تفسير سورة الجمعة

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الجمعة
(مدنية)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)
(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ)
بضم القاف القراءة، وقد رُوِيتْ القَدُّوس بفتح القاف، وهي قليلة.
ومعنى القدوس المبارَكُ وقيل الطاهِرُ أيضاً.
* * *
وقوله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)
(الْأُمِّيِّينَ) الذين لا يكتبون، الذين هم على ما خُلِقَت عليه الأمَّةُ قبل
تعلم الكتاب، والكتَابُ لا يكون إلا بتعَلُّم ٍ.
وقولهم في الذي لا يعرف الكلام ولا القراءة: هو يقرأ بالسليقة، أَي لم يتعلم القراءة مُعْرباً إنما يقرأ على ما سمع الكلام على سلِيقَتهِ.
والسَّلِيقَةُ والطبيعةُ والنحيبَةُ والسَّجيَّةُ والسَّرجُوجَةُ، ْ مَعْنَاهُ كله الطبيعةُ.
وقيل أول ما بدأ الكتاب في العرب بَدَا مِنْ أَهْل الطائِفِ، وذكر أَهل
الطائف أنهم تعلمُوا الكتابة في أَهل الحِيرَةِ، وذكر أَهلُ الحيرَةِ أَنهم تعلموا
الكتابة من أَهل الأنبار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
" آخرين " في مَوْضِع جَرٍّ.
المعنى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ
وبَعَثَ في الذين لم يلحقوا بهم، أَي في آخرين منهم لَمَّا يَلْحَقوا بِهِم.
فالنبي عليه السلام مبعوث إلى من شاهده وإلى كل من كان بَعْدَهُمْ من العرب
والعجم.
ويجوز أن يكون (وآخرين) في موضع نصب على معنى يعلمهم الكتاب
والحكمة وُيعَلَمُ آخرين منهم لما يلحقوا بِهِمْ.
* * *
وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)
الأسفار الكُتُب الكبار، واحدها سِفْر، فأعلم اللَّه - عَزً وجَل - أن اليهودَ
مَثَلُهُمْ في تركهم استعمال التوراة والإيمان بالنبي عليه السلام الذي يجدونه
مكتوباً عندهم فيها كمثل الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً.
ثم قال: (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).
ومعنى (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) المثل الذي ضَرَبْنَاه لَهُمْ.
وقرأ أبو عَمْرو كمثل الحِمَارِ - بكسر الألف - وهذه الِإمالة أَعْنِي كسر الراء كثير في كَلَامِ العَرَبِ.
وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
معناه أَنه لا يهدي من سبق في علمه أَنه يكون ظَالِماً.
* * *
وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦)
وذلك لأنهم قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فقيل لهم:
إنْ كِنتُمْ تزعمون فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ.
أي فإن اللَّه سَيُمِيتُكُمْ.
وَأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم لايَتَمَنَّوْنَهُ، لأنهم قد
عَلِمُوا أن النبي عليه السلام حَقٌّ وأَنهم إن تَمَنَّوهُ مَاتُوا، فلم يَتَمَنَّوْهُ.
فهذه من أدل آيات النبي - ﷺ -.
ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنهم إنْ لم يَتَمنُوا الموت وَلَمْ يَمُوتُوا فِي وَقْتِهِمْ أنهم
يموتون لَا مَحالةَ فقال:
* * *
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
ودخلت الفاء في خبر إِنَّ، ولا يجوز إنَّ زَيْداً فمنطَلِق، لأن
(الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) فيه معنى الشرط والجزاء.
ويجوز أَن يكونَ تَمَام الكَلاَمِ: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ)
كَأَنَّه قيلَ: إنْ فَرَرْتُم من أَي موتٍ كانَ مِنْ قَتْلٍ أَو غيره فإنه مُلَاقِيكُمْ، ويكون (فَإِنَّهُ) استئنافٌ، بعد الخبر الأول.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)
وقرئت الجُمْعَة - بإسكان الميم - ويجوز في اللغة الجمَعَة - بفتح الميم -
- ولا ينبغي أن يقرأ بها إلا أن تثبت بها روايةٌ عن إمام من القُرَّاء.
فمن قرأ الجُمْعَة فهو تخفيف الجُمُعَةِ، لثقَلِ الضَمَّتَيْنِ.
ومن قال في غير القراءة الجُمَعَةِ، فمعناه التي تجمع النَّاسَ، كما تقول رجل لُعَنَة، أَيْ يُكْثِرُ لَعْنَ الناس، ورَجُل ضُحَكَةٌ، يكثر الضَّحِكَ.
وقوله: (فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ).
معناه فاقصدوا إلى ذكر اللَّه، وليس معناه العدو.
وقرأ ابن مَسْعودٍ: " فَامْضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ "
وقال: لو كانت فاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حتى يسقط رِدَائي.
وكذلك قرأ أبَيٌّ بن كَعْب: (فَامْضُوا).
وَقَدْ رويت عن عمر بن الخطاب.
ولكن اتباع المصحف أولى، ولو كانت عند عمر " فامضوا " لا غير، لغيرها في المصحف.
والدليل على أن معنى السَّعْيِ التصرف في كل عمل قول اللَّه - عز وجل -
(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠)
فلا اختلاف في أَن معناه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا عمل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فالبيع من وقت الزوال في يوم الجُمَعَةِ إلى انقضاء الصلاةِ كالمحرَّمِ.
* * *
وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)
هذا معناه الِإباحة، ليس معناه إذا انقضت الصلاة وجب أن يَتْجر
الإنْسانُ كما قال: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)
فليس على من حَلَّ من إحرامٍ أن يصطادَ إنما هو مباح له، مثل ذلك قوله في الكلام: إذَا حَضَرتني فلا تنطق وَإذا غبت عني فتكلم بما شئت، إنَّما معناه الِإباحة.
* * *
وقوله: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) بضم الواو لسكونها وسكون اللام.
وَاخْتِير الضم مع الواو، لأن الواو ههنا أصل حركتها الرفع.
لأنها تنوب عن - أسماء مرفوعة.
وقد قرئت (فتمنَوِ الموت) بكسر الواو لالتقاء السَّاكنين، إذا التقيا من كلمتين كسر الأول منهما كما تقول: قَلِ الحق فتكسر اللام لسكون لام الحق.
* * *
وقوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
ولم يقل إليهما، ويجوز من الكلام، وإذا رأو تجارة أو لهواً انفضوا إليه
انفضوا إليها، وانفضوا إليهما فحذف خبر أحدهما لأن الخبر الثاني يدل على
الخبر المحذوف والمعنى إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه.
وروي أن النبي - ﷺ - كان في خطبتِهِ فجاءت إبل لدحية بن خليفة الكلبي وعليها زيت فانفضوا ينظرون إليها وتركوا النبي - ﷺ - يخطب، وبقي النبي عليه السلام مع اثني عشر رجلًا، فقال رسول الله - ﷺ -: لو لحق آخرُهُمْ أَوَّلَهُمْ
لالتهب الوادي نَاراً.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَن ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن
172
التجارة، وأَعلم النبي عليه السلام غليظ ما في التولي عن الِإمام إذا كان
يخطب يوم الجمعة.
واللَّهوُ هَهنا قِيلَ الطَّبْلُ، وهو - واللَّه أَعلم - كل ما يُلْهَى بِهِ.
(وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
أَي ليس يفوتهم من أَرْزَاقِهم لتخلفهم عن النظر إلى الميرة شيءٌ مِنْ
رِزْقٍ ولا بتركهم البيعَ في وقت الصلاة والخطبة.
173
Icon