تفسير سورة الأعلى

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الأعلى
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم عزيز من قصده وجده، ومن استسعفه حمده. من طلبه عرفه، ومن عرفه لاطفه، فإذا وجد لطفه ألفه، وإذا ألفه أنف أن يخالفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩)
أي سبّح ربّك بمعرفة أسمائه، واسبح بسرّك في بحار علائه، واستخرج من جواهر علوّه وسنائه ما ترصّع به عقد مدحه وثنائه.
«الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» خلق كلّ ذى روح فسوّى أجزاءه، وركّب أعضاءه على ما خصّه به من النظم العجيب والتركيب البديع.
«وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» أي قدّر ما خلقه، فجعله على مقدار ما أراده، وهدى كلّ حيوان إلى ما فيه رشده من المنافع، فيأخذ ما يصلحه ويترك ما يضره- بحكم الإلهام.
ويقال: هدى قلوب الغافلين إلى طلب الدنيا فعمروها، وهدى قلوب العابدين إلى طلب العقبى فآثروها. وهدى قلوب الزاهدين إلى فناء الدنيا فرفضوها، وهدى قلوب العلماء إلى النظر في آياته والاستدلال بمصنوعاته فعرفوا تلك الآيات ولازموها.
(وهدى قلوب المريدين إلى عزّ وصفه فآثروه، واستفرغوا جهدهم فطلبوه) «١»، وهدى
(١) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.
717
العارفين إلى قدس نعته فراقبوه ثم شاهدوه، وهدى الموحّدين إلى علاء سلطانه في توحد كبريائه فتركوا ما سواه وهجروه، وخرجوا عن كلّ مألوف لهم ومعهود «١» حتى قصدوه.
فلمّا ارتقوا عن حدّ البرهان ثم عن حدّ البيان ثم عمّا كالعيان علموا أنّه عزيز، وأنّه وراء كلّ فصل ووصل، فرجعوا إلى موطن العجز فتوسّدوه.
«وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى» أي النبات.
«فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» جعله هشيما كالغثاء، وهو الذي يقذفه السيل. و «أَحْوى» أسود.
«سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» «٢» سنجمع القرآن في قلبك- يا محمد- حفظا حتى لا تنسى لأنا نحفظه عليك.
«إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» مما لا يدخل تحت التكليف فتنساه قبل التبليغ ولم يجب عليه أداؤه.
وهو- سبحانه- يعلم السّرّ والعلن.
قوله جل ذكره: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» والذّكرى تنفع لا محالة «٣»، ولكن لمن وفّقه الله للاتعاظ بها، أمّا من كان المعلوم من حاله الكفر والإعراض فهو كما قيل:
(١) هكذا في م وهي في ص (معبود) وقد رجحنا (معهود) لتلاؤمها مع (مألوف). ولكن إذا تذكرنا أن الصوفية يرون الانسياق وراء الهوى نوعا من الشرك الخفي- قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» - فيمكن في ضوء ذلك قبول (معبود) أيضا.
(٢) يرى الجنيد أن المعنى «فلا تنسى العمل به»، وهذا من الآراء الحسنة التي يتمشى معها رأى القشيري فى «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ».
(٣) ولهذا تفسر (إن) فى الآية على معنى (ما) : أي فذكر ما نفعت الذكرى، ولا يكون لها حينئذ معنى الشرط، وتفسر على معنى (إذ) مثل: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، وعلى معنى (قد).
718
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١٠ الى ١٩]
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
الذي يخشى الله ويخشى عقوبته.
«وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» أي يتجنّب الذّكر الأشقى الذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها موتا يريحه، ولا يحيا حياة تلذّ له.
قوله جل ذكره: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» من تطهّر من الذنوب والعيوب، ومشاهدة الخلق وأدّى الزكاة- وجد النجاة، والظّفر بالبغية، والفوز بالطّلبة.
«وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» ذكر اسم ربّه في صلاته. ويقال: ذكره بالوحدانية وصلّى له.
«بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا» تميلون إليها فتقدّمون حظوظكم منها على حقوق الله تعالى.
[ «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» والآخرة للمؤمنين خير وأبقى- من الدنيا- لطلّابها.] «١»
قوله جل ذكره: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» إن هذا الوعظ لفى الصحف المتقدمة، وكذلك في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما لأنّ التوحيد، والوعد والوعيد.. لا تختلف باختلاف الشرائع.
(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
Icon