تفسير سورة الفاتحة

تفسير الماوردي
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب النكت والعيون المعروف بـتفسير الماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

فصل الاستعاذة :


ثبت بالكتاب والسنة أن يستعيذ القارئ لقراءة القرآن، فيقول :" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". وهو نص الكتاب، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من نفخه ونفثه وهمزه ".
وفي الاستعاذة وجهان :( أحدهما ) أنها الاستجارة بذي منعة. ( والثاني ) أنها الاستعانة عن خضوع.
وفي موضعها وجهان :( أحدهما ) أنها خبر يخبر به المرء عن نفسه بأنه مستعيذ بالله. ( والثاني ) أنها في معنى الدعاء وإن كانت بلفظ الخبر، كأنه يقول : أعذني يا سميع يا عليم من الشيطان الرجيم، يعني أنه سميع الدعاء عليم بالإجابة.
وفي قوله :" من الشيطان " وجهان :( أحدهما ) من وسوسته. ( والثاني ) من أعوانه.
وفي " الرجيم " وجهان :( أحدهما ) يعني الراجم، لأنه يرجم بالدواهي والبلايا. ( والثاني ) أنه بمعنى المرجوم، وفيه وجهان :( أحدهما ) أنه مرجوم بالنجوم. ( والثاني ) أنه المرجوم بمعنى المشئوم. وفيه وجه ( ثالث ) أن المرجوم الملعون، والملعون المطرود.
وقوله :" من نفخه ونفثه وهمزه "، يعني بالنفخ : الكبر، وبالنفث : السحر، وبالهمز الجنون. والله أعلم.
سورة فاتحة الكتاب
قال قتادة : هي مكية ؛ وقال مجاهد : هي مدنية. ولها ثلاثة أسماء : فاتحة الكتاب وأم القرآن، والسبع المثاني.
روى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني١.
فأما تسميتها بفاتحة الكتاب فلأنه يستفتح الكتاب بإثباتها خطا وبتلاوتها لفظا.
وأما تسميتها بأم القرآن فلتقدمها وتأخر ما سواها تبعا لها، صارت أما لأنها أمّته أي تقدمته، وكذلك قيل لراية الحرب ( أم ) لتقدمها واتباع الجيش لها،
قال الشاعر :
على رأسه أم لها يقتدى بها جماع أمور لا يعاصى لها أمر
وقيل لما مضى على الإنسان من سني عمره ( أم ) لتقدمها، قال الشاعر :
إذا كانت الخمسون أمّك لم يكن لرأيك إلا أن يموت طبيب
واختلف في تسميتها بأم الكتاب فجوزه الأكثرون، لأن الكتاب هو القرآن، ومنع منه الحسن وابن سيرين، وزعما أن أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ فلا يسمى به غيره، لقوله تعالى :﴿ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ﴾٢.
وأما تسميته مكة بأم القرى ففيه قولان :( أحدهما )- أنها سميت أم القرى لتقدمها على سائر القرى. ( والثاني ) أنها سميت بذلك لأن الأرض منها دحيت، وعنها حدثت، فصارت أما لها لحدوثها عنها كحدوث الولد عن أمه.
وأما تسميتها بالسبع المثاني فلأنها سبع آيات في قول الجميع. وأما المثاني فلأنها تثنى في كل صلاة من فرض وتطوع. وليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسميته غيرها به. قال أعشى همذان :
فلِجُوا المسجد وادعوا ربكم وادرسوا هذي المثاني والطول
١ - ذكر العلماء لفاتحة الكتاب اثنى عشر اسما هي: فاتحة الكتاب وأم القرآن وأم الكتاب وسورة الصلاة وسورة الحمد والسبع المثاني والقرآن العظيم والشفاء والرقية والأساس والوافية والكافية، والحديث عند أبي داود رقم ١٤٥٧ والترمذي رقم ٣٣٢٠..
٢ - آية ٤ الزخرف..
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) قوله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ أجمعوا أنها من القرآن في سورة النمل، وإنما اختلفوا في إثباتها في فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة، فأثبتها الشافعي في طائفة، ونفاها أبو حنيفة في آخرين. واختُلِفَ في قوله: ﴿بِسْمِ﴾: فذهب أبو عبيدة وطائفة إلى أنها صلة زائدة، وإنما هو اللهُ الرحمنُ الرحيمُ، واستشهدوا بقول لبيد:
(إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُما وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرْ)
فذكر اسم السلام زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما. واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين: أحدهما: لإجلال ذكره وتعظيمه، ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين، وهذا قول قطرب. والثاني: ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرُّك، وهذا قول الأخفش. وذهب الجمهور إلى أن (بسم) أصل مقصود، واختلفوا في معنى دخول الباء عليه، فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر على قولين:
47
أحدهما: دخلت على معنى الأمر وتقديره: ابدؤوا بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قول الفراء. والثاني: على معنى الإخبار وتقديره: بدأت بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قولُ الزجَّاج. وحُذِفت ألف الوصل، بالإلصاق في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال كما حُذفت من الرحمن، ولم تحذف من الخط في قوله: ﴿إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ﴾ [العلق: آية ١] لقلَّة استعماله. الاسم: كلمة تدل على المسمى دلالة إشارةٍ، والصفة كلمة تدل على الموصُوف دلالة إفادة، فإن جعلت الصفة اسماً، دلَّت على الأمرين: على الإشارة والإفادة. وزعم قوم أن الاسم ذاتُ المسمى، واللفظ هو التسمية دون الاسم، وهذا فاسد، لأنه لو كان أسماءُ الذواتِ هي الذواتُ، لكان أسماءُ الأفعال هي الأفعال، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات. واختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من السمة، وهي العلامة، لما في الاسم من تمييز المسمى، وهذا قول الفرَّاء. والثاني: أنه مشتق من السمو، وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى
48
فيرفعه من غيره، وهذا قول الخليل والزجَّاج. وأنشد قول عمرو بن معدي كرب:
(إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ)
(وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ)
وتكلف من رَاعَى معاني الحروف ببسم الله تأويلاً، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية، حتى صار مقصوداً عند ذكر الله في كل تسمية، ولهم فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الباء بهاؤه وبركته، وبره وبصيرته، والسين سناؤه وسموُّه وسيادته، والميم مجده ومملكته ومَنُّه، وهذا قول الكلبي.
49
والثاني: أن الباء بريء من الأولاد، والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات، وهذا قول سليمان بن يسار. والثالث: أن الباء بارئ الخلق، والسين ساتر العيوب، والميم المنان، وهذا قول أبي روق. ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمَّن يُقْتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره، لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه، لكن قاله متبوع فذكرتُهُ مَعَ بُعْدِهِ حاكياً، لا محققاً ليكون الكتاب جامعاً لما قيل. ويقال لمن قال (بسم الله) بَسْمَلَ على لُغَةٍ مُوَلَّدَةٍ، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة:
(لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا فَيَا حَبَّذا ذَاكَ الْحَبِيبُ المُبَسْمِلُ)
فأما قوله: (الله)، فهو أخص أسمائه به، لأنه لم يتسَمَّ باسمه الذي هو (الله) غيره. والتأويل الثاني: أن معناه هل تعلم له شبيهاً، وهذا أعمُّ التأويلين، لأنه يتناول الاسم والفعل. وحُكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى، لأن غيره لا يشاركه فيه. واختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم عَلَمٍ للذات أو اسم مُشْتَقٌّ من صفةٍ، على قولين: أحدهما: أنه اسم علم لذاته، غير مشتق من صفاته، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات، فلم يكن بُدٌّ من أن يختص باسم ذاتٍ، يكون علماً لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعاً. والقول الثاني: أنه مشتق من أَلَهَ، صار باشتقاقه عند حذف همزِهِ، وتفخيم لفظه الله. واختلفوا فيما اشْتُقَ منه إله على قولين: أحدهما: أنه مشتق من الَولَه، لأن العباد يألهون إليه، أي يفزعون إليه في
50
أمورهم، فقيل للمألوه إليه إله، كما قيل للمؤتمِّ به إمام. والقول الثاني: أنه مشتق من الألوهية، وهي العبادة، من قولهم فلان يتألَّه، أي يتعبد، قال رؤبةُ بن العجاج:
(لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ المُدَّهِ لَمَّا رَأَيْنَ خَلِقَ الْمُمَوَّهِ)
٨٩ (سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألهِي} ٩
أي من تعبد، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ: ﴿وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ﴾ أي وعبادتك. ثم اختلفوا، هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة، أو من استحقاقها، على قولين: أحدهما: أنه مشتق من فعل العبادة، فعلى هذا، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه، ومن قال بهذا، منع من أن يكون الله تعالى إلهاً لم يزل، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود. والقول الثاني: أنه مشتق من استحقاق العبادة، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته، لأنه لم يزل مستحقّاً للعبادة، فلم يزل إلهاً، وهذا أصح القولين، لأنه لو كان مشتقّاً من فعل العبادة لا من استحقاقها، للزم تسمية عيسى عليه السلام إلهاً، لعبادة النصارى له، وتسمية الأصنام آلهة، لعبادة أهلها لها، وفي بطلان هذا دليل، على اشتقاقه من استحقاق العبادة، لا من فعلها، فصار قولنا (إله) على هذا القول صفة من صفات الذات، وعلى القول الأول من صفات الفعل.
51
وأما (الرحمن الرحيم)، فهما اسمان من أسماء الله تعالى، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته. وأما الرحمن ففيه قولان: أحدهما: أنه اسم عبراني معرب، وليس بعربي، كالفسطاط رومي معرب، والإستبرق فارسي معرب، لأن قريشاً وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم، لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: ﴿... وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً﴾ [الفرقان: ٦٠]، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير:
(أو تتركون إلى القسّين هجرتكم ومسحكم صلبهم رحمن قربانا)
قال: ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم، ليزول الالتباس، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته، لكن قدَّم الرحمن لمبالغته. والقول الثاني: أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما، وقد ظهر ذلك في كلام العرب، وجاءت به أشعارهم، قال الشنفري:
(أَلاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا أَلاَ ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا)
فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة، والرحمة هي النعمة على المحتاج، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، يعني نعمةً عليهم، وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة. والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه، والرحيم
52
لا يتعدى لفظه، وإنما يتعدى معناه، ولذلك سمي قوم بالرحيم، ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن، وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللهَ تعالى به وعليه بيت الشنفرى، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن، واقتطعه من أسماء الله تعالى، قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم، لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره، فيكون الفرق في المبالغة، وفرَّق أبو عبيدة بينهما، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم. واختلفوا في اشتقاق الرحمن والرحيم على قولين: أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم. والقول الثاني: أنهما مشتقان من رحمتين، والرحمة التي اشتق منها الرحمن، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم، ليصح امتياز الاسمين، وتغاير الصفتين، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه، والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته. والقول الثاني: أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة، والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة. والقول الثالث: أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها.
53
﴿الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم﴾ قوله عز وجل: ﴿الحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. أما ﴿الحمد لله﴾ فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله، والشكرُ الثناء عليه بإنعامه، فكلُّ شكرٍ حمدٌ، وليسَ كلُّ حمدٍ شكراً، فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر، ولذلك جاز أن يَحْمِدَ الله تعالى نفسه، ولم يَجُزْ أن يشكرها. فأما الفرق بين الحمد والمدح، فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ
53
حسن، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل، فكلُّ حمدٍ مدحٌ وليْسَ كل مدحٍ حمداً، ولهذا جاز أن يمدح الله تعالى على صفته، بأنه عالم قادر، ولم يجز أن يحمد به، لأن العلم والقدرة من صفات ذاته، لا من صفات أفعاله، ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته، بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته. وأما قوله: ﴿رب﴾ فقد اختُلف في اشتقاقه على أربعة أقاويل: أحدها: أنه مشتق من المالك، كما يقال رب الدار أي مالكها. والثاني: أنه مشتق من السيد، لأن السيد يسمى ربّاً قال تعالى: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً﴾ [يوسف: ٤١] يعني سيده. والقول الثالث: أن الرب المدَبِّر، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ﴾ وهم العلماء، سموا ربَّانيِّين، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم، وقيل: ربَّهُ البيت، لأنها تدبره. والقول الرابع: الرب مشتق من التربية، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَبَآئِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] فسمي ولد الزوجة ربيبة، لتربية الزوج لها. فعلى هذا، أن صفة الله تعالى بأنه رب، لأنه مالك أو سيد، فذلك صفة من صفات ذاته، وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه، ومُربِّيهم، فذلك صفة من صفات فعله، ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام. اختص الله تعالى به، دون عباده، وإن حذفتا منه، صار مشتركاً بين الله وبين عباده. وأما قوله: ﴿العالمين﴾ فهو جمع عَالم، لا واحد له من لفظه، مثل: رهط وقوم، وأهلُ كلِّ زمانٍ عَالَمٌ قال العجاج:
(........................ فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ)
واختُلِف في العالم، على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّه ما يعقِل: من الملائكة، والإنس، والجنِّ، وهذا قول ابن عباس.
54
والثاني: أن العالم الدنيا وما فيها. والثالث: أن العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا قول أبي إسحاق الزجَّاج. واختلفوا في اشتقاقه على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من العلم، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لما يعقل. والثاني: أنه مشتق من العلامة، لأنه دلالة على خالقه، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لكُلِّ مخلوقٍ.
55
﴿مالك يوم الدين﴾ قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قرأ عاصم والكسائي ﴿مالِكِ﴾ وقرأ الباقون ﴿مَلِك﴾ وفيما اشتقا جميعاً منه وجهان: أحدهما: أن اشتقاقهما من الشدة، من قولهم ملكت العجين، إذا عجنته بشدة.
55
والثاني: أن اشتقاقهما من القدرة، قال الشاعر:
(مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا)
والفرق بين المالك والملك من وجهين: أحدهما: أن المالك مَنْ كان خاصَّ المُلكِ، والملِك مَنْ كان عَامَّ المُلْك. والثاني: أن المالك من اختص بملك الملوك، والملك من اختص بنفوذ الأمر. واختلفوا أيهما أبلغ في المدح، على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المَلِك أبلغ في المدح من المالك، لأنَّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ، وليسَ كلُّ مالِكٍ ملِكاً، ولأن أمر الملِكِ نافذ على المالِكِ. والثاني: أن مالك أبلغ في المدح من مَلِك، لأنه قد يكون ملكاً على من لا يملك، كما يقال ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم، ولا يكون مالكاً إلا على من يملك، ولأن المَلِك يكون على الناس وغيرهم. والثالث: وهو قول أبي حاتم، أن مَالِك أبلغ في مدح الخالق من مَلِك، ومَلِك أبلغ من مدح المخلوق من مالك. والفرق بينهما، أن المالك من المخلوقين، قد يكون غير ملك، وإن كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً، فإن وُصف الله تعالى بأنه ملك، كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك، كان من صفات أفعاله. وأما قوله تعالى: ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ ففيه تأويلان: أحدهما: أنه الجزاء. والثاني: أنه الحساب. وفي أصل الدين في اللغة قولان:
56
أحدهما: العادة، ومنه قول المثقَّب العَبْدِي:
(تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي أَهذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي)
أي عادته وعادتي. والثاني: أنَّ أصل الدين الطاعة، ومنه قول زهير بن أبي سُلمى:
(لَئِن حَلَلْتَ بِجَوٍّ في بَنِي أَسَدٍ في دِينِ عَمْرٍو وَمَالتْ بَيْنَنَا فَدَكُ)
أي في طاعة عمرو. وفي هذا اليوم قولان: أحدهما: أنه يوم، ابتداؤه طلوع الفجر، وانتهاؤه غروب الشمس. والثاني: أنه ضياء، يستديم إلى أن يحاسب الله تعالى جميع خلقه، فيستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وفي اختصاصه بملك يوم الدين تأويلان: أحدهما: أنه يوم ليس فيه ملك سواه، فكان أعظم من مُلك الدنيا التي تملكها الملوك، وهذا قوله الأصم. والثاني: أنه لما قال: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، يريد به ملك الدنيا، قال بعده: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يريد به ملك الآخرة، ليجمع بين ملك الدنيا والآخرة.
57
﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ قوله عز وجل: ﴿إِيَاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قوله: ﴿إِيَّاكَ﴾ هو كناية عن اسم الله تعالى، وفيه قولان: أحدهما: أن اسم الله تعالى مضاف إلى الكاف، وهذا قول الخليل. والثاني: أنها كلمة واحدة كُنِّيَ بها عن اسم الله تعالى، وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف، وهذا قول الأخفش. وقوله: ﴿نَعْبُدُ﴾ فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن العبادة الخضوع، ولا يستحقها إلا الله تعالى، لأنها أعلى
57
مراتب الخضوع، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر. والثاني: أن العبادة الطاعة. والثالث: أنها التقرب بالطاعة. والأول أظهرها، لأن النصارى عبدت عيسى عليه السلام، ولم تطعه بالعبادة، والنبي ﷺ مطاع، وليس بمعبودٍ بالطاعة.
58
﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ قوله عز وجل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم﴾ إلى آخرها. أما قوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ ففيه تأويلان: أحدهما: معناه أرْشُدْنا ودُلَّنَا. والثاني: معناه وفقنا، وهذا قول ابن عباس. وأما الصراط ففيه تأويلان: أحدهما: أنه السبيل المستقيم، ومنه قول جرير:
(أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِراطٍ إذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيم)
والثاني: أنه الطريق الواضح ومنه قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون﴾ [الأعراف: ٨٦] وقال الشاعر:
(...................... فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ)
وهو مشتق من مُسْتَرَطِ الطعام، وهو ممره في الحلق. وفي الدعاء بهذه الهداية، ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم دعوا باستدامة الهداية، وإن كانوا قد هُدُوا. والثاني: معناه زدنا هدايةً
58
والثالث: أنهم دعوا بها إخلاصاً للرغبة، ورجاءً لثواب الدعاء. واختلفوا في المراد بالصراط المستقيم، على أربعة أقاويل: أحدها: أنه كتاب الله تعالى، وهو قول علي وعبد الله، ويُرْوَى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه الإسلام، وهو قول جابر بن عبد الله، ومحمد بن الحنفية. والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله تعالى، الذي لا عوج فيه، وهو قول ابن عباس. والرابع: هو رسول الله ﷺ وأخيار أهل بيته وأصحابه، وهو قول الحسن البصري وأبي العالية الرياحي. وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ﴾ خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة. والثاني: أنهم الأنبياء.
59
والثالث: أنهم المؤمنون بالكتب السالفة. والرابع: أنهم المسلمون وهو قول وكيع. والخامس: هم النبي ﷺ، ومَنْ معه مِنْ أصحابه، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير: (صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وأما قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ فقد روى عن عديِّ بن حاتم قال: سألتُ رسول الله ﷺ، عن المغضوب عليهم، فقال: (هُمُ اليَهُود) وعن الضالين فقال: (هُمُ النَّصارى).
60
وهو قول جميع المفسرين. وفي غضب الله عليهم، أربعة أقاويل: أحدها: الغضب المعروف من العباد. والثاني: أنه إرادة الانتقام، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة، وهذه الصفة لا تجوز على الله تعالى. والثالث: أن غضبه عليهم هو ذَمُّهُ لهم. والرابع: أنه نوع من العقوبة سُمِّيَ غضباً، كما سُمِّيَتْ نِعَمُهُ رَحْمَةً. والضلال ضد الهدى، وخصّ الله تعالى اليهود بالغضب، لأنهم أشد عداوة. وقرأ عمر بن الخطاب (غَيْرِ الْمغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّآلِّين).
61
سورة البقرة
63
وفي قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ ﴾ خمسة أقاويل : أحدها : أنهم الملائكة.
والثاني : أنهم الأنبياء.
والثالث : أنهم المؤمنون بالكتب السالفة.
والرابع : أنهم المسلمون وهو قول وكيع.
والخامس : هم النبي صلى الله عليه وسلم، ومَنْ معه مِنْ أصحابه، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير :( صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )
وأما قوله :﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ فقد روى عن عديِّ بن حاتم قال : سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن المغضوب عليهم، فقال :" هُمُ اليَهُود " وعن الضالين فقال :" هُمُ النَّصارى١ ".
وهو قول جميع المفسرين.
وفي غضب الله عليهم، أربعة أقاويل :
أحدها : الغضب المعروف من العباد.
والثاني : أنه إرادة الانتقام، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة، وهذه الصفة لا تجوز على الله تعالى.
والثالث : أن غضبه عليهم هو ذَمُّهُ لهم.
والرابع : أنه نوع من العقوبة سُمِّيَ غضباً، كما سُمِّيَتْ نِعَمُهُ رَحْمَةً.
والضلال ضد الهدى، وخصّ الله تعالى اليهود بالغضب، لأنهم أشد عداوة.
وقرأ عمر بن الخطاب ( غَيْرِ الْمغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّآلِّين ).
١ - الترمذي رقم ٢٩٥٧ ومسند أحمد ٤/ ٣٧٨..
Icon