تفسير سورة النصر

بيان المعاني
تفسير سورة سورة النصر من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

وآخر سورة الأحزاب المارة فراجعها تعلم، وأنت عالم، بأن ما بين الدّفتين من القرآن العظيم هو تمام كلام الله الذي أنزله على حضرة رسوله بواسطة الأمين جبريل لم ينقص منه حرف واحد ولم يزد عليه حرف، وإن ما نقل عن بعض الكذبة مدسوس عليهم ممن هو أكذب منهم. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أجمعين.
(تفسير سورة النّصر عدد ٢٨- ١١٤ و ١١٠)
نزلت بالمدينة بعد التوبة في منى في حجة الوداع السّنة العاشرة من الهجرة.
وتعد مدنية للسبب المتقدم في مثلها. وهي آخر سورة نزلت من القرآن على أصح الأقوال وأشهر الرّوايات. وآخر آية نزلت منه آية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) كما أشرنا بذلك في المقدمة، وفي الآية الرّابعة من المائدة والآية ١٨٢ من البقرة وألمعنا إليه آنفا وذكرنا أيضا أن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا ولا يخر؟؟؟ كونه مدنيا نزوله في غير المدينة، كما أن كلّ ما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا؟؟؟ عن كونه مكيا نزوله بغيرها، والعبرة بالهجرة لا بمواقع النزول. وهي؟؟؟ وسبع عشرة كلمة وسبعون حرفا. لا ناسخ ولا منسوخ فيها. وتسمى سورة الفتح أيضا وبيّنا السّور المبدوءة بما بدئت به في سورة الانفطار ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به، وبيّنا السّور الموافقة لها في عدد الآي في سورة الكوثر. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال تعالى
«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» (١) أي إذا جاء المدد الكوفي والتأييد القدسي بالنصر العام والفتح الشّامل المطلق بعد فتح مكة وما وراءها من البلدان والقرى والمدن لا تقييد أو تخصيص بمكان دون مكان ولا بشيء دون شيء وهو فتح عام مادة ومعنى «وَرَأَيْتَ» يا أكمل الرّسل «النَّاسَ» على خلاف ألوانهم وأجناسهم ومللهم ونحلهم «يَدْخُلُونَ» طوعا ورضاءا واختيارا دون تكليف ولا إكراه «فِي دِينِ اللَّهِ» لسلوك طريقه المستقيم وتوحيد حضرته المقدسة وتصديق رسوله
517
وكتابه اللّذين جعلهما خاتمة لرسله وكتبه ويقبلون على الاعتراف بذلك كله «أَفْواجاً» (١) جماعات كثيرة وزمرا وإرسال القبيلة بأسرها والقوم بأجمعهم بحيث صاروا يتهافتون عن طيب نفس ورضاء خاطر ورغبة بهذا الدّين الحنيف رغبة نفس واحدة وصار استعدادهم المتشوق بتعاليم الإسلام ودعائم الإيمان اختياريا وصار بينك وبينهم روابط قوية مستمدة من تقوية المناسبات الودية الخالصة بعد أن كانوا على خلاف ذلك من التردد بقبول الإيمان والكراهية لاتباعك والنّقمة من تعاليمك وكان يؤمن بك الواحد والاثنين بادىء الرّأي غير متمكن الإيمان بداهة قبل أن يعرفوا ماهيته وما يؤول الأمر فيه إليه وما هي عاقبته كالقادم على ما لا يعرفه فإنه يقدم رجلا ويوخر أخرى، إذ كانوا مستضعفين لا يقدرون أن يجاهروا بإقامة الدّين. أما الآن فقد ظهر نوره في الآفاق وعرفت نتائجه الرّائعة لدى الخاص والعام وغرزت محبته بالقلوب السّليمة وإذ تم لك يا سيد الأحرار والعبيد هذا الأمر على ما تريد وفق إرادة ربك الأزلية «فَسَبِّحْ» يا حبيبي «بِحَمْدِ رَبِّكَ» الذي رباك وأعلى كلمتك وبلغك مناك شكرا على هذا العطاء الجزيل من فيضه الهطال وحمدا على إفضاله الجليل بإظهار كمالاته من حتى اليقين إلى عين اليقين «وَاسْتَغْفِرُوهُ» تواضعا وهضما للنفس وشرا لما كان هو خلاف الأولى «إِنَّهُ» جل جلاله وعز نواله «كانَ» من الأزل ولم يزل في الحال والمستقبل «تَوَّاباً» (٣) على عباده الّذين هم في حيز قبوله منذ قالوا بلى كثير الغفران لهم، جليل المنّ عليهم، عظيم القبول، يشملهم بعفوه، ويغمرهم بعطفه، وينشر عليهم رحمته، ويكثر عليهم كرمه، وبلطف بهم في كلّ أمورهم المادية والمعنوية، لأن من عادته قبول من يرجع إليه بعد أن زاغ منهج صوابه، والعفو عنه وإدخاله في جملة أحبابه. هذا ولما كانت هذه السّورة الكريمة مشيرة إلى كمال الأمر لحضرة الرّسول وتمام الدّعوة التي خلق لأجلها قرأها على الأصحاب فاستبشر البعض منهم بما فيها من السّرور الذي ما بعده سرور، وبكى ابن عباس رضي الله عنه فقال له صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك (وهو قد عرف المرمى من بكائه) قال نعيت إليك نفسك، فقال عليه السّلام لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا، أي لما ألقي في روعه من مغزى هذه السّورة، وعرفه حق معرفته.
518
وروي أنها لما نزلت خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله، فعلم أبوبكر رضي الله عنه فقال فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. وعنه عليه السّلام أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال يا بنتاه نعيت إليّ نفسي، فبكت فقال لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا بي فضحكت.
وتسمى هذه السّورة سورة التوديع لأنها نزلت في حجة الوداع وآذنت بوداع المنزل عليه ووداع الوحي المقدس إذ لم ينزل بعدها سوى الآيتين المذكورتين آنفا.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت ما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت إذا جاء إلخ إلّا ويقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
وقال ابن عباس لما نزلت هذه السّورة علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه، أي قبل أن يبكي ويقول ما قال، ولهذا سأله عن سبب بكائه عند ما تلاها صلّى الله عليه وسلم. وقال الحسن علم أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح والقربة ليختم بالزيادة من العمل الصّالح أجله، وإنما أمر بالتسبيح ليشتغل في أمور الآخرة ويصرف نفسه إليها، لأن الله تعالى كفاه مؤنة الدّنيا والحرب والقتال، لأن النّاس انهالوا على الإسلام فدخلوا فيه زرافات ووحدانا متسابقين عليه بدعوة عامة من الله تعالى لا تحتاج لترغيب ولا ترهيب وقد تعبده ربه بالاستغفار ليقتدي به النّاس وليعلموا أن حضرة الرّسول مع عصمته وشدة اجتهاده على عبادة ربه وإخباره بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أول سورة الفتح المارة ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف بمن هو دونه. واعلم أنه عليه الصّلاة والسّلام إنما كان يستغفر ربه عن ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى لا لذنب صدر منه يشابه ذنوبنا حاشاء من ذلك وقد بينا ما يتعلق بهذا أول سورة الفتح المارة فراجعها هذا وما ذكره بعض المفسرين بأن المراد بهذا الفتح بهذه السّورة فتح مكة قد فنّدناه هناك أيضا وإنما هو الفتح العام لحضرة الرّسول ومن بعده من أصحابه وأتباعه كما أشرنا إليه أيضا في سورة الفتح، وهذه السّورة سورة النّصر إنما تشير لهذا ولإتمام مهمّة الرسول من البعثة التي شرّفه الله بها وإلى دعوته لحظيرة القدس لتتغذّى روحه الطاهرة في جنّات خصصت لها وإلى انتهاء مدة مكثه في الأرض قال:
519
وذلك أنه بفقد حضرة الرّسول ينقطع الوحي فيجعل نقصان في الأرض حال ضمه فيها. هذا وبعد نزول هذه السّورة والآيتين المذكورتين من المائدة والبقرة ختم الوحي المقدس ولم يعش حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بعدها سوى واحد وعشرين يوما، وقيل أحد عشر يوما، وقيل سبعة أيّام، وعلى الأوّل المعول لترادف الأقوال فيه، وبعد أن أدّى رسالة ربه كما أراده منه ختم أجله المقدر له، ثم لاقى وجه ربه عز وجل برحلته إلى حظيرة قدسه يوم الاثنين في ١٢ ربيع الأوّل سنة ٦٤ من ولادته و ٢٤ من البعثة والحادية عشرة من الهجرة ووقع ما وقع بعد وفاته، ثم اتفقت الأصحاب على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وكان ذلك، ومن أراد الوقوف على تفصيل ما وقع بعد وفاته عليه الصّلاة والسّلام فليراجع السّير ففيها كفاية، وقد رثاه بعض الأصحاب ببعض ما اختصه به من الصّفات الكريمة وما كان عليه من أخلاق عالية وأبدوا تأثرهم على فراقه مثبتة في السّير أيضا فمما قاله حسان رضي الله عنه وأرضاه:
كنت السّواد لناظري... فعمى عليك النّاظر
من شاء بعدك فليمت... فعليك كنت أحاذر
وقالت فاطمة رضي الله عنها حينما وقفت على قبره الشّريف:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها... وغاب مذغبت عنا الوحي والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا... لما نعيت وحالت دونك الكتب
وقالت أيضا:
ماذا على من شم تربة أحمد... أن لا يشم مدى الدّهور غواليا
صبت عليّ مصائب لو أنها... صبّت على الأيّام صرن لياليا
وقال علي رضي الله عنه بعد أن علم بوفاة فاطمة بعد أبيها:
أرى علل الدّنيا عليّ كثيرة... وصاحبها حتى الممات عليل
وإن افتقادي فاطما بعد أحمد... دليل على ألا يدوم خليل
هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
520
(الخاتمة نسأل الله حسنها لديه)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أحمدك يا ولي العطاء والإرشاد، وهادي الغواة، إلى سنن الرّشاد، يا بارى البرية، ومالك الرّقاب، يا من عليك التوكل، وإليك المرجع والمآب، يا مغيث كلّ حائر وملهوف، ومجير كلّ هائل مخوف، حمدا يوافي نعمك، ويكافي مزيدك، وأصلي وأسلم على النّور الموصوف بكل كمال، وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم المال. وبعد فأسألك يا إله كلّ موجود، ويا مغيث كل طائع، وعاص في الوجود، أن تأخذ بيدي لألوذ برحمتك وحرمك المأمون من غرائر وغوافل وبغتات ريب المنون، وألتجئ إلى عصمة حرزك الحصين، وآوي إلى ركنك المصون المتين، لتدرّ عليّ من خزائن برك وإحسانك، ومن مكامن خزائنك، وامتنانك، وتمن علي بخير ما جرى به القلم من خير الدّين والدّنيا ويوم تزل به القدم، وتعيذني من فتن العابثين وشر الأشرار، ومن غرور الغرور والاغترار، وتعصمني من الرّكون لزخارف الدّنيا وشهواتها، وتحمني يا رب من كبواتها، وتعينني بعنايتك، وترعني برعايتك، على كلّ ظالم ومن كلّ غاشم، وتفيض علي من أنوار ربوبيتك، وتغشني برحمتك ورأفتك، وتقيني من العوائق وتخلصني من العلائق، وتهذب نفسي من دنس الأوزار ورجس الأخلاق والآداب والأطوار، وتنوّر قلبي بما يمحوا ظلمة الذنوب ويطرد ما يحوك فيه من خواطر العيوب، وتلين قساوته، وتطهره من الرّين وتدفع عنه صدأ الميل إلى المين، وتثبتني على منهج الحق والهدى والرّشاد، وتسلك بي سبل البر والتقى والسّداد، وخصّ مرامي برضاك ولطفك، واجعل همتي وهواي فيما ينشر علي عفوك وعطفك لأستميح لقاءك يوم اتقائك، وأتشرف بنور قدسك وبهائك، وأحصر خواطري فيما فيه رضاك، وأجعل أشرف أيامي يوم لقاك مع الّذين أنعمت عليهم من الرّسل والأنبياء، والّذين أكرمتهم من الصّديقين والشّهداء، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
وبعد تمّ بفضل الله ما أردت جمعه من هذا التفسير المبارك يوم الأربعاء في ١ رجب سنة ١٣٥٨ الموافق ل ١٥ آب سنة ١٩٣٩، وكان الفراغ منه بمثل اليوم
521
والشّهر الذي بدأته به وهو من الاتفاقات الغريبة، والشّكر لله أولا وآخرا.
ربنا تقبل منا ما قدمناه من العمل، ولا تؤاخذنا على ما وقع منا من الزلل، واغفر لنا ما هفى به الرّأي أو زلّ به القلم وأخطأ به الفكر، وانفع عبادك به كما وفقتنا إليه، واجعله خالصا لوجهك الكريم، وبوّئنا بكرمك وجودك جنّات النعيم، واغفر لنا ولوالدينا وأحسن إليهما وإلينا، ومتعنا اللهم بالعافية في هذه الدّنيا ما أحييتنا، والعفو بالآخرة عما سلف منا، ووفقنا دائما لما تحبه وترضاه في القول والعمل والنّية، واحشرنا في زمرة سيدنا سيد البرية، سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله بكرة وعشية. ثم أقول تحدثا بنعمة الله لا فخرا ولا ضجرا يأني قد قاسيت في جمع هذا السّفر الكريم والكتاب الجليل العظيم أنعابا جمة ومشاق مهمة، ولكن بفضله ومنّه قد استعذبت كلّ مرارة وجدتها خلال تحريره، وكلّ شدة قاومتها إبان تسطيره، ويرحم الله ابن الفارض إذ يقول:
إذا تم أمر بدا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم
وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم عليّ بما يقضي الهوى سهل
لأني وايم الله كنت كثيرا ما أتوضا في الوقت الواحد خمس مرات لطرو الانطلاق، لأني آليت على نفسي أن لا أخط خطا منه إلّا على وضوء كامل، وبعد صلاة ركعتين على الأقل، وكثيرا ما كنت أنام والقلم بيدي، وكم مرّة تمت مهموما لعدم وقوفي على المعنى المراد من بعض الآيات والأحاديث، فأراه بفضل الله في منامي، وأفيق فرحا مسرورا بما منّ الله عليّ، فأقوم فأتوضا وأراجعه فأجده مسطورا في بعض التفاسير وشروح الأحاديث كما رأيته، فأثبته حالا بمحله، هذه حالتي في اللّيل، وأما في النّهار فكثيرا ما يؤتى لي صباحا بالشاي فأغفل عنه فيبدل لي المرة بعد الأخرى فأشربه باردا، وكذلك حالتي في الشّراب والطّعام، وذلك لأني أخاف الذهول عن بعض ما تصورته، أو نسيان ما تخيّلته من المعاني المتعلقة بتأويل بعض الألفاظ، أو غياب ما وقر في قلبي مما أريده من التفسير، أو ما أريد تحريره على آية مضى البحث فيها، أو مراجعة بعض الآيات التي مرّ تفسيرها لتعلقها في معنى البحث الذي أنا فيه، وإبقاء الملاحظة عليها فيما حضر من المعنى الذي يناسبها حتى لا أترك آية لها مساس بمثلها إلّا أشرت إليها وبيّنات عددها
522
ورمزت إلى لزوم مراجعتها، حتى لا أضطر إلى التكرار الذي تباعدت عنه جهد المستطاع خشية الإطالة، ولذلك أثبت عدد الآيات في تفسيري هذا حتى إذا ماروت بما يتعلق بآية أشرت إليها بعددها وسورتها والجزء التي هي فيه كي يسهل على القاري مراجعتها دون كلفة، وكذلك الآيات التي لها نظائر في القرآن أشرت إلى نظائرها على ذلك المنوال، وفي كلّ هذا أراني منشرح الصّدر، طيب النفس، شديد الرّغبة، لا تعتريني ملالة ولا ضجر ولا انقباض ولا انكماش، لأني كلما أتيت شيئا مهما كان تعبي فيه أعقبه سرور كثير، ورحم الله شيخنا الشيخ حسين الأزهري إذ كان يقول لنا أثناء الدّرس: إن طالب العلم إذا وقف على مسألة لم يفهمها قبل، يحصل له انبساط عظيم وفرح جزيل فيقول أين أبناء الملوك من هذه اللّذة، وحقيقة والله، وكم مرة قلتها وأنا منشرح الصّدر متسع الخاطر، ولهذه اللّذة تزاحم المؤمنون على تفسير كلام الله الذي لا يمل رائده ولا يأم حتى صارت التفاسير لا تكاد تحصر عدا، لأن من يمعن نظره وينعم ناظره لا يستطيع إهمال ما يظهر له من إضاءة قلبه، وقد دوّنوا فيه ما يدهش لب العاقل ويذهل عقل اللّبيب، ولكن النّفوس لم تشبع منه، كما أنها لا تمل من قراءة القرآن مهما كررته، ورحم الله الأبوصيري إذ يقول:
فلا تعد ولا تحصى عجائبها ولا تسام على الإكثار بالأم
ويعجبني ما قال العماد الكاتب ما ألف أحد كتابا إلّا قال في غده لو قدمت أو أخرت بما يدل على عجز عموم البشر والتفرد بالكمال لخالقهم. لهذا فإني أتخيل بعد طبع هذا السّفر البديع الصّنع الذي لم يطرقه قلبي طارق عكوف العلماء على ما جريت عليه وإظهار تفاسير جمة من نوعه إن شاء الله تكون أكثر نفعا من غيرها، إذ لا ترى سابقا إلّا وله لا حقا يهذّب ما صعب منه، وينتقد ما ملح فيه، فيعذب مرة، ويزيد كرة، ويثبت ما لم نقف عليه من تاريخ بعض السّور والآيات، وما لم نعثر عليه من الوقائع والحوادث والغايات وأسباب النّزول حتى يبلغ الدّرجة القصوى في هذا الفنّ إن شاء الله. وقد ألمعنا إلى بعض هذا وما يحتاجه القاري في خاتمة المطالب التي أثبتناها في الجزء الأوّل،
523
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وكان تسويده خلال ثلاث سنين اعتبارا من ١ رجب سنة ١٣٥٩ الموافق ٥ آب سنة ١٩٤٠ وترتيبه قبل الشّروع فيه على الكيفية المبينة في المقدمة وتنظيم مدارجه والآيات المستثنيات من السّور على الوجه المذكور فيه، واختيار الكتاب التي صمت على الأخذ منها المبينة في المقدمة أيضا ومطالعة الأبحاث اللازمة لدرجها فيه سنة كاملة وقضيت ثلاث سنين في تبييضه وتدقيقه ومراجعة ما لا بد من مراجعته لتصليح مما زاغت به الأقلام، أو زلت به الأفهام، أو اشتبه به الفكر، أو نسيه القلب، وأخطأ به الرّأي، وتردد به الفؤاد، واعتمدت فيه على الله الجواد، مستمدا من روحانية سيد أنبيائه عليه الصّلاة والسّلام وأحاديثه الصّحيحة، ومراجعة العلماء الأعلام. وعلى هذه الصّورة تم بتوفاق الله وتيسيره وعونه، وفضله وتقديره، فبلغ ثلاثة أجزاء، الأوّل والثاني يشملان على ما نزل في مكة، والثالث على ما نزل في المدينة، وقد أثبت آخر الأولين عدد السّور المفسرة فيهما ومدة نزولها، والثالث هذا يحتوي على ثمان وعشرين سورة أولها البقرة وآخرها سورة النّصر، وقد استغرق نزولها تسع سنين وتسعة أشهر وتسعة أيّام. وبينا في المقدمة مدة نزوله كله، ومبدأ النزول وآخره، فراجعه في بحث نزول القرآن، وهذا ما قاله بفمه وكتبه بقلمه العبد الفقير إلى رحمة الرّاجي عفوه وستره ورضاه السّائل لخيره الطالب لبره الرّاغب في عطاه السّيد عبد القادر ابن السّيد محمد حويش، ابن السّيد محمود، ابن السّيد خضر، ابن السّيد حديد، ابن السّيد فهد، ابن السّيد جاسم، ابن السّيد محمد، ابن السّيد عبيد، ابن السّيد حسين، ابن السّيد جلال الدّين، ابن السّيد عيسى المغربي آل السّيد غازي، ابن السّيد يعقوب، ابن السّيد محمد، ابن السّيد حسين، ابن السّيد شيخي، ابن السّيد فضل الله، ابن السّيد حامد، ابن السّيد أبي بكر، ابن السّيد صالح، ابن السّيد رجب، ابن السّيد محمد، ابن السّيد المكي أحمد، ابن السّيد عبد الله، ابن السّيد حسني، ابن السّيد يوسف، ابن السّيد رجب، ابن السّيد شمس الدّين، ابن السّيد محمد، ابن السّيد أحمد الرفاعي، ابن السّيد علي المكي الكبير، ابن السّيد يحيى، ابن السّيد ثابت،
524
ابن السّيد حازم، ابن السّيد أحمد، ابن السّيد موسى الثاني، ابن السّيد ابراهيم المجيب المشهور المرتضى، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام زين العابدين، ابن الإمام أمير المؤمنين الذي امتحن بأنواع المحن والبلاء أبي عبد الله الحسين (الهندبادي) هكذا في الأصل، ابن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهو إمام الأولياء والصّالحين وقائد الأصفياء المخلصين المخصوص بقوله صلّى الله عليه وسلم أنا مدينة العلم وعلي بابها، رضي الله عنه وأرضاه آمين تم تبييضه في غرة رجب سنة ١٣٦١ الموافق للثالث والعشرين تموز سنة ١٩٦٣ وتمت طباعته في ربيع الآخر سنة ١٣٨٨ الموافق لتموز سنة ١٩٦٨ والحمد لله رب العالمين
525
جمعتها كلما له فلفظنها دررا تلألأ في نحور غوان
ولذاك قد لقبته ببيانها فبدا لنا مغزاه بالعنوان
فأتى كما قد شئت أبدع ما رأى العلماء من شرح على القرآن لولا مقالة حاسد غالت قلت هو الطّريد فما له من ثاني
قد فاق حسنا كلّ تفسير كما قد فاق صاحبه على الأقران
سهل المنال يناله من لا يكا ديعي المقال بكثرة الإمعان
إنتاج عانى بالفضائل والعلا أكرم بإنتاج الرّفيع العاني
قاضي بحكم الشّرع يقضي لا الهوى يرضى بحسن قضائه الخصمان
من لي بإيفاء الثناء وهل يفي أحد بمدح مفسر القرآن
فالعجز أولى ما يكون بمدحه فاترك تبجّله مديح لسان
وكلته للجمل التي شهدت له من صنعه بمهارة الإتقان
صنع مجيد قد أتى تاريخه أنعم بتفسير المجيد وشأن
١٥١ ٧٥٢ ٨٨ ٣٥٧ التوقيع: عبد الرّزاق رمضان الخالدي ملاحظة: مجموع أرقام الشّطر الأخير من البيت الأخير ١٣٥٨
533
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي جعل كتابه هدّى للعالمين، ونورا للمسترشدين، والصّلاة والسّلام على الرّحمة المهداة للناس أجمعين سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، نحمده سبحانه وتعالى أن خص من شاء بما شاء من أسراره، ومنح أصفياءه قبسا من نوره، وإشعاعا من ضيائه، وفتح لهم أبواب المعرفة لفهم آياته، ليبينوا للناس ما نزل إليهم، بثاقب أفهامهم، ويوضحوا لهم ما استغلق عليهم بفصيح بيانهم، ويجلوا ما خفي على مداركهم بواسع اطلاعهم ودقيق إدراكهم.
وبعد، فإن الله سبحانه قد وفقني إلى الاطلاع على التفسير القيم للقرآن العظيم المسمى (بيان المعاني) لمؤلفه العلامة الفاضل السّيد عبد القادر ملا حويش آل غازي، هذا التفسير الذي لم يسبقه إليه سابق إذ جمع فيه مؤلفه فأوعى، إذ ذكر أسباب النزول وقصص الأولين، واستخرج من الآيات ما فيها من الأحكام الشّرعية والعبر والمواعظ الإلهية، بأسلوب أدبي رائع لا يمل القارئ من مطالعته، ولا يسأم من قراءته، بل كلما تعمق في سبر غوره، ازداد تعلقا به واستمساكا بأهدابه، فهو السّهل الممتنع الذي كثرت فيه المواضيع العلمية، والمعاني البيانية، والأساليب الأدبية، والحكم والمواعظ الدّينية. وإن من يطالع فيه ليخيل إليه أنه في بستان صنعته يد القدرة على أبدع مثال، وأروع منوال، لما اشتمل عليه من شهي الثمار وبديع الأزهار، ومختلف الأوراد والأطيار، يحار فيه القارئ من أي ثمر يجني، أو من أي عبير يستنشق، أو إلى أي نغم يصغي، وبأي جمال يستمتع، وحقيق أن نقول فيه: إن الوصف ليعجز عن بيان حقيقته، وإن القلم ليعيا عن الإحاطة بأسراره وفوائده، فهو للعالم نور، وللأديب متعة، وللمسترشد هدّى وضياء.
بيروت: ١ ذي القعدة سنة ١٣٨٧ هـ الشّيخ محمد بن محمد هاشم الشّريف ٣٠ كانون الثاني سنة ١٩٦٨ م مستشار المحكمة الشّرعية السّنية العليا ٤٢١٧
534
Icon