قال الملوي : وكان النبي صلى الله عليه وسلم [ يحبها-٢ ] لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخيرات- مقصودها إيجاب٣ التنزيه للأعلى٤ سبحانه وتعالى عن أن يلحق ساحة٥ عظمته شيء من ٦شوائب النقص٧ كاستعجال في أمر من إهلاك الكافرين أو غيره أو العجز عن البعث أو إهمال الخلق سدى يبغي بعضهم على بعض بغير حساب، أو أن يتكلم بما [ لا-٨ ] يطابق الواقع أو بما يقدر أحد أن يتكلم بمثله كما أذنت بذلك٩ الطارق مجملا وشرحته هذه مفصلا، وعلى ذلك دل كل من اسميها سبح والأعلى ﴿ بسم الله ﴾ الذي له العلى كله فلا نقص يلحقه ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم جوده، فكل١٠ موجود هو الذي أوجده وكل حيوان هو الذي يربيه ويرزقه ﴿ الرحيم* ﴾ الذي [ من-١١ ] كان من حزبه فإنه يلزمه الطاعة وييسرها له١٢ ويوفقه١٣.
٢ زيد من ظ و م..
٣ من ظ و م، وفي الأصل: إيجاد.
٤ من ظ و م، وفي الأصل: للعلى الأعلى..
٥ من ظ و م، وفي الأصل: بساحة..
٦ من ظ و م، وفي الأصل: الشوائب..
٧ من ظ و م، وفي الأصل: الشوائب..
٨ زيد من ظ و م..
٩ زيد في الأصل: سورة، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها..
١٠ زيد في الأصل: بكل..
١١ زيد من ظ و م..
١٢ من ظ و م، وفي الأصل: لها..
١٣ من ظ و م، وفي الأصل: يرفق به انتهى..
ﰡ
ولما كان الإنسان محتاجاً في أن تكون حياته طيبة ليتمكن مما يريد إلى ثلاثة أشياء: كبير ينتمي إليه ليكون له به رفعة ينفعه بها عند مهماته، ويدفع عنه عند ضروراته، ومقتدى يربط به نفسه عند ملماته، وطريقة مثلى ترتكبها كما أشار إليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رضيت بالله رباً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً وبالإسلام ديناً» أرشده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن الانقطاع إليه أعلى الجاه، فقال واصفاً لمن أمره بتسبيحه بإثبات ما له من الواجبات بعد نفي المستحيلات كما أشار إليه «سبحانك وبحمدك» :﴿الأعلى *﴾ أي الذي له وصف الأعلوية في المكانة لا المكان على الإطلاق عن كل شائبة نقص وكل سوء من الإلحاد في شيء من أسمائه بالتأويلات الزائغة وإطلاقه غلى غيره مع زعم أنهما فيه سواء، وذكره خالياً عن التعظيم وغير ذلك ليكون راسخاً في التنزيه فيكون من أهل العرفان الذين يضيئون على الناس مع كونهم في الرسوخ كالأوتاد الشامخة التي هي مع علوها لا تتزحزح، وقد ذكر سبحانه
ولما كان الإبداع أدل ما يكون مع التنزه على الكمال لا سيما النور الذي هو سبب الانكشاف والظهور، مع أنه تفصيل لقوله «مم خلق» وهو أدل شيء على البعث المذكور «في يوم تبلى السرائر» قال مبيناً للفاعل الذي أبهمه لوضوحه في «مم خلق» مرغباً في الفكر في أفعاله سبحانه وتعالى الذي هو السبب الأقرب للسعادة بالدلالة عليه بما له من الجائزات بعد الترغيب في الذكر الذي هو المهيىء للفكر: ﴿الذي خلق﴾
وقال الاستاذ أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه وتعالى مخبراً عن عمه الكفار في ظلام حيرتهم ﴿إنهم يكيدون كيداً﴾ [الطارق: ١٥] وكان وقوع ذلك من العبيد المحاط بأعمالهم ودقائق أنفاسهم وأحوالهم من أقبح مرتكب وأبعده عن المعرفة بشيء من عظيم أمر الخالق جل جلاله وتعالى علاؤه وشأنه، أتبع سبحانه ذلك بأمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتنزيه ربه الأعلى عن شنيع اعتدائهم وافك افترائهم، فقال ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ [الأعلى: ١] أي نزهه عن قبيح مقالهم، وقدم التنبيه على التنزيه في أمثال هذا ونظائره ووقوع ذلك أثناء السور فيما بين سورة وأخرى، وأتبع سبحانه وتعالى من التعريف بعظيم قدرته وعليّ حكمته بما يبين ضلالهم فقال ﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ [
ولما كان جعل الأشياء على أقدار متفاوته مع الهداية إلى ما وقع الخلق له على أوجه متفاضلة مع التساوي في العناصر مما يلي التسوية، وهو من خواص الملك الذي لا يكون إلا مع الكمال، أتبعه به بالواو دلالة على تمكن الأوصاف فقال: ﴿والذي قدر﴾ أي أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها، وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد والمشي للرجل والسمع للأذن والبصر للعين ونحو ذلك ﴿فهدى﴾ أي أوقع بسبب تقديره وعقبه الهداية لذلك الذي وقع التقدير من أجله من الشكل والجواهر والأعراض التي هيأه بها لما يليق به طبعاً أو اختياراً بخلق الميول والإلهامات، ونصب الدلائل والآيات لدفع الشرور وجلب الخيور، فترى الطفل أول ما يقع من البطن يفتح فاه للرضاعة، وغيره من سائر الحيوانات، يهتدي إلى ما ينفعه من سائر الانتفاعات، فالخلق لا بد له من التسوية ليحصل الاعتدال، والتقدير لا بد له من الهداية ليحصل الكمال.
ولما كانت دلائل التوحيد تارة بالنفس وتارة بالآفاق، ونبه بآيات النفس، فلم يبق إلا آيات الآفاق، وكان النبات من آياتها
ولما كان إيباسه وتسويده بعد اخضراره ونموه في غاية الدلالة على تمام القدرة وكمال الاختيار بمعاقبة الأضداد على الذات الواحدة قال تعالى: ﴿فجعله﴾ أي بعد أطوار من زمن إخراجه ﴿غثاء﴾ أي كثيراً، ثم أنهاه فأيبسه وهشمه ومزقه فجمع السيل بعضه إلى بعض فجعله زبداً وهالكاً وبالياً وفتاتاً على وجه الأرض ﴿أحوى *﴾ أي في غاية الري حتى صار أسود يضرب إلى خضرة، أو أحمر يضرب إلى سواد، أو اشتدت خضرته فصارت تضرب إلى سواد، وقال القزاز رحمه الله في ديوانه: الحوة شية من شيات الخيل، وهى بين الدهمة والكمتة، وكثر هذا حتى سموا كل أسود أحوى - انتهى. فيجوز أن يريد حينئذ أنه أسود من شدة يبسه فحوته الرياح وجمعته من كل أوب
ولما استوفى سبحانه وتعالى وصف من أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتسبيحه بما دل على أوصاف جماله ونعوت كبريائه وجلاله، وشرح ما له سبحانه من القدرة التامة على الإبداع والهداية والتصرف في الأرواح الحسية والمعنوية بالنشر والطي والقبض والبسط، فدل على تمام أصول الدين بالدلالة على وجوده سبحانه على سبيل التنزل من ذاته إلى صفاته ثم إلى أفعاله فتم ما للخالق، أتبعه ما للخلائق وبدأ بما لأشرف
ولما كان الفاعل لهذه الأمور كلها لا سيما الإقراء والحكم على ما يقرأ بأنه لا ينسى إلا ما شاء منه إلاّ يكون لا محيط العلم، قال تعالى مصرحاً بذلك مؤكداً لأجل إنكار أهل القصور في النظر لمثله جارياً على أسلوب الغيبة معبراً بالضمير إشارة إلى تعاليه في العظمة إلى حيث تنقطع أماني الخلق عن إدراكه بما كثر من أفعاله: ﴿إنه﴾ أي الذي مهما شاء كان ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ [النحل: ٤٠].
ولما كان المراد بيان إحاطة علمه سبحانه وتعالى، وأن نسبة الجلي والخفي من جهره بالقرآن وترديده على قلبه سراً وغير ذلك إليه على حد سواء، وكان السياق للجلي، ذكرهما مصرحاً بكل منهما مقدماً الجلي
ولما ذكر الإلهيات والنبوة وأشير إلى النسخ، أشار إلى أن الدين المشروع له هو الحنيفية السمحة، وأنه سبحانه وتعالى لا يقيمه في شيء بنسخ أو غيره إلا كان هو الأيسر له والأرفق، لأن الرفق والعنف يتغيران بحسب الزمان، فقال مبيناً للقوة العملية أثر بيانه للعلمية: ﴿ونيسرك﴾ أي نجعلك أنت مهيأ مسهلاً مليناً موفقاً ﴿لليسرى *﴾ أي في حفظ الوحي وتدبره وغير ذلك من الطرائق والحالات كلها التي هي لينة سهلة خفيفة - كما أشار إليه قوله: «كل ميسر لما خلق له» ولهذا لم يقل: ونيسر لك، لأنه هو مطبوع على حبها.
ولما كمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهيأه سبحانه وتعالى للأيسر ويسره غاية التيسير، سبب عنه وجوب التذكير لكل أحد في كل حالة
ولما أمره بالتذكير لكل أحد، قسم الناس له إلى قسمين: قسم يقبل العلاج، وقسم لا يقبله، إعلاماً بأنه سبحانه وتعالى عالم بكل من القسمين
ولما ذكر وصفه الذي أوجب له العمل السيىء، ذكر جزاءه فقال: ﴿الذي يصلى﴾ أي يباشر مباشرة الغموس بقلبه وقالبه مقاسياً ﴿النار الكبرى *﴾ أي التي هي أعظم الطبقات وهي السفلى لأنه ليس في طبعه أن يخشى، بل هو كالجلمود الأقسى لأنه جاهل مقلد أو متكبر معاند، أو المراد نار الأخرى فإنها أعظم من نار البرزخ وأعظم من نار الدنيا بسبعين جزءاً، فلهذا استحقت أن تتصف بأفعل التفضيل على الإطلاق، والآية من الاحتباك: ذكر الثمرة في الأول وهي الخشية دليلاً على حذف ضدها من الثاني، وهي القسوة الناشئة على الحكم بالشقاوة، وذكر الأصل والسبب في الثاني وهو الشقاوة دليلاً على حذف ضده في الأول وهو السعادة، فالإسعاد سبب والخشية ثمرة، والإشقاء سبب والقساوة ثمرة ومسبب، وكذا ما نبعه من النار وما نشأ عنه، وسر ذلك أنه ذكر مبدأ السعادة أولاً حثاً عليه، ومآل الشقاوة ثانياً تحذيراً منه، قال الملوي: ولا شك أن القرآن العظيم على أحسن ما يكون من البراعة في التركيب وبداعة الترتيب
ولما كان ما هذا شأنه يهلك على ما جرت به العادة في أسرع وقت، فإذا كان من شأنه مع هذا العظم أنه لا يهلك كان ذلك دليلاً واضحاً على أنه لا يعلم كنه عظمة مقدره إلا هو سبحانه وتعالى فأشار إلى ذلك بالتعبير بأداة التراخي إعلاماً بأن مراتب هذه الشدة في التردد
ولما كان من يدخل النار فلا تؤثر في موته قد يكون ذلك إكراماً له من باب خرق العوائد، احترز عنه بقوله: ﴿ولا يحيى *﴾ أي حياة تنفعه لأنه ما تزكى فلا صدق ولا صلى.
ولما ثبت بهذا أن لهذا هذا الشقاء الأعظم، فكان التقدير: لأنه لم يزك نفسه لأنه ما كان مطبوعاً على الخشية، أنتج ولا بد قوله تعالى دالاً على الدين التكليفي وهو اجتناب واجتلاب، فجمع الاجتناب والاجتلاب بالتزكية بالتبتل بالأبواب والملازمة للأعتاب بامتثال الأمر واجتناب النهي بالمجاهدات المقربات إليه سبحانه وتعالى، المنجيات بعد ما حذر من المهلكات، للمسارعة في محابه ومراضيه اجتماعاً على العبادة الموصلة للخالق بعد حصول الكمال والتكميل فإنه لا بد في الحياة الطيبة بعد الانتماء إلى ذي الجاه العريض والاقتداء بمن لا يزيغ من الارتباط بطريقة مثلى يحصل بها الاغتباط ليصل بها إلى المقصود ويعمّر أوقاته بوظائفها لئلا يحصل له خلل ولا ضياع لنفائس الأوقات ولا غفلة
ولما كان أعظم الأعمال المزكية الذكر والصلاة قال تعالى: ﴿وذكر﴾ أي بالقلب واللسان ذكر وذكر - بالكسر والضم ﴿اسم ربه﴾ أي صفات المحسن إليه فإنه إذا ذكر الصفة سر بها فأفاض باطنه على ظاهره ذكر اللفظ الدال عليها، وإذا ذكر اللفظ وهو الاسم الدال عليها انطبع في قلبه ذكر المسمى ﴿فصلّى *﴾ أي الصلاة الشرعية لأنها أعظم الذكر، فهي أعظم عبادات البدن كما أن الزكاة أعظم عبادات المال، ومن فعل ذلك استراح من داء الإعجاب وما يتبعه من النقائص الموجبة لسوء الانقلاب، وكان متخلقاً بما ذكر من أخلاق الله في أول السورة من التخلي عن النقائص بالتزكية، والتحلي بالكمالات بالذكر والصلاة لأنه لعظمته لا يتأهل لذكره إلا من واظب إلى ذكر اسمه فلا يشقى فلا يصلى النار الكبرى بوعد لا خلف فيه - فالآية من الاحتباك في
﴿وأنت حل بهذا البلد﴾ [البلد: ٢] والسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح - انتهى، وأخذه من البغوي، وزاد البغوي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأمر نافعاً رضي الله عنه بنحو ما قال ابن مسعود رضي الله عنه، ويقول: إنما نزلت هذه الآية في هذا. وروى البزار: «عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية» وفي السند كثير بن
ولما كان التقدير: وأنتم لا تفعلون ذلك، أو وهم لا يفعلونه - على القراءتين، عطف عليه قوله بالخطاب في قراءة الجماعة على الالتفات الدال على تناهي الغضب، منبهاً على المعاملات بسبب التداوي الرابع وهو الاستفراغ بنفي الرذائل والخبائث بالذم على ما ينبغي البراءة منه والحث على ما يتعين تحصيله تحصيلاً لحسن الرعاية: ﴿بل تؤثرون﴾ أي تختارون وتخصون بذلك على وجه الاستبداد، أيها الأشقياء، وبالغيب على الأصل عند أبي عمرو ﴿الحياة الدنيا *﴾ أي الدنية بالفناء الحاضرة، مع أنها شر وفانية، اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات، فاستغرق اشتغالكم بها أوقاتكم ومنعكم عن ذكر اسم الله المنهي إلى ذكر الله والمهيىء له، وعن تزكية نفوسكم، فأوقعكم ذلك في داء القبقب وهو البطن، والدبدب وهو الفرج، وحب المال المؤدي إلى شر الأعمال، وتتركون الآخرة ﴿والآخرة﴾ أي والحال أن الدار التي هي غاية الخلق ومقصود الأمر، العالية
ولما كانت هذه النتيجة - التي هي الفلاح بالتزكية وما تبعها - خالصة الكتب المنزلة التي بها تدبير البقاء الأول، وصفها ترغيباً فيها بوصف جمع القدم المستلزم للصحة بتوارد الأفكار على تعاقب الأعصار، لأن ما مضت عليه السنون ومرت على قبوله الدهور تكون النفس أقبل للإذعان له وأدعى إلى إلزامه، وأفاد مع القدم أن المنزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بدعاً من الرسل عليهم الصلاة والسلام بل هو على
ولما كان ذلك عاماً خص من بينه تعظيماً لقدر هذه الموعظة
مقصودها شرح ما في آخر " سبح " من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث بإثبات الدار الآخرة التي الغاشية مبدؤها، وذكر ما فيها للأتقى والأشقى، والدلالة على القدرة عليها، وأدل ما فيها على هذا المقصود الغاشية - نعوذ بالله من القلب الغاشي والبصيرة الغاشية، بئلا تكون الغاشية علينا بسوء الأعمال ناشية) بسم الله (الذي له العظمة البالغة والحكمة الباهرة) الرحمنْ (الذي له الفيض الأعلى والنعم الظاهرة) الرحيم (الذي اصطفى أولياء فأصلح بواطن نعمهم حتى عادت ظاهرة طاهرة.