ﰡ
[تفسير سورة الأعلى]
سُورَةُ" الْأَعْلَى" مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَدَنِيَّةٌ. وَهِيَ تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعلى (٨٧): آيَةً ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)يُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ إِذَا قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أَنْ يَقُولَ عَقِبَهُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، عَلَى ما يأتي. وروى جعفر ابن مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: إِنَّ لله تعالى ملكا يقال له حزقيائيل، لَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ، مَا بَيْنَ الْجَنَاحِ إِلَى الْجَنَاحِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍّ، فَخَطَرَ لَهُ خَاطِرٌ: هَلْ تَقْدِرُ أَنْ تُبْصِرَ الْعَرْشَ جَمِيعَهُ؟ فَزَادَهُ اللَّهُ أَجْنِحَةً مِثْلَهَا، فَكَانَ لَهُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ، مَا بَيْنَ الْجَنَاحِ إِلَى الْجَنَاحِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍّ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلَكُ، أَنْ طِرْ، فَطَارَ مِقْدَارَ عِشْرِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَلَمْ يَبْلُغْ رَأْسَ قَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ. ثُمَّ ضَاعَفَ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَجْنِحَةِ وَالْقُوَّةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَطِيرَ، فَطَارَ مِقْدَارَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَصِلْ أَيْضًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلَكُ، لَوْ طِرْتَ إِلَى نَفْخِ الصُّوَرِ مَعَ أَجْنِحَتِكَ وَقُوَّتِكَ لَمْ تَبْلُغْ سَاقَ عَرْشِي. فَقَالَ الْمَلَكُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ (. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي (كِتَابِ الْعَرَائِسِ) لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أَيْ عَظِّمْ رَبَّكَ الْأَعْلَى. وَالِاسْمُ صِلَةٌ، قُصِدَ بِهَا تَعْظِيمُ الْمُسَمَّى، كَمَا قَالَ لَبِيَدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا «١»
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والبيت من قصيدة له، يخاطب بها ابنتيه، مطلعها:
تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما | وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر |
قَبَّحَ الْإِلَهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا | سَبَّحَ الحجيج وكبروا تكبيرا |
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ فِي" الِانْفِطَارِ" وَغَيْرِهَا «٢». أَيْ سَوَّى مَا خَلَقَ، فَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْقِهِ تَثْبِيجٌ «٣». وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ عَدَّلَ قَامَتْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَسَّنَ مَا خَلَقَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَلَقَ آدَمَ فَسَوَّى خَلْقَهُ. وَقِيلَ: خَلَقَ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَسَوَّى فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ. وَقِيلَ: خَلَقَ الْأَجْسَادَ، فَسَوَّى الْأَفْهَامَ. وَقِيلَ: أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَهَيَّأَهُ لِلتَّكْلِيفِ. (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السلمي وَالْكِسَائِيُّ (قَدَرَ) مُخَفَّفَةَ الدَّالِ، وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ. وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. أَيْ قَدَّرَ وَوَفَّقَ لِكُلِّ شَكْلٍ شَكْلَهُ. فَهَدى أَيْ أَرْشَدَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَدَّرَ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى لِلرُّشْدِ وَالضَّلَالَةِ. وَعَنْهُ قَالَ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاعِيهَا. وَقِيلَ: قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ، وَهَدَاهُمْ لِمَعَاشِهِمْ إِنْ كَانُوا إِنْسًا، وَلِمَرَاعِيهِمْ إِنْ كَانُوا وَحْشًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ فَهَدى قَالُوا: عَرَّفَ خَلْقَهُ كَيْفَ يَأْتِي الذكر الأنثى، كما قال في (طه): أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى»
[طه: ٥٠] أَيِ الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: جَعَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مَا يُصْلِحُهَا، وَهَدَاهَا لَهُ. وَقِيلَ: خَلَقَ المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه
(٢). راجع ج ١٩ ص (٢٢٤)
(٣). التثبيج: التخليط.
(٤). آية ٥٠.
وَقَدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى | وَتَبْقَى حزازات النفوس كما هيا |
(٢). أي بعيد.
(٣). آية ٨١ سورة النحل. [..... ]
(٤). آية ٥٢ سورة الشورى.
(٥). آية ٢ سورة الفرقان.
(٦). هو زفر بن الحارث. والدمن: السرقين- الزبل- المتلبد بالبعر. والثرى: التراب والأرض.
كَأَنَّ طَمِيَّةَ «٢» الْمُجَيْمِرِ غُدْوَةً | مِنَ السَّيْلِ وَالْأَغْثَاءِ «٣» فَلْكَةُ مِغْزَلٍ |
لمياء في شفتيها حوة لعس | وفي اللثات وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ |
(٢). كذا رواه صاحب اللسان في (طما)، وقال: طمية: جبل وفي بعض النسخ ومعلقة امرئ القيس:
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة
وقد أشار التبريزي شارح المعلقة إلى الرواية الاولى. قال:" والمجيمر": أرض لبني فزارة. وطمية: جبل في بلادهم. يقول: قد امتلأ المجيمر فكأن الجبل في الماء فلكة مغزل لما جمع السيل حوله من الغثاء.
(٣). في المعلقة:" الغثاء" قال التبريزي: ورواه الفراء" من السيل والاغثاء": جمع الغثاء، وهو قليل في الممدود. قال أبو جعفر: من رواه الاغثاء فقد أخطأ لان غثاء لا يجمع على أغثاء وإنما يجمع على أغثية لان أفعلة جمع الممدود وأفعالا جمع المقصور نحو رحا وأرحاء.
(٤). في الأصول: (وانجفى)، وهو تحريف عن (جفا). والجفاء كغراب: ما يرمى به الوادي.
(٥). كذا في جميع نسخ الأصل وهو خطأ. والبيت لذي الرمة كما في ديوانه واللسان. والياء من الشفاء: اللطيفة القليلة الدم. واللعس (بفتحتين) لَوْنُ الشَّفَةِ إِذَا كَانَتْ تَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ قليلا، وذلك يستملح. والشنب: برودة وعذوبة في، ورقة في الأسنان.
وَغَيْثٍ مِنَ الْوَسْمِيِّ حُوٍّ تِلَاعُهُ | تَبَطَّنْتُهُ بِشَيْظَمٍ صَلَتَانِ «١» |
[سورة الأعلى (٨٧): الآيات ٦ الى ٨]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى سَنُقْرِئُكَ أَيِ الْقُرْآنَ يَا مُحَمَّدُ فَنُعَلِّمُكَهُ فَلا تَنْسى أَيْ فَتَحْفَظُ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَهَذِهِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بَشَّرَهُ بِأَنْ أَعْطَاهُ آيَةً بَيِّنَةً، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ مَا يَقْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَهُوَ أُمِّيٍ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، فَيَحْفَظُهُ وَلَا يَنْسَاهُ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ يَتَذَكَّرُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى، فَقِيلَ: كَفَيْتُكَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، لَمْ يَفْرُغْ جِبْرِيلُ من آخر الآية، حتى يتكلم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَّلِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا، فَنَزَلَتْ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَدْ كَفَيْتُكَهُ. وَوَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا، مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ لَمْ يَشَأْ أَنْ تَنْسَى شَيْئًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ «٢» رَبُّكَ [هود: ١٠٧]. وَلَا يَشَاءُ. وَيُقَالُ فِي الْكَلَامِ: لَأُعْطِيَنَّكَ كُلَّ مَا سَأَلْتَ إِلَّا مَا شِئْتَ، وَإِلَّا أَنْ أَشَاءَ أَنْ أَمْنَعَكَ، وَالنِّيَّةُ عَلَى أَلَّا يَمْنَعَهُ شَيْئًا. فَعَلَى هَذَا مَجَارِي الْأَيْمَانِ، يُسْتَثْنَى فِيهَا وَنِيَّةُ الْحَالِفِ التَّمَامُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَمْ يَنْسَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى مَاتَ، إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ. وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينسى شيئا، إِلَّا
(٢). آية ١٠٨ سورة هود.
[سورة الأعلى (٨٧): آية ٩]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ أَيْ فَعِظْ قَوْمَكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْقُرْآنِ. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أَيِ الْمَوْعِظَةُ. وَرَوَى يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: تَذْكِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَحُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: تَنْفَعُ أَوْلِيَائِي، وَلَا تَنْفَعُ أَعْدَائِي. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: التَّذْكِيرُ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ. وَالْمَعْنَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، أَوْ لَمْ تَنْفَعْ، فَحَذَفَ، كما قال: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١» [النحل: ٨١]. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِأَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ إِنْ بِمَعْنَى مَا، أَيْ فَذَكِّرْ مَا نَفَعَتِ الذِّكْرَى، فَتَكُونُ إِنْ بِمَعْنَى مَا، لَا بِمَعْنَى الشرط، لان الذكرى نافعة بكل حال، قاله ابْنُ شَجَرَةَ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، أَيْ إِذْ نَفَعَتْ، كَقَوْلِهِ تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٢» [آل عمران: ١٣٩] أَيْ إِذْ كُنْتُمْ، فَلَمْ يُخْبِرْ بِعُلُوِّهِمْ إِلَّا بعد إيمانهم. وقيل: بمعنى قد.
[سورة الأعلى (٨٧): آية ١٠]
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠)
أي من يتق اللَّهَ وَيَخَافُهُ. فَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ يَذَّكَّرُ مَنْ يَرْجُوهُ، إِلَّا أَنَّ تذكرة الخاش أَبْلَغُ مِنْ تَذْكِرَةِ الرَّاجِي، فَلِذَلِكَ عَلَّقَهَا بِالْخَشْيَةِ دُونَ الرَّجَاءِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ. وَقِيلَ: أَيْ عَمِّمْ أَنْتَ التَّذْكِيرَ وَالْوَعْظَ، وَإِنْ كَانَ الْوَعْظُ إِنَّمَا يَنْفَعُ مَنْ يَخْشَى، وَلَكِنْ يَحْصُلُ لك ثواب الدعاء، حكاه القشيري.
[سورة الأعلى (٨٧): الآيات ١١ الى ١٣]
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)
أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها. لْأَشْقَى)
أَيِ الشَّقِيُّ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى)
(٢). آية ١٣٩ سورة آل عمران.
أَلَا ما لنفس تَمُوتُ فَيَنْقَضِي | عَنَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ |
[سورة الأعلى (٨٧): الآيات ١٤ الى ١٥]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ أَيْ قَدْ صَادَفَ الْبَقَاءَ فِي الْجَنَّةِ، أَيْ مَنْ تَطَهَّرَ مِنَ الشِّرْكِ بِإِيمَانٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ: مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا نَامِيًا. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: تَزَكَّى قَالَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ. وَعَنْهُ وَعَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قَالَ: خرج فصلى بعد ما أَدَّى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ أُقَدِّمُ زَكَاتِي بَيْنَ يَدَيْ صَلَاتِي. فَقَالَ سُفْيَانُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّ ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَصَلَاةِ الْعِيدِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَرَوْنَ صَدَقَةً أَفْضَلَ مِنْهَا، وَمِنْ سِقَايَةِ الْمَاءِ. وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قَالَ: [أَخْرَجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ [، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قَالَ: [صَلَاةُ الْعِيدِ [. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى فَصَلَّى صلاة العيد. وقيل: المراد
. وَذَكَرَ الضَّحَّاكُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الثَّانِيَةُ- قَدْ ذكرنا القول في زكاة الفطر في السورة" الْبَقَرَةِ" «١» مُسْتَوْفًى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ عِيدٌ وَلَا زَكَاةُ فِطْرٍ. الْقُشَيْرِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَثْنَى عَلَى مَنْ يَمْتَثِلُ أَمْرَهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ، فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أَيْ ذَكَرَ رَبَّهُ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ ذَكَرَ مَعَادَهُ وَمَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَعَبَدَهُ وَصَلَّى لَهُ. وَقِيلَ: ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بِالتَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ: وَبِهِ يُحْتَجُّ عَلَى وُجُوبِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَعَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا. وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الِافْتِتَاحَ جَائِزٌ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وهذه مسألة خلافية
[سورة الأعلى (٨٧): آية ١٦]
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦)
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بَلْ تُؤْثِرُونَ بِالتَّاءِ، تَصْدِيقُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ" بَلْ يُؤْثِرُونَ" بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، تَقْدِيرُهُ: بَلْ يُؤْثِرُونَ الْأَشْقَوْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ تَأْوِيلُهَا بَلْ تُؤْثِرُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الدُّنْيَا، لِلِاسْتِكْثَارِ مِنَ الثَّوَابِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ آثَرْنَا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟ لِأَنَّ الدُّنْيَا حَضَرَتْ وَعُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُهَا وَطَعَامُهَا وَشَرَابُهَا، وَلِذَاتُهَا وَبَهْجَتُهَا، وَالْآخِرَةَ غُيِّبَتْ عَنَّا، فَأَخَذْنَا الْعَاجِلَ، وَتَرَكْنَا الْآجِلَ. وَرَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي مُوسَى فِي مَسِيرٍ، وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ وَيَذْكُرُونَ الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو مُوسَى: يَا أَنَسُ، إِنَّ هَؤُلَاءِ يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَفْرِي الْأَدِيمَ بِلِسَانِهِ فَرِيًّا، فَتَعَالَ فَلْنَذْكُرْ رَبَّنَا سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: يَا أَنَسُ، مَا ثَبَرَ «٢» النَّاسَ مَا بَطَّأَ بهم؟ قلت الدنيا والشيطان
(٢). الثبر: الحبس، أي ما الذي صدهم ومنعهم عن طاعة الله.
[سورة الأعلى (٨٧): آية ١٧]
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧)
أَيْ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ، أَيِ الْجَنَّةُ. خَيْرٌ أَيْ أَفْضَلُ. وَأَبْقى أَيْ أَدْوَمُ مِنَ الدُّنْيَا. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ [صَحِيحٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْثَرَ خَزَفٌ يَبْقَى، عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى. قَالَ: فَكَيْفَ وَالْآخِرَةُ مِنْ ذَهَبٍ يَبْقَى، وَالدُّنْيَا مِنْ خزف يفنى.
[سورة الأعلى (٨٧): الآيات ١٨ الى ١٩]
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: يُرِيدُ قَوْلَهُ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى. وَقَالَا: تَتَابَعَتْ كُتُبُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ- كَمَا تَسْمَعُونَ- أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى مِنَ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى قَالَ: كُتُبُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ كُلُّهَا. الْكَلْبِيُّ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى قَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ. وَقَالَ والضحاك: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، أَيِ الْكُتُبِ الْأُولَى. (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِمَا. وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِعَيْنِهَا فِي تِلْكَ الصُّحُفِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ إِنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَارِدٌ فِي تِلْكَ الصُّحُفِ. وَرَوَى الْآجُرِّيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فما
(٢). راجع ج ٤ ص ٣٢٠