تفسير سورة الفاتحة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
سورة فاتحة الكتاب
وتسمّى أمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه، ولذلك تسمى أساساً أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله تعالى، والتعبّد بأمره، ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء، وسورة الكنز ؛ لأنها نزلت من كنز تحت العرش، والوافية والكافية ؛ لأنها وافية كافية في صحة الصلاة بخلاف غيرها عند القدرة عليها، والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام :«هي شفاء لكل داء » والسبع المثاني ؛ لأنها سبع آيات باتفاق، لكن من عدّ البسملة آية منها جعل السابعة ﴿ صراط الذين ﴾ إلى آخرها، ومن لم يعدها آية منها جعل السابعة ﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ إلى آخرها، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة أي : تكرّر فيها بأن تقرأ في كل صلاة وفي كل ركعة وقول بعضهم تثنى في كل ركعة فيه تجوّز وهي مكية على قول الأكثر.
وقال مجاهد : مدنية، وقيل : نزلت مرّتين مرّة بمكة حين فرضت الصلاة ومرّة بالمدينة حين حوّلت القبلة، ولذلك سميت مثاني. قال البغويّ : والأوّل أصح، وقال البيضاويّ : وقد صح : أنها مكية بقوله تعالى :﴿ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ﴾ ( الحجر، ٨٧ ) وهو مكيّ بالنص، انتهى.
وأراد بالنص السنة فقد ثبت ذلك عن ابن عباس وقول الصحابي في القرآن خصوصاً في النزول له حكم المرفوع والقرآن العظيم والنور والراقية وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها على ذلك، وسورة المناجاة، وسورة التفويض وفاتحة القرآن وأمّ الكتاب وسورة الحمد الأولى وسورة الحمد القصوى وسورة السؤال والصلاة لخبر :( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد : الحمد لله رب العالمين، يقول الله : حمدني عبدي، يقول العبد : الرحمن الرحيم، يقول الله : أثنى عليّ عبدي، يقول العبد : مالك يوم الدين، يقول الله : مجدني عبدي، يقول العبد :
إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله عز وجل : هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، يقول الله : فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل )، ولأنها جزؤها فهو من باب تسمية جزء الشيء باسم كله.
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ بسم الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا نعبد إلا إياه، ﴿ الرحمن ﴾ أي : الذي عمّ بنعمتي إيجاده وبيانه جميع خلقه أسفله وأعلاه أدناه وأقصاه ﴿ الرحيم ﴾ أي : الذي خص من بينهم أهل ودّه برضاه، آية من الفاتحة وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك والشافعيّ وقيل : ليست منها وعليه قرّاء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤهما والأوزاعيّ ومالك. ويدلّ للأوّل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم ( عدّ الفاتحة سبع آيات وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية منها )، رواه البخاري في «تاريخه »، وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها ) وروى ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها :( أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدّ بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين إلى آخرها ست آيات ) وآية من كل سورة إلا براءة لإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف بخطه أوائل السور سوى براءة مع المبالغة في تجريد القرآن عن الأعشار وتراجم السور والتعوّذ حتى لم تكتب آمين فلو لم تكن قرآناً لما أجازوا ذلك ؛ لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً وأيضاً هي آية من القرآن في سورة النمل قطعاً، ثم إنا نراها مكرّرة بخط القرآن فوجب أن تكون منه كما أنّا لما رأينا قوله :﴿ فبأيّ آلاء ربكما تكذبان ﴾ ( الرحمن، الآيات : ١٣ ١٦ ١٨ ) وقوله :﴿ ويل يومئذ للمكذبين ﴾ ( المرسلات، ٢٧ ) ( المطففين، ١٠ ) مكرّراً في القرآن بخط واحد وبصورة واحدة، قلنا : إن الكل من القرآن.
فإن قيل : لعلها ثبتت للفصل، أجيب : بأنه يلزم عليه اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً ولم لثبتت في أوّل براءة ولم تثبت في أوّل الفاتحة.
فإن قيل : القرآن إنما يثبت بالتواتر، أجيب : بأنّ محله فيما ثبت قرآناً قطعاً أمّا ما يثبت قرآناً حكماً فيكفي فيه الظنّ كما يكفي في كل ظنّي خلافاً للقاضي أبي بكر الباقلاني، وأيضاً إثباتها في المصحف بخطه من غير نكير في معنى التواتر، وأيضاً قد يثبت التواتر عند قوم دون آخرين.
فإن قلت : لو كانت قرآناً لكفر جاحدها، أجيب : بأنها لو لم تكن قرآناً لكفر مثبتها وأيضاً التكفير لا يكون بالظنيات وقد أوضحت ذلك مع زيادة في شرحي «التنبيه » و«المنهاج »، أما براءة فليست البسملة آية منها بإجماع.
فائدة : ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه.
والباء في بسم الله متعلقة بمحذوف تقديره بسم الله أقرأ لأنّ الذي يتلوه مقروء إذ كل فاعل يبدأ في فعله باسم الله يضمر ما يجعل التسمية مبدأ له كما أنّ المسافر إذا حل أو ارتحل فقال : بسم الله الرحمن الرحيم كان المعنى بسم الله أحل بسم الله أرتحل وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه، وما يدل عليه ومن أن يضمر ابتدائي لما ذكرنا.
فإن قيل : المصدر لا يعمل محذوفاً، أجيب : بأنه يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما وتقديره مؤخراً كما قال الإمام الرازي أولى كما في ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ لأنه أهمّ وأدلّ على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإنّ اسمه تعالى مقدّم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فقدم ذكراً.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ اقرأ بسم ربك ﴾ ( العلق، ١ ) فقدم الفعل، أجيب : بأنه في مقام ابتداء القراءة وتعليمها لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهمّ باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر الله تعالى أهمّ في نفسه، وذكرت أجوبة غير ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة، والباء للاستعانة أو للمصاحبة والملابسة على جهة التبرّك، والمعنى متبرّكاً بسم الله اقرأ، والثاني أولى لما فيه من التحاشي عن جعل اسمه تعالى آلة، والأحسن أن تكون لهما إعمالاً للفظ في معنييه الحقيقيين أو الحقيقيّ والمجازي عند من يجوّزه كإمامنا الشافعيّ، والبسملة وما بعدها إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرّك باسمه ويحمد على نعمه ويسئل من فضله ويقدر في أوّل الفاتحة قولوا كما قال الجلال المحلى، ليكون ما قبل إياك نعبد مناسباً له بكونه من مقول العباد.
فإن قيل : من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون نحو واو العطف وفائه، أجيب : بأنها إنما كسرت للزومها الحرفية والجرّ ولتشابه حركتها عملها وحذفت الألف من بسم خطاً كما حذفت لفظاً دون باسم ربك وإن كان وضع الخط على حكم الابتداء دون الدرج لكثرة الاستعمال، وقالوا : طوّلت الباء تعويضاً من طرح الألف وألحق بها ﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾ ( هود، ٤١ ) و﴿ إنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ( النحل، ٣٠ ) وإن لم تكتب في القرآن إلا مرّة واحدة لشبهها لها صورة.
فإن قيل : لم حذف في بسم الله دون الله والرحمن الرحيم ؟ أجيب : خطان لا يقاس عليهما : خط المصحف وخط العروضيين، ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله ولا مع غير الباء. والاسم مشتق من السموّ وهو العلوّ لأنه رفعة للمسمى وشعار له فهو من الأسماء المحذوفة الإعجاز، كيد ودم، لكثرة الاستعمال وبنيت أوائلها على السكون وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرّك ويقفوا على الساكن، وقيل من الوسم، وهو العلامة فوزنه على الأوّل أفع محذوف اللام، وعلى الثاني أعل محذوف الفاء، وفيه عشر لغات نظمها بعضهم في بيت فقال :
سم وسما واسم بتثليث أوّل لهنّ سماء عاشر تمت انجلي
والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات مقطعة غير قارّة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدّد تارة ويتحد أخرى، والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى، وقوله :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ ( الأعلى، ١ ) المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب، أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
وإن أريد به الصفة كما هو رأي أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى كالواحد والقديم وإلى ما هو غيره كالخالق والرازق وإلى ما ليس هو ولا غيره كالعلم والقدرة فإنهما زائدان على الذات وليسا غير الذات لأنّ المراد بالغير ما ينفك عن الذات وهما لا ينفكان.
فإن قيل : لم بدأ ببسم الله دون بالله، أجيب : بأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه وللفرق بين اليمين والتيمن. والله علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد وأصله إله، قال الرافعي : كإمام، ثم أدخلوا عليه الألف واللام ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام فصار اللام بلامين متحرّكين ثم سكنت الأولى وأدغمت في الثانية للتسهيل، انتهى. والإله في الأصل يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كما أنّ النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، والحق أنه أصل بنفسه غير مأخوذ من شيء بل وضع علماً ابتداءً فكما أنّ ذاته لا يحيط بها شيء ولا ترجع إلى شيء فكذا اسمه تعالى، وقيل : مأخوذ من أله إذا تحير، إذ العقول تتحير في معرفته، وقيل غير ذلك، وهو عربيّ عند الأكثر وعند المحققين أنه اسم الله الأعظم وقد ذكره الله تعالى في ألفين وثلثمائة وستين موضعاً واختار النوويّ تبعاً لجماعة أنه الحيّ القيوم قال : ولذلك لم يذكر في القرآن إلا في ثلاثة مواضع في البقرة، وآل عمران، وطه.
والرحمن الرحيم صفتان مشبهتان بنيتا للمبالغة من رحم بتنزيله منزلة اللازم أو بجعله لازماً ونقله إلى فعل بالضمّ. والرحمة لغة رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان، فالتفضل غايتها.
وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات فرحمة الله تعالى إرادة إيصال الفضل والإحسان أو نفس إيصال ذلك فهي من صفات الذات على الأوّل ومن صفات الفعل على الثاني، والرحمن أبلغ من الرحيم لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى كما في قطع بالتخفيف وقطع بالتشديد.
فإن قيل : حذر أبلغ من حاذر، أجيب : بأنّ ذلك أكثري لا كليّ، وبأنّ الكلام فيما إذا كان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان لا كحذر وحاذر للاختلاف وقدم الله عليهما لأنه اسم ذات وهما اسما صفة، والرحمن على الرحيم لأنه خاص إذ لا يقال لغير الله بخلاف الرحيم، والخاص مقدّم على العامّ، وإنما قدم والقياس يقتضى الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم : عالم نحرير لأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره ولذلك رجح جماعة أنه علم ولأنه لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم كالتابع والتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف فليس من باب الترقي بل من باب التعميم والتكميل وللمحافظة على رؤوس الآي، وهل الرحمن مصروف أو لا ؟ فيه قولان : مال السعد التفتازاني إلى جواز الأمرين لأنّ شرط منع صرف فعلان صفة وجود فعلى وشرط صرفه وجود فعلانة وكلاهما منتف هنا لكن أظهرهما أنه ممنوع الصرف إلحاقاً له بما هو الغالب من نظائره في الزيادة والوصف، والثاني أنه مصروف إلحاقاً له بالأصل في مطلق الاسم وهو الصرف، هذا مع أنّ المختار في منع صرف ما ذكر انتفاء فعلانة لا وجود فعلى، والحاصل أنه تعارض في صرفه وعدم صرفه الأصل والغالب.
فإن قيل : هذا إذا لم تدخله أل، أجيب : بأنّ المختار أنّ غير المصروف إذ دخلت عليه أل والعلتان فيه باق على منع صرفه وإن جرّ بالكسرة.
فوائد : الأولى : الوقف على الله قبيح للفصل بين التابع والمتبوع وعلى الرحمن كذلك وقيل : كاف وعلى الرحيم تام.
الثانية : عدد حروف البسملة الرسمية تسعة عشر حرفاً وعدد ملائكة خزنة النار تسعة عشر قال ابن مسعود : من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية فليقلها ليجعل الله تعالى له بكل حرف جنة، أي : وقاية من واحد.
الثالثة : قال النسفيّ في ﴿ تفسيره ﴾ قيل : الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة : صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون وصحف موسى قبل التوراة عشرة، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وجميع كل الكتب مجموعة في الفاتحة ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة ومعانيها مجموعة في بائها ومعناها : بي كان ما كان وبي يكون ما يكون. زاد بعضهم ومعاني الباء في نقطتها وتخصيص التسمية بهذه الثلاثة التي هي الله والرحمن الرحيم ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها فيتوجه العارف بجملته حرصاً ومحبة إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره.
﴿ الحمد لله ﴾ الحمد اللفظي لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التبجيل، أي : التعظيم، سواء أتعلق بالفضائل وهي النعم القاصرة أم بالفواضل وهي النعم المتعدّية فدخل في الثناء الحمد وغيره وخرج باللسان الثناء بغيره كالحمد النفسي وبالجميل الثناء باللسان على غير الجميل، إن قلنا برأي ابن عبد السلام أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ، وإن قلنا برأي الجمهور وهو الظاهر أنه حقيقة في الخير فقط ففائدة ذلك تحقيق الماهية أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وبالاختياري المدح، فإنه يعمّ الاختياري وغيره، تقول : مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها، وظاهر قول الزمخشريّ : الحمد والمدح أخوان أنهما مترادفان وبه صرّح في «الفائق » لكن الأوفق ما عليه الأكثر أنهما غير مترادفين بل متشابهان معنى أو اشتقاقاً كبيراً، والاشتقاق ثلاثة أقسام : كبير، وأكبر، وأصغر، وقد يعبر عنه بالصغير، فالكبير أن يشترك اللفظان في الحروف الأصول من غير ترتيب كالحمد والمدح، والأكبر أن يشتركا في أكثر الحروف الأصول كالفلق، والفلج، والفلذ، مع اتحاد في المعنى أو تناسب، والأصغر أن يشتركا في الحروف الأصول المترتبة كضرب والضرب وبعلى قصد التبجيل ما كان على قصد الاستهزاء والسخرية نحو قوله تعالى :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ ( الدخان، ٤٩ ) وتناول الظاهر والباطن إذ لو تجرّد الثناء على الجميل عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح، لم يكن حمداً بل تهكم أو تمليح، وهذا لا يقتضي دخول الجنان والأركان في التعريف لأنّ المطابقة وعدم المخالفة اعتبرا فيه شرطاً لا شطراً وعرفاً فعل ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً ومحبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان كما قيل :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
فمورد اللغويّ : هو اللسان وحده ومتعلقه يعمّ النعمة وغيرها، ومورد العرفي يعمّ اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها، فاللغويّ أعمّ باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد، والعرفي بالعكس، والشكر لغة : هو الحمد عرفاً وعرفاً صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، والمدح لغة الثناء باللسان على الجميل مطلقاً على جهة التعظيم، وعرفاً ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل، فالشكر أعمّ من الحمد والمدح من وجه لأنه لا يختص باللسان وأخص منهما من وجه آخر لأنه يختص بالثناء على الإنعام، وضدّ الحمد الذم، وضدّ الشكر الكفران، وضدّ المدح الهجو.
وجملة الحمد لله خبرية لفظاً ؛ إنشائية معنى، لحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها، ويجوز أن تكون موضوعة شرعاً للإنشاء وقيل : خبرية لفظاً ومعنى، قال بعضهم : وهو التحقيق إذ ليس معنى كونها إنشائية لا أنها جملة إنشاء الحامد الثناء بها وذلك لا ينافي كونها خبرية معنى. ولام لله للملك أو الاستحقاق أو الاختصاص، وقيل : للتعليل والأولى أنها للاختصاص بالمعنى الأعمّ الصادق بالملك وبالاستحقاق، لا بالمعنى الأخص المقابل لهما وعلى كل فهي متعلقة بمحذوف هو الخبر حقيقة، فالحمد مختص بالله كما أفادته الجملة الاسمية سواء أجعلت لام التعريف فيه للاستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر، أم للجنس كما عليه الزمخشري ؛ لأنّ لام لله للاختصاص كما مرّ فلا فرد منه لغيره أم للعهد كالتي في قوله تعالى :﴿ إذ هما في الغار ﴾ ( التوبة، ٤٠ ) كما نقله ابن عبد السلام وأجازه الواحديّ على معنى أن الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه مختص به والعبرة بحمد من ذكر فلا فرد منه لغيره، وأولى الثلاثة الجنس، زاد بعضهم أو للكمال كما أفاده سيبويه في الداخلة على الصفات كالرحمن الرحيم، قال البيضاويّ : إذ الحمد في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال :﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ﴾ ( النحل، ٥٣ ) انتهى.
فإن قيل : بل هو موليه مطلقاً بغير وسط، أجيب : بأن المراد بالوسط من تصل إليه النعمة أوّلاً ثم تنتقل منه إلى غيره لا أنه وسط في التأثير.
فأن قيل : لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق أو نحو من بقية الصفات أجيب : بأن لا يتوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف، قال البيضاوي : وفيه إشعار بأنه تعالى حيّ قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه.
﴿ رب العالمين ﴾ أي : مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدوابّ وغيرهم، إذ كل منها يطلق عليه عالم، يقال : عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك، وسمي المالك بالرب لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله تعالى :﴿ ارجع إلى ربك ﴾ ( يوسف، ٥٠ ) والعالمين اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعاً له لأنّ العالم عامّ في العقلاء وغيرهم والعالمين مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعاً لما هو أعم منه، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في «توضيحه »، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع ثم اختلفوا في تفسير العالم الذي جمع هذا الجمع فذهب أبو الحسن إلى أنه أصناف الخلق العقلاء وغيرهم وهو ظاهر كلام الجوهريّ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه أصناف العقلاء فقط وهو الإنس والجن والملائكة.
وقيل : عنى به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ووجه اشتمال الصغير وهو الإنسان على نظائر ما في الكبير وهو ما سوى الله تعالى أنّ تفاصيله شبيهة بتفاصيل العالم الكبير، إذ الكبير ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعالم الملك وهو ما ظهر للحواس وتكون بقدرة الله تعالى بعضه من بعض وتضمنه التغيير وإلى باطن معقول كعالم الملكوت وهو ما أوجده سبحانه وتعالى بالأمر الأزلي بلا تدريج وبقي على حالة واحدة من غير زيادة فيه ولا نقصان منه، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة، وإلى ما هو مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.
فإن قيل : لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجميع الكثرة أجيب : بأنّ فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى.
﴿ الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ﴾ ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أسمائه خمسة : الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك، والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أوّلاً فأنا الله ثم ربيتك بوجود النعمة، فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك، فأنا رحمن ثم تبت عليك، فأنا رحيم، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك، فأنا مالك يوم الدين.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية، فما الحكمة في ذلك ؟ أجيب : بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى : اذكر أني إله ورب مرّة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور.
لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره، قوله تعالى :﴿ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ﴾ ( غافر، ٣ ) وقرأ عاصم والكسائيّ : مالك بألف بعد الميم، ويعضده قوله تعالى :﴿ لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ ﴾ ( الانفطار، ١٩ ) وقرأ الباقون بغير ألف، ويعضده قوله تعالى :﴿ ملك الناس ﴾ ( الناس، ٢ ) وبينهما عموم مطلق فكل ملك مالك ولا عكس لعموم ولاية الملك التزاماً لا مطابقة ولا يقدح فيها أن تقول مالك الدواب والأنعام والوحوش والطير دون ملكها لأنّ ذلك ليس من جهة عدم شمول حياطته لذلك، بل من جهة أنه إنما يضاف عرفاً إلى ما فيه انقياد وامتثال وينفذ فيه التصرف بالأمر والنهي، قاله السعد التفتازاني، وقيل : هما بمعنى وهو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله ويوم الدين يوم الجزاء ومنه قولهم : كما تدين تدان وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلا لله تعالى ﴿ لمن الملك اليوم ﴾ ( غافر، ١٦ ).
فإن قيل : إضافة اسم الفاعل غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة ؟ أجيب : بأنها إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك : مالك الساعة أو غداً فأما إذا قصد به معنى الاستمرار : أي هو موصوف بذلك دائماً فتكون الإضافة حقيقية كغافر الذنب فصح وقوعه صفة للمعرفة.
فإن قيل : التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحاً في الاستقبال، أجيب : بأنّ معناه الثبوت والاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين كأنه قيل : هو ثابت المالكية في يوم الدين أو المراد أنه جعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع فتستمرّ مالكيته في جميع الأزمنة.
تنبيه : إجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه رباً للعالمين موجداً لهم منعماً عليهم بالنعم، كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه تعالى الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له.
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب وفيه أقوال أخر ذكرتها في «شرح القطر«.
فإن قيل : لم كرر ضمير إياك ؟ أجيب : بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره.
فإن قيل : لم قدّمت العبادة على الاستعانة، أجيب : لتتوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأيضاً لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحاً واعترافاً منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله :﴿ وإياك نستعين ﴾ ليدل على أنّ العبادة أيضاً مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق.
فإن قيل : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ؟ أجيب : بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تحسيناً للكلام وتنشيطاً للسامع فيكون أكثر إسغاءً للكلام فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما فهذه أقسام أربعة ذكرها البيضاوي والتحقيق كما قاله بعض المتأخرين : أنها ستة لأنّ الملتفت إليه اثنان وكل منهما إمّا غيبة أو خطاب أو تكلم، من ذلك قوله تعالى :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ﴾ ( يونس، ٢٢ ) الأصل بكم فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى :﴿ والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه ﴾ ( الروم، ٤٨ ) الأصل فساقه فهو التفات من الغيبة إلى التكلم.
والاستعانة طلب معونة وهي : إمّا ضرورية أو غير ضرورية، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالباً وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية.
فإن قيل : لم أطلقت الاستعانة ؟ أجيب : بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال : لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
تنبيه : الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.
فإن قيل : لم قدم المفعول ؟ أجيب : بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حين قال :﴿ لا تحزن إنّ الله معنا ﴾ ( التوبة، ٤٠ ) على ما حكاه عن كليمه موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال :﴿ إن معي ربي سيهدين ﴾ ( الشعراء، ٦٢ ) لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس.
﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا : اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ فاهدوهم إلى صراط الجحيم ﴾ ( الصافات، ٢٣ ) أجيب : بأنه وارد على التهكم.
تنبيه : هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ ( الإسراء، ٩ ) ﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾ ( الأعراف، ١٧٥ ) فعومل معاملة اختار في قوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ﴾ ( الأعراف، ١٥٥ ) وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذٍ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعاً لا يحصيها عدد كما قال تعالى :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ ( إبراهيم، ٣٤ ) ( النحل، ١٨ ) ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة، الأوّل : إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه أشار تعالى حيث قال :﴿ وهديناه النجدين ﴾ ( البلد، ١٠ ) أي طريق الخير والشر وقال :﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ ( فصلت، ١٧ ) والثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى :﴿ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾ ( الأنبياء، ٧٣ ) وقوله :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ ( الإسراء، ٩ ) والرابع : أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ ( الأنعام، ٩٠ ) وقوله :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾ ( العنكبوت، ٦٩ ).
فإن قيل : ما معنى طلب الهداية وهم مهتدون ؟ أجيب : بأنهم طلبوا زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه كقوله تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى ﴾ ( محمد، ١٧ ) والصراط من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه، قرأ حمزة الصراط المعرف في هذه السورة بالإشمام وهو أن ينطق القارئ بحرف متولد بين الصاد والزاي، وأشمّ خلف صراط الثاني كالأوّل وكذا جميع ما في القرآن من معرف ومنكر، وقرأ قنبل جميع ما في القرآن بالسين، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة في الجميع، وهذه لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وهو مصحف سيدنا عثمان رضي الله عنه تعالى والمستقيم المستوي، والمراد به طريق الحق، وقيل : ملة الإسلام، وهذان القولان مرويان عن ابن عباس وهما متحدان صدقاً وإن اختلفا مفهوماً.
﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ بالهداية بدل من الأوّل بدل كل من كل والعامل فيه مقدّر على رأي الجمهور، وقيل : العامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو ظاهر مذهب سيبويه، واختاره ابن لك.
فإن قيل : ما فائدة ذكر صراط الذين أنعمت عليهم بدلاً تابعاً ؟ وهلا اقتصر عليه مع أنه المقصود بالنسبة ؟ أجيب : بأنّ فائدته التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أنّ الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين وهذا هو الموافق لما خرّج ابن جرير عن ابن عباس، إن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والصدّيقون والشهداء ومن أطاعه وعبده وقيل : الذين أنعمت عليهم الأنبياء خاصة صلوات الله وسلامه عليهم، وقيل : أصحاب موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ.
تنبيه : أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه ويبدل من الذين بصلته. ﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ وهم اليهود، لقوله تعالى :﴿ فيهم من لعنه الله وغضب عليه ﴾ ( المائدة، ٦٠ ) ﴿ ولا ﴾ أي : وغير ﴿ الضالين ﴾ وهم النصارى، لقوله تعالى :﴿ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا ﴾ ( المائدة، ٧٧ ) الآية، ونكتة البدل إفادة أنّ المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى وقيل : إنّ غير صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله تعالى والضلال، وقيل : المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون ؛ وذلك لأنه تعالى بدأ في أوّل البقرة بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات ثم أتبعه بذكر الكفار وهو المراد من قوله تعالى :﴿ إنّ الذين كفروا ﴾ ( البقرة، ٦ ) ثم أتبعهم بذكر المنافقين وهو قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله ﴾ ( البقرة، ٨ ) الخ. . وكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله :﴿ أنعمت عليهم ﴾ ثم أتبعهم بذكر الكفار وهو قوله ﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ ثم أتبعهم بذكر المنافقين بقوله :﴿ ولا الضالين ﴾.
فإن قيل : كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف ؟ أجيب : بأنه يصح بأحد تأويلين ؛ أحدهما : إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى باللام في قول القائل :
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني***
أي : لئيما يسبني إذ لا مرور على الكل، والثاني : جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد وهو المنعم عليه فليس في غير إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف.
تنبيه : إنما سمى كل من اليهود والنصارى بما ذكر مع أنه مغضوب عليه وضالّ لاختصاص كل منهما بما غلب عليه، وقال صلى الله عليه وسلم ( إن المغضوب عليهم اليهود وإنّ الضالين النصارى ) رواه ابن حبان وصححه، وقيل : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل، به فكان المقابل له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً :﴿ وغضب الله عليه ﴾ ( النساء، ٩٣ ) والمخل بالعمل جاهل ضال لقوله تعالى :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾ ( يونس : ٣٢ )
فإن قيل : ما معنى غضب الله لأنّ الغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام أو تغير يحصل عند ثوران دم القلب إرادة الانتقام وهو محال في حقه تعالى ؟ أجيب : بأنه إذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية فمعناه إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ونسأله رضاه ورحمته.
فإن قيل : أيّ فرق بين عليهم الأولى والثانية ؟ أجيب : بأنّ محل مجرور الأولى النصب على المفعولية ومحل مجرور الثانية الرفع لأنه نائب مناب الفاعل.
فإن قيل : لم دخلت لا في ﴿ ولا الضالين ﴾ ؟ أجيب : بأنها بمعنى غير كما قرّرته تبعاً للجلال المحلى، وأنها مزيدة كما قال الزمخشري لتأكيد ما في غير من معنى النفي، كأنه قال : لا المغضوب عليهم ولا الضالين، وللتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه.
فائدة : أوّل السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذمّ للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدلّ على أنّ مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله ومطلع الآفات ورأس المخالفات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.
فإن قيل : ما فائدة ﴿ غير المغضوب ﴾ إلخ بعد ذكر ﴿ أنعمت عليهم ﴾ ؟ أجيب : بأنّ الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام :( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) فقوله :﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ يوجب الرجاء الكامل وقوله :﴿ غير المغضوب عليهم ﴾ الخ يوجب الخوف الكامل وحينئذٍ يتقوّى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حدّ الكمال وقرأ حمزة عليهم : غير المغضوب عليهم بضمّ الهاء وفقاً ووصلاً، وكذا جميع ما في القرآن، وقرأ ابن كثير : عليهم بواو، بعد الميم في الوصل فإذا وقف أسقط الواو وكذا يفعل في كل ميم جمع بعدها حرف متحرّك، وأمّا قالون فهو مخير في ميم الجمع إن شاء وصلها بواو كابن كثير وإن شاء لا يصلها بواو، وأمّا ورش فإنه يصل ميم الجمع بواو وإن كان بعدها همزة قطع فيصير عنده مدّ منفصل، وفي ﴿ ولا الضالين ﴾ مدّان لازم وعارض فاللازم هو الذي على الألف بعد الضاد قبل اللام المشدّدة، والعارض هو الذي على الياء قبل النون.
Icon