هذه مدنية، نزلت منصرفه صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، وعاش بعد نزولها سنتين. وقال ابن عمر : نزلت في أوسط أيام التشريق بمنى في حجة الوداع، وعاش بعدها ثمانين يوماً أو نحوها صلى الله عليه وسلم. ولما كان في قوله :﴿ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾
موادعة، جاء في هذه بما يدل على تخويفهم وتهديدهم، وأنه آن مجيء نصر الله، وفتح مكة، واضمحلال ملة الأصنام، وإظهار دين الله تعالى.
ﰡ
[سورة النصر (١١٠) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.
هَذِهِ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ مُنْصَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَعَاشَ بَعْدَ نُزُولِهَا سَنَتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمِنًى فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَاشَ بَعْدَهَا ثَمَانِينَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ «١» مُوَادَعَةٌ، جَاءَ فِي هَذِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَخْوِيفِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، وَأَنَّهُ آنَ مَجِيءُ نَصْرِ اللَّهِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَاضْمِحْلَالُ مِلَّةِ الْأَصْنَامِ، وَإِظْهَارُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذا مَنْصُوبٌ بِسَبِّحْ، وَهُوَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَالْإِعْلَامُ بِذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ الْحَوْفِيُّ، وَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُ فَسَبِّحْ فِي إِذا لِأَجْلِ الْفَاءِ، لِأَنَّ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لَا يَتَسَلَّطُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ، بَلِ الْعَامِلَ فِي إِذَا الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُورِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ غَيْرَهُ. وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ وَالْإِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْفَتْحُ: فَتْحُ الْبِلَادِ. وَمُتَعَلِّقُ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ محذوف، فالظاهر أنه
وَقِيلَ: نَصْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَكَانَ فَتْحُهَا لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، سَنَةَ ثَمَانٍ، وَمَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدْخُلُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
فِي دِينِ اللَّهِ: فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ يُضَافُ غَيْرُهَا. أَفْواجاً أَيْ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً، كَانَتْ تَدْخُلُ فِيهِ القبيلة بأسرها بعد ما كَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ.
قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا فَتَحَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكَّةَ، أَقْبَلَتِ الْعَرَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَمَّا الظَّفَرُ بِأَهْلِ الْحَرَمِ فَلَيْسَ بِهِ يَدَانِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَارَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْعَرَبِ رَجُلٌ كَافِرٌ، بَلْ دَخَلَ الْكُلُّ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ حُنَيْنٍ. مِنْهُمْ مَنْ قَدِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدِمَ وَافِدُهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْعَرَبُ عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ. وَأَمَّا نَصَارَى بَنِي ثَعْلَبٍ فَمَا أَرَاهُمْ أَسْلَمُوا قَطُّ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، لَكِنْ أَعْطَوُا الْجِزْيَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَفَدَ مِنْهُمْ سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وُفُودُ الْعَرَبِ، وَكَانَ دُخُولُهُمْ بَيْنَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأَفْواجاً: جَمْعُ فَوْجٍ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَقِيَاسُ جَمْعِهِ أَفْوُجٌ، وَلَكِنِ اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَعُدِلَ إِلَى أَفْوَاجٍ، كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ كَالصَّحِيحِ. فَكَمَا أَنَّ قِيَاسَ فَعْلٍ صَحِيحُهَا أَنْ يُجْمَعَ عَلَى أَفْعُلٍ لَا عَلَى أَفْعَالٍ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَالْأَمْرُ فِي هَذَا الْمُعْتَلِّ بِالْعَكْسِ. الْقِيَاسُ فِيهِ أَفْعَالٌ، كَحَوْضٍ وَأَحْوَاضٍ، وَشَذَّ فِيهِ أَفْعُلٌ، كَثَوْبٍ وَأَثْوُبٍ، وَهُوَ حَالٌ. وَيَدْخُلُونَ حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ كَانَ أَرَأَيْتَ «١» بِمَعْنَى عَلِمْتَ الْمُتَعَدِّيَةِ لِاثْنَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِمَّا عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنْ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتَ أَوْ عَرَفْتَ، انْتَهَى. وَلَا نَعْلَمُ رَأَيْتَ جَاءَتْ بِمَعْنَى عَرَفْتَ، فَنَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى اسْتِثْبَاتٍ.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ: أَيْ مُلْتَبِسًا بِحَمْدِهِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَوَّلَكَهَا، مِنْ نَصْرِكَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَفَتْحِكَ الْبِلَادَ وَإِسْلَامِ النَّاسِ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ، إِذْ كُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا الْمُسْلِمُونَ فَهِيَ فِي مِيزَانِهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يَقُولَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ التَّسْبِيحِ تَكْمِيلٌ لِلْأَمْرِ بِمَا هُوَ قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَاسِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ لُطْفًا لِأُمَّتِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
، انْتَهَى.
وَقَدْ عَلِمَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ دُنُوَّ أَجَلِهِ، وَحِينَ قَرَأَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَبْشَرَ الصَّحَابَةُ وَبَكَى الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: «وَمَا يُبْكِيكَ يَا عَمُّ؟» قَالَ: نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَكَمَا تَقُولُ»، فَعَاشَ بَعْدَهَا سَنَتَيْنِ.
إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً: فِيهِ تَرْجِئَةٌ عَظِيمَةٌ للمستغفرين.