تفسير سورة الفاتحة

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .
سوره الفاتحة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

القول في البسملة
أجمع العلماء على أن البسملة بعض آية [٣٠] من سورة النمل، ثم اختلف القراء والعلماء فيها أهي آية من أول الفاتحة ومن أول كل سورة. أم لا؟ وسنذكر أقوال المختلفين، ومأخذ كل فريق.
كتب المصحف الإمام، وكتبت فيه البسملة في أول الفاتحة، وفي أول كل سورة عدا سورة براءة، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه، وتواتر كتبها في أوائل السور، مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن، وكانوا يتشددون في ذلك، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير ومن أسماء السور ومن الإعجام، وما وجد من ذلك أخيرا فقد كتب بغير خط المصحف وبمداد غير المداد، حفظا للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه.
روى عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول: «الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم»
وحديث أبي هريرة روي مرفوعا وموقوفا، وفيه اضطراب في السند، وفي رفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١».
وأخرج ابن خزيمة في «صحيحه» عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية
. وفي إسناده عمر بن هارون البلخي، وفيه ضعف «٢».
روى الترمذي وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم
. قال الترمذي: وليس إسناده بذلك «٣».
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى، بيروت دار الكتب العلمية ١٩٩٤ (٢/ ٦٧).
(٢) انظر نصب الراية تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، ط ١، بيروت، دار الكتب العلمية ١٩٩٦. كتاب الصلاة باب المواقيت (١/ ٤٢٧) تخريجا مفصلا للحديث.
(٣) رواه أبو داود في السنن (١/ ٢٩٧)، كتاب الصلاة، ٢٥- باب من لم ير الجهر حديث رقم (٧٨٣)، والترمذي في الجامع الصحيح (٢/ ١٤) حديث رقم (٢٤٥).
11
«كانت قراءته مدا، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) يمدّ بسم الله، ويمدّ الرحمن، ويمدّ الرحيم» «١».
وكان ذلك يوجب أن يقول الأئمة الآخرون بمثل ما قال الشافعي، لأن ذلك هو الطريق الذي علمت به قرآنية ما بين دفتي المصحف، وأن هذه الآية من هذه السورة، وتلك من تلك.
ولكن عرض لمالك رحمه الله رأي: أن أهل المدينة لا يقرؤون البسملة في صلاتهم في مسجد المدينة، وجرى العمل على ذلك في الصلاة من أيامه صلّى الله عليه وسلّم إلى أيام الإمام مالك رضي الله عنه، مع قيام الدليل عنده على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فلو كانت آية من الفاتحة لوجبت قراءتها معها في الصلاة.
وقوّى ذلك عنده عدة أحاديث يفهم منها أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أوائل السور، وإليك بعض هذه الأحاديث:
جاء في «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين «٢».
وفي «الصحيحين» عن أنس قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين.
ورواه مسلم بلفظ: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها «٣».
ومن الدليل على أنها ليست آية من الفاتحة
حديث سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى:
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) قال الله تعالى:
أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) قال: مجدني عبدي، وقال مرة:
فوّض إليّ عبدي فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ١٣٦)، ٦٦- كتاب فضائل القرآن، ٢٩- باب مد القراءة حديث رقم (٥٠٤٦).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٣٥٧)، ٤- كتاب الصلاة، ٤٦- باب ما يجمع صفة الصلاة حديث رقم (٢٤٠/ ٤٩٨).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (١/ ٢٠٣)، ١٠- كتاب الأذان، ٨٩- باب ما يقول بعد التكبير حديث رقم (٧٤٣)، ومسلم في الصحيح (١/ ٢٩٩)، ٤- كتاب الصلاة، ١٣- باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة حديث رقم (٥٢/ ٠٠٠).
12
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧). قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «١».
هكذا فهم مالك رضي الله عنه من هذه الأحاديث أنّ البسملة ليست آية من الفاتحة، واحتمل عنده أن يكون كتبها في أوائل السور امتثالا للأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور، وهي وإن تواتر كتبها في أوائل السور فلم يتواتر كونها قرآنا فيها.
وأما الحنفية: فقد رأوا أن كتبها في المصحف يدل على أنها قرآن، ولكن لا يدل على أنها بعض السورة، والأحاديث التي تدل على عدم قراءتها جهرا في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست منها، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة في غير سورة النمل [٣٠] أنزلت للفصل بين السور، وإلى هذا يشير
الحديث الذي أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يعرف فصل السورة حتى أنزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) وأخرجه الحاكم في «المستدرك» «٢».
وهذا المذهب قريب، لأن كتبها في المصحف، وتواتر ذلك دون نكير من أحد مع العلم بأنهم كان يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآنا، يدل على أنها قرآن.
والأحاديث التي تبيّن أنها ما كانت تقرأ مع الفاتحة في الصلاة جهرا تدل على أنها ليست من الفاتحة، وكذلك ما
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوله: «سورة من القرآن، هي ثلاثون آية شفعت لقارئها وهي: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» «٣»
، وقد أجمع القرّاء والعدّادون على أنها ثلاثون آية عدا البسملة، وكذلك سورة الكوثر اتفقوا على أنها ثلاث آيات ليست البسملة منها «٤».
وذلك يدل على أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) ليست إحدى آيات هاتين السورتين، ولا فارق بين سورة وأخرى، فلا تكون آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور. ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام، والعرب كانت ترى التفنن في البلاغة، لا سيما في افتتاحاتها، فلا يظن بالقرآن أن يأتي بآية بعينها، ويجعلها أوّل كل سورة.
وقول المالكية: لم يتواتر كونها قرآنا، فليست بقرآن، غير ظاهر، لأنه ليس
(١) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٢٩٦)، ٤- كتاب الصلاة، ١١- باب وجوب قراءة الفاتحة حديث رقم (٣٨/ ٣٩٥).
(٢) انظر كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري في كتاب الصلاة، باب من جهر بها حديث رقم (٧٨٨).
(٣) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ١٥١)، كتاب الفضائل، باب ما جاء في فضل سورة تبارك حديث رقم (٢٨٩١).
(٤) لكن هذا خلاف ما رواه مسلم في الصحيح (١/ ٣٠٠)، ٤- كتاب الصلاة، ١٤- باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة حديث رقم (٥٣/ ٤٠٠).
13
بلازم أن يقال في كل آية هي قرآن ويتواتر ذلك، بل قرائن الأحوال تكفي في مثل ذلك، فإذا استدعى النبي صلّى الله عليه وسلّم كاتب الوحي، وطلب منه أن يكتب في المصحف كذا، وأن يضع كذا في موضع كذا، كان ذلك دليلا على أن ما أمر بكتبه قرآن، وإن لم يصرح بأنه من القرآن، وهل البسملة إلّا كذلك «اجعلوها في أول كل سورة».
واختلفوا في حكم قراءة البسملة في الصلاة، فذهب مالك رحمه الله إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة، جهرا كانت أو سرّا، لا في استفتاح أم القرآن، ولا في غيرها من السور. وأجاز قراءتها في النافلة وقال أبو حنيفة «١» رضي الله عنه: يقرؤها سرّا مع أم القرآن في كل ركعة، وروي عنه أنه يقرؤها في الأولى فقط وقال الشافعي وأحمد: يقرؤها وجوبا، في الجهر جهرا، وفي السر سرّا.
وسبب الخلاف ما قدمناه في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) أهي آية من أول الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟ وشيء آخر وهو اختلاف الآثار في هذا الباب، فمن ذهب إلى أنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة كالشافعي أوجب قراءتها مع الفاتحة، ومن ذهب إلى أنها ليست آية من الفاتحة، واعتمد الأحاديث الدالّة على عدم قراءتها في الصلاة منع من قراءتها كالإمام مالك. ومن رأى أنها ليست من فاتحة الكتاب، ولكنه صحت عنده الأحاديث التي تدل على قراءتها سرّا طلب قراءتها سرّا كأبي حنيفة رحمه الله. فأما الآثار التي تدل على إسقاط البسملة: فمنها
حديث ابن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) فقال: يا بني! إياك والحدث، فإني صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فلم أسمع رجلا منهم يقرؤها
. قال أبو عمر ابن عبد البرّ: ابن مغفل هذا رجل مجهول «٢». ومنها ما رواه مالك من حديث أنس أنه قال: قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كان لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) إذا افتتح الصلاة «٣».
وفي بعض الروايات: أنه قام خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١).
قال أبو عمر: إن أهل الحديث قالوا في حديث أنس هذا: إن النقل فيه مضطرب اضطرابا لا تقوم به حجة، وذلك أنه مرّة روي عنه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومرّة لم يرفع. ومرّة ذكر عثمان ومرة لم يذكر، ومنهم من يقول: فكانوا يقرؤون بِسْمِ اللَّهِ... ومنهم من يقول فكانوا لا يقرؤون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)، ومنهم من يرويه بلفظ: فكانوا لا يجهرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١).
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ط ١، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٩٩٠ (١- ٢/ ٥٢). [.....]
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٢/ ١٢)، من باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم حديث رقم (٢٤٤).
(٣) رواه الإمام مالك في الموطأ صفحة (٤٥)، باب العمل في القراءة حديث رقم (١٧٥).
14
وأما الأحاديث المعارضة لهذا منها:
حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: صليت خلف أبي هريرة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) قبل أم القرآن، وقبل السورة، وكبّر في الخفض، والرفع. وقال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١»
. ومنها
حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم «٢».
ومنها
حديث أم سلمة أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) «٣».
شرح المفردات
الاسم: هو اللفظ الموضوع على الجوهر والعرض، وهو مشتق من السمو، وهو الرفعة، لأن التسمية تنويه بالمسمّى، فهو محذوف اللام: ك: (يد، ودم) وأصله (سمو) بدليل تصغيره على (سميّ) وجمعه على (أسماء) ومجيء فعله (سميت).
الله: علم على واجب الوجود، وأصله الإله، حذفت الهمزة، وأدغم أحد المثلين في الآخر كقول القائل:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنّ إيّاك لا أقلي
الأصل (لكن أنا) حذفت الهمزة، وأدغم أحد المثلين في الآخر، وهو مأخوذ من أله يأله إلهة أي عبد. وقال الخليل «٤» : إنه اسم جامد لا اشتقاق له، وقال بعضهم: إنه معرّب عن السريانية أصله فيها (إلاها) بالألف، عرّب بحذف الألف، وتعويض اللام.
الرحمن: فعلان من رحم، وهو الذي وسعت رحمته كل شيء، كغضبان للممتلىء غضبا.
الرحيم: فعيل منه. وفي (الرحمن) من المبالغة ما ليس في (الرحيم)، لأن زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، وفي (الرحمن) زيادتان، وفي (الرحيم) زيادة واحدة.
وقد وقال بعضهم: (الرحمن) : المنعم بجلائل النعم، و (الرحيم) المنعم بدقائقها.
وقال بعضهم: (الرحمن) : المنعم بنعم عامة تشمل المؤمنين والكافرين، و (الرحيم) :
المنعم بنعم خاصة بالمؤمنين، وهذا قول في اللغة بلا دليل، وكأن الذي حملهم على
(١) انظر تفصيله في نصب الراية للزيلعي، كتاب الصلاة، باب صفة الصلاة (١/ ٤٠٠).
(٢) سبق تخريجه صفحة ١٤.
(٣) سبق تخريجه صفحة ١٤.
(٤) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي: من أئمة اللغة والأدب، واضع علم العروض وسيبويه تلميذه وناقل علمه توفي (١٧٠ هـ) في البصرة. انظر الأعلام للزركلي ط ٧، بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٨٦ (٢/ ٣١٤).
15
هذا تلك القاعدة: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا، فصفة الرحمن تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء أكان جليلا أم دقيقا، وليس المعنى أن أفراد الإحسان التي يدل عليها لفظ (الرحمن) أكثر من أفراد الإحسان التي يدل عليها لفظ (الرحيم)، وقال بعضهم: إنهما مترادفان. وقد فرّق ابن القيم «١» بينهما بفرق حسن، فذكر أن الرحمن دالّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنّ الأول الوصف والثاني الفعل، لذلك ورد وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: ٤٣] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: ١٢٨] لم يجئ مطلقا رحمن بهم- أه والرحمن وصف خاصّ بالله لا يطلق على غيره بخلاف رحيم.
والجار في بِسْمِ متعلق بمحذوف يقدّر هاهنا (أقرأ). فإن قيل: إن المتعلق هنا كون خاص وهو لا يحذف. قيل: إنه يجوز حذفه لدليل، وهو هنا حالي، إذ حينما يقرأ البسملة، ويأخذ بعد ذلك في القراءة يعلم المتعلّق، وإنه (أقرأ). وكذا المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال (بسم الله) علم المتعلّق، وهو (أحل) أو (أرتحل) وكذا كل فاعل فعل يقول: (بسم الله) يضمر ما جعل التسمية مبدأ له، ويعلم السامع ذلك من دلالة الحال.
والمعنى: ومعنى أقرأ بِسْمِ اللَّهِ أقرأ مستعينا باسم الله، وهنا محل بحث، وهو أنه إذا كان الأمر على ما وصفنا، فكان ينبغي أن يقال: (بالله) لا (باسم الله)، لأن الاستعانة إنما هي بالله لا باسمه. وقد اختلف الناس في الخروج من هذا، فذهب بعضهم إلى أن لفظ (اسم) مقحم كقول الشاعر «٢» :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
أي: ثم السلام عليكما. وذهب آخرون إلى أن الاسم عين المسمّى.
وذهب ابن جرير الطبري «٣» إلى أن اسم في بِسْمِ اللَّهِ المراد به الحدث، أي بذكر الله أقرأ، وقد عمل وإن كان ليس جاريا على حروف فعله كقوله:
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي وبعد عطائك المائة الرتاعا «٤»
وقال المتأخرون: الباء للمصاحبة، والغرض مصاحبة اسم الله في القراءة تبركا،
(١) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، تلميذ ابن تيمية وهو الذي هذّب كتبه ونشر علمه، وسجن معه، انظر الدر الكامنة لابن حجر (٣/ ٢٤٣) ترجمة (٣٧٠٠).
(٢) هو لبيد بن ربيعة انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (١/ ٦٢).
(٣) محمد بن جرير الطبري نسبة إلى طبرستان توفي في بغداد (٣١٠ هـ)، انظر شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي، بيروت دار الفكر ١٩٩٤ (٢/ ٢٦٠).
(٤) الرّتاع: الرعي في الخصب، انظر لسان العرب لابن منظور، ط ١، بيروت دار صادر، ١٩٥٥ (٨/ ١١٣).
16
وقال أبو بكر الجصاص «١» : إن المتعلق يحتمل أن يكون خبرا، وأن يكون أمرا، فإذا كان خبرا كان معناه: أبدأ باسم الله، وإذا كان أمرا كان معناه: ابدؤوا باسم الله.
قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
شرح المفردات
الحمد: الثناء باللسان على الجميل من نعمة وغيرها، فيقال: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على شجاعته، وهو كالمدح في ذلك، وأما الشكر فعلى النعمة خاصّة، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال الشاعر:
أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة... يدي ولساني والضمير المحجّبا
ربّ: يطلق في اللغة على معان: منها السيد المطاع، ومنها المصلح للشيء، ومنها المالك للشيء، يقال: رب الضيعة، ورب المال، قال صفوان لأبي سفيان: لأن يربّني رجل من قريش، أحبّ إليّ من أن يربني رجل من هوازن.
العالمين: جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه، كالرهط، وهو اسم لأصناف الأمم، فكل صنف منها عالم، وأهل كل قرن منها عالم ذلك القرن، والأنس عالم، وكل أهل زمان فهم عالم ذلك الزمان، والجن عالم، وكذا سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالم زمانه. لذلك جمع فقيل: عالمون، ليشمل أصناف الأمم في كل زمان.
وقيل: هو اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين. وقيل: كل ما علم به الخلق من الأجسام والأعراض.
الدين: الجزاء، ومنه قولهم: كما تدين تدان، وقول الشاعر «٢» :
ولم يبق سوى العدوا... ن دنّاهم كما دانوا
وقرئ: مالك «٣» وملك «٤». وإضافته إلى (يوم) على التوسع، كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار.
(١) أحمد بن علي أبو بكر الرازي الإمام الكبير المعروف بالجصاص من أهل الري توفي سنة (٣٧٠ هـ) انظر شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن عماد الحنبلي دار الفكر، بيروت (٣/ ٧١).
(٢) هو شهل بن شيبان الحنفي (الفند الزماني) انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (١/ ٧١).
(٣) قراءة عاصم ويعقوب والكسائي.
(٤) قراءة السبعة الباقيين. [.....]
17
المعنى: مالك الأمر في يوم الدين.
معنى الآيات: الثناء والشكر لله- دون ما يعبد من دونه- بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح، وهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.
ويجوز أن يراد من الرب أيّ معنى من معانيه الثلاثة المتقدمة. فهو السيد الذي لا يبلغ سؤدده أحد، والمصلح أمر خلقه بما أودع في هذا العالم من نظام يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الحيوان والنبات. فمن شمس لولاها ما وجدت حياة ولا موت، ومن مياه بها حياة الحيوان والنبات، ومن أعضاء للغداء الذي به قوام الفرد، وأخرى للتناسل الذي به قوام النوع، وأخرى للسمع والأبصار، ومعنى ملك يوم الدين (٤) أن لله الملك خالصا يوم الدين دون هؤلاء الملوك الجبابرة الذين كانوا ينازعونه العزة والجبروت في الدنيا، كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) [غافر: ١٦].
وأما تأويل قراءة ملك يوم الدين (٤) فكما قال ابن عباس: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: ٣٨] وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: ١٠٨].
وقد يخطر سؤال عند قراءة الفاتحة، وهو: أحمد الله نفسه؟ وأثنى عليها؟
وعلّمنا ذلك؟ أم ذلك من قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو جبريل؟ فإن كان الأول، فما معنى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) والله معبود لا عابد؟ فإن كان الثاني فقد بطل أن تكون الفاتحة كلام الله، والجواب: أن الفاتحة من كلام الله، وهي على معنى قولوا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ... وقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.... فإن قيل: وأين قوله قولوا؟ قيل:
إن العرب من شأنها إذا عرف السامع مكان الكلمة حذفها. واكتفت بدلالة ما ظهر من منطقها على ما حذف، كقوله: فقال السائلون: لمن حفرتم؟... فقال المخبرون لهم: وزير
وأعلم أنني سأكون رمسا إذا سار النواعج «١» لا يسير
أي الميت وزير، فأسقط الميت إذ قد أتى الكلام بما يدل عليه. وإنما قال:
الحمد لله دون أحمد الله أو حمدا لله، لأنه لو قال ذلك لدل على حمد التالي لله، مع أن الغرض أن جميع المحامد والشكر الكامل لله، وهذا هو ما يؤديه الحمد لله.
وقال صاحب «الكشاف» «٢» : عدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء، مع
(١) الخفاف من الإبل، انظر لسان العرب لابن منظور (٢/ ٣٨٠).
(٢) محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، ولد بزمخشر توفي سنة (٥٣٨ هـ) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (٢٠/ ١١٥) ترجمة (٩١).
18
أن الأصل النصب، للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، لأن الرفع دالّ على ثبات السلام لهم دون تجدده وحدوثه.
قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) نعبد: نذلّ ونخشع ونستكين، لأن العبودية معناها الذلّة، ومنها قولهم: طريق معبّد، أي: مذلل وطئته الأقدام، وذللته السابلة. وقولهم: بعير معبّد، أي مذلل بالركوب في الحوائج، وسمّي العبد عبدا لذلته لمولاه. وقال صاحب «الكشاف» :
العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج. ولذلك لم يستعمل إلا في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم، فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع.
نستعين: نطلب المعونة، وقدم المفعول فيها ليفيد الحصر.
المعنى: لك اللهم نذل ونخضع لا لسواك، وإياك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك، وفي أمورنا كلها، لا أحدا سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين بسواك، وقد جرى في أول السورة على الغيبة، ثم عدل إلى الخطاب، وهو نوع من الالتفات ليكون أدعى إلى نشاط السامع، لأنّ نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب يوقظ النشاط، ويحرك الهمة للاستماع.
قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧) اهدنا: وفقنا، وهو يتعدى بإلى وباللام، كقوله تعالى: اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: ١٢١] وقوله: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: ٤٣] وقد يحذف الحرف كقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ... على حد قوله:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ربّ العباد إليه الوجه والعمل
السراط: الجادة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه، كما سمّي لقما لأنه يلتقمهم، وقد تقلب سينها صادا لأجل الطاء، وقد تشمّ الصاد صوت الزاي، وقرئ بهن جميعا.
والعرب تستعير الصراط لكل قول أو عمل وصف باستقامة أو اعوجاج، والمراد به هنا طريق الحق وهو ملة الإسلام.
والضال: الحائد عن قصد السبيل، والسالك غير المنهج القويم. والمراد بالمغضوب عليهم والضالين: كل حائد عن صراط الإسلام. وقيل: المراد بالمغضوب
19
عليهم: اليهود، لقوله تعالى في وصفهم قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: ٦٠] والمراد بالضالين: النصارى، لقوله تعالى في وصفهم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) [المائدة: ٧٧].
آمين: اسم صوت سمي به الفعل الذي هو استجب، وفيه لغتان: القصر والمد في الألف، كقوله «١» : ويرحم الله عبدا قال آمينا، وقوله «٢» : أمين فزاد الله ما بيننا بعدا المعنى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) أي اهدنا إلى دينك الحق الذي لا يقبل من العباد غيره، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بطاعتك وعبادتك: من ملائكتك، وأنبيائك، والصديقين، والشهداء الذين هم لا مغضوب عليهم، ولا هم ضالون.
ومعنى طلب الهداية إلى الدين الحق والداعي مهتد إليه طلب زيادة الهدى أو الثبات وغَيْرِ الْمَغْضُوبِ إما أن تكون صفة للذين، وإما أن تكون بدلا منها، وإنما جاز كونها صفة مع أنها نكرة والموصوف معرفة لأن الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه كقوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني.
ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في غَيْرِ في هذا الموضوع الإبهام الذي أبى أن تتعرف بالإضافة، ودخلت لَا في قوله: وَلَا الضَّالِّينَ لما في غَيْرِ من معنى النفي، كأنه قيل: لا المغضوب عليهم ولا الضالين. ويدل على أن غَيْرِ في معنى لَا أنه يجوز أن تقول أنا زيدا غير ضارب، مع امتناع أنا زيدا مثل ضارب، وإنما جاز الأول، لأنه بمنزلة أنا زيدا لا ضارب.
حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة
اختلف العلماء في قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة فذهب بعضهم إلى وجوبها، وذهب بعضهم إلى عدم وجوبها، بل الواجب مطلق قراءة. وممن قال بذلك أبو حنيفة، وقد حدّ أصحابه ما يجب قراءته فقالوا: الواجب ثلاث آيات قصار أو آية طويلة. والقائلون بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة اختلفوا فمنهم من قال بوجوبها في كل ركعة، وقيل بوجوبها في أكثر الصلاة. وممن قال بالأول الإمام الشافعي والإمام مالك في أشهر الروايات عنه، وقد روي عنه أنه «إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته». وذهب الحسن البصري إلى أنها تجزئ في ركعة واحدة من الصلاة. وسبب
(١) صدر البيت: يا رب لا تسلبني حبها أبدا. والقائل هو قيس بن الملوح المشهور بمجنون ليلى.
(٢) جبير بن الأضبط، انظر المحرر الوجيز (١/ ٨٠).
20
الخلاف تعارض الآثار بعضها مع بعض، ومعارضة ظاهر الكتاب لبعضها.
أما الآثار التي تدل على وجوب قراءتها:
فحديث عبادة بن الصامت، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «١»
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج «٢» - ثلاثا- غير تمام» «٣».
أما ما يدلّ على عدم وجوبها، بل على قراءة ما تيسّر من القرآن
فحديث أبي هريرة أن رجلا دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليه السّلام وقال: «ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ» فصلى، ثم جاء، فأمره بالرجوع إلى فعل ذلك، ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره، فقال عليه الصلاة والسلام:
«إذا قمت إلى الصلاة فأسبع الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها» «٤».
وأما الكتاب فقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: ٢٠] فهذا يدل على أنّ الواجب أن يقرأ أيّ شيء تيسّر من القرآن، فهو يعارض حديث عبادة، ويعضد حديث أبي هريرة الأخير، لأن الآية في القراءة في الصلاة بدليل قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إلى قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] ولم يختلف الأئمة في أنّ ذلك في شأن الصلاة في الليل، وقد اعتمد المالكية والشافعية
حديث عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
وحملوا النفي على نفي الحقيقة، وكأنّهم رأوا الآية من المبهم والحديث من المعيّن، والمبهم يحمل على المعيّن.
أما الحنفية فرأوا أن الآية تفيد التخيير، وليست من باب المطلق، فإنّ معنى (ما تيسر) أيّ شيء تيسر، فالآية دلت على التخيير، فإذا جاء بعد ذلك معين يكون ناسخا ولا نسخ هنا. قالوا: وقد جاء حديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته معضّدا لما ذهبنا إليه.
(١) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٢٩٤)، ٤- كتاب الصلاة، ١١- باب وجوب قراءة الفاتحة حديث رقم (٣٤/ ٣٩٤).
(٢) الخداج أي النقصان، انظر لسان العرب لابن منظور (٢/ ٢٤٨).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٢٩٦)، ٤- كتاب الصلاة، ١١- باب وجوب قراءة الفاتحة حديث رقم (٣٨/ ٣٩٥).
(٤) رواه البخاري في الصحيح (١/ ٢٠٧)، ١٠- كتاب الأذان، ٩٥- باب وجوب القراءة للإمام حديث رقم (٧٥٧).
21
أما حديث عبادة بن الصامت فقد حملوه على نفي الكمال،
كقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» «١».
وأما
حديث: «فهي خداج»
فقالوا فيه: هو يدلّ لنا، لأن الخداج: الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان، لأنّها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان، لأنّ إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء.
أما سبب اختلاف من أوجب قراءتها في الكل أو في البعض فما في الضمير في قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» من احتمال عوده على كل أجزاء الصلاة أو بعضها.
الأحكام التي تؤخذ من الفاتحة
قد أسلفنا أن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) على تأويل قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) بدليل قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإنه على تأويل قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حتما، فعلمنا أن الأمر وهو (قولوا) مضمر في ابتداء السورة أيضا، وذلك يقضي أن الله أمرنا بفعل الحمد، وعلمنا كيف نحمده، وكيف نثني عليه، وكيف ندعوه.
ومما يؤخذ منها من آداب الدعاء أنه ينبغي أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ليكون ذلك أدعى إلى الإجابة، إذ إن الله قدّم حمده والثناء عليه بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) على الدعاء وهو قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) ا. هـ.
(١) رواه الدارقطني في سننه (١/ ٣٢١) وهو ضعيف.
22
Icon