تفسير سورة الفاتحة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة الفاتحة
مكية. ولها عشرة أسماء: الفاتحة والوافية والكافية والشافية، والسبع المثاني لأنها سبع آيات عند الشافعي منها البسملة، وأسقطها مالك وجعل السابعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ الآية، أو تثنى فى كل صلاة، أو لاشتمالها على الثناء على الله. وأمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه، أو لأنها اشتملت على ما فيه إجمالا على ما يأتى، وسورة الحمد والشكر، وسورة تعليم المسألة، وسورة الصلاة لتكريرها فيها، وأساس القرآن لأنها أصله ومبدؤه ويبنى سائره عليها.
[سورة الفاتحة (١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
واتفقت المصاحف على افتتاحها ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ واختلف الأئمة فيها، فقال مالك: ليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها إلا من النمل خاصة، وقال الشافعي: هى آية من الفاتحة فقط، وقال ابن عباس: هي آية من كل سورة.
فحجة مالك: ما فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم قال: «أنزلت علىّ سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها، ثم قال: الحمد لله رب العالمين) ولم يذكر البسملة. وكذلك ما ورد فى الصحيح أيضا أن الله يقول: «قسمت الصّلاة بينى وبين عبدى نصفين. يقول العبد: الحمد لله رب العالمين» فبدأ بها دون البسملة.
وحجة الشافعي: ما ورد فى الصحيح «إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين». وحجة ابن عباس: ثبوت البسملة مع كل سورة فى المصحف، مع تحرّى الصحابة ألا يدخلوا فى المصحف غير كلام الله، وقالوا: ما بين الدفّتين كلام الله.
وإذا ابتدأت أوّل سورة بسملت إلا براءة، وسيأتى الكلام عليها. وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير عند الجمهور.
وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى فاختلف القرّاء فى البسملة وتركها.
وأما حكمها فى الصلاة، فقال مالك: مكروهة فى الفرض دون النفل، وقال الشافعي: فرض تبطل الصلاة بتركها، فيبسمل- عنده- جهرا فى الجهر وسرا فى السر، وعند أبى حنيفة كذلك إلا أنه يسرّها مطلقا، وحجة مالك أنها ليست بآية: ما فى الحديث الصحيح عن أنس أنه قال: (صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلّم وأبى بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين) لا يذكرون البسملة أصلا. وحجة الشافعي أنها عنده آية: ما ورد فى الحديث من قراءتها كما تقدم.
ولم تكن البسملة قبل الإسلام، فكانوا يكتبون: باسمك اللهم، حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها فكتبوا بِسْمِ اللَّهِ حتى نزل:... أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فكتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ حتى نزل:... وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فكتبوها.
وحذفت الألف لكثرة الاستعمال، والباء متعلقة بمحذوف، اسم عند البصريين، أي: ابتدائى كائن بسم الله، فموضعها رفع. وفعل عند الكوفيين، أي: أبدأ أو أتلو. فيقدّر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له، فموضعها نصب، ويقدر مؤخرا لإفادة الحصر والاختصاص. وهو مشتق من السّموّ عند البصريين، فلامه محذوفة، وعند الكوفيين من السّمة، أي: العلامة، ففاؤه محذوفة، ودليل البصريين: التصغير والتكسير، فقالوا: أسماء، ولم يقولوا أوسام، وقالوا:
سمى، ولم يقولوا: وسيم.
و (الله) علم على الذات الواجبة الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهل هو مشتق أو مرتجل؟ قولان يأتى الكلام عليهما فى (الحمد لله)، وكذلك (الرحمن الرحيم).
قال الحق جل جلاله:
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ٢ الى ٤]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
قلت: (الحمد) مبتدأ، و (لله) خبر، وأصله النصب، وقرئ به، والأصل: أحمد الله حمداً، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته، دون تجدده وحدوثه، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي: الحمد لله وإن لم تحمدوه. ولو قال (أحمد الله) لما أفاد هذا المعنى، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. والتعريف للجنس أي: للحقيقة من حيث هي، من غير قيد شيوعها، ومعناه: الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة. كما قال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وقيل: للعهد، والمعهودُ حمدُه تعالى نفسه في أزله.
وقُرِئ (الحمد لله) بإتباع الدال للام «١»، وبالعكس «٢»، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة.
ومعناه في اللغة: الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل، وفي العُرف: فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً. والشكر في اللغة: فعل يُشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي، وفي العرف: صرف
(١) فى الكسر- وهى قراءة شاذة.
(٢) أي: اتباع اللام الدال فى الضم، وهى قراءة شاذة أيضا.
53
العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه. وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً.
و (الله) اسم مُرْتَجَلٌ جامد، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف، قال الواحدي: اسم تفرِّد به الباري- سبحانه- يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يُعرف له اشتقاق، وقال الأقْلِيشي: إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات، وليس باسمٍ مشتق من صفة، كالعالِم والحق والخالق والرازق، فالألف واللام على هذا في (الله) من نفس الكلمة، كالزاي من زيد، وذهب إلى هذا جماعة، واختاره الغزالي وقال: كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف.
وقيل: مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد، وقيل: من الوَلَهَان، وهو الحيرة لتحيُّر العقول في شأنه. وقيل: أصله:
الإلهُ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر.
و (رب) نعت (لله)، وهو في الأصل: مصدر بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل.
وقيل: هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ، وأصله: رَبَبَ ثم أُدغم، سُمي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ. قال ابن جُزَيّ: ومعانيه أربعة: الإله والسيد والمالك والمصلح، وكلها تصلح في رب العالمين، إلا أن الأرجح في معناه: الإله لاختصاصه بالله تعالى.
و (العالمين) جمع عالَم، والعالَمُ: اسم لما يُعْلَمُ به، كالخاتم لما يُختم به، والطابع لما يطبع به. غلب فيما يُعلم به الصانع. وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته، تدل على وجوده، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم، فهو جمع، لا اسم جمع، خلافاً لابن مالك.
وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع، وقيل: عنى به هذا الناس، فإن كل واحد منهم عالَمٌ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.
54
قلت: وإليه يشير قول الشاعر:
يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بأسره
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بُنيا للمبالغة، من رَحِمَ، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة: رَقَّةُ القلب، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات، التي هي أفعال، دون المبادئ التي هي انفعالات. و (الرحمن) أبلغ من (الرحيم) لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى، كقَطَّعَ وقَطَعَ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتباره الكيفية.
فعلى الأول: قيل: يا رحمنَ الدنيا لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر، ورحيمَ الآخرة لأنه يختص بالمؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جِسَام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.
وإنما قدّم (الرحمن) - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى- لتقدُّم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يُوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى.
انظر البيضاوي. وسيأتي الكلام عليهما في المعنى.
و (مَلِكَ) نِعت لما قبله، قراءةُ الجماعة بغير ألف من (المُلك) بالضم، وقرأ عاصم والكسائي بالألف، من (المِلك) بالكسر، والتقدير على هذا: مالك مجئ يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين. وقراءةُ الجماعة أرجح، لثلاثة أوجه:
الأول: أن الملك أعظم من مالك، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس، والثاني: قوله:
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، والثالث: أنها لا تقتضي حذفا، والحذف خلاف الأصل «١».
و (يوم الدين) ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع، وأُجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية، أي: الملك في يوم الدين، أو ملك الأمر يوم الدين، فيكون فيه حذف. وقد رُويت القراءتان- أي:
القصر والمد- عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
(١) ينبغى ألا يكون ترجيح فى هذا المجال، مع ورود القراءتين عن الرسول صلى الله عليه وسلّم والقراءتان- كما يقول الآلوسى-: فرسا رهان، ومتى أردت الترجيح تعارضت الأدلة.
55
وقد قرئ (ملك) بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. فإن قيل: ملك ومالك نكرة لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص، وكيف ينعت به (الرحمن الرحيم) وهما معرفتان؟ قلت: إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ، وأما هذا فهو مستمر دائماً، فإضافته محضة. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله معلما لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه: يا عبادي قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل، فلا يستحق الحمدَ سواه، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله، وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله، قبل أن يُوجِدَ خلقّه، فلما أوجد خلقه قال لهم: الحمد لله، أي: احمدونى بذلك الحمد المعهود في الأزل.
وإنما استحق الحمد وحده لأنه رَبِّ الْعالَمِينَ، وكأن سائلاً سأله: لم اختصصت بالحمد؟ فقال: لأني ربُّ العالمين، أنا أوجدتُهم برحمتي، وأمددتهم بنعمتي، فلا منعم غيري، فاستحققت الحمد وحدي، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد، فأنا ربُّ العباد، فالعوالم كلها- على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها- في قبضتي وتحت تربيتي ورعايتي.
قال بعضهم: خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر. وقال الفخرُ الرازي: رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها: مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه- إذا قُوبلتْ به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما- يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً. وما من موضع شِبْرٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددهم إلا الله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. هـ.
وقال وَهْبُ بن منبه: (قوائم العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين).
فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش إلى الفرش،
56
كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالها، محفوظة أشباحها، معلومة أماكنها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان، لا لزوم عليه وإيجاب، ولذلك وصلَه بقوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أي: الرحمن بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد. «نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما: نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثنى بتوالي الإمداد». كما في (الحِكَم) «١». فاسمُه (الرحمن) يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها، واسمه (الرحيم) يقتضي تربيتَها وإمدادها. ولذلك لا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على أحد، ولم يَتَسَمَّ أحد به إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه (الرحيم) فيجوز إطلاقه على غيره تعالى لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً.
أو: الرحمن في الدنيا والآخرة، والرحيم في الآخرة لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النِعم والرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل: نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة والهداية، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب، ودقائقُ النعم مثل: الصحة والعافية والمال الحلال، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم.
ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي: المتصرف في عباده كيف شاء، لا راد لما قضى ولا مانع لما أعطى، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار. وإنما خصّ يوم الدين- وهو يوم الجزاء- بالملكية لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده، حتى يراه المؤمنون عياناً، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم. ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام، قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
الإشارة: لمّا تجلّى الحقّ سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول: من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال:
مَا وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ إِذْ كُلُّ مَنْ وحّده جاحد
(١) لابن عطاء الله السكندرى.
57
توحيدُ مَنْ ينطقُ عَنْ نَعْتِهِ عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إِيّاه توحيدُه ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ «١»
فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه: (الحمد لله رب العالمين)، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه: أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي.
قال رجل بين يدي الجنيد: (الحمد لله) ولم يقل: (رب العالمين)، فقال له الجنيد: كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل: وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه؟! فقال الجنيد: قُلها يا أخي فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم.
يقول سبحانه: يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب، أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمن، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد. منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام.
قال في الرسائل الكبرى «٢» : لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عين اليقين ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وقوله: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ؟! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ.
(١) مضمون الأبيات كما يقول الشيخ ابن عجيبة فى إيقاظ الهمم: أن الحق تولى توحيد نفسه بنفسه. فكل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته، حيث أشرك معه نفسه، وكل من ينعته بنفسه فهو لاحد- أي: مائل عن الصواب. وهذا المعنى من المعاني التي ينبغى أن تفهم فى ضوئها هذه الأبيات، وللأبيات محامل أخرى ذكرها العلامة ابن القيم. فلتنظر فى كتابه مدارج السالكين. وانظر أيضا: مدارج السلوك لأبى بكر بنانى.
(٢) لابن عباد النفزي، شارح الحكم.
58
ثم تنزل لبيان العبودية، فقال:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٥]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
قلت: (إياك) مفعول (نعبد)، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به، والدلالة على الحصر، ولذلك قال ابن عباس:
(نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك)، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يحقّ وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، على ما حكاه عن كليمه حيث قال: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: حيث صرّح بمطلوبه، و (إياك) مفعول (نستعين) وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام، كما تقدم في إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وكرّر الضمير ولم يقل: إياك نعبد ونستعين لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي- أبلغ وأمدح من قولك: بك أنتصر وأحتمي... الخ؟.
وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافق رءوس الآي، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته، فقال: أعطني ما يعينُني عليها، فهو سوء أدب، وأيضاً: من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة، وأيضاً: لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، دفعاً لذلك التوهم.
والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق مُعَبَّدٌ، أي: مُذَلل، والاستعانة: طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها، أو في أداء العبادات.
والضمير المستتر فى الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموجودين.
أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.
59
يقول الحق جلّ جلاله، تتميماً لتعليم عباده: فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية، وأظهروا من أنفسكم العبودية، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وكأنه- جلّ جلاله- لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها لأنه رب العوالِم وقيومها، أصل الأصول وفروعها، أنعم عليها أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله، فهو أحقُّ أن يُعبد، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
قال البيضاوي: ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة، ليكون أدلّ على الاختصاص، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود، وكأن المعلومَ صار عياناً، والمعقولَ مُشاهَداً، والغيبة حضوراً. بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها. اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ... ولم يقل (بكم) وقوله أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ... أي: ولم يقل: فساقه.. انظر تمام كلامه.
والالتفات هنا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ولم يقل: إياه نعبد لأن الظاهر من قبل الغيبة، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً.
قال الأقليشي: فهذه الآية هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلّم: «فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ». معناه: أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، والعون من الله تعالى للعبد، فلهذا قال: «فهذه بيني وبين عبدي».
قال ابن جُزَي: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك.
60
الإشارة: لمّا تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.
فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة. ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ شريعة، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ إسلاما، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إحساناً، إِيَّاكَ نَعْبُدُ عبادة، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عبودية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ فرق إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جَمْعٌ. هـ.
وإن شئت قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأهل العمل لله وهم المخلصون، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الضمائر. قاله القشيري.
ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وبالله التوفيق.
ثم بيّن المقصود الأعظم وما هو المطلوب الأهم، وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق، فقال:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٦]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)
قلت: الهدايةُ في الأصل: الدلالة بلطف، ولذلك تُستعمل في الخير، وقوله: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ على التهكم، والفعل منه (هَدَى) بالفتح، وأصله أن يُعدى باللام، أو «إلى»، فَعْومل هنا معاملة:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ. والصراط لغة: الطريق، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتلعه، فكأنها تبتلع السابلةَ أي
61
المارَّة به، وَقُلِبَتْ السين صاداً لتطابق الطاء في الإطباق، وقد تُشَمُّ زاياً لقرب المَخرج، و (المستقيم) : الذي لا عوج فيه، والمراد به طريق الحق المُوصَّلة إلى الله.
يقول الحق جلّ جلاله: معلما لعباده كيف يطلبونه، وما ينبغي لهم أن يطلبوا، أي: قُولوا (اهدنا) أي: أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم، الموصلة إلى حضرة النعيم، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن، أو تقول: هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة، ظاهرك عبودية وباطنك حرية، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود، وفي الحكم: «متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره، فقد أعظم المِنَّة عليك».
فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو: الجمع بين الشريعة والحقيقة، والمفهوم من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، ولذلك وصلَه به، فكأن الحق- سبحانه- يقول: يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي.
وقال سيدنا علي- كَرَّمَ الله وجهه-: (الصراط المستقيم هنا القرآن). وقال جابر رضي الله عنه: (هو الإسلام) يعني الحنيفية السمحاء، وقال سهل بن عبد الله: (هو طريق محمد صلى الله عليه وسلّم). يعني اتباعَ ما جاء به. وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلكه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين.
فإن قلتَ: إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب: أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام، الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل، على طريق الصوفية، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام، والعمل الباطن بمقام الإيمان، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان، والترقي إلى مالا نهاية له من كشوفات العرفان وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد فيما ليس بحاصل، ثم قال: عمومُ المؤمنين يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو
62
حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين، والصالحون يقولون:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ معناه: نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء، والشهداءُ يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين، والصديقون يقولون: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب. والقطبُ يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنه حصل له رتبة القطبانية، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه. هـ.
وقال بعضهم: الهدايةُ إما للعين وإما للأثرِ الدالَّ على العين، ولا نهاية للأولى. قلت: فالأولى لأهل الشهود والعِيان، والثانية لأهل الدليل والبرهان، فالهداية للعين هي الدلالةُ على الله. والهداية للأثر هي الدلالة على العمل، «مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتعبك». وإنما كانت الأولى لا نهاية لها لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له. بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين، إن كان الدالُّ عارفاً بالطريق.
قال البيضاوي: وهداية الله تتنوَّعُ أنواعاً لا يحصيها عد وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إِفاضَةُ الُقُوَى التي بها يتمكنُ المرء من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.
الثاني: نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه الإشارة بقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ، وقال: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى.
الثالث الهدايةُ بإرسال الرسل وإنزال الكُتُب، وإياها عني بقوله: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا، وقوله:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
الرابع: أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويُرِيَهُمْ الأشياءَ كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة. وهذا يختص بِنَيْله الأنبياءُ والأولياءُ، وإياه عني بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ، وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.
63
فالمطلوب: إما زيادةُ ما مُنحوه من الهدى والثباتُ عليه، أو حصولُ المراتب المترتبة عليه، فإذا قال العارفُ الواصل عَنَى بقوله: أرشدنا طريق السير فيك، لتمحُوَ عنا ظلماتِ أحوالنا، وتُمِيطَ غواشِيَ أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراكَ بنورك. هـ.
قلت: قوله الرابع... الخ، في عبارته قَلَقٌ واختصار، والصواب أن يقول: الرابع- أن يكشف عن قلوبهم الظُّلَمَ والأغيار، ويُشرق عليها الأنوار والأسرار، ويُريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام، وباستعمال الفكرة في عظمةِ الملك العلاَّم، حتى تستولي أنوارُ المعاني على حِسِّ الأواني، ثم يقول: وهذا قسم يختصّ بنيله الأنبياء والأولياء.
وقوله: فإذا قال العارف.. الخ، الصواب أن يقول: فإذا قاله المريد السائر لأن الواصل انمحت عنه الظلماتُ كلها والغواشي وسائرُ الأكدار لأن الله تعالى غطَّى وصفه بوصفه ونعته بنعته، فلم يَبْقَ له وصفٌ ظُلماني. وأيضاً قوله: [أرشدنا إلى طريق السير] إنما يناسب السائر دون الواصل لأن الواصل ما بَقِيَ له إلا الترقي، ولا يُسمى في اصطلاح الصوفية [السير] إلا قبلَ الوصول. والله تعالى أعلم.
ثم فسرّ الطريق المستقيم، فقال:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٧]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
قلت: (صراط) بدل من الأول- بدل الكل من الكل- وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته: التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه وأبلغه لأنه جعله كالتفسير والبيان له، فكأنه من البيِّن الذي لا خفاء فيه، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين، وغَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من (الذين) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سَلِمُوا من الغضب والضلال.
أو صفة له مُبيَّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين: إجراء الموصول مجرى النكرة، إذ لم يُقصد به معهود كالمعرَّف في قوله:
ولَقَد أَمُرُ علُى اللئيم يَسُبنّي «١»...
أو يُجعل (غير) مَعْرِفةً لأنه أُضيف إلى مآلَهُ ضدٍّ واحد، وهو المنعمُ عليه، فيتعينُ تَعيُّن الحركة غير السكون، وإلا لزِم عليه نعت المعرفة بالنكرة. فتأملْهُ.
(١) هذا شطر بيت، وتمامه: (فمضيت ثمة قلت لا يعنينى).
64
والغضبُ: ثَوَرانُ النفس إرادةَ الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد غايته وهو العقوبة، و (عليهم) نائب فاعل، و (لا) مَزيدة لتأكيد ما في (غير) من معنى النفي، فكأنه قال: ولا المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين، وقرأ عمر رضي الله عنه (وغير الضالين) والضلال: العدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأً، وله عرض عَريضٌ والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير. قاله البيضاوي.
وإنما أَسند النعمة إلى الله والغضبَ إلى المجهول تعليماً للأدب، مَّآ أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ... الآية.
يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الطريق المستقيم: هو طريق الذين أنعمتُ عليهم بالهداية والاستقامة، والمعرفة العامة والخاصة، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والمُنعَم عليهم في الآية مطلق، يصدق بكل منعَم عليه بالمعرفة والاستقامة في دينه، كالصحابة وأضرابِهِمْ. وقيل: المراد بهم أصحاب سيدنا موسى عليه السلام قبل التحريف. وقيل: أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير. والتحقيق أنه عام.
قال البيضاوي: ونِعَمُ الله وإن كانت لا تُحصى كما قال الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تنحصر في جنسين: دنيوي وأخروي.
فالأول: وهو الدنيوي- قسمان: موهبي وكَسْبِي، والموهبي قسمان: رُوحاني، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوي، كالفهم والفكر والنطق، وجسماني: كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء. والكسبي: كتزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحُلي المستحسنة، وحصول الجاه والمال.
والثاني: وهو الأُخروي-: أن يغفر له ما فَرَطَ منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى علِّيين، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين، والمراد القسمُ الأخير، وما يكون وُصْلة إلى نيله من القسم الأول، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر. هـ.
قال ابن جُزَيّ: النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام، دنيوية: كالصحة والعافية والمال الحلال. ودينية:
كالعلم والتقوى والمعرفة. وأخرويةٌ: كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل. وقال أيضاً: والناس في الشكر على مقامين: منهم مَن يشكر على النعم الواصلة إليه، الخاصة به، ومنهم مَن يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم. والشكر على ثلاث درجات: فدرجة العوام: الشكر على النِّعم، ودرجة الخواص: الشكر على النِّعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص: أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المُنعم. قال رجل
65
لإبراهيم بن أدهم رضى الله عنه: الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا وإذا مُنعوا صبروا، فقال إبراهيم: هذه أخلاقُ الكلاب، ولكن القومَ إذا مُنِعوا شكروا وإذا أُعْطُوا آثروا. هـ.
ثم احترس من الطريق غير المستقيمة، فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أي: غير طريق الذين غضبت عليهم، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها، بل سلَّمنَا من مواردها. والمراد بهم: اليهود، كذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلّم، ويَصْدُقُ بحسب العموم على كل من غضب الله عليهم، وَلَا الضَّالِّينَ أي: ولا طريق الضالين، أي: التالفين عن الحق، وهم النصارى كما قال صلى الله عليه وسلّم. والتفسيران مأخوذان من كتاب الله تعالى. قال تعالى في شأن اليهود:
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وقال في حق النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
واعلم أن الحق- سبحانه- قسم خلقه على ثلاثة أقسام: قسم أعدَّهم للكرم والإحسان، ليظهر فيهم اسمه الكريم أو الرحيم، وهم المنعم عليهم بالإيمان والاستقامة. وقسم أعدَّهم للانتقام والغضب، ليُظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار، وهم المغضوب عليهم والضالون عن طريق الحق عقلاً أو عملاً، وهم الكفار، وقسم أعدَّهم الله للحِلْم والعفو، ليُظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو، وهم أهل العصيان من المؤمنين.
فمن رَامَ أن يكونَ الوجودُ خالياً من هذه الأقسام الثلاثة، وأن يكون الناس كلهم سواء في الهداية أو ضدها، فهو جاهل بالله وبأسمائه إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه في هذا الآدمي، من كرم وقهرية وحِلْم وغير ذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي: طريق الوصول إلى الحضرة، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وهو مقام التوحيد الخاص، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد، وليس فوقه إلا مقامُ توحيد الأنبياء والرسل، ولا بد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير، قد سلك المقامات ذوقاً وكشفاً، وحاز مقام الفناء والبقاء، وجمع بين الجذب والسلوك لأن الطريق عويص، قليلٌ خُطَّارُهُ، كثيرٌ قُطَّاعُه، وشيطان هذه الطريق فَقِيهٌ بمقاماته ونوازِله، فلا بد فيه من دليل، وإلا ضلّ سالكها عن سواء السبيل، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا، حيث قال:
66
وقال في لطائف المنن: (مَن لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، ويكشف له عن قلبه القناع، فهو في هذا الشأن لَقيطٌ لا أب له، دعي لا نسب له، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه، لم تَرْضْهُ سياسةُ التأديب والتهذيب، ولم يقده زمام التربية والتدريب)، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مع الترقي الذي ذكره الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه المتقدم، وإذا قرأ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ استشعر، أَيْ: أنعمتَ عليهم بالوصول والتمكين في معرفتك.
وقال الورتجبي: اهدنا مُرَادَك مِنَّا لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق، من الصدق والإخلاص في عبوديته وخدمته. ثم، قال: وقيل: اهدنا هُدَى العِيَانِ بعد البيان، لنستقيم لك حسب إرادتِك. وقيل: اهدنا هُدَى مَنْ يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه. ثم قال: وقال بعضهم: اهدنا، أي: ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام، وهو الطريق المستقيم والمنهاج القويم صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي: منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة. ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعني: المطرودين عن باب العبودية، وَلَا الضَّالِّينَ يعني المُفْلِسين عن نفائس المعرفة هـ.
قلت: والأحسن أن يقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم الذين أَوْقَفَهُمْ عن السير اتباعُ الحظوظ والشهوات، فأوقعهم في مَهَاوِي العصيان والمخالفات، وَلَا الضَّالِّينَ هم الذين حبسهم الجهل والتقليد، فلم تنفُذْ بصائرهم إلى خالص التوحيد، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد الدليل والبرهان، وهو ضلال عند أهل الشهود والعِيان، ولو بلغ في الصلاح غايةَ الإمكان.
وقال في الإحياء: إذا قلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فافْهَمْ أن الأمور كلها بالله، وأن المراد هاهنا المُسمَّى، وإذا كانت الأمورُ كلها بالله فلا جرَم أنَّ الحمد كله لله، ثم قال: وإذا قلت: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فأحضرْ في قلبك أنواعَ لطفه لتتفتحَ لك رحمتُه فينبعث به رجاؤُك، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك: يَوْمِ الدِّينِ. ثم قال: ثم جَدَّد الإخلاص بقولك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وجدَّد العجز والاحتياج والتبرِّيَ من الحوْل والقوة بقولك: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، ثم اطلب اسم حاجتك، وقل: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الذي يسوقنا إلى جوارك ويُفضي بنا إلى مرضاتك، وزِدْهُ شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين.
هـ. ملخصاً.
67
وقال القشيري: قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الأمر في هذه الآية مضمر، أي: قولوا: اهدنا.
والصراط المستقيم: طريق الحق، وهو ما عليه أهل التوحيد، أي: أرشدْنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، فيقعَ على وجه التوحيد غُبَارُ الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك. ثم قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي: الواصلين بك إليك، ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بنسيان التوفيق والتَّعامِي عن رؤية التأييد، وَلَا الضَّالِّينَ عن شهودِ سابقِ الاختيار، وجريان تصاريف الأقدار. هـ.
تتمات:
الأولى: هذه السورة جمعت معانى القرآن كلّها، فكأنها نسخة مختصرة منه، ولذلك سميت أمّ القرآن، فالإلهيات حاصلة من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، والدار الآخرة من قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، والعبادات كلّها من الاعتقادات والأحكام الظاهرة التي تقتضيها الأوامر والنواهي، من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ والمقامات وأسرار المعاملات الباطنة- تخلية وتحلية- من قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ والأنبياء وغيرهم من قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وذكر طوائف الكفار من قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
وقال الشيخ ابن أبي جمرة رضى الله عنه فى بيان تضمنها لكتاب الله: إن لفظ (الحمد) يتضمن كل ما في كتاب الله من الحمد والشكر لأن الحمد أعمّ من الشكر، وأتى بالعام ليدل على الصفتين. ولفظة (الله) تدل على ما فى الكتاب العزيز من أسماء الترفيع والتعظيم لأنه قيل: أنه اسم الله الأعظم، ولفظ: رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على ما فيه من أسماء الله، سبحانه، وعلى العوالم وعلى اختلافها وخالقها والمتصرف فيها. ولفظ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يتضمن كل ما فى الكتاب من المغفرة والرحمة والإنعام والعفو والإفضال، ولفظ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يدل على ما فيه من ذكر الآخرة وما فيه من الأهوال، ولفظ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يتضمن ما فيه من التعبّدات وإفراده بالألوهية، ولفظ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يدل على ما فيه من طلب الاستعانة وذكر الاضطرار، ولفظ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يتضمن ما فيه من طلب الهداية إلى سبيل الخير، ولفظ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يتضمن ما فيه من ذكر الخصوص والمرضىّ عنهم والمعفوّ عنهم وأهل السعادة، ولفظ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يتضمن ما فيه من أنواع الكفر والمخالفات ومساوئهم ومآلهم فاستحقّت أن تسمى أمّا. هـ.
68
وعن عليّ- كرّم الله وجهه- قال: (شرح موسى عليه السّلام التوراة فى سبعين سفرا، ولو أذن لى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأوقرت على الفاتحة سبعين بعيرا). قلت: قوله (سبعين) تقريبا، وإلا فهى قابلة لأكثر من ذلك، وتفصيل ذلك يطول، وقد ذكرنا أصول علومها فى شرحنا الكبير عليها. والله تعالى أعلم.
الثانية: قال ابن جزىّ: قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أفضل عند المحققين من (لا إله إلا الله) لوجهين:
أحدهما: ما أخرج النّسائيّ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أنه مَن قال: لا إله إلا الله، كتبت له عشرون حسنة، ومن قال:
الحمد لله رب العالمين، كتبت له ثلاثون حسنة»
. والثاني: أن التوحيد الذي تقتضيه (لا إله إلا الله)، حاصل فى قولك: (رب العالمين) وزادت بقولك: الحمد لله، وفيه من المعاني ما قدّمنا. وأما قوله صلى الله عليه وسلّم: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله» فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه، وقد شاركتها (الحمد لله رب العالمين) فى ذلك وزادت عليها. وهذا لمؤمن حقّق إيمانه وطلب الثواب، وأما لمن دخل فى الإسلام فيتعيّن «لا إله إلا الله». هـ.
قلت: والتحقيق أن كل ما يدل على التوحيد من الألفاظ يكفى فى الدخول فى الإسلام، كما قال البنانىّ فى حاشيته.
الثالثة: قراءة الفاتحة فى الصلاة واجبة عند مالك والشافعي خلافاً لأبي حنيفة، وقد ذكرنا فى الشرح الكبير منشأ الخلاف.
الرابعة: التأمين عند ختم الفاتحة مطلوب للدعاء الذي فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما حسدتكم اليهود على شىء ما حسدتكم على السّلام والتّأمين». رواه ابن ماجة. وقال أيضا صلى الله عليه وسلّم: «إن الله أعطانى خصالا ثلاثة:
أعطانى صلاة الصّفوف وأعطانى التحية، وإنها لتحية أهل الجنة، وأعطانى التأمين، ولم يعطه أحدا من النبيين قبلى، إلا أن يكون الله أعطاه هارون، يدعو موسى ويؤمن هارون»
رواه ابن خزيمة. وسمع عليه الصلاة والسلام رجلا يدعو ويلح فقال: «أوجب إن ختم» فقال بعض القوم: بأيّ شىء يختم؟ فقال: «يؤمن فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب». قال أبو زهير- راوى الحديث- فإن آمين مثل الطّابع على الصحيفة. ولعلّه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، رواه أبو داود.
ولفظ آمِّينَ بالمدّ والقصر مخففا. وتشديد الميم لغة. قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى.. وقيل معناه: اللهم استجب، أو كذلك فافعل، أو كذلك فليكن. قاله المنذرى فى الترغيب. قال البيضاوي: بنى على الفتح كأين لالتقاء الساكنين، وجاء مدّ ألفه وقصرها. قال:
ويرحم الله عبدا قال آمينا «١»
(١) هذا شطر بيت، أوله: (يا رب لا تسلبنى حبها أبدا... ) ونسبه ابن منظور فى اللسان إلى عمر بن أبى ربيعة. قلت: وقد أغفل الشيخ المفسر ذكر مثال القصر. وهو كما فى أنوار التنزيل ولسان العرب:
وَإِنَّمَا القَوْمُ مُسَافِرُونَ لِحَضْرَةِ الْحَقِّ وَظَاعِنُونَ
فَافْتَقَرُوا فِيهِ إلَى دَلِيل ذِي بَصَرٍ بالسَّيْرِ وَالْمَقِيلِ
قَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ ثُمَّ عَادَ لِيُخْبِرَ الْقَوْمَ بِمَا اسْتَفَادَ
69
وليس من القرآن اتفاقا، ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام: «علّمنى جبريل عليه السّلام آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة». وقال: إنّه كالختم على الكتاب.
ويقوله الإمام ويجهر به فى الجهرية، لما روى عن وائل بن حجر «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ: وَلَا الضَّالِّينَ قال: آمين، رفع بها صوته» وعن أبى حنيفة- رحمه الله- أنه لا يقوله. والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مُغفل وأنس. قلت: ومشهور مذهب مالك أن الإمام لا يقوله فى الجهرية.
ثم قال: والمأموم يؤمن معه لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر لَه ما تقدَم من ذنبه». وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد عين الحق والتحقيق، وعلى آله وصحبه المطهرين بعده، أعلام الطريق، وسلّم تسليما.
70
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
تباعد منى فطحل، إذ سألته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا