال قراء المدينة والبصرة والشام فقهاؤها : البسملات تيجانٌ لسور القرآن وليست البسملة بآية من كل سورة.وقال كثير من العلماء إنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة عدا سورة براءة، لثبوتها في المصحف الإمام، الذي كتب بيد الصحابة الكرام. وقد قال صلى الله عليه وسلم :( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر ) أي ناقص. وهذا الحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة.
ويقول الأستاذ الشيخ محمد عبده : افتتاح القرآن بهذه الكلمة إرشاد لنا أن نفتتح أعمالنا بها... فإنها مطلوبة لذاتها. والمعنى : إنني أعمل عملا متبرئا من أن يكون باسمي بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمد القوة منه وأرجو إحسانه عليه...
ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرّر من الأحكام والآيات هو لله، ومنه، وليس لأحد غير الله فيه شيء.
الرحمن الرحيم : صفتان لله تعالى تدلاّن على مبدأ الرحمة، والأولى خاصة به تعالى لا يوصف بها غيره، وتدل على من تصدر عنه آثار الرحمة، وهي إفاضة النعم والإحسان. أما لفظة الرحيم فتدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، ويجوز أن يوصف بها غير الله تعالى، ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم ﴾ التوبة : ١٢٨.
وبعضهم يرى فرقاً بينهما، فيقول : الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث :«من لم يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله ».
أما المدح فيكون قبل الإحسان وبعده. وهو منهيٌّ عنه، لحديث «احثُوا في وجوه المدّاحين التراب ».
والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة : السيد المطاع، والرجل المصْلح للشيء، والمالك للشيء.
فربُّنا جل ثناؤه : السيد المطاع في خلقه، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخَلْق والأمر.
﴿ العالمين ﴾ : جميع الكائنات في هذا الوجود.
فمعنى ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض، ومن فيهن وما بينهن، مما يُعلم وما لا يُعلم، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين.
أما الرحيم، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب إيصال النعمة والرحمة :﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ البقر : ١٤٣ ] ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] ﴿ وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ]. ولا نطيل أكثر من ذلك، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتهما وتكرارهما. فنأياً عن أن يُفهم من لفظة الرب صفة الجبروت والقهر أراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته وإحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال. فذكَر «الرحمن » أي المفيض للنعم بسعة وتجدُّد لا منتهى لهما، و«الرحيم » الثابتَ له وصف الرحمة، لا تزايله أبدا. بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة وإحسان، ليعلموا أن هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع إليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته.
هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى أن الدين الذي كتابه القرآن إنما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان.
وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم، فما أجدر المؤمن أن يتخلق بخُلق الله، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم. فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين، فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الأعظم سبحانه، فلْيمض فيها على سَنَن الرحمة والإحسان، لا الجبروت والطغيان. إن ذلك أوفى إلى أن يُصلح الله به، وأقربُ أن تناله رحمته.
﴿ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفطار : ١٩ ] لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممن خلق.
وللفظ «الدين » معان كثيرة، منها المكافأة والعقوبة، وهذا المعنى يناسب المقام.
وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه إحسان المحسن، وإساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله، تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكان ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل.
أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره، لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له. وترشدنا عبارة ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة :
أحدهما : أن نعمل الأعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل يود المرء أن يبذل فيه طاقته، فهو يطلب المعونة على إتمامه.
وثانيهما : قصْر الاستعانة بالله عليه وحده.
وليس في هذا ما ينافي التعاون بين الناس. ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى ﴾ [ المائدة : ٢ ]. فإن هذا التعاون في دائرة الحدود البشري لا يخرج عنها.
قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن، وسرُّها هذه الكلمة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويضٌ إلى الله عز وجل.
والصراط المستقيم : هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
والصراط المستقيم هنا هو جملة ما يوصِل الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة، من عقائد، وآداب، وأحكام، من جهتي العلم والعمل. وهو سبيل الإسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ، وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل إلى الرسول الكريم تبليغه وبيانه. فالشريعة الإسلامية في جميع أمورها من عقيدة، وأخلاق، وتشريع، وفي صلة الإنسان بالحياة، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقة المسلمين بالأمم، تأخذ الطريق الصائب، لا إفراط ولا تفريط، هذا هو الصراط المستقيم.
وهداية الله تعالى لا تحصى، نذكر منها :
أولاً : الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي إلى مصالحه، كالعقل، والفطنة، والمعارف الضرورية، كما قال عز وجل ﴿ الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ].
ثانياً : نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ]، وقوله :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ﴾ [ فصلت : ١٧ ].
ثالثاً : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ﴾ [ الأنبياء : ٧٣ ]، وقوله :﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾[ الإسراء : ٩ ].
رابعاً : الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي، بالوحي، والإلهام، والرؤيا الصادقة. وهذا القسم يختص بنيله الأولياء. والى ذلك أشار سبحانه وتعالى بقوله :﴿ أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ].
وقال ابن تيمية :«كل عبد مضطرٌّ دائما إلى مقصود هذا الدعاء، أي هداية الصراط المستقيم. فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا بها، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين ». وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله ﴿ مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ﴾ [ الكهف : ١٧ ].
اختلف المفسرون في بيان : الذين أنعم اللهُ عليهم، والمغضوبِ عليهم، والضالِّين وكتبوا وطوّلوا في ذلك. وأحسن ما قيل في ذلك أن الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق :
الفرقة الأولى : أهل الطاعة ﴿ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ [ البقرة : ٢-٦ ]، وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم.
الفرقة الثانية : الكافرون :﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٦-٧ ]، وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم.
الفرقة الثالثة : هم المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطني ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً ﴾ [ البقرة : ١٠ ] فهم ﴿ .. وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ البقرة : ١٤ ]. وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون.
وقد فصّل الله تعالى هذه الفرق الثلاثة في أول سورة البقرة كما سيأتي إن شاء الله.
القراءات :
قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل، والكسائي عن طريق رويس «السراط » بالسين في الموضعَين، وقرأ الباقون «الصراط » بالصاد، وهي لغة قريش.