تفسير سورة الجمعة

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سورة الجمعة
مدنية، وآيها: إحدى عشرة آية، وحروفها: سبع مئة وثمانية وأربعون حرفًا، وكلمها: مئة وثمانون كلمة، وقيل: إنها مكية، وهو خطأ من قائله؛ لأن أمر اليهود لم يكن إلا بالمدينة، وكذلك إقامة الجمعة وصلاتها والانفضاض بغير خلاف.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)﴾.
[١] ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ﴾ تقدم تفسيره، ومعنى (سبح) بلفظ الماضي، و (يسبح) بلفظ المضارع أول سورة الحديد.
﴿القُدُّوس﴾ تقدم تفسيره في سورة الحشر ﴿الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ تقدم تفسيره في سورة الحديد، وجرُّ الأسماء الأربعة صفة (لله).
﴿هوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)﴾.
[٢] ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ يعني: العرب كانت أمة أمية، لا تكتب
ولا تقرأ ﴿رَسُولًا مِنْهُم﴾ يعني: محمدًا - ﷺ -، المعنى: بعث رجلًا أميًّا في أمة أمية نسبهُ نسبُهم.
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ مع كونه أميًّا ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم من الشرك.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ الشريعة.
﴿وَإِنْ كَانُوا﴾ أي: وما كانوا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أى: من قبل مجيئه.
﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ إلا في ضلال بين (١) يعبدون الأوثان.
﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ عطف على (الأُميين)؛ أي: بعث في الأميين وفي آخرين منهم؛ أي: من بعدهم.
﴿لَمَّا﴾ أي: لم ﴿يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ بالأولين في فضل السابقة، وهم التابعون، أو العجم، وجميع طوائف الناس، لأن التابعين لا يدركون شأن الصحابة، و (ما) زيدت في (لم) تأكيدًا.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ في اختياره.
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)﴾.
[٤] ﴿ذَلِكَ﴾ الفضلُ الذي أُعطيَه محمد - ﷺ -.
﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ تبيين لموقع النعمة وتخصيصه بها من شاء.
(١) "إلا في ضلال بين" زيادة من "ت".
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)﴾.
[٥] ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾ أي: قرؤوها، وكلفوا العمل بما فيها، وهم اليهود.
﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ لأنهم لم يعملوا بما فيها، ولو عملوا، لآمنوا؛ لأن فيها نعته - ﷺ -، فمثلهم في حملها وعدم الانتفاع بها.
﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ الذي ﴿يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ كتبًا، واحدها سِفْر، لا يدرك منها إلا ما يتعبه، وكل من علم علمًا ولم يعمل به، فهذا مثله.
﴿بِئْسَ﴾ فاعلُه ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ﴾ نعت القوم ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالة على صدق محمد - ﷺ -، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: بئس مَثَلُ القومِ المكذبين هذا المثلُ.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسَهم بتكذيب الأنبياء. قرأ أبو عمرو، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان: (التَّوْرَاةَ) بالإمالة حيث وقعت (١)، وقرأ أبو عمرو أيضًا، وورش، والدوري عن الكسائي، وابن ذكوان بخلاف عنه (الْحِمَارِ) بالإمالة.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٥ - ٤١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٤٥).
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦)﴾.
[٦] ولما قال اليهود: نحن أولى بالله من غيرنا، نزل: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾ تهودوا ﴿إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ جميعًا.
﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ أي: اطلبوه؛ فإنه هو الذي يوصلكم إليه.
﴿إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في زعمكم.
﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾ لعلمهم بكذبِهم، ولكفرِهم.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من المعاصي ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ فيجازيهم.
﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ أي: من تمنيه مخافةَ أن يصيبكم.
﴿فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ ودخلت الفاء في خبر (إنَّ) لما في (الَّذي) من معنى الشرط، تقديره: إن فررتم من أي موت فررتم؛ كقتل وغيره، فإنكم ميتون.
﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ﴾ بعد الموت.
﴿إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ وهو الله سبحانه، وتقدم تفسيره في سورة الحشر.
﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بأن يجازيكم عليه.
﴿يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ﴾ أي: أُذِّنَ (١) ﴿لِلصَّلَاةِ مِنْ﴾ أي: في ﴿يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ وأول من سماه يومَ الجمعة كعبُ بن لؤي، وكان قبل ذلك يسمى عَروبة (٢)، ويسمى جمعة؛ لاجتماع المخلوقات فيه، وتكاملها كما تقدم في سورة (فصلت)، وقيل: لاجتماع الناس فيها في المكان الجامع، أو لأن خلق آدم جُمع فيه.
وأولُ جمعة جمعها النبي - ﷺ - في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم بعد أن نزل على قباء، وأسس مسجدها، ثم خرج عامدًا إلى المدينة، فأدركته الصلاة ثَمَّ، فجمع هناك، وخطب (٣)، والمراد بالنداء: الأذان الذي عند المنبر عند جلوس الإمام للخطبة، وهو الذي كان على عهد رسول الله - ﷺ -، وأبي بكر، وعمر، فلما كان زمن عثمان، وكثر الناس، وتباعدت المنازل، زاد مؤذنًا آخر على الزوراء يؤذن قبل جلوسه على
(١) "أي: أذن" زيادة من "ت".
(٢) "وكان قبل ذلك يسمى عروبة" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٨٩)، و"تفسير القرطبي" (١٨/ ٩٩).
المنبر، فإذا جلس، أذن الثاني، وهو المعتبر في وجوب السعي وترك البيع.
﴿فَاسْعَوْا﴾ فامضوا ﴿إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ هو الصلاة.
﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ والشراء؛ لأن لفظ البيع يتناولهما، وسيأتي الكلام عليه مع أحكام الجمعة بعد انتهاء التفسير، والمراد بالسعي: المبادرة بالنية والجد، وليس المراد الإسراع في المشي.
قال - ﷺ -: "إذا كان يومُ الجمعة، كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الأولَ فالأولَ، فإذا خرج الإمام، طُويت الصحف، واجتمعوا للخطبة، والمهجِّرُ إلى الصلاة كالمهدي بَدَنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدى شاةً، حتى ذكر الدجاجة والبيضة" (١).
﴿ذَلِكُمْ﴾ المذكور ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من المعاملة؛ فإن نفع الآخرة خير وأبقى.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ مصالحَ أنفسكم ومضارَّها.
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ أي: فُرغ منها.
(١) رواه النسائي (١٣٨٥)، كتاب: الجمعة، باب: التبكير إلى الجمعة، وابن ماجه (١٠٩٢)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التهجير إلى الجمعة، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ للتصرف في حوائجكم.
﴿وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ هو طلب العلم، وكسبُ الحلال.
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ في كل أحوالكم ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بخير الدارين.
﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١﴾.
[١١] وكان قد أصاب المدينةَ قحط شديد، وكان دِحْيَةُ بن خليفة الكلبيُّ يأتيهم بكل ما يحتاجون إليه من بر وشعير وغيرهما من الشام، وكان إذا قدم، ضُرب الطبل، ليعلم به، فقدم يوم الجمعة، وذلك قبل إسلامه، والنبيّ - ﷺ - يخطب، فضرب الطبل، فخرج الناس إليه ومن في المسجد؛ خوفًا أن يُسبقوا، ولم يبق عنده - ﷺ - غير اثني عشر رجلًا وامرأة، فنزل: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً﴾ (١) هي تجارة دحية ﴿أَوْ لَهْوًا﴾ هو صوت الطبل.
﴿انْفَضُّوا﴾ تفرقوا عنك وذهبوا.
﴿إِلَيْهَا﴾ ولم يقل: إليهما؛ ردًّا للضمير إلى التجارة؛ لأنها كانت مطلوبَهم.
﴿وَتَركُوكَ﴾ في الخطبة ﴿قَائِمًا﴾ على المنبر.
(١) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (٨/ ٢٦٩).
54
﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثواب ﴿خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾ فإن نفع ذلك محقق. قرأ أبو عمرو: (مِنَ اللَّهْو وَّمِنَ التِّجَارَةِ) بإدغام الواو في الواو (١).
﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ لأنه موجد الأرزاق، فإياه فاسألوا، ومنه فاطلبوا.
وروي أن النفر الذين أقاموا عند رسول الله - ﷺ - بعدَ الانفضاض منهم جابرُ بن عبد الله، والعشرةُ المشهود لهم بالجنة، واختلف في الثاني عشر، فقيل: عمار بن ياسر، وقيل: عبد الله بن مسعود، وروي أن رسول الله - ﷺ - قال: "لولا هؤلاء، لقد كانت الحجارةُ سُوِّمَتْ على المنفضِّين من السماء" (٢).
وأما أحكامُ الجمعة، فهي ركعتان فرض على كل ذكر مكلف حر صحيح مقيم بالاتفاق، وشرطها: الأبنية، أو قربها بالاتفاق، واشترط أبو حنيفة أن يكون بها أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، زاد بعضهم: وعالم يرجع إليه في الحوادث، ويشترط إذنُ الإمام فيها عند أبي حنيفة؛ خلافًا للثلاثة، ويشترط حضور أربعين ممن تلزمه عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ثلاثة سوى الإمام، وعند أبي يوسف اثنان سوى الإمام، وعند مالك ليس للجماعة التي تنعقد بهم الجمعة حد محصور، وأولُ وقتها عند أحمد وقت صلاة العيد، وعند
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٦٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٤٨).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٣٠٩)، و"تفسير الثعالبي" (٤/ ٣٠٢)، و"تفسير القرطبي" (١٨/ ١٠٩).
55
الثلاثة وقت الزوال، وآخره آخر وقت الظهر بالاتفاق، وعن مالك يمتد إلى الغروب؛ بناء على أن وقت العصر والظهر عنده واحد.
وإذا وقع عيد يوم الجمعة، سقطت الجمعة عمن حضر العيد مع الإمام سقوطَ حضور لا وجوب؛ كمريض إلا الإمام، فإن اجتمع معه العدد المعتبر، أقامها، وإلا صلوا ظهرًا.
وتسقط صلاة العيد بصلاة الجمعة، سواء فعلت قبل الزوال أو بعده عند أحمد؛ خلافًا للثلاثة.
وشرطها تقدم خطبتين بالاتفاق، يجلس بينهما جلسة خفيفة عند الثلاثة، وعند أبي حنيفة ليست الجلسة شرطًا، ويسلم الخطيب إذا صعد المنبر عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة ومالك لا يسلم، ويستحب جلوسه للأذان، والقيام في الخطبة بالاتفاق.
وأول من استراح في الخطبة عثمان، وأول من جلس معاوية، وخطب جالسًا.
والخطبة مشتقة من المخاطبة، والمنبر من نبر: إذا على صوته، والخطيب يعلو صوته.
ومن شرط صحة الخطبتين: حمد الله، والصلاة على رسول الله - ﷺ -، وقراءة آية، والوصية بالتقوى عند الشافعي وأحمد، وعند مالك أقله ما يسمى خطبة عند العرب، وفي مذهبه قول كالأول، وعند أبي حنيفة لو اقتصر على ذكر الله أجزأه، وكذلك التسبيحة ونحوها، وعند صاحبيه لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة.
56
وتشترط لهما الطهارة من الحدث والخبث عند الشافعي، خلافًا للثلاثة، ولا يشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة عند أحمد، وعند أبي حنيفة يجوز للعذر، وعند مالك والشافعي إذا أحدث بين الخطبة والصلاة، استخلف في الصلاة، واشترط الشافعي أن يكون سمع الخطبة؛ لأن من لم يسمعها ليس من أهل الجمعة، ولم يشترطه مالك.
ويجهر في الركعتين بالاتفاق.
ويجوز عند الشافعي وأحمد أكثر من جمعة إن احتيج إليه، وإلا، فالأولى الصحيحة، وهي السابقة بتكبيرة الإحرام، فإن جهلت، أو تساوتا، بطلتا، وعند أبي حنيفة لا يجوز إلا في موضع واحد، وعند محمد بن الحسن تصح في موضعين وثلاثة، وعند مالك لا يصلى في مصر واحد في مسجدين، فإن فعلوا، فالصحيحة صلاة أهل المسجد العتيق.
ويحرم الكلام والإمام يخطب إذا كان منه بحيث يسمعه عند الشافعي.
وأحمد، وعند أبي حنيفة ومالك يسكت ولو كان بعيدًا.
ويكره البيع والشراء ممن تلزمه الجمع بعد ندائها الذي عند المنبر عند أبي حنيفة، ولا يفسد به البيع، وقال الثلاثة: يحرم، فلو باع، صح بيعه عند الشافعي خلافًا لمالك وأحمد، ويصح عند أحمد النكاح وسائر العقود غير البيع؛ خلافًا لمالك؛ فإن النكاح والإجارة عنده كالبيع.
وإذا انفضوا قبل إتمامها، استأنفوها ظهرًا عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة ومالك إن انفضوا بعد أن صلوا ركعة بسجدتيها، ولم يبق أحد غير الإمام، ولم يجد من يجمعها معه، بنى عليها ركعة، وصحت صلاته جمعة، كان انفضوا عنه قبل أن يفرغ من الركعة الأولى، يتم ظهرًا أربعًا،
57
وعند أبي يوسف ومحمد إن انفضوا عنه بعد تكبيرة الإحرام، صلى جمعة.
ومن أدرك مع الإمام ركعة، أتمها جمعة بالاتفاق، ومن أدرك أقل من ذلك، أتمها ظهرًا إن كان قد نوى الظهر عند مالك وأحمد، وعند الشافعي يتمها ظهرًا، لكن ينوي في اقتدائه الجمعة، وأحمد يشترط دخول وقت الظهر احترازًا عمن يصليها قبل وقت الزوال على قاعدته، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا أدرك التشهد، يتمها جمعة، وعند محمد يتمها أربعًا ظهرًا.
ويسن الغسل لها، وقراءة سورة الكهف في يومها وليلتها.
وتقدم اختلاف الأئمة في قراءة السجدة، و ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ في صبحها في سورة آلمّ السجدة، ويستحب أن يكثر الدعاء في يومها، وأفضله بعد العصر؛ لساعة الإجابة.
وفي الحديث: "ما طلعت شمسٌ ولا غربت عليَّ أفضل من يوم الجمعة، فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مؤمن يدعو الله فيها خيرًا إلا استجابَ الله له، أو يستعيذُ من شيء إلا أعاذَه اللهُ منه" (١).
قال الإمام أحمد: أكثر الأحاديث في الساعة التي تُرجى فيها الإجابة أنها بعد العصر، وترجى بعد زوال الشمس.
وذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "شرح البخاري" فيها ثلاثة وأربعين قولًا، ولخصها صاحب "الإنصاف" فيه، الأول: قيل: رفعت، الثاني: موجودة في جمعة واحدة في كل سنة، الثالث: مخفية في جميع
(١) رواه الترمذي (٣٣٣٩)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البروج، وقال: حسن غريب، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
58
اليوم، الرابع: تنتقل في يومها، ولا يلزم ساعة معينة، لا ظاهرة ولا مخفية، الخامس: إذا أذن لصلاة الغداة، السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، السابع: مثله، وزاد: من العصر إلى الغروب، الثامن: مثله، وزاد: ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر، التاسع: أول ساعة بعد طلوع الشمس، العاشر: عند طلوعها، الحادي عشر: في آخر الساعة الثالثة من النهار، الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع، الثالث عشر: مثله إلى أن يصير الظل ذراعًا، الرابع عشر: بعد الزوال بشير إلى ذراع، الخامس عشر: إذا زالت الشمس، السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة، السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل في الصلاة، الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإمام، التاسع عشر: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، العشرون: ما بين خروجه إلى أن تنقضي الصلاة، الحادي والعشرون: ما بين تحريم البيع إلى حله الثاني والعشرون: ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، الثالث والعشرون: ما بين أن يجلس على المنبر إلى انقضاء الصلاة، الرابع والعشرون: عند خروج الإمام، الخامس والعشرون: عند التأذين والإقامة وتكبير الإمام، السادس والعشرون: مثله، لكن قال: إذا أذن، وإذا رقي المنبر، وإذا أقيمت الصلاة، السابع والعشرون: من حين يفتتح الخطبة حتى يفرغها، الثامن والعشرون: إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة، التاسع والعشرون: عند الجلوس بين الخطبتين، الثلاثون: عند نزوله عن المنبر، الحادي والثلاثون: حين تقام حتى يقوم الإمام في مقامه، الثاني والثلاثون: من إقامة الصلاة إلى إتمام الصلاة، الثالث والثلاثون: وقت قراءة الإمام الفاتحة إلى أن يقول: آمين، الرابع والثلاثون: من الزوال إلى
59
المغرب، الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، السادس والثلاثون: في صلاة العصر، السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار، الثامن والثلاثون: بعد العصر مطلقًا، التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخره، الأربعون: من اصفرار الشمس إلى أن تغيب، الحادي والأربعون: آخر ساعة بعد العصر، الثاني والأربعون: من حين يغيب نصف قرصها، أو من حين تتدلى للغروب إلى أن يتكامل غروبها، الثالث والأربعون: هي الساعة التي كان -عليه أفضل الصلاة والسلام- يصليها فيها.
قال الحافظ -رحمه الله-: وليست كلها متغايرة من كل وجه، بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره، وليس المراد من أكثرها أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه، والله أعلم (١).
(١) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (٢/ ٤١٦ - ٤٢١).
60
Icon