ﰡ
وإنما نقلته من "الدر المنثور" لأن فيه الجمع بين السببين، ولأن عبارته أوضح من عبارة غيره كالطبري.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: ينزهه تعالى عن كل النقائص، ويذكره بلسان المقال وبلسان الحال بأنواع الذكر، من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ جميعًا، من حي وجامد، تسبيحات مستمرة لا تنقطع، أداء لحقّ الألوهية وقيامًا بحق الربوبية. فما في السماوات هي البدائع العلوية، وما في الأرض هي الكوائن السفلية، فلكل نسبة إلى الله تعالى بالحياة والتسبيح.
أي (١): كل ما في السماوات والأرض إذا نظرت إليه.. دلت على وحدانية خالقه وعظيم قدرته، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.
﴿الْمَلِكِ﴾؛ أي: المالك لما في السماوات والأرض، المتصرف فيهما بقدرته وحكمته. ﴿الْقُدُّوسِ﴾؛ أي: المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله، من شريك وولد وصاحبة. ﴿الْعَزِيزِ﴾؛ أي: الغالب في ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به، أو الغالب على عباده المسخر لهم بقدرته على ما يشاء. ﴿الْحَكِيمِ﴾ في تدبير شؤونهم فيما هو أعلم به من مصالحهم الموصلة إلى سعادتم في معاشهم ومعادهم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الْمَلِكِ﴾ وما بعده من الصفات بالجر، على أنها نعت للجلالة، وقيل: على البدل، والأول أولى. وقرأ أبو وائل، ومسلمة بن محارب، ورؤبة، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، وأبو الدينار الأعرابي بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره: هو، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة، وكذلك جاء عن يعقوب. وقرأ أبو الدينار، وزيد بن علي: ﴿القدوس﴾ بفتح القاف،
(٢) البحر المحيط.
٢ - ثم وصف الرسول - ﷺ - بصفات المدح والكمال، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي بَعَثَ﴾ وأرسل ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ في الأقوام الذين لا يكتبون ولا يقرؤون، وهم العرب. ﴿رَسُولًا﴾ كائنًا ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من جملتهم وجنسهم ونسبهم، عربيًا أميًا مثلهم، وما كان حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله - ﷺ - فيهم قرابة. ووجه الامتنان بكونه منهم: أن ذلك أقرب إلى الموافقة؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه. والمراد بالأميين: العرب، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. والأمي في الأصل: من لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب كذلك.
والأميون (١): جمع أمي، منسوب إلى أمة العرب. وهم قسمان: إسماعيلي ويمني. فعرب الحجاز من عدنان ترجع إلى إسماعيل عليه السلام، وعرب اليمن ترجع إلى قحطان. وكل منهم قبائل كثيرة. والمشهور عند أهل التفسير: أن الأميّ: من لا يكتب ولا يقرأ من تاب، كما مرّ، وعند أهل الفقه: من لا يعلم شيئًا من القرآن، كأنه بقي على ما تعلمه من أمه من الكلام الذي يتعلمه الإنسان بالضرورة عند المعاشرة. والنبي الأميّ منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا؛ لكونه على عاداتهم، كقولك: عاميّ لكونه على عادة العامّة. وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكتب ولم يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله له عنه بقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾. وقيل: سمي بذلك بالنسبة إلى أم القرى. وفي "كشف الأسرار": سمي العرب أميين لأنهم كانوا على نعت أمهاتهم مذ كانت، بلا خط ولا كتاب نسبوا إلى ما ولدوا عليه من أمهاتهم؛ لأن الخط والقراءة والتعلم دون ما جبل الخلق عليه. ومن يحسن الكتابة من العرب فإنه أيضًا أميّ؛ لأنه لم يكن لهم في الأصل خط ولا كتابة.
قيل: بدئت الكتابة بالطائف، تعلمها ثقيف وأهل الطائف من أهل الحيرة - بكسر الحاء وسكون التحتانية - بلد قرب الكوفة، وأهل الحيره أخذوها من أهل الأنبار، وهي مدينة قديمة على الفرات، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. ولم يكن
ولما (١) كان الخط صنعة ذهنية وقوة طبيعية صدرت بالآلة الجسمانية.. لم يحتج إليه من كان القلم الأعلى منبعه واللوح المحفوظ مصحفه ومرجعه، وعدم كتابته مع علمه بها معجزة باهرة له - ﷺ -؛ إذ كان يعلم الكتاب علم الخط وأهل الحرف حرفتهم، وكان أعلم بكل كمال أخروي أو دنيوي.
ومعنى الآية: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ﴾؛ أي: في العرب؛ لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم، فغلب الأكثر، وإنما قلنا: أكثرهم لأنه كان فيهم من يكتب ويقرأ وإن كانوا على قلة. رسولًا من جنسهم ونسبهم. والبعث في الأميين لا ينافي عموم دعوته - ﷺ -، فالتخصيص بالذكر لا مفهوم له. ولو سلم.. فلا يعارض منطوق قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ على أنه فرق بين البعث في الأميين والبعث إلى الأميين، فبطل احتجاج أهل الكتاب بهذه الآية على أنه - ﷺ - كان رسول الله إلى العرب خاصة، ورد الله بذلك ما قال اليهود للعرب طعنًا فيه: نحن أهل الكتاب وأنتم أميون لا كتاب لكم.
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ القرآنية، مع كونه أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولا تعلم ذلك من أحد. والجملة (٢) صفة لـ ﴿رَسُولًا﴾، وكذا قوله: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ قال ابن جريج ومقاتل؛ أي: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب. وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم. وقيل: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾: هذه صفة ثالثة لـ ﴿رَسُولًا﴾. والمراد بالكتاب: القرآن وبالحكمة: السنة، كذا قال الحسن. وقيل: الكتاب: الخط بالقلم، والحكمة: الفقه في الدين، كذا قال مالك بن أنس. ﴿وَإِنْ كَانُوا﴾؛ أي: وقد كانوا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل بعثه فيهم ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. وخطأ ظاهر، وشرك بيّن، وذهاب عن الحق.
(٢) الشوكاني.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: ﴿إنْ﴾ (١) ليست شرطية ولا نافية، بل هي المخففة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية.
والمعنى: وإن الشأن: كان الأميون من قبل بعثه ومجيئه لفي ضلال مبين من الشرك وخبث الجاهلية، لا ترى ضلالًا أعظم منه. وقيل: ﴿إن﴾ بمعنى: قد، كما مرت الإشارة إليه.
وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم، وإزاحة لما عسى يتوهم من تعلمه - ﷺ - من الغير، فإن المبعوث فيهم إذا كانوا في ضلال قبل البعثة.. زال توهم أنه تعلم ذلك من أحد منهم. قال سعدي المفتي: والظاهر: أن نسبة الكون في الضلال إلى الجميع من باب التغليب، وإلا.. فقد كان فيهم مهتدون، مثل: ورقة بن نوفل، وزيد بن نفيل، وقس بن ساعدة وغيرهم ممن قال رسول الله - ﷺ - في كل منهم
يقول الفقير: هو اعتراض على معنى لإزاحة المذكور، لكنه ليس بشيء، فإن اهتداء من ذكره من نحو ورقة إنما كان في باب التوحيد فقط، فقد كانوا في ضلال من الشرائع والأحكام، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧)﴾ مع أنه - ﷺ - لم يصدر منه قبل البعثة شرك ولا غيره من السرقة والزنا واللغو واللهو، فكونهم مهتدين من وجه لا ينافي كونهم ضالين من وجه آخر، دلّ على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ﴾ إلخ. فإن التلاوة وتعليم الأحكام والشرائع حصَّل تزكية النفس والنجاة من الضلال مطلقًا، فتدبر.
ومعنى الآية (١): هو الذي أرسل رسوله محمدًا - ﷺ - إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، وهم العرب. أخرج البخاري، ومسلم وأبو داود، والنسائي، عن ابن عمر، عن النبي - ﷺ - قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، وهذا الرسول من جملتهم؛ أي: مثلهم، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها.
وتخصيص الأميين بالذكر لا يدل على أنه لم يرسل إلى غيرهم، فقد جاء العموم في آيات أخرى، كقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾، وقوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾، وقوله: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾. ومن حكمته تعالى أنه أرسله عربيًا مثلهم ليفهموا ما أرسل به إليهم، ويعرفوا صفاته وأخلاقه، ليسهل اقتناعهم بدعوته.
وخلاصة ما سلف (٢): أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول وأجملها في أمور ثلاثة:
١ - أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين مع كونه أميًا لا يكتب ولا يقرأ؛ لئلا يكون هناك مطعن في نبوته بأن يقولوا: إنه نقله من كتب الأولين، كما أشار إلى ذلك بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا
(٢) المراغي.
٢ - أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية، ويجعلهم منيبين إلى الله مخبتين له في أعمالهم وأقوالهم، لا يخضعون لسلطة مخلوق غيره من ملك أو بشر أو حجر.
٣ - أنه يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها، فلا يتلقون عنه شيئًا إلا وهم يعلمون الغاية منه والغرض الذي يفعله لأجله، فيقبلون إليه بشوق واطمئنان، وقد تقدم مثل هذا في سورة آل عمران: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. ذاك أن العرب قديمًا كانوا على دين إبراهيم فبدلوا وغيروا واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله تعالى، فكان من الحكمة أن يبعث سبحانه محمدًا - ﷺ - بشرع عظيم، فيه هداية للبشر، وبيان ما هم في حاجة إليه من أمور معاشهم ومعادهم، ودعوتهم إلى ما فيه رضوان ربهم، والتمتع بنعيم جناته، ونهيهم عما يوجب سخطه ويقربهم إلى النار.
٣ - ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ جمع (١) آخر، بمعنى غير، وهو معطوف على ﴿الْأُمِّيِّينَ﴾؛ أي: بعثه في الأميين الذين في عهده وفي آخرين من الأميين. أو على المنصوب في ﴿يعلمهم﴾؛ أي: يعلمهم ويعلم آخرين منهم، أو في ﴿يزكيهم﴾؛ أي: يزكيهم ويزكي آخرين منهم. وهم الذين جاؤوا من العرب، فـ ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بالصفة لآخرين؛ أي: وآخرين كائنين منهم مثلهم في العربية والأمية. وإن كان المراد العجم.. فـ ﴿مِنْهُمْ﴾ يكون متعلقًا بـ ﴿آخَرِينَ﴾؛ أي: ويعلم أقوامًا مغايرين لهم؛ أي: للعرب، وهم العجم.
وقوله تعالى: ﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ صفة لآخرين؛ أي: لم يلحقوا بالأميين بعد ولم يكونوا في زمانهم، وسيلحقون بهم، ويكونون بعدهم عربًا وعجمًا. وذلك أن منفيَّ (لمَّا) لا بدَّ أن يكون مستمر النفي إلى الحال، وأن يكون متوقع الثبوت بخلاف منفي (لَمْ) فإنه يحتمل الاتصال، نحو: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾، والانقطاع مثل: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾. ولهذا: جاز لم يكن ثم كان، ولم يجز لما
وقيل (١): لما يلحقوا بهم في الفضل والمسابقة؛ لأن التابعين لا يدركون شيئًا مع الصحابة، وكذلك العجم مع العرب. ومن شرائط الدِّين: معرفة فضل العرب عن العجم، وحبهم، ورعاية حقوقهم. وفي الآية دليل على أن رسول الله - ﷺ - رسول نفسه وبلاغه حجة لأهل زمانه ومن بلغ، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾.
وقال الشوكاني: والضمير في ﴿مِنْهُمْ﴾ و ﴿بِهِمْ﴾ راجع إلى الأميين، وهذا يؤيد أن المراد بـ ﴿الآخرين﴾ هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة، وهو - ﷺ - وإن كان مرسلًا إلى جميع الثقلين فتخصيص العرب هاهنا لقصد الامتنان عليهم، وذلك لا ينافي عموم الرسالة. ويجوز أن يراد بالآخرين العجم؛ لأنهم وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإِسلام منهم، والمسلمون كلهم أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم. انتهى.
والمعنى: أي وبعثه في آخرين أي: في غيرهم من المؤمنين إلى يوم القيامة. وهم من جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم الدين، من جميع الأمم، كالفرس والروم والترك والتكرور، والأرميا والأفارقة، أو يعلم آخرين غير الصحابة من التابعين فمن بعدهم، قرنًا بعد قرن إلى يوم القيامة، لكن بواسطة ورثة أمته وكمل أهل دينه وملته.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: المبالغ في العزة والغلبة، ولذلك مكن رجلًا أميًا من ذلك الأمر العظيم. ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: المبالغ في الحكمة ورعاية المصلحة، ولذلك اصطفاه من بين كافة البشر.
٤ - ﴿ذَلِكَ﴾ الذي امتاز به محمد - ﷺ - من بين سائر الأفراد. وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر. ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ﴾ سبحانه وإحسانه ﴿يُؤْتِيهِ﴾؛ أي: يعطي فضله ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ إعطاءه من عباده، تفضلًا وتكرمًا، وعطية لا تأثير للأسباب فيه، فكان الكرم منه صرفًا لا تمازجه العلل، ولا تكسبه الحيل. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ والعطاء الجسيم
يقول الفقير: وأيضًا: والله ذو الفضل العظيم على أهل الاستعداد من أمة محمد - ﷺ - بإرسال ورثة محمد في كل عصر إليهم وتوفيقهم للعمل بموجب إرشادهم، ولولا أهل الإرشاد والدلالة والدعوة.. لبقي الناس كالعميان، لا يدرون أين يذهبون، وإنما كان هذا الفضل عظيمًا لأن غايته الوصول إلى الله العظيم.
وعبارة المراغي هنا: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾؛ أي: وهو ذو العزة والسلطان، القادر أن يجعل هذه الأمة المستضعفة صاحبة النفوذ والقوة التي تنشر في غيرها من الأمم روح العدل والنظام، برسال رسول من أبنائها ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور. وهو الحكيم فيما يفعل من تدبير أمور الخلق لما فيه خيرهم وفلاحهم.
ثم ذكر سبحانه أن إرسال هذا الرسول فضل منه ورحمة فقال: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: إرسال هذا الرسول إلى البشر مزكيًا مطهرًا لهم هاديًا معلمًا ﴿فَضْلُ﴾ من ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وإحسان منه إلى عباده، يعطيه من يشاء ممن يصطفيه من خلقه بحسب ما يعلمه من استعداده وصفاء نفسه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته. وهو سبحانه ذو الفضل العظيم عليهم في جميع أمورهم، في دنياهم وآخرتهم، في معاشهم ومعادهم، فلا يجعلهم في حيرة من أمرهم، تنتابهم الشكوك والأوهام ولا يجدون للخلاص منها سبيلًا، ولا يجعل قويهم يبطش بضعيفهم ويغتصب أموالهم، ويسعى في الأرض بالفساد، ويهلك الحرث والنسل، فيكون العالم ككرة تتقاذفها أكف اللاعبين، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم سدًى هملًا ولا صلاح لهم في دين ولا دنيا، انتهى.
٥ - ثم ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلًا، فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾؛ أي: كلفوا القيام بها والعمل بما فيها، وهم اليهود ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾؛ أي: لم يعملوا بما في تضاعيفها من الآيات التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة محمد - ﷺ -، واقتنعوا بمجرد قراءتها ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾:
تَعَلَّمْ يَا فَتَى فَالْجَهْلُ عَارٌ | وَلَا يَرْضَى بِهِ إِلَّا حِمَارُ |
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِيْ | فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِيْنِيْ |
يقول (٢) سبحانه ذامًا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها: ما مثل هؤلاء إلا كمثل الحمار، يحمل الكتب لا يدري ما فيها ولا كنه ما يحمل، بل هم أسوأ حالًا من الحمر؛ لأن الخمر لا فهم لها، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم، إذ حرفوا التوراة فأولوا وبدلوها، فهم كما قال في الآية الأخرى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
وصفوة القول: أن هذا النبي الذي تقولون: إنه أرسل إلى العرب خاصة هو
(٢) المراغي.
والخلاصة (١): أي صفة الذين أمروا بأن يعملوا بما في التوراة ثم لم يعملوا بما أمروا فيها كصفة الحمار، يحمل كتبًا كبارًا في عدم انتفاعه بها. وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه.
ثم بين قُبح هذا المثل وشديد وقعه على من يعقله ويتدبره، فقال: ﴿بِئْسَ﴾ وقبح مثلًا ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه، على (٢) أن التمييز محذوف، والفاعل المفسر به مضمر و ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ﴾: هو المخصوص بالذم، أو ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ﴾: فاعل ﴿بِئْسَ﴾، والمخصوص بالذم: الموصول بعده على حذف مضاف؛ أي: مثل الذين كذبوا. ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم، فيكون في محل جرّ، والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء، وهؤلاء هم اليهود الذين كفروا بما في التوراة من الآيات الشاهدة بصحة نبوة محمد - ﷺ -.
والمعنى (٣): أي ما أقبح هذا مثلًا لهم، لتكذيبهم بآيات الله التي جاءت على لسان رسوله، لو كانوا يتدبرون ويتفكرون؛ إذ لم يكن لهم ما يشبههم من ذوي العقول والحجا من ملك أو إنس، بل لا شبيه لهم إلا ما هو أحقر الحيوان وأذلّه، وهو الحمار:
وَلَا يُقِيْمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ... إلَّا الأَذَلّانِ: عَيرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ
هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٍ بِرُمَّتِهِ | وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ |
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
والمعنى (١): والله لا يهدي القوم الظالمين لأنفسهم، إذ هم دسوها حتى أحاطت بهم خطيئتهم وأعمت أبصارهم ورانت على قلوبهم فلم تر نور الحق ولم تشعر بحجة ولا برهان، بل هي في ظلام دامس، لا تهتدي لطريق ولا تصل إلى غاية.
٦ - ولما كان من شأن من لم يعمل بالكتاب الذي أنزل إليه أن يكون محبًا للحياة تاركًا لكل ما ينفعه في الآخرة.. قال آمرًا رسوله أن يقول لهم: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء اليهود ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾؛ أي: تهودوا وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. من هاد يهود، بمعنى: تهود؛ أي: تمسك بدين اليهود. وقال بعضهم: أي: مالوا عن الإِسلام والحق إلى اليهودية، وهي من الأديان الباطلة.
ثم إن الله سبحانه خاطب الكفار في أكثر المواضع بالواسطة، ومنها: هذه الآية؛ لأنهم أدخلوا الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهي الأصنام. وأما المؤمنون فإن الله تعالى خاطبهم في أغلب المواضع بلا واسطة، مثل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ لأنهم أسقطوا الوسائط فأسقط الله بينه وبينهم الواسطات. ﴿إِنْ زَعَمْتُمْ﴾ وقلتم، والزعم: هو القول بلا دليل. ﴿أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ﴾ وأحباؤه، جمع ولي، بمعنى حبيب. ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ صفة أولياء؛ أي: من دون الأميين وغيرهم ممن ليس من بني إسرائيل. وقال بعضهم: من دون المؤمنين من العرب والعجم، يريد بذلك ما كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ويدعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة، وقالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾، فأمر رسوله - ﷺ - بأن يقول لهم إظهارًا لكذبهم: إن زعمتم ذلك ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾؛ أي: فتمنوا من الله واطلبوا منه أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى دار الكرامة، وقولوا: اللهم أمتنا
روي: أنه لما ظهر رسول الله - ﷺ -.. كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتموه.. أطعناكم وإن خالفتموه.. خالفناه. فقالوا لهم: نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير ابن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب؟ نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه. فنزلت: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا...﴾ الآية.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ بضم الواو. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها، وعن ابن السميع أيضًا: فتحها تخفيفًا. وحكى الكسائي عن بعض الأعراب: أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو، وهذا كقراءة من قرأ ﴿تلؤون﴾ بالهمز بدل الواو.
والمعنى (٢): قل لهم يا محمد: أيها اليهود، إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم وأن محمدًا وأصحابه على ضلالة.. فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين فيما تزعمون. وقد تقدم الكلام في مثل هذه المباهلة - الملاعنة - لليهود في سورة البقرة في قوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤)﴾، كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران في قوله: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...﴾ الآية، ومباهلة المشركين في سورة مريم: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾.
٧ - ثم أخبر بأنهم لن يتمنوه أبدًا؛ لما يعلمون من سوء أفعالهم وقبيح أعمالهم، فقال: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾: إخبار بما سيكون منهم. و ﴿أَبَدًا﴾: ظرف بمعنى الزمان المتطاول، لا بمعنى مطلق الزمان. والمراد به: ما داموا في الدنيا. وفي البقرة: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾؛ لأن دعواهم في البقرة بالغة قاطعة، وهي: كون الجنة لهم بصفة الخلوص، فبالغ في الرد عليهم بـ ﴿لن﴾، وهو أبلغ ألفاظ النفي. ودعواهم في
(٢) المراغي.
ولما (١) كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفاعيله.. عبر بها تارة عن النفس كما هنا، وأخرى عن القدرة. يعني: أن الأيدي هنا بمعنى الذوات، استعملت فيها لزيادة احتياجها إليها، فكأنها هي.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾: وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم في كل أمورهم؛ أي: عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي المفضية إلى أفانين العذاب، وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدي إلى ذلك. فوقع الأمر كما ذكر، فلم يتمن منهم أحد موته، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.
روي عنه - ﷺ - في حق اليهود: "لو تمنوا الموت.. لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي". وروي: أنه - ﷺ - قال لهم: "والذي نفسي بيده لا يتمناها أحد منكم إلا غص بريقه" فلم يتمن أحد منهم لعلمهم بصدقه، وأيقنوا أنهم لو تمنوه لماتوا لساعتهم وحق عليه الوعيد وحل بهم العذاب الشديد.
٨ - ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ ولا تجسرون على أن تتمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال كفركم. ﴿فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه. و ﴿الفاء﴾ (٢): لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. أي: باعتبار كون الموصوف بالموصول في حكم الموصول. أي: إن فررتم من الموت.. فإنه ملاقيكم، كأن الفرار سبب لملاقاته وسرعة لحوقه، إذ لا يجد الفارّ بركة في عمره بل يفرّ إلى جانب الموت فيلاقيه الموت ويستقبله. وقيل: إذا أدبر الأمر.. كان
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): وماذا يجديكم الفرار من الموت؟ ولماذا تمتنعون من المباهلة خوفًا على الحياة؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه، فإن كنتم على الحق.. فلا تحفلوا بالحياة، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفاذها، ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السماوات والأرض. فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من حسن وسيء، ثم يجازيكم على كل بما تستحقون. ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد، وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ بالفاء الرابطة، لتضمن الاسم معنى الشرط كما مرّ آنفًا. وقد منع هذا قوم منهم: الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي ﴿إنه ملاقيكم﴾ بغير فاء، وخرَّجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر ﴿إنّ﴾: هو الذي، كأنه قال: قل إن الموت هو الذي تفرون منه، انتهى. ويحتمل أن يكون خبر ﴿إنّ﴾ هو قوله: إنه ملاقيكم، فالجملة خبر ﴿إنّ﴾، ويحتمل أن يكون ﴿إنه﴾ توكيدًا لـ ﴿إِنَّ الْمَوْتَ﴾، و ﴿مُلَاقِيكُمْ﴾ خبر ﴿إن﴾، لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبًا بضمير الاسم الذي لـ ﴿إن﴾، ذكره أبو حيان. وفي قراءة (٣) ابن مسعود: ﴿تفرون منه ملاقيكم﴾ من غير ﴿فإنه﴾.
٩ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ﴾ وأذن ﴿لِلصَّلَاةِ﴾؛ أي: لصلاة الجمعة. والنداء: رفع الصوت وظهوره، ونداء الصلاة مخصوص في الشرع بالألفاظ المعروفة. والمراد بالصلاة: صلاة الجمعة، والمراد بالأذان عند الجمهور: الأذان
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
وقرأ الجمهور: ﴿الْجُمُعَةِ﴾ بضم الميم (٢). وقرأ ابن الزبير، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية، وزيد بن علي، والأعمش بسكونها تخفيفًا، وهي لغة تميم، ولغة بفتحها لم يقرأ بها، وهي لغة عقيل. وجمعها: جمع وجمعات. وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، فهو على هذا اسم إسلامي. وقيل: سميت جمعة لأن الله جمع فيها خلق آدم. وقيل: لأن الله فرغ فيها من خلق كل شيء، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات. وقيل: أول من سماه جمعة كعب بن لؤي - بالهمزة تصغير لأي - سماه بها لاجتماع قريش فيه إليه. وكانت العرب قبل ذلك تسميه العروبة، بمعنى الظهور وعروبة.
وقيل: إن (٣) الأنصار قالوا قبل الهجرة: لليهود يوم يجتمعون فيه في كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر ونصلي فيه،
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وأما أول جمعة جمعها رسول الله - ﷺ - فهي: أنه لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى، ومن تلك السنة يعد التاريخ الإِسلامي، فأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدًا، فخطب وصلى الجمعة، وهي أول خطبة خطبها رسول الله - ﷺ -، وقال فيها:
"الحمد لله، وأستعينه، وأستهديه، وأومن به، ولا أكفره، وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله.. فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله.. فقد غوى وفرط وضلّ ضلالًا بعيدًا.
أوصيكم بتقوى الله، فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم، أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، وأحذر ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى من عمل به ومخافته من ربه عنوان صدق على ما يبغيه من الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السرّ والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله.. يكون له ذكرًا في عاجل أمره وذخرًا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك.. يود لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا. ويحذركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد، هو الذي صدق قوله، وأنجز وعده، ولا خُلْفَ لذلك، فإنه يقول: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ
ثم إن هذه الآية رد لليهود في طعنهم للعرب، وقولهم: لنا السبت ولا سبت لكم.
﴿فَاسْعَوْا﴾؛ أي: فامشوا، واقصدوا وامضوا ﴿إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: إلى الخطبة والصلاة، لاشتمال كل منهما على ذكر الله. وما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير.. فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك.. فمن ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل، كما في "الكشاف" وعن الحسن - رحمه الله -: أما والله! ما هو السعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع والابتكار. ولقد ذكر الزمخشري في الابتكار قولًا وافيًا، حيث قال: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة؛ أي: مملوءة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج.
وقال الفراء (١): السعي والمضي والذهاب في معنى واحد، ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود: ﴿فامضوا إلى ذكر الله﴾. وقيل: السعي هو
وعبر (١) بالسعي إشارةً إلى النهي عن التثاقل عنها، وحثًا على الذهاب بصفاء قلب وهمة، لا بكسل نفس وغمة. وهذا بالنسبة إلى غير المريض والأعمى، والعبد والمرأة، والمقعد والمسافر، فإنهم ليسوا بمكلفين بها.
﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾؛ أي: واتركوا المعاملة بالبيع، ويلحق به سائر المعاملات، من الشراء والسلم والإجارة والقراض والمساقاة. قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة.. لم يحل الشراء والبيع، ويجوز أن يجعل البيع مجازًا عن المعاملة كلها. وقال بعضهم؛ النهي عن البيع يتضمن النهي عن الشراء؛ لأنهما متضايفان لا يعقلان إلا معًا، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. والمراد: الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، تجارة وصناعة وحرفة وزراعة وغيرها. وإنما خص البيع والشراء من بينها لأن يوم الجمعة يوم تجتمع فيه الناس من كل ناحية، فإذا دنا وقت الظهيرة.. يتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول عن ذِكر الله والمضي إلى المسجد.. قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه قليل.
وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين (٢): ﴿فامضوا﴾ بدل ﴿فَاسْعَوْا﴾ وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث إنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، فلا يكون قرآنًا؛ لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.
﴿ذَلِكُمْ﴾ المذكور من السعي إلى ذِكر الله وترك البيع مبتدأ، خبره ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون من مباشرته. فإن نفع الآخرة أجلّ وأبقى ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الخير والشر الحقيقيين. فافعلوا ما أمرتكم به، واتركوا ما نهيتكم عنه.
(٢) البحر المحيط.
ومعنى الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾؛ أي: إذا (١) أذّن المؤذن بين يدي الإِمام وهو على المنبر في يوم الجمعة للصلاة. فاتركوا البيع واسعوا إلى موضع الجمعة، واذهبوا إليه لتسمعوا موعظة الإِمام في خطبته، وعليكم أن تمشوا الهوينى، بسكينة ووقار حتى تصلوا إلى المسجد.
روى الشيخان عن أبي هريرة: أن النبي - ﷺ - قال: "إذا أقيمت الصلاة.. فلا تأتوها وأنتم تسعون - تسرعون - وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم.. فصلوا وما فاتكم.. فأتموا".
وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي - ﷺ - إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: "ما شأنكم"؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم فامشوا، وعليكم السكينة، فما أدركتم.. فصلوا وما فاتكم.. فأتموا". رواه البخاري ومسلم.
ذالكم السعي وترك البيع خير لكم من التشاغل بالبيع وابتغاء النفع الدنيوي، فإن منافع الآخرة خير لكم وأبقى، فهي المنافع الباقية. وأما منافع الدنيا: فهي زائلة. وما عند الله خير لكم إن كنتم من ذوي العلم الصحيح بما يضر وما ينفع.
١٠ - ثم ذكر ما يفعلون بعد الصلاة، فقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ التي نوديتم لها أي: أديت وفرغ منها ﴿فَانْتَشِرُوا﴾؛ أي: تفرقوا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ لإقامة مصالحكم والتصرف في حوائجكم بأن يذهب كل منكم إلى موضع فيه حاجة من الحوائج المشروعة التي لا بدّ من تحصيلها للمعيشة، من التجارة والصناعة والزراعة.
فإن قلت (٢): ما معنى هذا الأمر، فإنه لو لبث في المسجد إلى الليل يجوز، بل هو مستحبّ؟.
(٢) روح البيان.
﴿وَابْتَغُوا﴾؛ أي: واطلبوا لأنفسكم وأهليكم ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ سبحانه وعطائه؛ أي: من الرزق الحلال، بأي وجه يتيسر لكم من التجارة وغيرها من المكاسب المشروعة. دل على هذا المعنى سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً﴾ الخ، كما سيأتي قريبًا.
فالأمر بعد الحظر للإطلاق؛ أي: للإباحة لا للإيجاب، كقوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾. وذكر الإِمام السرخسي: أن الأمر للإيجاب؛ لما روي: أنه - ﷺ - قال: "طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة، وتلا قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾. وقيل: إنه للندب، فعن سعيد بن جبير: إذا انصرفت من الجمعة.. فساوم بشيء وإن لم تشتره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله. وعن الحسن، وسعيد بن المسيب: هو طلب العلم. وقيل: صلاة التطوع.
والظاهر (١): أن مثل هذا إرشاد للناس إلى ما هو الأولى، ولا شك في أولوية المكاسب الأخروية مع أن طلب الكفاف من الحلال عبادة، وربما يكون فرضًا عند الاضطرار.
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ سبحانه بالجنان واللسان ﴿كَثِيرًا﴾؛ أي: ذكرًا كثيرًا أو زمانًا كثيرًا، ولا تخصوا ذكره تعالى بالصلاة؛ أي: واذكروه بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي، واذكروه أيضًا بما يقربكم إليه من الأذكار؛ كالحمد، والتسبيح، والتكبير، والاستغفار ونحو ذلك. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به.
والمعنى (٢): أي فإذا أديتم الصلاة.. فتفرقوا لأداء مصالحكم الدنيوية بعد أن أديتم ما ينفعكم في آخرتكم، واطلبوا الثواب من ربكم، واذكروا الله وراقبوه في جميع شؤونكم، فهو العليم بالسر والنجوى، لا تخفى عليه خافية من أموركم،
(٢) المراغي.
١ - مراقبة الله في أعمال الدنيا حتى لا يطغى عليهم حبها بجمع حطامها بأي الوسائل من حلال وحرام.
٢ - أن في مراقبته تعالى الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا: فلأن من راقبه لا يغش في قيل ولا وزن، ولا يغير سلعة بأخرى، ولا يكذب في مساومة، ولا يحلف كذبًا، ولا يخلف موعدًا، ومتى كان كذلك.. شهر بين الناس بحسن المعاملة وأحبوه، وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق.
وأما في الآخرة: فيفوز برضوان ربه ورضوان من الله أكبر، وبجنات تجري من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين. وعن عراك بن مالك رضي الله عنه: أنه كان إذا صلى الجمعة.. انصرف فوقف على باب المسجد، وقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.
١١ - ثم عاتب سبحانه المؤمنين على ما كان منهم من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذٍ، فقال: ﴿وَإِذَا رَأَوْا﴾؛ أي: وإذا رأى المؤمنون وعلموا ﴿تِجَارَةً﴾؛ أي: عير تجارة، وهي تجارة دحية بن خليفة الكلبي. ﴿أَوْ﴾ سمعوا ﴿لَهْوًا﴾ وهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. يقال: ألهى عن كذا إذا شغله عمّا هو أهمّ. والمراد هنا: صوت الطبل، ويقال له: اللهو الغليظ. وكان دحية إذا قدم.. ضرب الطبل ليعلم الناس بقدومه فيخرجوا ليبتاعوا منه. وقيل: كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها؛ أي: أهلها بالطبول والدفوف والتصفيق، وهو المراد باللهو هنا ﴿انْفَضُّوا﴾؛ أي: انتشروا، وتفرقوا خارجين ﴿إِلَيْهَا﴾؛ أي: إلى التجارة، والذي سوغ لهم الخروج وترك رسول الله - ﷺ - يخطب: أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز لانقضاء المقصود، وهو الصلاة؛ لأنه كان - ﷺ - أول الإِسلام يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الواقعة ونزلت الآية.. قدم الخطبة وأخر الصلاة، انتهى. "خطيب".
وقرىء: ﴿إليهما﴾ (٢) بالتثنية للضمير، كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾. وتخريجه على أن يتجوز بـ ﴿أو﴾ فتكون بمعنى الواو. وقيل: التقدير على القراءة المشهورة: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوًا انفضوا إليه. فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، كما في قول الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ | رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ |
(٢) البحر المحيط.
ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم: ﴿مَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الجزاء العظيم على استماع الخطبة، ولزوم مجلس الرسول - ﷺ -، وهو: الجنة. و ﴿ما﴾: موصولة. خاطبهم الله سبحانه بواسطة النبي - ﷺ - لأن الخطاب هنا مشوب بالعتاب. ﴿خَيْرٌ﴾ لكم ﴿مِنَ﴾ استماع ﴿اللَّهْوِ وَمِنَ﴾ نفع ﴿التِّجَارَةِ﴾ اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي - ﷺ - لأجلهما، فإن نفع ذلك محقق مخلد، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم، فنفع اللهو ليس بمحقق، ونفع التجارة ليس بمخلد، وما ليس بمخلد فمن قبيل الظن. ومنه يعلم وجه تقديم اللهو، فإنَّ للأعدام تقدمًا على الملكات. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ وأفضلهم، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق، وأعظم ما يجلبه.
قال بعضهم (١): قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ﴾ وقوله: ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ من قبيل الفرض والتقدير: إذ لا خيرية في اللهو ولا رازق غيره فكأن المعنى إن وجد في اللهو خير فما عند الله أشد خيرًا منه، وإن وجد رازقون غير الله.. فالله خيرهم وأقواهم وأولاهم عطية. والرزق: هو المنتفع به، مباحًا كان أو محظورًا. قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: من خزانة ملك لا يدخلها اللصوص، ولا يأكلها السوس.
قال أبو حيان: وناسب ختم الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار، كما تقدم في سبب النزول.
والمعنى (٢): أي قل لهم - مبينًا خطأ ما عملوا -: ما عند الله مما ينفعكم في
(٢) المراغي.
الإعراب
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)﴾.
﴿يُسَبِّحُ﴾: فعل مضارع، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿الْمَلِكِ﴾: صفة للجلالة، أو بدل منه، وكذا قوله: ﴿الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾: صفات له، أو بدل منه. ﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿بَعَثَ﴾: فعل ماضي، وفاعل مستتر، صلة الموصول، ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾: متعلق بـ ﴿بَعَثَ﴾، ﴿رَسُولًا﴾: مفعول به، ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لـ ﴿رَسُولًا﴾، ﴿يَتْلُو﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الرسول، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَتْلُو﴾، ﴿آيَاتِهِ﴾: مفعول به، والجملة نعت ثان لـ ﴿رَسُولًا﴾ أو حال منه لتخصصه بالصفة. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿يَتْلُو﴾، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾: معطوف على ﴿الْكِتَابَ﴾، والجملة معطوفة على ﴿يَتْلُو﴾. ﴿وَإِنْ﴾: الواو: حالية، ﴿إِنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: وإنه، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿كَانُوا﴾ أو حال من الواو، ﴿لَفِي﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿فِي ضَلَالٍ﴾: خبر كان، ﴿مُبِينٍ﴾: نعت ﴿ضَلَالٍ﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر لـ ﴿إن﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة في محل النصب حال من هاء ﴿يعلمهم﴾ أو مستأنفة.
﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)﴾.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)﴾.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿حُمِّلُوا﴾: فعل ونائب فاعل والجملة صلة الموصول، ﴿التَّوْرَاةَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿حُمِّلُوا﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿يَحْمِلُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة معطوفة على ﴿حُمِّلُوا﴾ على كونها صلة الموصول، ﴿كَمَثَلِ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿الْحِمَارِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ في محل النصب على الحال من ﴿الْحِمَارِ﴾. ويجوز أن تكون في محل جرّ صفة لـ ﴿الْحِمَارِ﴾ لجريانه مجرى النكرة، أو لأن القاعدة في مثل هذا غير مطردة كما مرّ. ﴿بِئْسَ﴾: فعل ماض لإنشاء الذم، ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ﴾: فاعل، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿كَذَّبُوا﴾ صلة الموصول، ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، والمخصوص بالذم محذوف أو خبر عن المخصوص بالذم المحذوف، أي: هذا المثل، وهو مبتدأ خبره جملة ﴿بِئْسَ﴾، وفيه أوجه أخر. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أيُّ﴾، وجملة ﴿هَادُوا﴾: صلة الموصول، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿إنْ﴾: حرف شرط جازم، ﴿زَعَمْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿أَنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿أَوْلِيَاءُ﴾: خبر ﴿لله﴾ صفة لـ ﴿أَوْلِيَاءُ﴾ أو متعلق بـ ﴿أَوْلِيَاءُ﴾، ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾: صفة ثانية لـ ﴿أَوْلِيَاءُ﴾، أو حال منه. وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿زَعَمْتُمْ﴾. ﴿فَتَمَنَّوُا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا، ﴿تمنوا﴾: فعل أمر، مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿الْمَوْتَ﴾: مفعول به، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إنْ﴾: حرف شرط ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، والجواب محذوف معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت. والجملة الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَتَمَنَّوْنَهُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، مرفوع بثبات النون، والجملة معطوفة على جملة ﴿قل﴾. ﴿أَبَدًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَتَمَنَّوْنَهُ﴾، ﴿بما﴾: جار ومجرور متعلق بما في معنى النفي؛ لأنه سبب لنفي التمني، أي: يأبون من التمني بسبب ما قدمت أيديهم. ﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، والعائد محذوف؛ أي: بسبب ما قدمته أيديهم. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿بِالظَّالِمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، والجملة مستأنفة.
﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من المنادى، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، ﴿نُودِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿لِلصَّلَاةِ﴾: جار ومجرور، نائب فاعل ﴿مِن﴾: بمعنى في ﴿يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾: مجرور بـ ﴿من﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نُودِيَ﴾، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿فَاسْعَوْا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿اسعوا﴾: فعل أمر، مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿اسعوا﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ علي كونها جواب النداء. ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾: فعل أمر، وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿اسعوا﴾، ﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿خَيْرٌ﴾: خبر، ﴿لَكُمْ﴾:
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)﴾.
﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾: فعل، ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿فَانْتَشِرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة، ﴿انتشروا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الأولى. ﴿وَابْتَغُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿انتشروا﴾، ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿ابتغوا﴾، ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿انتشروا﴾. ﴿كَثِيرًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرًا كثيرًا، أو ظرف محذوف؛ أي: زمانًا كثيرًا، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترج وتعليل، بمعنى: كي، و ﴿الكاف﴾: اسمها، وجملة ﴿تُفْلِحُونَ﴾ خبرها، والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿رَأَوْا﴾ فعل ماضي، وفاعل، ﴿تِجَارَةً﴾: مفعول به، ﴿أَوْ لَهْوًا﴾: معطوف على ﴿تِجَارَةً﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب ﴿انْفَضُّوا﴾: فعل ماض وفاعل، ﴿إِلَيْهَا﴾ متعلق به، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿وَتَرَكُوكَ﴾: فعل ماض، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿انْفَضُّوا﴾، ﴿قَائِمًا﴾: حال من كاف
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْقُدُّوسِ﴾: بضم القاف وتشديد الدال، من أسماء الله تعالى؛ أي: الطاهر، أو المبارك، أو المنزه عن كل النقائص المتصف بكل كمال. وكل فعول مفتوح الفاء غير القدوس وسبوح وذروح وفروج فبالضمّ ويفتحن.
﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾: هم العرب، جمع أمي، نسبة إلى الأم التي ولدته؛ لأنه على الحال التي ولد عليها لم يتعلم الكتابة والحساب، فهو على الجبلة الأولى.
﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ﴾ والفرق بين التلاوة والقراءة: أن التلاوة قراءة متتابعة متسلسلة؛ كقراءة القرآن والحديث ودراسة العلم، والقراءة أعم من التلاوة؛ لأنها جمع الحروف باللفظ، ولو في كلمة، لا اتباعها، ذكره في "الروح". ﴿وَآخَرِينَ﴾: جمع آخر، بمعنى غير. ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾؛ أي: علموها، وكلفوا العمل بها. ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾؛ أي: لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بها. ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ والحمار: حيوان معروف، يعبر به عن الجهل، كقولهم: هو أكفر من الحمير؛ أي: أجهل؛ لأن الكفر من الجهالة. قال الشاعر:
تَعَلَّمْ يَا فَتَى فَالْجَهْلُ عَارُ | وَلَا يَرْضَى بِهِ إِلَّا الْحِمَارُ |
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾؛ أي: تهودوا. أي: صاروا يهودًا، من هاد يهود
﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾: من التمني، وهو: تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها. قال بعضهم: الفرق بين التمني والاشتهاء: أن التمني أعم من الاشتهاء؛ لأنه يكون في الممتنعات دون الاشتهاء؛ لأن التمني طلب أمر مستحيل؛ كـ:
لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُوْدُ يَوْمًا
أو مستبعد الحصول؛ كقول الفقير: ليت لي مالًا فأحجّ منه. وأصل تمنوا تمنيوا، أمر من التمني، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾ أصله: يتمنيونه، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ أصله: تفررون بوزن تفعلون، نقلت حركة الراء الأولى إلى الفاء فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. ﴿تُرَدُّونَ﴾: من الرد، وهو صرف الشيء بذاته أو بحالة من أحواله، يقال: رددته فارتد، والآية من الردّ بالذات كما مرّ، وأصله: ترددون، بوزن تفعلون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ﴾ النداء: رفع الصوت وظهوره كما مرّ. وأصله: نادي، بوزن فاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ولما بني الفعل للمجهول.. ضم أوله فقلبت الألف الأولى واوًا، ولما كسر ما قبل آخره.. قلبت الأخيرة ياء. ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾. قال الراغب: السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، وهو هنا بمعنى المشي المعتاد، وأصله: اسعيوا، بوزن افعلوا، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ يقال: فلان يذر الشيء؛ أي: يقذفه لقلة اعتداده به، ولم يستعمل ماضيه، وهو وذر؛ أي: اتركوا المعاملة.
﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً﴾ أصله: رأيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى
يَرْزُقُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَا أَحْرَمَا | وَالرِّزْقُ مَا يَنْفَع وَلَوْ مُحَرّمًا |
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾. فقد شبه اليهود حيث لم ينتفعوا بما في التوراة من الدلالة على الإيمان بمحمد - ﷺ - والإلماع إلى بعثته - ﷺ - بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها. ووجه الشبه: عدم الانتفاع بما هو حاصل وكائن، فالحمار يمشي في طريقه وهو لا يبيح بشيء مما يحمله على ظهره إلا بالكدّ والتعب، وكذلك اليهود قرؤوا التوراة أو حفظوها ثم أشاحوا عما انطوت عليه من دلائل، وإرهاصات على نبوة محمد - ﷺ -.
ومنها: تخصيص التشبيه فيه بالحمار لزيادة التحقير والإهانة ولنهاية التهكم والتوبيخ بالبلادة؛ إذ الحمار هو الذي يذكر بالبلادة، والبقر وإن كان مشهورًا بالبلادة إلا أنه لا يلائم الحمل كما مرّ.
ومنها: تأكيد التشبيه بزيادة الكاف كما في "الكواشي".
ومنها: الطباق بين الغيب والشهادة في قوله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ حيث أطلق الأيدي وأراد الأنفس لعلاقة الكلية والجزئية لكون أكثر الأعمال تزاول بها.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ للتسجيل عليهم بالظلم في كل أمورهم، وكان مقتضى السياق أن يقال: والله عليم بهم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾، حيث أطلق البيع الذي هو تمليك بعوض بلفظ بيع. وأراد جميع أنواع المعاملة، والصناعة والحرف، والزراعة وغيرها لعلاقة الجزئية.
ومنها: التفنن بتقديم الأهم في الذكر في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا﴾؛ لأن المقصود الأساسي في الانفضاض هو التجارة، فقدمها، ثم قال: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾. فقدم اللهو على التجارة؛ لأن الخسارة بما لا نفع فيه أعظم، فقدم ما هو أهم في الموضعين.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾؛ لأن الفض حقيقة في كسر الشيء وفصل بعضه عن بعض، فاستعاره للتفرق والانتشار.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال.
٢ - صفات النبي الأمي الذي بعثه رحمة للعالمين.
٣ - النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.
٤ - طلب مباهلة اليهود.
٥ - الحث على السعي للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر.
٦ - الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة.
٧ - عتاب المؤمنين على تركهم النبي - ﷺ - وهو يخطب قائمًا وتفرقهم لرؤية التجارة واللهو. (١)
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة المنافقون مدنية، قال القرطبي: في قول الجميع، نزلت بعد الحج. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والنحاس والبيهقي: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة المنافقين بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآيها: إحدى عشرة آية، وكلماتها: مئة وثمانون كلمة، وحروفها: تسع مئة، وستة وسبعون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها: أنه ذكر (١) في السورة السابقة حال المؤمنين الذي بعث إليهم النبي الأمي يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها، وفي هذه ذكر أضدادهم، وهم المنافقون الذين يشهدون كذبًا بأن محمدًا رسول الله - ﷺ - ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك، ومن ثم كان النبي - ﷺ - يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين على العبادة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين.
وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (٢): أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلًا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك، وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة، إذ كان وقت مجاعة.. جاء ذكر المنافقين، وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان، وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ إذ كانوا هم أصحاب أموال والمهاجرون فقراء، قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا إلى الله سبحانه وإلى رسوله - ﷺ -، طلبًا لمرضاته.
تسميتها: سميت سورة المنافقين لذكرهم فيها.
فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه (٣) سعيد بن منصور، والطبراني في
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة المنافقين كلها محكم ليس فيها منسوخ، وفيها ناسخ، وهو قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ...﴾ الآية (٦). فإنه لما نزلت آية براءة: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾. قال النبي - ﷺ -: "قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم" فأنزل الله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية نسخًا لقول النبي - ﷺ -: "لأستغفرن لهم أكثر من سبعين".
سبب نزولها: سبب نزول (١) هذه السورة مذكور في قصة طويلة من مضمونها: أن اثنين من الصحابة ازدحما علي ماء، وذلك في غزوة بني المصطلق، فشج أحدهما الآخر، فدعا المشجوج: يا للأنصار، والشاج: يا للمهاجرين، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ما حكى الله تعالى، عنه من قوله: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾، وقوله: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ وعنى بالأعز نفسه وكلامًا قبيحًا، نسمعه زيد بن أرقم، ونقل ذلك إلى رسول الله - ﷺ - فلام رسول الله - ﷺ - عبد الله بن أبي، فحلف ما قال شيئًا من ذلك، فاتُّهِمَ زيد، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ إلى قوله: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ تصديقًا لزيد وتكذيبًا لعبد الله بن أبيّ. هذا خلاصة ما في القصة الطويلة ذكره أبو حيان في "البحر المحيط".
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١١)﴾.المناسبة
تقدم لك بيان مناسبة هذه السورة للسورة المتقدمة قريبًا.
قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر كذب المنافقين في قولهم للرسول - ﷺ -: نشهد إنك لرسول الله، وبيّن أنهم يسترون نفاقهم بالأيمان الفاجرة، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم، وأنهم أجسام البغال وأحلام العصافير، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء الله حقًا. أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم بما لا يدع شبهة لمن يلتمس المعاذير ويبرئهم من النفاق، فمن ذلك:
٢ - أنهم قالوا: لئن رجعنا من وقعة بني المصطلق - قبيلة من اليهود - إلى المدينة.. لنخرجن الأذلاء محمدًا وأصحابه منها.
ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم، ولا هم يفقهون جليل قدرة الله وبديع صنعه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء وأن المؤمنين هم الأذلاء اغترارًا بما لهم من مال ونشب، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانًا حقًا، ويؤدون فرائضه ويقومون بما يقربهم من رضوانه.. أردف ذلك نهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب أولاد وجاه، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم في أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا، حيث لا ينفع الندم، ويتمنوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنى لهم ذلك؟ ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه، والله خبير بما يعملون، وهو مجازيهم على أعمالهم، إن خيرًا وإن شرًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه البخاري (ج/
١٠ - ص/ ٢٩٦) عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت لعمي أو لعمر، فذكره للنبي - ﷺ -، فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله - ﷺ - إلى عبد الله بن أبيّ