ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأعلىوهي مكية في قول الجمهور، وحكى النقاش عن الضحاك أنها مدنية، وذلك ضعيف، وإنما دعا إليه قول من قال: إن ذكر صلاة العيد فيها.
قوله عز وجل:
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ١٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)
سَبِّحِ في هذه الآية، بمعنى نزه وقدس وقل سبحانه عن النقائص والغير جمعا وما يقول المشركون، والاسم الذي هو: ألف، سين، ميم، يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى، ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله عليه السلام: «إن لله تسعة وتسعين اسما» وغير ذلك، ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية: سبح ربك، أي نزهه، وإذا كان الاسم واحدا من الأسماء كزيد وعمرو، فيجيء في الكلام على ما قلت، تقول زيد قائد تريد المسمى، وتقول:
زيد ثلاثة أحرف تريد به التسمية، وهذه الآية تحتمل هذا الوجه الأول، وتحتمل أن يراد بالاسم التسمية نفسها على معنى نزه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن، فيقال له إله ورب ونحو ذلك، والْأَعْلَى يصح أن يكون صفة للاسم، ويحتمل أن يكون صفة للرب، وذكر الطبري أن ابن عمر وعليا قرآ هذه السورة: «سبحان ربي الأعلى» قال وهي في مصحف أبيّ بن كعب كذلك، وهي قراءة أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومالك بن أبي دينار، وروى ابن عباس أن النبي ﷺ كان إذا قرأ هذه الآية قال:
«سبحان ربي الأعلى»، وكان ابن مسعود وابن عامر وابن الزبير يفعلون ذلك، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم»، وقال قوم: معنى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ نزه اسم ربك تعالى عن أن تذكره إلا وأنت خاشع، وقال ابن عباس معنى الآية: صلّ باسم ربك الأعلى كما تقول ابدأ باسم الله، وحذف حرف الجر، و «سوى»، معناه عدل وأتقن حتى صارت الأمور مستوية دالة على قدرته ووحدانيته، وقرأ جمهور القراء «قدّر» بشد الدال فيحتمل أن يكون من القدر والقضاء، ويحتمل أن يكون
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال مثالات، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية، والْمَرْعى: النبات، وهو أصل في قيام المعاش إذ هو غذاء الأنعام ومنه ما ينتفع به الناس في ذواتهم، و «الغثاء» ما يبس وجف وتحطم من النبات، وهو الذي يحمله السيل، وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم. و «الأحوى» : قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة، وقيل هو الأسود سوادا يضرب إلى الخضرة ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]
لمياء في شفتيها حوّة لعس | وفي اللثات وفي أنيابها شنب |
[القيامة: ١٦] الآية، وعد الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده ذكر، فتذهب الآية، وذلك أن النبي ﷺ كان يحرك شفتيه مبادرة خوفا منه أن ينسى، وفي هذا التأويل آية النبي ﷺ في أنه أمي، وحفظ الله تعالى عليه الوحي، وأمنه من نسيانه. وقال آخرون: ليست هذه الآية في معنى تلك، وإنما هذه وعد بإقرار الشرع والسور، وأمره أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم أن ترك النسيان ليس في قدرته، فقد نهي عن إغفال التعاهد، وأثبت الياء في «تنسى» لتعديل رؤوس الآي، وقال الجنيد: معنى فَلا تَنْسى، لا تترك العمل بما تضمن من أمر ونهي، وقوله تعالى:
إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، قال الحسن وقتادة وغيره مما قضى الله تعالى بنسخه، وأن ترفع تلاوته وحكمه. وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني: هو استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح نسيانه، وقال ابن عباس: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسيكه لتسن به على نحو قوله عليه السلام: «إني لأنسى أو أنسّى لأسنّ»، وقال بعض المتأولين: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد، ومن هذا قول النبي ﷺ حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمه الله: «لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا».
قال القاضي أبو محمد: ونسيان النبي ﷺ ممتنع فيما أمر بتبليغه، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه، فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنّ، أو على النسخ، ثم أخبر تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ من الأشياء، وَما يَخْفى منها، وذلك لإحاطته بكل شيء علما، وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئا إلا ذكره الله تعالى به. وقوله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معناه: نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة، والرفعة في الجنة، ثم
لقد أسمعت لو ناديت حيا | ولكن لا حياة لمن تنادي |
قال القاضي أبو محمد: وأراه على التشبيه لأنه كالسبات والركود والهمول فجعله موتا.
قوله عز وجل:
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١٤ الى ١٩]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
أَفْلَحَ في هذه الآية معناه: فاز ببغيته، وتَزَكَّى معناه: طهر نفسه ونماها إلى الخير. قال ابن عباس: قال لا إله إلا الله فتطهر من الشرك، وقال الحسن: من كان عمله زاكيا، وقال أبو الأحوص: من رضخ من ماله وزكاه، وقوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ معناه: وحّده وصلى له الصلوات التي فرضت عليه، وتنفل أيضا بما أمكنه من صلاة وبرّ، وقال أبو سعيد الخدري وابن عمر وابن المسيب: هذه الآية في صبيحة يوم الفطر فتزكى، أدى زكاة الفطر، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، هو ذكر الله في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام، والصلاة هي صلاة العيد، وقد روي هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة وكثير من المتأولين: تَزَكَّى: أدى زكاة ماله، و «صلى» معناه صلى الخمس، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون الْحَياةَ الدُّنْيا، فالكافر يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله، وقرأ أبو عمرو وحده «يؤثرون» بالياء، وقال: يعني الأشقين، وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء والجحدري، وقرأ الباقون والناس: «تؤثرون» بالتاء على المخاطبة، وفي حرف أبي بن كعب «بل أنتم تؤثرون»، وسبب الإيثار حب العاجل والجهل ببقاء الآخرة، وقال عمر: ما في الدنيا في الآخرة إلا كنفخة أرنب. وقوله تعالى: إِنَّ هذا قال الضحاك: أراد القرآن، وروي أن القرآن انتسخ من الصُّحُفِ
، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: الإشارة إلى معاني السورة، وقال ابن زيد: الإشارة إلى هذين الخبرين «إفلاح من تزكى» وإيثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها، وهذا هو الأرجح لقرب المشار إليه بهذا. وقوله تعالى: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي لم ينسخ هذا قط في شرع من الشرائع فهو في الأولى وفي الأخيرات، ونظير هذا قول النبي ﷺ «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» أي أنه مما جاءت به الأولى واستمر في الغي، وقرأ الجمهور «الصحف» مضمومة الحاء، وروى هارون عن أبي عمرو بسكون الحاء، وهي قراءة الأعمش، وقرأ أبو رجاء: إِبْراهِيمَ بغير الياء ولا ألف، وقرأ ابن الزبير «ابراهام» في كل القرآن، وكذلك أبو موسى الأشعري، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة «إبراهم» بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن وروي أن صُحُفِ إِبْراهِيمَ نزلت في أول ليلة من رمضان، والتوراة في السادسة من رمضان والزبور في اثني عشرة منه والإنجيل في ثمان عشرة منه والقرآن في أربع عشرة.
نجز تفسير سورة الْأَعْلَى والحمد لله كثيرا.