ﰡ
الآية. وبما ثبت في السنة تحريمه. وما في موضع نصب لأنه استثناء من موجب، وهو قوله: ﴿ أُحِلَّتْ ﴾.
وموضع ما نصب على الاستثناء ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة. وقال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إلا عاطفة، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجال إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد. " انتهى ". وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة، لأن الذي قبله موجب فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد، على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلا ما يتلى، وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله: وذلك لا يجوز عند البصريين ظاهره الإِشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف، وقوله: إلا من نكرة هذا الاستثناء مبهم لا ندري من أي شيء هو، وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصري ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصري البتة وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون المنعوت نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت فلم يفرق بينهما في الحكم ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها من الإِعراب على طريقة البدل حيث يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ اتفق الجمهور على نصب غير، واتفق من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال، واختلفوا في صاحب الحال. فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال الجمهور: الزمخشري وابن عطية وغيرهما هو الضمير المجرور في أحل لكم. وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من: أحل المقام مقامه المفعول به وهو الله. وقال بعضهم: هو الضمير المجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم هو استثناء من بهيمة الانعام وان قوله: غير محلي الصيد استثناء آخر منه، فالاستثناءان معاً هما من بهيمة الانعام وهي المستثنى منها والتقدير إلا ما يتلى عليكم الا الصيد وأنتم محرمون بخلاف قوله:﴿ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾[الحجر: ٥٨، الذاريات: ٣٢]، على أن يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإِحرام لأنه مستثنى من المحظور إذ كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإِباحة وهذا وجه ساقط فإِذن معناه أحلت لكم بهيمة الانعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. قال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير وقدروا تقديرات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على إطراده متمكن استثناء بعد استثناء. انتهى كلامه. وهو أيضاً ممن خلط على ما نبيّنه، فاما قول الأخفش ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة غير اعتراضية بل هي منشئة أحكاماً وذلك لا يجوز وفيه تقييد الإِيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم وهم مأمورون بإِيفاء العقود بغير قيد، ويصير التقدير أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم فإِذا لم توجد هذه الحال فلا توفوا بالعقود. واما قول الجمهور فهو مردود من هذا الوجه الأخير إذ يصير المعنى أحلت لكم بهيمة الانعام في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم وهم قد أحلت لهم بهيمة الانعام في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال إذا أريد ببهيمة الانعام أنفسها وإن أريد بها الظباء وبقر الوحش وحمرة. فيكون المعنى وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا، ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. وأما قول من جعله حالاً من الفاعل وقدره وأحل الله لكم بهيمة الانعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم قال كما تقول: أحل لكم كذا غير مبيحة لك يوم الجمعة وهو فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً فلا يجوز وقوع الحال منه. لو قلت: أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ولأنه بتقييد إحلاله تعالى بهيمة الانعام إذا أريد بها ثمانية الا الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها. وأما قول من جعله حالاً من الضمير في عليكم فالذي يتلى لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم بل هو ما يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها. وأما ما نقله القرطبي عن البصريين فإِن كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى فنقول: إنما عرض الإِشكال في الآية من جعلهم غير محلي الصيد حالاً من المأمورين بإِيفاء العقود أو من المحلل لهم أو من المحلّل وهو الله أو من المتلو عليهم وغرهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء وقدروه هم انه اسم فاعل من أحل وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول وأنه جمع حذف منه النون للإِضافة وأصله غير محلين الصيد وأنتم حرم إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف فلا يقدر فيه حذف النون بل حذف التنوين وإنما يزول الاشكال ويتضح المعنى بأن يكون قول: محلي الصيد من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، فكذلك هذا أصله غير الصيد المحل والمحل، صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف ووصف الصيد بأنه محل على وجهين، أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرجل، أي دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم. والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حل أي حلالاً بتحليل الله، وذلك أن الصيد على قسمين حلال وحرام ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ألا ترى إلى قول بعضهم أنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً وقد تجوزت العرب وأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحل ولا حرمة نحو قول الشاعر: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقاًوعثّر اسم موضع. وقال آخر: وقد ذهبت سلمى بعقلك كله فهل غير صيد أحرزته حبائلهوقال امرؤ القيس: وهو نضيد قلوب الرجال وأفلت منها ابن عمر وحجرومجيء أفعل البلوغ على الوجهين المذكورين كثير من لسان العرب فمن مجيىء أفعل البلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرجل وأعرق وأشأم وأيمن وأتهم وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض وأبقلت وأغدّ البعير وألبنت الشاة وغيرها، وأجرت الكلبة وأصرم النخل وأبلت الناقة وأحصد الزرع وأجرب الرجل وانجبت المرأة. وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل أو صار ذا حل اتضح كونه استثناء ثانياً، ولا يكون استثناء من استثناء إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكم لأن المستثنى من المحلل محرم والمستثنى من المحرم محلل. بل إذا كان المعنى بقوله: بهيمة الانعام الانعام أنفسها فيكون استثناء منقطعاً وإن كان المراد الظباء وبقر الوحوش وحمرة ونحوها فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل استثناء الصيد الذي بلغ الحل في حال كونهم محرمين. فإِن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، ففيه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم وإن كان حلالاً لغيره فأجرى أن حرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ﴾[المائدة: ٣]، الآية. استثناء منقطعاً إذ لا تختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقرة ونحوها فتصير لكن ما يتلى عليكم أي تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الانعام الانعام والوحوش فيكون الاستثناء ان راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلي الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول وإذا لم يمكن ذلك وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيداً إلا عمراً إلا بكراً. فإِن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يعكر عليه كونه كتب في رسم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء وكون القراء وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك أيضاً. قلت: لا يعكر على هذا التخريج لأنهم كتبوا كثيراً من رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: كتبهم لا أذبحنه ولا أوضعوا منه بألف بعد لام الألف، وكتبهم بأييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ونقصهم منه ألفاً، وكتبهم الصلحت ونحوه بإِسقاط الفين. وهذا كثير في الرسم وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو بتقطع النفس فوقفوا على الرسم كما وقفوا على سندع من قوله تعالى:﴿ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ ﴾[العلق: ١٨]، من غير واو اتباعاً للرسم على أنه يمكن توجيه كتبه بالياء والوقف عليه بها بأنه جاء ذلك على لغة الازد إذ يقفون على بزيدي بإِبدال التنوين ياء فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة وهذا توجيه شذوذ رسمي ورسم المصحف مما لا يقاس عليه. وقرأ ابن أبي عبلة غير بالرفع وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله: بهيمة الانعام، ولا يلزم من الوصف بغير ان يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية: لأن غير محلي الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً. " انتهى ". ولا يحتاج إلى هذا التكليف على تخريجنا محل الصيد وأنتم حرم، جملة حالية. وحرم: جمع حرام. ويقال: أحرم الرجل أي دخل في الإِحرام بحج أو عمرة أو بهما فهو محرم. وحرام وأحرم الرجل دخل في الحرم. قال الشاعر: فقلت لها فيىء إليك فإنن حرام وإني بعد ذلك لبيبُأي ملب. ويحتمل الوجهين قوله: وأنتم حرم إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم وعلى من كان كان أحرم بالحج أو العمرة وهو قول الفقهاء، وقال الزمخشري: وأنتم حرم حال من محلي الصيد، كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الانعام في حال امتناعكم عن الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم. " انتهى ". وقد بينا فساد هذا القول بأن الانعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ هذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإِيفاء العقود وتحليل بهيمة الانعام والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في الاضطرار واستثناء الصيد في حالة الإِحرام، وتضمن ذلك حله لغير المحرم. فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾، فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، لا ما تقوله المعتزلة من مراعاة المصالح.
والثاني قوله في الجملة التي تأتي بعدها وهو قوله: ﴿ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾، فرجع قوله: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ ﴾ للأول. وقوله: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ ﴾ وهذا من أجل الفصاحة ومعنى وإذا حللتم أي من مناسك الحج.﴿ فَٱصْطَادُواْ ﴾ هو أمر إباحة لا أمر وجوب لأن الصيد كان قبل الحج حلالاً فمنع منه الحاج فلما زال المانع رجع لأصله من الحل قرأ أبو واقد والجرّاح ونبيح والحسن بن عمران فاصطادوا بكسر الفاء. قال الزمخشري: قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. قال ابن عطية: هي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت: اصطادوا، بكسر الفاء مراعاة وتذكر لكسرة ألف الوصل. " انتهى ". وليس عندي كسراً محضاً إنما هو من باب الإِمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل كما أمالوا الفاء في فإِذا لوجود كسر إذا.﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ أي لا يحملنكم. يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني. وقرىء شنآن بفتح النون وسكونها وهو البغض. وفعله شني بكسر النون. وذكر له في البحر ثلاثة عشر مصدراً. وقال سيبويه: كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن. وقرىء: ان صدوكم بكسر الهمزة حرف شرط وبفتحها على التعليل أي لأن صدوكم. وقوله: ﴿ أَن تَعْتَدُواْ ﴾ أي على الاعتداء أي لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء ومن فسر لا يجرمنكم بمعنى لا يكسبنكم البغض فهو يتعدى إلى اثنين أحدهما ضمير الخطاب. والثاني: قوله: ان تعتدوا فالمعنى لا يكسبنكم البغض الاعتداء عليهم.﴿ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ﴾ قال ابن عباس: البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه. ﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ ﴾ أي المعاصي. ﴿ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾ التعدي في حدود الله. ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ تقدم الأمر بإِيفاء العقود وتحليل وتحريم ونهي عن أشياء فناسب أن يختم بالأمر بالتقوى والاخبار بأنه تعالى شديد العقاب لمن أمره ونهاه عن شيء فما انتهى.
الآية، ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً والجملة خبر ويحتمل أن تكون ما استفهاماً وذا خبرا أي ما الذي أحل لهم والجملة من قوله: ما إذا أحل لهم في موضع نصب بيسألونك على إسقاط حرف الجر والسؤال هنا معلق وليس فعلاً قلبياً لكن لما كان طريقاً إلى العلم أجرى مجرى العلم فعلق لما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ما ذا أحل لنا، كما تقول: أقسم زيد ليضربنه ولأضربن، وضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها. قال الزمخشري في السؤال: معنى القول فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم كأنه قيل: يقولون ما إذا أحل لهم. " انتهى ". لا يحتاج إلى ما ذكر لأنه من باب التعليق، لقوله:﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾[القلم: ٤٠]، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك. ونصوا على أن فعل السؤال يعلق وان لم يكن من أفعال القلوب لأنه سبب للعلم فكما يعلق العلم فكذلك سببه.﴿ ٱلطَّيِّبَاتُ ﴾ هنا المستلذات. ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ ﴾ معطوف على الطيبات وهو على حذف مضاف تقديره وأكل ما علمتم من مصيد الجوارح والجوارح الكواسر من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالباً ولأنها تكسب. يقال: امرأة لا جارح لها، أي لا كاسب. ومنه ويعلم ما جرحتم بالنهار أي ما كسبتم. ويقال: جرح واجترح بمعنى كسب.﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ المكلب بالتشديد معلم الكلاب ومنصريها على الصيد، وبالتخفيف صاحب الكلاب، اشتقاق هذه الحال من الكلب وإن كانت عامة في الجوارح على سبيل التغليب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلب فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه. وقيل: لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب أو اشتقت من الكلب وهو الضراوة. ويقال: هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به. قال الزمخشري: أو لأن السبع يسمى كلباً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:" اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد "" انتهى ". لا يصح هذا الاشتقاق لأن كون الأسد كلباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها، وكلاب بنفسها لا بجعل المعلم.﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي أن تعليمكم إياهن ليس من قبل أنفسكم إنما هو من العلم الذي علمكم الله وهو ان جعل لكم رويّة وفكرة بحيث قبلتم العلم فكذلك الجوارح يصير لهم إدراك مّا وشعور بحيث يقبلن الائتمار والانزجار. وفي قوله: مما علمكم الله، اشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان ومفعول علم وتعلمونهن. الثاني: محذوف تقديره وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهن تعلمونهن ذلك. وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام وأكله، لأن الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم. والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه، ومعنى مما علمكم الله من الأدب الذي أدبكم به سبحانه وتعالى وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه فإِذا أمر فائتمر وزجر. فانزجر فقد تعلم مما علمنا الله. وظاهر مما أمسكن عليكم أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل أو لم يأكل. ﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ أي على ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله لقوله: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل)، والتسمية عند الإِرسال أهي على الوجوب أو على الندب.﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ الآية، لما تقدم ذكر ما حرم وأحل من المطاعم، أمر بالتقوى فإِن التقوى بها يمسك الانسان عن الحرام وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه فهو وعيد بيوم القيامة وإن حسابه إياكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب.
قال الزمخشري: فإِن قلت: فهلا قيل ومن النصارى. قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة الله وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية. " انتهى ". قد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل: سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة وقوله: وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون وهم عند الزمخشري كفار وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة وهم عند غيره مؤمنون ولم يختلفوا هم إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم.﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ ﴾ ظاهره أنه يعود على النصارى. وقيل: النصارى هم النسطورية واليعقوبية والملكية كل فرقة منهم تعادي الأخرى. وقيل: الضمير عائد على اليهود والنصارى أي بين اليهود والنصارى فإِنهم أعداء يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض.﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ هذا تهديد ووعيد بعذاب الآخرة إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار. ﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ الخطاب لليهود والنصارى. ورسولنا هو محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومن رجم الزناة وغير ذلك. ﴿ نُورٌ ﴾ هو القرآن إذ هو مزيل لظلمات الشرك والشك. ﴿ مُّبِينٌ ﴾ واضح الدلالة موضع طرق الإِسلام.
والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة، وأحباؤه جمع حبيب فعيل نحو بمعنى مفعول أي محبوبوه وأجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو لبيب والباء. وقال ابن عباس: هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول صلى الله عليه وسلم عقاب الله فقالوا: أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه. بعد قل محذوف تقديره كذبتم في دعواكم.﴿ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ ومن كان محبوباً لله وابناً له بمعنى الرأفة لا يعذبه. ﴿ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ اضرب عن الاستدلال الأول من غير إبطال وانتقل الى استدلال ثان من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة فإِن القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوصفين البنوة وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله فبطل الوصفان اللذان ادعوها.﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ شامل لليهود والنصارى. ﴿ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ ﴾ مفعوله محذوف تقديره بين لكم شريعة الإِسلام والدين. ﴿ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ ﴾ أي على انقطاع من الرسل، إذ لم يكن بين محمد وعيسى عليهما السلام رسول على فترة. قال ابن عباس: أنه كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما السلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى:﴿ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾[يس: ١٤].
وهو شمعون وكان من الحواريين، وقال ابن الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال بينهما أربعة أنبياء واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضيّعه قومه. و ﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾ مفعول من أجله تقدره البصريون كراهة أن تقولوا، أو حذار أن تقولوا، وقدره الفراء لئلا تقولوا وهو متعلق بقوله: قد جاءكم رسولنا. و ﴿ مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ﴾ من زائدة وهو فاعل بقوله ما جاءنا ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ ﴾ تكذيباً لهم وخصوصاً اليهود.
وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بأنت. وتقدم الكلام على نظير هذا في قوله:﴿ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ ﴾[البقرة: ٣٥].
﴿ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال ولا على الرجوع في حيث جاؤوا بل أقاموا حيث كانت المجاورة بين موسى وبينهم وها من قوله هاهنا للتنبيه وهنا ظرف مكان للقريب؛ والعامل فيه قاعدون.﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ ﴾ لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله وشدة اللياذ به والشكوى إليه ورقة القلب التي تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة. ﴿ وَأَخِي ﴾ منصوب معطوف على نفسي، ويعني به هارون عليه السلام وكأنه ما اعتد بذينك الرجلين المؤمنين، كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه خطب في مسجد الكوفة مستنجداً على قتال أعدائه فلم يجبه إلا رجلان، فقال: أين يقعان مما أريد. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون " وأخي " مرفوعاً معطوفاً على الضمير المستكن في أملك وجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور ويلزم من ذلك، ان موسى وهارون لا يملكان إلا نفس موسى فقط وليس المعنى على ذلك بل الظاهر ان موسى عليه السلام يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط.﴿ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا ﴾ ظاهره أنه دعا بأن الله يفرق بينهما. ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ قال فيه ضمير يعود على الله تعالى، فإِنها أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وانتصب أربعين على أنه ظرف زمان والعامل فيه محرمة. قيل: وحكمة هذا العدد انهم عبدوا العجل أربعين يوماً فجعل لكل يوم سنة، قيل: انّ من كان جاوز عشرين سنة لم يعش الى الخروج من التيه وإن من كان دون العشرين عاش فكأنه لم يعش المكلفون العصاة.﴿ يَتِيهُونَ ﴾ التية في اللغة: الحيرة، يقال: تاه يتيه ويتوه وتيهته وتوهته، والياء أكثر. والأرض التيهاء التي لا يتهدى فيها، وأرض تيه. وقيل: العامل في قوله: أربعين، لفظ يتيهون. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهون المتأخر. انتهى. لا أدري ما الحامل له على قوله: إن العامل مضمر كما ذكر. بل الذي جوزه الناس في ذلك هو أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه لا مضمر يفسره قوله: يتيهون في الأرض. قال ابن عباس: تسعة فراسخ. وقال مقاتل: هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخاً. وروى في كيفية تيههم في هذه المدة أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدؤا منه ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا إذا هم حيث ارتحلوا عنه فيكون سيرهم تحليقاً. وقيل: إنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين. قيل: والحكمة في التيه هو أنهم لما قالوا أنا هاهنا قاعدون عوقبوا بالقعود فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون كلما ساروا يوماً أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه وكان هذا التيه خرق عادة وعجباً من قدرة الله تعالى حيث كانوا عقلاء ولم يهتدوا للخروج من التيه، ومات موسى وهارون عليهما السلام في التيه، فكان التيه عذاباً لبني إسرائيل ورحمة لموسى وهارون وراحة وروحاً ونبأ الله تعالى بعد موتهما يوشع بن نون بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل وأخبرهم بأن الله سبحانه أمرهم بقتال الجبابرة فبايعوه وسار بهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم وصار الشام كله لبني إسرائيل وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين.﴿ فَلاَ تَأْسَ ﴾ أي فلا تحزن يقال: أسى الرجل يأسى أسىً، إذا حزن. والظاهر أنه خطاب لموسى عليه السلام ومعنى على القوم الفاسقين على عذابهم وإهلاكهم.
ما كان حجتهم إلا أن قالوا: والقاعدة النحوية أنه إذا اجتمع قسم وشرط كان الجواب للسابق منهما إذا لم يتقدمهما ذو خبر.﴿ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ ﴾ الآية، المعنى أن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة. ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ﴾ وهو فعل من التطوع وهو الانقياد كأن القتل كان ممتنعاً عليه متعاصياً وأصله طاع له قتل أخيه أي انقاد إليه وسهل ثم عدى بالتضعيف فصار الفاعل مفعولاً والمعنى أن القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس فردته هذه النفس اللجوج الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى أوقعه صاحب هذه النفس. وقرىء فطاوعت يكون فاعل فيه للاشتراك نحو ضاربت زيداً. قال الزمخشري: فيه وجهان، أن يكون مما جاء على فاعل بمعنى فعّل، وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الاقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. " انتهى ". أما الوجه الثاني: فهو موافق لما ذكرناه، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه ضاعفت وضعفت مثل ناعمت ونعمت وقال: فجاؤا به على مثال عاقبته. قال: وقد يجيء فاعلت لا يراد بها عمل اثنين ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت وذكر أمثلة منها عافاه الله وهذا المعنى وهو أن فاعل بمعنى فعّل أغفله بعض المصنفين. من أصحابنا في التصريف كابن عصفور وابن مالك وناهيك بهما جمعاً وإطلاعاً فلم يذكر أن فاعل يجيء بمعنى فعّل ولا فعل بمعنى فاعل وقوله: وله لزيادة الربط يعني في قوله: فطوعت له، يعني أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلام العرب وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام إذ الربط يحصل بدونه كما أنك لو قلت: حفظت مال زيد، كان كلاماً تاماً، فأصبح بمعنى صار.
﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ ﴾ الآية، نزلت في قوم من عكل وعُرينة، وحديثهم مشهور. ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإِثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد في الأرض اتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو فإِن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب القتل.﴿ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره يحاربون أولياء الله والمحاربة مطلقة ففسرها مالك بأن المحارب هو في حمل السلاح على الناس في مصر أو في بريّة فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ولا دخل ولا عداوة، ومذهب أبي حنيفة وجماعة ان المحاربين هم القطاع للطريق خارج المصر وأما في المصر فيلزمه حد ما. اجترح من قتل أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك. وقوله: في الأرض، ظاهرة العموم فيشمل المصر وغيره، كما قال مالك: والسعي في الأرض فساداً، يحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم أي يضيفون فساداً إلى المحاربة، وانتصب فساداً على أنه مفعول أو مصدر في موضع الحال أو مصدر من معنى يسعون على معنى ان يسعون في الأرض معناه يفسدون لما كان السعي للفساد جعل فساداً أي إفساداً. والظاهر في هذه العقوبات الأربع أن الإِمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب التي قدمناها وبه قال جماعة من الصحابة وهو مذهب مالك وجماعة وقال ملك: استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب ولا سيما إن لم يكن ذا شرور معرفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله. وقال ابن عباس وجماعة من التابعين: لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب فمن قتل يقتل ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف ومن أخاف فقط فالنفي ومن جمعها قتل وصلب، والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا. فقال أبو حنيفة ومحمد وغيرهما: يصلب حياً ويطعن حتى يموت. وقال الشافعي وجماعة: يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل. واختلفوا في النفي فقال أبو حنيفة: النفي هو أن يسجن وهو إخراجه من الأرض. قال الشاعر وهو مسجون: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحياقال السدي: هو أن يطلب بالخيل والرجل فيقام عليه حد الله ويخرج من دار الإِسلام. وقال مالك: لا يضطر مسلم إلى الدخول في دار الشرك. ﴿ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ أي ذلك الجزاء من القتل والصلب والقطع والنفي. والخزي الهوان والذل والافتضاح. ﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾ ظاهرة الجمع للمحارب بين عقاب الدنيا وعذاب الآخرة.﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية ظاهرة أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق، فإِذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما ترتب على الحرابة. وهذا ظاهر فعل عليّ رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإِنه كان محارباً ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً. وقالوا: لا نظر للإِمام فيه كما ينظر في سائر المسلمين؛ فإِن طولب بدم نظر فيه وأقيد منه بطلب الولي، وإن طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي يؤخذ ما وجد عنده من مال وغيره ويطالب بقيمة ما استهلك. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطالب بما استهلك ويؤخذ ما وجد عنده بعينه. وظاهر قوله: غفور رحيم، عدم المطالبة بشيء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه.
ويجوز أن يكون ومن الذين هادوا، استئناف كلام فلا يكون معطوفاً على قوله: من الذين قالوا. وسماعون مبتدأ أي قوم سماعون، ومن الذين هادوا خبره. ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ قيل: انهم أهل فدك كانت اليهود تستمع منهم. وقيل: غيرهم.﴿ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ ﴾ أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعة التي وصفها الله فيها. قال ابن عباس والجمهور: هي حدود الله في التوراة وذلك أنهم غيّروا الرجم أي وضعوا الجلد مكان الرجم.﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا ﴾ إشارة إلى ما حرفوه من تبديل الرجم بالتحميم والجلد، أي إن حكم عليكم بهذا فخذوه أي فاقبلوه وإن لم تعطوا ما تحكمون به من التحميم والجلد فاحذروا أي فلا تقبلوا.﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ تأكيد لما قبله. ﴿ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ أي الرشا وهو المال الذي يأخذونه على تبديل أحكام الله تعالى وتحريفها. ﴿ فَإِن جَآءُوكَ ﴾ الآية، يعني للحكم بينهم فخير الله تعالى نبيه بين الحكم بينهم والإِعراض عن الحكم.﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ ﴾ الآية، هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه وفي كتابهم الذين يدعون الإِيمان به حكم الله نص جلي فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاً لأهوائهم وانهماكاً في شهواتهم، ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لم يؤمن به ولا بكتابه فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم فلأن يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى والواو في " وعندهم " للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر وفيها حال من التوراة وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي كائناً فيها حكم الله.﴿ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ قال ابن عطية: أي من بعد كون حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمره تعالى. " انتهى ". وهذه الجملة مستأنفة أي ثم هم يتولون بعد ذلك وهي أخبار من الله تعالى بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه. ﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي من ترك حكم كتابه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منتف عنه الإِيمان حقيقة. وانتصاب كيف على الحال وهو استفهام لا يراد به حقيقته بل التعجب من حالهم كيف علموا حكم الله في كتابهم وحكم الرسول عليه السلام.
وقرىء شاذاً أذلة بالنصب وكذا أعزة نصباً على الحال من النكرة إذ قربت من المعرفة بوصفها.﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي في نصرة دينه. وظاهر هذه الجملة أنها صفة ويجوز أن تكون استئناف أخبار. ﴿ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ﴾ أي هم صلاب في دينه لا يبالون بمن لام فيه فمتى شرعوا في أمر معروف أو نهي عن منكر أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض ولا قول قائل، وهذان الوصفان أعنى الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة لأن من أحب الله لا يخش إلا إياه ومن كان عزيزاً على الكافر جاهد في إخماده واستئصاله وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمجاورته أعزة على الكافرين ولأن الخوف أعظم من الجهاد فكان ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ويحتمل أن تكون الواو في ولا يخافون واو الحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين فإِنهم كانوا موالين لليهود فإِذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله تعالى لا يخافون لومة لائم. ولومة للمرة الواحدة، وهي نكرة في سياق النفي فتعم أي لا يخافون شيئاً قط من اللوم.﴿ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ الظاهر أن ذلك إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف التي تحلّى بها المؤمن ذكر أن ذلك هو فضل الله يؤتيه من أراده ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه بل هو على سبيل الاحسان منه تعالى لمن أراد الإِحسان إليه. وقيل: ذلك إشارة إلى حبّ الله لهم وحبهم له.﴿ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي واسع الإِحسان والافضال عليم بمن يصنع ذلك فيه. ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء بين هنا من هو وليهم وهو الله ورسوله. والولي هنا الناصر والمعنى لأولى لكم إلا الله وقال: وليكم بالافراد ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعدداً، لأن ولياً اسم جنس أو لأن الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل ثم فطم في سلكه من ذكر على سبيل التبع ولو جاء جمعاً لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية.﴿ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ الآية هذه أوصاف ميّز بها المؤمن الخالص الإِيمان من المنافق، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة. قال تعالى:﴿ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ ﴾[النساء: ١٤٢].
وقال: آشحة على الخير، ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية بين مقيم صلاة ومؤتي زكاة في كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله والتذلل له. نزلت الآية متضمنة هذه الأوصاف الجليلة. قال الزمخشري: فإِن قلت: الذين يقيمون ما محله. قلت الرفع على البدل من الذين آمنوا أو على هم الذين يقيمون. " انتهى ". ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن، ولأن المبدل منه في نية الطرح وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المرتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف.﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ الآية يحتمل أن يكون جواب من محذوف لدلالة ما بعده عليه أي يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون الجواب فإِن حزب الله ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي فأنتم هم الغالبون. وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإِضافة إلى الله فيشرفون بذلك وصاروا بذلك أعلاماً. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم. وهم يجوز أن يكون فصلاً، والغالبون خبر ان، ويجوز أن يكون مبتدأ، والغالبون خبره، والجملة في موضع خبر ان.
و ﴿ ذٰلِكَ ﴾ إسم إشارة فعلى تقدير ان الخطاب للكفار يكون ذلك إشارة إلى حال من نقم ويكون من لعنة الله على حذف مضاف أي حال من لعنة الله. وللعرب لغة منقولة وان اسم الإِشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر فيحتمل أن يكون ذلك من هذه اللغة ويحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضاً إلى متشخص وأفرد على معنى الجنس كأنه قال: قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي أو من جنس المؤمن على اختلاف التقديرن اللذين سبقا ويكون أيضاً من لعنة الله تفسير شخص لشخص وانتصب مثوبة على التمييز وجاء على التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على التمييز كقوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً ﴾[النساء: ٨٧]، وتقديم التمييز على المفضل أيضاً فصيح كقوله تعالى:﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[فصلت: ٣٣]، ومن في موضع رفع كأنه قيل: من هو؟ فقيل هو من لعنة الله، أو في موضع جر على البدل من قوله بشر ومن موصولة عاد الضمير عليه على لفظه في قوله: لعنة الله، وفي قوله: عليه، وأعاده على معنى من في قوله: وجعل منهم القردة، ثم عاد على لفظة من في وعبد فأفرد الضمير. قال ابن عباس: هم أصحاب السبت مسخ شبابهم قردة وشيوخهم خنازير. وقرأ جمهور السبعة وعبد الطاغوت. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وعبد ـ بضم الباء ـ الطاغوت بكسر التاء. قال الزمخشري: ومعناه الغلو من العبودية كقولهم: رجل حذر فطن للبليغ في الحذر. وقال ابن عطية: عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مؤد يراد به الجنس ويبني بناء الصفات لأن عبداً في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة. وأنشد هو والزمخشري: ابني ليُبْنَى انّ أمكم أمة وإن أباكم عبد وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلاً فقال: ومنها فعل كنحو: سمر وعبد، وعلى هذه القراءة يكون وعبُدَ معطوفاً على قوله: القردة والخنازير. وعلى قراءة الجمهور يكون معطوفاً على صلة من. وفي البحر الكبير ان في قوله: وعبد الطاغوت، اثنين وعشرين قراءة وتكلمنا على توجيهها فيه منها قراءة الحسن في رواية عبْدَ الطاغوت بإِسكان الباء ونصب التاء. قال ابن عطية: أراد وعبداً منوناً، فحذف التنوين كما حذف في قوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا. " انتهى ". ولا وجه لهذا التخريج لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت بوجه إذ ليس بمصدر ولا إسم فاعل والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من عبد بفتح الباء.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها. ﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ الآية، ضمير الغيبة في جاؤكم لليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو خاصة للمنافقين منهم، قاله ابن عباس وغيره. وضمير الخطاب في جاؤكم يقوي أن الخطاب في قوله: هل أنبئكم للمؤمنين. ونقول ان الجملة الاسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال. أكد من الجملة الفعلية من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيد زيد، ولما كانوا حين جاؤا الرسول والمؤمنين قالوا آمنا ملتبسين بالكفر كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر لأن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية في الإِيمان ألا ترى إلى قول بعضهم حين رآه عليه السلام قال: علمت ان وجهه ليس بوجه كذاب، مع ما يظهر لهم منه في خوارق الآيات وباهر الدلالات فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لا يخرجوا به بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهراً وباطناً فأكد وصفهم بالكفر بأن كرر المسند إليه تنبيهاً على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه وإن رؤية الرسول لم يجد عندهم ولم يتأثروا لها.﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ ﴾ الآية عام في كفرهم ونفاقهم وتغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والعداوة وإن قولهم آمنا خالف ظاهر قولهم باطنهم.﴿ وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ الآية يحتمل ترى أن تكون بصرية فيكون يسارعون صفة بعد صفة وأن تكون عملية فيكون مفعولاً ثانياً. والمسارعة الشروع بسرعة.﴿ ٱلإِثْمِ ﴾ قيل: الكذب. ﴿ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾ الظلم. وليس حقيقة الإِثم الكذب إذ الإِثم هو الحكم المتعلق بصاحب المعصية أو الإِثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. والسحق تقدم الكلام عليه. ﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ ﴾ الآية لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف. وقال العلماء: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء منها. وأنشدوا من شعر ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأخبار سوء ورهبانها
﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً ﴾ ذكر كثيراً لأن منهم من آمن كعبد الله بن سلام. ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ ﴾ الآية، قيل: الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى لأنه جرى ذكرهم في قوله: لا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ولشمول قوله: قل يا أهل الكتاب، للفريقين، وهذا قول الحسن وغيره. وقيل: هو عائد على اليهود إذ فيهم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهه وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ولا يقدرون على حربك ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك لأن الطائفتين لا توادّ بينهما فيجتمعان على حربك وفي ذلك اخبار بالمغيب وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ كان الإِسلام وإلى هذا الوقت.﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ ﴾ الآية قال الجمهور: هي استعارة. وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك وتفرق آرائهم وحل عزائمهم وتفريق كلمتهم وإلقاء الرعب في قلوبهم فهم لا يرون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد.﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً ﴾ الظاهر أنه يراد به العمل والفعل، أي يجتهدون في الكيد للإِسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم، والأرض يجوز أن يراد بها الجنس أو أرض الحجاز فتكون آلْ فيه للعهد.﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ ﴾ قيل المراد أسلافهم ودخل فيها المعاصرون بالمعنى والغرض الاخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم والذي يظهر أنهم معاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإِسلام وذكر شيئين وهما الإِيمان والتقوى، ورتب عليهما شيئين وهما قابل الإِيمان بتكفير السيئات إذ الإِسلام يجب ما قبله، ورتّب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي دخول جنة النعيم وأضاف الجنة إلى النعيم تنبيهاً على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وإن في قوله: ولو أنهم، حرف مصدري ينسبك منه ما بعده مصدر. فقيل: يرتفع على الفاعلية التقدير لو ثبت إيمانهم وتقواهم لكفرنا عنهم. وقيل: هو مبتدأ والخبر محذوف التقدير لو أن إيمانهم وتقواهم موجودان لكفرنا.﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ الآية هذا استدعاء لإِيمانهم وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإِحسان إليهم في الدنيا ولما رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي والذي به النجاة السرمدية والنعيم الذي لا ينقضي. ومعنى إقامة التوراة والإِنجيل إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه فهو كقولهم: أقاموا السوق، أي حركوها وأظهروها وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيئاته وفي قوله: والانجيل، دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب. وظاهر قوله: ﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ العموم في الكتب الإِلهية مثل كتاب أشعياء وكتاب دانيال فإِنها مملوءة من البشارة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن. وظاهر قوله: ﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ انه استعارة عن سبوغ النعم عليهم وتوسعة الرزق، كما يقال: قد عمّه الرزق من فوقه إلى قدمه، ولا فوق ولا تحت. وقال ابن عباس وغيره: لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها، كقوله تعالى:﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الأعراف: ٩٦].
﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾ الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب. والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله وكثير منهم. والاقتصاد: من القصد وهو الاعتدال، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي كانت أولاً جائرة ثم اقتصدت. وقيل: هم مؤمنوا الفريقين كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى واقتصادهم هو الإِيمان بالله تعالى. ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ هذا تنويع في التفصيل فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور ومقتصدة وصف. والجملة الثانية جاء فيها الوصف الجار والمجرور. والخبر الجملة من قوله: ساءياً يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً والوصف ألزم للموصوف من الخبر فأتى بالطائفة الممدوحة بالوصف اللازم وأخبر عنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ثم قد تزول هذه النسبة بالاسلام فيكون التعبير عنهم والإِخبار بأنهم منهم باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإِنهم منهم حقيقة لأنهم كفار فجاء الوصف بالإِلزم ولم يجعل خبراً أو جعل خبر الجملة التي هي " ساء ما يعملون " لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإِخبار بمضمون هذه الجملة واختيار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تتصرف قال: فيه التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسؤا عملهم، ولم يذكر غير هذا الوجه. واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول: ساء الأمر يسوء. وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس، كقوله تعالى: ﴿ سَآءَ ﴾، مثلاً فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون المؤمنين، وغير المتصرفة تحتاج إلى تقدير تمييز أي ساء عملاً ما كانوا يعملون. " انتهى ". فإِذا كانت ساء للتعجب كان وزنها فعل كما تقول: قضُوا لرجل، أي ما أقضاه. وكذلك يكون وزنها فعل إذا كانت من باب نعم وبئس وإذا كانت متصرفة متعدية كان وزنها فعل بفتح العين ويجوز في ما أيضاً أن تكون مصدرية أي ساء عملهم وأن تكون موصولة بمعنى الذي ويكون التقدير ما يعملونه وحذف الضمير العائد على الموصول.﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ ﴾ الآية، هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الانساني وأمر بتبليغ ما أنزل الله إليه وهو عليه السلام قد بلغ ما أنزل إليه فهو أمر بالديمومة. ﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ﴾ تبليغ ما أنزل إليك. وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط إذ صار المعنى وإن لم تفعل لم تفعل فالجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه. وقال الزمخشري: المراد وإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبّب ويعضده قوله عليه السلام: فأوحى الله إلي ان لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك. " انتهى ". وقال ابن عطية: أي ان تركت شيئاً فكأنك قد تركت الكل وصار ما بلغت غير معتدّ به، فمعنى وإن لم تفعل، وإن لم تستوف.﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ قال محمد بن كعب: نزلت بسبب الإِعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله. " انتهى ". وهو غورث بن الحارث وذلك في غزوة ذات الرقاع." وهذه الآية نزلت بالمدينة والرسول مقيم بها سهر ليلة وحرسه سعد وحذيفة. فنام حتى غط فنزلت فأخرج إليهما رأسه من قبة آدم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني "وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ﴾ الآية أي من قضي عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهديه الله أبداً فليس لفظ الكافرين على عمومه لأنه قد وجد كفار وقد هداهم الله.﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ الآية" قال رافع بن حارثة وغيره: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى وأن ذلك حق. قال: بلى ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم. فقالوا: انا نأخذ بما في أيدينا فإِنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك "فنزلت. وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإِنجيل وما أنزل فأغنى عن إعادته ونفي أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدماً صرفاً لفساده وبطنه فنفاه من أصله أو لاحظ فيه صفة محذوفة أي على شيء يعتد به فنتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف. والضمير في تقيموا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقيل: جمع الضمير والمقصود التفصيل أي حتى يقيم أهل التوراة التوراة ويقيم أهل الإِنجيل الإِنجيل ولا يحتاج إلى ذلك أن أريد ما في الكتابين من التوحيد فإِن الشرائع فيه متساوية.﴿ فَلاَ تَأْسَ ﴾ أي لا تحزن عليهم فأقام الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على العلة الموجبة لعدم لتأسف وهي الفسق، أو هو عام فيندرجون فيه.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية تقدم الكلام على نظيرها. وقرأ أبيّ وعثمان وغيرهما والصابئين منصوباً عطفاً على اسم إن وما بعدها. قال الزمخشري: وبها قرأ ابن كثير. " انتهى ". وليس ذلك مشهوراً عن ابن كثير. وقرأ القراء السبعة والصابئون بالرفع ووجه ذلك على وجوه منها مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة انه مرفوع بالابتداء وهو منوي به التأخير ونظيره أن زيداً وعمرو قائم، التقدير أن زيداً قائم وعمرو قائم فحذف خبر عمرو لدلالة خبر ان عليه. والنية بقوله: وعمرو، التأخير ويكون وعمرو قائم بحبره هذا المقدر معطوفاً على الجملة من آل زيداً قائم وكلاهما لا موضع له من الإعراب. الوجه الثاني أنه معطوف على موضع اسم إن لأنه قبل دخول ان كان في موضع رفع فروعي هذا الموضع، وهذا مذهب الكائن والفراء. ودلائل هذه المسألة مقررة في علم النحو.
وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما وعلى تسليم تسميته شرطاً فذكر ان قوله: فريقاً كذبوا ينبوا على الجواب لوجهين، أحدهما: قوله لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين وليس كما ذكر لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد بل المراد به الجنس، ألا قرىء انك إذا قلت: لا أصحبك ما طلع نجم، لا يراد به واحد بل يراد به الجنس وأي نجم طلع، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين فريق كذب وفريق قتل. والوجه الثاني: في قوله: ولأنه لا يحسن أن تقول: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل الجواب عليه وليس كما ذكر بل مذهب البصريين الكسائي أن ذلك جائز حسن ولم يمنعه إلا الفراء وحده وهذا كله على تقدير تسليم أن كلما شرط وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه فتقول: كلما جئتني أخاك أكرمت. وعموم نصوص النحويين على ذلك لأنهم حين حصروا ما يجب تقديم المفعول به على العامل وحصروا ما يجب تأخيره عنه قالوا: وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه ولم يستثنوا هذه الصورة ولا ذكروا فيها خلافاً فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله كذبوا وما عطف عليه ولا يكون محذوفاً. وقال الحوفي وابن عطية: كلما ظرف والعامل فيه كذبوا. وقال أبو البقاء: كذبوا جواب كلما. " انتهى ". وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استنباطاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها، قاله الزمخشري: ويحسن مجيئه كونه رأس آية والمعنى أنهم كذبوا فريقاً فقط وقتلوا فريقاً ولا يقتلونه إلا مع التكذيب فاكتفي بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي اقتصر ناس على تكذيب فريق وزاد ناس على التكذيب القتل.﴿ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ قال ابن الأنباري: نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه بغياً وحسداً.﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ بمجانبة الحق. ﴿ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي عرضهم للتوبة بإِرسال الرسول وإن لم يتوبوا. ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ لأنهم كلهم لم يجمعوا على خلافة. " انتهى ". وقرىء: أن لا تكون بنصب النون بأن. وقرىء برفعها على أنّ أنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الأمر محذوف تقديره أنه لا تكون ولا تكون جملة في موضع خبر أنّ وفي كلتا القراءتين نائب مناب مفعولي حسب فعموا عن النظر في دلائل الحق وصموا عن سماع الآيات الإِلهية ثم تاب الله عليهم ببعثه عيسى عليه وسلم ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فاتبع ناس منهم عيسى ومحمداً عليهما السلام. و ﴿ كَثِيرٌ ﴾ بدل من الضمير في صموا أو في عمو الآن فيهم من آمن بالنبيين المذكورين. ﴿ لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ﴾ الآية تقدِّم تفسير هذه الجملة مستوفى في أول السورة. ﴿ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ ﴾ الآية رد تعالى عليهم مقالتهم بقول من يدّعون الإِلهية فيه وهو عيسى عليه السلام أنه لا فرق بينه وبينهم في أنهم كلهم مربوبون وأمرهم بإِخلاص العبادة له ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية وفي ذلك أعظم دليل عليهم في فساد دعواهم وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يرد عليهم مقالتهم وهذا الذي ذكره تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به وهو قول المسيح: يا معشر بني المعمودية. وفي رواية: يا معشر الشعوب قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم.﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾ الظاهر أنه من كلام المسيح فهو داخل تحت القول وفيه أعظم ردع منه عن عبادته إذ أخبر أنه من عبد غير الله منعه الله دار من أفرده بالعبادة وجعل مأواه النار ان الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: هو من كلام الله تعالى مستأنف أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد.﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ ظاهره أنه من كلام عيسى عليه السلام أخبرهم أنه من تجاوز وضع الشيء غير موضعه فلا ناصر له ولا مساعد فيما افترى وتقول وفي ذلك ردع لهم عما انتحلوه في حقه من دعوى أنه إله وأن ذلك ظلم إذ جعلوا ما هو مستحيل في العقل واجباً وقوعه أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقولهم عليه فلا ناصر لهم.﴿ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ هؤلاء هم الملكانية من النصارى القائلون بالتثليث. وظاهر قوله: ثالث ثلاثة، أحد آلهة ثلاثة. قال المفسرون: أرادوا بذلك أن الله وعيسى وأمه آلهة ثلاثة ويؤكده أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي الهين من دون الله ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله. وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: وجوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وأم وروح قدس، وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس تناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا أن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط اللبن بالماء وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد، وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحداً وإن الواحد لا يكون ثلاثة. ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإِضافة لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة وأجاز النصب أحمد بن يحيى ثعلب وردوه عليه.﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفاً بالوحدانية وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر الهيئة في صفة الوحدانية. وإله رفع على البدل من إله على الموضع. وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ فيجر لأنه لا يجيز زيادة من في الواجب. والتقدير وما إله في الوجود إلا إله واحد أي موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ ﴾ قبل ان قسم محذوف والأكثر مجيء اللام الموطنة لجواب القسم المحذوف كقوله تعالى:﴿ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ﴾[المنافقون: ٨]، وقد تحذف اللام فيكون التقدير لئن لم ينتهوا كما حذف في قوله:﴿ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ ﴾[الأعراف: ٢٣]، وما في قوله: عما يقولون، أي عن قولهم أو موصولة تقديره عن الذي يقولونه وحذف الضمير العائد على ما. و ﴿ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ ﴾ اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله تعالى:﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾[الأحزاب: ٦٠]،﴿ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾[الأحزاب: ٦٠].
ومعنى الذين كفروا أي الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد فأقام الظاهر مقام المضمر إذ كان الربط يحصل بقوله: وليمسنهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ ﴾، الآية والاعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغاً من ثبوتها واستقرارها لهم ومن في فهم للتبعيض أي كائناً منهم والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر بل قد تاب كثير منهم عن النصرانية. ومن أثبت أن منْ تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا.﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ هذا لطف منه سبحانه وتعالى بهم واستدعاء أبى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر والفاء في أخلا للعطف حجزت بين همزة الاستفهام ولا النافية والتقدير فأولاً، وقال ابن عطية: رفق جل وعلا بهم بتحقيقه إياهم على التوبة وطلب المغفرة. " انتهى ". وما ذكره من الحث والتحضيض على التوبة هو من حيث المعنى لا من حيث مدلول اللفظ لأن مدلول أفلا غير مداول الا التي للحض والحث.
كما قيل في أبي بكر رضي الله عنه الصديق. ﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ﴾ هذا تنبيه على سمة الحدوث وتبعيد عن اعتقاد ما اعتقدته النصارى فيهما من الألوهية لأن من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.﴿ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي الاعلام في الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وفي ضمن ذلك الأمر لأمته بالنظر في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه. ﴿ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق لأن الأول أمر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينهما بحيث لا يقع معها لبس، والأمر الثاني هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الشد منه وهذان أمرا تعجيب. ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ثم ينظر في حال من بينت له فترى إعراضهم عن الآيات أعجب في توضيحها لأنه يلزم من تبيينها تبنُها لهم والرجوع إليهما فكونهم أفكوا عنها أعجب.﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ ﴾ الآية لما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله: وهو السميع أي لأقوالكم العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم. وفي الاخبار عنه تعالى بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه وتضمنت الآية الإِنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع أو جلب نفع. قيل ومن مرت عليه مُدَد لا يسمع فيها ولا يعلم لجدير أن لا يعبد كيف وقد تركوا عبادة القادر على الإِطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات.﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ ﴾ ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتناول من جاء بعدهم ولما سبق القول في أباطيل اليهود وثنى بأباطيل النصارى جمع الفريقان في النهر عن الغلو في الدين وانتصب غير الحق على معنى غلواً غير الحق وهو الغلو الباطل. وليس المراد هنا بالدين ما هم عليه بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام. ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى وادعاؤهم فيه أنه لغيه ومن غلو النصارى ما تقدم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة.﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ ﴾ الآية، هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي المتوسط في الدين. وتخصيص ابن عطية والزمخشري عموم أهل الكتاب بالنصارى خروج عن الظاهر وهو العموم من غير داعية إلى ذلك ويؤيد العموم قوله بعد ذلك على لسان داود وعيسى ابن مريم، داود بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى.﴿ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإِنجيل وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن ولعن مبني للمفعول حذف فاعله فيجوز أن يكون الله ويجوز أن يكون الفاعل غيره تعالى كالأنبياء. والأفصح أنه إذا فرق بين الجزأين اختير لفظ الإِفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع فلذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأت على لسانَيْ داود وعيسى ولا على ألسن داود وعيسى فلو كان المتضمنان غير مفترقين اختير لفظ الجمع على التثنية وعلى الإِفراد نحو قوله تعالى:﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾[التحريم: ٤]، والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة أي أن الناطق بلعنهم هو لسان داود وعيسى. ﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا ﴾ أي ذلك اللعن كائن بسبب عصيانهم وذكر هذا على سبيل التوكيد وإلا فقد فهم سبب ولكن بإِسنادها إلى من تعلق بهذا الوصف الدال على العلية وهو الذين كفروا كما تقول: رجم الزاني، فيعلم أن الرجم سببه الزنا، كذلك اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله: ذلك بما عصوا، وما مصدرية في قوله: بما عصوا أي بعصيانهم وكانوا يجوزان يكون معطوفاً على عضواً فيكون داخلاً في صلة ما أي بعصيانهم وكونهم ويجوز أن يكون إخباراً من الله تعالى أن شأنهم الإِعتداد.﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ ﴾ الآية ظاهرة التفاعل بمعنى الاشتراك أي لا ينهي بعضهم بعضاً وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر فإٍِذا فعلت جهاراً وتواطؤاً على عدم الإِنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإِفشائها كثيراً. قرىء ﴿ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ الآية الظاهر عود الضمير في منهم على بني إسرائيل فقال مقاتل كثيراً منهم هم من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا تكون قرى بصرية، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب.﴿ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية، قال الزمخشري في قوله: أن سخط، أنه المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم. " انتهى ". ولا يصح هذا الإِعراب إلا على مذهب الفراء والفارس في ان ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً، وقدمت صفة للتمييز وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف والتقدير ليس الشيء شيء قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا أن سخط في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أن سخط. وقال ابن عطية: وإن سخط في موضع رفع بدل من ما. " انتهى ". ولا يصح هذا سواء كانت ما موصولة أم تامة لأن البدل يحل محل المبدل منه وإن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس لأن فاعل بئس ونعم لا يكون أن والفعل. وقيل: ان سخط في موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدمت أي قدمته، كما تقول: الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً، وقيل: على إسقاط اللام أي لأن سخط.﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ ﴾ الآية إن كان المراد بقوله: ترى كثيرا منهم، أسلافهم فالنبي داود وعيسى عليهما السلام أو معاصري الرسول فالنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم والذين كفروا عبدة الأوثان والمعنى لو كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً غير نفاق إذ موالاة الكفار دليل على النفاق. والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثير منهم وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا. وقال القفال وجهاً آخر وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذوهم هؤلاء اليهود أولياء والوجه الأول أولى لأن الحديث إنما هو عن قوله: كثيراً منهم، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافهما وجاء جواب لو حنفياً بما بغير لام وهو الأفصح ودخول اللام عليه قليل، نحو قول الشاعر: لو أن بالعلم تقضي ما تعيش به لما ظفرت من الدنيا بتفروق﴿ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ خص الكثير بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن والمخبر عنهم أولاً هؤلاء الكثير والضمائر بعده له، وليس المعنى ولكن كثيراً من ذلك الكثير ولكنه لما طال أعيد بلفظه وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير إذ كان السياق يكون ما اتخذوهم أولياء ولكنهم فاسقون فوضع الظاهر موضع هذا الضمير.
﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ الآية هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإِيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق. والظاهر أن قولهم: ذلك هو لأنفسهم، على سبيل المكالمة معها لدفع الوسواس والهواجس إذ فراق طريق وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يشق ويصعب، وما استفهامية مبتدأ، ولنا في موضع الخبر التقدير أي شيء كائن لنا، ولا نؤمن جملة حالية التقدير غير مؤمنين، والعامل فيها هو العامل في الجار المجرور.﴿ وَنَطْمَعُ ﴾ الظاهر أنه استئناف إخبار منهم ويجوز أن يكون في موضع الحال عطفاً على قوله: لا نؤمن: فيكون في حيّز النفي لما قالوا: إشارة إلى قوله: يقولون ربنا آمنا، إلى آخر كلامهم. وتقدم فيما عرفوا من الحق فاجتمع القول والمعرفة فكان ذلك إيماناً محضاً. قال الزمخشري: والواو في ونطمع واو الحال، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاماً. " انتهى ". ما ذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقتضي العامل حالين لذي حال واحد إلا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل فالأصح أنه يجوز فيه ذلك وذو الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع المثبت ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل فتحتاج أن تقدر ونحن نطمع. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ونطمع حالاً من لا نؤمن على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين. " انتهى ". وهذا أيضاً ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل. وقال الزمخشري: وأن يكون معطوفاً على لا نؤمن على معنى وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإِسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين. " انتهى ". ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفاً على نؤمن على معنى أنه منفي كنفي نؤمن التقدير وما لنا لا نؤمن ولا نطمع، فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين الإِيمان والطمع في الدخول مع الصالحين. " انتهى ". و ﴿ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ يجوز أن يكون ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر كأنه قال جزاؤهم ونبه على الصفة الجليلة التي هي أعظم مراتب العبادة التي" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإِحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه "ويجوز أن يكون المحسنين عاماً واندرج هؤلاء فيهم. ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ ﴾ الآية اندرج فيهم اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر تعالى ما للمؤمنين ذكر ما أعد للكافرين.
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ الآية ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية فاما الدنيوية فإِن الخمر تُثير الشرور والحقود وتؤول بشرابها إلى التقاطع، وأما الميسر فإِن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سلبياً لها شيء له وينتهي من سوء الصنيع في ذلك إلى أن يقامر حتى على أهله وولده فيؤدي به ذلك الحال إلى أن يصير أعدى عدو ولمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهر والغلبة، وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذّّ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة والميسر إن كان غالباً به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عن ذكر الله تعالى وإن كان مغلوباً فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال إلى أن يصير غالباً لا يخطر بقلبه ذكر الله تعالى فأفرد الخمر والميسر هنا وإن كان قد جمعا مع الأنصاب والأزلام. قيل: لأن الخطاب كان للمؤمنين وإنما ذكر معهما الأنصاب والأزلام تأكيداً لقبح الخمر والميسر وتبعيداً عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصاب والأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة وعطف عليها ما هو أشد منها وهو البغضاء لأن متعلقها القلب، كذلك ذكر الله عطف عليه ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر وعن الصلاة أقوى دليل على تحريمها وعلى أن ينتهي المسلم عنها، ولذلك جاء بعد:﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل قد تلى عليكم ما فيها من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد وجعل الجملة إسمية، والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعلية. وقيل: هو استفهام تضمن معنى الأمر أي فانتهوا، ولذلك قال عمر: انتهينا يا رب.﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ ﴾ هذا أمر والأحسن أن لا يقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا طائعين دائماً حذرين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات. ﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي فإِن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام الله وليس عليه خلق الطاعة فيكم ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم، وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إذ تضمن أنّ عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول. ووصف البلاغ بالمبين اما لأنه بين في نفسه واضح. وإما لأنه مبين لكم أحكام الله.
﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ قيل: في الآخرة. وقيل: في الدنيا. قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلداً ويسلب ثيابه. ﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ جملة حالية. وحرم جمع حرام، والحرام ينطلق على من كان محرماً وعلى من حل الحرم.﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم ﴾ الآية الظاهر تقييد القتل بالعمد فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسياً لإِحرامه أو رماه ظاناً أنه ليس بصيد فإِذا هو صيد أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيداً فلا جزاء عليه، وروى ذلك عن أبي عباس وابن جبير وطاووس وعطاء وسالم، وبه قال أبو ثور وداود والطبري، وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد وغيرهم. ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابه أن الخطأ بنسيان أو غيره، كالعمد والعمد أن يكون ذاكراً لإِحرامه قاصداً للقتل، وروي ذلك عن عمر وابن عباس. وقرأ الكوفيون فجزاء بالتنوين مثل بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فالواجب عليه أو اللازم له جزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل. وقرأ باقي السبعة فجزاء مثل برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فقيل: مثل كأنها مفخمة. كما تقول: مثلك يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل. وقيل: ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول وكان الأصل فعليه جزاء مثل ما قتل أي يغرم مثل ما قتل ثم أضيف إلى المفعول، ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي فجزاء بالرفع والتنوين مثل ما قتل بالنصب. ومن النعم صفة لجزاء سواء أرفع جزاء مثل أو أضيف جزاء إلى مثل أي كائن من النعم. ويجوز في وجه الإِضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في الوجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل. ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالاً من الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك لأن الذي هو من النعم هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد. والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقة والعظم والصغر وهو قول الجمهور وظاهر قوله: من النعم أنه لا يشترط سن فتجزىء الجفرة والعناق على قدر الصيد وبه قال ابو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية.﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ﴾ الآية أن يحكم به بمثل ما قتل. قال ابن وهب: من السنة أن يخيّر الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله تعالى في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة. وانتصب هدياً على الحال من الضمير في قوله: به، ومعنى بالغ الكعبة وأصلاً إِليها أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً فإِن اختار الهدى حكماً عليه بما يريانه نظيراً لما أصاب وأدنى الهدى شاة وما لم يبلغ شاة حكماً فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوماً وكذلك قال مالك. والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكم في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر رضي الله عنهما. والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم في امرأتان عدلتان.﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾ قرأ الصاحبان بالإِضافة. وزعم الزمخشري أن هذه الإِضافة مبنيّة، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مسكين، كقوله: خاتم فضة بمعنى خاتم من فضة. وليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه، والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيد جداً. وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع طعام، وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس، قال أبو علي: طعام عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة." انتهى ". وهذا لا يجوز على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في عطف البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلاً وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين. والظاهر أنه يكفي ما يسمى طعاماً وأنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين. وجوزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول، وفي الظبي ثلاثة أيام، وفي الإِبل عشرون يوماً، وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوماً، قاله ابن عباس. وقال ابن جبير: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام. والظاهر عدم تقييد الإِطعام والصوم بمكان، وبه قال جماعة من العلماء فحيثما شاء كفر بهما. وقال عطاء وغيره: الهدي والإِطعام بمكة والصوم حيث شاء.﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ الذوق معروف، فاستعير هنا لما يؤثر من غرامة أو أتعاب النفس بالصوم. والوبال: سوء عاقبة ما فعل، وهو هتكه حرمة الإِحرام بقتل الصيد. قال الزمخشري: ليذوق متعلق بقوله: فجزاء، أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق. " انتهى ". وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف فجزاء أو نون ونصب مثل وأما على قراءة من نوّن ورفع مثل فلا يجوز أن تتعلق اللام به، لأن مثل صفة لجزاء، وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة، لو قلت: أعجبني ضرب زيد الشديد عمراً، لم يجز، فإِن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك، والصواب أن يتعلق على هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق.﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف ﴾ أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم. قال الزمخشري: لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً. " انتهى ". وقال ابن زيد: عفا الله عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم. ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ قال ابن عباس: ان عاد متعمداً عالماً بإِحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه. ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ﴾ الآية، قال الكلبي: نزلت في بين مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نَضَبَ عنه الماء من السمك. فنزلت. قال الزمخشري: صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده. ومعنى أحل لكم: الانتفاع بجميع ما يصاد من البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه. " انتهى ". وتفسير وطعامه بقوله: وأن تطعموه، خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير في وطعامه عائداً على صيد البحر، والظاهر عوده على البحر فإِنه يراد به المطعوم لا الإِطعام، ويدل على ذلك ظاهر لفظ وطعامه. وقراءة ابن عباس وطعمه بضم الطاء وسكون العين تدل على أنه لا يراد به المصدر، وقد فسر قوله: وطعامه، بما يرمي به البحر ولم يصد. وفي الأثر: كلوا السمكة الطافية وهي الميتة التي طفت على وجه الماء، وقد أكل جماعة من الصحابة في سفر لهم من دابة عظيمة تسمى العنبر حسر عنها البحر، والحديث في ذلك مشهور. وانتصب متاعاً قال ابن عطية: على المصدر، والمعنى متعكم به متاعاً تنتفعون به وتأتدمون. وقال الزمخشري: متاعاً لكم مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله: ووهبنا له اسحاق ويعقوب. نافلة في باب الحال لأن قوله: متاعاً لكم، مفعول له مختص بالطعام كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً تأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيرة إلى الخضر. " انتهى ". وتخصيصه المفعول له بقوله: وطعامه، جار على مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل. وان قوله: وطعامه، هو المأكول منه، وانه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طرياً وقديداً. وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولاً له باعتبار صيد البحر وطعامه، والخطاب في لكم لحاضري البحر ومدته.﴿ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ أي المسافرين. ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ ﴾ الآية كرر تعالى تحريم الصيد على المحرم تغليظاً لحكمه. والظاهر تحريم صيد البر على المحرم من جميع الجهات صيد وأكل صيد ذلك من أجله أو من أجل غيره روي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين. وعن أبي هريرة وبعض التابعين أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذ لم يدل عليه ولم يشد. وروي عن عمر وعثمان والزبير أنه يأكل المحرم ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله. وقال آخرون: يحرم على المحرم أن يصيد فأما ان اشتراه من مالك فذبحه وأكله فلا يحرم، وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أكل المحرم الصيد جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيد، ولا دل عليه. وقال مالك والشافعي وأحمد: يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإِن صيد من أجله فلا يأكل فإِن أكل، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح: عليه الجزاء. وقال الشافعي: لا جزاء عليه. وقال الزمخشري: فإِن قلت: ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله: صيد البر؟ قلت: قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً، لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم لأنهم هم المخاطبون، فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر، فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾.
" انتهى ". وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر من قوله: صيد البر، العموم سواء صاده محرم أم حلال: وقرىء وحرّم مبنياً للفاعل صيد بالنصب وحرم بفتح الحاء والراء.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ هذا فيه تنبيه وتهديد جاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر إذ فيه يظهر جزاء من أطاع وعصى.
﴿ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا ﴾ أي بتلك السؤالات كافرين.
وأخرى تأنيث آخر. وقال زهير بن أبي سلمى: كانوا فريقين يصفون الزجاج على قعسي الكواهل في أكتافهم شمم وآخرين ترى الماذى عدتهم من نسح داود أو ما أورثت ارم. قوله: يصغون أي يميلون. والزجاج عني به الأسنة. وقعس جَمع أقعس وهو الأحدب. والشمم: الارتفاع. والماذي: الدروع اللينة الصافية وارم: أمة قديمة. التقدير كانوا فريقين فريقاً أو ناساً يصغون الزجاج ثم قال: وآخرين ترى الماذي، فآخرين من جنس قولك: فريقاً، ولم يعتبره. بوصفه وهو قوله: يصغون الزجاج، لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين في الجنس وهذا الفرق قلّ من يفهمه فضلاً عمّن يعرفه. والظاهر أن أو للتخيير، وقال به ابن عباس. فمن جعل قوله: من غيركم أي من غير عشيرتكم كان مخيراً بين أيستشهد أقاربه أو الأجانب من المسلمين. ومن زعم أن قوله: من غيركم، أي من الكفار. فاختلفوا فقيل: غيركم يعني به أهل الكتاب، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل: أهل الكتاب والمشركون وهو ظاهر قوله: من غيركم. وقيل: أو للترتيب إذا كان قوله: من غيركم، يعني به من غير أهل ملتكم فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم.﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الآية هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ إذا حضر أحدكم الموت لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت. وإنما جاء الالتفات جمعاً لأن قوله: أحدكم معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعاشكم، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت.﴿ تَحْبِسُونَهُمَا ﴾ قال الفارسي والحوقي وأبو البقاء: صنفه لآخران. واعترض بين الموصوف والصفة بالشرط وما عطف عليه وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه واستغنى عن جواب إن لما تقدّم من قوله: أو آخران من غيركم. " انتهى ". وقال الزمخشري: فإِن قلت ما موضع تحسبونهما؟ قلت: هو استئناف كلام كأنه قيل: بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فيهما. فقيل: تحسبونهما " انتهى ". وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته وإنما غيركم معناه أو عدلان آخران من غير القرابة والخطاب في ذلك لمن يلي ذلك من ولاة المسلمين وضمير المفعول عائد في قوله على آخرين من غير المؤمنين، والظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء أكانا وصيّين أم شاهدين. وظاهر قوله: من الصلاة أن الألف واللام ليسا للجنس أي من بعد صلاة. وقد قيل بهذا الظاهر وقيل: هي صلاة العصر، ورجح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف تميماً وعدياً بعدها عند المنبر.﴿ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ ﴾ الآية الظاهر تقييد حلفهما بوُجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف. ﴿ لاَ نَشْتَرِي ﴾ جواب القسم والضمير في به عائد على القسم بالله. و ﴿ ثَمَناً ﴾ على حذف مضاف تقديره مالاً ذا ثمن وفي كان ضمير يعود على من يقسم لأجله قريباً منا من حيث المعنى. ﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾ فيكون من جملة المقسم عليه، وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإِقامتها الناهي عن كتمانها. وقرأ الأعمش وابن محيصن لملائمين بإِدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام وإذا هاهنا تؤدي معنى الشرط والمعنى وإنا إن اشترينا أو كتمنا لمن الآثمين.
وثم محذوف تقديره ووضعتما أيديكما على جميع ما خلفه الميت ثم أديا ذلك للورثة فإِن ارتيب فيهما حلفا اليمين المذكور بعد الصلاة فإِن اطلع على خيانة منهما في شيء معيّن حلف الآخران على استحقاق ذلك وأخذاه وذكر في البحر تقادير من الإِعراب تطالع فيه. ﴿ ذٰلِكَ ﴾ الإِشارة إلى الحكم السابق. ولما كان الشاهدان لهما حالتان حالة يرتاب فيها إذا شهدا فإِذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف فإِذ ذاك لا يلتفت إلى إيمانكم وترد على شهود آخرين فيعمل بإِيمانهم، فقوبلت كل حالة بما يناسبها وكان العطف بأولانها لأخذ الشيئين والإِشارة بالفاسقين إلى من حرف الشهادة.﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ ﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية ذكر بهذا اليوم المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرف الشهادة ومن لم يتق الله تعالى. وقوله: ﴿ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ سؤال توبيخ لأمهم لتقوم الحجة عليهم وانتصاب ماذا بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أيّ إجابة أجبتم. كما تقول: ماذا يقوم زيد، تريد أي قيام يقوم.﴿ قَالُواْ ﴾ هو الناصب لقوله: يوم يجمع، والسؤال عن الإِجابة متضمن المجاب به. ونفيهم العلم عنهم بقوله: ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾ قال ابن عباس: معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا. وقرىء علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى، فيتم الكلام بالمقدر في قوله: إنك أنت، أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره. قال الزمخشري: ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص أو على النداء وهو صفة لإِسم إنّ. " انتهى ". وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وإنما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذ للكسائي.﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ إذ بدل من قوله: يوم يجمع. ﴿ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ وصف عيسى بقوله: ابن مريم. واحتمل عيسى أن يكون مضموماً ومفتوحاً في التقدير كما كانتا ظاهرتين في قولك: يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عدده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمته عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمة براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن، وما ذكر في سورة التحريم ومريم ابنة عمران إلى آخر السورة وغير ذلك. وأمر يذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه. و ﴿ أَيَّدتُّكَ ﴾ معناه قويتك، مشتقاً من الأيد وأيد وزنه فعل مضارعه يؤيد. قال الزمخشري: يكون على أفعَلتك. وقال ابن عطية: على وزن فاعلتك، ويظهر أن الأصل في القراءتين أأيدتك على وزن أفعلتك. ثم اختلف الاعلال والمعنى فيهما قويتك من الأيد. " انتهى ". ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن. وأما من قرأ أآيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإِن كان يؤايد فهو فاعل، وإن كان يؤيد فهو أفعل وأما قول ابن عطية في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك، ثم اختلف الإِعلال فلا أفهم ما أراد بذلك.﴿ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإِعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول: جاء هنا كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون طائراً. قال مكي: هو في آل عمران عائد على الطائر، وفي المادة عائد على الهيئة، قال: ويصح عكس هذا. وقال غيره: الضمير المذكر عائد على الطين، قال ابن عطية: ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة، لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطين على هيئته لا نفخ فيه ألبتة وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به. وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى. وقال الزمخشري: ولا يرجع يعني الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في فتكون." انتهى ". والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عند بل يكون قوله: عائد على الطائر، لا يريد به الطائر المضاف إليه لهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين طائراً صورته مثل صورة الطائر الحقيقي فتفنخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإِذن الله ويكون قوله: عائد على الهيئة، لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها، ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير فتنفخ فيها أي في الهيئة الموصوف بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى.﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ ﴾ أي تحيي الموتى. فعبّر بالإِخراج عن الإِحياء كقوله تعالى:﴿ كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ ﴾[ق: ١١]، بعد قوله:﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾[ق: ١١]، أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء. ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ ﴾ أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه. ﴿ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى عليه السلام دون أمّه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمة فخص بالذكر أعظم النعمتين ولأن جميع ما وصف به عيسى هو فخر لأمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم. وقال الشاعر: شهد العوالم أنها لنجيبة بدليل ما ولدت من النجباء.﴿ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ قرىء ساحر بالألف هنا وفي هود، والصق، فهذا إشارة إلى عيسى. وقرىء سحر فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات. ويجوز أن يكون قوله: هذا، إشارة إلى عيسى. ويكون قوله: سحر، أي ذو سحر فيكون على حذف مضاف أو جعلوا عيسى سحراً على سبيل المبالغة.
ثم ثالثاً بقوله: ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ علق مستحيلاً على مستحيل وهو نفيه علمه تعالى بذلك القول فانتفى ذلك القول. ثم رابعاً بإِحاطة علمه تعالى بما في نفس عيسى عليه السلام بقوله: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾.
وقوله: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ من باب المقابلة، ولا يقال أن لله نفساً وإن كان قد جاء قوله تعالى:﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾[آل عمران: ٢٨] قالوا: معناه: عقابه. ونظيره في المقابلة قوله تعالى:﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ٥٤].
وتظافرت الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل، وقال تعالى:﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾[النساء: ١٥٩]، به أي بعيسى قبل موته أي الموتة الحقيقية.﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ الآية قال أهل السنة: مقصود عيسى عليه السلام تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله: فإِنك أنت العزيز الحكيم، أي قادر على كل ما تريد حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض عليك. ﴿ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ قرأ الجمهور: هذا يوم، بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية يقال: وهو في موضع المفعول به لقال. وقرأ نافع: هذا يوم بفتح الميم فخرجه الكوفيون على أنه مبني خبراً لهذا ويبنى لإِضافته إلى الجملة الفعلية المصدرة بالمضارع فتتحد القراءتان والبصريون لا يجيزون بناء الظرف إلا إذا كانت الجملة مصدرة بالفعل الماضي نحو: عجبت من يوم قدم زيد، وهذه المسألة ذكرت في علم النحو.﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ هذا كأنه جواب سائل سأل ما لهم جزاء على الصدق فقيل: لهم جنات. ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ إشارة إلى تأييد الديمومة في الجنة.﴿ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأييد وإلى رضوان الله عنهم، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله تعالى. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يطلع الله على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا. فيقول الله عز وجل: ولكم عندي أفضل من ذلك. فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول الله عز وجل: عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها أبداً "وقال أبو عبد الله الرازي: مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فيشرع العبد في العبودية وينتهي إلى الفناء المحصن عن نفسه بالكلية، فالأول هو الشريعة وهو البداية، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية، فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء الله وجلاله وقهره وعزته وعلوه وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتم. " انتهى ". وليست الحقيقة والشريعة والتمييز بينهما من ألفاظ الصحابة والتابعين وإنما ذلك من ألفاظ الصوفية ولهم في ذلك كلام طويل.