تفسير سورة الفاتحة

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
الجزء الأول
سورة فاتحة الكتاب
مكية. وقيل مكية ومدنية لأنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى. وتسمى أمّ القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على اللَّه تعالى بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهى، ومن الوعد والوعيد. وسورة الكنز والوافية لذلك. وسورة الحمد والمثاني لأنها تثنى في كل ركعة. وسورة الصلاة لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها. وسورة الشفاء والشافية. وهي سبع آيات بالاتفاق، إلا أنّ منهم من عدّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دون التسمية، ومنهم من مذهبه على العكس.
[سورة الفاتحة (١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
قرّاء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤها على أنّ التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، كما بدأ بذكرها في كل أمر ذى بال، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم اللَّه، ولذلك يجهرون بها. وقالوا:
قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن، ولذلك لم يثبتوا (آمين) فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها. وعن ابن عباس: «من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب اللَّه تعالى» «١».
(١). موقوف، ليس بمعروف عنه، والذي في الشعب للبيهقي عنه: «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب اللَّه». وتعقب ابن الحاجب ما أورده الزمخشري بأن قال: «الصواب مائة وثلاث عشرة» وبهذا اللفظ ذكر الشهرزوري في المصباح. وزاد: وإنما لم يقل «أربع عشرة» لأن براءة لا بسملة فيها، انتهى. روى البيهقي في الشعب عن أحمد بن حنبل أنه قال: «من لم يقل مع كل سورة بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من كتاب اللَّه تعالى». قلت: وقفت على سبب الغلط في منقول الزمخشري. وذلك أن الحاكم روى في ترجمة عبد اللَّه بن المبارك بسند له عن على القاشاني قال: «رأيت عبد اللَّه بن المبارك يرفع يديه في أول تكبيرة على الجنازة ثم الثانية أخفض قليلا والصلوات مثل ذلك». قال على قال عبد اللَّه «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم في فواتح السور فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية». قال عبد اللَّه: وأخبرنا حنظلة بن عبد اللَّه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب اللَّه تعالى». فلما لم يخص ابن عباس سورة حمله ابن المبارك على الكل إلا براءة فكان مائة وثلاث عشرة.
1
فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ قلت: بمحذوف تقديره: بسم اللَّه أقرأ أو أتلو «١» لأن الذي يتلو التسمية مقروء، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال: بسم اللَّه والبركات، كان المعنى:
بسم اللَّه أحل وبسم اللَّه أرتحل وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله ب «بسم اللَّه» كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له. ونظيره في حذف متعلق الجارّ قوله عزّ وجلّ: (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)، أى اذهب في تسع آيات. وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس: بالرفاء والبنين، وقول الأعرابى: باليمن والبركة، بمعنى أعرست، أو نكحت. ومنه قوله:
فقُلْتُ إلى الطَّعام فقَالَ مِنْهُمْ فَرِيقٌ نحْسُدُ الإِنْسَ الطَّعامَا «٢»
(١). قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «الباء في البسملة تتعلق بمحذوف تقديره: بسم اللَّه أقرأ أو أتلو» قال أحمد:
رحمه اللَّه تعالى: الذي يقدره النحاة «أبتدئ» وهو المختار لوجوه: الأول: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل بسملة ابتدئ بها فعل ما من الأفعال خلاف فعل القراءة، والعام صحة تقديره أولى أن يقدر، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبراً أو صفة أو صلة أو حالا بالكون والاستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره، والثاني: أن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض من البسملة إذ الغرض منها أن تقع مبدأ فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت «أقرأ» فإنما تعنى أبتدئ القراءة والواقع في أثناء التلاوة قراءة أيضا لكن البسملة غير مشروعة في غير الابتداء. ومنها طهور فعل الابتداء في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ). وقال عليه السلام: «كل أمر خطير ذى بال لا يبدأ فيه باسم اللَّه فهو أبتر». ولا يعارض هذا ما ذكره من ظهور فعل القراءة في قوله تعالى:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فان فعل القراءة إنما ظهر ثم لأن الأهم هو القراءة غير منظور إلى الابتداء بها. ألا ترى إلى تقدم الفعل فيها على متعلقه لأنه الأهم ولا كذلك في البسملة فان الفعل المقدر كائنا ما كان إنما يقدر بعدها، ولو قدر قبل الاسم لفات الغرض من قصد الابتداء إذاً على أنه الأهم في البسملة، فوجب تقديره، وسيأتى الكلام على هذه النكتة.
(٢).
ونار قد حضأت بعيد وهن بدار ما أريد بها مقاما
سوى ترحيل راحلة وعين أكاليها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم زعيم نحسد الانس الطعاما
لقد فضلتم في الأكل فينا ولكن ذاك يعقبكم سقاما
لسمير بن الحارث الضبي، وقيل لتأبط شراً، وقيل لشمر الغساني، وقيل للفرزدق يصف نفسه بالجرأة واقتحام المخاوف، يقول: ورب نار قد حضأتها بالحاء المهملة: أشعلتها وسعرتها، وقيل هو خضأتها، بالمعجمة، ولا أعلمه وإن ذكره بعض النحاة في باب الحكاية، وبعيد: تصغير بعد، والوهن والموهن: بمعنى الفتور أو النوم أو هدوء الصوت، وقيل: نحو نصف الليل. أى أوقدتها في جوف الليل في مفازة لا أريد إقامة بها سوى تجهيز ما يلزم لراحلتى في السفر ولأجل عين أكاليها أى أساهرها أو أحافظها، فأنا أحفظها من النوم وهي تحفظني من العدو، والضمير في أتوا: لمبهم.
ومنون استفهام، وكان حقه: من أنتم، لأنه لا يأتى بصورة الجمع إلا في الوقف، والأصل في نونه الأخيرة السكون للوزن، على أن إجراء الوصل مجرى الوقف كثير في النظم كما صرحوا به وجعلوا هذا منه، وكأن هناك قول مقدر مثل «جئناك» فحكى إعراب ضمير الفاعل فيه حتى يظهر استشهاد يونس به في الحكاية. فقالوا: نحن الجن. وكان الظاهر:
فقلت عموا. ولكن أتى به مستأنفاً جواب سؤال مقدر تقديره: فماذا قلت لهم؟ فقال: قلت عموا، أى تنعموا في وقت الظلام، وعطف قوله «فقلت» بالفاء دلالة على التعقيب، وأما رواية «عموا صباحا» فمن قصيدة أخرى تعزى إلى خديج بن سنان الغساني ومنها:
نزلت بشعب وادى الجن لما رأيت الليل قد نشر الجناحا
وشبه الليل بطائر، فأثبت له ما للطائر، أو شبه الظلمة بالجناح. وقوله «إلى الطعام» أى هلموا وأقبلوا إليه. دل المقام على ذلك، فقال زعيم منهم، أى سيد وشريف: نحن نحسد الانس في الطعام أو على الطعام، فهو نصب على نزع الخافض، ويجوز أنه بدل، ويجيء «حسد» متعديا لاثنين، والطعاما: مفعوله الثاني. وقال الجوهري: الأنس هنا بالتحريك: لغة في الانس، ويجوز قراءته «الانس» على اللغة المشهورة. لقد فضلتم عنا في الأكل حال كونكم فينا أى فيما بيننا، ولكن ذاك يلحقكم سقاما في العاقبة. وهذا كله من أكاذيب العرب.
2
فإن قلت: لم قدّرت المحذوف متأخراً؟ «١» قلت: لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم اللَّه عزّ وجلّ بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص. والدليل عليه قوله:
(بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها). فإن قلت: فقد قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، فقدّم الفعل. قلت:
هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم.
فإن قلت: ما معنى تعلق اسم اللَّه بالقراءة؟ «٢» قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتدا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدر بذكر اسم اللَّه لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمر ذى بال لم يبدأ فيه
(١). قال محمود: «لم قدرت المحذوف متأخراً.. الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: لأنك لو ابتدأت بالفعل في التقدير لما كان الاسم مبتدأ به فيفوت الغرض من التبرك باسم اللَّه تعالى أول نطقك. وأما إفادة التقديم الاختصاص ففيه نظر سيأتى إن شاء اللَّه تعالى.
(٢). قال محمود: «فان قلت ما معنى تعلق اسم اللَّه تعالى بالقراءة... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وفي قوله «إن اسم اللَّه هو الذي صير فعله معتبراً شرعا» حيد عن الحق المعتقد لأهل السنة في قاعدتين: إحداهما أن الاسم هو المسمى، والأخرى أن فعل العبد موجود بقدرة اللَّه تعالى لا غير فعلى هذا تكون الاستعانة باسم اللَّه معناها اعتراف العبد في أول فعله بأنه جار على يديه، وهو محل له لا غير وأما وجود الفعل فيه فباللَّه تعالى أى بقدرته تسليما للَّه في أول كل فعل والزمخشري رحمه اللَّه لا يستطيع هذا التحقيق لاتباعه الهوى في مخالفة القاعدتين المذكورتين، فيعتقد أن اسم اللَّه تعالى الذي هو التسمية معتبر في شرعية الفعل لا في وجوده إذ وجوده على زعمه بقدرة العبد، فعلى ذلك بنى كلامه.
أقول: دعواه أن عند أهل السنة الاسم غير المسمى ممنوعة، وتحقيقه قد ذكر في غير هذا الكتاب. [.....]
3
باسم اللَّه فهو أبتر» «١» إلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولا باسم اللَّه كما يفعل الكتب بالقلم.
والثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات «٢» في قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) على معنى: متبرّكا بسم اللَّه أقرأ، وكذلك قول الداعي للمعرس: بالرفاء والبنين، معناه أعرست ملتبسا بالرفاء والبنين، وهذا الوجه أعرب وأحسن فإن قلت: فكيف قال اللَّه تبارك وتعالى متبركا باسم اللَّه أقرأ؟ قلت:
هذا مقول على ألسنة العباد، كما يقول الرجل الشعر على لسان غيره، وكذلك:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- إلى آخره، وكثير من القرآن على هذا المنهاج، ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه. فإن قلت: من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه ولام الابتداء وواو العطف وفائه وغير ذلك، فما بال لام الإضافة وبائها بنيتا على الكسر؟
قلت: أما اللام فللفصل بينها وبين لام الابتداء، وأما الباء فلكونها لازمة للحرفية والجر، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن، لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة، ولوضعها على غاية من الإحكام والرصانة، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شيء. ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن، فقال: سم وسم. قال:
بِاسْمِ الذِي في كلِّ سُورةٍ سِمُهْ»
(١). لم أره هكذا. والمشهور فيه حديث أبى هريرة من رواية قرة عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه بلفظ «لا يبدأ فيه بحمد اللَّه أقطع» أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وأصحاب السنن. ولأحمد من هذا الوجه «لا يفتتح بذكر اللَّه فهو أبتر أو أقطع» وللخطيب في الجامع من طريق مبشر بن إسماعيل عن الزهري بلفظ «لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أقطع» والراوي له عن مبشر- مجهول
(٢). قوله «تعلق الدهن بالانبات» هذا يناسب قراءة «تنبت» من أنبت الرباعي: كما يأتى. (ع)
(٣).
باسم الذي في كل سورة سمة قد وردت على طريق تعلمه
أرسل فيها بازلا يقرمه فهو بها ينحو طريقاً يعلمه
لرؤبة بن العجاج يصف إبلا. ولفظ «اسم» من الألفاظ العشرة التي سمع بناء أوائلها على السكون كابن وامرئ، فإذا ابتدءوا بها زادوا همزة الوصل ولا حاجة لها في الدرج، وسمع تحريك أول بعضها كما في سمه بتثليث أوله وباسم متعلق بأرسل وباؤه للملابسة. وضمير وردت للسورة. وضمير تعلمه بالفوقية للَّه على طريق الالتفات إلى الخطاب، ويمكن أنه لمخاطب مبهم، وعلى روايته بالتحتية فالضمير للَّه فقط. ويحتمل من بعد أن ضمير وردت للإبل فكذلك تعلمه بالفوقية، وأما بالتحتية فضميره للَّه أو للراعي. والبازل: الذي انشق نابه من الإبل وذلك في السنة التاسعة وربما يزل في الثامنة، وقرم الى اللحم ونحوه: اشتاق إليه. والتقريم والاقرام: التشويق إليه والجملة حال من الراعي المرسل أو صفة لبازل، وعليه فلم يبرز ضمير الفاعل لأمن اللبس. فهو أى البازل وينحو: أى يقصد بها، والباء للظرفية أو للتعدية إلى المفعول به كذهبت بزيد، ويجوز أن الضمير للراعي فالباء للتعدية فقط. وروى «نزلت» بدل «وردت» وهو يؤيد جعل الضمير للسورة، وروى البيت الثاني قبل الأول.
والمعنى أرسل فيها الراعي ملتبساً بذكر اسم اللَّه بازلا حال كونه يشوقه إليها باعفائه من العمل وحبسه عن الإبل ثم إرساله فيها، فذلك البازل يقصد بها طريق يعرفه وهو طريق الضراب، وعلم ما لا يعقل مجاز عن اهتدائه إلى منافعه، على طريق الاستعارة التصريحية والمجاز المرسل، أو شبهه بالعاقل على طريق المكنية، فالعلم تخييل لذلك التشبيه. وكون اسمه تعالى في كل سورة ظاهر على القول بأن البسملة آية من كل سورة، وإلا ورد مثل سورة العصر. وربما يدفع إيطاء القافية باختلافها في الفاعل وفي معنى المفعول وفي الحقيقة والمجاز.
4
وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز: كيد ودم، وأصله: سمو، بدليل تصريفه: كأسماء، وسمى، وسميت. واشتقاقه من السمو، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره، ومنه قيل للقب النبز: من النبز بمعنى النبر، وهو رفع الصوت. والنبز قشر النخلة الأعلى. فإن قلت: فلم حذفت الألف في الخط وأثبتت في قوله: باسم ربك؟ قلت: قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال، وقالوا: طولت الباء تعويضا من طرح الألف. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه: طوّل الباء وأظهر السنات ودوّر الميم. و (الله) أصله الإله. قال:
مَعَاذَ الالهِ أَنْ تَكُونَ كظَبْيَةٍ «١»
ونظيره: الناس، أصله الأناس. قال:
إنَّ المَنايَا يَطَّلِعْ نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا «٢»
فحذفت الهمزة وعوّض منها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: يا اللَّه بالقطع، كما يقال:
(١).
معاذ الاله أن تكون كظبية ولا دمية ولا عقيلة ربرب
ولكنها زادت على الحسن كله كمالا ومن طيب على كل طيب
للبعيث بن حريث في محبوبته أم السلسبيل، يقال: عاذ عياذاً وعياذة ومعاذاً وعوذاً، إذا التجأ إلى غيره، فالمعاذ مصدر نائب عن اللفظ بفعله، والدمية: الصنم والصورة من العاج ونحوه المنقوشة بالجواهر. وعقيلة كل شيء: أكرمه.
والربرب: القطيع من بقر الوحش: شبه محبوبته بالظبية وبالدمية وبالعقلية في نفسه، ثم وجدها أحسن منها فرجع عن ذلك والتجأ إلى اللَّه منه كأنه أثم أو المعنى لا أشبهها بذلك وإن وقع من الشعراء. وأتى بلا المؤكدة لما قبلها من معنى النفي أى ليست كظبية ولا دمية ولا عقيلة ربرب ولكنها زادت كمالا على الحسن المعروف كله، أو زادت على الحسن الحسى كمالا معنويا، وزادت من الطيب على كل طيب.
(٢). شبه المنايا بأناس يبحثون عمن استحق الموت على طريق المكنية والاطلاع تخييل. والمعنى: أن المنايا تأتى الناس على حين غفلة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها. والأناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مأخوذ من الإيناس وهو الأبصار لظهورها، أو من الأنس ضد الوحشة. والآمنون: الغافلون عن مجيء المنايا، فهو مجاز مرسل.
5
يا إله، والإله- من أسماء الأجناس كالرجل والفرس- اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، وكذلك السنة على عام القحط، والبيت على الكعبة، والكتاب على كتاب سيبويه. وأما (الله) بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق، لم يطلق على غيره. ومن هذا الاسم اشتق: تأله، وأله، واستأله. كما قيل:
استنوق، واستحجر، في الاشتقاق من الناقة والحجر. فإن قلت: أاسم هو أم صفة؟ قلت:
بل اسم غير صفة، ألا تراك تصفه ولا تصف به، لا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل.
وتقول: إله واحد صمد، كما تقول: رجل كريم خير. وأيضا فإنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجرى عليه، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها وهذا محال. فإن قلت: هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنى واحد، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم: أله، إذا تحير، ومن أخواته: دله، وعله، ينتظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أنّ الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن، ولذلك كثر الضلال، وفشا الباطل، وقل النظر الصحيح. فإن قلت: هل تفخم لامه؟ قلت: نعم قد ذكر الزجاج أنّ تفخيمها سنة، وعلى ذلك العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
والرَّحْمنِ فعلان من رحم، كغضبان وسكران، من غضب وسكر، وكذلك الرحيم فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي الرَّحْمنِ من المبالغة ما ليس في الرَّحِيمِ، «١» ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون: إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى.
وقال الزجاج في الغضبان: هو الممتلئ غضبا. ومما طنّ على أذنى من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف، وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي، فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟
قلت: بلى، فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى، وهو من الصفات الغالبة- كالدبران، والعيوق، والصعق- لم يستعمل في غير اللَّه عزّ وجلّ، كما أنّ (الله) من الأسماء
(١). قال محمود: «وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: لا يتم الاستدلال بقصر البناء وطوله على نقصان المبالغة وتمامها، ألا ترى بعض صيغ المبالغة كفعل أحد الأمثلة أقصر من فاعل الذي لا مبالغة فيه البتة. وأما قولهم: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، فلا دلالة فيه أيضا على مبالغة رحمن بالنسبة إلى رحيم فان حاصله أن الرحمة منه بالدلالة على إتمامها ألا ترى أن ضاربا لما كان أعم من ضراب، كان ضراب أبلغ منه لخصوصه، فلا يلزم إذاً من خصوص رحيم أن يكون أقصر مبالغة من رحمن لعمومه.
6
الغالبة. وأما قول بنى حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، وقول شاعرهم فيه:
وأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا «١»
فباب من تعنتهم في كفرهم. فإن قلت: كيف تقول: اللَّه رحمن، أتصرفه أم لا؟ «٢» قلت: أقيسه على أخواته من بابه، أعنى نحو عطشان وغرثان وسكران، فلا أصرفه.
(١).
سموت بالمجد يا بن الأكرمين أبا وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
لرجل من بنى حنيفة يمدح مسيلمة الكذاب، يقول: علوت بسبب المجد يا بن الأكرمين من جهة الأب، وليس المراد خصوصه، بل مطلق الأصل، ولو كان المراد خصوصه لأشعر بالذم، وهو تمييز للأكرمين أو تمييز لسماوات، وأنت كالغيث للورى في كثرة النفع، ولا زلت رحمانا: دعا بدوامه رحيما عليهم ورحمن خاص باللَّه فاطلاقه على غيره جهل أو عناد. وقيل: إن الخاص به المحلى بأل.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «فان قلت كيف تقول اللَّه رحمن أتصرفه أم لا... الخ» ؟ قال أحمد: ليت شعري بعد امتناع فعلانة وفعلى ما الذي عين قياسه على عطشان دون ندمان مع أن قياسه على ندمان معتضد بالأصل في الأسماء وهو الصرف؟ أقول: الذي عينه هو أن باب سكران وعطشان أكثر من باب ندمان، وإذا احتمل أن يكون من كل واحد منهما فحمله على ما هو الأكثر أولى ولأنّ رحمن وعطشان مشتركان في عدم وجود فعلانة، بخلاف ندمان فلهذا كان حمله على عطشان أولى، ثم قال: وقد نقل غيره خلافا في صرف رحمن مجرداً من التعريف، وبناه على تعيين العلة في منع صرف عطشان هل هي وجود فعلى فيصرف رحمن، أو امتناع فعلانة فيمتنع الصرف؟ وهو أيضاً نظر قاصر. وأتم منهما أن يقال: امتنع صرف عطشان وفاقا وامتناع صرفه معلل بشبه زيادتيه بألفي التأنيث، والشبه دائر على وجود فعلى وامتناع فعلانة فاما أن يجعل الأمر ان وصفى شبه بهما مجموعهما مستقل، أو كل واحد منهما مستقلا ببيان الشبه، أو أحدهما دون الآخر على البدل فهذه أربع احتمالات. فان كان مقتضى الشبه المجموع أو وجود فعلى خاصة انصرف رحمن، وإن كان كل واحد من الأمرين مستقلا أو الشبه بامتناع فعلانة خاصة منع رحمن من الصرف فلم يبق إلا تعيين ما به حصل الشبه في عطشان بين زيادتيه وبين ألفى التأنيث من الاحتمالات الأربعة، وعليه ينبنى الصرف وعدمه. والتحقيق أن كل واحد من الأمرين المذكورين مستقل باقتضاء الشبه فيمتنع صرف رحمن لوجود إحدى العلتين المتعلقتين في الشبه وهي امتناع فعلانة على هذا التقدير وإنما قلنا ذلك لأن امتناع فعلانة فيه حاصله امتناع دخول تاء التأنيث على زيادتيه كامتناع دخولهما على ألفى التأنيث فحصل الشبه بهذا الوجه.
ووجود فعلى يحقق أن مذكره مختص ببناء ومؤنثه مختص ببناء آخر، فيشبه أفعل وفعلى في اختصاص كل واحد منهما ببناء غير الآخر، فهذا وجه آخر من الشبه. ومن تأمل كلام سيبويه فهم منه ما قررته. فان قيل: محصل ذلك مناسبة كل واحد من الأمرين المذكورين لاقتضاء الشبه، فما الذي دل على استقلال كل واحد منهما علة في الشبه؟ وهلا كان المجموع علة وحينئذ ينصرف رحمن وهو أحد الاحتمالات الأربعة المتقدمة؟ قلت: امتناع صرف عمران العلم يدل علي استقلال كل واحد من الأمرين بالشبه المانع من الصرف إذ عمران علما لا فعلى له وهو غير منصرف وفاقا. أقول: قد عثر هاهنا رحمه اللَّه وإن الجواد قد يعثر لأن اعتبار وجود فعلي أو انتفاء فعلانة إنما كان في الصفة، أما في الاسم فشرطه العلمية لا وجود فعلى ولا انتفاء فعلانة.
7
فإن قلت: قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى واختصاصه باللَّه يحظر أن يكون فعلان فعلى، فلم تمنعه الصرف؟ قلت: كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة، فإذاً لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص وهو القياس على نظائره.
فإن قلت: ما معنى وصف اللَّه تعالى بالرّحمة «١» ومعناها العطف والحنوّ ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها؟ قلت: هو مجاز عن إنعامه على عباده لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم ومنعهم خيره ومعروفه. فإن قلت: فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، «٢» والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجودا فياض؟ قلت: لما قال الرَّحْمنِ فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها، أردفه الرَّحِيمِ كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف.
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ٢ الى ٣]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)
الحمد والمدح أخوان، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها. تقول: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسبه وشجاعته.
وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّى ثلاثةً يَدِي ولِسَانِى والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا «٣»
(١). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: ما معنى وصف اللَّه تعالى بالرحمة... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: فالرحمة على هذا من صفات الأفعال ولك أن تفسرها بارادة الخير فيرجع إلى صفات الذات وكلا الأمرين قال به الأشعرية في الرحمة وأمثالها مما لا يصح إطلاقه باعتبار حقيقته اللغوية على اللَّه تعالى فمنهم من صرفه إلى صفة الذات، ومنهم من صرفه إلى صفة الفعل.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه... إلخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: إنما كان القياس تقديم أدنى الوصفين لأن في تقديم أعلاهما ثم الارداف بأدناهما نوعا من التكرار إذ يلزم من حصول الأبلغ حصول الأدنى فذكره بعده غير مفيد ولا كذلك العكس فانه ترق من الأدنى إلى مزيد بمزية الأعلى لم يتقدم ما يستلزمه، ولذلك كان هذا الترتيب خاصاً بالاثبات. وأما النفي فعلى عكسه تقدم فيه الأعلى. تقول: ما فلان تحريراً ولا عالما، ولو عكست لوقعت في التكرار إذ يلزم من نفى الأدنى عنه نفى الأعلى وكل ذلك مستمده في عموم الأدنى وخصوص الأبلغ، وإثبات الأخص يستلزم ثبوت الأعم، ونفى الأعم يستلزم نفى الأخص.
(٣).
وما كان شكرى وافيا بنوالكم ولكنني حاولت في الجهد مذهبا
أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
أى لم يكن تعظيمي إياكم وافيا بحق عطائكم، ولكنني أردت من الاجتهاد في تعظيمكم مذهبا، وبينه بقوله: إن نعمتكم على إفادتكم من يدي ولساني وجناني، فهي وأعمالها لكم، قال السيد الشريف: هو استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة، وبيان أنه جعلها جزاء للنعمة، وكل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة، فكأنه قال: كثرت نعمتكم عندي فوجب على استيفاء أنواع الشكر لكم، وبالغ في ذلك حتى جعل مواردها ملكا لهم، وقيل: النعماء جمع للنعمة، لكن ظاهر عبارة اليد أنها بمعناها، ورواية البيت الأول بعد الثاني أحسن موقعا وأظهر استشهاداً.
8
والحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر، ومنه قوله عليه السلام: «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللَّه عبد لم يحمده» «١» وإنما جعله رأس الشكر لأنّ ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها، أشيع لها وأدلّ على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال، بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كلّ خفى ويجلى كل مشتبه.
والحمد نقيضه الذمّ، والشكر نقيضه الكفران، وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو للَّه وأصله النصب «٢» الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار، كقولهم: شكراً، وكفراً، وعجباً، وما أشبه ذلك، ومنها: سبحانك، ومعاذ اللَّه، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدّون بها مسدّها، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة، والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى: (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده وحدوثه. والمعنى: نحمد اللَّه حمداً، ولذلك قيل:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأنه بيان لحمدهم له، كأنه قيل: كيف تحمدون؟ فقيل: إياك نعبد. فإن قلت:
ما معنى التعريف فيه؟ قلت: هو نحو التعريف في أرسلها العراك، «٣» وهو تعريف الجنس،
(١). أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد اللَّه بن عمرو رضى اللَّه عنهما به مرفوعا، وفيه انقطاع وعن ابن عباس مثله، رواه البغوي في تفسير (سبحان) وفيه نصر بن حماد. وهو ضعيف.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «الأصل في الحمد النصب... الخ» قال أحمد: ولأن الرفع أثبت اختار سيبويه في قول القائل: رأيت زيداً فإذا له علم علم الفقهاء: الرفع، وفي مثل: رأيت زيداً فإذا له صوت صوت حمار: النصب، والسر في الفرق بين الرفع والنصب أن في النصب إشعاراً بالفعل، وفي صيغة الفعل إشعار بالتجدد والطرو، ولا كذلك الرفع، فانه إنما يستدعى اسما: ذلك الاسم صفة ثابتة، ألا ترى أن المقدر مع النصب نحمد اللَّه الحمد. ومع الرفع الحمد ثابت للَّه أو مستقر.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «وتعريف الحمد نحو التعريف في أرسلها العراك وهو تعريف الجنس ومعناه الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: تعريف التكرار باللام إما عهدى وإما جنسى، والعهد إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معين من أفراد الجنس باعتبار يميزه عن غيره من الأفراد كالتعريف في نحو (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)، وإما أن ينصرف العهد فيه الى الماهية باعتبار يميزها عن غيرها من الماهيات كالتعريف في نحو «أكلت الخبز، وشربت الماء»، والجنسي هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد، نحو: الرجل أفضل من المرأة، وكلا نوعي العهد لا يوجب استغراقها، وإنما يوجبه الجنسي خاصة فالزمخشرى جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوعي العهد، وإن كان قد عبر عنه بتعريف الجنس لعدم اعتنائه باصطلاح أصول الفقه. وغير الزمخشري جعله للجنس فقضى بافادته، لاستغراق جميع أنواع الحمد وليس ببعيد. [.....]
9
ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو، والعراك ما هو، من بين أجناس الأفعال. والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم. وقرأ الحسن البصري: (الحمد للَّه) بكسر الدال لإتباعها اللام. وقرأ إبراهيم بن أبى عبلة: (الحمد للَّه) بضم اللام لإتباعها الدال، والذي جسرهما على ذلك- والإتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل ومغيرة- تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين، وأشف القراءتين قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى، بخلاف قراءة الحسن.
الرب: المالك. ومنه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلىّ من أن يربني رجل من هوازن «١». تقول: ربه يربه فهو رب، كما تقول: نمّ عليه ينمّ فهو نمّ.
ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، ولم يطلقوا الرب إلا في اللَّه وحده، وهو في غيره على التقيد بالإضافة، كقولهم: رب الدار، ورب الناقة، وقوله تعالى: (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ)، (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ). وقرأ زيد بن على رضى اللَّه عنهما: (رب العالمين) بالنصب على المدح، وقيل بما دل عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ، كأنه قيل: نحمد اللَّه رب العالمين.
العالم: اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، «٢» وقيل: كل ما علم به الخالق من الأجسام
(١). موقوف. قال ابن إسحاق في المغازي: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد اللَّه عن أبيه في قصة حنين. وفيه قول صفوان هذا. ومن طريقه أخرجه ابن حبان في صحيحه. والبيهقي في الدلائل. ورواه جويرية عن مالك عن الزهري مرسلا. وأخرجه الدارقطني في الغرائب.
(تنبيه) وقع فيه أن صفوان قال ذلك لأبى سفيان. والذي في مرسل الزهري أنه قال لابن أخيه. والذي في المغازي: أنه قال لأخيه ابن أمه كلدة. وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن إسحاق.
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «العالم اسم لذوي العلم من الملائكة... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: تعليله الجمع بافادة استغراقه لكل جنس تحته فيه نظر فان «عالما» كما قرره: اسم جنس عرف باللام الجنسية، فصار العالم- وهو مفرد- أدل على الاستغراق منه جمعاً. قال إمام الحرمين رحمه اللَّه: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور فان التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور ترده إلى تخيل الوجدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب. انتهي كلامه. والتحقيق في هذا وفي كل ما يجمع من أسماء الأجناس ثم يعرف تعريف الجنس: أنه يفيد أمرين: أحدهما أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة. والآخر أنه مستغرق لجميع ما تحته منها لكن المفيد لاختلاف الأنواع الجمع، والمفيد لاستغراق جميعها التعريف ألا ترى أنه إذا جمع مجردا من التعريف دل على اختلاف الأنواع، ثم إذا عرف أفاد استغراقا غير موقوف على الجمعية، إذ هذا حكم مفرده إذا عرف فقول الزمخشري اذاً «إن فائدة جمع العالمين الاستغراق» مردود بثبوت هذه الفائدة وإن لم يجمع وقول إمام الحرمين «إن الجمع يؤيد الاشعار بالاستغراق لما نتخيله من الرد إلى الوجدان» مرود بأن فائدة الجمع الاشعار باختلاف الأنواع، واختلافها لا ينافي استغراقها بصيغة المفرد المقر من تعريف الجنس، وإن أراد أن الجمع يخيل الاشارة إلى أنواع محله معهودة فهذا الخيال يعينه من المفرد، فالعالم إذاً جمع ليفيد اختلاف الأنواع المندرجة تحته من الجن والانس والملائكة، وعرف ليفيد عموم الربوبية للَّه تعالى في كل أنواعه وتوضيح هذا التقرير: أنا لو فرضنا جنساً ليس تحته إلا آحاد متساوية وهو الذي يسميه غير النحاة النوع الأسفل، لما جاز جمع هذا بحال، لا معرفا ولا منكراً، وبهذا الفائدة يرد قول إمام الحرمين «إن التمور جمع من حيث اللفظ» لا معنى تحته لجمع الجمع في نحو نوق ونياق وأنيق وأما تعليل الزمخشري جمعه بالواو والنون باشعاره لصفة العلم فيلحق بصفات من يعقل، فصحيح إذا بنى الأمر على أنه لا يتناول إلا أولى العلم: وأما على القول بأنه اسم لكل موجود سوى اللَّه، فيحتاج إلى مزيد نظر في تغليب العاقل في الجمع على غير العاقل
10
والأعراض. فإن قلت: لم جمع؟ قلت: ليشمل كل جنس مما سمى به. فإن قلت: هو اسم غير صفة، وإنما تجمع بالواو والنون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام.
قلت: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم.
[سورة الفاتحة (١) : آية ٤]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
قرئ: ملك يوم الدين، ومالك، وملك بتخفيف اللام. وقرأ أبو حنيفة رضى اللَّه عنه:
على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق في قوله الحمد للَّه- دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله.
[سورة الفاتحة (١) : آية ٥]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
(إيا) ضمير منفصل للمنصوب، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك: إياك، وإياه، وإياى، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم، ولا محل لها من الإعراب، كما لا محل للكاف في أرأيتك، وليست بأسماء مضمرة، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب: «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب» فشيء شاذ لا يعوّل عليه، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ)، (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا). والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة. وقرئ: إياك بتخفيف الياء، وأياك بفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء. قال طفيل الغنوي:
فَهَيَّاكَ والأَمْرَ الَّذِى إنْ تَرَاحَبَتْ مَوَارِدُهُ ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُهُ «١»
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل. ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع للَّه تعالى، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون «٢» من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم،
(١). لمضرس بن ربعي، وقيل لطفيل، وهياك: أصله إياك، قلبت همزته هاء، وهو في محل نصب بمحذوف وجوبا، والأمر: عطف عليه، والأصل: احذر تلاقى نفسك والأمر فحذف ما عدا ضمير الخطاب وما عطف عليه لكثرة الاستعمال، ولأن مقام التحذير يقتضى السرعة وإيجاز الكلام، وقيل أصله: باعد نفسك من الأمر وباعد الأمر من نفسك، فحذف لذلك، وشبه أسباب الدخول في الأمر بالموارد: أى مواضع الورود إلى نحو الماء، وأسباب الخروج منه بالمصادر: أى مواضع الصدور: أى الرجوع، فكل منهما استعارة تصريحية، وأما تشبيه الأمر بشيء له موارد ومصادر كالماء على طريقة المكنية، فهو خارج عن قانون البيان لأن الأمر يطلق على كل شيء، فتخصيصه بغير نحو الماء ثم تشبيهه به، بالقصد لا بالوضع. ويروى هكذا:
فإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر
أى فليس عذر المرء لنفسه حسناً: أى قبوله لاعتذارها بعد وقوعها في الورطة، وقوله: وليس له الخ: جملة حالية وعلى هذا فحقه حرف الراء.
(٢). قوله «في علم البيان قد يكون» لعله وقد، وعبارة النسفي: وهو قد يكون. (ع)
13
كقوله تعالى: (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ). وقوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ). وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات: «١»
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالإثْمدِ ونَامَ الخَلِىُّ ولَم تَرْقُدِ
وبَاتَ وباتَتْ لهُ لَيْلةٌ كلَيْلةِ ذِى العائرِ الأرْمَدِ
وذلِكَ مِنْ نَبَإ جَاءَنى وخُبِّرْتُهُ عن أَبى الأَسْوَدِ «٢»
وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. فإن قلت: لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟
قلت: ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته.
فإن قلت: فلم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ «٣» قلت: لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة
(١). قال محمود رحمه اللَّه: «وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: يعنى أنه ابتدأ بالخطاب ثم التفت إلى الغيبة، ثم إلى التكلم وعلى هذا فهما التفاتان لا غير، وإنما أراد الزمخشري واللَّه أعلم أنه أتى بثلاثة أساليب: خطاب لحاضر، وغائب، ولنفسه، فوهم بقوله ثلاث التفاتات، أو تجعل الأخير ملتفتا التفاتين عن الثاني وعن الأول فيكون ثلاثا، والأمر فيه سهل.
(٢). لامرئ القيس بن حجر الجاهلى، وقال ابن هشام: هو غلط، وقائله امرؤ القيس بن عابس الصحابي، وقيل لعمرو بن معديكرب، والأثمد كأحمد، وقد تضم ميمه، وقد يروى بكسرها: اسم موضع، والعائر اسم جامد يطلق على قذى تدمع منه العين، وعلى الرمد، وعلى كل ما أعل العين، وفي الشعر ثلاث التفاتات، لكن الأول على مذهب السكاكي فقط: وهو أنه كان الظاهر التعبد بطريق التكلم فالتفت إلى الخطاب وذلك في البيت الأول.
والثاني: عدوله عن الخطاب إلى الغيبة في الثاني. والثالث: التفاته عن الغيبة إلى التكلم في الثالث. والجمهور يجعلون الأول من قبيل التجريد. وأبو الأسود: كنية صاحب الشاعر الذي يرثيه، وقيل هو المخبر واسمه ظالم بن عمرو وهو عم امرئ القيس. وقيل أبى مضاف لياء المتكلم والأسود صفته، ويروى: عن بنى الأسود.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت لم قدمت العبادة على الاستعانة... الخ». قال أحمد: معتقد أهل السنة أن العبد لا يستوجب على ربه جزاء- تعالى اللَّه عن ذلك- والثواب عندنا- من الاعانة في الدنيا على العبادة ومن صنوف النعيم في الآخرة- ليس بواجب على اللَّه تعالى، بل فضل منه وإحسان. وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسلام قال:
لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته»
مضافا إلى دليل العقل المحيل أن يجب على اللَّه تعالى شيء، لكن قام الدليل عقلا وشرعا على أنه تعالى لا يجب عليه شيء، فقد قام عقلا وشرعا على أن خبره تعالى صدق ووعده حق، أى يجب عقلا أن يقع، فاما أن يكون الزمخشري تسامح في إطلاق الاستيجاب وأراد وجوب صدق الخبر، وإما أن يكون أخرجه على قواعد البدعية في اعتقاد وجوب الخير على اللَّه تعالى وإن لم يكن وعد.
14
ليستوجبوا الإجابة إليها. فإن قلت: لم أطلقت الاستعانة؟ قلت: ليتناول كل مستعان فيه، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله: اهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض. وقرأ ابن حبيش: نستعين، بكسر النون.
[سورة الفاتحة (١) : آية ٦]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)
هدى أصله أن يتعدى باللام أو بإلى، كقوله تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فعومل معاملة- اختار- في قوله تعالى: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ).
ومعنى طلب الهداية- وهم مهتدون- طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً)، (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا). وعن على وأبىّ رضى اللَّه عنهما: اهدنا ثبتنا، وصيغة الأمر والدعاء واحدة، لأنّ كل واحد منهما طلب، وإنما يتفاوتان في الرتبة.
وقرأ عبد اللَّه: أرشدنا.
(السراط) الجادّة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه، كما سمى: لقما، لأنه يلتقمهم. والصراط من قلب السين صاداً لأجل الطاء، كقوله: مصيطر، في مسيطر، وقد تشم الصاد صوت الزاى، وقرئ بهنّ جميعا، وفصاحهنّ إخلاص الصاد، وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام، ويجمع سرطا، نحو كتاب وكتب، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل، والمراد طريق الحق وهو ملة الإسلام.
[سورة الفاتحة (١) : آية ٧]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الصراط المستقيم، وهو في حكم تكرير العامل، كأنه قيل: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، كما قال: (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) لمن آمن منهم. فإن قلت: ما فائدة البدل؟ وهلا قيل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت:
فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره:
15
صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أوّلا، ومفصلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيراً وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع. والذين أنعمت عليهم: هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام «١» لأنّ من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه. وعن ابن عباس: هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا، وقيل هم الأنبياء. وقرأ ابن مسعود: (صراط من أنعمت عليهم) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى أنّ المنعم عليهم: هم الذين سلموا من غضب اللَّه والضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب اللَّه والضلال. فإن قلت: كيف صح أن يقع (غير) صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لا توقيت فيه كقوله:
وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنى «٢»
(١). قال محمود رحمه اللَّه: وأطلق الانعام ليشمل كل إنعام. قال أحمد رحمه اللَّه: إن إطلاق الانعام يفيد الشمول كقوله:
إن إطلاق الاستعانة يتناول كل مستعان فيه، وليس بمسلم فان الفعل لا عموم لمصدره، والتحقيق أن الإطلاق إنما يقتضى إبهاما وشيوعا، والنفس إلى المبهم أشوق منها إلى المقيد لتعلق الأمل مع الإبهام لكل نعمة تخطر بالبال
(٢).
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمة قلت لا يعنيني
غضبان ممتلئ على إهابه إنى وربك سخطه يرضيني
لرجل من بنى سلول، ويسبني صفة للئيم وإن قرن بأل، لأنه ليس المراد لئيما بعينه بدليل مقام التمدح فأل فيه للعهد الذهني لا الخارجي، ومدخولها في المعنى كالنكرة، فجاز وصفه بالجملة وإن كانت لا يوصف بها إلا النكرة، وهذا يفيد اتصافه بالسب دائما لا حال المرور فقط وهو المراد، وكان الظاهر أن يقول: فأمضى ثم أقول، ولكن أتى بالماضي دلالة على تحقق ذلك منه، وروى: فأعف ثم أقول: أى أكف عنه وعن مكافأته، ويحتمل أنه أراد صررت على صبغه الماضي بالمضارع لحكايه الحال، هذا والظاهر أن الجملة حالية، أى: أمر على اللئيم حال كونه يسبني وأنا أسمع فأعرض عنه وأقول إنه لا يقصدني بذلك السب الذي سمعته منه، وليس المراد وصفه بالسب الدائم، لأنه لا يظهر مع تخصيص السب بوقوعه على ضمير المار، على أنه يمكن جعل الحال لازمة فتفيد الدوام. هو غضبان ممتلئ جلده غضبا على لكن لا أبالى بذلك، فانى وحق ربك غضبه يرضيني، فليدم عليه وليزدد منه، والإهاب: الجلد قبل دبغه بل وقبل سلخه كما هنا.
16
ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في- غير- إذاً الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف، وقرئ بالنصب على الحال وهي قراءة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير. وذو الحال الضمير في عليهم، والعامل أنعمت، وقيل المغضوب عليهم: هم اليهود لقوله عز وجل: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ). والضالون:
هم النصارى لقوله تعالى: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ). فإن قلت: ما معنى غضب اللَّه؟ قلت: هو إرادة الانتقام «١» من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده- نعوذ باللَّه من غضبه، ونسأله رضاه ورحمته. فإن قلت: أى فرق بين (عليهم) الأولى و (عليهم) الثانية؟ قلت: الأولى محلها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على الفاعلية.
فإن قلت: لم دخلت لَا في وَلَا الضَّالِّينَ؟ قلت: لما في- غير- من معنى النفي، كأنه قيل:
لا المغضوب عليهم ولا الضالين. وتقول: أنا زيداً غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيداً مثل ضارب لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب. وعن عمر وعلى رضى اللَّه عنهما أنهما قرءا: وغير الضالين. وقرأ أيوب السختياني: ولا الضألين- بالهمز، كما قرأ عمرو بن عبيد: (ولا جأن) وهذه لغة من جدّ في الهرب من التقاء الساكنين. ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأبة، ودأبة.
آمين: صوت سمى به الفعل الذي هو استجب، كما أنّ «رويد، وحيهل، وهلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل، وأسرع، وأقبل». وعن ابن عباس: سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن معنى آمين «٢» فقال: «افعل» وفيه لغتان: مدّ ألفه، وقصرها. قال:
وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْداً قالَ آمِينَا «٣»
(١). قال محمود رحمه اللَّه: «ومعنى الغضب من اللَّه تعالى إرادة الانتقام... الخ» قال أحمد: أدرج في هذا ما يقتضى عنده وجوب وعيد العصاة، وليس مذهب أهل السنة، بل الأمر عندهم في المؤمن العاصي موكول إلى المشيئة: فمنهم من أراد اللَّه تعالى عقوبته والانتقام منه فيقع ذلك لا محالة، ومنهم من أراد العفو عنه وإثابته فضلا منه تعالى، على أن المغضوب عليهم والضالين واقعان على الكفار، ووعيدهم واقع لا محالة ومراد، واللَّه الموفق. أقول: قال الزمخشري رحمه اللَّه: الغضب من اللَّه تعالى إرادة الانتقام من العصاة الخ لا يدل على ما فسره، فان وجوب وعيد العصاة لا يعلم منه.
والغضب من اللَّه عند أهل السنة والمعتزلة: عبارة عما ذكره الزمخشري رحمه اللَّه، إلا أن عند أهل السنة أن اللَّه تعالى إن شاء عذب صاحب الكبيرة وإن شاء غفر له، وعند المعتزلة وجوب عذابه فعند المعتزلة ظاهر أن الغضب عبارة عن إرادة الانتقام، وعند أهل السنة: إن غفر له فلا غضب، وإن لم يغفر له فغضبه عبارة عما ذكره.
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية أبى صالح عنه بإسناد واه
(٣).
يا رب إنك ذو من ومغفرة ببت بعافية ليل المحبينا
الذاكرين الهوى من بعد ما رقدوا الساقطين على الأيدى المكبينا
يا رب لا تسلبنى حبها أبداً ويرحم اللَّه عبداً قال آمينا
لقيس بن معاذ الملوح مجنون لبلى العامرية، اشتد وجده بها، فأخذه أبوه إلى الكعبة ليدعو اللَّه عسى أن يشفيه، فأخذ بحلقة بابها وقال ذلك. والدعاء لليل المحبين مجاز عقلى، وهو في الحقيقة لهم، وبين أن رقادهم ليس على المعتاد بقوله: الساقطين على الأيدى، المكيين على الوجوه حيرة وسكرة، ثم دعا بأن يديم اللَّه حبها، ودعا لمن يؤمن على دعائه بأن يقول: آمين، وهو اسم فعل، أى استجب يا اللَّه هذا الدعاء، وهو بالمد، ويجوز قصره.
17
وقال:
أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ ما بَيْننَا بُعْدَا «١»
وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لقني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب «٢» وقال: إنه كالختم على الكتاب»، وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف.
وعن الحسن: لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبى حنيفة رحمه اللَّه مثله، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها. وروى الإخفاء عبد اللَّه بن مغفل وأنس عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «٣». وعند الشافعي يجهر بها. وعن وائل بن حجر أنّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا قرأ: ولا الضالين، قال آمين ورفع بها صوته «٤». وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم»
(١).
تباعد عنى فطحل إذ دعوته أمين فزاد اللَّه ما بيننا بعدا
لجبير كان قد سأل فطحلا الأسدى فأعرض عنه فدعا عليه، ويروى تباعد منى فطحل وأبى، وأمين: بقصر الهمزة على اللغة العربية الأصلية، وأما بالمد فقيل أعجمي لأنه ليس في لغة العرب فاعيل. وقيل: أصله بالقصر فأشبعت همزته: اسم فعل بمعنى استجب، ورتبته بعد ما بعده. قدمه حرصا على طلب الاجابة ووقوع الدعاء مجابا من أول وهلة. والفاء للسببية عما قبلها، أى: حيثما تباعد عنى فزد ما بيننا بعداً يا اللَّه، وبعداً: يجوز أن يكون تمييزاً، وأن يكون منقولا.
(٢). لم أجده هكذا. وفي الدعاء لابن أبى شيبة من رواية أبى ميسرة أحد كبار التابعين قال: «أقرأ جبريل عليه السلام النبي صلى اللَّه عليه وسلم فاتحة الكتاب فلما قال وَلَا الضَّالِّينَ قال له قل: آمين. فقال آمين» قلت وعند أبى داود عن أبى زهير قال «آمين مثل الطابع على الصحيفة» وروى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا «آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين» وهو في الدعاء للطبراني [.....]
(٣). لم أجده عن واحد منهما
(٤). أخرجه أبو داود من رواية حجر بن عنبسة عنه. وإسناده حسن
(٥). قوله: وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: اعلم أن صاحب الكتاب التزم أن يذكر آخر كل سورة حديثا لبيان فضلها، ولكن ليست كلها صحيحة فقد قال الجلال السيوطي: اعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضلها:
الفاتحة، والزهراوان، والأنعام، والسبع الطوال مجملا، والكهف، ويس، والدخان، والملك، والزلزلة، والنصر، والكافرون. والإخلاص، والمعوذتان. وما عداها لم يصح فيه شيء اه. والزهراوان: البقرة، وآل عمران.
والسبع الطوال: من أول البقرة إلى آخر براءة- بعدها مع الأنفال سورة واحدة- قاله الأجهورى على البيقونية في مصطلح الحديث. (ع)
18
Icon