تفسير سورة التكاثر

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة التكاثر
مقدمة وتمهيد
١- سورة " التكاثر " من السور المكية، وسميت في بعض المصاحف سورة " ألهاكم "، وكان بعض الصحابة يسمونها " المَقبُرة ".
قال القرطبي : وهي مكية في قول المفسرين. وروى البخاري أنها مدنية، وهي ثماني آيات.
وقد ذكروا في سبب نزولها روايات منها : ما روي عن ابن عباس أنها نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف، وبني سهم، تكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام، فقال كل حي منهم : نحن أكثر سيدا، وأعز نفرا.. فنزلت هذه السورة.. ( ١ ).
٢- ومن أغراض السورة الكريمة : النهي عن التفاخر والتكاثر، والحض على التزود بالعمل الصالح، وعلى ما ينجي من العذاب، والتأكيد على أن يوم القيامة حق، وعلى أن الحساب حق، وعلى أن الجزاء حق..
١ - راجع تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ١٦٨..

التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة التكاثر (١٠٢) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)
وقوله- سبحانه-: أَلْهاكُمُ من اللهو وهو الغفلة عن مواطن الخير، والانشغال عما هو نافع.
والتكاثر: التبارى والتباهي بالكثرة في شيء مرغوب فيه كالمال والجاه...
أى: شغلكم- أيها الناس- التباهي والتفاخر بكثرة الأموال والأولاد والعشيرة، كما ألهاكم حب الدنيا عن القيام بما كلفناكم به...
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أى: بقيتم على هذه الحال، حتى أتاكم الموت، ودفنتم في قبوركم، وانصرف عنكم أحب الناس إليكم، وبقيتم وحدكم.
والخطاب عام لكل عاقل، ويدخل فيه المشركون والفاسقون، الذين آثروا الدنيا على الآخرة دخولا أوليا.
فالمراد بزيارة المقابر: انتهاء الآجال، والدفن في القبور بعد الموت. وعبر- سبحانه- عن ذلك بالزيارة. لأن الميت يأتى الى القبر كالزائر له، ثم بعد ذلك يخرج منه يوم البعث والنشور، للحساب والجزاء، فوجوده في القبر إنما هو وجود مؤقت بوقت يعلمه الله- تعالى-.
494
وقد روى أن أعرابيا عند ما سمع هذه الآية قال: بعثوا ورب الكعبة، فقيل له كيف ذلك؟
فقال: لأن الزائر لا بد أن يرتحل.
وقد نهى النبي ﷺ عن التهالك على حطام الدنيا، في أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يقول:
«ألهاكم التكاثر قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».
وقوله- تعالى-: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ردع وزجر عن الانشغال عن طاعة الله، وعن التكاثر بالأموال والأولاد.
وكرر لفظ «كلا» ثلاث مرات في هذه السورة، لتأكيد هذا الزجر والردع عن كل ما يشغل الإنسان عن وجوه الخير والبر.
والتعبير بقوله: سَوْفَ لزيادة الزجر، ولتحقيق حصول العلم، وحذف مفعول تَعْلَمُونَ لظهوره من المقام. أى: اتركوا التشاغل بالدنيا والتفاخر بالأموال، فإنكم إن بقيتم على ذلك بدون توبة صادقة، فسوف تعرفون سوء عاقبة ذلك معرفة لا يخامرها شك، ولا يفارقها ريب.
وجملة ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ مؤكدة تأكيدا لفظيا للجملة التي قبلها، وهذا التأكيد المقصود منه المبالغة في الردع والزجر والتحذير من التكاثر والتفاخر...
ثم أضاف- سبحانه- إلى كل ما سبق من تحذيرات، زواجر أخرى فقال: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ...
وجواب «لو» محذوف لقصد التهويل، و «اليقين» فعيل بمعنى مفعول، وعلم اليقين هو العلم الجازم المطابق للواقع الذي لا شك فيه. والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أو من إضافة العام الى الخاص.
أى: لو تعلمون- علما موثوقا به- سوء عاقبة انشغالكم عن ذكر الله- تعالى- وتكاثركم وتفاخركم بالأموال والأولاد... لشغلكم هذا العلم اليقيني عما أنتم عليه من التشاغل والتكاثر.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: الزيادة في ردعهم، لأنه من عادة الغافلين المكابرين. أنك إذا ذكرتهم بالحق وبالرشاد... زعموا أنهم ليسوا في حاجة إلى هذا الإرشاد، لأنهم أهل علم ومعرفة بالعواقب، فكانت هذه الآية الكريمة بمثابة تنبيههم بأنهم ليسوا على شيء من العلم
495
الصحيح، لأنهم لو كانوا كذلك لما تفاخروا، ولما تكاثروا.
وقوله- سبحانه-: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب قسم مقدر، قصد به تأكيد الوعيد الشديد في التهديد، وبيان أن المهدد به رؤية الجحيم في الآخرة، أى: والله لترون الجحيم في الآخرة.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى تأكيدا قويا فقال: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أى: ثم لترون الجحيم رؤية هي ذات اليقين ونفسه وعينه، وذلك بأن تشاهدوها مشاهدة حقيقية، بحيث لا يلتبس عليكم أمرها.
وقد قالوا إن مراتب العلم ثلاثة: علم اليقين وهو ما كان ناتجا عن الأدلة والبراهين.
وعين اليقين: وهو ما كان عن مشاهدة وانكشاف.
وحق اليقين: وهو ما كان عن ملابسة ومخالطة.
ومثال ذلك أن تعلم بالأدلة أن الكعبة موجودة، فذلك علم اليقين، فإذا رأيتها بعينيك فذلك عين اليقين، فإذا ما دخلت في جوفها فذلك حق اليقين...
فأنت ترى أنه- سبحانه- قد حذر الناس من الاشتغال عن طاعته، ومن التباهي والتكاثر، بأبلغ أساليب التأكيد وأقواها.
ثم ختم- سبحانه- السورة بقوله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، والمراد بالنعيم هنا: ما يتنعم به الإنسان خلال حياته الدنيوية من مال وولد، ومن طعام وشراب، ومن متعة وشهوة... من النعومة التي هي ضد الخشونة.
أى: ثم إنكم بعد ذلك- أيها الناس- والله لتسألن يوم القيامة عن ألوان النعم التي منحكم الله- تعالى- إياها، فمن أدى ما يجب عليه نحوها من شكر الله- تعالى- عليها كان من السعداء، ومن جحدها وغمطها وشغلته عن طاعة ربه، وتباهي وتفاخر بها... كان من الأشقياء، كما قال- تعالى-: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ.
فالمراد بالسؤال إنما هو سؤال التكريم والتبشير للمؤمنين الشاكرين، وسؤال الإهانة والتوبيخ للفاسقين الجاحدين.
والآية الكريمة دعوة حارة للناس، إلى شكر نعمه- تعالى- واستعمالها فيما خلقت له.
قال القرطبي ما ملخصه: والسؤال يكون للمؤمن والكافر... والجمع بين الأخبار التي
496
وردت في ذلك: أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكافر توبيخ، لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه قد شكر، وهذا النعيم في كل نعمة... «١».
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من عباده الشاكرين...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
(١) راجع تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ١٧٧.
497

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة العصر
مقدمة وتمهيد
١- سورة «العصر» وتسمى سورة «والعصر» من السور المكية عند جمهور المفسرين، وكان نزولها بعد سورة «الانشراح» وقبل سورة «العاديات» فهي السورة الثالثة عشرة في ترتيب النزول.
وقيل هي مدنية، والمعول عليه الأول، لأنه المنقول عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما، وعدد آياتها ثلاث آيات.
٢- وقد اشتملت على بيان من هم أهل الخسران، ومن هم أهل السعادة.
قال الآلوسى: وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت، فقد روى عن الشافعى أنه قال: لو لم ينزل من القرآن غير هذه السورة لكفت الناس، لأنها شملت جميع علوم القرآن.
وأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب عن أبى حذيفة- وكانت له صحبة- أنه قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله ﷺ إذا التقيا لم يتفرقا، حتى يقرأ أحدهما على الآخر، سورة «والعصر» ثم يسلم أحدهما على الآخر... أى: عند المفارقة «١».
(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٢٢٠.
499
Icon