ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز إذا تجلّى لقلب عبد بوصف جماله تجمعت أفكاره على بساط جوده فلم يتفرّق بسواه «١».
ومن تجلّى لسرّه بنعت جلاله اندرجت جملته، واستهلك في وجوده فلم يشعر بكرائم دنياه ولا بعظائم عقباه..
وكم له من إنعام! وكم له من إحسان! وكما في أمثالهم: «جرى الوادي فطمّ على القريّ» «٢» قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)تسبح في بحار توحيد الحقّ أسرار أهل التحقيق، وبحرهم بلا شاطىء فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح، فحازت أيديهم جواهر التفريد فرصّعوها في تاج العرفان كى يلبسوه يوم اللّقاء.
«الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».
«الْمَلِكِ» : الملك المتفرّد باستحقاق الجبروت.
«الْقُدُّوسِ» : المنزّه عن الدرك والوصول: فليس بيد الخلق إلّا عرفان الحقائق بنعت التعالي، والتأمل في شهود أفعاله، فأمّا الوقوف على حقيقة إنّيته- فقد جلّت الصمدية عن
(٢) القرى- مجرى الماء في الروضة والجمع: أقرية وأقراء وقريان، ويضرب المثل عند تجاوز الشيء حدّه.
وقلن لنا: نحن الأهلّة إنما... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى «٢»
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢)
جرّده عن كلّ تكلّف لتعلّم، وعن الاتصاف بتطلّب «٣».. ثم بعثه فيهم وأظهر عليه من الأوصاف ما فاق الجميع.
فكما أيتمه في الابتداء عن أبيه وأمّه، ثم آواه بلطفه- وكان ذلك أبلغ وأتمّ- فإنه كذلك أفرده عن تكلّفه العلم- ولكن قال: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
«٤».
وقال: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً» «٥» ألبسه لباس العزّة، وتوّجه بتاج الكرامة، وخلع عليه حسن التولّى... لتكون آثار البشرية عنه مندرجة «٦»، وأنوار الحقائق عليه لائحة.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٣]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
(٢) أي ولا نستضيف... والمقصود أن السالكين طريق الله دائما على الدرب سائرون وأن الحق سبحانه لا وقوف على كنهه.
(٣) حتى ينتفى عنه سوء الظن في تعلّمه شيئا من الكتب السابقة، وأن ما يدعو إليه ثمرة قراءته. [.....]
(٤) آية ١١٣ سورة النساء.
(٥) آية ٥٢ سورة الشورى.
(٦) هى هكذا في ص وفي م مشتبهة، والمقصود لتنطوى عنه آثار البشرية- لا البشرية نفسها- وتلوح عليه أنوار الحقائق.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٤]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)
يقصد به هنا النبوة، ويؤتيها «مَنْ يَشاءُ» وفي ذلك ردّ على من قال: إنها تستحقّ لكثرة طاعة الرسول- وردّ على من قال: إنها لتخصيصهم بطينتهم فالفضل ما لا يكون مستحقّا، والاستحقاق فرض «١» لا فضل.
ويقال: «فَضْلُ اللَّهِ» هنا هو التوفيق حتى يؤمنوا به.
ويقال: هو الأنس بالله، والعبد ينسى كلّ شىء إذا وجد الأنس.
ويقال: قطع الأسباب، - بالجملة- فى استحقاق الفضل، إذ أحاله على المشيئة.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٥]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)
«ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» : ثم لم يعملوا بها.
ويلحق بهؤلاء «٢» فى الوعيد- من حيث الإشارة- الموسومون «٣» بالتقليد في أي
(٢) أي باليهود الذين لا فائدة لهم فيما يحملون من الكتب، فهى تبشر بمحمد، وهم يجحدون به.
(٣) هكذا في ص وهي في م (المؤمنون).
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٦ الى ٧]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)
«٢» هذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم، فصرف قلوبهم عن تمنّى الموت إلى هذه المدة دلّ على صدقه صلوات الله عليه «٣».
ويقال: من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب فإذا كان لا يصل إلى لقائه إلا بالموت فتمنّيه- لا محالة- شرط، فأخبر أنهم لا يتنمونه أبدا.. وكان كما أخبر.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٨]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
الموت حتم مقضيّ. وفي الخبر: «من كره لقاء الله كره الله لقاءه». والموت جسر والمقصد عند الله.. ومن لم يعش عفيفا فليمت ظريفا «٤».
(٢) أخطأ الناسخ في م وجعلها (آمنوا).
(٣) والآية تؤكّد هذا مرتين باستعمال أسلوب إنشائى (فتمنوا) وأسلوب خبرى (ولا يتمنونه أبدا).
(٤) سئل الجنيد عن الظرف فقال: «اجتناب كل خلق دنى واستعمال كل خلق سنى وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت» (اللمع للسراج ص ٩٦٢).
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)
أوجب السّعى يوم الجمعة إذا نودى لها، وأمر بترك البيع «١».
ومنهم من يحمله على الظاهر أي ترك المعاملة مع الخلق «٢»، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنى آخر: هو ترك الاشتغال بملاحظة الأعراض «٣»، والتناسى عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر فمنهم من يسعى إلى ذكر الله، ومنهم من يسعى إلى الله، بل يسعون إلى ذكر الله جهرا بجهر، ويسعون إلى الله تعالى سرّا بسرّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ١٠]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)
إنما ينصرف من كان له جمع يرجع إليه، أو شغل يقصده ويشتغل به- ولكن...
من لا شغل له ولا مأوى.. فإلى أين يرجع؟ وإنما يقال: «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» إذا كان له أرب.. فأمّا من سكن عن المطالبات، وكفى داء الطّلب.. فما له وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رقّه؟! قوله جل ذكره:
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ١١]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
(٢) هكذا في ص وهي في م (الحق) وهي خطأ في النسخ.
(٣) جمع (عرض) الحياة الدنيا.
(٢) هكذا في ص وهي في م (ممن) والصواب (مما).
(٣) البواده ما يفجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة، وهي إما موجبات فرح أو موجبات ترح، وسادات الوقت لا تغيّرهم البواده، لأنهم فوق ما يفجؤهم حالا وقوة (الرسالة- ص ٤٤).
(٤) موجودة في ص وغير موجودة في م وهي ضرورية للسياق، والمستأنف: هو المريد المبتدئ الذي مازال يفكّر في الثواب الآجل والثواب العاجل.