تفسير سورة النصر

أضواء البيان
تفسير سورة سورة النصر من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

سُورَةُ النَّصْر
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.
فِيهِ ذِكْرُ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ: فَمَعَ كُلِّ نَصْرٍ فَتْحٌ، وَمَعَ كُلِّ فَتْحٍ نَصْرٌ.
فَهَلْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ أَمْ لَا؟
كَمَا جَاءَ النَّصْرُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَتْحُ مُطْلَقًا.
أَوْلًا: اتَّفَقُوا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُ سَبَقَ فَتْحَ مَكَّةَ عِدَّةُ فُتُوحَاتٍ.
مِنْهَا فَتْحُ خَيْبَرَ، وَمِنْهَا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَتْحًا فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [٤٨ ٢٧].
وَالنَّصْرُ يَكُونُ فِي مَعَارِكِ الْقِتَالِ وَيَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ، وَيَكُونُ بِكَفِّ الْعَدُوِّ، كَمَا فِي الْأَحْزَابِ. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [٣٣ ٢٥].
وَكَمَا فِي الْيَهُودِ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [٣٣ ٢٦ - ٢٧].
فَالنَّصْرُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [٣ ١٢٦].
وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [٢ ٢١٤]، فَهُمْ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى النَّصْرِ.
وَيَأْتِيهِمُ الْجَوَابُ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [٢ ٢١٤].
وَجَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ».
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَأَخِيهِ: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [٢٠ ٤٦]، فَهُوَ نَصْرُ مَعِيَّةٍ وَتَأْيِيدٍ، فَالنَّصْرُ هُنَا عَامٌّ.
وَكَذَلِكَ الْفَتْحُ فِي الدِّينِ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْظَمُ الْفَتْحِ فَتْحَانِ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ.
إِذِ الْأَوَّلُ تَمْهِيدٌ لِلثَّانِي، وَالثَّانِي قَضَاءٌ عَلَى دَوْلَةِ الشِّرْكِ فِي الْجَزِيرَةِ، وَيَدُلُّ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ فِي النَّصْرِ وَالْفَتْحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَكَأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ حَتَّى مِنَ الْيَمَنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الدَّعْوَةِ وَنَجَاحِ الرِّسَالَةِ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا مَجِيءُ آيَةِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [٥ ٣]، وَكَانَ نُزُولُهَا فِي حَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّ النَّصْرَ هُنَا جَاءَ بِلَفْظِ نَصْرِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ هَذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [٨ ١٠].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ هُنَا لَهَا دَلَالَةُ تَمَامٍ وَكَمَالٍ، كَمَا فِي بَيْتِ اللَّهِ. مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بُيُوتٌ لِلَّهِ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالنَّصْرِ كُلَّ النَّصْرِ، أَوْ بِتَمَامِ النَّصْرِ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْفَتْحُ، هُنَا قِيلَ: هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَقِيلَ فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا.
وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى فُتُوحَاتٍ عَدِيدَةٍ قَبْلَ مَكَّةَ.
وَهُنَاكَ فُتُوحَاتٌ مَوْعُودٌ بِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ نَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْهَا فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، لَمَّا اعْتَرَضَتْهُمْ كُدْيَةٌ وَأَعْجَزَتْهُمْ، وَدُعِيَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَخْذَ مَاءً وَتَمَضْمَضَ وَدَعَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ ثُمَّ ضَرَبَ، فَكَانَتْ كَالْكَثِيبِ.
138
وَقَدْ جَاءَ فِيهَا ابْنُ كَثِيرٍ بِعِدَّةِ رِوَايَاتٍ وَطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّهَا تَذْكُرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ، فَأَبْرَقَتْ تَحْتَ كُلِّ ضَرْبَةٍ بَرْقَةً، وَكَبَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَسَأَلُوهُ فَقَالَ " فِي الْأُولَى: أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ " وَذَكَرَ الْيَمَنَ وَالشَّامَ، وَكُلُّهَا رِوَايَاتٌ لَا تَخْلُو مِنْ نِقَاشٍ، وَلَكِنْ لِكَثْرَتِهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَأَقْوَاهَا رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ بِسَنَدِهِ قَالَ: " لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٦ ١١٥]، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرْقَةٌ ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَرَأَ مَا قَرَأَهُ أَوَّلًا، وَبَرَقَتْ أَيْضًا. ثُمَّ الثَّالِثَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَكَسَّرَتْ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ، فَسَأَلَهُ سَلْمَانُ لَمَّا رَأَى مِنَ الْبِرْقَاتِ الثَّلَاثِ: فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رُفِعَتْ لَهُ فِي الْأُولَى مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ حَتَّى رَآهَا بِعَيْنِهِ، فَقَالُوا: ادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْنَا. فَدَعَا لَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ: رُفِعَتْ لَهُ مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، وَفِي الثَّالِثَةِ مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَكُلُّهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ فَتُفْتَحَ عَلَيْهِمْ، فَدَعَا لَهُمْ إِلَّا فِي الْحَبَشَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ " انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَدْ رَوَاهُ كُلٌّ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَالنَّسَائِيِّ مُطَوَّلًا، فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَقَالًا فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُوَطَّأِ مَا لَا يَحْتَمِلُ مَقَالًا، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي دَلَالَتِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ".
فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بِفَتْحِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا فُتِحَتْ كُلُّهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْيَمَنُ.
139
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، إِذْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ " رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتِ الْوُفُودُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عَامَ تِسْعٍ مِنْهَا، وَجَاءَ وَفْدُ الْيَمَنِ وَأَرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَّالَهُ إِلَى الْيَمَنِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقِدَمِ عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ فِي الْعَامِ الْعَاشِرِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، فَفُتِحَتِ الْيَمَنُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَلَيْهِ: تَكُونُ فُتُوحَاتٌ قَدْ وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَهَا هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْفَتْحُ، وَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا قَالُوا.
وَقَدْ يُؤْخَذُ بِدَلَالَةِ الْإِيمَاءِ: الْوَعْدُ بِفُتُوحَاتٍ شَامِلَةٍ، لِمَنَاطِقَ شَاسِعَةٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [٢٢ ٢٧] ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَدُلُّ عَلَى الْإِتْيَانِ إِلَى الْحَجِّ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْإِتْيَانَ إِلَى الْحَجِّ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبِالتَّالِي يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُوَ مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّسْبِيحِ وَمُتَعَلِّقِهِ وَتَصْرِيفِهِ.
وَهُنَا قَرَنَ التَّسْبِيحَ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَفِيهِ ارْتِبَاطٌ لَطِيفٌ بِأَوَّلِ السُّورَةِ وَمَوْضُوعِهَا، إِذْ هِيَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ مُهِمَّةِ الرِّسَالَةِ بِمَجِيءِ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِدِينِهِ. وَمَجِيءِ الْفَتْحِ الْعَامِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ اللَّهِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ وَيَسْتَحِقُّ مُولِيهَا الْحَمْدَ.
فَكَانَ التَّسْبِيحُ مُقْتَرِنًا بِالْحَمْدِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: بِحَمْدِ رَبِّكَ، لِيُشْعِرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُولِي لِلنِّعَمِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الضُّحَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [٩٣ ٣].
140
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ اقْرَأْ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [٩٦ ١]، وَتَكْرَارُهَا اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [٩٦ ٣] ; لِأَنَّ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ مُشْعِرَةٌ بِالْإِنْعَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ عَنْ ذَنْبٍ فَمَا هُوَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [٩٤ ٢].
وَمِمَّا تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ التَّوْبَةَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ، وَلَوْ بَدَأْنَا مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قِصَّتِهِ فَفِيهَا: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [٢ ٣٧]، وَمَعْلُومٌ مُوجِبُ تِلْكَ التَّوْبَةِ.
ثُمَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [٧١ ٢٨].
وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [٢ ١٢٨].
وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ نَفْسَهُ عِبَادَةٌ كَالتَّسْبِيحِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ ذَنْبٍ.
وَقِيلَ: هُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ.
وَقِيلَ: رَفْعٌ لِدَرَجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»، فَتَكُونُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ.
تَنْبِيهٌ
جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ قَوْلَهُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» أَيْ: يُفَسِّرُهُ، وَيَعْمَلُ بِهِ.
وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ التَّسْبِيحِ تَكْمِيلٌ لِلْأَمْرِ
141
بِمَا هُوَ قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ، مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ لُطْفًا لِأُمَّتِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ فَهُوَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهِ.
وَفِي هَذَا لَفْتُ نَظَرٍ لِأَصْحَابِ الْأَذْكَارِ وَالْأَوْرَادِ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى دَوَامِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ هَذَا كَانَ مَنْ أَكْثَرِ مَا يُدَاوِمُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ دُونَ الْمُلَازَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مُنْفَرِدًا مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ صَحِيحٌ وَلَا صَرِيحٌ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي الِاتِّبَاعِ لَا فِي الِابْتِدَاعِ، وَأَيُّ خَيْرٍ أَعْظَمُ مِمَّا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِهِ، وَيُلَازِمُ هُوَ عَلَيْهِ.
وَقُلْنَا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ: لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةُ الْإِيمَاءِ، كَمَا قَالُوا: وَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، حِينَمَا كَانَ يَسْمَحُ لَهُ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ، وَيَرَى فِي وُجُوهِهِمْ، وَسَأَلُوهُ وَقَالُوا: إِنَّ لَنَا أَوْلَادًا فِي سِنِّهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ.
وَفِي يَوْمٍ اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَدَعَاهُ عُمَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَا دَعَانِي إِلَّا لِأَمْرٍ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، السُّورَةَ.
فَقَالُوا: إِنَّهَا بُشْرَى بِالْفَتْحِ وَبِالنَّصْرِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟
قَالَ: فَقُلْتُ، لَا وَاللَّهِ، إِنَّهَا نَعَتْ إِلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا.
فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا لَا أَعْرِفُ فِيهَا إِلَّا كَمَا قُلْتَ، أَيْ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِمُهِمَّةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ بِمَجِيءِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ. فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِمُلَاقَاةِ رَبِّهِ لِيَلْقَى جَزَاءَ عَمَلِهِ، وَهُوَ مَأْخَذٌ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ، وَبَيَانٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْ فَهْمٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
142
Icon