ﰡ
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة المائدةقوله تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) «١» الآية (١) :
اعلم أن العقود في الشرع منقسمة إلى ما يجب الوفاء به، وإلى ما لا يجب، وإلى ما لا يجوز.
فأما ما لا يجوز مثل عقود الجاهلية على النصرة على الباطل في قولهم:
دمي دمك، ومالي مالك، وأنا أجيرك، فيعاهده على أن ينصره على الباطل، ويمنع حفا توجه عليه، فهذا لا يجب الوفاء به.
والوجه الآخر: ما يتخير في الوفاء به.
والوجه الثالث: ما يجب الوفاء به، والذي يجب الوفاء به، هو الذي يتضمن تحقيق حق أوجب الله تعالى الوفاء به.
فإذا انقسمت العقود إلى باطل وصحيح، فربما يقول القائل: الأصل اتباع الشروط والعقود، نظرا إلى مطلق اللفظ، والقائل الآخر يقول:
«ما بال أقوام يشترطون ما ليس في كتاب الله تعالى؟ كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل» «١».
ولا شك أن الذي ورد الشرع به محصور مضبوط، والذي يمكن اشتراطه مما يهجس في النفس، فمما لا نهاية له، فلا يمكن أن يقال إن الأصل وجوب الوفاء بكل ما يهجس في النفس، فيعقد عليه، بل الشرع ضبط لنا ما يجب الوفاء به، والباقي مردود، فهو كقول القائل: افعلوا الخير، لا يجوز أن يحتج به في وجوب كل خير، فإن ما لا يجب فعله من الخيرات لا نهاية له، فالمخصوص مجهول على ذلك، وكذلك المخصوص من الشروط، فإن الباطل من الشروط لا نهاية له، وإنما الجائز منها محصور، فعلى هذا لا يجوز التعلق بعموم قوله عليه السلام:
«المؤمنون عند شروطهم» «٢».
ولا بمطلق قوله:
(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
فهذا هو المختار فيه.
والذي هو عقد أو يسمى عقدا، ينقسم إلى ما كان على المستقبل، وإلى ما كان على الماضي.
أما ما على المستقبل: مثل قول القائل: والله لأفعلن.
وأما على الماضي: كقول القائل: والله لقد كان كذا. ويقال في
(٢) رواه جماعة وعلق البخاري منه المسلمون عند شروطهم. وضعفه ابن حزم وعبد الحق، وحسنه الترمذي.
يبقى أن يقال هو في علم الله تعالى غير منعقد.
فيقال هو في علم الله تعالى، وإن لم يفصد تحقيق ما حلف لعلمه به، ففي المستقبل ربما لا يتصور منه العقد، ولكن يحيل العقد، وربما ظن الصدق في الماضي، فيقصد تحقيق قوله بعقد اليمين، فسمي عقدا من هذا الوجه.
واعلم أنه قد تبين بما قدمناه، أن كل عهد وعقد لا يجب الوفاء به، فمطلق قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، محمول على القيد في قوله:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) «١».
وإنما عنى به العقد مع الله سبحانه فيما أمر الله تعالى عباده بالوفاء به وإلا فكل يمين على منع النفس من مباح أو واجب، فذلك مما لا يجب الوفاء به لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» «٢».
(٢) أخرجه الامام احمد في مسنده، والامام مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه عن ابي هريرة رضي الله عنه.
فمنهم من أوجب لأنها داخلة تحت قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ).
ومنهم من لم ير ذلك، لأنه ليس إلى العباد إيجاب ما لم يوجبه الله تعالى عليهم، فإن الذي وجب، إنما وجب لعلم الشرع أنه داعي إلى المستحسنات العقلية، وناهي عن المستقبحات العقلية، ولا يجوز ذلك فيما يوجبه العبد على نفسه.
والقول الآخر يقول: إن العبد إذا باشر السبب الموجب، أوجبه الله تعالى عليه، فيكون من العبد مباشرة السبب الوحيد، وكون السبب موجبا عرف بالشرع، فوجب بإيجاب الشرع، لا بغيره، وهذا بيّن.
ولعل الأظهر اندراج ذلك تحت العموم، ولا خلاف أن المباح نذره لا يوجب شيئا، لأنه لا يتوهم كونه داعيا إلى المستحسنات العقلية، ولا أن له في الوجوب أصلا يتوهم، كون هذا داخلا تحته، وهذا بيّن لا غبار عليه.
ولما حلف الصديق على ما كان فعله خيرا من تركه، قيل له:
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) «١».
فحنث الصديق عن نفسه، وكفر عن يمينه.
قيل في الأنعام: إنها الإبل والبقر والغنم، وقيل يقع الانعام على هذه الأصناف الثلاثة، وعلى الظباء وبقر الوحش، ولا يدخل فيها الحافر، لأنه أحد من يعمه الوطء.
والذي يدل على تناوله للجميع، استثناؤه الصيد منها، بقوله في نسق الآية: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).
ويدل على أن الحافر ليس داخلا في الأنعام قوله تعالى:
(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) «١».
ثم عطف عليه قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) «٢».
فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام، دل ذلك على أنها ليست منها.
وذكر ذاكرون دقيقة فقالوا:
لما قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، أذن ذلك بأن الإباحة مجازاة على الوفاء بالعقود، فإن الكفار محظور عليهم ذبح البهائم، فإن ذبح البهائم إنما عرفت إباحته بالسمع، والسمع إنما عرف بنبوته صلّى الله عليه وسلم، فإذا تثبت ذلك، فلا يباح ذبح البهائم للكفار، وإن كانوا أهل الكتاب، وهذا بعيد.
(٢) سورة النحل آية ٨. [.....]
ويمكن أن يجاب عنه بأنه محرم أن يذبحوا، ولكن إذا ذبحوا على تسمية الكتاب حل للمسلم.
وبالجملة، هذا طريق المعتزلة، وعندنا لا يحرم قبل السمع شيء، ولا يحل أيضا، فإن الحكم حكم الله تعالى، فلا تعلق له بما تقدم على هذا الطريق، فاعلمه.
قوله تعالى: (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ).
يحتمل أن يكون فيما قد حصل تحريمه قبل ذلك، فالباقي على الإباحة؟
إلا ما خصه الدليل، فيكون عاما محتجا به.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : إلا ما يريد أن يحرمه، فيكون مؤذنا بورود بيان من بعد، إلا أن ذلك لا يقتضي التخصيص، ولا يتحقق فيه معنى الاستثناء، إذا لم يكن محرما في الحال.
ويحتمل أن يريد به إلا ما قد حرم عليكم مطلقا، وسيرد بيانه.
فعلى هذا يكون القدر المخصوص منه مجملا لجهالة المخصوص.
أو يجوز أن يكون الكل قد ورد دفعة واحدة، فيذكر الكلام مطلقا إلا ما سيرد تفصيله، ويسوق الكلام إلى غايته، ويكون ذلك كمطلق يعقبه خصوص، ويسوق الكلام إلى آخره.
نعم، قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)، لا يتناول محل الصيد، فإنه لو استثنى ذلك سقط حكم الاستثناء الثماني، وهو قوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)، وصار بمثابة قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)، وهو تحريم الصيد على المحرم، وذلك تعسف في التأويل، ويوجب ذلك
وقوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)، لا يخلو إما أن يكون مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله تعالى: (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) إلا محلي الصيد وأنتم حرم، فلو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور، إن كان قوله تعالى (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مستثنى من الإباحة، فهذا أيضا وجه ساقط، فإن معناه:
أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم، و (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) سوى الصيد مما قدمناه، ويستثنى تحريمه في الثاني، وأن يكون معناه: أوفوا غير محلي الصيد، وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) الآية (٢) : روي عن ابن عباس أنها مناسك الحج، فعلى هذا تشتمل على الصفا والمروة والبدن وغيرها.
وقيل معالم الله تعالى وأحكامه: شعائره، فإن شعائره مأخوذة من الأعلام، ومنه مشاعر البدن وهي الحواس، وهي أيضا المواضع التي أشعرت بالعلامات، ومنه قول القائل: شعرت به: أي علمته، لا يشعرون: أي لا يعلمون، ومنه الشاعر، لأنه شعر بفطنته بما لا يشعر به غيره، فالشعائر العلامات.
فقوله تعالى: (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ)، اشتمل على جميع معالم دين الله، وهو ما أعلمنا الله تعالى من فرائض دينه وعلاماتها أن لا تتجاوز واحدة ولا تقصر فيما دونها، وهذا أشمل التأويلات.
«المبكر للجمعة كالمهدى بدنه..»، إلى أن قال- «كالمهدى بيضة» «١».
فسماها هديا، فتسمية البيضة هديا- لا محمل له، إلا أنه أراد بالهدي الصدقة، ولذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هديا، فعليه أن يتصدق به.
إلا أن الإطلاق ينصرف إلى أحد الأصناف من الإبل والغنم.
وسوقها إلى الحرم، وذبحها فيه، وهذا شيء تلقى من عرف الشرع من قوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) «٢»، أراد به الشاة..
وقد قال تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) «٣».
وقال تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) «٤».
وأقله عند الفقهاء شاة، فإذا أطلق الهدي، تناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم.
فقوله تعالى: (وَلَا الْهَدْيَ) أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم، وإحلاله: استباحته لغير ما سيق له من الفدية.
(٢) سورة البقرة آية ١٩٦.
(٣) سورة المائدة الآية ٩٥.
(٤) سورة البقرة آية ١٩٦.
وفيه تنبيه على أصل آخر، وهو أن الشافعي يقول:
إذا كان مطلق الهدي يتناول الأصناف الثلاثة على خلاف ما يقتضيه حق الوضع، فهو لعرف الشرع وتقييده المطلق من الهدي بالأصناف، فإذا كان كذلك فلم نجد في عرف الشرع، إلا أن لفظ الهدي تكرر في الكتاب في مواضع، فاقتضى ذلك كون الهدي صريحا في التقييد بالأصناف الثلاثة، وإن تناول من حيث اللغة ما سواه، كذلك لفظ الفراق والسراح من حيث تكررا في الكتاب والسنة، صارا صريحين في معنى الطلاق، وإن كان اللفظين محتملين لما سواه، وهذا بيّن ظاهر.
قوله تعالى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) «١»، عنى به الأشهر الحرم ثلاثة متوالية وواحد مفرد، المفرد رجب، والمتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وذلك منسوخ بجواز قتل الكفار في أي وقت كان «٢».
وقوله: (وَلَا الْقَلائِدَ) «٣»، نهى عن استباحة الهدي وصرفه إلى جهة أخرى، ونهى عن التعرض للقلائد: وهي أن المحرمين كانوا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحا شجر الحرم، وكان قد حرم إذ ذاك ما
(٢) اختلف المفسرون في الآية حول النسخ، انظر كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان.
(٣) أي لا تحلوا ذوات القلائد. والقلائد مفردها قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل او عروة مزادة او لحاء شجر الحرم.
وإذا كان كذلك، فلا يجوز استباحته، ويجوز التصدق به، ولكن إذا فعل ذلك، فمجرد فعله لا نقول إنه حرم، ولكن لا بد من النية، وليس في الآية تعرض لها.
قوله (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) : نسخها قوله:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) «١».
و (فَإِنْ جاؤُكَ... فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) «٢».
وقوله: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) :
معناه أن الكفار كانوا إذا قلدوا أنفسهم قلادة من شعر منعته من الناس، وكان الكفار على هذه السنة، فأمر المسلمون أن لا يتعرضوا لهم، ولا يتعرض للكفار الذين يؤمون البيت، ثم أنزل الله تعالى بعد هذا:
(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) «٣».
وقال:
(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) «٤».
قوله تعالى: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ «٥» ). الآية (٢)، وهو التجارة.
(٢) انظر الآيات ٤٢ و ٤٨ و ٤٩ من سورة المائدة.
(٣) سورة التوبة آية ٢٨.
(٤) سورة التوبة آية ١٧.
(٥) انظر تفسير الطبري حول هذه الآية.
وذلك يدل على أن الذي يقصد الحج لا يلزمه الإحرام، إلا إذا أراد الحج، فإن الله تعالى يقول: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً)، وهو قول للشافعي، ثم قال:
(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).
هذا إطلاق وإباحة لما كان قد حرم من قبل.
قوله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) «١» الآية (٢).
معناه: أي لا يكسبنكم شنآن قوم، أي البغض، أن تتعدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم..
قال صلّى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
وفيه دليل على أنه إنما يجوز مقابلة الظالم بما يجوز أن يكون عقوبة له وقد أذن فيه، فأما بالجنايات والمحظورات فلا يجوز معاقبته.
ذكروا أن سبب نزول الآية، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، كانوا بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، فمرّ بهم ناس من المشركين من أهل نجد يريدون العمرة، فقالوا: إنا نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم.
فنزلت هذه الآية: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) «٢».
قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) الآية (٣) :
(٢) انظر ما قاله صاحب محاسن التأويل في هذه المسألة تحت عنوان «تنبيهات». [.....]
والمنخنقة كمثل.
والموقوذة: المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت، ومنه المقتول بالبندقة، كذلك فسّره ابن عمر وعدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض فأصيب فآكل. ؟
فقال: «إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله تعالى فأصاب فخرق فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل».
وعن عدي قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال:
«ما أصاب بحده فخرق فكل، وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل» «١».
فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة، وإن لم يكن مقدورا على ذكاته، وذلك يدل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم.
لا جرم قال الشافعي في قول: إن أخذ الكلب الصيد فقتله ضغطا، فإنه لا يحل ما أصاب بعرض المعراض.
قوله تعالى: (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) : هي الساقطة من أعلى جبل فتموت.
وهذا الإشكال فيه، إن حصل ذلك بغير فعل الآدمي فهو ميتة، وما رداه الواحد منا، فلا يحل أيضا، فإنه ليس ذكاة شرعية.
قوله تعالى: (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) : يعني وما أكل السبع منه حتى يموت، ومعلوم أن الباقي لم يأكله السبع وهو المحرم، ولكن العرب
فكل ما تقدم ذكره في الآية مما نهى عنه أريد به الموت، فالميتة أصل في التحريم وما عداها، من الموقوذة، والمتردية، وأكيلة السبع ملحقة بها، وإن لم يمت الحيوان حتف أنفه.
قوله تعالى: (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ).
على صورة الاستثناء، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع المذكور قبله، لأن الميتة لا يرجع إليها الاستثناء، وكذلك الدم ولحم الخنزير، وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة، وكذلك قوله: (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) «١»، فإنه محمول على المذبوح على أسماء الأصنام، فلا يقال في مثله: إلا ما ذكيتم، فلا رجوع إلى الاستثناء إلا ما قبل المنخنقة، فبقي ما قبل المنخنقة على حكم العموم، ومن قوله المنخنقة إلى موضع الاستثناء، أمكن رد الاستثناء إليه.
فيقال: المنخنقة أو الموقوذة محرمة، إلا ما أدرك زكاته وفيه حياة مستقرة، فإنه يحل بالذكاة.
يبقى أن يقال: إنما يباح ما يباح، أو يحرم ما يحرم بعد الموت، فإذا خنق شاة ثم خلاها وفيها حياة مستقرة، ثم ذبحت بعد ذلك، فلا تسمى منخنقة، وإنما تسمى مذكاة، والمنخنقة هي التي تموت بالخنق فقط، فعلى هذا يحتمل أن يقال: إلا ما ذكيتم، استثناء منقطع بمنزلة قوله: لكن ما ذكيتم، كقوله تعالى:
(فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) «٢».
(٢) سورة يونس آية ٩٨.
وكذلك قوله تعالى:
(طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) «١».
وليس قوله: إلا تذكرة لمن يخشى، رفعا لشيء من قوله: لتشقى، ولكن معناه: لكن تذكرة لمن يخشى.
ومثله قوله تعالى:
(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) «٢».
على بعض الأقوال، وكذلك قوله:
(لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) «٣».
ومثله:
(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) «٤».
ويمكن أن يقال إنه استثنى على بعض الوجوه، وتقديره: حرمنا كل ما قتلتموه، وحرمنا الميتات كلها إلا السمك والجراد، وحرمنا كل دم إلا الكبد والطحال.
(٢) سورة البقرة آية ١٥٠.
(٣) سورة النمل آية ١٠ و ١١.
(٤) سورة الدخان آية ٥٦.
ولا تعرف العرب من الذكاة قطع الحلقوم واللثة وحالة خاصة، فظاهر الحال أنه محال على بيان مقدم.
قوله تعالى: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) : إنما ذكره عقيب ما تقدم، ومعنى استقسام: طلب علم ما قسم له بالأزلام، وإلزام أنفسهم ما يأمرهم به القداح بقسم اليمين.
والاستقسام بالأزلام، أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات، أجال القداح وهي الأزلام وهي ثلاثة أضرب:
منها نهاني ربي.
منها ما نهاني ربي.
ومنها غفل لا كتابة عليه.
فإذا خرج الغفل أجال القداح ثانية.
وهذا إنما نهى الله تعالى عنه فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ما يصيبها غدا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر.
فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الاقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل، أن ما قاله الشافعي بناء على الأخبار الصحيحة، ليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام، فإن العتق حكم شرع، فيجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على حصول العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا، فذلك يدل في المستقبل على أمر
قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) الآية (٤).
ذكروا في الطيبات قولين:
أحدهما: أنها بمعنى الحلال، وذلك أن ضد الطيب وهو الخبيث، والخبيث حرام، فإذا الطيب هو الحلال، والأصل فيه الاستلذاذ، فيشبه الحلال في انتفاء المضرة منها جميعا.
وقال تعالى: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) «٢»، يعني الحلال.
وقال: (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) «٣» وهي المحرمات.
وهذا فيه بعد من وجه، فإنه إن كان الطيب بمعنى الحلال، فتقديره:
يسئلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم الحلال، فيكون معناه، إعادة العبارة عما سألوا عنه من غير زيادة بيان، فيكون بمثابة من يقول: يسئلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم ما أحل لكم، وهو لا يليق ببيان صاحب الشريعة.
وكذلك في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ليس المراد به الحلال فقط.
(٢) سورة المؤمنون آية ٥١.
(٣) سورة الأعراف آية ١٥٧.
ومعنى الجميع ما يستطاب من المأكولات، ليس أنه التعبير عن نفس الشيء.
وأبان بذلك أنه على مناقضة اليهود الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله:
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) «١».
فقال مخبرا عن هذا الدين، إن هذا الدين يحل لهم الطيبات، ويتضمن التسهيل، ودفع الإصر والأغلال التي كانت على المتقدمين.
وهذا حسن بين في إبانة معنى الآية، على خلاف ما قالوه من المعنى الآخر، ولما كان كذلك قال الشافعي:
أبان الله تعالى أنه أحل الطيبات، والطباع فيما يستطاب من الأشياء واستخباثها مختلفة، فوجب اعتبار حال فريق من الفرق الذين بعث الرسول إليهم، فإنه ﷺ بعث إلى أمم مختلفة لهمم والأخلاق والطباع، ولا يمكن اعتبار استطابة الأمم على اختلافها، فجعلت العرب الذين هم قوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصلا، وجعل من عداهم تبعا لهم، فكل ما تستطيبه العرب هو حلال، كالثعلب والضب، وما لا فلا.
فبين الشافعي علة حل لحم الضب، فإن الضب مستطاب عند العرب وإن كان لا تشتهيه نفوس العجم.
فهذا تمام ما أردنا بيانه من هذا المعنى.
وقوله تعالى: (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) «٢» :
(٢) سورة المائدة آية ٤.
ويدل عليه ما روي عن عدي بن حاتم قال: لما سألت رسول الله عن صيد الكلب، لم يدر ما يقول حتى نزلت: (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ).
وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن «١»، ما يدل على أن الآية تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل، وهذا في غاية البعد عن الحق.
فإن قول الله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ) لم يتناول السؤال عن وجوه الانتفاع بالأعيان في البياعات والهبات والإجارات، فإنه لو كان كذلك، لم يكن جوابه ذكر الطيبات وما علمتم من الجوارح، ثم يقول في مساق ذلك: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، ولا يتعرض لسائر وجوه الانتفاع، من البيع والهبة.
يدل على ذلك أن السؤال إنما يتناول الأكل فقط، والجواب كان عن ذلك، وكيف ينتظم في الكلام أن يسأل عما ينتفع به من الأشياء،
وقوله: (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) : يقتضي بمطلقه جواز تناول كل ما اصطاده الكلب المعلم لمالكه، وإن لم يجرحه، وهو قول الشافعي.
وقوله تعالى مكلبين مع قوله من الجوارح، يتناول الكلب والفهد والصفر، لأن اسم الجوارح يقع على الجميع.
وروي عن علي في بعض السواد أنه قال: لا يصلح ما قتله البزاة، وذلك خلاف الإجماع، واسم الجوارح يقع على كل ما يجرح أو يجترح، أو إن عنى به الكواسب للصيد على أهلها، كالكلاب وسباع الطيور والتي تصطاد وغيرها، وأحدها جارح، وبه سميت الجارحة لأنه يكتسب بها، وقال تعالى:
(ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) «١» : أي ما كسبتم.
ومنه قوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ)
«٢».
وذلك يدل على جواز الاصطياد لكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، وقيل في الطير إنها تجرح أو تخلب، وإذا ثبت ذلك فقوله «مكلبين» أي مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكليب هو التضرية، يقال كلب يكلب إذا ضرى بالناس، ولا تخصيص في ذلك للكلاب دون غيرها من الجوارح.
(٢) سورة الجاثية آية ٢١.
وأبو حنيفة وأصحابه «١»، شرطوا ترك الأكل في الكلب والفهد، ولم يشترطوه في الطيور.
والشافعي «٢» مال إلى هذا الفرق في قول، وسوى في ترك الأكل بينهما، وهو القياس.
وإذا تبين ذلك فقوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) إن كان المراد به ترك الأكل، ما كان قوله: (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) متناولا للبازي، ولأجل ذلك قال علي: لا يحل صيد البازي أصلا، فإنه لا يتحقق تعليمه على ترك الأكل.
واعلم أن الظاهر يقتضي أن يكون المراد بقوله: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) : أي كلوا مما اصطدن بأمركم وإرسالكم، وكان الاصطياد صادرا عن إعزائكم «٣»، ولذلك ذكر الجوارح مطلقا ولم يتهيأ لعاقل أن يقول: إن ترك الأكل دليل على أن الكلب قصد الإمساك للمالك، فإنه لا وقوف على نية الكلب، ولا أن كلبا في العالم ينوي الأخذ للمالك دون نفسه، بل قصده لنفسه تحقيقا.
وقيل: الصيد هو الذكاة، وترك الأكل شرط بعد الموت، ويبعد أن يكون ما بعد الموت شرطا في الذبح.
(٢) انظر كتاب الام للإمام الشافعي.
(٣) انظر تفسير سورتي البقرة والمائدة، للنيسابوري والقرطبي.
وإذا ثبت ذلك، صح من هذه الجهة، أن قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، ليس أنه أراد به نية الكلب في الإمساك للمالك.
قوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) «١».
معنى الطيبات ما مضى.
وقوله اليوم، يجوز أن يكون اليوم الذي نزلت فيه الآية، ويجوز أن يكون المراد به اليوم الذي تقدم ذكره في قوله:
(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) «٢»، و (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) «٣».
قيل: إنه يوم عرفة «٤» في حجة الوداع.
واعلم أنه ليس المقصود من ذكر اليوم ها هنا صورة اليوم، وإنما المراد به الزمان، كما يقال أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيام أبي بكر وعمر، وهو من قبيل ما يكون معنى الزمان منه أعم من اللفظ سابقا إلى الفهم.
مثله قوله تعالى:
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) «٥».
(٢) و (٣) سورة المائدة آية ٣.
(٤) والحديث في ذلك أخرجه البخاري في صحيحه عن قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب.
(٥) سورة الأنفال آية ١٦
قوله تعالى: (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) «١» معناه ذبائحهم «٢»، إذ لا يجوز أن يكون المراد به طعامهم «٣»، إذ لا شبهة على أحد في حلّ سائر طعامهم. سواء كان المتولي لصنعه كتابيّا أو مجوسيّا.
فإذا كان أكل ذبيحة أهل الكتاب بالاتفاق، فلا شك أنّهم لا يسمّون على الذبيحة، إلا على الإله الذي ليس معبودا حقيقة. مثل العزير والمسيح. ولو سمّوا الإله حقيقة، لم تكن تسميتهم بطريق العبادة.
وإنما تكون على طريق آخر، فاشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل.
ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة، إذا لم تتصور منه العبادة، ولأن النصارى إنما يذبحون على اسم المسيح، وقد حكم الله تعالى بحل ذبائحهم مطلقا.
وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلا، كما يقول الشافعي.
قوله تعالى: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
(٢) أي ذبائح اليهود والنصارى.
(٣) انظر تفسير القرطبي ج ٦ ص ٧٦.
(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ)، وأباح نكاح الحرة الكتابية بقوله:
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
والجمع بينهما أولى من تعطيل أحدهما.
وقد منع مانعون من نكاح الكافرات، كتابيات كن أو مجوسيات، وحملوا قوله: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) المراد به أنهن كن كتابيات ثم أسلمن. كما قال الله تعالى في آية أخرى:
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) «٣».
وقوله تعالى:
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ) «٤». الآية.
والمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم «٥».
وقوله: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فالمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم.
وهذا بعيد، فإنه تعالى قال:
(٢) سورة البقرة آية ٢٢١.
(٣) سورة آل عمران آية ١٩٩. [.....]
(٤) سورة آل عمران آية ١١٣.
(٥) انظر تفسير القرطبي.
وذلك يشتمل على جميع المؤمنات، فلا يجوز أن يعطف بعده المؤمنة على المؤمنة ويكون إسقاط فائدة ذكر المؤمنة.
والذي يحرم نكاح الحرة الكتابية يعتصم بقوله تعالى:
(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) «٢»، وذلك محمول عند مخالفهم على الحربية إذا خرج زوجها مسلما، والحربي ونخرج امرأته مسلمة، ويدل عليه قوله:
(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) «٣» الآية.
وحكي عن ابن عباس «٤» أنه لم يجوّز نكاح الكتابيات إذا كن حربيات، لقوله تعالى:
(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) «٥» الآية.
وقال: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) «٦». والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى:
(خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) «٧».
ويجوز أن يكون ذلك عند مخالفتهم، على معنى التشدد عليهم فيما
(٢) سورة الممتحنة آية ١٠.
(٣) سورة الممتحنة آية ١٠.
(٤) انظر أسد الغابة ج ١ ص ٢٠٩ لابن الأثير الجزي.
(٥) سورة التوبة آية ٢٩.
(٦) سورة المجادلة آية ٢٢.
(٧) سورة الروم آية ٢١.
قوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) «١»، الآية.
واعلم أن ظاهر الآية، يعلق الوضوء بالقيام إلى الصلاة، وليس الأمر كذلك إجماعا «٢»، فلا بد من ضمير معه، وذلك هو الحدث.
والذي هو الحدث إذا قدرناه علة، فتكرير العلة هو الذي يقتضي تكرير الحكم، والقيام إلى الصلاة ليس شرطا ولا علة.
ولو قدر شرطا، فالحكم لا يتكرر بتكرر الشرط، فليس في الآية ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة من حيث اللفظ.
فإذا قال القائل لامرأته: إذا دخلت الدار فإنك طالق، لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول، ولكن التكرار في الطهارة عند تكرار الحدث لاعتقاد كون الحدث علة، والحكم يتكرر بتكرر العلة والسبب.
إذا ثبت هذا، فالله تعالى يقول: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) «٣».
قال مالك بن أنس: عليه إمرار الماء على الموضع ودلكه بيده، وإلا لم يكن غاسلا.
وقال غيره: عليه إجراء الماء وليس عليه دلكه.
ولا شك في أنه إذا انغمس في الماء، أو غمس وجهه أو يده ولم يدلك، يقال إنه قد غسل.
(٢) انظر روائع البيان للصابوني ج ١.
(٣) سورة المائدة آية ٦.
والمعتبر أن يجرى عليه من الماء ما يزيد قدر المسح. فلو مسح المغسول لم يجز، فإن الله تعالى فرق بينهما، وليس في المسح غسل. نعم إذا غسل الممسوح، جاز المأمور به وزيادة.
ثم قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، ليس يقتضي نية العبادة.
نعم قال تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا).
وظن ظانون من أصحاب الشافعي الذين يوجبون النية في الوضوء أنه لما أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، دل على أنه أوجبه لأجله وأثبته بسببه، وأنه أوجب له قصد النية.
وهذا ليس بصحيح، فإن إيجاب الله تعالى عليه الوضوء لأجل الحدث، لا يدل على أنه يجب عليه أن ينوي ذلك، بل يجوز أن يجب لأجله، ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة، ونيتها لأجلها.
وقيل لهم: لما قال الله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، أوجب فعل الغسل، فكانت النية شرطا في صحة الفعل، لأن الفرض من قبل الله تعالى، فينبغي أن يجب فعل ما أمره الله تعالى به.
فإذا نحن قلنا: إن النية لا تجب عليه، لم يجب عليه الفعل: أي فعل ما أمره الله تعالى.
ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض آخر، ما قصد أداء الواجب، والذي وجب عليه فعله لا يحصل دون قصده.
فإن قيل: قد يجب عليه أشياء عدة، وتحصل دون النية، مثل رد الغصوب والودائع وإزالة الأنجاس.
فيقال: كل ذلك لا يجب عليه فيه فعل، وإنما ينهى عن استدامة
قالوا: وقد يجب على الرجل الإنفاق على قريبه وزوجته وقضاء ديونه، ولا يحتاج إلى النية.
والجواب: أن كل ذلك معلق وجوبه على أغراض، متى حصلت تلك الأغراض لم يتحقق الوجوب، مثل النفقة تجب للكفاية، فإذا حصلت الكفاية لم تجب، أو لغرض آخر من الأغراض العاجلة، وليس أمر الطهارة كذلك، فإن وجوبها لم يكن إلا لحق التعبد.
فإذا وجب الفعل لله تعالى، فما لم يفعل لله تعالى كان الأمر قائما، وليس فعل غير القاصد أداء للأمر ولا قياما به، فاعلمه.
وذكر الرازي في أحكام القرآن على هذا، كلاما دل به على قلة تحصيله، فقال: إنما يجب ما ذكروه في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها، ولم تجعل شرطا لغيرها، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فلا يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر، إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط للصلاة، فإن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء.
وهو الذي ذكره باطل، فإن كونه شرطا لغيره، معناه توقف وجوبه على وجوب فعل آخر، وذلك لا يدل على عدم وجوبه، ووجوب فعله، وقصد الامتثال فيه.
نعم، وجوبه لغيره، يدل على أنه إذا نوى ما قد وجب لأجله كفاه، مثل أن ينوي الطهارة للصلاة أو لمس المصحف.
قالوا: الطهارة ليست واجبة تحقيقا، وإنما الصلاة ممتنعة دونها، كما أنها ممتنعة دون الستر والاستقبال وطهارة الثوب، ولذلك نقول إنه إذا أراد قراءة القرآن وهو جنب اغتسل، وإذا أراد دخول مسجد وهو جنب اغتسل «١»، ليس لأن الطهارة واجبة في هذه الحالة، وكيف تجب والذي يظهر له من الفعل غير واجب؟ وإنما يحرم ذلك الفعل دون وجود شرط جوازه وهو الطهارة، وذلك ليس يبني عن وجوبه في نفسه.
وليس يمكن أن يقال أن وجوب الصلاة، يدل على وجوب ما لا بد منه للصلاة. لأنه يقال: ليس يجب عليه الفعل في نفسه، وإنما يحرم عليه أن يصلي محدثا، أو أن يخرج عن كونه محدثا بإمرار الماء على الأعضاء، سواء كان في ذلك الوقت، أو توضأ قبله لمس مصحف أو قراءة قرآن وغير ذلك مما لا يجب من الأفعال.
ويدل على أن الوضوء واجب من حيث الحقيقة: أنه لو هوى من موضع عال من غير قصد منه، إلا أنه على مسامتته ماء طاهر طهور، ونوى الوضوء صح.
ومعلوم أن النية قصد، والقصد يستدعي مقصودا. والمقصود ليس فعلا له، ولا يمكن أن يقال إن حصوله في الماء فعله، فإنه لا يتعلق باختياره، فالذي لا اختيار له فيه، كيف يقدر مقصودا له؟
وهذا كلام عظيم الوقع عند المتأملين.
ويجاب عنه بأن الطهارة واجبة حقيقة، فإنها وإن وجبت عند وجوب
وأما الذي ذكروه إنه لم يجب، ولكنه تحرم الصلاة مع الحدث، فيقال: ولا معنى للحدث إلا امتناع أفعال يتوقف وجودها على وجود شرطها، فهذا معنى الحدث لا غير.
وقوله إنه لو أراد دخول مسجد أو قراءة قرآن وجب الغسل، لا لأن قراءة القرآن واجبة.
فيقال بل الأمر كما ذكرتم في أن القراءة لا تجب، ولكن للنوافل شروط يجب فعلها إذا أراد فعل النوافل، فإن من أراد مباشرة أمر، وجب عليه مباشرة شروطه، إلا أن الشروط في ذواتها غير واجبة.
فأما إذا كانت الطهارة قد تقدمت، فذلك لأن الشيء الواحد يكون شرطا في أشياء كثيرة، كما أن من الأشياء ما يكون شرطا في شيء واحد فليس في ذلك ما ينافي الحقيقة التي قلناها.
وأما قولهم: إن الفعل لا يشترط، فاعلم أنه إن ثبت عدم الفعل الذي يتعلق به القصد من كل وجه، فلا وجه لجواز الوضوء، ولا نصر للشافعي فيه.
قالوا: فإذا غسل غيره وجهه مع قدرته على الغسل، فأي فعل منه هاهنا؟
قلنا: بلى، وهو أن إذنه له أن يوضيه، فعل منه يجوز أن يتعلق التكليف به والامتحان، كما قيل في الذي يقول للمسكين: خذ مالي هذا
قوله تعالى: (وُجُوهَكُمْ) : الوجه المعروف في المتعارف ما تواجه به «١»، وذلك يدل على أنه لا يجب المضمضة والاستنشاق، لأن الوجه لا يتناوله، مع أنه ليس مما تواجه، ولو كان من الأركان الأصلية في الوضوء، ما كان لائقا بالشرع أن يذكر الله تعالى أعضاء الوضوء الواجب غسلها ولا يذكرهما.
(وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) «٢».
وفي ما استرسل من اللحية عن الوجه اختلاف قول:
فقائل يقول: إنه من الوجه لأنه يواجه.
والقائل الآخر يقول: نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة، لا يخرجه عن أن يكون من الوجه، كما أن شعر الرأس من الرأس، وقد قال الله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)، فلو مسح على شعر رأسه من غير بلاغه إلى البشرة، جاز ذلك، وكان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين، وكذلك نبات الشعر على الوجه، لا يخرجه من أن يكون منه.
ومن لا يرى أنه من الوجه يفرق بينه وبين شعر الرأس، لأن شعر الرأس يولد المرء عليه، وهو بمنزلة شعر الحاجب، في كون كل واحد
(٢) سورة مريم آية ٦٤.
وعلى الجملة، لفظ الرأس مطلقا لا يظهر في شعر الرأس الأعلى الذي يظهر لفظ الوجه في شعر الوجه.
والإفتراق «١» إنما يرجع إلى معنى آخر، غير ما يتعلق باللفظ.
قوله تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) «٢» :
اعلم أن بعض علمائنا قال: قوله إلى المرافق، إنما لم يقتضي إخراج المرافق، ووجب إدخالها في الغسل، لأن اسم اليد يتناول جميع اليد إلى المنكب، كما أن الرجل اسم لجميع العضو إلى الأفخاذ، فقوله إلى المرافق لبيان إسقاط معنى الواجب، فيما يتناوله اسم اليد، وهذا يلزم منه وجوب التيمم إلى المنكبين، لأنه ليس فيه تحديد.
ويجاب عنه بأن الظاهر يقتضي ذلك، ولذلك تيمم عمار إلى المناكب وقال: تيممنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المناكب، وكان ذلك لعموم قوله تعالى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) «٣»، ولم ينكره عليه أحد من أهل اللغة، وكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب، ويلزم من مساق هذا، أن من غسل يديه إلى الكوع، ثم قال غسلت يدي، أن يكون هذا اللفظ مجازا فيه، لأنه لم يغسل اليد وإنما غسل بعضه، وكذلك إذا قال قطعت يد فلان، ألا يكون حقيقة إذا قطع من الكوع، كما لا يكون حقيقة إذا قطع الأصابع وحدها، وأن مثل ذلك بشع شنع.
(٢) سورة المائدة آية ٦.
(٣) سورة المائدة آية ٦.
فالمرفق من اليد، والركبة من الرجل «١».
وهم يقولون: اليد هي التي يقع البطش بها في الأصل. وهي التي خلقت للبطش، وما عداها الآلة الباطشة تتمة لها، والرجل هي التي أعدت للمشي وما عداها من تتمة هذا المقصود، وهذا مما يختلف القول فيه، ولا ينتهي إلى حد الوضوح، والمعتمد فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.
ومتى كانت كلمة إلى مترددة بين إبانة الغاية وبين ضم الغاية إليه، وجب الرجوع فيها إلى بيان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفعل رسول الله بيان.
فإذا أدخل المرفقين والكعبين في الغسل، ظهر أنه بيان ما أجمله كتاب الله تعالى.
وهذا يرد عليه أن هذا إذا ظهر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيان الواجب، فأما إذا أتى بالسنة والفرض في وضوئه، فلا يظهر منه ما ذكره الأولون.
وبالجملة، القول متقاوم، والاحتياط للوضوء يقتضي الأخذ بالأتم والحدث يقين، فلا يزول إلا بيقين..
قوله تعال: (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) «٢» :
ظن ظانون أن الباء في قوله «برؤسكم» وراء اقتضاءه لإلصاق الفعل بالمحل. حيث لا يحتاج فيه إلى الإلصاق لحصوله دون الباء، بخلاف قوله مررت بالجدار، فإنه لا بد فيه من الباء لتحقيق الإلصاق فإذا لم تكن الباء ها هنا للإلصاق كانت للتبعيض، وفرقوا بين قول
(٢) سورة المائدة آية ٦.
فقيل له: هذا فرق لا يعرفه أهل اللغة، والباء زائدة ها هنا.
فأجابوا بأنا إذا جعلناها زائدة ألغينا مقتضاها.
ومتى أمكن إعمالها فلا يلغى مقتضاها.
قيل لهم: إذا كانت ترد زائدة، فكونها زائدة مقتضاها أو معناها فما ألغيناها من هذه الجهة، وإذا لم يثبت ذلك، فالتبعيض إنما يتلقى من لفظ المسح، فإذا قال قائل: مسحت الجدار، وكان قد مسح بعضه كان اللفظ حقيقة وتم مقتضاه، فالرأس وإن كان حقيقة في جميع العضو ولكن رب فعل يضاف إليه، فلا يفهم من الرأس كمال العضو لمكان الفعل، مثل فهم الفرق من قول القائل: حلقت رأس فلان، في أنه يفهم منه استيعاب الحلق جميع الرأس.
وقوله ضربت رأس فلان، في أنه لا يفهم منه استيعابه.
وهذا لا يتجه كما ينبغي إلا أن يضاف إلى العرف، فيقال في العرف إذا قال القائل: حلقت رأس فلان، يبعد فهم حلق بعضه، لأن ذلك الفعل على وجه التبعيض غير متعارف، ويقول القائل رأيت فلانا، وإنما يكون قد رأى وجهه، ولكن ذلك بعّضه العرف. ويقول: رأيت مدينة كذا أو سور مدينة كذا، وإنما قد رأى شيئا يسيرا من ذلك، فهذا الفرق منشؤه العرف لا غير.
فبالجملة إذا قال القائل وقد مسح بعض رأسه: مسحت الرأس، كان ذلك حقيقة ولم يكن مجازا، وهذا لا يبعد إثباته، ويتأيد ذلك بالإجماع على جواز ترك شيء من مسح الرأس...
فهذا هو القدر اللائق بهذا الكتاب، وما زاد عليه فهو من مباحث الفقه «١».
قوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ) فيه قراءتان: النصب والجر.
أما النصب، فهو من حيث الإجراء على الأصل. لأن الرجل في موضع النصب، لأنه وقع الفعل عليه، والرأس كمثل، إلا أن الرأس انتصب «٢» للباء الجارة، فبقيت الرجل على الأصل «٣».
ويجوز أن يكون الجر للمجاورة، وفي كسر الجوار أمثلة من القرآن وأشعار من العرب، مستقصاة في كتب الفقه والأصول.
واعترض عليه بأن الأليق بكتاب الله تعالى مراعاة المعنى دون النظم وكسر الجوار، إنما يصير إليه من رام تغليب النظم على المعنى مثل الشعراء، فأما من رام تغليب المعنى فلا يصير إلى كسر الجوار، ومتى كان حكم الأرجل في المسح مخالفا حكم الرأس، لم يجز الجر بناء على المجاورة في النظم، مع الإختلاف في المعنى، وهذا كلام حسن.
فقيل لهم: بل هما في المعنى متقاربان، فإنهما يرجعان إلى إمساس العضو الماء.
فقال في الجواب عنه: إن الشرع أراد تفرقة ما بين البابين فقال:
فاغسلوا وجوهكم، ثم قال: وامسحوا.. فلو كانا متقاربين في المعنى لم يقصد إلى التفرفة بينهما.
(٢) الرأس انتصب محلا وان كسر لفظا بسبب الباء.
(٣) لتوضيح هذه المسألة انظر تفسير القرطبي ج ٦ ص ٨٩- ٩٠- ٩١- ٩٢
أعلفتها تبنا وماءا باردا.
و: متقلدا سيفا ورمحا.
و: أطفلت بالجلهتين «١» ظباءها ونعامها.
لأن العلم باقترانهما أغنى عن التعرض لوجه الاقتران، فأطلق اللفظ الواحد عليهما. وها هنا ما أطلق اللفظ الواحد عليهما، فإنه لو أطلق لفظ المسح على المغسول، لأطلق لفظ الغسل على الجميع إطلاقا واحدا ولم يرجع في الرءوس إلى لفظ المسح، فإن تقارن ما بين المسح والغسل إن اقتضى إطلاق لفظ واحد عليهما، فتقارن ما بينهما يقتضى إطلاق لفظ الغسل على الجميع.
ولئن قيل: ذكر المسح لإبانة حكم آخر لا بد من إبانته، فليفرد الأرجل ببيان حكمها المختص بها وهو الغسل، وإذا ثبت ذلك فنقول:
نحن وإن سلمنا لهم أن اللفظ ظاهر في المسح، فاحتمال الغسل قائم والذي يتصل به من القرائن يثبته، ومن جملة القرائن قوله تعالى:
(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) «٢»، والبلل الذي يخرج من الماء في خف الماسح، كيف يمتد إلى الكعبين؟
وكيف يمكنهم ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا: إنه لا يجب مد الماء إليه؟
فإن ثبت خلاف الإجماع، وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء، فقال:
الجلهتين: مثنى جلهة، والجلهة هي الصخرة العظيمة المستديرة.
(٢) سورة المائدة آية ٦.
وأما الكعبان: فهما العظمتان النّاتئتان بين مفصل الساق والقدم.
وقال محمد بن الحسن: هو مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم، وذلك لا يقوى لأن الله تعالى قال: وأرجلكم إلى الكعبين، فدل ذلك على أن في كل رجل كعبين، ولو كان في كل رجل كعب واحد، لقال إلى الكعب، كما قال تعالى: (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) «٢»، إنما كان لكل واحد قلب واحد، وأضافهما إليه بلفظ الجمع، فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية، دل على أن في كل رجل كعبين.
واعلم أن ظاهر إضافة الغسل إلى الرجل، يمنع مسح الخف، إلا أن مسح الخف ورد في الأخبار، فلم يكن نسخا لما في الكتاب بل كان تخصيصا.
الاعتراض: أن التخصيص إنما يكون في مسميات يخصّص بعضها ويبقى الباقي على موجب الأصل، فإذا جوز المسح، ثم مطلقا، فأين وجوب غسل الرجل؟ وعندكم أنه يتخير بين المسح والغسل أبدا.
فأين وجوب غسل الرجل على هذا التقدير، حتى يقال: خرج منه البعض وبقي البعض؟
الجواب أن معنى التخصيص فيه ظاهر، فإن غسل الرجل ثابت في حق الأكثر، والذي يمسح إنما يمسح مدة معلومة، ثم يرجع إلى الغسل فيغسل، ولا بد للمسح على الخفين من تقديم الطهارة الكاملة حتى يصح
(٢) سورة التحريم آية ٤. [.....]
وهذا بيّن ظاهر، وإذا ثبت ذلك في أصل المسح على الخفين، والمسح موقوف فيما سوى المدة، وجب الرجوع إلى الأصل.
ويحتج على من جوز مسح العمامة، بإيجاب الله تعالى غسل الرجلين، فإن تخصيصه لا يجوز إلا بدليل.
نعم مسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناصيته وعمامته «١».
وفي بعض الروايات على جانب عمامته.
وفي بعضها: وضع يده على عمامته، فأخبر أنه بعد فعل المفروض من مسح الناصية مسح على العمامة، وذلك جائز عندنا.
إذا ثبت هذا فظاهر قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) يقتضي الإجزاء فرق أو جمع ووالى، على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو مذهب الأكثرين من العلماء، فاعتبار الموالاة يقتضي من دليل زائد، وليس في الأمر ما يقتضي الفور، وترتيب بعض المأمور على البعض.
ويستدل بظاهر الآية على أن التسمية ليست شرطا.
وإذا ثبت أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع فيما يتعلق بالزمان، فإذا قال القائل: رأيت زيدا وعمرا، لم يفهم منه أنه رآهما في زمان واحد، أو في زمانين مرتبين، وإذا ثبت ذلك، فالواو أجنبى عن اقتضاء «٢» هذا المعنى، وإنما هو لترتيب الأفعال بعضها على بعض.
(٢) ورد في نسخه ثانية: ترتيب.
إلا أن الشافعي يوجب الترتيب تلقيا من إدراج الممسوح في تضاعيف المغسولات، وأن ذلك لا يكون إلا عن قصد ترتيب الأشياء على النسق المذكور، كما قررناه في مسائل الفقه.
فإن قيل: فالأرجل معطوفة في المعنى على الأيدي، وأن معناها:
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤسكم، وإنما يمكن رد الرجل إلى اليد على تقدير رفع الترتيب.
قلنا: هذه جهالة، فإن الذي قلتموه ترتيب في المعنى ورد من هذه الجهة، وإن حصل الترتيب من حيث الزمان، ولو رتب البعض على البعض بكلمة، ثم لكان الذي ذكروه ممكنا، ولا حاصل لما قالوه.
واستنبط أصحاب أبي حنيفة من هذه الآية، أن الاستنجاء لا يجب لأن الله تعالى لما قال: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)، كان الحدث مضمرا فيه، وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون.
وقال في نسق الآية:
(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) «١».
فلم يوجب عليه أكثر من المذكور، وذلك يدل على أنه إذا أتى بالمذكور استباح الصلاة.
فيقال لهم: إن الذي ذكرتم ليس يدل على ما استنبطتموه، وذلك أن المراد منه بيان غسل ما لا يظهر أثر الخارج في غسله، وهو أعضاء الوضوء، فأما إزالة النجاسات عن البدن والثوب وغيرهما من المواضع النجسة، فحكمها مأخوذ من موضع آخر، وليس يقتضي بيان حكم الوضوء بيان حكم شرائط الصلاة كلها، فإن الصلاة موقوفة إجماعا على ستر العورة، ولا ذكر له في هذه الآية، وموقوفة على طهارة البدن والثوب مما فوق النجاسة التي يعفي عنها على مذهبكم، ولم يكن السكوت عنه مانعا عدم «١» اشتراط السكوت عنه في إجزاء الفعل، فاعلمه..
قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) «٢» :
إنما سمى جنبا لأجل ما لزمه من اجتناب أفعال بينها الشرع.
فالجنابة هي البعد والاجتناب، ومنه قوله تعالى: (وَالْجارِ الْجُنُبِ) «٣»، يعني البعيد منه نسبا، فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفناه من الأمور.
وأصله التباعد عن الشيء، ثم ليس بتباعد عن كل شيء، وإنما هو تباعد من شيء دون شيء، مثل الصوم: في الأصل عبارة عن الإمساك وليس الصوم في الشرع إمساكا عن كل شيء، إنما هو عن شيء دون
(٢) سورة المائدة آية ٦.
(٣) سورة النساء آية ٣٦.
واستنبط من أوجب المضمضة والاستنشاق من قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)، أنهما فرضان عليه، لأن قوله: (فَاطَّهَّرُوا) عموم، وقرر الرازي هذا في أحكام القرآن، ثم وجه على نفسه سؤالا فقال:
إن قال قائل: من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمّى متطهرا، فقد فعل ما أوجبته الآية؟ فقال:
إنما يكون مطهّرا لبعض جسده، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع، فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ.
ألا ترى أن قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) «١»، عموم في سائرهم، وإن كان الإسم يتناول ثلاثة منهم؟ فكذلك ما وصفناه.
ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم، لأن الإسم يتناولهم، إذ كان العموم شاملا للجميع، فكذلك قوله (فَاطَّهَّرُوا) عموم في سائر البدن، فلا يجوز الاقتصار على بعضه «٢».
فهذا ما ذكره سؤالا، واستدلالا وانفصالا..
والذي ذكره باطل عندنا قطعا، فإن صيغ جموع الكثرة حقيقة في الاستغراق، فهي فيما دونه مجاز، لأن الوضع الأصلي فيها الاستغراق.
فأما قوله: تطهر فلان، فليس حقيقة في قدر دون قدر، فإذا غسل أي موضع غسل من بدنه، فقد تطهر، ولم يذكر الله تعالى موضع
(٢) انظر احكام القرآن للحصاص ج ٣ ص ٣٧٥- ٣٧٦.
قال: إن المأمور خرج من موجب الأمر بما يسمى به متطهرا.
وقال تعالى في موضع آخر:
(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) «١»، يقتضي جوازها مع تركها «٢»، لوقوع اسم المغتسل عليه، واسم المغتسل حقيقة في حق من لم يتمضمض، واسم المتطهر حقيقة في حق من لم يتمضمض فلا حاصل لقوله هذا، فاعلمه وثق به.
قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) :
فهم العلماء من قوله مرضى، كون المرض مبيحا للتيمم إذا كان في استعمال الماء ضرر، لأنه لو لم يحمل على ذلك، كان ذكر المرض لغوا عند عدم الماء، ولم يفهموا من ذكر المسافر اعتبار السفر فقط، بل اعتبروا عدم الماء، وإن كان عدم في حق غير المسافر يبيح التيمم، لأن السفر يغلب فيه عدم الماء، ويندر في الإقامة مثل ذلك، فكان للسفر تعلق بعدم الماء، وليس للمرض تعلق به، فلم يفهم منه عدم الماء، وإنما فهم منه ما يفضي إليه المرض من الضرر باستعمال الماء.
(٢) يعني جواز الصلاة مع ترك المضمضة.
ذكر المرض والسفر مع الأحداث ذكرا واحدا، وليسا حدثين، فلا جرم اختلف العلماء في معنى الآية:
فأما زيد بن أسلم فإنه ذكر في الآية تقديما وتأخيرا فقال:
تقديره: إذا قمتم إلى الصلاة من نوم، أو جاء أحد منكم من الغائط «١» أو لمستم النساء، فاغسلوا وجوهكم- إلى قوله- وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء.
والذي يرد على هذا من الاعتراض على مقتضى هذا القول: فيكون ذاكرا بعض أسباب الحدث، من غير أن يذكر الحدث مطلقا، ويكون ذاكرا للجنابة المطلقة من غير ذكر أسبابها وموجباتها، فإن غير زيد بن أسلم يقول:
تقدير الآية: «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون مطلقا»، لينتظم مع قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)، فإنه إذا ذكر أسباب الحدث عند وجود الماء، فيشبه أن يذكر أسباب الجنابة، وإن ذكر الحدث مطلقا، ذكر الجنب مطلقا، ففيما ذكره زيد بن أسلم قطع الانتظام من هذا الوجه. مع انه لم يبين «٢» تمام الأحداث، فإنه لم يذكر النوم وهو حدث، ولا زوال العقل بأي سبب كان، ولامس الذكر عند قوم، ولا خروج الخارج من غير السبيلين عند قوم، فهذا يرد على تقدير التقديم والتأخير، مع أن تقدير التقديم والتأخير يورث ركاكة في
(٢) ورد في نسخه ثانية: يثبت.
وعند ذلك قال آخرون: الداعي إلى التقديم والتأخير، أنه عد المرض والسفر معد الأحداث، ونحن نقدر تقديرا آخر ليزول ذلك فنقول:
قوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) : معناه وأنتم محدثون، وإن كنتم جنبا فاطهروا، فقد بين السببين الأصليين للطهارتين الصغرى والكبرى، ثم قال:
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) معناه: وجاء، وقد ورد «أو» بمعنى الواو، وذلك راجع إلى المرض والسفر إذا كانا محدثين ولزمهما، وجعل «أو» بمعنى الواو في كتاب الله تعالى، وفي أشعار العرب موجود.
إلا أن الذي يرد عليه أنا إذا قلنا إن معنى أول الآية: «إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون»، ثم قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ)، يظهر رجوعه إليهما ولا معنى لذكر المجيء من الغائط ولمس النساء، فإنّ الحدث المطلق، الجنابة المطلقة تشملهما، وما سواهما فليس لذكرهما فائدة، ففي كل واحد من التقريرين «١» نوع اعتراض وبعد.
والله أعلم بمراده من الآية.
قوله: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ)، حمله قوم على الجماع، وقوم على الجس باليد.
قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) «٢» :
اعلم أن الله تعالى ذكر المرضى فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) ثم قال: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً)، فلا بد أن يرجع الشرط إلى ما تقدم ذكره، وعدم الماء ليس معتبرا حقيقة في حق المريض، فيدل معنى الآية على أن الله تعالى، إنما عنى بالموجود، إمكان استعمال الماء وإن كان واجدا للماء صورة، ولكنه معجوز عنه، فكأنه لم يجده، فإنا لو لم نقدر ذلك، لم يستقم جعل قوله (فلم تجدوا) عائدا إلى المرضى، وذلك خلاف الإجماع والنظم.
وإذا كان معنى الوجود إمكان الاستعمال شرعا وطبعا، ولو كان الماء عنده وديعة، فليس واجدا للماء شرعا، وإن كان في استعماله التلف فليس واجدا للماء شرعا.
وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً)، إذن أريد به وجودا لا يتضمن ضررا ظاهرا، وإذا بيع بثمن أكثر من ثمن المثل لم يجب عليه سداده.
واختلف قول الشافعي في من وجد من الماء ما لا يكفي لتمام طهارته:
(٢) سورة المائدة آية ٦.
وعلى القول الآخر يقول: إن الله تعالى ذكر الماء، فاقتضى ذلك أن لا يجد ما يقع عليه اسم الماء جملة، وإذا وجد من الماء، ما لا يكفيه، فقد وجد الماء، فلم يتحقق شرط التيمم. فإذا استعمله وفقد الماء، تيمم لما لم يجد.
واختلف قول الشافعي فيما إذا نسي الماء في رحله ثم تيمم، والصحيح أنه يعيد، لأنه إذا كان الماء عنده «١» فهو واجد، لكنه لا يدري أنه واجد، وأن الشيء عنده، والكلام في علم الله تعالى، فإذا كان عند إنسان شيء فذلك الشيء هو موجود عنده، وإذا كان موجودا فهو واجد للموجود إذ يستحيل أن يكون موجودا عنده وليس بواجد له، إلا أنه نسي أنه واجد له.
والقائل الآخر يقول: إذا لم يعلمه فلم يجده، وقد يقول: كان عندي ولم أجده، وقد يكون الشيء في دار رجل فيطلبه فيقال له:
هل وجدته أم لا؟ فيقول وجدته أو ما وجدته، فإذا نسيه في رحله فلم يجده.
فيقال: هذا إنما يستقيم أن لو طلبه فلم يجده، وعندنا لو طلب فلم يجد كان مقدورا، إلا أنه لا يجوز أن يكون في الرحل، فيطلب من الرحل فلا يجده، والطلب من الرحل شرط، حتى يقال لمن طلب ولم يجد إنه لم يجد، والشافعي أوجب طلب الماء، لأنه لا يقال لم أجد، إلا إذا طلب، وإذا لم يطلب في مظنة الماء، فلا يحسن أن يقال: لم أجد.
وهذا يعترض عليه أن الواحد منا قد يقول: أنا لا أجد ما أتوصل به إلى كذا، أو لم أجد أمر فلان مستقيما، والله تعالى يقول:
(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) «١».
وإذا كان لفظ الوجود لا يقتضي الطلب في قوله تعالى:
(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) «٢».
(فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) «٣».
لا أنهم طلبوا، ولا أنه يمكن الطلب في قوله تعالى: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ)، لأن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بالطلب.
وإن كان قد يجاب عن كل ذلك بأن الله تعالى طلب منهم الثبات على العهد، والطلب من الله تعالى هو الأمر به، فيصح اطلاق قوله: (وَما وَجَدْنا)، لأنه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد.
وإذا قال القائل: فلان لا يجد ألفا دينار، فمعناه أنه لا يتسع طلبه له، وإن تمحل وطلب...
وعلى الجملة لو قطعنا بأن لا ماء، فلا يجب عليه الطلب حتى يظهر عدم الماء في المصادر «٤»، ولو ظهر وجوده لوجب عليه الطلب، حتى يجب عليه الطلب من الرفقة وفي مواضع إمارة الماء.
(٢) سورة الكهف آية ٤٩.
(٣) سورة الأعراف آية ٤٤.
(٤) ورد في نسخة ثانية: في المغاوز.
وفي أصحابنا من يقول: إذا لم يتيقن عدم الماء لم يصح التيمم، لأن عدم الماء شرط، والشرط لا بد من تيقنه.
وهذا بعيد، فإنه وإن طلب وبالغ، فلا يحصل التيقن من «٢» من عدم الماء، وإنما يحصل الظن الغالب، فأما اليقين فغير مظفور به، وفي الوقت أمكن انتظار اليقين، فافترقا لذلك.
وإذا خاف في الاستعمال بالوضوء فوات الوقت، لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك.
وللشافعي مسائل تدل على ما يقارب مذهب مالك، واستقصيناها في المذهب.
والذي لا يجوز يتعلق بقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)، وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم.
والقائل الآخر يقول: ما جاز التيمم في الأصل إلا لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء.
فيقال: ولكن يمكن أن يقال: إلا أن السفر يكثر وإعواز الماء فيه يغلب، فلو جاز تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء، تكاسل الناس عن إعادة الصلاة، فأوجبت الصلاة بالتيمم تمرينا عليه.
وهذا لا يتحقق فيما إذا كان فوت الصلاة نادرا في حالة خاصة فاعلمه.
فإن قيل: جازت صلاة الخائف لأجل الوقت مع ندور الخوف.
(٢) في الأصل: في
وقد قيل في حق المسافر والخائف ما أبيح التيمم، لئلا يفوت الوقت.
ولذلك جاز في أول الوقت.
فيقال: جوازه في أول الوقت لا ينافي ما قلناه، فإنه لو لم يجز في أول الوقت لم يجز في وسط الوقت، حتى ينتهي إلى قدر ينطبق على فعل الصلاة، وذلك عسر غير مضبوط، فلم يمكن اعتباره.
واعلم أن هذا الكلام لا يستقيم لأبي حنيفة من وجهين:
أحدهما: أنه يجوز التيمم لخوف فوات صلاة الجنازة مع عدم الشرط، وقد قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) وهو واجد.
والثاني: أنه جوز التيمم قبل الوقت من غير ضرورة، وذلك يدل على أنه لا تعتبر الحاجة.
واختلف في من حبس في حبس «١»، لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف، فالشافعي يقول: يصلي ويعيد.
وأبو حنيفة وزفر ومحمد يقولون: لا يصلي أصلا حتى يقدر على الماء.
وإذا ثبت هذا، فقد جعل الله تعالى التيمم شرط صحة الصلاة أو الوضوء، فإذا لم يقدر عليهما، فربما يقول القائل: إذا لم يتحقق شرط الشيء لم يثبت المشروط دونه، ولم يتحقق الشرط في حق من عدم الماء والتراب، فلا جرم. قال أبو حنيفة: لا يصلي لعدم شرط العبادة.
وقال المزني: يصلي لأن الشرط إنما أريد في هذا الموضع لتكملة المشروط ولحسن نظامه، لا لأنه شرط لعينه، ومتى كان كذلك، لم تزد
والشافعي يقول: أما الذي ذكره المزني من أنه يصلي فصح، ولكنه يصلي مراعاة لحق الوقت مع العجز عن كماله، فإذا قدر على الكمال وجب الإتيان به.
وهذا القياس كان يقتضي مثله في ترك بعض الأركان في حق المريض، أو ترك الوضوء في حق المسافر، إلا أن تلك الأعذار عامة، ويكثر وقوعها، فتكليف القضاء يجر حرجا.
وقد استقصينا ذلك في مسائل الخلاف.
وقد احتج المزني بما روى في قلادة عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين ندبهم لطلب القلادة، صلوا بلا وضوء ولا تيمم «١».
والتيمم إذا لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا، ومنه قال المزني لا إعادة، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها.
فإن قيل: جواز الصلاة كان لعدم الماء، من حيث لا بدل له كالتراب الذي لا بدل له الآن.
واختلف العلماء في جواز التيمم قبل وقت الصلاة، والشافعي لا يجوزه، فإنه لما قيل لنا: «فإن لم تجدوا ماء فتيمموا»، ظهر منه إجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت، وعلى هذا لا يصلي فرضين بتيمم واحد، والمسألتان استقصيناهما في علم الخلاف، وأصلهما كتاب الله تعالى، وهو تقييد التيمم بوقت الحاجة والضرورة وهذا بين.
وتتمة القول فيه، أنه قد صح منه أداء ما شرع فيه، ومتى صح منه أداء ما شرع فيه، فلا يمكن أن يقال إنه كان التيمم شرطا لبعض الصلاة، فإن كون التيمم شرطا لبعض الصلاة لا يتحقق معناه، مع أن المشروط لا بعض له، فلا بد أن يجعل شرطا للجميع ضرورة تصحيح البعض، فإذا حكمنا بصحة البعض على تقدير أن التيمم لا بعض له، اقتضى ذلك كون التيمم شرطا لصحة جميع الصلاة، وخروج الوضوء عن كونه شرطا، في حالة كون التيمم شرطا.
ولا يجوز أن يقال إن كون التيمم شرطا موقوف، فإنه لو كان كذلك كانت صحة الصلاة موقوفة، وهي صحيحة قطعا بلا وقف.
وإن هم قالوا: إذا وقع في علم الله تعالى أن يجد الماء في خلال الصلاة، لم تكن الصلاة صحيحة من الأول، فهذا باطل، فإن حكم الله تعالى مبني على وجود سببه، وعلى توافر شرائطه، وقد توافرت شرائط الصحة في أول الصلاة، فلا يمكن الحكم بعدم الصحة.
فإن قيل: فإذا تخرق الخف أو انقضت مدة المسح، أليس تبطل الصلاة، مع أن القدر الذي وقع الشروع فيه كان صحيحا؟
والجواب: أن ذلك سببه أن الحكم بالصحة على تقدير توافر الشرائط، وجعلنا التيمم شرطا لصحة جملة الصلاة، ولأنه لا يمكن جعله شرطا لصحة البعض، وليس في حق الماسح شيء يمكن أن يقال إنه جعل شرطا
وأبعد بعض المصنفين في أحكام القرآن فقال: كما قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)، فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء، لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه، ولا يمنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء، فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده بالظاهر.
وهذا جهالة مفرطة، فإن إطلاق اسم الماء لا ينصرف إلى النبيذ، ولا حاجة فيه إلى إطناب، وتقدير اشتمال اسم الماء عليه، كتقدير اشتماله على كل مرقة ونبيذ في الدنيا، وذلك جهل، ولو كان كذلك لدخل تحت مطلق اسم الماء، ولو دخل تحت مطلق اسم الماء، لم يترتب ماء على ماء. وقد قلتم لا يتوضأ بالنبيذ مع وجود الماء، فهذا ما أردنا بيانه من هذا المعنى.
ووجب التيمم إلى المرفقين مثل الوضوء، لأن اسم اليد شامل للعضو إلى المنكب، إلا ما خصه الدليل، وقد بينا وجه الكلام عليه «١».
قوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «٢» ) : يقتضي اختلاف الفقهاء فيما يتيمم به.
فقال الشافعي: لا يجوز إلا بالتراب الطاهر، أو الرمل الذي يخالطه التراب.
وأبو يوسف يضم إليه الرمل الذي لا تراب فيه.
(٢) الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب او لم يكن.
وقال مالك: يتيمم بالحصا والحبل، وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى أرض أجزأه، وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا.
واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد فيتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى الأعضاء، أي أعضاء الوضوء. ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قاله الشافعي، إلا أن قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» «١»، يبين ذلك.
واستنبط الرازي من قوله: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أن الباء لما كانت للتبعيض، وجب بحكم الظاهر جواز مسح بعض الوجه، مثل ما فهم من قوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ).
والذي ذكره ليس بصحيح على ما تقدم، فإن الباء لا تدل على شيء مما ذكره، وقد قال تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) «٢»، ولو طاف ببعض البيت لم يجز «٣».
قوله تعالى: (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) «٤» :
هذا يحتمل أن يكون معناه: إنّا لم نرد تكليفكم لنشق عليكم، وإنما أردنا بتكليفكم اللطف بكم في محو سيئاتكم وتطهيركم من ذنوبكم، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(٢) سورة الحج آية ٢٩. [.....]
(٣) انظر القرطبي ج ٦ ص ٢٣٧.
(٤) سورة المائدة آية ٦.
وقوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) «٢»، إنما أراد به التطهير من الذنوب، ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة.
فكأنه قال: هذه الأفعال ليست واجبة لذواتها، وإنما هي لمقصود، وهو حصول الطهارة عن الأحداث بها فهو المقصود والمغزى.
وهذا يضعف من وجه، فإن الطهارة من الجنابة ليست غرضا للخلق، حتى يقال ما أردنا تضعيف الأمر عليكم، إنما أردنا كذا، فليست الجنابة نجاسة منكرة في الطبع، وإنما الله سبحانه وتعالى قال: طهروا أنفسكم، فسمى الوضوء طهارة، وإنما صار طهارة بالشرع، فقوله:
(ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).
يجب أن يفيد مقصودا للعبد، ليكون يحصل بذلك المقصود نفي الحرج، وجعل الحدث نجاسة واجبا إزالتها، ليس بنفي الحرج ولا يحقق للعبد مقصودا، فدل على أن المراد به كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام، وذلك يقتضي افتقاره إلى النية، لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى، وقد قيل: قوله «ليطهركم»، أي ليحقق نظافتكم عاجلا، وهذا فيه بعد، فإنه ذكر ذلك عقب التيمم، وهو لا يحقق هذا المعنى، إذ
(٢) سورة الأحزاب آية ٣٣.
وقوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ) - إلى قوله- (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا)، الآية ٨: دل صدر الآية على وجوب القيام لله تعالى بالحق، وكل ما يلزمنا القيام به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله تعالى: (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ)، أي بالعدل، ويحتمل أن تكون هذه الشهادة لأمر الله تعالى أنه حق، ودل سياق الآية عليه.
قوله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) :
أبان به بأن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليهم، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتل والأسر، وأن المثلة بهم غير جائزة، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمرنا بذلك، فليس لنا أن نقابلهم بمثله قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم، وإليه أشار عبد الله بن رواحة في القصة المشهورة بقوله:
«حبي له وبغضي لكم لا يمنعني من أن أعدل فيكم» «٢».
قوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) «٣» :
تحريفهم إياه بسوء التأويل، لا أنه مكابرة لفظ صريح شائع مستفيض، كما تأولت المبتدعة كثيرا من المتشابهات، على ما تعتقده من مذاهبها، دون إعطاء التدين حقه، فأما مكاتمة ما قد علموه على اشتهار، فمكابرة ومعاندة، فلا يصح وقوعه على سبيل التواطؤ منهم، كما لا يصح التواطؤ
(٢) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير.
(٣) سورة المائدة آية ١٣.
قوله تعالى: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) «١».
قد قيل: معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به، لا أنه يدفعه عن نفسه إذا قصد قتله.
وقد قيل: إنه قتله غيلة، بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها.
وقيل: إنه كان من مذهبهم، أن من أراد قتل غيره لم يكن للمقصود دفعه ولا قتله، بل يتركه ولا يدفعه، وذلك مما يجوز ورود التعبدية، إلا أن في شرعنا يجوز له دفعه إجماعا.
وفي وجوب ذلك عليه خلاف، فالأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر، وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه للدفع، وتأولوا عليه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر: «كيف بك يا أبا ذر إذا كان في المدينة قتل؟ فقال: ألبس سلاحي، فقال: شاركت القوم إذا، قال:
فقلت: كيف أصنع؟ فقال: إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق ناحية ثوبك على وجهك لئلا تبوء بإثمه وإثمك» «٢».
والمراد بهذا الحديث عند المتأملين، ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة، فأما قتل من استحق القتل، فمعلوم أن الشرع لم يرده بذلك.
(٢) رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر، وروال مسلم و؟؟؟
السنن سوى النسائي.
والذي يخالف ذلك يقول: ذلك إذا كان الأمر بالمعروف غير مؤد إلى قتل وشهر سلاح، فأما إذا كان يؤدي إلى ذلك فلا، ويفوض المقتول أمره إلى الله عز وجل، إذا كان يعلم أنه لو كان وجه دفعه بأسهل شيء من غير أن يخشى على نفسه فلا يجوز، فأما إذا كان الأمر على الخطر واحتمال أن يقتلا جميعا، فهو موضع الاحتمال وترديد القول.
قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) «١» :
فيه بيان أن كل ندم ليس بتوبة، وأن ابن آدم القاتل لم يندم على وجه القربة إلى الله تعالى وخوف عقابه، وإنما كان ندمه من حيث اتقى جانب أبويه وذويه، واستوحش منهم، ولم يهنه ما فعله في دنياه، وانتبذ بعيدا عنهم، فندم لذلك، ولو ندم على وجه التوبة لأوشك أن يقبل الله تعالى منه ذلك.
وقد قيل: يجوز ألا يقبل الله توبة من شاء، فإن قبول التوبة عند أهل السنة ليس واجبا على الله تعالى بقضية العقل، وإنما المشيئة لله تعالى في قبول توبة من شاء، فيجوز أن يقال إن قابيل ممن لم يسأل الله تعالى قبول توبته، وإن وجدت منه التوبة حقيقة.
قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ)، الآية ٣٢:
فيها إبانة عن المعنى الذي لأجله كتب على بني إسرائيل ما كتب مما
وفيه دليل على إثبات القياس وتعليق الأحكام، على المعاني التي جعلت عللا لها.
وفيها دليل على إهلاك الساعي في الأرض بالفساد.
وقوله: (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما) «١» : أي نجاها من القتل بالعفو، أو زجر عن قتلها، أو مكن من الاقتصاص من القاتل.
وفيه دليل على وجوب معاونة الوالي على ما جعله الله له من التسليط والبسطة في دم القاتل.
قوله تعالى: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الآية «٢».
وذلك مجاز، إلا أنه ذكر ذلك تشبيها بالمحارب حقيقة، لأنه خرج في صورة المحاربة، وأريد بهذا التشبيه تعظيم الأمر كما قال:
لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
«٣».
ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يتأثر به صاحبه، وقال: (يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) «٤».
ومعنى المحادة، أن يسير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة، وذلك يستحيل على الله، إذ ليس في مكان فيشاق أن يحاد.
(٢) سورة المائدة آية ٣٣.
(٣) سورة الحشر آية ٤.
(٤) سورة المجادلة آية ٢٠. [.....]
ويجوز أن يكون معناه يحاربون أولياء الله ورسوله وهذا أولى، فإن الذي يحارب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كافر، وقاطع الطريق ليس بكافر، وكأنه يريد بهذه الاضافة تعظيم المخالفة، وإكبار قدر المعصية، وقد ورد في التهديد ألفاظ تشاكل ذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«اليسير من الرياء شرك».
«من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة» «١».
وقوله عليه السلام لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام:
«أنا حرب لمن حاربتم، سلم لمن سالمتم» «٢».
وإنما حملنا على هذا التأويل، علمنا بأن الآية وردت في حق قطاع الطريق من المسلمين، ولذلك قال الله تعالى:
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) «٣».
ومعلوم أن الكفار لا يختلف حظهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما تسقط قبل القدرة، فالمرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة، والمذكور في الآية من لم يستحق القتل.
وفي الآية نفي من لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، فعلمنا أن الآية حكمها جار في أهل الملة.
والمرتد لا تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل، ولا يصلب أيضا، فدل ذلك على أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد.
(٢) أخرجه ابن ماجة في سننه ج ١ ص ٥٢، رقم الحديث ١٤٥.
(٣) سورة المائدة آية ٣٤.
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) «١».
وقال في المحاربين:
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «٢».
والذي ذكر من أن الآية نزلت في شأن العرنيين لا يحصلون «٣» ما يقولون، لأن العرنيين شملت أعينهم مع قطع أيديهم وأرجلهم، وتركوا في الحرة حتى ماتوا، ويستحيل نزول الآية بالأمر بقطع من قطع، وقتل من قتل.
وقال ابن سيرين: كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود، فأخبر أنه كان قبل نزول الآية.
والذين اعترفوا باختصاص الآية بقطاع الطريق من المسلمين، اختلفوا في أشياء أخر وراء ما ذكرناه.
فقال قائلون من العلماء بما رووه عن ابن عباس:
يقتلوا إن قتلوا.
أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال.
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال فقط.
أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل، ولم يفعلوا أكثر من ذلك، فلم يثبتوا تخييرا، وهو مذهب الشافعي.
واختلف الروايات عن أبي حنيفة.
(٢) سورة المائدة آية ٣٤.
(٣) كذا في الأصل ولعلها لا يحصل.
فإن هو قتل ولم يأخذ المال نفي، وهذا يقارب الأول، إلا في زيادة قطع اليد والرجل مضموما إلى الصلب والقتل.
وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال، قيل إن الإمام فيه بالخيار.
إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه.
وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله.
وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ولم يصلبه.
فإن أخذ مالا ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف.
وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل، عزر ونفي من الأرض، ونفيه حبسه.
وفي رواية أخرى: أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا، وهو قول الحسن في رواية وسعيد بن جبير.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن اقتصروا على القتل قتلوا، وإن اقتصروا على أخذ المال، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وإن أخذوا المال وقتلوا، فأبو حنيفة يقول: الإمام يتخير في أربع جهات:
إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم.
وإن شاء قطع وصلب.
وإن شاء صلب.
وإن شاء قتل وترك القطع.
وقال آخرون: بل يخير الإمام في هذه الأحكام بمجرد خروجهم، وهو قول ابن المسيب ومجاهد والحسن، وهو قول مالك.
ووافق في أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا، لم يجز لإمام أن ينفيه، ويترك قطع يده ورجله.
وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال، لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل والصلب.
ولو كان الأمر على ما قالوه في التخيير، لكان التخيير ثابتا إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، فكأنه يرى التخيير في إجراء حكم القاتل على غير القاتل، وإجراء حكم القطع على غير آخذ المال.
أما إسقاط حكم القطع عن آخذ المال أو القتل عن القاتل، فلا سبيل إليه أصلا.
فالتخيير الثابت شرعا، هو أن يتخير بين أنواع، كالتخيير في حق المشركين، يتخير بين أنواع، فمنها الأخف، ومنها الأغلظ، فأما أن يقال: إن عقوبة المجرم لا تسقط عنه، ولكن غيره يلحق به، فهذا ليس من التخيير في شيء.
نعم، اعتقد مالك أن مجرم قطع الطريق كالقتل، قال: ولذلك قال الله تعالى:
(مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) «١»، فدل أن الفساد في الأرض بمثابة قتل النفس.
والذي ذكره واعتقده فاسد، فإن ما ذكره لا يوجب إجراء حكم
ولو استوى حكمهما، لم يجز إسقاط القتل عنه، كما لم يجز إسقاطه عمن قتل، وإسقاط القطع عمن أخذ المال، وهذا لا جواب عنه.
فإن قيل: القاتل لا يختص، قلنا غلطتم، فإن لقطع الطريق أثرا في تغليظ جريمته، حتى لا تسقط بعفو المستحق، ويزداد بقطع الطريق قطع اليد والرجل معه، فلم يسقط.
نعم إذا تابوا من قبل أن نقدر عليهم، سقط ما يتعلق بقطع الطريق، وبقي ما تعلق بحق الآدمي، ولأن المراد بقوله (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ)، أي فساد يجوز القتل معه، أو قتله في حالة إظهار الفساد على وجه الدفع، وإنما الكلام في الذي صار في يد الإمام. فقوله: (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ)، محمول على هذا، وإلا فلو كان الفساد في الأرض عديل القتل، ما جاز إسقاط القتل بالنفي، كما لا يجوز إذا قتل أن يقتصر في حقه على النفي.
قوله تعالى: (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) «١» :
يدل على أن إقامة الحد لا تكون كفارة لذنوبه، وقد قال في كفارة القتل (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) «٢»، وذلك أن الكفارة يأتي بها المكفر على طوع ورغبة، فتقترن بها التوبة غالبا. أما الحد، فإنما يقام عليه قهرا، دون
(٢) سورة النساء آية ٩٢.
قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) الآية «١».
استثناء لم يأت قبل القدرة عليهم، فيقتضي إخراجهم من جملة من وجب عليهم الحد، لأن الاستثناء حقيقة ذلك، مثل قوله تعالى:
(إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ) «٢».
فأخرج آل لوط من المهلكين، وأخرج المرأة في الاستثناء من الاستثناء من جملة المنجين.
وقال تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) «٣» فأخرجه من جملة الساجدين.
نعم، قد قال في السرقة: (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) «٤».
ولم يسقط حد السرقة، لأنه لم يقع الاستثناء من جملة من أوجب عليهم الحدود، وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم، وفي آيتي المحاربين ذكر استثناء يوجب إخراجهم من الجملة.
وقوله: (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ)، يصلح أن يكون كلاما مبتدأ مستقلا بنفسه، من غير أن يفتقر إلى تضمين غيره، فلم نجعله مضمنا لغيره إلا بدلالة.
(٢) سورة الحجر آية ٥٩- ٦٠.
(٣) سورة الحجر آية ٣٠- ٣١.
(٤) سورة المائدة آية ٣٩.
ثم إذا استقل الاستثناء باقتضاء إسقاط ما اختص بقطع الطريق، لم يحتج إلى تعليقه بغيره، فلا جرم كان ما يتعلق بالمذهب، أن ما يتعلق بحق الآدمي قصاصا كان أو غرما، لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
ولما كان قوله: (يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً)، على ما في الصحراء أو البلد، استوى حكم قطع الطريق في البلد والمصر جميعا، ومن فرق فإنما يفرق لا بحكم اللفظ، بل بمعنى يتوهمه فارقا وهو غالط فيه.
ولما ثبت للشافعي أن الحكم ليس متعلقا بمجرد الفساد في الأرض، ولا بمجرد قطع الطريق، لكن تفاوت العقوبات على حسب تفاوت الجرائم، فالردء المعاون في قطع الطريق، لا يلزمه عقوبة من باشر القتل وأخذ المال، وتقدير الكلام: يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا ان قتلوا وأخذوا المال، فليس لمن لم يفعل من ذلك شيئا أن يدخل في جملتهم «١».
قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) «٢».
واعلم أن السرقة في العرف واللغة، اختزال شيء على سبيل الخفية ومسارقة الأعين، وقد ورد في بعض الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته».
قيل يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها وسجودها.
إلا أنه ليس سارقا من حيث موضع الاشتقاق، فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالبا.
(٢) سورة المائدة آية ٣٨.
ولم يختلف العلماء في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمنى، فهي إذا مراد الله تعالى بقوله: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما).
واعلم أن قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) عند قوم يتعلق به في إيجاب قطع من شمله اسم سارق، إلا من خصه الدليل وهو عموم، وعندهم في كل مقدار إلا ما خصه الدليل.
وأبى ذلك آخرون، فإنه لما قال سارق، ولم يقل سارق ماذا، والإنسان يقول: سرقت كلام فلان، وسرقت علمه وحديثه، وقال عليه الصلاة والسلام:
«إن أسوأ الناس سرقة من سرق من صلاته. قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟
قال: لا يتم ركوعها وسجودها» «١».
فذكروا أن اسم السارق لا يمكن أن يعلق عليه القطع، لاعتبارنا فيه شروطا لا يدل لفظ السارق عليها، ولزمهم على هذا أن لا يتعلق بعموم لفظ البيع والنكاح والإجارة إلى غير ذلك، لاعتبار شروط فيها لا يدل اللفظ عليها.
وقد قال غيرهم: بل يتعلق به وبأمثاله نظرا إلى عموم اللفظ، نعم سرقة الكلام والعلم لا تفهم في المتعارف من إطلاق اسم السرقة، وإنما الكلام في المتعارف، كما لا يفهم من إطلاق الزنا زنا القرد والبهائم، ولما قال عليه الصلاة والسلام أسوأ السراق حالا من سرق من صلاته، لم يفهم الناس وهم أهل اللغة معناه، حتى فسر رسول الله معناه وما أراده، لأنه
نعم هذا الجنس إنما يمتنع التعلق به إذا كان مخصوصا بمخصوص مجمل، فأما إذا لم يكن المخصوص مجملا، فيجوز التعلق به، والمخصوص المجمل طارئ على اللفظ العام، فلا بد من بيان مثله هاهنا حتى يمتنع التعلق به، وإلا فالتعلق به جائز، وهذا مما بسطنا القول فيه في الأصول بوجوه أخر ذكرناها هناك، فليوجد من ثم «١».
وإذا تبين أن المخصص في حكم العارض، فإذا اختلفنا في مقدار، فالذي يأخذ بالأقل ويوجب القطع فيه أسعد حالا، لأنه يستند فيه إلى عموم اللفظ، إلا فيما يستيقن خصوصه به، وكذلك إذا حصل الخلاف في النباش أو الفواكه الرطبة، إلى غير ذلك مما يختلف فيه.
والمتفق عليه في موضع القطع مفصل الكوع، واسم اليد مطلقا يتعارف به ذلك، قال تعالى:
(إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) «٢».
وقال لموسى: (أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) «٣».
ويمتنع أن يدخل بها إلى المرفق، ولو كان اسم اليد متناولا للعضو إلى المنكب، لكان يقال: قطع بعض يد السارق، وهذا خلاف العرف، وقد شرحنا هذا من قبل، والمعتمد فيه الإجماع.
والشافعي حمل مطلق اليد في التيمم على اليد إلى المرفق كما في الوضوء، لا لأن اسم اليد يشمل ذلك من حيث اللغة، ولكن لأن التوقيف ورد بذلك،
(٢) سورة النور آية ٤٠.
(٣) سورة النمل آية ١٢.
وهذا وإن كان لا يظهر على ما يجب، فالتوقيف أقوى معتصم.
واعلم أن آية السرقة ليس فيها تعرض لدفعات السرقة، وإنما فيه التعرض للدفعة الأولى، وقطع اليد اليسرى والرجل اليمنى على مذهب الإمام الشافعي، والرجل اليسرى في الكرة الثانية على المذاهب كلها متلقى من السنة لا من الكتاب فاعلمه، وليس في الكتاب إلا بيان الكرة الأولى.
نعم في كتاب الله تعالى بيان موجبات جرائم قطاع الطريق على اختلاف جرائمهم على ما ذكره ابن عباس، فإن تلك العقوبات المختلفة تعلقت بجرائم مختلفة في الكرة الأولى، لأن الله تعالى بين ما تعلق بالأولى، وبين ما يتعلق بالكرة الثانية بعد الفراغ من الأولى.
نعم، لم يتعرض للدفعة الثانية، لأنه يندر من السارق بعد قطع يده أن يرجع وهو ناقص إلى السرقة التي يحتاج فيها إلى ملابسة الإغرار، وسرعة الحركة، والمخاطرة بالمهجة، وشدة العدو، والذي يده ناقصة لا يتأتى منه ذلك، فأبان الله تعالى جزاء السارق، ولم يتعرض للكرة الثانية، وتعرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم لها.
والسارق من بيت المال لا قطع عليه في ظاهر مذهب الشافعي، وهو مذهب الجماعة، لأن له فيه نصيبا، وإليه أشار علي رضي الله عنه لما أتى برجل قد سرق مغفرا من الخمس، فلم ير عليه قطعا، قال: لأن له فيه نصيبا، وفي وجه يجب القطع تعلقا بعموم الآية وبلفظ السرقة.
ويتعلق بعموم كتاب الله تعالى والإيماء إلى التعليل في إيجاب القطع على ذوي الأرحام، بسرقة أموال أقاربهم خلافا لأبي حنيفة.
واعلم أن الذي يجب على السارق من القطع، يجب جزاء على الفعل أو زجرا، فالشرع اعتنى ببيانه وإيضاح حكمه، ولم يتعرض للضمان الذي لا يرجع إلى الفعل، ولا يتعلق به، وإنما هو بدل عن المحل، كما أوجب على الزاني الجلد، ولم يتعرض للمهر، وأوجب على قاطع الطريق القتل، ولم يتعرض للدية من بعد التوبة في قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)، لأن ذلك حوالة على بيان آخر «١».
قوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) الآية (٤٢).
أصل السحت الاستئصال، يقال أسحته إسحاتا إذا استأصله وأذهبه.
قال الله تعالى: (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) «٢» : أي يستأصلكم، ويقال أسحت ماله إذا أفسده، فسمى الحرام سحتا لأنه لا بركه لأهله فيه، ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال، فأخذ الرشوة على الحكم غاية المحظور من الرشوة، فإنه يجب عليه إظهار الحق فيأخذ الرشوة، ومن أجله منع الشافعي الصلح على الإنكار، لأن الذي ينكر إذا جعل القول قوله، فكأنه بما يبذله من المال ينبغي رفع الظلم عن نفسه، فكان كالرشوة على فعل واجب أو رفع ظلمه.
(٢) سورة طه آية ٦١.
ويقرب من هذا أخذ القاضي الهدية، إذا كان لا يهدى إليه من قبل.
فالارتشاء على الحكم، هو الذي ورد فيه اللعن على الراشي والمرتشي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والرشوة هي التي دعت اليهود إلى كتمان ما أنزل الله تعالى من نعوت نبينا على الأنبياء المرسلين، فإنهم آثروا حظهم من الدنيا على اتباعه، فكتموا ما أنزل الله تعالى من نعوته، بعد أن كانوا أغروا به من آبائهم وأبنائهم، وجحدوا بألسنتهم ما استيقنته أنفسهم ظلما وعتوا، فأدّاهم شؤم الارتشاء إلى الكفر بما أنزل الله تعالى، فصاروا إلى محاربة الله ورسوله وعذاب الأبد.
قوله تعالى: (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية (٤٢) :
وقد اختلف العلماء فيه: فقال قائلون: يتخير الإمام في حقهم: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم.
وقال قائلون: التخيير منسوخ.
والقولان محكيان عن الشافعي.
وقال ابن عباس: آيتان نسختا من المائدة: آية القلائد، وقوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).
أما القلائد، فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا، وأي شهر كانوا، وأما الأخرى فنسخت بقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) «١».
ويجوز أن يكون معنى قوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) : المنع من اتباع آرائهم فيما قد نسخ، ولا يمنع ذلك من جواز الإعراض عنهم، مثل منوب الجزية عليهم، فإنهم ما كانوا إذ ذاك داخلين في أحكام الإسلام، وإنما كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم هدنة، أن لا يتعرض لهم ولا يؤاخذون بشيء من أحكام الإسلام، فتكون «١» منهم ولهم، فلما أمر الله تعالى بأخذ الجزية منهم وإجراء أحكام المسلمين عليهم، أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله تعالى، فسيكون حكما للآيتين جميعا تاما.
فإذا احتمل الأمرين، فليس قوله: أو أعرض عنهم، نصا حتى يحتاج إلى طلب نسخه، فعلى هذا ينبغي أن يقال: يجب على الإمام أن يحكم بينهم.
ويحتمل أن يقال: من حيث إنهم لا يؤاخذون بأحكام الإسلام وتفاصيل الحلال والحرام، يجوز للإمام أن لا يحكم بينهم أصلا.
وروي عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة، وأن بني قريظة يدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله، فأنزل الله تعالى الآية
وروي عن ابن عباس رواية أخرى.
وعن الحسن وعن مجاهد والزهدي أن الآية وهي قوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ)، نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهم أيضا لم يكونوا أهل ذمة، وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم، فصار النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم، وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله تعالى، ورجم اليهوديين وقال: أنا أولى من أحيا سنة أماتوها، وهذا يدل دلالة تامة على جواز رجم اليهود خلافا لأبي حنيفة، ويدل على أن أهل الذمة محمولون في عقودهم وقضاياهم على موجب أحكام المسلمين كالمسلمين، ويدل أيضا على أن الخمر ليست بمضمونة على متلفها، ولا أنها مال من أموالهم، لأن إيجاب الضمان على متلفها حكم على موجب أهواء اليهود، وقد أمرنا بخلاف ذلك.
نعم، لا نتعرض لهم في خمورهم ولا في مناكحتهم الباطلة، وقد فتح عمر سواد العراق، وكان أهلها مجوسا، ولم يتعرض لمناكحتهم الواردة من قبل على بناتهم وأخواتهم، ولا فرّق بينهم.
فأما ما يرجع إلى أهل الإسلام فلا خفاء به.
وأما الذي يرجع إلى أهل الذمة، فهو أن البغية بعقد الذمة تقبيح سنن رشادهم، حتى إذا شاهدوا من آيات الله تعالى والأعلام على نبوة نبينا وخالطونا، انفتحت بصائرهم وقرب الأمر في استجابتهم، ولو لم يعقد لهم عقد الذمة، نفروا واستكبروا ولم يتحقق اللطف الذي يؤمن به قرب إجابتهم، فهذا هو السبب في تقريرنا إياهم وترك الإنكار عليهم. هذا إن عللنا.
وإن لم نعلل قلنا: الأصل أن لا يقرون ويمنعون إلا حيث أرخص الشرع فيه، وقد أرخص في تدك النكير في نكاح المحارم وغيره من المحظورات، فهذا تمام هذا الفن.
فإذا ثبت ذلك، فقد كان في ابتداء الإسلام مخيرا في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ثم صار ذلك منسوخا، ونفي الإعراض في غير ما تحاكموا إليه فيه، وقبل ذلك كان الإعراض جائزا فيما تحاكموا إليه فيه «١»، وقد قال أبو حنيفة: إذا ترافعوا إلينا وقد جرى النكاح في العدة، فلا يعترض عليهم في الدوام، ومعلوم أن أول النكاح في العدة لم يكن على نحو ما يجوز في الإسلام، إلا أنهم يرون مانع العدة مختصا بالابتداء، وهو
قوله تعالى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها) «٢» الآية.
معناه فيما تحاكموا إليك في حد الزانيين، وأنهم لم يتحاكموا إليك طلبا لحكم الله تعالى، وإنما تحاكموا إليك لطلب الرخصة، وما أولئك بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم لنبوتك.
وقوله تعالى: (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ)، يدل على أن حكم التوراة فيما اختصوا فيه لم يكن منسوخا، وأنه صار بمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شريعة، ما لم ينسخ، لأنه لو نسخ لم يقل بعد النسخ إنه حكم الله.
وقد استدل قوم على أن شرع من قبلنا يلزمنا «٣»، وهذا لا وجه له، فإن قوله: فيها حكم الله، ليس يدل على أن كل ما فيها حكم الله، بل قد نسخ بعضها، وإنما يدل على أن فيها حكم الله ونحن نقول بذلك الحكم، وذلك الحكم هو الرحيم الذي اختصموا فيه إليه من جهة الزاني «٤».
(٢) سورة المائدة آية ٤٣.
(٣) من هؤلاء القوم الجصاص في أحكام القرآن. فأنظر في الجزء ٤ ص ٩٢. [.....]
(٤) انظر أحكام القرآن للجصاص.
استدل قوم به على قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، وهذا لو ثبت لهم أن شريعة من قبلنا تلزمنا.
وبعد فقوله تعالى: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها)، ليس فيه عموم، ولم يثبت أن كلم الله تعالى في حق الواحد من شريعة من مضى حكم في حق أهل شريعتنا كما ثبت ذلك بدليل قاطع في شريعتنا.
ومن وجه ثالث، وهو أنه لم يثبت عموم شريعة التوراة لأصناف الخلق، كما ثبت أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى الخلق كلهم.
الرابع أنه تعالى قال: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، فكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة، وهم أهل ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة، كما للمسلمين أهل ذمة، لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين، ولم يحل الفيء لأحد قبل هذه الأمة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعثا إلى قومه، فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل، إذ كانت دماؤهم تتكافأ، فهو مثل قول الواحد منا:
وما في الدنيا سوى المسلمين النفس بالنفس.
وتشير إلى قوم تعيين فتقول:
الحكم في هؤلاء، أن النفس بالنفس.
فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال: إنهم فيما بينهم على هذا الوجه النفس بالنفس، وليس في كتاب الله تعالى ما يدل على أن النفس بالنفس مع خلاف الملة.
والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا، وذلك بين لنا أن المراد بقوله تعالى: (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)، استيفاء ما يماثله مما يقابله من الجاني، فلا يجوز أن يتعدى إلى غيره، كما لا يجوز أن يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه.
قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) «٢»، يدل على بطلان قول من قوم الخمر بناء على أهواء الكفار، ولا يدل على أن الكفار لا يحلفون في بيعهم إذا أردنا تغليظ اليمين عليهم، لأنا في ذلك لا نتبع أهواءهم، لأن إتباع أهوائهم فيما ينفعهم وهذا يضرهم، فهو ضد إتباع أهوائهم، إنما المقصود به المبالغة في انزجارهم عن اليمين الكاذبة، إحياء لحق امرئ مسلم.
قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) «٣»، يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين.
قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) «٤»، يدل على أن تقديم الواجبات
(٢) سورة المائدة آية ٤٩.
(٣) سورة المائدة آية ٤٨.
(٤) سورة المائدة آية ٤٨.
وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر.
وقال تعالى في هذا الموضوع كرة أخرى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ)، وذلك يجوز أن يكون تكرار، ويجوز أن يكون واردا في قصة أخرى تحاكموا فيها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما ذكر في التفسير أن بني النضير وبني قريظة تحاكموا إليه في الدية، وكان بنو النضير أضعف وقريظة أشرف، وكانوا يجعلون دية القتيلين على التفاوت، لذلك قال:
(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) «١»، أي لا يعدل عن الحكم الذي أنزل الله تعالى عليه، إلى ما يهوون من الأحكام إطماعا منهم في الدخول في الإسلام، وسياق الكلام إلى قوله: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) «٢» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خطاب لليهود، لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وأخذوهم به، وإذا توجه على أغنيائهم سامحوا، فقيل لهم: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) :
قوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) «٣» : يدل على قطع الموالاة شرعا.
وقوله: (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)، يدل على إثبات الشرع
(٢) سورة المائدة آية ٥٠.
(٣) سورة المائدة آية ٥١.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) «٢» : يمنع من إثبات الميراث للمسلم من المرتد «٣».
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) الآية ٥٤.
فيه دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لأن الذين ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما قاتلهم أبو بكر «٤» وهؤلاء الصحابة، وقد أخبر الله تعالى أنه يحبهم ويحبونه، وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله تعالى.
ولم يقاتل المرتدين بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوى هؤلاء الأئمة، فإنه لم يأت بقوم آخرين يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية، غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر، ومثله في دلالته على صحة إمامة أبي بكر.
قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) «٥» الآية.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي دعاهم.
قلنا: قال الله تعالى لرسوله:
(٢) سورة المائدة آية ٥١.
(٣) انظر احكام القرآن للجصاص ج ٤ ص ٩٩- ١٠٠.
(٤) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
(٥) سورة الفتح آية ١٦. [.....]
ولا يجوز أن يكون المراد به عليا، لأن الله تعالى قال: تقاتلونهم أو يسلمون، وعلي ما حارب قوما في أيامه على أن يسلموا، ولم يحارب أحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام على أن يسلموا غير أبي بكر، فدلت الآية على صحة إمامته «٢».
قوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) «٣» الآية:
يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، فإن التصرف بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة، ولا يبطل الصلاة.
وقوله: (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) «٤». يدل أيضا على أن صدقة التطوع تسمى زكاة، فإن عليا تصدق بخاتمه تطوعا في الركوع، وهو نظير قوله تعالى:
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) «٥»، وقد انتظم النفل والفرض، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل، كاسم الصدقة، واسم الصلاة ينتظم الأمرين.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) «٦».
(٢) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج ٤ ص ١٠١.
(٣) سورة المائدة آية ٥٥.
(٤) سورة المائدة آية ٥٥.
(٥) سورة الروم آية ٣٩.
(٦) سورة المائدة آية ٥٧.
هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي.
وأبو حنيفة جوز الاستنصار بهم للمسلمين على المشركين، وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوا.
وقد روى عروة عن عائشة، أن رجلا من المشركين لحق بالنبي يقاتل معه، فقال له: ارجع، أنا لا أستعين، بمشرك «١».
فعلل منع الاستعانة بالشرك.
قوله تعالى: (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) «٢» : دليل على أن الصلاة تجب بادعائه إليها.
ونحوه قوله تعالى: (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) «٣».
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) «٤» :
يدل على أنه عليه الصلاة والسلام بلغ جميع ما أمر به، ولم يكتم من ذلك شيئا، لأن الله تعالى ضمن له العصمة، فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به، وفيه دليل على بطلان قول الروافض، أنه عليه الصلاة كتم شيئا مما أمر به وأوحي إليه، وكان بالناس حاجة إليه «٥».
قوله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
(٢) سورة المائدة آية ٥٨.
(٣) سورة الجمعة آية ٩.
(٤) سورة المائدة آية ٦٧. انظر تفسير الآلوسي ج ٦ ص ١٨٩.
(٥) أنظر شرح هذه الآية لصاحب محاسن التأويل تحت عنوان «تنبيهات»
وهذا يدل على أن البحث عن التوراة والإنجيل، يدل على أنه يدعو إلى معرفة نبينا صلّى الله عليه وسلم، وأن الدين الحق بيّن عن إقامة التوراة والإنجيل.
قوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) «٢» : فيه دليل على جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء، وأن شرف النسب لا يمنع من إطلاق اللعن في حقهم.
قوله تعالى: (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) «٣»، الآية.
روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان يلقى الرجل الرجل فيقول له:
يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) - إلى قوله- (فاتقون) ثم قال:
كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد
(٢) سورة المائدة آية ٧٨.
(٣) سورة المائدة آية ٧٩. [.....]
وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بهجرانهم،
وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود:
(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) «٢».
والضمير في منهم راجع إلى اليهود، وقال آخرون هو راجع إلى أهل الكتاب على معاداة النبي عليه الصلاة والسلام ومحاربته، وأراد بالنبي موسى عليه السلام، أنهم غير مؤمنين إذا كانوا يتولون المشركين.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) «٣».
فيه دليل على أن العبد لا يمكنه أن يحرم على نفسه ما أحله الله تعالى له بعقده وقصده.
وروى ابن عباس، أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي، فأنزل الله تعالى:
(لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ).
وروى قتادة أن ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كانوا هموا بترك اللحم والنساء والإخصاء، فأنزل الله تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ).
وفيه دليل على أن ذلك منه لغو، وأبو حنيفة رأى أن ذلك صار محرما عليه، وأنه إذا تناوله لزمته الكفارة، وهو بعيد.
(٢) سورة المائدة آية ٨٠.
(٣) سورة المائدة آية ٨٧.
ولو قدرنا تحريم الشيء عليه، فتناول المحرم لا يقتضي وجوب شيء عليه في الدنيا، مثل تناول الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: اليمين تعلقت الكفارة بها، لأنها تحرم المحلوف عليه، فوجبت الكفارة عند الحنث بتناول المحرم باليمين، ولا وجوب لها من قبل، ولكن هذا لا وجه له على تفصيل أصلهم، فإنهم قالوا:
لو حرم الطعام على نفسه حنث بأكل جزء منه.
ولو قال: والله لا آكل هذا الرغيف، لم يحنث بأكل بعضه، وقدروا فيه الشرط والجزاء وارتباط أحدهما بالآخر، مثل قوله: إن أكلت هذا الرغيف فعبدي حر، فلا يحنث بأكل البعض منه، وذلك يدل على أن الحنث ليس متعلقا بتناول المحرم، وإنما هو باعتبار مخالفة الشرط والجزاء، وهذا لا ريب فيه.
قوله تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) «٢»، عقيب نهيه عن تحريم ما أحله الله تعالى.
قال ابن عباس: لما حرموا الطيبات من المأكل، حلفوا على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأبان أن الحلف لا يحرم شيئا، وهو دليل
(٢) سورة المائدة آية ٨٩.
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).
أي تحريم الحلال فيما اشتملت عليه أيمانكم، ولكن لما سبق منكم من عقد اليمين، فأنتم مؤاخذون بما عقدتم من الأيمان، وتلك المؤاخذة كفارة إطعام مساكين، فهذا معنى الآية وهو صحيح «١».
فاللغو على هذا هو الذي لا يعتد به وهو تحريم الحلال.
وقال عطاء وقد سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله «٢».
وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت:
لغو اليمين لا والله، بلى والله، موقوفا عليها، فعلى تفسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الأصل، وعلى ما روى عن عائشة، معنى قوله: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ)، تقديره من أيمانكم، فكأنّ الأيمان منقسمة إلى ما يتعلق به مؤاخذة، وإلى ما لا يتعلق به مؤاخذة في معنى الكفارة، وهذا مذهب الشافعي في الأيمان المستقبلة.
وأبو حنيفة يرى تعليق الكفارة بالأيمان المستقبلة كلها، فمعنى قوله
(٢) أخرجه حميد بن مسعده الشامي، وابو داود في مسنده، ورواه الزهري وابن جريج ومحمد بن حميد وعبد الرزاق.
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) «١»، فأثبت المؤاخذة بما كسبت قلوبنا، وجعل اللغو يقتضي أن المكتسب بالقلب هو الذي يجرد القصد إليه، والماضي العمومي لا كفارة فيه عندهم، فاليمين عندهم منقسمة إلى الماضي والمستقبل، والمؤاخذة من حيث الاسم ثابتة في الماضي والمستقبل في بعض المواقع، فعلى هذا يقولون:
اللغو المذكور في هذه الصورة، أن يحلف على الماضي وهو غير المعقود عليه، ونقيضه المعقود عليه، وهو ما يعزم على فعله، وإنما يعرف عزمه بقوله: لأفعلن ولا أفعل، وفي الماضي لا يتصور عقد العزم على شيء.
واللغو المذكور في سورة البقرة، أن يحلف على الماضي ظانا أنه كذلك، ثم يتبين غلطه، فهذا لا إثم عليه فيه. وضده أن يحلف عامدا، فهو غموس تتعلق المؤاخذة به في الآخرة، فهذا معنى هذه الآية عندهم.
وقال بعض أهل العلم: اللغو أن يحلف على معصية أن يفعلها، فينبغي له ألا يفعلها ولا كفارة فيه، وروي فيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها «٢».
(٢) أخرجه الامام احمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والترمذي في سننه عن ابي هريرة رضي الله عنه.
والذي حملهم على ذلك قوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) «١»، فذكروا أن حفظ اليمين إنما يتصور في المستقبل، وهذا غلط، فإنه ليس حفظ اليمين الامتناع من الحنث، مع أن الحنث مأمور به في كثير من المواضع، وقد قال الله تعالى:
(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) «٢».
وإنما المراد به الامتناع من اليمين، فلا يحلف ما استطاع، ويحفظ لسانه عن اليمين مطلقا. فهذا معنى حفظ اليمين.
ويدل عليه أن اليمين قد يكون على فعل الغير، ولا يتأتى منه حفظ الغير، مثل قول القائل: لا تطلع الشمس غدا، ولا تمطر السماء غدا، أو لتمطرن السماء غدا، أو ليدخلن السلطان، إلى غير ذلك مما يعقد اليمين عليه، فعلم بطلان هذا القول.
ولا شك أن الحق متميز في مسند الشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة عند من تأمل فحوى الكلام الدال على نصب اللغو سببا للتخفيف ونفي المؤاخذة، تارة مطلقا في الدارين، وتارة في حكم الكفارة، ولا
(٢) سورة التحريم آية ٢.
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «١».
أترون هذا من الذي يحسن أن يسمى باسم اللغو، الذي يقال فيه لا مؤاخذة في مثله.
وقوله عقدتم، قرئ بالتشديد، ومعناه عقد القول، وعقدتم بالتخفيف يحتمل العزيمة والقصد إلى اللفظ، وعقد اليمين قولا، وإنما العزم فيما يؤكده الإنسان بقصده وعقده، فيظهر للناس منه تأكيد القول وإظهار تحقيقه.
هذا هو معناه، ولا يتحقق ذلك في قوله لا والله وبلى والله في حق من يكون عازما عليه، وإنما يجرى في تضاعيف الكلام من غير ثبت وتحقيق «٢».
وذكر إسماعيل بن إسحاق المالكي في كتابه المترجم بأحكام القرآن، في الرد على الشافعي، ما أذكره وأسوق كلامه وأبين جهده بكلام الشافعي، قال إسماعيل «٣» :
حكي عن الشافعي أن من حلف عامدا للكذب فقال: والله لقد كان
(٢) انظر تفسير الطبري ج ٧ ص ١٣.
(٣) انظر الديباج المذهب ص ٩٤- ٩٥. [.....]
فإن قال قائل: ما الحجة في أن يكفر وقد عقد الباطل؟ قيل: أقربهما قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» «١».
فقد أمره الله أن يعمد الحنث، يقول الله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) «٢» الآية، نزلت في رجل حلف لا ينفع أخاه، فأمره الله تعالى أن ينفعه.
وقوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) «٣»، ثم جعل فيه الكفارة.
ومن حلف وهو يرى أنه صادق، ثم وجده كاذبا، فعليه الكفارة.
قال إسماعيل: فشبهه الشافعي بما لا يشبهه، لأن الذي أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي بالذي هو خير وأن يكفر، إنما أمره أن يستأنف بعد اليمين شيئا كان حلف عليه ألا يفعله، ولم يكن الرجل كاذبا حين حلف، فجعلت كفارة يمينه إذا فعل ما حلف عليه ألا يفعله، ما ذكر في القرآن، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبر عن شيء مضى، كاذب فيه، حالف عليه، فكيف يشبه هذا بهذا؟
ثم أردف هذا: بما لا ينطلق لسان محصل بذكره: بأن الذي استشهد به أمر فيه بأن يتعمد الحنث، فلنؤمر في الماضي بمثله، وهذا جهل مفرط منه، وإنما أوتي من قبل نظره إلى صورة الكلام، من غير أن عرف مقداره،
(٢) سورة النور آية ٢٢.
(٣) سورة المجادلة آية ٢.
ونحن نذكر تقرير قول الشافعي، أنه رحمه الله أشار بقوله إلى أن الكفارة في المستقبل ما وجبت إلا باعتبار الخيانة، فإن الكفارة لا تكون جزاء على فعل مباح أو فعل واجب، وإنما هي جزاء على أمر مكروه منهي عنه.
فإذا ثبت ذلك، فمن حلف على ترك فعل مباح أو واجب في المستقبل، ثم فعل، فلا يمكن أن يقال إن الكفارة لأجل ذلك الفعل المباح، الذي ندبه الشرع إلى فعله، وإنما تجب الكفارة لأجل ما اتصفت به اليمين من صفة الحنث، فيقال صارت اليمين كاذبة، بدل ما يقال إن اليمين صادقة، فإذا كانت الكفارة لأجل صفة الحنث لا لأجل الفعل المباح، فوصف الحنث جناية على اليمين، وذلك في الماضي والمستقبل واحد.
فقال إسماعيل في الذي شبه الشافعي به أمره، أن يستأنف بعد اليمين شيئا كان حلف فيه أن لا يفعله، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبر عن شيء قد مضى كاذب فيه، فلم يفهم المقصود، فجعل الفرق بينها الماضي والمستقبل، وقال يجب أن يؤمر بالحنث فيما مضى، كما أمر به في المستقبل، وهذا كلام من لا يحل له أن يتصدر للتصنيف في الدين، فضلا عن أن يرد على الشافعي.
ثم قال: جعل الله الكفارة عن اليمين، فمن كفر فلا إثم عليه، فينبغي أن يكون هذا في قول الشافعي لا إثم عليه، فظن أن الكفارة هي التي ترفع الإثم، وقد بينا في مواضع أن التوبة هي الرافعة، وأن الكفارة تجب في
وقوله: (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ)، معناه وذلك نتيجة أيمانكم، ومعقول أيمانكم، والمتعلق بها.. ولا فرق بين أن يقول: (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) وبين أن يقول: «ذلك حكم أيمانكم» إذا كانت الكفارة حكما ولا حكم سواها.
قوله: (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) «٢»، معناه ذلك حكم أيمانكم، ولو قال ذلك حكم أيمانكم، عرف منه أن اليمين سبب، وكذلك إذا قال: «ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم».
وأبو حنيفة يقول: قوله (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ)، فيه إضمار الحنث ومعناه: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم، وهذا غلط منه، فإذا حنث عندهم فليست الكفارة كفارة اليمين، وإنما الكفارة كفارة الحنث في تناول المحرم، فلا تضاف الكفارة إلى اليمين عندهم أصلا، سواء حنث أو لم يحنث.
والذي يقال فيه من الإضمار صحيح، فإنه قال: (فَمَنْ كانَ
(٢) انظر تفسير القرطبي.
فأما اليمين عندهم، فليست سبب الكفارة ولا سبب السبب، فإن اليمين تضاد الحنث وتمنع منه، والحنث نقض اليمين، فكيف يعقل إضافة الكفارة إلى اليمين، وليست هي سببا ولا سبب السبب.
والإضافة إما أن تكون بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز، فأما الحقيقة، فمثل قولنا زكاة المال، والمجاز مثل قولهم يقتل الكافر لكفره، وإن كان القتل عندهم للقتال، ولكن الكفر يدعو إليه، فلتكن الإضافة فيما نحن فيه جارية على أحد الوجهين، فإذا لم يوجد وجه من الارتباط لا مجازا ولا حقيقة، تطلب الإضافة من كل وجه، وهذا في غاية الوضوح.
قوله تعالى: (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) «٢»، وليس فيه تقدير شيء معلوم.
ورأى الشافعي أن لكل مسكين مدا من طعام.
ورأى أبو حنيفة مدين، وذلك ملتقى من التوقيف المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليس الشروع فيه من معاني القرآن «٣».
(٢) سورة المائدة آية ٨٩.
(٣) انظر تفسير القرطبي.
وفي قوله: (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ)، دلالة على أنه لو صرف إلى واحد جميع الطعام لا يجوز، وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، والسبب في ذلك أن منهم من يراعي عند تعدد الفعل ظاهر التوقيف فيقول:
إذا دفع إليه أولا، فبعد ذلك لو منعناه كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض، فإن اسم لمسكين يعمه مع غيره، فأما إذا دفع إليه دفعة واحدة بطل معنى العدد، فكأنهم يقولون إذا تعدد الفعل، حسن أن يقال في الفعل الثاني، لا يمنع من الذي دفعه إليه أولا، فإن اسم المسكين يناله، فهذا مأخذ قوم منهم.
واعتمد آخرون في إسقاط العدد، على إقامة تعدد الجوعة بتعدد الأيام مقام أعداد المساكين، والأمران باطلان، فإن فيهما طرح العدد، وذلك لا وجه له، والذي قالوه من أنكم منعتموه مع اشتمال اسم المسكين عليه، فلم يمنعه إلا لاعتبار العدد، فإن العدد منصوص عليه فلا سبيل إلى طرحه، والذي ذكروه من إقامة عدد الأيام مقام عدد المساكين، فتحكم ذكرنا في كتب الفقه فساده.
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) «٢» الآية، فالخمر عند كافة العلماء محرمة، غير أن في الناس من يشك في بعض الأحيان، وأنها خمر أم لا.
ولا شك أن موضع الاشتقاق وهو التخمير أو المخامرة. يقتضي كون الأشربة المسكرة خمرا، غير أنا لا نثبت اللغات بهذا الجنس من القياس، ورويت أخبار تدل على أن اسم الخمر لازمة لهذه الأشربة التي اختلف العلماء في تحريمها، والمشكل إشكال الاسم على أهل اللغة وأن ذلك لو سمي خمرا لم يشكل.
كيف وعامة أشربة المدينة من التجمل، لأن العنب لا يوجد بالمدينة، وكيف صار ذلك مشكلا؟
وكيف يصور الاختلاف فيه؟
فلعل اشتهار غير العيني بأسامي أخر، لتمييز نوع من نوع، أورث هذا الإشكال، ولم يكن للعنبي اسم آخر وغير العنبي.
(٢) سورة المائدة آية ٩٠.
ومنه ما يسمى المزر.
ومنه ما يسمى البتع.
ومنه ما يسمى نبيذا، فصار هذا الإسم مشهورا في التعارف.
وظن ظانون أن الاشتهار في بعض الأشربة يمنع من إطلاق اسم الخمر عليه.
ورأى آخرون أن اسم الخمر عام، ثم اختص كل شراب باسم، كالفاكهة اسم عام، ثم يسمى كل واحد باسم خاص، وهم يجيبون عن ذلك ويقولون:
الفاكهة لم توضع مشهورة ببعضها دون بعض، ولكل واحد منها اسم خاص، فأما العنب فليس له اسم مشهور مذكور سوى الخمر، ولكل واحد مما سواه اسم يدعى به، فانصرف المطلق إلى ما اشتهر به، وكان موضوعا لذلك، وهذا في غاية الوضوح.
ويجاب عن هذا أن مزية الاشتهار لكونه مقصودا للشرب غالبا وغيره، إنما يشرب عند إعواز العنب، والأصل الاعتماد على الآبار، مثل قول ابن عباس:
نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ، فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر.
وروى حميد الطويل عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة، وأبي بن كعب، وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة، فمر بنا رجل فقال:
إن الخمر قد حرمت، فو الله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا: أهرق ما في إنائك يا أنس، ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله، وأنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ.
فأخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر.
وروى ثابت عن أنس، قال: حرمت علينا الخمر يوم حرمت، ولا نجد خمور العنب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر.
وعندهم أنها ليست كالخمر، لا في الحكم ولا في الاسم.
وعن أنس بن مالك، أنه قال: حرمت الخمر وهي من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما خمر من ذلك فهو خمر.
ذكر في الحديث الآية أنه من التمر والبسر.
وذكر في هذا الحديث أنه من ستة أشياء.
وعندهم أن لا خمر منها. وروى النعمان بن بشير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
ان من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا «١».
وورد في بعض الأخبار رواه أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
الخمر من هاتين الشجرتين، يعني النخلة والعنب، ومراده غالب ما يشرب من الخمر، وإلا فعندهم المثلث ليس من الخمر، وهو من العنب، ونبيذ التمر ليس بخمر.
وتواترت الأخبار أن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
قال إسماعيل بن إسحاق: الدليل على أن كل شيء أسكر فهو خمر قوله تعالى:
فكان السكر من العنب، مثل السكر من النخل، ثم نسخ ذلك، فإن سورة النحل مكية، إلا آيات في آخرها.
وقال تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) «٢».
فذمهما ولم يحرمهما على تأويل قوم، وحرم بعد ذلك السكر عند إرادة الصلاة، فاستوى في ذلك السكر من ثمرات النخيل والأعناب، ثم قال بعد ذلك: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ)، فجاء التحريم في هذه الآية.
قال: وجاء في الأخبار أنه كان للخمر أحوال ثلاثة، ووصفت الأحوال الثلاثة بهذه الآيات.
فلما كان السكر من ثمرات النخيل والأعناب موجبا نهيا عن الصلاة، وكانت إحدى حالات الخمر كذلك، كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية، وكانت هي الحالة الثالثة من حالات الخمر.
وهذا الذي ذكره ليس فيه كثير دلالة، وإنما غاية ما فيه أن السكر من الجميع سواء، فليكن القليل من الجميع سواء.
فيقال له لأن المعنى في تحريم السكر ظاهر، ولا معنى في تحريم القليل، وإنما هو تعبد، والتعبد مختص بما يسمى خمرا.
نعم قال تعالى في فحوى الآية:
(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) «٣».
(٢) سورة البقرة آية ٢١٩. [.....]
(٣) سورة المائدة آية ٩١.
فإن قلت: إن الشيطان يريد أن يشرب ليدعوه الشرب إلى السكر، فليس في ذلك دليل على أن ذلك يجب أن يكون محرما.
مع أن الذي به تقع العداوة غير نفس الشرب. وحرم الميسر أيضا لأن الرجل منهم كان يقامر في ماله وأهله فيقمر، فيبقى حزينا سليبا، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء، مثل ما يوجب ذلك السكر من الخمر من العربدة والعداوة، وهذا موجود فيما يوجب السكر منه.
فأما القليل من الخمر، فليست هذه العلّة موجودة فيه، فهو محرم لعينه عند أبي حنيفة، ومحرم عند الشافعي، لأن قليلها يدعو إلى الكثير، وهذا المعنى وما يرد عليه من الاعتراض شرحناه في مسائل الفقه وأصول الفقه «١».
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية: ٩٣.
قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.
لما حرمت الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر فقالوا:
وروي عن علي رضي الله عنه، أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال، وأولوا هذه الآية، فأجمع عمرو على أنهم يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) الآية: ٩٤.
اختلف في موضع من هاهنا فقال قائلون: إنها للتبعيض، أن يكون صيد البر دون صيد البحر، وصيد الإحرام دون صيد الإحلال.
وقيل إنها للتمييز، مثل قوله تعالى:
(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) «٢».
وقولك باب من حديد، وثوب من قطن.
قوله تعالى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) الآية: ٩٥.
يحتمل أنه أراد به وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
ويحتمل دخول الحرم، يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم، كما يقال أبحر إذا أتى بحرا، وأعرق إذا أتى العراق، واتهم إذا أتى تهامة، والثالث الدخول في الشهر الحرام، كما قال الشاعر: قتل الخليفة محرما.
والوجه الثالث على خلاف الإجماع، فلا يكون مرادا بالآية، فبقي الوجهان الأولان.
إذا تبين ذلك فقد قال تعالى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)،
(٢) سورة الحج آية ٣٠.
ولما قال لا تقتلوا، أمكن أن يكون تنبيها على أن ذبيحة المحرم ميتة، لأن الله تعالى سماها قتلا، والمقتول لا يؤكل، وإنما المأكول هو الذي يذبح.
ويحتمل أن يقال: إن القتل والذبح في عرف اللغة واحد، فهذا إن كان فرقا، فهو فرق مأخوذ من عرف الشرع، وليس يظهر من عرف الشرع هذا، فإن الله تعالى يقول: (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وكان ذلك محرما، ويقال ذبيحة المجوسي وذبيحة الوثني.
نعم الذي يقطع منه الحلق واللبة، يسمى في العرف والعادة مذبوحا سواء كان مباحا أو محرما، والذي يرمى من بعيد ولا يذبح من المذبح المعتاد، يسمى مقتولا، ويسمى ذلك الفعل قتلا، قال الله تعالى:
(وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) «١».
وكل ذلك محرم.
ومنه ما سمي مذبوحا، ومنه ما سماه موقوذا، فلا يتعلق بمجرد هذا الاسم، فلأجل ذلك اختلف قول الشافعي، وأبو حنيفة جعل ذلك أصلا، فقال إذا قال: لله تعالى عليّ أن أذبح ولدي، لزمه ذبح شاة.
وإذا قال: لله عليّ أن أقتل، لا يلزمه شيء.
وإذا ثبت هذا، فأبو حنيفة يرى اتباع عموم تحريم الصيد، فأوجب الجزاء بقتل النمر والفهد والسباع المؤذية العادية لطباعها، إذا قتلها المحرم من غير صيال منها.
واتفق العلماء على موجب ما ورد في الخبر، وروى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
«خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم:
الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور على اختلاف منهم، وفي بعضها هن فواسق» «١»، وروي عن أبي هريرة قال: الكلب العقور:
الأسد «٢».
ويشهد لتأويل أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على عتبة ابن أبي لهب، فقال: أكلك كلب الله فأكله الأسد «٣».
وقيل إن الكلب العقور هو الذئب، ودل لهم ذكر العقور على أن العقر بصورته وقصده غير معتبر، ولكنه إذا كان موصوفا به كفى، فيدل ذلك من طريق التنبيه ضرورة على أن الصيد إذا صال على المحرم وقتله دفعا عن نفسه فلا ضمان.
واستدل الشافعي به على أن لا ضمان في كل سبع عادي بطبعه، فإن ذكر العقور يدل على أن ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه لكل سبع عادي، يجب أن يكون ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه،
(٢) أخرجه الامام أحمد في مسنده.
(٣) أخرجه الترمذي في الشمائل.
واعلم أن ما لا يعدو منها، فأكثرها مأكول اللحم عند الشافعي، كالضبع والثعلب، يبقى ذلك ما لا يسمى صيدا مثل الهرة الأهلية، وهي غير داخلة في عموم الآية.
وبعد، فإنه تعالى لما قال: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ)، وقابله بصيد البر فقال: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) «١»، علم أنه إنما حرم للأكل، فانصرف إلى ما يؤكل بحال، ثم قال: ما دمتم حرما، فمد التحريم إلى غاية، والذي هو محرم لعينه، لا يقال فيه حرم عليكم ما دمتم حرما، ويجعل في مقابلته صيد البر، فهذا هو الذي يستدل به الشافعي في تخصيص الآية في مأكول اللحم.
قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) «٢».
اختلف الناس في ذلك، فمنهم من سوى بين العمد والخطأ وهم جمهور العلماء، ومنهم من خص ذلك بالعمد على ما ذكره الله في كتابه، وهو قول طاوس وعطاء وسالم وداود، والذين مالوا إلى موجب الجمهور، وذكروا أن فائدة ذكر المتعمد يظهر في نسق التلاوة في قوله تعالى: (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)، وذلك يختص بالعمد دون الخطأ، لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد، فخصص العمد بالذكر، وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه، وإذا صح مجمل التخصيص
(٢) سورة المائدة آية ٩٥.
والجملة، وجوب الجزاء على الناس بقتل الصيد مسلك على أصل أبي حنيفة، فإنه لا يرى إثبات الكفارات بالقياس، والذي نحن فيه سبيله، سبيل الكفارات عنده، حتى إذا اشترك المحرمون عنده في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، بخلاف صيد الحرم، فإنه وجب بالجناية على الإحرام، وجناية كل واحد منهم كاملة، وذلك يخرج الجزاء عن كونه بدلا، ومتى ثبت أنه جزاء على الفعل، كيف يجب على الخاطئ؟ سيما والكفارات عنده لا تثبت قياسا، ولما ورد النص في الكفارة بقتل الآدميين في الخطأ لم يجوز «١» قياس قتل العمد عليه، سواء وجب القصاص في العمد أو لم يجب، مثل قتل الأب ابنه، والسيد عبده، فكيف أجازوا قياس
وهذا جهل مفرط، فإن الله تعالى بين حكم العمد فيما يتعلق بالآخرة، وسكت عن ذكر الكفارة، فإن كان السكوت عن ذكر الكفارة دليل على نفي المسكوت عنه، فهلا كان ذكر العمد دليلا على نفي الحكم في المسكوت عنه وهو الخطأ، بل أولى، فإن قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) «١»، أبان اختصاص الجزاء بالعمد، وإن ذلك المذكور لا يتعلق بالخطإ، فإن قال ومن قتله منكم متعمدا، وجب أن يختص حكم الجزاء بالعمد ولا يشركه الخطأ. فاعلم. وذكر فرقا آخر فقال: إن العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة، ومتى أخلينا «٢» قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء أهدرنا، وذلك بعيد، وإبطال لحرمة الصيد.
فيقال: إن القصاص الواجب للآدمي، لا يسد مسد الكفارة، وقد يجب القصاص، ولا كفارة مثل قتل الأب ابنه والسيد عبده، وقوله إنا لو لم يوجب الجزاء في الصيد أهدرنا، إنما كان يستقيم أن لو وجب الجزاء بدلا عن الصيد. وعنده أنه ما وجب بدلا، وإنما وجب عقوبة على الفعل، ولذلك يجب على المشتركين على كل واحد كمال الجزاء
(٢) في نسخة أخرى: أحللنا.
قوله تعالى: (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) «٢» الآية:
اختلف في المراد بالمثل، فروي عن ابن عباس أن المثل نظيره في الخلقة، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بدنة، وهو مذهب الشافعي فيما له نظير من النعم، وما لا نظير له كالعصافير وغيرها، ففيه القيمة.
وأبو حنيفة وأبو يوسف يرون أن المثل هو القيمة، ويشتري بالقيمة هديا، وإن شاء طعاما، وأعطى كل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما.
وظاهر القرآن يشهد للشافعي، فإن الذي يتعارفه الناس من المثل، المثل من حيث الخلقة، يقال فيمن أتلف طعاما عليه المثل، وفيمن أتلف عبدا فعليه القيمة، فإن الطعام من حيث الخلقة، ولا مثل للصيد من جنسه، إلا أن الفرق أن المثل فيما نحن فيه، وإن روعي من حيث الخلقة فهو من غير جنس الصيد، مثل إيجابنا البدنة في النعامة، والكبش في الضبع، وهذا لا يمنع كونه مثلا من حيث الخلقة. والمقصود، بيان أن المثل في المتعارف هو المثل من حيث الخلقة والصورة، فاعلمه.
ونحن نقول إن المماثلة في القصاص مرعية، ولا نعني بالمماثلة ما نعنيه في ذرات الأمثال، وإنما نعني المماثلة من وجه آخر، وذلك ليعلم أن المماثلة إذا أطلقت، فالمفهوم منها المماثلة من غير الصورة.
فان قال قائل: القيمة مثل في المالية شرعا، ولم يثبت في عرف الشرع أنه اسم للنظير من جنس آخر من النعم، وأن ذلك يسمى مثلا، نعم
(٢) سورة المائدة آية ٩٥.
والجواب أن المعتبر في ذلك فهم معنى كتاب الله تعالى وتتبع دلالته، فإذا قال تعالى: (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)، كان المثل من النعم، والمثل من النعم لا يجوز أن يكون بطريق القيمة، فإن العبد لا يكون مثلا للعبد في الإطلاق وإن ساواه في القيمة.
نعم، إنا لا نطلق القول بالمماثلة بين الجنسين المختلفين، ولكن إذا قيل: مثل ما قتل من النعم، فلا يظهر منه إلا المماثلة بينهما من حيث الصورة، ومن أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على إيجاب البدنة في النعامة، أفيتوهم متوهم أن قيمة النعامة بدنة في زمن الصحابة وفي زمن التابعين، قيمتها في وقت من الأوقات، وهل سمعنا أن قيمة النعامة كانت عند المسلمين قيمة بدنة، قالوا القيمة معنية بهذا المثل فيما لا نظير له، فواجب أن يفهم من اللفظ في الكبير من الصيد ما فهم من الصغير، فإن اللفظ اشتمل عليها اشتمالا واحدا، ومتى اعتبر النظير اختص اللفظ ببعض المسميات.
الجواب: أن الذي قالوه، وتحكم، فإن الآية نص في إيجاب المثل من النعم، فإذا قال الله تعالى: (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)، فمعناه بالمثل من النعم، والجزاء من النعم بطريق المماثلة، ولو اقتصر على قوله: (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)، أو فجزاؤه من النعم، لم يمكن طرح النعم المذكور، وجعل القيمة أصلا، وكذلك هاهنا.
وعلى هذا لا دلالة للآية على صفات الصيود، وإنما وجوب القيمة فيها متلقى من الإجماع.
قلنا: ليس المراد به القيمة، وإنما المراد به القصاص والمماثلة فيه، فإن وجوب ذلك موقوف على الاعتداء، لا على القيمة التي تجب، حيث يجوز له إتلاف مال الغير، ويجب شرط الضمان، فوصف الاعتداء في ضمان القيمة لغو من هذا الوجه، وإنما المراد به القصاص، وهذا بين جدا.
فإن قيل: قال الله تعالى:
(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) «٢».
ولو كان الواجب مثل ما ذكرتموه من البدنة في النعامة من غير اختلاف.
ومثل الكبش في الضبع، فليس ذلك مما يحتاج فيه إلى الارتياء والنظر ومعرفة الشكل، حتى يحتاج فيه إلى ذوي عدل، وإنما يحتاج إلى ذوي العدل فيما يختلف ويتفاوت فيه النظر ويضطرب فيه الرأي، ويدل عليه أنه ذكر الطعام والصيام وليسا مثلا وأدخل أو بينهما وبين النعم، فلا بد أن يكون ترتيب الآية: فجزاء مثل ما قتل من النعم أو من الطعام أو الصيام.. وتقديم ذكر النعم في التلاوة، لا يوجد تقديمه في المعنى، بل الكل كأنه مذكور معا، فلا فرق على هذا بين هذا الترتيب الموجود من الآية، وبين أن يقول: فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما ومن النعم هديا، ونظيره، فكفارته إطعام عشره مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، ولا يقتضي ذلك كون الطعام مقدما على الكسوة، ولا الكسوة مقدمة على العتق، بل الكل كأنه مذكور في لفظ
(٢) سورة المائدة آية ٩٥.
يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو كفاره طعام مساكين، لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل.
الجواب أن الذي قالوه غلط، فإن قوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)، في اعتبار حال الصيد في صغره وكبره، موجب في أدنى النعم بدنة على قدرها، وفي الرفيعة على قدرها، وذلك يقتضي حكم ذوي العدل، وأما قولهم إن الله تعالى ذكر الطعام والصيام، قيل لا جرم لا يحسن في الإطلاق أن يقول: فجزاء مثل ما قتل من الطعام أو الصيام أو الصلاة، إن ورد الشرع بالصلاة، فإن الصوم لا يكون مثلا للحيوان في الإطلاق، وكذلك الطعام، فيدل ذلك على أن قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم، يقتضي إيجاب المثل من النعم، أو الطعام إذا لم يرد المثل، أو عدل ذلك صياما، فالمماثلة معتبره من جهة الخلقة والصورة في النعم، ولا يتحقق ذلك في الطعام والصيام.
قالوا قوله: فجزاء مثل ما قتل، كلام تام غير مفتقر إلى تضمينه بغيره، وهو قوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم.. أو كفاره طعام مساكين، يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل، فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم، مع استغناء الكلام عنه، لأن كل كلام له حكمه، غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه، ولأن قوله من النعم معلوم أن فيه ضمير إرادة الحرم، فمعناه من النعم يحكم به ذوا عدل منكم، هديا إن أراد الهدي، والطعام إن أراد الطعام، فليس هو إذا تفسير للمثل، كما أن الطعام والصيام ليسا المثل المذكور. والجواب أن قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل، أن قدر الاقتصار عليه كان مجملا لا يكفي في البيان، فإن المثل يقع على وجوه مختلفة.
نعم، أبو حنيفة يقول: يقوم الصيد دراهم، ثم يشترى بالدراهم طعاما، فيطعم كل مسكين نصف صاع. فأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم، ثم يقوم المثل كما في المثليات يقوم المثل، وتوجد قيمة المثل، فستكون قيمة المثل كقيمة الشيء، فإن المثل هو الأصل في الوجوب وهذا لا غبار عليه «١».
قوله تعالى: (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) «٢»، استدل به قوم على أن العاق لا جزاء عليه، وهو بعيد جدا عن أصول الشرع.
نعم معنى ذلك (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)، بعد قوله عفا الله عما سلف، يعني قبل التحريم.
قوله تعالى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) «٣»، احتج به الرازي لأبي حنيفة، في أن المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه، جزاؤه أن عليه
(٢) سورة المائدة آية ٩٥.
(٣) سورة المائدة آية ٩٥.
قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ).
استدل به الرازي على أن على كل واحد من الجماعة جزاء كامل، فإنه تعالى قال: (وَمَنْ قَتَلَهُ)، وكل واحد يسمى قاتلا، ومثله قوله (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) «١»، فاقتضى ذلك إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين، وهذا بعيد، فإن كل واحد منهم ليس قاتلا حقيقة بل هم قتلة، وهم كشخص واحد، وهذا بيناه في مسائل أنفقه.
وقد قال تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ)، وليس على كل واحد من المشتركين دية كاملة، فاعلمه.
وقوله: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) «٢» :
استدل به قوم على أنه يكره للمحرم أكل صيد اصطاده حلال، والأكثرون من العلماء على إباحته، وقد روى أبو الزبير عن جابر قال: عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(٢) سورة المائدة آية ٩٦.
«لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصطادوه أو يصاد لكم» «١».
وفيه أخبار كثيره، غير أن من حرم ذلك لعله تعلق بقوله تعالى:
(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً)، وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه، لوقوع الإسم عليهما.
ومن أباحه ذهب إلى أن الحيوان إنما يسمى صيدا ما دام حيا، فأما اللحم فلا يسمى بهذا الإسم بعد الذبح إلا مجازا، باعتبار استصحاب الإسم السابق.
وقد اختلف في حديث الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحشي وهو محرم فرده، فرأى في وجهه الكراهة فقال: ليس بنا رد عليك ولكنا حرم.
وخالفه مالك، فرواه عن الزهري عن عبد بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي عليه السلام بالأبواء أو بودان حمار وحش، فرده عليه السلام عليه، وقال إنا ما نرده عليك إلا أنا حرم.
وقال أبو إدريس لمالك: إن سفيان يقول رجل حمار وحش، فقال:
ذاك غلام، ذاك غلام.
ورواه: ابن جريج عن الزهري باسناده كرواية مالك، وقال فيه:
إنه أهدى له حمار وحش.
ورواه معمر عن الزهري مثل رواية مالك، وأنه أهدى له حمار وحش.
ويحتمل أنه صيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعندنا ما صيد له فلا يأكل منه، ويدل عليه ما رواه أبو معاوية عن ابن جريج عن خيار بن أبي الشعثاء عن أبيه قال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن محرم أتى بلحم أنأكل منه؟ فقال: اجتنبوا.
قال أبو معاوية: إن كان صيد قبل أن يحرم فيؤكل وإلا فلا وهو فيما صيد من أجله «١».
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) «٢».
استدل به قوم على تحريم السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها، وهذا منه غلط، فإنه تفقه في الدين، وإنما الآية تنهى عن السؤال عن أشياء.
تتعلق بأسرار إذا كشف لهم عنها ساءهم ذلك، وربما أداهم إلى الكفر به دفعا للخجل، مثل ما روي أن رجلا قام فقال: من أبي؟ فقال: حذافة، بعد أن قال عليه الصلاة والسلام: لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم عن حقيقته، وكان قد حذرهم السؤال، وكان الأولى بهم أن يستتروا بستر الله تعالى «٣».
قوله تعالى: (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) «٤».
الآية: ١٠٣.
(٢) سورة المائدة آية ١٠١.
(٣) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه.
(٤) البحيرة: هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوها.
- السائبة: هي الناقة كانت تسيب في الجاهلية أي تترك ولا تركب ولا يحمل عليها.
قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) «١».
ليس ينسخ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد روي عن قيس ابن أبي حازم أنه قال: سمعت أبا بكر رضي الله عنه على المنبر يقول: «يا أيها الناس، إنّي أراكم تؤولون هذه الآية: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ)، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه» «٢».
فأبان ألا رخصة في هذه الآية في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال سعيد بن جبير: أراد به أهل الكتاب الذين يقرون بالجزية على كفرهم ولا يضرنا كفرهم، لأنا أعطيناهم الذمة على أن نخلهم وما يعتقدون، وما يعهدون لنا نقض عهد بإجبارهم على الإسلام، فهذا هو الذي لا يضرنا الإمساك عنه.
ويحتمل أن يكون معنى الآية: إذا لم يمكنه الإنكار وخاف على نفسه إن أنكر.
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية: ١٠٦.
(٢) أخرجه الامام أحمد في مسنده.
ويقوي ذلك أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما إنه لا منسوخ فيها.
ومتضمن هذا القول، أن يكون على الشاهد يمين، وأن يتعين إمضاؤه الشهادة لمكان اليمين مع الارتياب، وأنه إذا ظهر لوث من جهة الشهود، صارت يمين الورثة معارضة لشهادة الشهود، وأعظم منه أنه قال:
(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ).
وقال: (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) «١».
وظاهر ذلك رجوع حكم اليمين إلى النوعين اللذين أثبت التخيير فيهما، فيكون المسلم الشاهد محلفا على الشهادة على الوصية، وذلك بعيد.
وإذا ثبت ذلك فلا بد من أحد نوعين:
إما التأويل وإما إثبات النسخ.
أما التأويل فغاية ما قيل فيه وجهان:
أحدهما ما روي عن الحسن، أن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره: إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، فاستشهدوا ذوي عدل منكم، يعني من العشيرة، فإنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان، أو آخران من غيركم، يعني من غير قبيلتكم، إن سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فيحلفان
(فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) «١».
فقيل قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، خطاب للمؤمنين، فقوله تعالى: «مِنْكُمْ أو مِنْ غَيْرِكُمْ»، ضمير يقتضي انصرافا إلى المذكور قبله، لا للعشيرة. فكيف يجعل ضميرا عنها ولم يجد لها فيما تقدم ذكر، وهذا بين. لأن اليمين لا يتوجه لا على الشاهد من القبيلة ولا من غيرها «٢».
والتأويل الثاني: ما نقل عن الشافعي، فإنه قال:
نزلت الآية في مسلم حضره الموت وأوصى إلى نصرانيين، وسلم المال إليهما، والقصة مشهورة «٣»، وذلك لا يجوز أن يكون بطريق الشهادة، فإن الموصى إليه كيف يشهد على فعل نفسه، وعلى أنه رد على جميع ما عنده، ولم يكتم شيئا.
وقد يسمى اليمين شهادة في قوله: (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ) «٤».
فقيل لهم: اليمين لا يختص بالعدل.
فأجابوا بأنه ذكر العدل احتياطا في الوصية، واتقاء لليمين الفاجرة،
فقيل لهم: فما معنى قوله:
(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ
(٢) في الأصل: ولا من غيره.
(٣) راجع تفسير القرطبي ج ٥، وتفسير ابن كثير ج ٢، وتفسير الطبري ج ٧، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للشافعي، وأحكام القرآن للجصاص، والدر المنثور للسيوطي.
(٤) سورة النور آية ٦.
فأجابوا بأن معنى ذلك ما ذكر في سبب النزول، وهو أنه وجدوا جاما من فضة مخوصة بذهب عند رجل، وكان الجام من جملة التركة، فلما طولب الرجل به ذكر أنه اشتراه من تميم الداري «٢» وعدي بن ندا، فلما روجعا في ذلك قالا: كان قد جعله الموصى لنا أو باعه منا.
وإذا كان كذلك، حلف الوارث لا المدعي لملك الجام، فهو معنى قوله:
(فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) ».
أي يحلفان أن الشيء لهما وما اعتديا، وهذا مجمل، فهذا وجه التأويل.
فأما النوع الآخر وهو دعوى النسخ، والناسخ لا بد من بيانه على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراضي الناسخ، وهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزلت وأن فيها: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) «٤»، والكافر لا يجوز أن يكون مرضيا عند المسلمين.
وهذا لا يصلح أن يكون ناسخا عندنا، فإنه في قصة غير قصة الوصية، وأمكن تخصيص الوصية به لمكان الحاجة والضرورة، لأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم، ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما قاله ناسخ.
(٢) كما أخرجه الواحدي النيسابوري في كتابه أسباب النزول.
(٣) سورة المائدة آية ١٠٧.
(٤) سورة البقرة آية ٢٨٢.
وفي الآية دليل للشافعي على أن اليمين تتغلظ بالزمان والمكان.
واستدل الرازي به على قبول شهادة الكافر على الكافر، فقال: في ضمن شهادة الكافر على المسلم في الوصية قبولها على أهل ملته لا محالة، ثبت النسخ في بعض ذلك فبقي في البعض، وهذا ضعيف جدا، فإن الآية إذا تضمنت حكما وقد نسخ المذكور بعينه، فلا يتصور تقدير فرع له لم ينسخ وتعذر بقاؤه وهذا لا خفاء ببطلانه، فلم يطنب فيه «١».