تفسير سورة الأعلى

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿غُثَآءً﴾ الغُثاء: ما يقذف به السيل على جانب الوادي ن الحشائش والأوراق والنباتات ﴿أحوى﴾ أسود مأخوذ من الحُوة وهي السواد أو السمرة ﴿يَصْلَى﴾ يدخل ويقاسي حرّها يقال: أصليتُه ناراً وجعلته يذوق حرها.
521
التفسِير: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ أي نزِّه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، مما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح، وفي الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانه ربي الأعلى». ثم ذكر من أوصافه الجليلة، ومظاهر قدرته الباهرة، ودلائل وحدانيته وكماله فقال ﴿الذي خَلَقَ فسوى﴾ أي خلق المخلوقات جميعها، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها، في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات قال في البحر: أي خلق كل شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتاً، بل متناسباً على إحكام وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم ﴿والذي قَدَّرَ فهدى﴾ أي قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام، وهدى الإِنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها، وهدى الإِنعام إلى مراعيها، ولو تأملت ما في النباتات من الخواص، وما في المعادن من المزايا والمنافع، واهتداء الإِنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات، واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات، لعلمتَ حكمةَ العلي القدير، الذي لولا تقديره وهدايته لكنا نهيم في دياجير الظلام كسائر الأنعام قال المفسرون: إِنما حذف المفعول لإِفادة العموم أي قدَّر لكل مخلوق وحيوان ما يصلحه، فهداه إِليه وعَرَّفه وجه الانتفاع به ﴿والذي أَخْرَجَ المرعى﴾ أي أنبت ما ترعاه الدواب، من الحشائش والأعشاب ﴿فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى﴾ أي فصيِّره بعد الخضرة أسود بالياً، بعد أن كان ناضراً زاهياً، ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة بعد صيرورته هشيماً ياسباً، فإنه يكون طعاماً جيداً لكثير من الحيوانات، فسبحان من أحكم كل شيء و ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠] !! وبعد أن ذكر دلائل قدرته ووحدانيته، ذكر فضله وإنعامه على رسوله فقال ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ أي سنقرئك يا محمد هذا القرآن العظيم فتحفظه في صدرك ولا تنساه ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي لكن ما أراد الله نسخه فإنك تنساه.. وفي هذه الآية معجزة له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام، وكونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً، من أعظم البراهين على صدق نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى ووعدٌ لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى﴾ أي هو تعالى عالم بما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ﴿وَنُيَسِّرُكَ لليسرى﴾ أي ونوفقك للشريعة السمحة البالغة اليسر، التي هي أيسر وأسهل الشرائع السماوية، وهي شريعة الإِسلام ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى﴾ أي فذكر يا محمد بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة والتذكرة كقوله
﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] قال ابن كثير: ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا فتنة لبعضهم» وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله «؟ ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى﴾ أي سينتفع بهذه الذكرى والموعظة من يخاف الله تعالى ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى﴾ أي ويرفضها
522
ويبتعد عن قبول الموعظة الكافر المبالغ في الشقاوة ﴿الذى يَصْلَى النار الكبرى﴾ أي الذي يدخل نار جهنم المستعرة، العظيمة الفظيعة قال الحسن: النار الكبرى نارُ الآخرة، والصغرى نارُ الدنيا ﴿ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا﴾ أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة الكريمة، بل هو دائم في العذاب والشقاء ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى﴾ أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإِيمان، وأخلص عمله للرحمن ﴿وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى﴾ أي وذكر عظمة ربه وجلاله، فصلى خشوعاً وامتثالا لأمره ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا﴾ أي بل تفضلون أيها الناس هذه الحياة الفانية على الآخرة الباقية، فتشتغلون لها وتنسون الآخرة ﴿والآخرة خَيْرٌ وأبقى﴾ أي والحال أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خيرٌ من الفاني، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟ وكيف يهتم الغرور، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلود؟ قرأ ابن مسعود هذه الآية فقال لأصحابه: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قالوا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت وعجلت لنا بطعامها، وشرابها، ونسائها، ولذاتها، وبهجتها، وإن الآخرة غُيبتْ وزُويت عنا، فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل ﴿إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى﴾ أي إن هذه المواعظ المذكورة في هذه السورة، مثبتة في الصحف القديمة المنزلة على إِبراهيم وموسى عليهما السلام، فهي مما توافقت فيه الشرائع، وسطرته الكتب السماوية، كما سطره هذا الكتاب المجيد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق ﴿لاَ يَمُوتُ.. وَلاَ يَحْيَا﴾ وكذلك ﴿الجهر.. وَمَا يخفى﴾.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿نُيَسِّرُكَ لليسرى﴾ و ﴿ذَكِّرْ.. والذكرى﴾.
٣ - المقابلة بين ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى﴾ وبين ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى﴾.
٤ - حذف المفعول ليفيد العموم في قوله ﴿خَلَقَ فسوى﴾ وفي ﴿قَدَّرَ فهدى﴾ لأن المراد خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فهداه.
٥ - السجع غير المتكلف وهو كثير في القرآن مثل ﴿أَخْرَجَ المرعى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: صحف موسى غير التوراة، وقد رود أنه أعطي عشر صحف وكانت كلها عبراً، قال أبو ذر: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صحف موسى ما كانت؟ قال: كانت عبراً كلها (عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح ﴿عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك﴾ عجبتُ لمن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها كيف يطمئن إليها ﴿عجبت لمن أيقن بالقَدَر ثم ينصب﴾ عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل!!)
523
Icon