تفسير سورة الأعلى

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ والأُمَّةُ داخلون معَهُ في هذا الخطاب، والمعنى: صَلِّ لربكَ ونَزِّهْهُ عن كلِّ ما لا يليقُ به من الصِّفاتِ، وقُل: سُبحانَ ربيَ الأعلَى. وقد يُذكر الاسمُ ويراد به تعظيمُ المسمَّى، كما قال الشاعرُ: إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا   وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذرْوقال قومٌ: معناهُ: نَزِّهْ ربَّكَ الأعلَى عمَّا يقولُ فيه الملحِدُون ويصفهُ به المشرِكون، وجعَلُوا الاسمَ صفةً. ويجوز أنْ يكون معناهُ: نَزِّهِ اللهَ عن إجرائهِ على غيرهِ، وكان عليٌّ وابنُ عبَّاس وابنُ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إذا قَرَأ أحَدُهُمْ بهَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: ((سُبْحَانَ رَبيَ الأَعْلَى))، والأعلَى من صفاتِ الله بمعنى العَليِّ مثل الأكبرِ بمعنى الكبير، وليس هذا من علُوِّ المكانِ وإنما معناهُ القاهرُ القادرُ، فلا شيءَ أقدرُ منه.
قوله تعالى: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴾؛ أي خلقَ الإنسانَ وكلُّ ذي روحٍ، فسوَّى خلقَهُ باليدَين والرِّجلين والعينَين والأُذنين وسائرِ الأعضاء، وعدَّلَ الخلقَ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾؛ أي قدَّرَ الذي خلقَهُ حَسَناً وذميماً، وقدَّرَ عليه السعادةَ والشقاوةَ، فهدَى كلَّ مكلَّف من الضَّلالِ إلى الهدى، ومن الباطلِ إلى الصواب، ومن الغَيِّ إلى الرَّشاد. وَقِيْلَ: هدَى الإنسان لسبيلِ الخير والشرِّ، وبصَّرَهُ السبيلَ إمَّا شَاكراً، وإما كفوراً. وَقِيْلَ: ألْهَمَ كلَّ حيوانٍ ما يحتاجُ إليه في أمرِ معيشته، وعرَّفَهُ كيف يأتِي الذكرُ الأنثَى، وجعلَ الهدايةَ في قلب الطفل حتى طلبَ ثديَ أُمِّه، وميَّزه من غيرهِ، وهدَى الفرخَ لطلب الرزق، وهدى الأنعامَ لمراتعِها. وَقِيْلَ: معنى قولهِ ﴿ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴾ أي قدَّرَ مدَّة الجنين في الرحمِ تسعةَ أشهر، أو أقلَّ أو أكثرَ، فهدى للخروجِ من الرَّحِم. وَقِيْلَ: قدَّرَ الأرزاقَ وهداهم لطلبها. وَقِيْلَ: الذنوبَ على عبادهِ وهَدَاهُم للتوبة. وَقِيْلَ: قدَّرَ الخلقَ على صُوَرهم، وعلى ما جرَى لهم من الأرزاقِ، فهَدَاهُم إلى مَعرفةِ توحيدهِ. قرأ الكسائيُّ والسلمي (قَدَرَ فَهَدَى) مخفَّفاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ ﴾؛ أي أنبتَ الكلأَ الأخضر بالمطرِ للبهائم، ثم.
﴿ فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ ﴾؛ معناهُ: فجعل النبتَ بعد الْخُضرَةِ هَشيماً يابساً بَالياً كالغُثاء الذي يقذفهُ السَّيل على جنَبات الوادِي، وقولهُ تعالى: ﴿ أَحْوَىٰ ﴾ أي أسودَ، وقد يدخلُ النبت الأحوَى لحاجةِ البهائم إليه، وقد يكون حَطباً للناسِ، وهذا كلُّه إخبارٌ عن قدرةِ الله تعالى وإنعامِه على العبادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ ﴾؛ أي سيُقرِؤكَ جبريلُ القرآنَ بأمرِنا فلا تنساهُ، فلم ينسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حَرفاً من القرآنِ بعد نُزول هذه الآيةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي إلاَّ ما شاءَ الله أن تنساهُ، وهو ما نُسِخَتْ تلاوتهُ، فنأمُرك ألاَّ تقرأهُ حتى تنساهُ على وجهِ الأيام، وهذا نسيانُ النَّسخ دون التضييعِ. وَقِيْلَ: إلاَّ ما شاء اللهُ أن تنساهُ ثم تذكره بعد ذلكَ. وَقِيْلَ: إنما ذكرَ الاستثناءَ لتحسين النَّظمِ على عادةِ العرب، تذكرُ الاستثناءَ عُقيب الكلامِ وهو كقوله تعالى﴿ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾[الأنعام: ١٢٨] ربُّك، معلومٌ أنَّ اللهَ تعالى لم يشَأْ إخراجَ أهلِ الجنة من الجنَّة ولا إخراجَ أهلِ النار من النار، ولكن المرادَ به ما ذكرناهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ﴾ أي يعلمُ ما يقرؤهُ العباد من القرآنِ، وما يذكرونَهُ من الذِّكر في سرٍّ أو جهرٍ. وَقِيْلَ: يعلمُ العلانيةَ من القولِ والعمل، ويعلمُ السرَّ وما يحدِّثُ الإنسان نفسَهُ بعده، ويعلمُ إعلانَ الصَّدقة وإخفاءَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ﴾؛ أي نيَسِّرُكَ لعملِ الجنَّة، ونوفِّقُكَ للشَّريعة السهلةِ وهي الحنيفيَّة السَّمحَةُ.
﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ ﴾؛ أي عِظْ بالله إنْ نفعَتِ المواعظُ، وليس على وجه الشَّرط، فإنَّ الموعظةَ تنفعُ لا محالةَ.
قولهُ تعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴾؛ أي سيتَّعظُ بالقرآن مَن يخشَى عذاب اللهِ.
﴿ وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى ﴾؛ أي يتجنبُ التذكُّر والعظَةَ ويتباعَدُ عنها الأشقى في علمِ الله فلا يتذكرُ ثواباً. وروي أن المرادَ بقوله ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴾: عبدُالله بن أُمِّ مكتومٍ، ويدخلُ فيه كلٌّ مؤمنٍ، والمرادَ بالأشقَى الذي يتجنَّبُ الموعظةَ الوليدُ بن المغيرةِ، ويدخلُ فيه كلٌّ كافرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴾؛ وهي السُّفلى من أطباقِ النار، وَقِيْلَ: سُمِّيَتْ نارُ جهنَّم النارَ الكبرى؛ لأنَّها أعظمُ من هذه النار، كما رُوي في التفسيرِ: أنَّ نارَ الدُّنيا جزءٌ من سَبعين جزءٍ من نار جهنَّم، ولقد غُمِست في البحرِ مرَّتين حتى لانَتْ، ولولا ذلك ما انتفعَ بها أحدٌ. وروي: أن نارَ الدُّنيا تستجيرُ أن يَردَّها اللهُ إلى نار جهنَّم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا ﴾؛ أي لا يموتُ مَوتاً فيستريحُ من عذابها، ولا يحيَا حياةً يجدُ فيها روحَ الحياةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴾؛ أي صارَ إلى البقاءِ الدَّائم والنعيمِ المقيم مَن تزَكَّى بالإسلامِ والتَّوبة من الذنوب، والمعنى: قد أفلحَ من تطهَّرَ من الشِّرك وقالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وكان عمَلهُ زَاكياً صالحاً، وأدَّى زكاةَ مالهِ.
﴿ وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ﴾؛ أي وافتتحَ الصَّلاة بذكرِ اسم الله، وصلَّى الصلواتِ المفروضات، وكان ابنُ مسعودٍ يقولُ: ((رَحِمَ اللهُ امْرِءاً تَصَدَّقَ ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ)). وَقِيْلَ: معناهُ: قد أفلحَ من أدَّى زكاةَ الفطرِ ثم صلَّى صلاةَ العيدِ، ويستدلُّ بهذه الآية على جواز افتتاحِ الصَّلاة بغيرِ التَّكبيرِ؛ لأنه تعالَى ذكرَ الصَّلاة عُقيب اسمهِ، إذِ الفاءُ للتَّعقيب من غير تراخٍ، فلا فصلَ في الآيةِ بين التكبيرِ وبين سائرِ الأركان.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ قرأ العامَّة بالتاء، كذلك قراءةُ ابنِ كعبٍ: (بَلْ أنْتُمْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، والخطابُ للكفار؛ كأنه قال: بل أنتم أيُّها الكفارُ تختَارون الدُّنيا على الآخرةِ، وقرأ أبو عمرٍو (يُؤْثِرُونَ) بالياء يعني الأشقياء. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴾؛ أي ثوابُ الآخرةِ خيرٌ من الدنيا وما فيها وأدومُ. وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ " إلاَّ " كَرَجُلٍ أدْخَلَ إصْبعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ".
أرادَ به قولَهُ تعالى﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ﴾[الأعلى: ١٤-١٥] كما هو في القرآنِ، ويقال: مذكورٌ في الصُّحف الأُولى: أنَّ الناسَ يُؤثِرون الحياةَ الدُّنيا، وأن الآخرةَ خيرٌ وأبقَى، أرادَ به السُّورة كلَّها.
قال قتادةُ: ((تَتَابَعَتْ كُتُبُ اللهِ تَعَالَى أنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأبْقَى)). ويقال: إن في صُحف إبراهيمَ: ((ينبغِي للعاقل أنْ يكون حَافظاً للسانهِ عارفاً بزمانه مُقبلاً على شأنهِ)). وقال أبُو ذرٍّ:" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَمِ الأَنْبيَاءُ؟ فَقَالَ: " مِائَةُ ألْفِ نَبيٍّ، وَأرْبَعَةٌ وَعُشْرُونَ ألْفَ نَبيٍّ " قُلْتُ: كَمِ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: " ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ ". قُلْتُ: أكَانَ آدَمُ نَبيّاً؟ قَالَ: " نَعَمْ كَلِمَةُ اللهِ، وَخَلَقَهُ اللهُ بيَدِهِ. يَا أبَا ذرٍّ أرْبَعَةٌ مِنَ الأَنْبيَاءِ مِنَ الْعَرَب: هُودُ وَصَالِحُ وَشُعَيْبُ وَنَبيِّكُ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَمْ أنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ؟ قَالَ: " مِائَةٌ وَأرْبَعَةُ كُتُبٍ، مِنْهَا عَلَى آدَمَ عَشْرُ صَحَائِفَ، وَعَلَى شِيتٍ خَمْسُونَ صَحِيفَةً، وَعَلَى آخْنُوخَ وَهُوَ إدْريسُ ثَلاَثُونَ صَحِيفَةً، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ خَطَّ بالْقَلَمِ، وعَلَى إبْرَاهِيمَ عَشْرُ صَحَائِفَ، وَالتَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ وَالزَّّبُورُ وَالْفُرْقَانُ " ".
Icon