ﰡ
قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر وعيد الذين أعرضوا عن النظر في الدلائل التي تدل على وجود الله تعالى، ووحدانيته، وإرسال الرسل، وعلى البعث والحساب.. أتبعه بالوعد لمن زكى نفسه، وطهرها من أدران الشرك والتقليد للآباء والأجداد بالفوز بالفلاح، والظفر بالسعادة في دنياه وآخرته، ثم ذكر أن من طبيعة النفوس حب العاجلة، وتفضيلها على الآجلة، ولو فكروا قليلًا.. لاستبان لهم أن الخير في تفضيل الثانية على الأولى، ثم أرشد إلى أن أسس الدعوة الدينية في كل الأديان واحدة، فما في القرآن هو ما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾؛ أي: قل يا محمد أنت وأمتك: سبحان ربي الأعلى إذا أردتم تسبيحه تعالى، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، يدل عليه ما روي عن ابن عباس أن النبي - ﷺ -: قرأ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، فقال: "سبحان ربي الأعلى"، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي، وقيل: معناه: نزه ربك الأعلى عن كل ما لا يليق به من صفات النقص والحدوث، وقال السدي: معناه: عظم ربك الأعلى بوصفه بالكمالات، وتنزيهه من النقائص، فعلى هذا يكون لفظ الاسم مقحمًا لقصد التعظيم، كما في قول لبيد:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُما | ومَنْ يَبْكِ حَوْلًا كامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ |
قَبَّحَ الإِلَهُ وُجُوْهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا | سَبَّحَ الْحَجِيْجُ وَكَبَّرُوْا تَكْبِيْرَا |
وقيل معنى الآية (١): نزه اسم ربك عن إطلاقه على غيره تعالى بوجه يشعر بتشاركهما فيه، كان يسمى الصنم والوثن بالرب والإله، ومنه: تسمية العرب مسيلمة الكذاب برحمان اليمامة، وكذا نزه اسمه عن ذكره، لا على وجه الإعظام والإجلال، ويدخل فيه أن يذكر اسمه عند التثاؤب، وحال الغائط، وكذا بالغفلة، وعدم الوقوف على معناه وحقيقته، وكذا بالغلط في لفظه أو في تركيبه، ومنه إكثار القسم بذكر اسمه من غير مبالاة. وقال جرير في الآية: ارفع صوتك بذكر اسم ربك الأعلى، فإن ذكر المدلول إنما هو بذكر الاسم الدال عليه، وقال بعضهم: المعنى: نزه مسمى ربك؛ أي: ذاته عما يدخل في الوهم والخيال؛ لأن الاسم والمسمى هنا واحد، فظهر من هذه التقادير: أن الاسم غير مقحم، وهو الظاهر.
و ﴿الْأَعْلَى﴾ صفة للرب، وقيل: للاسم، والأول أظهر لما في الوجه الثاني من
والخلاصة: أي نزه اسم ربك عن كل ما لا يليق بجلاله في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، فلا تذكره إلا على وجه التعظيم له، ولا تطلق اسمه على غيره زاعمًا أنه يشاركه في صفاته.
٢ - ثم وصف ذلك الرب الأعلى بأوصاف، فقال:
١ - ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢)﴾ صفة أخرى للرب على الوجه الأول الأظهر، ومنصوب على المدح على الثاني؛ لئلا يلزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره، إذ يصير التركيب مثل قولك: جاءني غلام هند العاقل الحسنة، وهو ممتنع؛ أي: أنشأ وأوجد كل شيء، فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كماله، ويتسنى معاشه.
والمعنى: أي الذي خلق الكائنات جميعًا، فسوى خلقها، وجعلها متسقة محكمة، ولم يأتِ بها متفاوتة غير ملتئمة دلالة على أنها صادرة عن عالم حكيم مدبر، أحسن تدبيرها فأحكم أسرها.
وعبارة الخازن: أي الذي خلق كل ذي روح، فسوى اليدين والرجلين والعينين، وقيل: خلق الإنسان مستويًا معتدل القامة. اهـ.
وقرأ الجمهور: ﴿قَدَّرَ﴾ بتشديد الدال، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء، وقال الزمخشري: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه، وعرفه وجه الانتفاع به. انتهى. وقرأ الكسائي: ﴿قدر﴾ مخفف الدال من القدرة، أو من التقدير والموازنة، وهدى عام لجميع الهدايات، قال الواحدي (١): قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها، وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة. وروي عنه أيضًا: أنه قال في معنى الآية: قدر السعادة والشقاوة، وهدى للرشد والضلالة، وهدى الأنعام لمراعيها، وقيل: قدر أرزاقهم وأقواتهم، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنسانًا، ولمراعيهم إن كانوا وحشًا، وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له، وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم، وقال الفراء: أي: ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾ وأضل، فاكتفى بأحدهما، وفي تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا، والأولى عدم تعيين فرد أو أفراد مما يصدق عليه قدر فهدى إلا بدليل يدل عليه. ومع عدم
والمعنى (١): أي والذي قدر كل واحد من الكائنات على ما يستحقه، ويكون به استقرار شأنه، فقدر السموات وما فيها من الكواكب، وقدر الأرض وما فيها من المعادن، وما يظهر على وجهها من النبات، وما يعيش عليها من الحيوان، ثم هدى كل دابة إلى استعمال ما يصلحها، وما هو أمس بحاجتها بما خلق فيها من الميول والإلهامات لتحصيل ما لها من مقاصد وغايات.
والخلاصة (٢): قدر أجناس الأشياء وأنواعها وصفاتها وأفعالها وأقوالها وآجالها، فهدى كل واح منها إلى ما يصدر عنه، وينبغي له، ويسره لما خلق له، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه.
٣ - ٤ ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤)﴾ معطوف على الموصول الأول أيضًا؛ أي: أنبت بكمال قدرته ما ترعاه الدواب غضًا طريًا من بين أخضر وأصفر، وأحمر وأبيض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المرعى: الكلأ الأخضر.
٥ - ﴿فَجَعَلَهُ﴾؛ أي (٣): فجعل ذلك المرعى والعشب بعد أن كان أخضر غضًا طريًا ﴿غُثَاءً﴾: مفعول ثان لجعل؛ أي: هشيمًا جافًا كالغثاء والقمام الذي يحمله السيل ويكون فوقه ﴿أَحْوَى﴾ صفة لـ ﴿غُثَاءً﴾؛ أي: أسود بعد اخضراره؛ لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن، فصار أحوى. وفي "الصحاح": الرعي - بالكسر -: الكلأ، وبالفتح: المصدر، والمرعى: الرعي؛ أي: الكلأ، أو المصدر؛ أي: الرعي بالفتح. اهـ.
والغثاء: الدرين - وهو كأمير -: يبيس كل حطام حمض أو شجر أو بقل، قال الجوهري: الغثاء - بالضم والمد -: ما يحمل السيل من القماش، والقمش: جمع الشيء من هاهنا وهاهنا، وذلك الشيء قماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس: قماش، والأحوى: مأخوذ من الحوة، وهي سواد يضرب إلى الخضرة، وفي "الصحاح": الحوة: حمرة الشفة، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس اسودَّ، سواء كان جفافه واسوداده بتأثير حرارة الشمس أو برودة الهواء،
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
ومعنى الآية: أي والذي أنبت النبات جميعه لترعاه الدواب والنعم، فما من نبت إلا وهو يصلح أن يكون مرعى لحيوان من الأجناس الحية ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥)﴾؛ أي: فجعل هذا المرعى بعد أن كان أخضر هشيمًا باليًا كالغثاء يميل لونه إلى السواد، فهو سبحانه القادر على إنبات العشب، وعلى تبديل حاله، لا الأصنام التي عبدها الكفرة الفجرة.
وقصارى ما سلف: أنا مأمورون أن نعرف الله جل شأنه بأنه القادر العالم الحكيم الذي شهدت بصفاته آثاره في خلقه، وأن لا ندخل في هذه الصفات ما لا يليق به، كما أدخل الملحدون الذين اتخذوا من دونه شركاء، أو وصفوه بما به يشبه خلقه. وإنما توجه إلينا الأمر بتسبيح الاسم دون الذات ليرشدنا إلى أن مبلغ جهدنا أن نعرف الصفات بما يدل عليها، أما الذات.. فهي أعلى وأرفع من أن تتوجه إليها عقولنا إلا بما نلحظ من هذه الصفات بما يدل عليها.
٦ - ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾؛ أي: سنجعلك قارئًا بأن نلهمك القراءة ﴿فَلَا تَنْسَى﴾ ما تقرؤه، وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان هدايته تعالى الخاصة برسول الله - ﷺ - إثر بيان هدايته تعالى العامة لكافة مخلوقاته، وهي هدايته - ﷺ - لتلقي الوحي، وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين، وتوفيقه - ﷺ - لهداية الناس أجمعين. قال الراغب في "المفردات": وهذا إخبار وضمان من الله تعالى أن يجعله بحيث لا ينسى ما سمعه من الحق. انتهى. والسين؛ إما للتأكيد، وإما لأن المراد إقراء ما أوحى إليه حينئذٍ، وما سيوحى إليه بعد ذلك، فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء.
والمعنى: سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل، فلا تنسى أصلًا من قوة الحفظ والإتقان. وفي "كشف الأسرار": سنجمع حفظ القرآن في قلبك، وقراءته في لسانك، حتى لا تنسى، كقوله: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧)﴾.
قال مجاهد والكلبي: كان النبي - ﷺ - إذا نزل عليه جبريل بالوحي.. لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبي - ﷺ - بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾.
٧ - وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ استثناء مفرغ من أعم المفاعيل؛ أي: لا تنسى مما تقرأه شيئًا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه أبدًا، بأن نسخت تلاوته، فإن النسخ نوع من الإنساء، وطريق من طرقه، فكأنه بالنسخ محي من الصحف والصدور، فالمراد بالنسيان: هو النسيان الكلي الدائم، بحيث لا يعقبه التذكر بعده، ويجوز أن يراد به النسيان المتعارف الذي يعقبه التذكر بعده، وهو النسيان في الجملة على القلة والندرة؛ أي: فلا تنسى إلا ما شاء الله نسيانه، ثم لا يبقى المنسي منسيًا دائمًا، بل يعقبه التذكر كما هو المفهوم من المقام، ويؤيد هذا المعنى: ما روي أنه - ﷺ - أسقط آيةً في قراءته في الصلاة فحسب أبي رضي الله عنه أنها نسخت، فسأله فقال - ﷺ -: "نسيتها".
وروي: أن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان يقرأ القرآن في الليل، فقال: - ﷺ -: "لقد أذكرني آية أنسيتها"، ومن هذا كان - ﷺ - يقول في دعائه: "اللهم ارحمني بالقرآن العظيم، واجعله لي إمامًا ونورًا وهدى ورحمة، اللهم ذكرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت، وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجة لي يا رب العالمين". وكان - ﷺ - يقول: "إنما أنا بشر أُنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾، ودل الكل على جواز جريان النسيان عليه، وإن لم يكن سهوه ونسيانه من قبيل سهو الأمة ونسيانهم، فإنه أهل الحضور الدائم.
وقصارى ذلك: أن فائدة هذا الاستثناء بيان أنه تعالى قادر على أن ينسيه، وأن عدم النسيان فضل عن لله تعالى إحسان، لا من قوته. وقال أبو حيان: ومناسبة قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ لما قبله: أنه لما أمر تعالى بالتسبيح، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى.. أزال عنه ذلك، وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى، واستثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه.
والمعنى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾؛ أي (٢)؛ سننزل عليد كتابًا تقرأه، ولا تنسى منه شيئًا بعد نزوله عليك، وقد كان - ﷺ - إذا نزل عليه القرآن أكثر من تحريك لسانه مخافة أن ينساه، فوعد بأنه لا ينساه.
وخلاصة ذلك: أنا سنشرح صدرك ونقوي ذاكرتك حتى تحفظه بسماعه مرة واحدة، ثم لا تنساه بعدها أبدًا.
ولما كان هذا الوعد على سبيلِ التأبيد يوهم أن قدرته تعالى لا تسع تغييره.. جاء بالاستثناء فقال: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾؛ أي: فإن أراد أن ينسيك شيئًا لم يعجزه ذلك.
ثم أكد هذا الوعد مع الاستثناء فقال: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾، والجملة تعليل لما قبلها (٣)؛ أي: يعلم ما ظهر وما بطن، والإعلان والإسرار، وظاهره
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: أي يعلم سبحانه ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها ما أوحي إليك، فينسي ما يشاء إنساءه، ويبقي محفوظًا ما يشاء إبقاءه لما نيط بكل منهما من مصالح دينكم.
والحاصل (٢): أي إن الذي وعدك بأنه سيقرئك، وأنه سيجعلك حافظًا لما تقرأ فلا تنساه، عالم بالجهر والسر، فلا يفوته شيء مما في نفسك، وهو مالك قلبك وعقلك، وخافي سرك وجهرك، ففي مقدوره أن يحفظ عليك ما وهبك، وإن كان من خفيات روحك، ولو شاء لسلبه، ولن تستطيع دفعه؛ لأنه ليس في قدرتك أن تخفي عنه شيئًا.
٨ - ولما كان في الوعد بالإقراء الوعد بتشريع الأحكام، وفيها ما يصعب على المخاطبين احتماله.. أردف ذلك الوعد بما يزيده حلاوة في النفوس فقال: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨)﴾ معطوف على ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾، وما بينهما اعتراض؛ أي: ونوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، ولا يصعب على العقول فهمها، واليسرى (٣): فعلى من اليسر: وهو السهولة، وضمن ﴿نُيَسِّرُكَ﴾ معنى التوفيق فعداه بدون اللام، وإلا فالعبارة المعتادة أن يقال: جعل الفعل الفلاني ميسرًا لفلان، لا
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): ونوفقك توفيقًا مستمرًا للطريقة اليسرى؛ أي: التي هي أيسر وأسهل في كل باب من أبواب الدين والدنيا علمًا وتعليمًا واهتداءً وهداية، فيندرج فيه تيسير طريق تلقي الوحي، والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة، والنواميس الإلهية، مما يتعلق بتكميل نفسه - ﷺ -، وتكميل غيره، كما يفصح عنه
٩ - ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩)﴾؛ أي: فذكر الناس حسبما يسرناك له بما يوحى إليك، واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية، كما كنت تفعله إن نفع التذكير والعظة والنصيحة، وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله - ﷺ - طالما كان يذكرهم، ويستفرغ فيه جهده حرصًا على إيمانهم، وكان لا يزيد ذلك بعضهم إلا كفرًا وعنادًا، فأمر - ﷺ - بأن يخص التذكير بمدار النفع في الجملة، بأن يكون من يذكره كلًّا أو بعضًا ممن يرجى منه التذكر، ولا يتعب نفسه في تذكير من لا يزيده التذكير إلا عتوًا ونفورًا من المطبوع على قلوبهم، كما في قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾، فحرف الشك راجع إلى النبي - ﷺ -، لا إلى الله تعالى.
وخلاصة المعنى (٢): أي فذكر الناس بما أوحينا به إليك، واهدهم إلى ما فيه من بيان الأحكام الدينية، فإن أصر المعاندون على عنادهم، ولم يزدهم وعظك إلا
(٢) المراغي.
قال الواحدي (١): المعنى: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع؛ لأن النبي - ﷺ - بعث مبلغًا للإعذار والإنذار، فعليه التذكير في كل حال، نفع أو لم ينفع، ولم يذكر الحالة الثانية للاكتفاء، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبرد، وقال الجرجاني: التذكير واجب، وإن لم ينفع.
والمعنى: إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع. قال أبو حيان: والظاهر (٢) أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى، وهذا الشرط إنما يجيء به توبيخًا لقريش؛ أي: إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة، ومعناه: استبعاد انتفاعهم بالذكرى، فهو كما قال الشاعر:
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا | وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِيْ |
وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني: معناه: فذكر وإن لم ينفع، فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني، وقيل: ﴿إن﴾ بمعنى: إذ، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وقيل: بمعنى: قد، ذكره ابن خالويه، وهو بعيد جدًّا، وعبارة الرازي: واعلم (٣) أنه - ﷺ - كان مبعوثًا إلى الكل، فيجب عليه أن يذكِّرهم سواء نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم، والجواب عن هذا الشرط: أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين، ونبه على الحالة الأخرى، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾، والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، وأجيب عنه أيضًا: بأن التذكير العام واجب في أول الأمر، وأما التكرير.. فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود، فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط المذكور، والتذكير المأمور به حينئذٍ هل هو محصور في عشر مرات، أو غير محصور؟ والجواب: أن الضابط فيه
(٢) البحر المحيط.
(٣) التفسير الكبير للرازي.
١٠ - ثم بين سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ومن لا تنفعه، فقال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠)﴾؛ أي: سيتذكر بتذكيرك مَنْ من شأنه أن يخشى الله حق خشيته، أو من يخشى الله في الجملة، فيزداد ذلك بالتذكير، فيتفكر في أمر ما تذكر به، فيقف على حقيقته، فيؤمن به؛ أي: سيتعظ بوعظك من يخشى الله، فيزداد بالتذكير خشيةً وصلاحًا، وفي "التفسير الكبير" للرازي: واعلم (١) أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام: منهم من قطع بصحة المعاد ومنهم من جوز وجوده، ولكنه غير قاطع فيه بالنفي ولا بالإثبات، ومنهم من أصر على إنكاره؛ أي: المعاد، وقطع بأنه لا يكون، فالقسمان الأولان تكون الخشية حاصلة لهما، وأما القسم الثالث.. فلا خشية له ولا خوف، فلما قال الله: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩)﴾ بيَّن أن الذي تنفعه الذكرى ﴿مَنْ يَخْشَى﴾، ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنيًا على حصول الخشية في القلب، وصفات القلوب لا يطلع عليها إلا الله.. وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلًا للمقصود، فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير، والسين في ﴿سَيَذَّكَّرُ﴾ بمعنى: سوف، وسوف من الله واجب، كقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾. اهـ "رازي".
والمعنى (٢): أي إنما ينتفع بتذكيرك من يخشى الله تعالى، ويخاف عقابه؛ لأنه هو الذي يتأمل في كل ما تذكره له، فيتبين له وجه الصواب، ويظهر له سبيل الحق الذي يجب المعول عليه. وفي التعبير بقوله: ﴿سَيَذَّكَّرُ﴾ إيماء إلى أن ما جاء به الرسول بلغ حدًا من الوضوح لا يحتاج معه إلا إلى التذكير فحسب، وإنما الذي يحول بينهم وبين اتباعه واقتفاء آثاره تقليد الآباء والأجداد، فكأنهم عرفوه واستيقنوا صحته، ثم زالت هذه المعرفة بانتهاجم خطة آبائهم من قبل،
١١ - ثم أشار إلى عدم جدواها بالنظر للمعاندين الجاحدين، فقال: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا﴾؛ أي: يتجنب الذكرى ويبتعد عنها، ولا يسمعها سماع قبول ﴿الْأَشْقَى﴾؛ أي: الزائد في الشقاوة من الكفرة لإصراره على الكفر، وانهماكه في المعاصي، ولتوغله في عداوة النبي - ﷺ -، مثل: الوليد بن المغيرة، وأبي جهل، وغيرهما، أو المراد بالأشقى: الكافر مطلقًا؛ لأنه
(٢) المراغي.
روي: أن من يخشى هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، والأشقى: رجل من المنافقين، وذلك أن المنافق كانت له نخلة مائلة في دار رجل من الأنصار، فسقط ثمرها في دار الأنصاري، فذكر ذلك لرسول الله - ﷺ -، فأرسل إلى المنافق، ولم يكن يعلم بنفاقه، فسأله أن يعطي النخلة للأنصاري على أن يعطيه الله نخلة في الجنة، فقال: أبيع عاجلًا بآجل؟ لا أفعل، فأعطاه عثمان رضي الله عنه حائط نخل له، فنزلت الآية، كما في "التكملة".
١٢ - ثم وصف الأشقى فيقال: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢)﴾؛ أي: يدخل النار العظيمة الفظيعة، وهي: الطبقة السفلى من طبقات النار؛ لأنها أشد حرًا من غيرها، فالكبرى: اسم تفضيل؛ لأنه تأنيث الأكبر، والمفضل هو ما في أسفل دركات جهنم من النار التي هي نصيب الكفار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، والمفضل عليه ما في الدركات التي فوقها، فإن لجهنم نيرانًا، ودركات متفاضلة، كما أن في الدنيا ذنوبًا ومعاصي متفاضلة، فكما أن الكفار أشقى العصاة، كذلك يصلون أعظم النيران، وقيل: الكبرى (١): نار جهنم، والصغرى: نار الدنيا، يعني أن المفضل: نار الآخرة، والمفضل عليه: نار الدنيا؛ لقوله - ﷺ -: "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، وقد غمست في ماء البحر مرتين ليدنى منها، وينتفع بها، ولولا ذلك ما دنوتم منها". ويقال: إنها تتعوذ بالله من جهنم، وأن ترد إليها. يقول الفقير: الظاهر أن المراد بالنار الكبرى هو العذاب الأكبر في قوله تعالى: ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)﴾، وهو عذاب الآخرة، وأما العذاب الأصغر.. فهو عذاب الدنيا، وعذاب البرزخ فإنه يصغر بالنسبة إلى عذاب الآخرة.
والمعنى: أي (٢) ويبتعد عن هذه التذكرة المعاند المصر على الجحود عنادًا واستكبارًا، وهو الذي يذوق حر النار الكبرى في دركات جهنم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾؛ إذ لا يليق بحكمة الحكيم المتعالي أن يسوي بين من اجترأ عليه وتهاون بأمره وارتكب أشنع الذنوب وأقبحها، ومن كان نقي الصحيفة ميمون النقيبة مطيعًا لأمره مؤديًا فرائضه منتهيًا عن الفحشاء والمنكر.
(٢) المراغي.
١ - عارف صحتها، موقن بصدقها، لا يدور بخلده تردد ولا شك، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يخشى ربه.
٢ - متردد متوقف إلى أن يقوم لديه البرهان، فإذا هو سنح له بادر إلى التصديق بها، وهذا أدنى من سابقه.
٣ - شقي معاند لا يلين قلبه للذكرى، ولا تنال الدعوة من نفسه قبولًا، وهو شر الأقسام الثلاثة وأبعدها من الخير.
١٣ - ثم بيَّن عاقبة هذا الأشقى، ومآل أمره فقال: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ﴾ هذا الأشقى ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في النار الكبرى، فيستريح مما هو فيه من العذاب ﴿وَلَا يَحْيَى﴾ حياة طيبة تنفعه كما يقال لمن ابتلي بالبلاء الشديد: لا هو حي ولا هو ميت، ومنه قول الشاعر:
أَلَا مَا لِنَفْسٍ تَمُوْتُ فَيَنْقَضِيْ | عَنَاهَا وَلَا تَحْيَا حَيَاةً لَهَا طَعْمُ |
والمعنى: أي ومن شقي هذا الشقاء، ولقى هذا العذاب بتلك النار يخلد فيها، ولا يقف عذابه عند غاية، ولا يجد لآلامه نهاية، فلا هو يموت فيستريح، ولا يحيى الحياة الطيبة فيسعد بها، ونحو الآية قوله: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾، والعرب تقول لمن هو مبتلى بمرض يقعده: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى.
١٤ - ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؛ أي: نجا من المكروه، وظفر بما يرجوه ﴿مَنْ تَزَكَّى﴾؛ أي: تطهير من الكفر والمعاصي، بتذكره واتعاظه بالذكرى، أو تكثره من التقوى والخشية من الزكاء: وهو النماء، وأتى (٢) بكلمة ﴿قَدْ﴾ لما أن عند الأخبار بسوء حال المتجنب عن الذكرى في الآخرة، يتوقع السامع الإخبار بحسن حال المتذكر فيها وينتظره.
(٢) روح البيان.
قال الإِمام (١): مراتب أعمال المكلف ثلاث:
فأولاها: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب، وهي المرادة بالتزكي.
والثانية: استحضار معرفة الله بذاته وصفاته وأسمائه، وهي المرادة بالذكر؛ لأن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة.
والثالثة: الاشتغال بالخدمة والطاعة، وهي المرادة بالصلاة؛ فإنها عبارة عن التواضع والخشوع، فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله، لا بد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخشوع والخضوع. قال بعضهم: خلق الله وجهًا يصلح للسجدة، وعينًا تصلح للعبرة، وبدنًا يصلح للخدمة، وقلبًا يصلح للمعرفة، وسرًا يصلح للمحبة، فاذكروا نعمة الله عليكم حيث زين ألسنتكم بالشهادة، وقلوبكم بالمعرفة، وأبدانكم بالعبادة.
والمعنى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤)﴾؛ أي: قد (٢) أدرك الفلاح، وظفر بالبغية من طهر نفسه، ونقاها من أوضار الكفر، وأزال عنها أدران الشرك والآثام، ومن هذا تعلم أن تزكية النفوس إنما يكون بالإيمان بالله، ونفي الشركاء، والتصديق بكل ما جاء به رسوله - ﷺ - مع صالح العمل، ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)﴾؛ أي: وأحضر في قلبه صفات ربه من الجلال والكمال، فخضع لجبروته وقهره، فإن المرء متى تذكر ربه العظيم.. وجل قلبه وخاف من سطوته وامتلأت نفسه خشية منه، ورهبة لجلاله، كما قال في آية أخرى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
١٦ - ثم رد سبحانه على قوم ممن قست قلوبهم، ولم يأخذوا من العبادة إلا
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تُؤْثِرُونَ﴾ بتاء الخطاب للكفار، أو لجميع الناس، ويؤيدها قراءة أبي: ﴿بل أنتم تؤثرون﴾ وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم: بياء الغيبة، قيل: المراد بالآية: الكفرة، والمراد بإيثار الحياة الدنيا: هو الرضا بها، والاطمئنان إليها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ الآية، وقيل (٢): المراد بالآية: جميع الناس من مؤمن وكافر، والمراد بإيثارها: ما هو أعم من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة، والتوجه إلى تحصيل منافعها، والاهتمام بها اهتمامًا زائدًا على اهتمامهم بالطاعات، والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ، وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، ولتشديد العتاب في حق المسلمين.
وفي "فتح الرحمن": فالكافر يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس، إلا من عصم الله تعالى. وفي "عين المعاني": خطاب للأمة؛ إذ كل يميل إلى الدنيا إما رغبة فيها، أو ادِّخارًا لثواب الآخرة.
١٧ - وجملة قوله: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾ في (٣) محل النصب على الحال من فاعل ﴿تُؤْثِرُونَ﴾، مؤكدة للتوبيخ والعتاب؛ أي: تؤثرونها على الآخرة، والحال أن الآخرة خير في نفعها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذات خالص عن شائبة الفائتة، أبدي لا انصرام له، وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغِّصات، وانقطاعه عما قليل لغاية ظهوره. قال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى.. لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى. وفيه إشارة (٤)
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
والمعنى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾؛ أي (١): أنتم كاذبون فيما زعمتم لأنفسكم من حسن العمل؛ لأنكم لو كنتم صادقين فيما ذهبتم إليه.. لكنتم تفضِّلون الآخرة على الدنيا، كما يرشد إلى ذلك العقل، ويهدي إليه الشرع، فمتاع الآخرة دائم، ونعيمها لا يزول، ولا تنقيص فيه، ولا منَّ، ومتاع الدنيا متاع زائل تشوبه الأكدار، وتحوط به الآلام، فمن استعجل هذا النعيم، واستحب زينة الدنيا.. لا يكون مصدقًا بالآخرة ونعيمها، أو يكون إيمانه إيمانًا لا يجاوز طرف لسانه، ولا يصل إلى قلبه، فلا يجازى عليه الجزاء الذي وعد به المؤمنون، وقد يقال في معنى الآيات: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤)﴾؛ أي: من تاب من الذنوب ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾ يعني: إذا سمع الأذان خرج إلى الصلاة ﴿فَصَلَّى﴾ ثم ذم تارك الجماعة لأجل اشتغاله بالدنيا، فقال: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦)﴾ يعني: تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة، وعمل الآخرة خيرٌ وأبقى من عمل الدنيا، والاشتغال بها وبزينتها.
١٨ - ثم بين أن الأصول العامة التي جاءت في هذه الشريعة هي بعينها التي جاءت في جميع الشرائع السماوية فقال: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ إشارة إلى ما تقدم من فلاح من تزكَّى ومن بعده. وقيل: إنه إشارة إلى جميع السورة ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾؛ أي: لثابت في جميع الصحف السالفة، جمع: صحيفة، وهي: الكتاب.
قال الراغب: الصحيفة: المبسوط من كل شيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي كان يكتب فيها، والمصحف: ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة.
١٩ - ﴿صُحُفِ﴾ جدِّك ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل عليه السلام. ﴿و﴾ صحف أخيك ﴿مُوسَى﴾ الكليم عليه السلام، بدل من الصحف الأولى.
والمعنى: أي إن ما أوحى به إلى نبيه - ﷺ - من أمر ونهي، ووعد ووعيد، هو بعينه ما جاء في صحف إبراهيم وموسى، فدين الله واحد، وإنما تختلف صوره، وتتعدد مظاهره، فإذا كان المخاطبون قد آمنوا بابراهيم أو بموسى، فعليهم أن يؤمنوا بمحمد - ﷺ -؛ لأنه لم يأتِ إلا بما جاء في صحفهم، وإنما هو مذكر أو محي لما مات من شرائعهم.
وقصارى ذلك: أن الرسول - ﷺ - ما جاء إلا مذكرًا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين، وداعيًا إلى وجهها الصحيح الذي أفسده كر الغداة، ومرُّ العشي، كما طمس معالمه اتباع الأهواء واقتفاء سنن الآباء والأجداد.
وقرأ الجمهور: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)﴾ بضم الحاء في الموضعين. وقرأ الأعمش وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو: بسكونها فيهما. وفي كتاب "اللوامح": قرأ العقيلي عن أبي عمرو: ﴿الصحف﴾، ﴿صحف﴾: بإسكان الحاء فهما لغة تميم.
وقرأ الجمهور: ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ بألف وبياء، والهاء مكسورة، وقرأ أبو رجاء: بحذفهما، والهاء مفتوحة، أو مكسورة، وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير: ﴿إبراهام﴾ بألفين في كل القرآن، وقرأ مالك بن دينار: ﴿إبراهم﴾ بكسر الهاء، وبغير ياء في جميع القرآن، قال ابن خالويه: وقد جاء إبراهم، يعني: بألف وضم الهاء، وقد تقدم في سورة النجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.
الإعراب
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (٧)
﴿سَبِّحِ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، وجعله الجلال مقحمًا على حد قول لبيد:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
ولا داعي لهذا التكلف، فإن التنزيه يقع على الاسم؛ أي: نزه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن. ﴿الْأَعْلَى﴾: صفة أولى لـ ﴿رَبِّكَ﴾، وأجاز ابن هشام أن يكون صفة لـ ﴿اسْمَ﴾ ﴿الَّذِي﴾: صفة ثانية لـ ﴿الرب﴾، وجملة ﴿خَلَقَ﴾ صلته، ومفعول ﴿خَلَقَ﴾ محذوف؛ أي: كل شيء ﴿فَسَوَّى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿سوى﴾: معطوف على ﴿خَلَقَ﴾. ﴿وَالَّذِي﴾: معطوف على الموصول الأول، وجملة ﴿قَدَّرَ﴾ صلته، ﴿فَهَدَى﴾: معطوف على ﴿قَدَّرَ﴾، ﴿وَالَّذِي﴾: معطوف أيضًا على الموصول الأول، وجملة ﴿أَخْرَجَ﴾ صلته، و ﴿الْمَرْعَى﴾: مفعول به لـ ﴿أَخْرَجَ﴾ ﴿فَجَعَلَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿جعله﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول أول معطوف على ﴿أَخْرَجَ﴾، ﴿غُثَاءً﴾: مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾ ﴿أَحْوَى﴾: صفة لـ ﴿غُثَاءً﴾، أو حال من ﴿الْمَرْعَى﴾، وأُخِّر عنه لرعاية الفواصل، وهنا أقوال متلاطمة في إعراب ﴿أَحْوَى﴾ لا تخلو من الاعتراض ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾: ﴿السين﴾: حرف استقبال ﴿نقرئك﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فَلَا تَنْسَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿لا﴾: نافية، ﴿تَنْسَى﴾؛ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على ﴿نقرئك﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم المفاعيل ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تَنْسَى﴾، وجملة ﴿شَاءَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد محذوف؛ أي: فلا تنسى شيئًا من الأشياء إلا شيئًا شاء الله تعالى نسيانك إياه، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾ ﴿الْجَهْرَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وما﴾: ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿الْجَهْرَ﴾، وجملة ﴿يَخْفَى﴾ صلة الموصول، ﴿وَنُيَسِّرُكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿نيسرك﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، تقديره: نحن، ومفعول به معطوف على ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾، ﴿لِلْيُسْرَى﴾: متعلق بـ ﴿نُيَسِّرُكَ﴾: أي:
﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَمُوتُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يَصْلَى﴾، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَمُوتُ﴾، ﴿وَلَا يَحْيَى﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يَمُوتُ﴾، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿أَفْلَحَ﴾: فعل ماضٍ ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في حل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَزَكَّى﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿تَزَكَّى﴾ ﴿فَصَلَّى﴾: معطوف على ﴿ذَكَرَ﴾، ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب على مقدر يدل عليه السياق، والتقدير: أنتم لا تفعلون ما فيه صلاح أمركم، بل تؤثرون، و ﴿تُؤْثِرُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف ﴿الْحَيَاةَ﴾: مفعول به ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةَ﴾، ﴿وَالْآخِرَةُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿الْآخِرَةُ﴾: مبتدأ ﴿خَيْرٌ﴾: خبر ﴿وَأَبْقَى﴾: معطوف
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾ سبح: أمر من التسبيح، وهو التنزيه.
﴿الْأَعْلَى﴾: فيه إعلال بالقلب، أصله: الأعلي بوزن الأفعل، تحركت الياء، وانفتح ما قبله، فقلبت ألفا، وأصل هذه الألف الواو؛ لأنه من: علا يعلو علوًا.
﴿خَلَقَ﴾؛ أي: أوجد الكائنات.
﴿فَسَوَّى﴾؛ أي: فسواها، ووضع خلقها على نظام كامل، لا تفاوت فيه ولا اضطراب، وأصله: سوي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَالَّذِي قَدَّر﴾؛ أي: قدر لكل حي ما يصلحه مدة بقاءه.
﴿فَهَدَى﴾؛ أي: هداه، وعرفه وجه الانتفاع بما خلق له.
﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤)﴾ والمرعى: كل ما تخرجه الأرض من النبات والثمار والزروع المختلفة، وأصله: المرعي، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح.
﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً﴾. والغثاء: بتخفيف الثاء المثلثة بوزن: غراب، وتشديدها - بوزن زنار -: ما يقذفه السيل إلى جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش، قال الشاعر:
كَأَنَّ ظَمِيْئَاتِ الْمُخَيْمِرِ غُدْوَةً | مِنَ السَّيْلِ وَالْغَثَّاءِ فُلْكٌ مُغَزَّلُ |
﴿أَحْوَى﴾ أصله: أحوي بوزن أفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح من الحوة، وهو سواد يضرب إلى الخضرة، والأحوى: الذي يضرب لونه إلى السواد
لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ | وَفِي اللِّثَاتِ وَفِيْ أَنْيَابِهَا شَنَبُ |
وفي "القاموس": الحوة - بالضم -: سواد إلى الخضرة، أو حمرة إلى السواد، وحوي، كرضي حوىّ.
﴿سَنُقْرِئُكَ﴾؛ أي: نجعلك قارئًا للقرآن. ﴿فَلَا تَنْسَى﴾ أصله: تنسي بوزن: تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَمَا يَخْفَى﴾ أصله: يخفي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿لِلْيُسْرَى﴾ اليسرى: فعلى، من اليسر وهو السهولة، ويسرت كذا سهلت وهيأت، وضمن نيسرك معنى: نوفقك، فعداه بدون اللام، كما مر، و ﴿اليسرى﴾: أعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر.
﴿سَيَذَّكَّرُ﴾ أصله: سيتذكر، أبدلت تاء التفعل دالًا، ثم أدغمت في الذال فاء الكلمة. ﴿مَنْ يَخْشَى﴾ أصله: يخشي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح.
﴿الْأَشْقَى﴾ أصله: الأشقي بوزن الأفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿يَصْلَى﴾: أصله: يصلي بوزن: يفعل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح.
وقوله: ﴿يَمُوتُ﴾ أصله: يموت بوزن يفعُل، نقلت حركة الواو إلى الميم، فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. ﴿يَحْيَى﴾ أصله: يحيي بوزن يفعل، قلبت الياء الآخرة ألفا لتحركها بعد فتح. ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؛ أي: فاز بالمطلوب، ونجا من المكروه.
﴿مَنْ تَزَكَّى﴾، أي: تطهير من دنس الرذائل، ورأسها: جحد الحق، وقسوة القلب، أصله: تزكي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾؛ أي: ذكر في قلبه صفات ربه من الكبرياء والجلال.
﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾ أصله: أبقي، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا. ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ والصحف: جمع صحيفة، ككتيبة وكتائب، وقذيفة وقذائف.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: حذف المفاعيل ليفيد العموم في قوله: ﴿خَلَقَ فَسَوَّى﴾، وقوله: ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾، أي: خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فهداه.
ومنها: الإتيان بسين الاستقبال في قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ لتأكيد الكلام.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾، وفي قوله: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣)﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨)﴾.
ومنها: الإتيان فيه بنون العظمة لتكون عظمة المعطي دليلًا على عظمة العطاء.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿ذَكِّرْ﴾، و ﴿الذِّكْرَى﴾.
ومنها: المقابلة بين ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠)﴾، وبين ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١)﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١)﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦)﴾ لتشديد التوبيخ في حق الكفرة وتشديد العتاب في حق المسلمين.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨)﴾ مبالغة في رد إنكار المنكرين.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وكان فيها أيضًا: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر في صنع الله عَزَّ وَجَلَّ له، ويتفكر فيما صنع هو، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.
وفيها أيضًا: وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن عدَّ كلامه من عمله.. قل كلامه إلا فيما يعنيه".
قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟، قال: "كانت عبرًا كلها، وفيها: عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها.
وفيها أيضًا: عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل" قال: قلت: فهل في أيدينا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى مما أنزل عليك؟ قال: "نعم، إقرأ يا أبا ذر: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)﴾ " وذكر الحديث إلى هنا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت على المقاصد التالية:
١ - أمر النبي - ﷺ - وأمته تبع له - بتسبيح الله سبحانه وتعالى عما لا يليق به ذاتًا وصفات وأسماء وأفعالًا.
٢ - الامتنان على عباده بخلق الكائنات، وتسويتها، وتقديرها، وهدايتها إلى ما هو من مصالحها، وبإخراج المرعى لهم ولأنعامهم.
٣ - الوعد لرسوله - ﷺ - بإقرائه القرآن وعدم نسيانه.
٤ - أمره بتذكير عباده بما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
٥ - ذكر وعيد من أعرض عن النظر في الدلائل، ووعد من زكى نفسه وطهرها من أدران الشرك والمعاصي، وبيان أن هذا في الصحف الأولى.
وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (١).
* * *
سورة الغاشية مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الذاريات، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الغاشية بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: ست وعشرون آية. وكلماتها: اثنتان وتسعون كلمة. وحروفها: ثلاث مئة وإحدى وثمانون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها: أنه أشير في السابقة إلى المؤمن والكافر، والجنة والنار إجمالًا، وبسط الكلام فيها هنا. وعبارة أبي حيان: لما ذكر فيما قبلها ﴿فَذَكِّرْ﴾، وذكر النار والآخرة قال: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١)﴾، فبسط الكلام فيها، وذكر أن الناس في الغاشية فريقان:
فريق في الجنة، وفريق في النار، ثم لفت الأنظار إلى بعض الآثار الكونية، ثم أمر النبي - ﷺ - بالتذكير مع بيان أن المرجع إلى الله وحده. وقال بعضهم: لما ختم سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة حيث قال: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧)﴾ افتتح سورة الغاشية ببيان أحوال الآخرة التي رغب فيها، وعاد إليها في السورة السابقة، وكان النبي - ﷺ - وضع سورة الغاشية بعد سورة الأعلى لشرح بداية هذه لخاتمة تلك.
فضلها: ومما ورد في فضلها: ما أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ -: كان يقرأ في العيدين، وفي الجمعة بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، و ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١)﴾، وإنْ وافق يوم الجمعة.. قرأهما جميعًا.
وفي لفظ: وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. وفي الباب أحاديث كثيرة، ومنها: ما روي أنه - ﷺ - قال: "من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله تعالى حسابًا يسيرًا"، ولكن لا أصل له.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: سورة الغاشية كلها
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *