تفسير سورة الجمعة

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ ٱلْمَلِكِ ﴾ أي المتصرف في خلقه، بالايجاد والاعدام وغيرهما. قوله: (المنزه لا يليق به) أي من صفات الحوادث، وذكر ﴿ ٱلْقُدُّوسِ ﴾ عقبه، دفعاً لما يتوهم أنه يطرأ عليه نقص كالملوك.
قوله: ﴿ فِي ٱلأُمِّيِّينَ ﴾ أي اليها، وكذا قوله: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ﴾ فهو على حد قوله:﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾[التوبة: ١٢٨] والحكمة في اقتصاره على الأميين، مع أنه رسول الله إلى كافة الخلق، تشريف العرب حيث أضيف اليهم. قوله: ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ أي من جملتهم ومن نسبتهم، فما من وحي من العرب، إلا وله فيهم قرابة، ولهم عليه ولادة، إلا بني تغلب، فإن الله طهره منهم لنصرانيتهم كما قاله ابن اسحاق، والحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم أمياً مثلهم، لكونه في كتب الأنبياء منعوتاً بذلك، وأيضاً لدفع توهم الاستعانة بالكتابة، على ما أتي به من الوحي، ليكون حاله مماثلة لحال أمته الذين بعث فيهم، فيكون أقرب إلى صدقه، وأبعد من التهم، لكن وصف الأمية كمال حقه، نقص في حق غيره. قوله: ﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ حال من قوله: ﴿ رَسُولاً ﴾.
قوله: (يطهرهم من الشرك) أي يزيل عنهم الشبه وفساد العقيدة حتى يصيروا أزكياء. قوله: (مخففة من الثقيلة) أي بدليل وقوع اللام في خبرها. قوله: (عطف على الأميين) أي فهو مجرور، والمعنى: بعث إلى المؤمنين الموجودين، إلى الآتين منهم بعدهم، فليست رسالته خاصة بمن كان موجوداً في زمنه، بل هي عامة لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة، وما تقدم في الأميين من قوله: ﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ الخ، يجري في قوله: ﴿ وَآخَرِينَ ﴾ لكن التلاوة والتعليم والتزكية بنفسه لمن كان في زمنه، وبالواسطة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. قوله: (أي الموجودين منهم) تفسير للأميين المعطوف عليه، وقوله: (والآتين) تفسير لآخرين، وفي نسخة وآتين وهي مشاكلة لآخرين في عدم التعريف. قوله: ﴿ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ أي في السبق إلى الإسلام والشرف، وهذا النافي مستمر دائماً، لأن الصحابة لا يلحقهم ولا يساويهم في فضلهم أحد ممن بعدهم، ولذا فسر لما بلم، وذلك لأن منفي (لم) أعم من كونه متوقع الحصول أو لا، بخلاف ﴿ لَمَّا ﴾ فمنفيها متوقع الحصول وليس مراداً. قوله: (والاقتصار عليهم) أي على التابعين في تفسير الآخرين، وهو جواب عما يقال: ما حكمة الاقتصار على التابعين الذين هم أفضل ممن بعدهم، لزم منهم تفضيلهم على جميع الناس إلى يوم القيامة، لأن كل قرن خير مما يليه قوله: (ممن بعث إليهم) بيان لقوله: (من عداهم) وقوله: (من جميع) الخ، بيان لقوله: (ممن بعث إليهم). قوله: (لأن كل قرن) تعليل لقوله: (كاف). قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ما ذكر من تفضيل الرسول وقومه. قوله: (النبي) تفسير لمن يشاء، وقوله: (ومن ذكر معه) هم الأميون والآخرون.
قوله: ﴿ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ﴾ هذه قراءة العامة، وقرئ شذوذاً ﴿ حُمِّلُواْ ﴾ مخففاً مبنياً للفاعل. قوله: (كلفوا بها) أي القيام بها، فليس هو من الحمل على الظهر، بل هو من الحمالة وهي الكفالة. قوله: ﴿ كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ ﴾ خص بالذكر لكونه أبلد الحيوانات. قوله: ﴿ يَحْمِلُ ﴾ بفتح الياء وكسر الميم مخففة، وهي قراءة العامة، وقرئ شذوذاً ﴿ يَحْمِلُ ﴾ بضم الياء وفتح الميم مشددة، والجملة إما حال أو صفة، لأن القاعدة أن الجمل بعدما يحتمل التعريف والتنكير، تكون محتملة للوصفية والحالية، فالحالية نظراً لصورة التعريف، و الوصفية نظراً لجريان الحمار مجرى النكرة، لأن المراد به الجنس: قوله: (أي كتباً) أي كباراً جمع سفر وهو الكتاب الكبير. قوله: (في عدم انتفاعه بها) بيان لوجه الشبه. قوله: (مثل القوم) فاعل ﴿ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ﴾ فاعل ﴿ بِئْسَ ﴾ وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾ صفة للقوم. قوله: ﴿ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي دلائل وحدانيته وعظمته. قوله: (الكافرين) أي الذين سبق في علمه كفرهم، وهذا المثل يضرب لكل من تحمل القرآن ولم يعمل به. قوله: ﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ ﴾ أي تمسكوا باليهودية وهي ملة موسى عليه السلام، وسبب نزولها: أن اليهود زعموا أنهم أبناء الله وأحباءه، وادعوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهر كذبهم بتلك الآية. قوله: ﴿ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ ﴾ هذه الجملة سدت مسد مفعولي زعم و ﴿ لِلَّهِ ﴾ متعلق بأولياء وكذا قوله: ﴿ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ ﴾.
قوله: (تعلق بتمنوا الشرطان) أي وهما ﴿ إِن زَعمْتُمْ ﴾ ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
قوله: (على الأول قيد في الثاني) أي شرط فيه، وهذا إشارة لقاعدة، وهي أنه إذا اجتمع شرطان، وتوسط الجواب بينهما، كان الأول قيداً في الثاني، وأما إن تأخر الجواب عنهما معاً؛ أو تقدم عليهما معاً، فإن الثاني يكون قيداً في الأول نحو: إن دخلت دار زيد، إن كلمت زوجته، فأنت طالق، فلا تطلق إلا بكلام الزوجة الكائن بعد دخول الدار، وأما دخول الدار وحده، أو الكلام خارج الدار، فلا تطلق به. قوله: (ومبدؤها) أي طريقها. قوله: ﴿ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ ﴾ عبر هنا بلا، وفي البقرة بلن، حيث قال:﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾[البقرة: ٩٥] إشارة إلى أنه نفى عنهم التمني، على كل حال مؤكداً كما في البقرة، وغير مؤكد كما هنا. قوله: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ ﴾ الباء سببية متعلقة بالنفي. قوله: (من كفرهم) بيان لما. قوله: ﴿ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ﴾ أي تخافون من تمنيه، مخافة أن ينزل بكم فتؤخذوا بأعمالكم. قوله: (الفاء زائدة) هذا أحد الوجهين، والثاني أنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول. قوله: (السر والعلانية) لف ونشر مرتب.
قوله: ﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ ﴾ المراد به الأذان عند جلوس الخطيب على المنبر، وذلك لأنه لم يكون في عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، فكان له مؤذن واحد، إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك، حتى كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل، زاد أذاناً آخر، فأمر بالتأذين أولاً على داره التي تسمى الوزراء، فإذا سمعوا أقبلوا، حتى إذا جلس على المنبر أذن المؤذن ثانياً، ولم يخالفه أحد في ذلك الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ". قوله: (بمعنى في) هذا أحد وجهين، والثاني أنها بيان لإذا نودي وتفسير لها. قوله: ﴿ يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ ﴾ بضمتين وهي قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بسكون الميم وفتحها، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها للصلاة، وكانت العرب تسميه العروبة، واعلم أن أفضل الليالي: ليلة المولد، ثم ليلة القدر، ثم ليلة الإسراء، فالجمعة، فنصف شعبان، فالعيد، وأفضل الأيام: يوم عرفة، ثم يوم نصف شعبان، ثم الجمعة والليل أفضل من النهار. قوله: (فامضوا) أشار بذلك إلى أنه ليس من السعي الإسراع في المشي، إذ ليس بمطلوب ولو خاف فوالتها، بل المراد به التوجه، والمشيء عند الذهاب أفضل من الركوب: إن لم يكن عذر، وبعد انقضاء الصلاة لا بأس به. قوله: (أي اتركوا عقده) أي فالمراد بالبيع العقد بتمامه، فه خطاب لكل من البائع والمشتري، ومثل البيع والشراء الاجارة والشفعة والتولية والاقالة، فإن وقعت حرمت وفسخت عند مالك، وعند الشافعي تحرم ولا تفسخ. قوله: ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ أي المذكور من السعي، وترك الاشتغال بالدنيا. قوله: (أنه خير) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ تَعْلَمُونَ ﴾ محذوف، وقوله: (فافعلوه) جواب الشرط. قوله: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ ﴾ أي أديت وفرغ منها. قوله: ﴿ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي للتجارة والتصرف في حوائجكم. قوله: (أمر إباحة) أي فالمعنى يباح لكم الانتشار في الأرض، فلا حرج عليكم في فعله ولا تركه. قوله: ﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً ﴾ أتى به ثانية، إعلاماً بأن ذكر الله مأمور به في سائر الأحوال لا في خصوص الصلاة. قوله: (تفوزون) أي تظفرون بسعادتكم. قوله: (كان صلى الله عليه وسلم) الخ، شروع في بيان سبب نزول قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً ﴾ الخ. قوله: (يخطب يوم الجمعة) أي بعد الصلاة كالعيدين. قوله: (فقدمت عير) أي من الشام قدم بها دحية بن خليفة الكلبي، وكان الوقت وقت غلاء في المدينة، وكان في تلك القافلة جميع ما يحتاج اليه الناس، من بر ودقيق وزيت وغيرها، فنزل بها عند أحجار الزيت، موضع بسوق المدينة، وضرب الطبل ليعلم الناس بقدومه فيبتاع منه، وقيل: الضارب للطبل أهل المدينة على العادة في أنهم كاوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق، وقيل: أهل القادم بها، قال قتادة: بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، كل مرة تقدم العير من الشام، ويوافق قدومها يوم الجمعة وقت الخطبة. قوله: (غير اثني عشر رجلاً) وفي رواية: أن الذين بقوا معه أربعون رجلاً، وفي أخرى أنهم ثمانية، وفي أخرى أنهم أحد عشر، وفي أخرى أنهم ثلاثة عشر، وفي أخرى أنهم أربعة عشر، وهذا منشأ الخلاف بين الأئمة في العدد الذي تنعقد به الجمعة، فصح عند مالك أنهم اثنا عشر، وصح عند الشافعي أنهم أربعون، ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:" لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادي ناراً ". قوله: ﴿ ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا ﴾ أي والذي سوغ لهم الخروج، وترك رسول الله يخطب، أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز، لانقضاء المقصود وهو الصلاة، لأنه كان يقدم الصلاة على الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الواقعة ونزلت الآية، قدم الخطبة وآخر الصلاة. قوله: (لأنها مطلوبهم) جواب عما يقال: لم أفرد الضمير مع أن المتقدم شيئان ويجاب أيضاً: بأنه أفرد لأن العطف بأو، وخص ضمير المؤمث لما قاله المفسر. قوله: ﴿ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ ٱنفَضُّوۤاْ ﴾ وفي قوله: ﴿ قَآئِماً ﴾ إشارة إلى أن الخطبة تكون من قيام لا من جلوس، قال علقمة: سئل أبن مسعود، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً؟ فقال: أما تقرأ ﴿ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾ قال جمهور العلماء: الخطبة فريضة في صلاة الجمعة، وقال داود الظاهري: هي مستحبة، ويجب أن يخطب الامام قائماً خطبتين يفصل بينهما بجلوس، وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يشترط القيام ولا القعود، ويشترط الطهارة في الخطبة عند الشافعي في أحد القولين، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة، أن يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله، هذه الثلاث شروط في الخطبتين جميعاً، ويجب أن يقرأ في الأول آية من القرآن، ويدعو المؤمنين في الثانية، ولو ترك واحدة من هذه الخمسة، لم تصح خطبته ولا جمعته عند الشافعي، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه، وذهب مالك إلى أنه ما يقع عليه عند العرب اسم الخطبة، وهو كلام مسجع مشتمل على تحذير وتبشير. قوله: ﴿ قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ ﴾ الخ، أي قل لهم تأديباً وزجراً لهم عن العود لمثل هذا الفعل. قوله: (من الثواب) بيان لما، والمراد به الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ خَيْرُ ﴾ اسم التفضيل باعتبار أن في اللهو والتجارة لذة دنيوية. قوله: (يقال كل إنسان) الخ، أشار بذلك إلى أن اسم التفضيل على بابه، فالرازقون متعددون لكن على سبيل المجاز، وإلا فالرازق حقيقة هو الله وحده. قوله: (عائلته) أي عياله. قوله: (أي من رزق الله) تصحيح لهذا القول المذكور، والمعنى: ليس المراد به أن كل إنسان يرزق عائلته بالاستقلال وبحوله وقوته، بل من رزق الله تعالى يجري على يديه.
Icon