تفسير سورة الفاتحة

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ بِسمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ قوله عَزَّ وَجَلَّ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. تعليمٌ منه سُبْحَانَهُ ؛ ليذكُروا اسْمَهُ عند افتتاحِ القراءة وغيرِها ؛ تبَرُّكاً به. ومعناهُ أبدأ :﴿ بِسْمِ اللهِ ﴾ ؛ لأنَّ حرف الباءِ مع سائرِ حروف الجرِّ لا يستغني عن فعلٍ مُضْمَرٍ أو مُظْْهَرٍ ؛ فكان ضميرُ الباء في هذه الآية : الأَمْرُ.
واختلفَ الناسُ في معنى اشتقاقِ الاسم ؛ وأكثرُ أهلِ اللُّغَةِ على أنهُ مشتقٌّ من السُّمُوِّ ؛ وهو الرِّفعةُ. ومعنى الاسمِ التنبيهُ على المسمَّى والدلالةُ عليه. وقال بعضُهم : مشتقٌّ من السِّمَةِ ؛ وهي العلامةُ ؛ فكان الاسمُ علامة للمسمَّى.
وأمَّا ﴿ اللهِ ﴾ فقال بعضُهم : هو اسمٌ لا اشتقاقَ له ؛ مثل قولِكَ : فرسٌ ؛ ورجلٌ ؛ وجبلٌ ؛ ومعناه عند أهل اللِّسان : المستحِقُّ للعبادةِ ؛ ولذلك سَمَّتِ العربُ أصنامَهم : آلِهَةً ؛ لاعتقادهم استحقاقَها للعبادةِ. وقال بعضُهم : هو من قولِهم : ألَهَ الرجلُ إلى فلان يَأْلَهُ إلاَهَةً ؛ إذا فَزِعَ إليه مِنْ أمرٍ نَزَلَ به ؛ فآلَهَهُ أي أجَارَهُ وَأمَّنهُ. ويقال للمَأْلُوهِ إلَيْهِ : إلَهاً. كما قالوا للمُؤتَمَّ به : إمَاماً ؛ فمعناه أن الخلائقَ يَأْلَهُونَ ويتضرَّعون إليه في الحوائجِ والشدائد.
واختلفُوا في ﴿ بِسمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ هل هي آيةٌ من الفاتحةِ ؟ فقال قُرَّاءُ الكوفة : هي آيةٌ منها ؛ وأبَى ذلك أهلُ المدينة والبصرة. وأما قولهُ ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ فهما اسْمان مأخوذان من الرَّحمةِ ؛ وزنُهما من الفعلِ نَدِيْمٌ ونَدْمَانٌ من المنادمةِ، وفَعْلاَنُ أبلغُ من فعيلِ، وهو من أبْنِيَةِ المبالغةِ. ولا يكونُ إلا في الصفات ؛ كقولكَ : شبعانٌ وغضبان ؛ ولِهذا كان اسمُ ﴿ الرَّحْمنِ ﴾ مختصّاً باللهِ لا يوصَفُ به غيره. وأمَّا اسم ﴿ الرَّحِيْمِ ﴾ فمشتركٌ.
وعن عثمان رضي الله عنه عن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" الرَّحْمَنُ الْعَاطِفُ عَلَى جَمِيْعِ خَلْقِهِ بإدْرَار الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ " فالرحمةُ من الله تعالى الإنعامُ على الْمُحتاج ؛ ومن الآدميِّين رقَّة القلب ؛ وإنَّما جمعَ بين الرَّحْمَنِ والرَّحِيْمِ للنهايةِ في الرَّحمة والإحسان بعد الاحتِنَانِ. وعنِ ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنهُ قال :[هُمَا اسْمَانِ رَقِيْقَانِ أحَدُهُمَا أرَقُّ مِنَ الآخَرِ] ولو قال : لَطِيْفَانِ لكان أحسنَ.
وكانَ النبيُّ ﷺ يكتبُ في أوائل الكتب في أوَّل الإسلام :[بسْمِكَ اللَّهُمَّ] حتى نزلَ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا ﴾[هود : ٤١]. فكتبَ [بسْمِ اللهِ]. ثُم نَزَلَ :﴿ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ ﴾[الإسراء : ١١٠] فَكَتَبَ :[بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ]. فنَزَلَ :﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ﴾[النمل : ٣٠] في سورةِ النَّمل ؛ فكتبَ حينئذٍ :[بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
فإن قيلَ : لِمَ قُدِّمَ اسمُ اللهِ على الرَّحمن ؟ قيل : لأنهُ اسم لا ينبغي إلا للهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقيل في تفسيرِ قولهِ تعالى :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾[مريم : ٦٥] أي هل تعرفُ في السهلِ والجبل والبَرِّ والبحرِ والمشرِق والمغرب أحداً اسْمُهُ اللهُ غيرَ اللهِ ؟ وقيل : هو اسْمُهُ الأعظمُ. وقُدِّمَ الرَّحْمَنَ على الرَّحِيْمِ ؛ لأن الرحمنَ اسم خُصَّ به اللهُ ؛ والرحيمُ مشتركٌ ؛ يقال : رجلٌ رحيمٌ، ولا يقال : رجل رحمنٌ. وقيل : الرَّحْمَنُ أمدحُ ؛ والرحيمُ أرأفُ.
وإنَّما أسقطت الألف من اسمِ الله وأصلهُ باسم الله ؛ لأنَّها كثرت على ألسنةِ العرب عند الأكلِ والشُّرب والقيام والقعود ؛ فحذفت اختصاراً من الخطِّ وإن ذُكرت اسماً غيرهُ من أسماءِ الله لَم تحذفِ الألفُ لقلَّة الاستعمال ؛ نحو قولِكَ : باسمِ الرب، وباسمِ العزيز ؛ وإن أتيتَ بحرفٍ سوى الباء لَمْ تحذفِ الألفَ أيضاً ؛ نحو قولِكَ : لاسمِ الله حلاوةٌ في القلوب ؛ وليس اسمٌ كاسمِ الله. وكذلك باسمِ الرَّحمنِ ؛ واسمِ الجليلِ ؛ و﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾[العلق : ١].
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ ﴾، الحمدُ والشكر نظيران ؛ إلا أن الحمدَ أعمُّ من حيث إن فيه معنى المدح من المنعَم عليه ؛ وغيرِ المنعَم عليه ؛ ولا يكون الشُّكْرُ إلا من الْمُنْعَمِ عليه. والشكر أعمُّ من الحمدِ من حيثُ إنهُ يكون من اللسان والقلب والجوارحِ ؛ والحمدُ لا يكون إلا باللسان ؛ ويتبيَّن الفرقُ بينهما بنقيضهما. فنقيضُ الحمد الذمُّ ؛ ونقيضُ الشكر الكفرانُ.
وقولهُ :﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. الربُّ في اللغة : اسمٌ لِمن يربي الشيءَ ويصلحهُ ؛ يقال لسيد العبد : ربٌّ ؛ ولزوج المرأة : ربٌّ ؛ وللمالك : ربٌّ. ولا يقال : الربُّ معرفاً بالألف واللام إلا لله عَزَّ وَجَلَّ. والله تعالى هو المربي والْمُحَوِّلُ من حال إلى حالٍ ؛ من نُطْفَةٍ إلى عَلَقَةٍ إلى مُضْغَةٍ إلى غيرِ ذلك إلى أجل مسمَّى.
وقوله ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ العالَمُ : جمعٌ لا واحدَ له من لفظهِ ؛ كالنَّفَرِ والرَّهْطِ ؛ وهو اسمٌ لِمن يعقلُ مثل الإنسِ والجنِّ والملائكة ؛ لأنكَ لا تقولُ : رأيتُ عالَماً من الإبِلِ والبقرِ والغنم ؛ إلا أنهُ حُمِلَ اسمُ العالَم في هذه السُّورة على كلِّ ذي رُوحٍ دَبَّ ودَرَجَ لتغليب العُقلاءِ على غيرِهم عند الاجتماعِ. وربَّما قِيْلَ للسَّموات وما دونِها مما أحاطَتْ به : عالَمٌ ؛ كما روي عن النبيِّ ﷺ أنه قال :" إنَّ للهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ألْفَ عَالَمٍ ؛ وَإنَّ دُنْيَاكُمْ مِنْهَا عَالَمٌ ".
وقولهُ :﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾. قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾. أي يومِ الحِسَاب ؛ فإن قِيْلَ : لِمَ خصَّ يومَ الدِّين ؛ وهو مَلِكُ الدُّنيا والآخرةِ ؟ قِيْلَ : لأن اللهَ تعالى لا ينازعهُ أحدٌ في مُلكِهِ ذلك اليومِ ؛ كما قالَ تعالى :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾[غافر : ١٦].
قرأ عاصمُ والكسائي :(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بِالألف ؛ والباقونَ بغيرِ ألف. قال أهلُ النَّحو :(مَلِكِ) أمدحُ من (مَالِكِ) لأن الْمَالِكَ قد يكون غيرَ مَلِكٍ ولا يكون الْمَلِكُ إلا مَالِكاً. وروي أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه كان يقرأ :(مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) على النِّداءِ المضاف ؛ أي يا مالِكَ يومِ الدِّين. وقرأ أنسُ بن مالكٍ :(مَلَكَ يَوْمَ الدِّيْنِ) جعلَهُ فِعلاً ماضِياً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾. لا يُحسن إدخال ﴿ إِيَّاكَ ﴾ في غير الْمُضْمَرَاتِ. وحُكي عن الخليلِ :(إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّيْنَ فَإيَّاهُ ؛ وَإيَّا الشَّوَاب). فأضافَهُ إلَى ظاهرٍ ؛ وهو قبيحٌ مع جوازهِ ولا يكونُ إلاَّ إذا تقدَّم، فإنْ تأخَّرَ ؛ قُلْتَ : نَعْبُدُ ؛ ولا يجوز : نَعْبُدُ إياكَ. فإنْ قِيْلَ : لِمَ قدَّم ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ وهلاَّ قالَ : نعبدُكَ ؟ قيل : إنَّ العربَ إذا ذكرَتْ شَيئين قدَّمت الأهَمَّ فالأهَمَّ ؛ ذِكْرُ المعبودِ في هذه الآية أهمُّ من ذكرِ العبادة فقدَّمَهُ عليها.
والكافُ من ﴿ إِيَّاكَ ﴾ في موضعِ خفض بمنْزلة عَصَاكَ ؛ وأجازَ الفرَّاء : أن تكون في موضعِ نصبٍ ؛ فكأنه جعلَ ﴿ إِيَّاكَ ﴾ بكمالهِ ضميرَ المنصوب. فإن قيلَ : لِمَ عدلَ عن المغايبةِ إلى المخاطبة ؟ قُلْنَا : مِثْلُهُ كثيرٌ في القُرْآنِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ ﴾[يونس : ٢٢].
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ ؛ أي أرشِدنا الطريقَ القائمَ الذي ترضاهُ ؛ وهو الإسلامُ. وهذا دعاءٌ ؛ ومِثْلُهُ بلفظِ الأمرِ ؛ لأن الأمرَ لِمن دونكَ ؛ والمسألةَ لِمن فوقِكَ.
فإن قِيْلَ : ما معنى قولِكم : اهْدِنَا! وأنتم مهتَدُونَ ؟ قِيْلَ : هذا سؤالٌ في مستقبلِ الزَّمان عند دعوةِ الشَّيطان. وَقِيْلَ : معناه : ثَبتْنَا على الطَّريقِ المستقيمِ ؛ لا تُقَلِّبْ قلُوبَنا بمعصيَتِنا. ونظيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى في قصَّة إبراهيمَ عليه السلام :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[البقرة : ١٣١] أي أُثْبُتْ على الإسْلامِ.
وفي ﴿ الصِّرَاطَ ﴾ أربعُ لغاتٍ : صِراط بالصَّاد ؛ وسِراط بالسِّين، وبالزاي الخالصَةِ، وبإشْمَام الصَّاد والزَّاي، وكلُّ ذلك قد قُرِئَ به ؛ فبالسِّين قراءة قُنْبُلٍ، وبإشْمَامِ الزَّاي قراءةُ خَلَفٍ ؛ وقرأ الباقون بالصاد الصَّافيةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ همُ الأنبياءُ وأهلُ طاعةِ الله تعالى. واختلافُ القراءة في ﴿ صِرَاطَ ﴾ كاختلافِهم في (الصِّرَاطَ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ ﴾ ﴿ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ هم اليهودُ ؛ و ﴿ الضَّآلِّينَ ﴾ هم النصارى.
وأما (آمِيْن) فليس من السُّورةِ ؛ ولكن رُوي عن النبيِّ ﷺ أنه كان يقولهُ ويأمر به. وقال :" لَقَّنِّي جِبْريْلُ عليه السلام بَعْدَ فَرَاغِي مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَاب : آمِيْن، وقال : إِنَّهُ كَالطَّابَعِ عَلَى الْكِتَاب " وَقِيْلَ : معنى آمين : اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ. وَقِيْلَ : معناهُ : يا آمِينَ ؛ أي يَا اللهُ. فآمِينَ اسمٌ مِن أسماءِ الله. وَقِيْلَ : معناهُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. وفي آمين لُغتان : الْمَدُّ والقصرُ ؛ قال الشاعرُ في القصر : تَبَاعَدَ مِنِّى فَطْحُلٌ إذْ رَأَيْتُهُ أمِينَ فَزَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَاوقال آخرُ في المدِّ : صَلَّى الإلَهُ عَلَى لُوطٍ وَشِيْعَتِهِ أبَا عُبَيْدَة قُلْ باللهِ آمِيْنَوقال آخرُ في الْمَدِّ أيضاً : يَا رَبِّ لاَ تَسَلُبَنِى حُبَّهَا أبَداً وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ آمِيْنَاقال ﷺ :" فَاتِحَةُ الْكِتَاب رُقْيَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ السَّأْمَ " وهو الموتُ. وروي أن جبريلَ قال للنبيِّ ﷺ :" كُنْتُ أخْشَى الْعَذَابَ عَلَى أُمَّتِكَ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْفَاتِحَةُ أمِنَتْ ؛ لأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ ؛ وَجَهَنَّمُ لَهَا سَبْعَةُ أبْوَابٍ، فَمَنْ قَرَأَهَا صَارَتْ كُلُّ آيَةٍ طَبَقاً عَلَى بَابٍ ".
Icon