لتلاوة كل سورة من سور القرآن، وروي عن بعض الصحابة :( إننا كنا نعرف نهاية سورة وابتداء سورة بنزول قوله تعالى ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ ) وروي عن جعفر الصادق بن محمد رضي الله عنهما، أنه قال :( البسملة تيجان السور )، وقد قال عبد الله بن المبارك :( إنها جزء من كل سورة ؛ ولذلك يجب ابتداء السورة بقراءتها. على أنها جزء منها )، وقال الشافعي :( إنها جزء من الفاتحة )، وتردد في عدها جزءا من كل سورة، ولكنها مهما تكن ليست جزءا من غير الفاتحة، وهي لازمة للفصل بين سورة وسورة من السور التي ابتدأت بذكرها.
ولأن ثمة كلاما في كون سورة براءة ليست مستقلة عن سورة الأنفال، وعدها الأكثرون جزءا منها، لم تكن مبتدأة بالبسملة، وينسب إلى الإمام مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه أنها ليست جزءا من سورة الفاتحة أو غيرها، ومؤدى هذا القول أنها ليست من القرآن ككلمة ( آمين )، وعد القرطبي في كتابه ( أحكام القرآن ) أن في مذهب مالك أن البسملة ليست من القرآن هو الصحيح، وذكر أن القرآن كله متواتر، والبسملة ليست متواترة، فلا تعد من القرآن، ولكن تكون علامة على انتهاء سورة، وابتداء سورة أخرى.
ومع أنه قرر ذلك – يقرر أن مالكا يرى أنها يبتدأ بها في الفرض والنافلة، كما رواه ابن نافع، وفي الحق أن ذلك القول غريب عن القرآن، وذلك لأن البسملة متواترة تواتر كل أجزاء القرآن، فلم تثبت بحديث آحاد، بل ثبتت بالقرآن نفسه، فقد كتبت في مصحف عثمان وما قبله، ولا تواتر أبلغ من هذا، وما كان للشيخين أبي بكر وعمر، وذي النورين وجميع الصحابة أن يدونوا في المصحف ما ليس من القرآن، و ( آمين ) هي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق بها في عقب قراءة الفاتحة.
إن ادعاء أنها ثبتت بخبر آحاد يقتضي ذكر ذلك الخبر، ورواته، ومقدار قوتهم، وضعفهم، وعددهم، وليس كذلك، بل هي ثبتت مقترنة بسور القرآن على أنها ثابتة بين كل سورة وسورة.
والسورة التي لم تصدر بها، ثبت عدم تقدمها لهذه السورة بالتواتر، فهي متواترة بالذكر في كل السور، ومتواترة بالسلب في سورة واحدة.
ولهذا نرى أن نسبة ذلك القول إلى إمام دار الهجرة مالك هو في ذاته موضع نظر، وقد اقترن ذلك بادعاء أنه لم يقرأها أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول القرطبي عفا الله عنه :( في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقرضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ إتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن لنا أن نرد ذلك القول، ونأخذ ذلك من كلامه هو، فهو قد روى أن عمر، وعليا، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، كانوا يقرأونها ويسرون بها.
وروى هو أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسر بها ولا يجهر، فقد روى عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال :( كان يصلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم )١ وروى عنه أيضا : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر، وعمر، فلم أسمع أحدا منهم يجهر ب ( بسم الله الرحمن الرحيم )٢.
فالأمر أمر الجهر بها، لا أمر تركها، وفرق كبير بين الترك لها أصلا، وترك الجهر بها.
وبذلك ينتفي ما ادعاه من أن أحدا لم يقرأها، إتباعا للسنة إن كانت سنة، وذلك لأنهم قرأوها خفية وفي سر، آخذين ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن كتاب الله عز وجل :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ٢٠٥ ﴾ [ الأعراف ].
وننتهي من أن البسملة جزء من القرآن الكريم، وهي فاصلة بين السور تدل على الانتهاء من سورة والابتداء بسورة أخرى.
وإن الشافعي يعدها جزءا من الفاتحة، ومهما يكن فإنه لابد من البدء بقراءتها، وغيره يوجب البدء بها لا على أنها جزء من الفاتحة، ولكن على أنها قرآن يبدأ به في أول كل سورة.
والأكثرون عدوها على أنها يبتدأ بها سرا لا جهرا أو تضرعا في خفية، ودون الجهر من القول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
التعوذ في ابتداء التلاوة :
قال الله تعالى :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ٩٨ ﴾ [ النحل ] فهم من هذا النص الكريم أنه عند التلاوة لابد أن يقدمها بقوله :( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )، ثم تكون بعدها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وقد حكى ذلك عن عطاء وغيره، فقالوا :( إن الاستعاذة واجبة عند كل تلاوة في غير الصلاة )، وإنما في الصلاة فلا وجوب، ويظهر أن ذلك بالاتفاق ؛ لأنه يكون زيادة واجب في الصلاة لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل وجوب في عبادة من غير إيجاب من صاحب الشرع يرد ولا يؤخذ به. وكان النخعي، ومعه قوم يتعوذون استحبابا في كل ركعة في الصلاة، فحيث كانت قراءة قرآن تعوذوا استحبابا، وروي عن أبي حنيفة التعوذ في قراءة الركعة الأولى فقط.
ومن المتفق عليه أمران :
أحدهما : أن الاستعاذة ليست جزءا من الصلاة، ولا شرطا لقراءة الفاتحة، كما هو مقرر عند الشافعي، لا سرا ولا جهرا ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التزم بها جهرا ولا خفية.
الثاني : أن كلمة ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ليست قرآنا، وإنما استجابة لقول الله تعالى :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ٩٨ ﴾ [ النحل ] وكلمة ( أعوذ بالله ) هي الكلمة التي يرددها الناس عند الاستعاذة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في الاستعاذة :( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم )، وروى ابن مسعود أنه تعوذ بها أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال له :( يا ابن أم عبد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح عن القلم )٣، وإن هذا النص يستفاد منه أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هي المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. وننتهي من هذا إلى أنها مستحبة وليست واجبة، ولكن إذا قالها أيسر أم يجهر ؟
الجمهور على أنه يجهر عند الصلاة بها، وقال حمزة : يسر بها، ومن قال إن الاستعاذة تكون بعد القراءة لأن الله يقول، ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ... ٩٨ ﴾ [ النحل ]، فالقراءة تسبق الاستعاذة امتثالا لأمر الله تعالى ؛ ولكيلا يكون القارئ متغنيا، ولا متلهيا، وليكون في حضرة الله في قراءته وبعدها، ويكون طائعا لله تعالى في كل أحواله.
الفاتحة، أو فاتحة الكتاب
قال جار الله الزمخشري في كتابه الكشاف : إنها مكية ؛ لأنها أنزلت بمكة، وذلك هو المشهور، وقيل إنها أنزلت بمكة مرة، والمدينة مرة أخرى عند تحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أنها مكية، نزلت عند فرض الصلاة بمكة، وكونها نزلت بعد ذلك بالمدينة تكرارا للنزول، ولا نحسب ثمة حاجة للتكرار فإنها متى نزلت كانت واجبة التلاوة على أنها جزء من القرآن ولا حاجة إلى تكرار نزولها.
وتسمى أم القرآن، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى، بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد، وتسمى أيضا سورة الكنز، وسورة الوافية لذلك الشمول الإجمالي الذي اشتملت عليه فيما ذكرنا، وتسمى المثاني لأنها تثنى في كل ركعة ولأنها السبع المثاني. وتسمى سورة الصلاة لأنها مأمور بقراءتها فيها، وتسمى الشفاء والشافية وهي سبع آيات بالاتفاق٤.
وكلها أسماء سميت بها لمعان فيها، ولاحظها من جوانبها من سماها، فكل اسم يمثل جانبا من جوانبها.
وسورة الفاتحة كما ذكرنا مكية، وقد أجمع العلماء على ذلك، بل إن بعض العلماء يدعي أنها أول سورة نزلت من القرآن، ولكن يخالفهم الأكثرون في ذلك، ويقررون أن أول ما أنزل من القرآن :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٢ ﴾ [ العلق ] وقد روى البيهقي في ذلك خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وفق العلماء بين ما رواه البيهقي وما هو مقرر من أن أول ما نزل ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ بأن الفاتحة هي الأولى نزولا، وهي سورة نزلت دفعة واحدة، أما الثانية فآية، وهي قد أخبرت عن الأولى – أي عن الفاتحة – الآمر بالقراءة، فالأمر بالقراءة يقتضي مقروءا.
والذي أميل إليه أن الفاتحة ليست أول ما نزل من القرآن، ويرجح عندي أنها نزلت عندما فرضت الصلاة في الإسراء والمعراج.
٢ أخرجه بهذا اللفظ النسائي: كتاب الافتتاح (٩٠٧) راجع التخريج السابق..
٣ ذكره بهذا اللفظ القرطبي في مقدمة تفسيره ص ١٢٨..
٤ الكشاف للزمخشري جزء ١ ص٤..
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿ بِسْمِ ﴾ الباء هنا هي حرف جر يدل على السببية، وهي مبنية على الكسر ك ( لام ) الأمر، والمعنى : بسبب اسم الله الذي لا يعبد سواه وأنه الرحمن الرحيم أبتدئ، فهي متعلقة بمحذوف يذكر بعدها، لبيان اختصاص الابتداء أو التبرك باسم الله تعالى، فالتأخير يفيد الاهتمام بمتعلق الباء ومزيد الاختصاص بالاستعانة والتيمن والتبرك به.والبسملة يبدأ بها في كل أمر ذي بال، كما قال صلى الله عليه وسلم ( كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر ) والفعل الذي تعلقت به الباء محذوف، وكما ذكرنا يقدر مؤخرا ؛ لأن المقدم يكون محل التخصيص.
ولأن البسملة يبدأ بها كل أمر ذي بال، فإنه يقدر الفعل على حسب ما نبتدئ البسملة، ويرى بعض المفسرين أن يقدر الفعل المحذوف ( أبتدئ ) ؛ لأنه يكون صالحا، لكل أمر ذي بال وشأن، والآخرون قالوا : إنه يقدر في القرآن أتلو أو أرتل أو نحو ذلك، وبعض العلماء قال : إنها في القرآن الكريم في معنى القسم بأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكون على هذا للقسم، ويقدر الفعل ب ( أقسم ). والمعنى على ذلك في أول كل سورة اجعل قسمك بالله الرحمن الرحيم أن ما تتلو هو الحق الذي لا ريب فيه، فهو الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
و ﴿ اللّهِ ﴾ هو لفظ الجلالة الدال على أنه وحده له كمال العبودية، واسم الله – قال بعض العلماء أنه المراد فيه الذات العلية فهو اسم بمعنى المسمى. والمعنى هو القسم بالذات العلية، وقرر بعض العلماء أن الاسم الأعلى هو المقصود بالافتتاح تبركا وتيمنا باسم الذات العلية، ولها المكان الأقدس من العباد تبارك الله، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك، فليس المراد بالاسم الذات ؛ لأنها مذكورة، كما قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ٧٨ ﴾ [ الرحمن ]، وقوله تعالى :﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ١ ﴾ [ الأعلى ] وهذا ما نميل إليه ؛ لأنه لا يحتاج إلى تحول من المعنى الأصلي لكلمة الاسم إلى غيره، ولأن قصد الاسم الأسمى ابتداء يفيد معنيين، وهو تقديس الاسم في كلمة بسم الله، وتقديس المسمى و هو الله سبحانه، ولو أطلق الاسم على المسمى، لكان تقديسا للذات العلية من غير إعلاء للاسم في ذاته، ولا شك أن الأول أبلغ تسبيح لله تعالى لقاء التبرك بذكره، والتيمن به سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
و كلمة ﴿ اللّهِ ﴾ تعالى لا تطلق إلا على الذات العلية خالق الكون، ومنشئ الوجود على غير مثال سبق، بديع السموات والأرض. وقالوا : إن أصل كلمة الله : الإله، ثم كان حذف الهمزة، مع تقدير أنها مطوية في الكلام مقدرة فيه. والإله تطلق على المعبود، وتعم المعبود بحق وبغير حق، ولكن كلمة ﴿ اللّهِ ﴾ تعالى لا تطلق إلا على المعبود بحق، فيقال : آلهة المشركين، آلهة الرومان، وآلهة المصريين، ولا يقال :( الله ) إلا في مقام أنه الخالق المدبر المنشئ المستحق للعبادة ؛ ولذلك كانت ألفاظ القرآن الكثيرة في مخاطبة المشركين، على أن الله تعالى معروف بأنه المنشئ، وأنه غير آلهتهم، فكانوا يقولون : الآلهة هبل، واللات، والعزى، ومناة الثالثة ؛ يقولون عنها إله وآلهة ولا يقولون عن واحدة منها إنه ( الله )، لقد قال تعالى عنهم :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ٢٥ ﴾ [ لقمان ] وكان يحتج عليهم بأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، وجدل القرآن الكريم لهم لإلزامهم بالتوحيد بأنهم يعترفون بأن الله تعالى خالق السموات والأرض فهو الجدير وحده بالعبادة، اقرأ قوله تعالى :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ٦٠ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ٦١ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ٦٢ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٣ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٦٤ ﴾ [ النمل ].
ونرى من هذا أن العرب كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق لكل شيء وما كانوا يطلقون كلمة ( الله ) إلا على الخالق المدبر المنفرد بالإيجاد والإبداع، وما كانوا يطلقون على آلهتهم كلمة الله، وهذا عرف لغتهم ودلالتها.
﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ هذان وصفان لله تعالى قرنا في البسملة، وكلاهما يدل على كمال رحمة الله تعالى في ذاته وعلى خلقه، والرحمة رقة في القلب : والله تعالى لا يتصف بذلك ؛ لأن هذا من صفات الحوادث، والله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما يراد من الأوصاف التي يتصف بمثلها العباد غايتها، وثمرتها، وثمرة الرحمة الإنعام الكامل، والنفع ودفع الضر، والرزق، وغفران الذنوب، وكلاءة الله تعالى لهم، والقيام على كل ما يمدهم به بالخير والنعمة.
والوصفان اقترنا واجتمعا في البسملة، كما اجتمعا في بسملة كتاب سليمان عليه السلام لبلقيس، إذ قال تعالى :﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ٣٠ ﴾ [ النمل ] وهذه بسملة كبسملة أوائل السور، كما اجتمع الوصفان في آيتين أخريين من آيات القرآن، ففي أول سورة فصلت ذكر للقرآن الكريم، وقال سبحانه عن الذكر ﴿ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ٢ ﴾ [ فصلت ] وجاء في سورة الحشر ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ٢٢ ﴾ [ الحشر ].
ولا شك أن الوصفين من أسماء الله الحسنى وصفاته، ولا شك أن لكل منهما معنى قائما بذاته، منفردا به عن الآخر. يقول الزمخشري ( نقلا عن الزجاج ) : إن صيغة فعلان من الصيغ التي تدل على الامتلاء، كغضبان، وشبعان، وسكران، وجوعان، فإنها تدل على الامتلاء من الفعل الذي اشتقت منه، فكذلك الرحمن معناها الممتلئ رحمة، ورحيم تدل على الاتصاف بالرحمة التي تليق بذاته العلية من غير امتلاء.
ولذلك يقول الزمخشري ومن تبعه في دراساته البيانية للقرآن الكريم : إن ( الرحمن ) أبلغ من ( الرحيم )، وإن كان كلامه تعالى كله فوق الكلام البشري وما ترى فيه من تفاوت، وإن كان كله في أعلى درجات البيان لا يساويه بيان للإنسان. وبدراسة اللفظين في القرآن يتبين لنا الفرق بينهما في الاستعمال القرآني السامي في بلاغته إلى ما لا يتسامى إليه كلام بشر، ولا يدانيه شيء من الكلام الإنساني.
وعند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية نجد القرآن الكريم جمع بين الوصفين في آيتين غير البسملة وقد ذكرتا، وذكر وصف الرحمن منفردا في نحو ستين موضعا من كتاب الله العزيز، وكان يذكر ذلك الوصف السامي غير مضاف إلى فعل من الأفعال، ولا واقع على أحد كقوله تعالى :﴿ قُل ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى.. ١١٠ ﴾ [ الإسراء ] وكقوله تعالى :﴿ الرَّحْمَنُ ١ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ٢ ﴾ [ الرحمن ] ومثل قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ٢٠ ﴾ [ الزخرف ].
وهكذا في نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شيء أو شخص أو فعل كما يذكر ( الله ) تعالى، وذكر وصف الرحيم منفردا عن الرحمن في أكثر من ثلاثين ومائة آية، ونجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه وتعالى بالعباد مثل قوله تعالى :﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٧٣ ﴾ [ البقرة ] ومثل قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ٦٥ ﴾ [ الحج ] ومثل قوله تعالى :﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٩٢ ﴾ [ البقرة ].
ومن هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة ( رحمن )، واستعماله لكلمة ( رحيم ) ننتهي إلى ما يأتي :
أولا : أن وصف الرحمن وصف ذاتي للذات العلية لا يتعلق بفعل ولا بشخص يذكر، ولكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، ولكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية واستحقاق العبادة، ولذلك قال بعض العلماء : إن كلمة ( الرحمن ) اسم لله تعالى، وأما ( الرحيم ) فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، والذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى في إجابة أوامره، واجتناب نواهيه ؛ ولذلك يقترن كثيرا بالتوبة والمغفرة.
ثانيا : أن الرحمة في ( الرحمن ) أكثر من ( الرحيم ) ؛ ولذلك قالوا : إن رحمة الرحمن، هي الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من في السموات والأرض، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث، ويرسل الرياح، ومهد الأرض، وجعل الجبال، وبرحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وبرحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ١٦٠ ﴾ [ الأنعام ].
وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين.
ثالثا : أن ( الرحمن ) أكثر رحمة لما في الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنساني كله، ووصف ( الرحيم ) خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ في القرآن الكريم.
ومن هذا الاستقراء والتتبع، واستنباط المعاني لألفاظ ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ من استعمال القرآن ننتهي إلى أن بيان معاني ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس. نتبرك به ونتيمن ونسبح باسمه، وهو الله الإله المتفرد بالخلق والتكوين والتدبير والمتفرد
وسورة الفاتحة كما ذكرنا مكية، وقد أجمع العلماء على ذلك، بل إن بعض العلماء يدعي أنها أول سورة نزلت من القرآن، ولكن يخالفهم الأكثرون في ذلك، ويقررون أن أول ما أنزل من القرآن :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٢ ﴾ [ العلق ] وقد روى البيهقي في ذلك خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وفق العلماء بين ما رواه البيهقي وما هو مقرر من أن أول ما نزل ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ بأن الفاتحة هي الأولى نزولا، وهي سورة نزلت دفعة واحدة، أما الثانية فآية، وهي قد أخبرت عن الأولى – أي عن الفاتحة – الآمر بالقراءة، فالأمر بالقراءة يقتضي مقروءا.
والذي أميل إليه أن الفاتحة ليست أول ما نزل من القرآن، ويرجح عندي أنها نزلت عندما فرضت الصلاة في الإسراء والمعراج.
﴿ الْحَمْدُ للّهِ ﴾ الحمد هو الثناء الكامل على الأفعال الاختيارية، وعلى من تصدر عنه هذه الأفعال الاختيارية فيعم نفعها وهي مصدر الخير لهذا الوجود الكوني والإنساني.
وهناك كلمات ثلاث تتلاقى معانيها في جملتها، وتختلف في دقتها، وهي كلمة ( حمد )، وهي تكون كما ذكرنا الثناء الجميل على من يعمل أعمالا اختيارية عامة النفع، ودافعة للضرر للوجود كله بحكمة من يفعلها، والكلمة الثانية ( المدح )، وهي الثناء على الصفات الذاتية، والشخصية الطيبة، فيقال : مدحت الصفات الطيبة في فلان، ولا يقال : حمدتها، إنما يقال : حمدت الله تعالى ومدحت خصال فلان، وقيل : إن الحمد والمدح مترادفان، ولعل قائل هذا القول نظر إلى معنى الثناء فيهما من غير أن ينظر إلى الباعث، فإن الباعث في الحمد أعمال الإنعام والخير، والباعث على المدح الشخص والذات، فيقال : مدحت الجميل في صفاته الحسنة، وخلاله الكريمة، ولا يقال حمدته، ومن العلماء من قال إن المدح أعم، ومن قال العكس، ونميل إلى التفرقة بينهما باختلاف الموضوع.
و( الشكر ) امتلاء النفس بالإحساس بالنعمة، واندفاع النفس إلى الطاعة والخضوع، والقيام بحق المنعم ومقابلة الفضل والنعمة بالإحسان في الطاعة والواجبات، وقد قال تعالى في ذلك :﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ... ٧ ﴾ [ إبراهيم ] ويقول ابن جرير الطبري : إن الحمد والشكر بمعنى واحد، والحق أنهما يتلاقيان ويختلفان، فيتلاقيان في معنى الإحساس بالنعمة والقيام بحقها، وما يجب بالنسبة للمنعم، ولكنهما يختلفان في القيام بحق المنعم، فالقيام بحق المنعم في الشكر الطاعة والعمل وجعل الجوارح كلها في طاعة الله تعالى، والخضوع المطلق لله تعالى في كل شأن من شئونه، وحال من أحواله. والقيام بحق المنعم في الحمد الثناء على الله تعالى ثناء مطلقا كاملا مع تذكر نعمائه، وتذكر ما يحيطه من الوجود كله، لا في ناحية من نواحي شخصه ؛ ولذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( الحمد رأس الشكر )١ والحمد ذاته عبادة والشكر يكون على النعمة وبالمثابرة على الطاعة والعبادة.
ومهما يكن فالألفاظ الثلاثة متقاربة في مؤداها – وإن تخالفت في مدلولاتها و ( ل ) في قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ للّهِ ﴾ للاستغراق والكمال، أي الحمد كله وبكماله لله تعالى وحده، فلا يستحق أحد من خلقه حمدا ؛ لأن الحمد كما ذكرنا عبادة، والعبادة لله تعالى، وحده وحمد غيره عبادة لغيره، وشرك بالله تعالى، وأصل الضلال يبتدئ من حمد غير الله، والثناء عليه، ثم ينقاد من بعد ذلك إلى ما يخرجه عن طاعة الله، فلا حمد إلا لله ولا ثناء إلا لله.
وإن الحمد إنما هو ابتداء على ما أنعم الله تعالى على الوجود الكوني والإنساني من غير وجود فيكون الحمد له وحده، وتقرأ كلمة ( الحمد لله ) برفع الدال. والمعنى : الحمد الثابت الكامل المستغرق لكل صنوف الحمد هو لله وحده، ولا يحمد سواه ؛ لأن كل نعم هذا الوجود الكوني والإنساني لله تعالى، فكل خير الوجود منه وإليه.
وهناك قراءة بفتح الدال على أنه مصدر، ومنصوب بفعل محذوف، ويكون المؤدى للقول : أحمد الحمد كله لله تعالى، فلا تحمد سواه، وإن حمد سواه شرك لما ذكرنا من أن الحمد ذاته عبادة، وهذه القراءة تفيد تجدد الحمد آنا بعد آن بالتذكير بنعم الله تعالى وآلائه، والقراءة السابقة تفيد دوام الحمد، كما تدل على ذلك الجملة الاسمية ؛ لأنها تفيد الاستمرار.
وإني أرى أن القراءات المتواترة كلها لا تتباين، ولا تتضارب، بل تتلاقى، وتكمل واحدة معنى في الأخرى، فبالجمع بين القراءتين يكون معنى النص السامي : اجعل الحمد دائما مستمرا ومتجددا ؛ ليكون القلب دائما عامرا بذكر الله تعالى.
﴿ َبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ في هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى سبب الحمد الكامل، الدائم المستمر المتجدد ؛ لأنه هو المالك والسيد، والمربي لهم والرقيب عليهم، الذي ميزهم بالنعم المستمرة، والآلاء المتكررة التي لا تنقطع أبدا.
فالرب هو المالك وهو السيد، وهو المصلح والمدبر، والجابر والقائم على كل شيء، الذي يسير الوجود كله بحكمته وبقدره و إرادته.
و ( الرب ) وصف لله تعالى مأخوذ من رب الشيء يربه بمعنى قام بإصلاحه وتقويمه، وتتبعه بالإصلاح والتنمية في كل أدواره، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( هل لك عليه من نعمة تربها )٢ أي تصلحها وتنميها، ثم أطلقت كلمة ( رب ) على الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى يتلاقى مع ( ربى )، فإن التربية هي الإصلاح والتغذية، والعمل على الإنماء، ولقد جاء في الصحاح للجوهري :( رب فلان ولده يربه ربا، وتربية بمعنى : رباه، والمربوب المربى ).
وعلى ذلك يصح أن تقول إن الرب من ربه، بمعنى نماه، أو من التربية بمعنى الإصلاح والإنماء، والمعنى في الحالين أن الله رب العالمين بمعنى مغذيهم ومنميهم والقائم عليهم، والمصلح لهم، والمدير لأمورهم، وهو مربيهم لأنه القائم عليهم والمهذب لهم بما خلق فيهم من عقول مدركة تدرك الخير والشر، وتختار ما تفعل وتحاسب على ما تقدم من خير فتنال به الثواب، وما تكسب من شر فينالها العقاب.
وكلمة ﴿ الْعَالَمِينَ ﴾ يريد بها العقلاء من الملائكة والإنس والجن، فهو رب هؤلاء جميعا، هو الذي رباهم وأصلحهم، ودبر أمورهم، والعالمون جمع لعالم، وهو كل موجود غير الله تعالى، ولكن إذا جاءت ( عالمون ) بجمع المذكر العاقل، أريد بها العقلاء ممن خلق الله تعالى، وقد أيد ذلك القول ابن عباس رضي الله عنهما :( العالمون الجن والإنس )، ودليله قوله تعالى :﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ١ ﴾ [ الفرقان ] فلا ينذر إلا الجن والإنس ؛ لا تنذر الجبال ولا الأرضون، وإنما ينذر العقلاء الذين يتصور الشر منهم، أو لا يتصور كالملائكة، وقد قلنا إن لفظ العالمين يعمهم.
ويسأل سائل : لماذا جمع هنا، والأقرب الإفراد، ونقول ما قاله العلماء : إن المفرد هنا ( وهو عالم ) أعم من الجمع، ولكن يبقى السؤال لم ذكر الجمع ؟ أجابوا بأن في ذلك إشارة إلى أن كل عاقل، أو العاقلين بشكل عام فيهم العوالم كلها، ففيهم دقة التكوين وجمال التصوير وروعة الخلق، من عقل يدبر، ولسان وجوارح تتحرك، فجمع الله تعالى في عالم العقلاء كل العوالم الأخرى في إحكام الصنع وبديع التكوين كما قال تعالى في تقديم العلم بالنفس، وجلائل الخلق والتكوين :﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ٢١ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ٢٢ ﴾ [ الذاريات ] ففي الإنسان أكمل صورة للخلق والتكوين.
٢ أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة باب فضل الحب في الله (٢٥٦٧) وأحمد: باقي مسند المكثرين (٩٨٨٧)..
هذان وصفان من أوصاف الله تعالى، أو اسمان من أسمائه ذكرا في مقام السببية لاستحقاق الله تعالى الحمد وحده، وقد ذكرنا هذين الوصفين في الكلام في البسملة، فلا نعيده، ولكن نذكر هنا مقامهما من النسق بعد قوله تعالى :﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فنقول إن ( الرحمن والرحيم ) يدلان على الرحمة التي يصلح بها الكون ويجبر أمره بحكمته وقدرته، فهو سبحانه يرب العالمين ويصلحهم رحيما بهم، ويصلح الكون والوجود كله برحمته الشاملة لاسمه الأعلى الرحمن.
يوم الدين هو يوم الجزاء، وقيل يوم الطاعة، وقيل يوم الشريعة الحاكم على كل عقيدة باطلة، ومهما يكن من اختلاف هذه الألفاظ في مدلولاتها الخاصة، فإن النهاية تتجه إلى أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يجازى فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وهو الذي تجد فيه كل نفس ما عملت محضرا، يعلن ما تستحق من عقاب أو ثواب.
و﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ فيه قراءات تختلف في أشكالها، ولا تختلف في مضمونها فقرئ هكذا : مالك يوم الدين، وقرئ : مليك يوم الدين، وقرئ : ملك يوم الدين، وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه : ملك يوم الدين، وقرئ : مالكا يوم الدين، وقرئ : مالك. والقراءات كلها تنتهي إلى معنى واحد، وإن كانت تختلف في أعاريبها، والنص العثماني يشملها جميعا، ولا تخالف في النص المتواتر، بيد أن قراءة النصب ( مالكا ) تكون حال من الذات العلية، أي أنه الرب للوجود كله والمنعم عليه بجلائل النعم ؛ جليها وخفيها، حال كونه مالكا من بعد ذلك ليوم الجزاء، الذي يجزى كل نفس ما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، و( يوم الدين ) تكون ظرفا غير مضاف إليه، وكذلك في قراءة الرفع مع التنوين يكون يوم الدين ظرفا للملك وكمال السلطان.
وقراءة ( مالك ) تفيد أن كل شيء مملوك لله تعالى في ذلك اليوم، فالنفوس في مآلها وفي نهايتها ملك لله، ومستقبلها القريب والبعيد لله لا تملك من أمرها شيئا، بل كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ١٩ ﴾ [ الانفطار ] وإذا كان سبحانه وتعالى يملك كل شيء في هذا اليوم ؛ فالسلطان، والتدبير له، وحده الذي يملك الجزاء، والمغفرة إذا أراد، ولا إرادة لسواه، إنه الحكم العدل اللطيف الخبير.
و( ملك )، ( ملك )، الفرق بينهما وبين قراءة ( مالك ) كالفرق بين المصدرين، الملك، والملك، فالملك استيلاء على الأشياء يكون مردها إليه، والملك السلطان بالأمر والنهي وتنفيذ ما يريد، وألا يكون معه آمر ولا ناه ولا حاكم سواه، ولا إرادة فوق إرادته، ولا حكم فوق حكمه.
ويلاحظ أن معنى الملك يتضمنه بالاقتضاء معنى الملك ؛ لأن من ملك شيئا ملك السلطان فيه، والسيطرة عليه، فالملك يقتضي الملك والسلطان، والملك لا يقتضي الملك والسلطان ؛ ولذلك يقال سبحان مالك الملك، ولا يقال ملك الملك.
ورأينا أن كل قراءة متواترة قرآن، وأن القرآن لا يخالف بعضه بعضا، بل قد يتم بعضه بعضا، وليس لنا أن نراجع بين قراءة وقراءة، لأن كلتيهما تتمم الأخرى.
وخلاصة القول في القراءتين أن قراءة ( ملك يوم الدين ) موضحة لما تضمنته ( مالك يوم الدين )، ولا نتصور أن تتعارض قراءتان متواترتان ؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضا. وفي الإعراب ( مالك ) أو ( ملك ) مضاف إلى يوم الدين على أنه هو المسيطر المتصرف المالك لأحداث ذلك اليوم من جزاء : ثواب أو عقاب أو مغفرة، أنه واقع لا محالة، وأن ما فيه في ملكه وتحت سلطانه وحده.
وإن اسم الفاعل يدل على الاستقبال، فلا يقال إنه مالك لليوم واليوم لم يجئ، وإن الأزمان الماضي والحاضر والمستقبل كلها بالنسبة لله تعالى واحدة.
هذا، ويلاحظ أن الأسماء أو الصفات هي كما أشرنا من قبل من قبيل السبب لانفراد الله تعالى بالحمد الكامل، فالربوبية الكاملة بالإنشاء لهذا الوجود وما فيه ومن فيه، وتعهده بالإنماء والتربية والتهذيب والتكميل، والرعاية لكل شيء، وإن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا ما أمسكهن أحد من بعده، ثم رحمته الظاهرة و الباطنة، والعاجلة والآجلة التي تعم الوجود كله من سماء وأرضين، وشموس ونجوم، ورحمته الخاصة بعباده العاقلين المكلفين من قبول للتوبة، وغفران، وثواب.
ثم كونه بعد ذلك مالكا وحده ليوم الجزاء، كل هذه الأسماء والصفات من شأنها أن تجعله مستحقا للحمد الكامل بكل ضروبه، وفي كل الأحوال، وذلك بربوبيته الشاملة، ورحمته الكاملة، وامتلاكه وحده ليوم الجزاء.
وإن الأسماء أو الصفات كما أنها سبب لانفراده باستحقاق الحمد، هي أيضا سبب لانفراده بالعبادة والاستعانة، وطلب الهداية، وقد التفت الكلام الحكيم من بعد ذلك من الإخبار باستحقاق الحمد لله تعالى وحده، وبيان جليل أسمائه إلى ذكر ما ينبغي للمؤمن من إفراده بالعبادة والاستعانة به دون غيره، والضراعة إليه في طلب الهداية ؛ لذا قال سبحانه :
كان الكلام السامي يسير على نهج الغيبة بذكر الربوبية وأسماء الذات العلية التي هي أوصافها من شمول الرحمة في كل الأحوال ولكل الوجود إلى تخصيصها بالمكلفين من عباده.
وبعد ذلك انتقل القول من الغيبة إلى الخطاب ؛ لأن الانتقال من باب إلى باب في البيان يعطي للكلام روعة تليق بأبلغ من في الوجود، فالانتقال في القول من غيبة إلى خطاب يجدد في النفس الإقبال على الاستمتاع بالتلاوة، والاستمتاع بالسماع، والاعتبار بما في الكتاب، والإقبال الذي يتولد عنه التدبر والتفكر في آيات الله تعالى.
وإن الأوصاف السابقة لذات الله تعالى توجب على العبد التفكر في أمر الله تعالى سبحانه، فكان من بعد ذلك ذكر أحوال العباد الواجبة، خاطبهم الله تعالى بكماله، فخاطبوه بما يليق بهم أن يفعلوه، وهو إفراده بالعبادة والاستعانة، وأن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم.
وإن العباد إذ يتدبرون صفات الذات العلية، ويستحضرون جلالها، وإفضالها، وإنعامها وسلطانها يصلون في مداركهم إلى مرتبة المشاهدة الروحية لله تعالى ؛ ويرتفعون إلى إدراك ملكوت الله تعالى ليخاطبوه قائلين :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾.
ولقد قال في هذا المقام العلامة أبو السعود في تفسيره ( إن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب العبودية بامتياز ذاته عما سواه بالكلية، واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له سبحانه عن العالمين، وافتقار الكل إليه في الذات والوجود ابتداء وبقاء منه، أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهود، ويلاحظ نفسه حاضرا في محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه، ماثل بين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا : يا من هذه شؤون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والاستعانة، فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل عن الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان )١.
وإن الارتفاع إلى مقام المشاهدة، ومخاطبة الله تعالى هو الذي من أجله كانت – أي الفاتحة – واجبة التلاوة في كل ركعة من ركعات الصلاة ؛ لأن الصلاة وقوف بين يدي الديان، واتجاه إلى حضرته العلية، ومشاهدة روحية.
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ( إيا ) ضمير منفصل أصله بمقتضى السياق العادي ( نعبدك ) فلما قدم الضمير المنفصل، و( الكاف ) حرف للدلالة على الخطاب، كما أن ( الهاء ) للدلالة على الغيبة في قوله :( إياه ) و( الياء ) دلالة على المتكلم، و( إيانا ) دلالة على المتكلمين، وهكذا. وقيل إن ( الكاف ) وأخواتها أجزاء من الضمير، وهو اختلاف إعرابي لا جدوى فيه في مقامنا هذا. والعبادة أكمل أنواع الخضوع، والتذلل لله تعالى، ولا تكون لغير الله تعالى، فهو وحده المعبود بحق، فلا يعبد سواه، وإن دوام العبادة والاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع وخضوع لله وتذكر مقام الله العلي الأعلى، وحضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى، مع الإحساس بأنه – سبحانه – يراه.
إن دوام العبادة على هذا النحو تولد في نفسه صدق العبودية، فيحس في كل أحواله بأنه لله، ويحب الشيء لا يحبه إلا لله، ويكون ربانيا، مستجيبا لأمر الله :﴿ كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ... ٧٩ ﴾ [ آل عمران ].
والاستعانة طلب العون من الله تعالى، مستحضرا ما في الذات العلية من صفات الربوبية، والرحمة، والسلطان المطلق يوم الجزاء ؛ إذ لا سلطان في يوم الدين لأحد سواه، وقد جاء ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ قبل ﴿ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ؛ لأن العبادة حق الله تعالى، والتقدم إليه بالخضوع الذي لا خضوع مثله، والاستعانة حق العبد أو طلبه العون له، فما هو حق أوثق وأولى بالتقديم، ولكن يجب أن نلاحظ أن الاستعانة والضراعة إلى الله تعالى، وإفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا، كما هو طلب من الله ؛ لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة في حد ذاته، حتى روي :( الدعاء مخ العبادة )٢، وكما قال تعالى :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ٢٠٥ ﴾ [ الأعراف ] وإطلاق الاستعانة من غير متعلق بذكر المستعان عليه من الأمور دال على أنه يستعين الله تعالى في كل أمور حياته. والاستعانة هي نوع من استصغار حاله بجوار عظمة الله تعالى، وافتقاره إليه تعالى، وأنه محتاج إليه دائما، و لا يركبه غرور الحياة والضلال في أن يقر بنفسه الغرور، وهو استجابة وفهم لقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ١٥ ﴾ [ فاطر ].
وإن من أعلى أبواب الاستعانة، الاستعانة بالله تعالى على أداء الواجبات والقيام بفروض الله تعالى، فهو يستعين بالله تعالى على أداء واجب العبادة ليصل إلى درجة العبودية، ويكون ربانيا.
وتقديم ﴿ إِيَّاكَ ﴾ على ﴿ نَعْبُدُ ﴾ وَ ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ لتعظيم الله تعالى بذكره أولا، ولأن التقديم للاهتمام بالمعبود والمستعان ؛ وللدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو المختص بالعبادة وحده، وأنه لا يستعان بغيره، وفي ذلك كمال التوحيد والخضوع له وحده سبحانه وتعالى، ولقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك.
فتقديم إياك كما في قوله تعالى :﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ٤٠ ﴾ [ البقرة ] وقوله سبحانه :﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ٤١ ﴾ [ البقرة ] وتكرار ﴿ إِيَّاكَ ﴾ في ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾، لبيان التباين بينهما، وأن ذلك حق الله، وأن هذا طلب من العباد، ولتكرار النص على تخصيص ذلك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
وأول الاستعانة طلب الهداية ؛ ولذلك قال تعالى :
٢ أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات (٣٣٧١) عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
بعد أن ذكر دعاء العباد لربهم باختصاصه بالعبادة، طلب الاستعانة بالله تعالى في كل شيء مرغوب فيه محمود غير مذموم، وذكرت الاستعانة متجهة إلى الله تعالى من غير الباء، إذ هي تتعدى بها، فيقال استعان به، وتركت الباء للتوجه إلى الله تعالى من غير توسط، ولو كان توسطا لفظيا بحرف الباء، والتوجه إلى الله وحده بحيث يواجه الذات العلية بإشراف النفس من غير رؤية ولا حس إلا أن يكون روحيا.
وقد ذكر أعلى مراتب الاستعانة، وهي التي لا تكون لأمور تتعلق بالرغبات الدنيوية ولو كانت في الحلال، بل أعلاها ما يتعلق بالنفس وهدايتها، فقال سبحانه على لسان المتقين :﴿ اهدِنَا ﴾ ومجيء ذلك في كتاب الله تعالى وبقوله الحكيم تعليم وتربية للنفس المؤمنة أن استعانتها بالله تعالى تكون أولا بطلب الهداية من الله، وقوله تعالى على ألسنة عباده المتقين :﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ هو دعاء من العباد لربهم بأمره سبحانه، وذلك تجل من الله العلي الأعلى بالإرشاد والتعليم فقوله تعالى :﴿ اهدِنَا ﴾ والدعاء ذاته عبادة كما روينا عن الرسول صلى الله عليه وسلم :( ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء )١.
دعاؤهم بطلب الهداية، و الهداية ذات مراتب يعلو بعضها فوق بعض..
المرتبة الأولى : أن يملأ سبحانه وتعالى نفوسهم وقلوبهم بالحق يميلون نحوه، ويتجهون إليه، أن يكونوا ممن كتبت عليهم التقوى، وأن تكون هدايتها إلى نجد الخير، وقد قال، وقوله الحق :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ١٠ ﴾ [ البلد ] وقال سبحانه :﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ٧ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ٨ ﴾ [ الشمس ]، وذلك ليكونوا ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه.
والمرتبة الثانية : بعد أن تصغي قلوبهم إلى الحق وتنفتح بقوله والنظر في بيناته وهي إقامة الدلائل على الحق ليتبعوه عن بينة، أو تنفتح نفوسهم وعقولهم لقبول ما تدل عليه آيات الكون وأدلة الحق وهي أماراته، بل بيناته من سماء ذات أبراج، وأرض ذات جبال كالأوتاد، وزروع وثمار، ذات بهجة للناظرين، وأن يتدبروا في ملكوت الله تعالى وخلقه فينظروا نظرة الإدراك والاعتبار كما قال تعالى :﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ١٧ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ ١٨ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ١٩ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ٢٠ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ٢١ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ٢٢ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ٢٣ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ٢٤ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ٢٥ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ٢٦ ﴾ [ الغاشية ].
هذه هي المرتبة الثانية من الهداية : وهي أن يهديهم سبحانه إلى مواضع العبر والاستدلال في آياته الكبرى في خلق السماء والأرض وما بينهما، وفي آياته الكونية، ما دق منها وما جل، فهو خالق كل شيء.
أما المرتبة الثالثة : فهي إرسال الرسل هداة مبشرين ومنذرين، ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ٢٤ ﴾ [ فاطر ] وإن إرسال الرسل للهداية والإرشاد، وتبليغ رسالته، إنما هو لكيلا يكون على الله حجة بعد الرسل، فهو بعد أن يخلق الخلق على الفطرة المستقيمة، والاستعداد للعلم بالوجود، وما فيه من أدلة على منشئ الوجود، ثم يؤيد العلم الفطري بعلم كسبي وهو علم النبوة الذي يجيء به رسول مبين يدعو إلى الهدى بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم.
والمرتبة الرابعة : مرتبة الوحي والكشف وتعليم الله تعالى لخلقه، وهو ما يكون للرسل الكرام دعاة الحق و الهداية إليه، فهداية الله تعالى بالوحي، أو إرسال رسول أو أن يكلمه الله تعالى من وراء شيء من خلقه، كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا... ٥١ ﴾ [ الشورى ].
وهكذا هداية الله تعالى تبتدئ من هداية النفس والعقل إلى الحق وطلبه، ثم الإدراك للآيات البينات الدالة على واجب الوجود، ثم هداية الله تعالى بالرسل يرسلهم ليكونوا للعالمين نذيرا، ثم هداية الله تعالى بما يكون لرسله المصطفين الأخيار.
﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ ﴾ إن هدى تتعدى بإلى و باللام كقوله تعالى :﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ٢٤ ﴾ [ الحج ] وكقوله تعالى :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٢ ﴾ [ البقرة ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ... ٩ ﴾ [ الإسراء ].
ولكن هنا لم يتعلق قوله تعالى :﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ ب ( اللام ) ولا ب ( إلى ) ولذلك حكمة بيانية، وذلك أنها تضمنت معنى الهداية باختيار خير عاقبة، فتضمنت الهداية معنى الاختيار، ويكون المعنى اهدنا مختارا لنا في هدايتك الصراط المستقيم. و ( اختيار ) تتعدى بنفسها من غير أداة جر كما قال :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ﴾ [ الأعراف ].
والصراط معناه الطريق الجدد أو الجادة، وقالوا إنه ( السراط ) بالسين، وبذلك قرئت في بعض القراءات المتواترة، وقالوا : إن الأصل في السراط الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يبتلع من يسلكه لاتساعه، وأنه جادة متسعة، لا يبين سالكها وقد وصف بأنه المستقيم لأن المستقيم أقرب خط بين نقطتين، فهو أقرب موصل للغاية المرجوة.
والمعنى على هذا : اختر لنا يا رب العالمين أقرب طريق متسع يوصل إلى ما يرضيك، وهو غايتنا، ومطمعنا و رجاؤنا، والصراط المستقيم هو طريق الله الذي أمر بإتباعه، فقد قال تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ... ١٥٣ ﴾ [ الأنعام ] فهم يطلبون أن يهديهم الله تعالى إلى هذا الطريق المستقيم وهو صراط الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين.
هذا بيان للصراط المستقيم، أي المستوى الذي لا اعوجاج فيه، وهو معبد لا يقف السائر فيه بعثرة يعثرها و لا بحجارة تدعثره، فإعراب ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ بدل من ﴿ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾، يعمل فيها عامله ﴿ اهدِنَا ﴾ فمعنى النص الكريم اهدنا طريق الذين أنعمت عليهم.
وأصل النعمة ما يستلذه الإنسان أو يستطيبه، ولكنها هنا تفسر بأنها المنفعة التي تدوم، ويستطيبها القلب، سواء أكانت عاجلة أم آجلة، وسواء أكانت دنيوية أم كانت أخروية، وسواء أكانت مادية أم كانت روحية، وإن نعم الله تعالى على عباده لا يحصيها العد ولا يحيط بها الحصر، كما قال تعالى :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا... ٣٤ ﴾ [ إبراهيم ] فهناك نعمة الخلق الإنساني القويم والتكوين الجسمي السليم الذي يوجد أحيانا الغرور عند غير المؤمنين، كما قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ٦ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ٨ ﴾ [ الانفطار ].
ومن النعم أن يمكنه من زخارف الحياة من لباس حسن يلبسه، وزخرفة باهرة يزخرف بها مسكنه، وطيب رائحة يطيب بها نفسه، ويقبل بها على جمعه، فهذه نعم ظاهرة و باطنة، فإن آمن بالنعم وشكر له، فإنها نعمة، وإن غره الغرور، وفاخر بها، واستطال على الناس فإنها عند الله النقمة.
و من النعم أن يحس بإشراق النفس و إخلاص القلب، و الاتجاه إلى الله تعالى، وأن يكون مستقيم الفكر، نير المدارك، ولا يضل، بل يهتدي بما أنعم، ومن النعم نعمة الإخلاص في القول والصدق فيه، وأن يعمل العمل، لا يعمله إلا لله، وأن يراقب الله في سره وجهره وعمله، حتى يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله )١.
إذا كان المؤمن كذلك يكون ممن هداه الله إلى صراط الذين أنعم عليهم، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ٦٩ ﴾ [ النساء ].
﴿ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ المغضوب عليهم هم الذين ينزل عليهم غضب الله، ووراء غضبه عذابه إلا أن يتغمدهم الله برحمته فيتوبوا، والتوبة تجب ما قبلها، وبذلك لا يكون من المغضوب عليهم، بل ينخلعون منهم، وإنما الأعمال بخواتمها، وإنما المغضوب عليهم هم من انتهوا إلى ألا يتوبوا، وألا ينتهوا عما يوجب غضب الله تعالى.
والذين ينطبق عليهم غضب الله تعالى لدوام شرهم، وبقاء فسادهم حتى يلقوا ربهم، وهم على هذه الحال – الكافرون سواء أكانوا وثنيين، وكثير ما هم في الماضي والحاضر، أم كانوا من الذين أوتوا الكتاب كاليهود – لعنهم الله – ونصارى بولس الذين يعبدون المسيح، وهو بريء منهم، هؤلاء هم المغضوب عليهم ولا ريب في نزول غضب الله تعالى بهم إلى يوم القيامة ﴿ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم... ١٤ ﴾ [ المجادلة ].
والضالون قال بعض العلماء إنهم النصارى لقوله تعالى :﴿ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ٧٧ ﴾ [ المائدة ] وإنه لينطبق عليهم بلا ريب وصف الضالين ؛ لأنهم عند تخليهم عن مبادئ المسيح أضلهم بولس وأشباهه، فضلوا، ثم أضلوا غيرهم من بعدهم، وكفروا بما جاء به المسيح، وضلوا ضلالا بعيدا، وكفروا، ولا يزالون يتيهون في أوهامهم، كما توهموا وأوهموا فيما سموه رؤية العذراء، وكذبوا وافتروا، وحاولوا الإضلال كثيرا.
ومع انطباق الضلال والتضليل عليهم أولى بهم ثم أولى أن يكونوا ممن غضب الله تعالى عليهم، فغضب الله تعالى يحيط بهم من كل جانب ؛ ولذلك نرى أن يدخلوا فيمن غضب الله تعالى عليه، ويصح أن نقول : إن فيهم الأمرين، فهم مغضوب عليهم وهم يضلون، ويضلون كثيرا إلى اليوم كما رأيت في أمر العذراء.
والضالون كما تدل الآية الكريمة هم الذين في حيرة من أمر اعتقادهم، لا يهتدون إلى عقيدة يطمئنون إليها ويستقرون عليها، وليسوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.. ولقد قيل أنهم المنافقون الذين ينطبق عليهم ذلك الوصف، وتلك الحال المضطربة. ولقد يكون ذلك من ناحية حالهم قريبا في ذاته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بالاضطراب والحيرة، فقال صلى الله عليه وسلم :( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، إلى أيهما تذهب )٢، فالمنافق ضال حائر، لا يستقر على قرار، ولا يطمئن إلى إيمان أو كفر، والمنافقون كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء... ١٤٣ ﴾ [ النساء ].
وهم أيضا موضع غضب الله تعالى ؛ لأنهم كفار كإخوانهم المغضوب عليهم، ولكنهم اختصوا بأنهم ليس لهم اعتقاد، فالمشركون لهم اعتقاد باطل، وكذلك النصارى واليهود يعتقدون اعتقادا باطلا ليس لهم سلطان ولا حجة في اعتقادهم.
٢ رواه مسلم في صفات المنافقين (٢٧٨٤)، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (٥٠٥٩) والنسائي: كتاب الإيمان وشرائعه (٥٠٣٧)..