تفسير سورة الفاتحة

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم .
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ
﴿ بِسمِ ﴾ الباء للاستعانة أو المصاحبة، ففحواه متبركاً أو مستعيناً، باسم الله أقرأ أو أبتدى، والأول من التقديرين أولى، إذ في التبرك تعظيم ليس في جعله آلة غير مقصودة بالذات وفي﴿ ٱقْرَأْ ﴾[العلق: ١]، رعاية لمقتضى المقام وعموم للجميع ولا يختص بالابتداء وتأخير التقدير للاختصاص وتقديم الباء والاسم لا يقدح في الابتداء باسم الله، إذ المراد ما صدق عليه اسم الله، والباء آلة وبهذا أن تَرْجِيْحُ ﴿ بِسمِ ٱللهِ ﴾ على " بالله " مع قطع النظر عن الفرق بين اليمين والتيمن، وأن التَيَمُّن باسمه -تعالى- لا بذاته، ثم التبرك بالألفاظ إجراؤها على اللسان واحضار معانيها بالبال وبالمعاني وبالعكس. ﴿ ٱللهِ ﴾ أي: الذات المستجمع لجميع صفات الكمال، عربيٌّ مرتجل جامد، وعند الزمخشري أنه اسم جنس صار عَلَماً من أَلهَ بمعنى: تَحَيَّر أو غيره. ﴿ ٱلرَّحْمٰنِ ﴾: المتفضل بإرادة الخير لكل الخلق. ﴿ ٱلرَّحِيـمِ ﴾: مُرِيْدُهُ للمؤمنين، وأصل الرحمة: رِقة قَلْبٍ تقتضي التَّفّضُّل، و إطلاقها على الله -تعالى- باعتبار الغاية كنظائرها من الصفات و " الرحمن " لزيادة بنائه أبلغ من الرحيم وإِما كَمَّاً بشُمُوْل الرحمة للدارين، أو بكثرة المرحومين، وإما كيفا، بجلالتها ورقتها و إرادته -تعالى- الخير لذَاتهِ والشر لخير في ضمنه، وقَدَّمَ " الرحمن " والقياس الترقي لزيادة شبه بالله اختصاصاً. *مسألة: التسمية آيةٌ من الفاتحة عند أكثر العلماء، خلافاً لأبي حنيفة ومالك كما ثبت في الحديث، ويكتفي بالأحادِي في وجوب العملي ورواية الصحيحين عن أنس -أنه- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القرآن بالحمد لله رب العالمين لا تنهض حجة على الشافعي، إذ معناه الابتداء بهذه السورة وهذه الكلمات اسمها، وروي عن أنس ثلاث روايات أُخر تعارضها. وروى البيهقي الجهر بها عنه -صلى الله عليه وسلم- وعن عمر وأبن عمر وابن عباس وابن الزبير، وتواتر ذلك عن علي -رضي الله عنه- طول عمره، وأيضاً رواية الجهر ثبوتية فيُقَدَّم رواية. ﴿ ٱلْحَمْدُ ﴾: أي: كل أفراده أو ماهيته وحقيقته وهو لغة: الوصف على الجميل الاختياري هو أو أثره تعظيماً. وعرفاً: فعل يُنْبئُ عن تعظيم المنعم، لإنعامه، [وأما الحمد العرفي والشكر العرفي صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما أعطاه لأجله كما فَصَّلَهُ الشارع] واصطلاحاً: اظهار الصفات الكمالية قولاً أو فعلاً أو حالاً، [منه: حمده -تعالى- ذاته بإيجاد كل موجود].
﴿ للَّهِ ﴾ أي مختصٌ به، أَمَّا عَلَى الأول فلأنه لا اختيار لغيره -تعالى- وأَمَّا على الأخيرين فلاستناد كل الممكنات إليه -تعالى- ابتداء، إذ المذامّ لا ترجع إليه، إذ لا ذمّ في الإفاضة بل في الاتصاف بالمذموم، على أنه إنما خلقه لخير في ضمنه كَمَا مَرّ. ﴿ رَبِّ ﴾ [أصله بمعنى التربية] وهو لغة: تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً أطلق عليه -تعالى- للمبالغة.﴿ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ جمع عالم، وَهُوَ كُلُّ ما يعلم به، وهو كل ما سواه، وأَفَادَ بجَمْعِه شُمُوْله لكل جنس تحتَهُ، وباللام استغراقه لكُلِّ جنس، وأفراده، أو المراد الإنسان لأنه عالم أصغر بل أعظَمُ فإنه مختصر الحَضْرة الإلهية وجوداً وحياةً وعلماً وقدرةً و إرادةً وسمعاً وبصراً وكلاماً، ومُخْتصر العالم فإنه في الطبائع كالعناصر وبالتركيب كالمعادن وبالغذاء والتوليد كالنبات وبالحس والتوهم والتخيل والتلذذ والتألم كالحيوان، وبالجرأة كالسبع وبالمكر كالشيطان وبالمعرفة كالملك وباجتماع الحكم فيه كاللَّوح وبثبوت صور الأشياء في القلوب بكلياته كالقلم الأعلى ولهذَا سوَّى بَيْنهٌمَا في آيةِ:﴿ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾[الذاريات: ٢١] وانما جمع العقلاء تغليباً لهم أو لأنهم المقصودون وترتب الحمد عليه ظاهر وَلَو على إيجاد الشر لتَضَمُّنهِ الخير كَمَا مَرَّ. ﴿ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾ تَأْكِيْد لاستحقاقه الحمد، أو الأول لتسكين هيبة اسم الله، والثاني لتجريه بالمخوفين بيوم الدين، هذا إذا وجبت التسمية كما مر. ﴿ مَـٰلِكِ ﴾ من المِلْك - بالكسر- المتصرف في الأعيان المملوكة و " مَلِك " من المُلْك -بالضم: المتصرف بالأمر والنهي في كل المأمورين، والثَّاني المختار لتوافق الفاتحة الخاتمة و للزوم التكرار بـ مالك لأن الرب بمعناه، ولأنه أعم حياطة وأقدر، لأأنه قرأة أهل الحرمين وهم أعرف بلغتهم لأن السِبعة كلها متواترة وهم ما قرؤا إلَّا ما سَمِعُوا. إلَّا أنْ يُقَال: كل الروايات وصلت إليهم وهم ما اختاروا للرواية إلا ما كان أفصح - والله أعلم. ﴿ يَوْمِ ﴾ أي: وَقْت. ﴿ ٱلدِّينِ ﴾ أي: الجزاء أي: هو مالكه مستمراً، ولا يرد عدم استمرار يوم الدين لأنه مالك الأشياء أَزلاً وأبداً، ولا يتغير بوجودها إلَّا تعلق ملكه. والإضافة لتعظيم المضاف إليه أو المضاف، وَ لظُهُوْر تفرده بنفوذ الأمر فيه، وآثر الأسماء الخمس لأن العبادة تقتضي الإلهيّة والاستعانة للربوية، والاستهداء للرحمانية والاستغاثة للرحيمية والإنعام للمالكية عند الاستعانة كالغضب عند الإخلال بها، ثُمَّ لمَّا تَميَّز عنده بهذه الصفات فكأنه صار مُشَاهداً، وقال: يَا مَنْ هَذِه صفاته: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ أي نَخُصُّك بالعبادة أي: أقصى غاية التذلل تعظيماً وبوسيلتها. ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ أى: نَخُصُّك بطلب المعونة في أداء العبادات أو كل المهمات، ويبين الأول أو الفرد الأعظم من الثاني في قوله: ﴿ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ الغير المعوج، أي الإسلام، أي: ثبتنا عليه، أو زدنا الهداية، والهداية: دلالة بلطف، وتستعمل في الشر تَهكُّماً، وأجناسها خمسة مترتبة: وهي إضافة قُوىً يتمكن بها من الاهتداء، ونصب الدلائل وإرسال الرسل والكشف والتوفيق، والأخير هو الممنوع عن نحو الظالمين أينما وقع في القرآن. ﴿ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي: النبيين واقرانهم، والإنعام: إيصال النعمة إلى أولى النطق، والنعمة: ما يستلذ به دنيوية أو أخوية، والدنيوية مَوْهبية وكسبية، والمَوْهبية: روحانية وجسمانية والكسبية: تزكية النفس أو تزيين البدن والأخروية رضوانه -تعالى- والمواد هو وما يكون وصلة إليه. ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ بإرادة انتقامهم كاليهود أو الفُسَّاق. والغضب: ثوران النفس لإرادة الانتقام فالمراد غايته. ﴿ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ المائلين عن الحق كالنصارى أو الكفرة. والضَّلالُ: سُلُوْكُ طَريقٍ لا تُوصِّلُ إلى المطلوب، وهو كثير الصواب، والصواب واحد إذ الصواب من الشيء يجري مجرى القرطاس من المرمى. ويستحب لقارئها بعد سكتة قول " آمين " أي: استجب أو افعل.
Icon