ﰡ
قوله تعالى: ﴿لاَ تُحِلُّوا شَعائرَ اللهِ﴾، إلى قوله: ﴿ورِضْوَاناً﴾.
قال مجاهد وابن زيد والسُّدِّي والشعبي: نسخ الله من ذلك نهيه أن يُعرَض لأحد ممّن يقصِدُ البيتَ الحرام من المشركين في قوله: ﴿ولاَ آمِّينَالبيتَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٢]، بقوله: ﴿فاقتلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، فأباحقتلَ مَنْ أمَّ البيتَ من المشركين. - وهذا (إنما) يجوز على قول من قال: إن براءة نزلت بعد المائدة -.
فأما من قال: إن المائدة نزلت بعد براءة، فإنه يجعل آية براءة مخصَّصةً بآية المائدة ومبيّنةً أن المراد بآية براءة قتلُ كُلِّ مشرك غيرِ آمِّ البيتالحرام - وهذا (على) قول ما قال: ليس في المائدة منسوخ -.
قال ابنُ عباس: كان المشركون والمؤمنون يحجون البيتَ، فنهى الله المؤمنين في هذه الآية أن يمنعوا المشركينَ من الحج، ثم نسخ الله ذلك بقوله: ﴿مَا كان لِلْمُشْرِكينَ أن يَعْمُرُوا مسَاجِدَ اللهِ﴾ [التوبة: ١٧] وبقوله: ﴿إنماالمشركون نَجَسٌ﴾ (وبقوله): ﴿إنّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ باللهِ﴾[التوبة: ١٨].
قال قتادة: كان الرجل إذا خرج إلى الحج تقلَّد من السَّمُر - وهو شجر -فلا يعرضُ له أحد [ولا يُصَدُّ عن البيت، وإذا رجع تَقَلَّد قِلادةً من شعر؛ فلا يعرض له أحد، قال] فأمر الله - جلّ ذكره - أن لا يقاتلوا في الشهرالحرام، بقوله: ﴿ولاَ الشّهرَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٢]، ثم نسخ ذلك كُلَّه بقوله:﴿فاقتلوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
وعن مجاهد أنه قال: لم يُنْسَخ من المائدة إلا القلائد، كان الرجليتقلَّدُ بالشيء من لِحاء شجر الحرم فلا يؤذي فيكون التقديرُ على هذهالأقوال: ولا أصحابَ القلائد، قال: فنسخَ اللهُ - سبحانه - ذلك بقوله:﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكين﴾ - الآية -. قال: ومعنى ﴿لاَ تُحِلُّوا شَعائرَ الله﴾[المائدة: ٢]لا تتعرضوا لِسَخَطِه وابتغوا طاعتَه، فهو محكم لا يجوز نسخُه على هذا التأويل.
وقال الشعبي: نُسِخَ مِن هذه السورة خمسةُ أحكام: قوله: ﴿لا تُحِلُّواشعائرَ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿الحرام﴾، قال: نُسِخَ ذلك كُلُّه بالأمر بالقتلحيثُ وجدوا.
وأكثرُ العلماء على أن قوله: ﴿لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله﴾ محكمٌ غيرُ منسوخ، ومعناه: لا تستحلوا حدودَه ومعالمه وحُرُماتِه، وهذا لا يجوزنسخُه.
قال ابنُ عباس: شعائرُ الله: مناسك الحج، فمعنى الآية: لا ترتكبواما نهيتُكُم عنه من صَدٍّ وغيره. وهذا كُلُّه لا يجوز نسخُه.
وقد قال أبو عبيد: الشعائر: الهدايا، وقيل: الشعائر: العلامات التي بين الحلِّ والحَرَم.
فأما قولُه: ﴿ولا الشهرَ الحرامَ﴾ [المائدة: ٢]، فهو عند أكثر العلماء منسوخٌ لأنه - تعالى ذكره - نهى أن يقاتَل المشركون في الشَّهرِ الحرامِ، ثم نُسِخَ ذلك، وقد تقدم ذكرُه في البقرة. والشهرُ الحرام: - هنا - يراد به رجبٌ، وقيل: ذو القعدة.
وقوله: ﴿ولاَ الهَديَ ولاَ القَلاَئِدَ﴾، وقد تقدم القول فيه أنه منسوخٌبالأمر بقتل المشركين حيثُ وُجدوا، ومعناه: ولا أصحابَ الهدي ولا أصحابَ القلائد. فكان النهيُ عامّاً عن قتل المشركين أصحاب الهدي والقلائد، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ﴾ على ما تقدم من الاختلاف.
وقد قيل: إن هذا كُلَّه محكم غيرُ منسوخ. نهى الله - جلَّ ذِكرُه -المؤمنين أن يمنعوا هدي المؤمن المقلّد وغيرَ المقلّد عن أن يصل إلى محلّه، كما فعل المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة الحديبية؛ إذصدّوهم عن البيت، وصدّوا الهديَ أن يبلُغَ مَحِلَّه، فهي في المؤمنينخاصة محكمة، وهي مثل قوله: ﴿ولاَ تَأْكُلُوا أمْوَالَكُم بِيْنَكُم بِالبَاطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨]إلى قوله: ﴿ولاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٢]، وهذا وحده منسوخ بآيةالسيف على ما قدَّمنا.
وقد قيل: إنه مخصوصٌ في أمر بعينه نزل في الحُطَم بن هندوقيل (هو) الحطيم بن ضبيعة أتى حاجّاً، وقد قلّد (هدية) فأراد أصحابُ النبي الخروجَ إليه فنهوا عن ذلك بهذه الآية، وبهذا القول قال ابنُجريجٍ وغيرُه.
وأكثرُ الناس على أن المائدةَ نزلت بعد براءة، فلا يجوز على هذا أنينسخ ما في براءة ما في المائدة، لأن الآيةَ لا تنسخ ما لم ينزل بعد. ومَنقال هذا، جعل: ﴿ولاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ منسوخاً بالإِجماع على أن المشرك لا يقربُ المسجد الحرام، وهذا إنما يجوز على قول من أجاز أنينسخ الإِجماعُ القرآن وليس هو قولَ مالكٍ ولا أصحابه، ولكن تكون الآية- على قول مالك وأصحابه، ومن لم يُجِزْ أن ينسخ الإِجماعُ القرآنَ -مخصوصةً في المؤمنين الذين يقصدون البيتَ الحرامَ، فهو محكم، فلا يجوز نسخُه؛ لأن المسلم نفسَه ومالَه وعرضَه مُحَرَّم، وإنما خصَّ ذكرَالآمّين للبيت الحرام، وغيرُهم في التحريم مثلُهُم؛ لأنهم أعظمُ حرمةً وآكدُ في التحريم لقصدِهمُ البيتَ الحرامَ وابتغائِهم ما عند الله وإلاَّفالتحريم (في) أن يحلّ أذى المسلم حيث كان واحِد، وهذا كما قال:﴿مِنْهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ... فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنفُسَكُم﴾ أي: لا يظلم بعضكم بعضاًفي هذه الأربعة (الأشهر) الحرُم، والظلم ممنوع منه في كل الشهور، ولكن خصّ ذكر الأشهر الحرم لِعِظَم قدرها، وَعِظَمِ الذنب فيها،- ولهذا نظائر، يخص الشيء بالذكر لتأكيد حاله وجلالة أمره - وغيرُه مثله.
قوله تعالى: ﴿ولاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنئَانُ قومٍ أَن صَدُّوكُم عن المَسْجِدِالحَرامِ أَن تَعْتَدُوا﴾ [المائدة: ٢]:
نهاهم الله عن الاعتداء لأجل بغضهم لقوم.
قال ابن زيد: هو منسوخ بالأمر بالقتال والجهاد، وقتلُهم وجهادُهم منأعظم الاعتداء عليهم وهو مأمورٌ به فيهم.
وقال مجاهد وغيرُه: الآيةُ مخصوصةٌ محكمةٌ غيرُ منسوخة. نزلت الآيةُفي مطالبة المسلمينَ المشركينَ بـ "ذحول" الجاهلية لأجل أن صدّوهمعن المسجد الحرام عام الحديبية.
(فالمعنى): لا يحملنَّكُم بغضُ مَن صدَّكُم عن المسجدالحرام (عام الحديبية) أن تطالبوهم بما مضى في الجاهلية من قتلٍ أو غيرِه، فما هُم عليه من الكفر أعظمُ من ذلك، وقد قال النبي - عليهالسلام -: "لعن الله من قتل بـِ "ذَحْلٍ" كان في الجاهلية" وهذا القولأولى بالآية وأحسن.
قوله تعالى: ﴿وطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُم، وطَعَامُكُمْ حِلٌّلَهُمْ﴾:
أباح الله لنا أن نأكل طعامهم ونطعمهم طعامنا.
وقد روي عن أبي الدّرداء وعبادة بن الصامت أنهما قالا: هذا ناسخٌلقوله: ﴿وَلاَ تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اسمُ اللهِ علَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١] فأَحلَّ لنا بهذه الآية أكلذبائح أهل الكتاب، وإن لم يذكروا اسمَ الله عليه.
وقد قال جماعةٌ من (أهل العلم): آيةُ الأنعام محكمةٌ، وإذا ذبح أَهلُ الكتاب ولم يذكروا اسم الله عليها لم تؤكل ذبيحتُهم، وإنما أحلَّ الله لنا أن نأكلَ ذبائحَهم إذا ذكروا اسمَ الله عليها، بدلالة قوله: ﴿ولاَتأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذكرِ اسمُ اللهِ عَلَيْه﴾ [الأنعام: ١٢١].
وقد قيل: إن آيةَ الأنعام مخصوصٌ حُكْمُها فيما ذُبِحَ للأصنام من ذبائحغير أهل الكتاب، وآيةُ المائدة في (إباحة أكل) ذبائح أهل الكتاب. فالآيتان على هذا في حكمين مختلفين مُحَكَميْن لا نسخَ في واحدٍمنهما.
وقد قال عليٌّ وعائشةُ وابنُ عمر: إذا علم أن الكتابيَّ لم يَذْكُر اسمَ اللهعلى ذبيحته لم تؤكل.
فآية الأنعام على هذا محكمة غيرُ منسوخة عامَّة في كل ما ذبح ولم يذكر اسمُ الله عليه، كتابياً كان الذابح أو غير كتابي أو مُسْلِماً إذا تعمّد تركالتسمية - وهو ظاهرُ التلاوة - ومفهوم الخطاب. وكذلك ذبيحة المسلمإذا تعمد ترك التسمية لا تؤكل بظاهر الآية.
وكان مالك يكره (أكلَ) ذبيحة الكتابي إذا لم يذكُر اسمَ اللهعليها، ولا يُحَرِّمُه، وهذا يدل (من مذهبه) على أن آية الأنعام مخصوصة في غير أهل الكتاب. ولو كانت عنده عامة في أهل الكتابوغيرهم لحرَّم أكل ذبيحة الكتابي إذا عُلِمَ أنه (لم يذكر) اسمَ الله عليها. وكره مالك أيضاً أكل (لحوم) ما ذبحوا لكنائسهم ولم يُحَرِّمْه، وكذلك إذاذكروا عليه المسيح، وذلك منه لعموم التحليل في قوله: ﴿وطَعَامُ الذِينَ أُوتُواالكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾، فأَحلَّ طعامهم تحليلاً عاماً، وقد علم الله أنهم لا يَذْكُرونَ اسمَ الله على الذَّبائح.
وقد أجاز ابنُ عباسٍ أَكْلَ ذبائح المجوس ونصارى تغلب؛ لقول النبي- عليه السلام -: "سنّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتاب".
ومنع من ذلك عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - وغيرُه، (وتأَوَّلوا)الحديثَ في الجزية لا غير، وقد أُجمعَ على منع نكاح نسائهم، فقد خرجوابذلك عن سُنَّةِ أهل الكتاب، فدلَّ ذلك على إخراجهم أَيضاً من سُنَّةِ أهلالكتاب في الذبائح، وإن الحديث إنما هو في الجزية خاصة، ولو كانعامّاً في سُنَّةِ أهل الكتاب لجاز نكاحُ نسائهم كأهل الكتاب ومنعُ ذلكإجماعٌ، وقد تقدم الكلام في حكم تحليل نكاح الكتابيات، وما قيل فيذلك.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلواوُجُوهَكُمْ﴾.
(هذه الآية) عند جماعة ناسخةٌ لقوله: ﴿لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]؛ لأن مفهومَ الخطاب جوازُ قُرْبِ الصلاةِ لغير السَّكران جوازاًعاماً بلا شرط غَسلٍ ولا وضوء، ثم منع في هذه الآية أن تُقْرَبَ الصَّلاةُ إلاّبالغسل المذكور للأعضاء المذكورة، والمسح للرأس.
وقيل: الآيةُ ناسخةٌ لفعل النبي - عليه السلام - كان إذا أَحدَثَ لم يُكلِّمأحداً حتى يتوضأ، فنسخَ اللهُ ذلك بالأمر بالوضوء عند القيام إلى الصَّلاة.
ومعنى ﴿إذَا قُمْتُمْ﴾: إذا أردتم القيام، كما قال تعالى: ﴿فإذا قرأتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم﴾ [النحل: ٩٨]، أي: إذا أردت قراءة القرآنفاستعذ بالله.
وقد قيل: إن ظاهرَ الآية إيجابُ الوضوء على كل مَن قام إلى صَلاةٍ، وإن كان على وضوء، لكنه نسخ بتواتر الأخبار أن النبي - عليهالسلام - كان يُصَلِّي صلواتٍ بوضوء واحد، وبالإِجماع على جواز ذلكوفعله.
والأحسن أن يقال: خُصِّصَ وبُيِّنَ بالإِجماع على جواز صلواتٍبوضوء واحد، وبالسُّنَّةِ المتواترة بفعل [النبي صلى الله عليه وسلم] ذلك، فيكون مخصَّصاًومبيَّناً أولى من أن يكون منسوخاً، هذا على قول من لم يُجِزْ النسخ بالإِجماعولا بالسنّة المتواترة؛ إذ لا اختلاف في جواز تخصيص القرآن وتبيينه(بالإِجماع وبالسُّنَّةِ المتواترة).
ورُوِيَ عن علي أنه جعل الآيةَ للوضوء لكل صَلاةٍ على النَّدب، نَدَبَكل من قام إلى الصلاة أن يتوضأ لها، وإن كان على وضوء، وكان علي- رضي الله عنه - يتوضأ لكل صلاة للفضل لا لأَنه واجب.
وقد ذهب قوم إلى وجوبه بظاهر الآية، وهو مروي عن عكرمة وابنسيرين. والجماعة على خلافهما، لِلإِْجماع السابق قبلَهما. والأخبار المتواترة على غير ذلك.
وقد قال زيدُ بنُ أسلم: الآية مخصوصةٌ يراد بها مَن كان على غيرطهارة، والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وعليه جماعة الفقهاء، وهو الصواب، إن شاء الله. فيدخل تحت الحدث النوم وغيره؛ فالآية محكمةفي هذه الأقوال.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: فَرْضُ غَسْلِ الرِّجْلَين ناسخٌللمسح على الخفين. وعن عائشة وأبي هريرة أنهما منعا المسح على الخفين وهي رواية ضعيفة.
وأكثر الفقهاء وأهل السنّة وأهل الحديث، وأكثر الرواة عن الصحابةوالتابعين على جواز المسح على الخفين في (السفر والحضر). فهو غير منسوخ بل هو توسعة وتخفيف على المسلمين. وهو بدل من الغسل.
فأمّا من قرأ: "وأرجُلِكُم" - بالخفض - فهي قراءة مُجْمَعٌ عليه لا اختلاف في جوازها والقراءة بها. وهي توجب جواز المسح على (الأرجل)وليس على ذلك عمل. وقد قيل فيه أقوال:
وقيل: هو (محكم) منسوخ بفعل النبي - عليه السلام - وغسله لرجليه دون أن يمسح، نقل ذلك نقلاً متواتراً، وقد أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بتخليلالأصابع، وذلك لا يصح إلا مع الغسل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ للأعقاب من النار"، لما رأى قوماً توضؤوا وأعقابُهم تلوح لم يصل إليها الماء، وهذا لايكون إلا بالغسل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أسبغوا الوضوء" وذلك لا يكون إلامع الغسل.
وقد قيل: إن القراءة - بالخفض - غيرُ منسوخة لكنّها تَدُلُّ على (ما تَدُلُّعليه، القراءة) - بالنصب - من الغَسْل وذلك أن معنى التمسح: التطهر، يقال: تمسحتُ لِلصَّلاة، أي، تطهَّرت لها: فيكون معنى: وأرجلكم- بالخفض -: أي: طهروها بالماء، فلما كان المسحُ يجوزُ أن يقع علىالطهارة بيَّن النبي بفعله أن المراد بالمسح - في قراءة مَن خفضالأرجل -: الغسل.
وقد روي عن الشعبي أنه قال: نزل القرآنُ بالمسح - يعني علىالأرجل - قال: وجاءت السُّنَّةُ بالغسل، فجعل المسحَ هو الفرض، والغسلبالسنّة، كأنه جعل السنّة ناسخةً للفرض؛ إذ قد أجمع على أنه لا يجوز مسح الرجلين في الوضوء دون الغسل، وإنما المسح الجائز على الخفين.
وقد قال بعض أهل العربية واللغة: إن معنى القراءة - بالخفض -: وامسحوا برؤوسكم وأَرجُلِكُم غَسْلاً، ودلَّ على هذا الغَسْلِ المحذوفِقولُه: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيديَكُمْ إِلَى المَرَافِق﴾، ودَلَّ على أن المرادَالغسلُ، وأكَّده التحديدُ في قوله: ﴿إلى الكَعْبَيْن﴾، كما قال في الأيدي: ﴿إلى المَرَافِق﴾.
وقد قال الأخفش وأبو عبيدة: إنما خُفِضَت الأرجلُ - في قراءة مَنخفضها - على الجوار للرؤوس، لا على العطف عليها. والخفضُ على الجوار لا يوجِبُ حُكْمَ الذي جاورَه وَحُمِلَ على إعرابه للمجاورة، إنما يوجِبُ الْحُكْمَ الخَفْضُ على العطف.
ومن قال: إنه خفضٌ - على العطف - احتجَّ بأنَّ حمل الكلام علىأقرب العاملين أحسن، فلما كان قبل الأرجل عاملان: الغسل والباء، والباءأقرب، حمل الكلام على الباء لقربها منه، وهو الأكثر في كلام العرب، وحَسُنَ ذلك لما في الكلام من الدليل على أن المراد به الغسل. وقد روى أبو زيد اللغوي: أن المسحَ: خفيفُ الغَسْل. وقال أبو عبيدة في قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأعْنَاقِ﴾ [ص: ٣٣]: أن المسح هنا: الضرب، فكذلك المسح في الأرجل: الغَسْلُ الخفيف.
فأما المسح على الخفين:
فإن ابن عباس يقول: "مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين قبل نزولالمائدة"، فلما نزلت المائدة بالغَسْل نسخَ ذلك المسحَ، وقال: "والله ما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد المائدة".
وقال جريرُ بن عبد الله: مسح النبي - عليه السلام - على الخفين بعد نزول المائدة - وكان إسلامُ جرير بعد نزول المائدة في (شهر) رمضانسنة عشر - وعلى هذا أكثر الناس لأن من أثبت أولى بالقبول ممّن نفى. هذا أصل مجمع عليه.
وقد اختلف قولُ مالك في جواز المسح (على الخفين) للمقيم. وعلى جوازه أكثر أهل السنّة.
قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ واصْفَحْ﴾:
قال قتادة: هي منسوخةٌ بقوله: ﴿قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ باليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] - الآية -.
وقيل بقوله: ﴿وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً﴾ [الأنفال: ٥٨] - الآية -.
وقال ابنُ عباس: هي منسوخةٌ بقوله: ﴿اقتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُوَجَدتُموهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
وهذا كله يَدُلُّ على أن براءة نزلت بعد المائدة.
فأما مَن قال: المائدة نزلت بعد براءة فالآية عنده محكمةٌ غيرُمنسوخة، لكنها مخصوصة نزلت في قوم من اليهود أرادوا الغدرَ بالنبي- عليه السلام - فنجَّاه الله منهم، وأمره بالعفو عنهم ما داموا على الذمة، وهوالصواب إن شاء الله، لأن القصة من أول العشر إلى آخره، وما بعده كلهنزلت في أهل الكتاب والإِخبار عن حالهم وعهدهم وخيانتهم وغير ذلك.
(وقد) قيل: هي محكمةٌ مخصوصة في زمان دون زمان، فالمعنى: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وذِمَّة.
قوله تعالى: ﴿إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسولَه﴾.
قال ابن سيرين: هذه الآيةُ نسخت فعلَ النبي - عليه السلام -بالعُرَنيين حين سَمَلَ أَعْيُنَهم ومثَّل بهم وتركهم في الحرَّةِ حتى ماتوا، فلميمثّل النبي - عليه السلام - بأحد بعد هذه الآية.
وقيل: إن فعلَه - صلى الله عليه - ليس بمنسوخ؛ لأنه (إنما) فعل بهم مثل ما فعلوا بالرِّعاء.
وقيل: الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد، وأفسدوا فيالأرض، فأَعلمَ الله نبيّه الحكم فيهم، وهو مروي عن ابن عباس.
وقال الحسن: نزلت الآية في قوم ارتدّوا واستاقوا المواشي وقتلواالرِّعاء يعني العُرَنيين، فأخذهم النبي - عليه السلام - فقطع أيديَهموأرجُلَهم وسَمَل أَعيُنَهُم وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا.
والإِمام عند مالك مُخَيَّرٌ فيمن وقع عليه اسم الحرابة أنه إذا قدرعليه يجتهد في عقوبته، ويفعل ما رأى، وهو قول عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، وروي مثله عن ابن عباس، وبه قال ابن المسيّب.
وقال الشافعي: (لا يُخَيَّر الإِمام) في ذلك، وعقوبةُ المحارِب علىقدر جنايته، وبه قال الحسنُ والأوزاعيُّ وعطاء وابنُ جبير، وروي مثله عنابن عباسٍ أيضاً وهو قولُ أَهلِ العراق.
والنفي - عن مالك -: حَبْسُه أو إخراجه من ذلك البلد إلى غيره وحبسهفيه. وقال الشافعي: ينفى من ديار الإِسلام. وقال الكوفيون: النفي: الحبس.
قوله تعالى: ﴿فَإِن جَاؤوكَ فاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾:
خيّر الله - نبيّه - صلى الله عليه وسلم - في ظاهر هذه الآية في الحكم بين أهلالكتاب إذا أتوا لذلك، أو تركَه.
قال ابنُ عباس: هذا منسوخ بقوله: ﴿فاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله، وَلاَتَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٨] - الآية -، وبقوله: ﴿وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ، ولاَتَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ واحذَرْهُمْ﴾ [المائدة: ٤٩]، فليس للإِمام ردّهم إلى حكامهم، إذا جاؤوا ليحكم بينهم إنما كان هذا في أول الإِسلام، ليكون ذلك أَدعى لهمإلى الدخول في الإِسلام، والألفة، وأقربَ إلى قلوبهم - وهو قول مجاهدوقتادة وعطاء الخراساني وعكرمة والزهري، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبه قال الكوفيون، وهو أحد قولي الشافعي -.
وقال جماعة من العلماء: الآية محكمةٌ غيرُ منسوخة، والإِمام مُخَيَّرٌ فيالحكم وتركه إذا جاؤوه ليحكم بينهم - وهو قول عطاء (بن أبي رباح والحسن ومالك، وهو أحد قولي الشافعي وهو قول الشعبي والنخعي وأبيثور -.
ومعنى: ﴿وأن أحكم بينهم بما أنزل الله﴾ - على هذا القول -: إنشئتَ؛ لأنه قد تقدم لفظ التخيير له، فآخرُ الكلام حذف منه التخيير لدلالةالأول عليه، لأنه معطوفٌ عليه، فَحُكْمُه في التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما شريكان، وليس الآخر بمنقطع مما قبله؛ إذ لا معنى لذلك ولا يصح، فلا بدّ من أن يكون قوله: ﴿وأن أحكم بينهم بما أنزل الله﴾ [المائدة: ٤٩] معطوفاً علىما قبله من قوله: ﴿وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُم بَيْنَهُم بالقِسْط﴾ [المائدة: ٤٢] ومن قوله: ﴿فَإِن جَاؤوكَ فاحْكُم بَينَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢].
ومعنى: وأن احْكُم بينهم بما أنزل الله، أي: احكم (بينهم)(بذلك) إن حكمتَ واخْتَرْتَ الحكم، فهو كُلُّه مُحْكَمٌ غيرُ منسوخ، لأنالناسخ لا يكونُ مرتبطاً بالمنسوخ ومعطوفاً عليه، فالتخيير للنبي - عليهالسلام - في ذلك مُحْكَمٌ غيرُ منسوخ.
قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارتُه إِطْعَامُ عَشَرةِ مَسَاكِين﴾ :
هذا ناسخٌ لقوهل تعالى: ﴿ولاَ تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١].
أمر الله تعالى بترك نقض اليمين، ثم خَفَّفَ ذلك بالكفارة، ونقضاليمين والحنث في هذه السورة، وهو مثل قوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا﴾ [البقرة: ٢٢٤] أي: لا تمنعكم اليمين من فعل البرِّ، فهو مثل قولهتعالى في أبي بكر إذ منع مسطحاً من النفقة وخلف عليه، فنزل:﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنكُمْ والسَّعَة﴾ [النور: ٢٢] - الآية - فرجع أبو بكر إلى الإِنفاق على مسطح، وكَفَّرَ (عن يمينه).
فهو كله نَاسخٌ لقوله: ﴿وَلاَ تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾، فَعَمّكل يمين ألاّ تُنْقَضَ، ثم أجاز نقضَها بالكفارة تخفيفاً ورحمةً.
وقيل: إن قوله: ﴿ولاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ﴾ محكم غير منسوخ، يراد بهالعهود التي كانت بينهم، أمر الله بالوفاء، كما قال: أوفوا بالعقود.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنتُمْ حُرُمٌ﴾.
عمَّ الله بظاهر هذه الآية النهيَ عن قتل كل صَيْدٍ من بَرٍّ وبحر، ثم قالتعالى بعد ذلك: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْر﴾ [المائدة: ٩٦]، فظنَّ ظانٌّ أنه ناسخ للأول، وليس كذلك، إنما هو تبيين وتخصيص، بيّن الله بقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْر﴾ أن النهي عن قتل الصيد للمُحْرِمِ يراد به صيدُ البَرِّ، وأن الآيةخاصةٌ في ذلك غيرُ عامة في كل صيد.
قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾. الآية:
قال أبو محمد: كَثُرَ الاختلافُ في معنى هذه الآية، حتى قيل إنهامنسوخةٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المفروضين المحكمين.
وأكثر أقوال الناس أنها محكمةٌ على معانٍ:
قيل: المعنى: عليكم أَنْفُسَكُم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عنالمنكر فلم يقبل منكم، (قيل هو قول ابن مسعود).
وقيل: لم يأت زمان هذه الآية بعد.
وقيل المعنى: ليس على الإِنسان ضلال غيره من يهوديونصراني، إذا اهتدى هو. وقد شرحناها في غير هذا الكتاب بأبين منهذا، وقيل: إن الآية رخصت العزيمَةَ في فرض الأمر بالمعروف والنهيعن المنكر.
قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُحِينَ الوَصِيَّةِ اثنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٦] الآية:
أكثر الناس على أن هذا محكمٌ غير منسوخ.
(واختلف القائلون بأنها محكمة) غيرُ منسوخة في معنى قوله:﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾:
فقيل: هم أهل الكتاب: شهادتهم على الوصية خاصة في السفرجائزة عند فقد المسلمين للضرورة - وهو قول أبي موسى الأشعري، والشعبي، وابن سيرين، ومجاهد، وابن جبير، وابن المسيب، وشريح، والنخعي، والأوزاعي، وهو مروي عن ابن عباس وعائشة -.
وقيل: معنى ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾: من غير قبيلكُم يعني - منالمسلمين - وهو قول الحسن، و عكرمة، وأضافه بعض الرواة إلى مالكوالشافعي - فلا نسخ فيه على هذا. واستدلوا على ذلك بقوله: ﴿تحْبِسُونَهُمَامِن بَعْدِ الصَّلاة﴾ فدلّ على أنهما من أهل الصَّلاة. ولا يطلق على أهلالكتاب اسم: أهل الصلاة.
واختلف القائلون: إن معناه من أهل الكتاب.
وقال آخرون: الآية منسوخة ومعنى: من غيركم: من غير أهل ملتكم، فأجاز شهادةَ غير المسلمين (هاهنا)، ثم نسخه الله (بالأمر) بشهادةالعدول في قوله: ﴿ممّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وفي قوله:﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]، والكافر ليس بعدل ولا يرضى.
ويدل على أن معنى: ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾: من غير أهل دينكم: أنهتعالى استفتح الآية بقوله: ﴿يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا شَهَادَة بَيْنِكُمْ﴾، ثم قال: أوآخران من غيركم، ولا غير لأهل الإِيمان إلاّ أهل الكفر، ولو خاطب قبيله فيصدر الآية، لكان معنى ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾: من غير قبيلتكم.
وهذه الآية وما فيها من الحكم وما فيها من الإِعراب والمعانيوالقراءات من أشكل آية في القرآن، وهي تحتاج إلى بسط يطول، لكنّاذكرنا من ذلك ونذكرُ ما نحتاج إليه في هذا الكتاب. وقد بسطناها في كتاب مفرد يشرحها.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ ﴾
قوله تعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ﴾ الآيتان إلى قوله:﴿لَشَهَادتُنَا أحقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا﴾:
أَوجبَ الله - جلّ ذكره - على الشاهديْن على الوصية القابضيْنِ لتركهالميت في السفر اليمينَ إن ارتبنا أنهما غابا على شيء من التركةوخانا، فإذا حلفا بعدَ الصلاة، ثم اطُّلِعَ على خيانة منهما في التركة، حلف وليَّان وارثان من أولياءِ الميت على ما يدَّعيان قِبَل الشاهدين، ويقولان في آخر يمينهما: ليميننا أحق من يمينهما، وهو قوله: ﴿لَشَهَادَتناأحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا﴾ ثم يستحقان ما حلفا عليه.
هذا معنى الحكم المتلوّ في الآيتين.
ونُبَيِّنُ ذلك الاختلاف في معنى قوله: ﴿أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾.
فمن قال: معنى ﴿مِن غيرِكُمْ﴾: أي: من أهل الكتاب - وهو منسوخبقوله: ﴿ممّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء﴾، وبقوله: ﴿وأشهِدُوا ذَوَيْ عدلٍمِنكُمْ﴾ - قال: هذه الأحكامُ كُلُّها منسوخةٌ بما نسخ به جوازُ شهادة أهلالكتاب - وهو قول زيدِ بن أسلم ومالك والشافعي وأبي حنيفة -.
ومن قال: معنى من غيركم: من أهل الكتاب - وهو غير منسوخ، وشهادة أهل الكتاب في السفر في الوصية خاصة جائزة للضرورة - قال: القصة كُلُّها مُحْكَمة معمول بها - وهو قول ابن عباس وعائشة وأبي موسىالأشعري وابن جبير وابن المسيب وابن سيرين والشعبي والثوري وغيرهم -.
ومن قال: معنى ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾: من غير قبيلتكم - من المؤمنين -قال: القصة كلها محكمةٌ معمول بها - وهو قول الزهري والحسن وعكرمةوأضافه بعض الناس إلى مالك والشافعي -.
والصلاة - في هذه الآية -: صلاة العصر، ففي هذه القصة وأحكامهاثلاثة أقوال على ما فسَّرنا.
وقد زاد النحاس فيها قول من قال: الشهادة في الآية بمعنى: الحضور. وقول من قال: الشهادة بمعنى: "اليمين"، ولا معنى يتحصل لهذين القولين.