فيها أربع وثلاثون آية
ﰡ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَالَ عَلْقَمَةُ : إذَا سَمِعْت :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَإِذَا سَمِعْت :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ ؛ وَهَذَا رُبَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – [ كَانَ ] لَمَّا رَجَعَ من الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيٍّ : يَا عَلِيُّ، أَشَعَرْت أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ.
قَالَ [ الْإِمَامُ ] الْقَاضِي : هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ، أَمَّا أَنَّا نَقُولُ : سُورَةُ الْمَائِدَةِ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ فَلَا نُؤْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ : فِي الْمَائِدَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ فَرِيضَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ : فِيهَا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فِي سِتَّةَ عَشَرَ مَوْضِعًا ؛ فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ : إنَّ فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ فَرِيضَةً فَرُبَّمَا كَانَ أَلْفُ فَرِيضَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا نَحْنُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ لِلْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ شَاهَدْت الْمَائِدَةَ بِطُورِ زَيْتَا مِرَارًا، وَأَكَلْت عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَذَكَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيهَا سِرًّا وَجِهَارًا، وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا أَسْفَلَ من الْقَامَةِ بِنَحْوِ الشِّبْرِ، وَكَانَ لَهَا دَرَجَتَانِ قَلْبِيًّا وَجَوْفِيًّا، وَكَانَتْ صَخْرَةً صَلْدَاءَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ : مُسِخَتْ صَخْرَةً إذْ مُسِخَ أَرْبَابُهَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صَخْرَةٌ قُطِعَتْ من الْأَرْضِ مَحَلًّا لِلْمَائِدَةِ النَّازِلَةِ من السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا حَوْلَهَا حِجَارَةٌ مِثْلُهَا، وَكَانَ مَا حَوْلَهَا مَحْفُوفًا بِقُصُورٍ، وَقَدْ نُحِتَ فِي ذَلِكَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ بُيُوتٌ، أَبْوَابُهَا مِنْهَا، وَمَجَالِسُهَا مِنْهَا مَقْطُوعَةٌ فِيهَا، وَحَنَايَاهَا فِي جَوَانِبِهَا، وَبُيُوتُ خِدْمَتِهَا قَدْ صُوِّرَتْ من الْحَجَرِ، كَمَا تُصَوَّرُ من الطِّينِ وَالْخَشَبِ، فَإِذَا دَخَلْت فِي قَصْرٍ من قُصُورِهَا وَرَدَدْت الْبَابَ وَجَعَلْت من وَرَائِهِ صَخْرَةً كَثُمْنِ دِرْهَمٍ لَمْ يَفْتَحْهُ أَهْلُ الْأَرْضِ لِلُصُوقِهِ بِالْأَرْضِ ؛ فَإِذَا هَبَّتْ الرِّيحُ وَحَثَتْ تَحْتَهُ التُّرَابَ لَمْ يُفْتَحْ [ إلَّا ] بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ تَحْتَهُ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، حَتَّى يَسِيلَ بِالتُّرَابِ وَيَنْفَرِجَ مُنْعَرَجُ الْبَابِ، وَقَدْ مَاتَ بِهَا قَوْمٌ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ كُنْت أَخْلُو فِيهَا كَثِيرًا لِلدَّرْسِ، وَلَكِنِّي كُنْت فِي كُلِّ حِينٍ أَكْنُسُ حَوْلَ الْبَابِ مَخَافَةً مِمَّا جَرَى لِغَيْرِي فِيهَا، وَقَدْ شَرَحْت أَمْرَهَا فِي كِتَابِ " تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ " بِأَكْثَرَ من هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ أَوْفُوا ﴾ :
يُقَالُ : وَفَى وَأَوْفَى. قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : وَاللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ من اللَّهِ ﴾. وَقَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ :
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ | كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا |
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :﴿ مَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْعُقُودُ : وَاحِدُهَا عَقْدٌ، وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : الْعُقُودُ : الْعُهُودُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالثَّوْرِيِّ.
الثَّالِثُ : الَّذِي عَقَدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَعَقَدْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
الرَّابِعُ : عَقْدُ النِّكَاحِ وَالشَّرِكَةِ وَالْيَمِينِ وَالْعَهْدِ وَالْحِلْفِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
الْخَامِسُ : الْفَرَائِضُ ؛ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الطَّبَرِيُّ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَنْقِيحٍ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ ( ع ه د ) فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ، وَأَصْلَ الْعَقْدِ الرَّبْطُ وَالْوَثِيقَةُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ من قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ :" الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ ".
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : عَهِدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ : عَرَفْنَاهُ، وَعَقَدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ : رَبَطْنَاهُ بِالْقَوْلِ كَرَبْطِ الْحَبْلِ بِالْحَبْلِ ؛ قَالَ الشَّاعِرُ :
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمْ | شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا |
وَأَمَّا مَنْ خَصَّ حِلْفَ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا قُوَّةَ لَهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ إذَا لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ من عَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ فَالْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْنِي من النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَسَقَطَ الْمِيرَاثُ خَاصَّةً بِآيَةِ الْفَرَائِضِ وَآيَةِ الْأَنْفَالِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – :( الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ).
وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَقْدُ الْبَيْعِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَأَسْقَطَ غَيْرَهَا وَعُقُودَ اللَّهِ وَالنُّذُورَ ؛ وَهَذَا تَقْصِيرٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْكِسَائِيّ : الْفَرَائِضُ، فَهُوَ أَخُو قَوْلِ الزَّجَّاجِ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ أَوْعَبُ ؛ إذْ دَخَلَ فِيهِ الْفَرْضُ الْمُبْتَدَأُ وَالْفَرْضُ الْمُلْتَزَمُ وَالنَّدْبُ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ قَوْلُ الْكِسَائِيّ ذَلِكَ كُلَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَرَبْطُ الْعَقْدِ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اللَّهِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَعَ الْآدَمِيِّ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ ؛ فَمَنْ قَالَ :" لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ " فَقَدْ عَقَدَهُ بِقَوْلِهِ مَعَ رَبِّهِ ؛ وَمَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَنَوَى وَكَبَّرَ فَقَدْ عَقَدَهَا لِرَبِّهِ بِالْفِعْلِ، فَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ ابْتِدَاءُ الصَّوْمِ، وَيَلْزَمُ هَذَا تَمَامُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ عَقَدَهَا مَعَ رَبِّهِ، وَالْتَزَمَ. وَالْعَقْدُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ. وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ :﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾. كَذَلِكَ قَالَ :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾. وَمَا قَالَ الْقَائِلُ : عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِيَفْعَلَ، فَإِذَا فَعَلَ كَانَ أَقْوَى من الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ عَقْدٌ وَهَذَا نَقْدٌ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى الشَّافِعِيِّ تَمْهِيدًا بَلِيغًا، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : هَدْمِي هَدْمُك، وَدَمِي دَمُك، وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى النُّصْرَةِ فِي الْبَاطِلِ.
قُلْنَا : كَذَبْتُمْ ؛ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَه حَقًّا، وَفِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ حَقًّا مَا هُوَ حَقٌّ كَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَحَمْلِ الْكَلِّ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. وَفِيهِ أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ فَرَفَعَ الْإِسْلَامُ من ذَلِكَ الْبَاطِلَ بِالْبَيَانِ، وَأَوْثَقَ عُرَى الْجَائِزِ، وأَلْحَقَ مِنْهُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِإِتْيَانِهِمْ نَصِيبَهُمْ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ من النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :﴿ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ﴾.
مَعْنَاهُ إنَّمَا تَظْهَرُ حَقِيقَةُ إيمَانِهِمْ عِنْدَ الْوَفَاءِ بِشُرُوطِهِمْ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّه
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :﴿ شَعَائِرَ ﴾ :
وَزْنُهَا فَعَائِلُ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ ؛ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْهَدْيُ. الثَّانِي : أَنَّهُ كُلُّ مُتَعَبَّدٍ ؛ مِنْهَا الْحَرَامُ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ، وَمِنْهَا اجْتِنَابُ سَخَطِ اللَّهِ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ. وَمِنْهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ عُلَمَاءُ النَّحْوِيِّينَ : هُوَ من أَشْعَرَ : أَيْ : أَعْلَمَ ؛ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِأَنْ يَكُونَ من فَعَلَ لَا من أَفْعَلَ، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ كَمَصْدَرِ جَرَى عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ. وَالصَّحِيحُ من الْأَقْوَالِ هُوَ الثَّانِي، وَأَفْسَدُهَا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْهَدْيُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ فَلَا مَعْنَى لِإِبْهَامِهِ وَالتَّصْرِيحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ :
قَدْ بَيَّنَّا فِي كُلِّ مُصَنَّفٍ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَأْتِي لِلْعَهْدِ وَتَأْتِي لِلْجِنْسِ ؛ فَهَذِهِ لَامُ الْجِنْسِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَأْتِي بَيَانُهَا مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا الْهَدْيَ ﴾ وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ يُهْدَى إلَى اللَّهِ فِي بَيْتِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ عُمُومُهُ فِي كُلِّ مُهْدًى، كَانَ حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا. وَحَقِيقَةُ الْهَدْيِ كُلُّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ عِوَضٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى إلَى الْجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً }، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ :﴿ فَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَدَنَةً، وَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَيْضَةً ﴾. وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : ثَوْبِي هَدْيٌ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِثَمَنِهِ إلَى مَكَّةَ فِي اخْتِلَافٍ يَأْتِي بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَهِيَ كُلُّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، من نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهِيَ سُنَّةٌ إبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ فِي الْحَجِّ. وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :﴿ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾ : يَعْنِي قَاصِدِينَ لَهُ، من قَوْلِهِمْ : أَمَمْت كَذَا، أَيْ قَصَدْته، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَهُ بِاسْمِ الْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ من أَهْلِهَا، كَالْكَافِرِ، وَهَذَا قَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ غَيْرُ نَسْخٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ قَدْ بَقِيَتْ الْحُرْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ﴾ : وَكَانَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ﴾ ثُمَّ أَبَاحَهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ، وَهُوَ زِيَادَةُ بَيَانٍ ؛ لِأَنَّ رَبْطَهُ التَّحْرِيمَ بِالْإِحْرَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا زَالَ الْإِحْرَامُ زَالَ التَّحْرِيمُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى التَّحْرِيمُ لِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْإِحْرَامِ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْعِلَّةِ بِمَا صَرَّحَ بِهِ من الْإِبَاحَةِ ؛ فَكَانَ نَصًّا فِي مَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَقْدِيمِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ ".
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾ عَلَى الْعُدْوَانِ عَلَى آخَرِينَ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْحَكَمِ رَجُلٍ من رَبِيعَةَ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : بِمَ تَأْمُرُنَا ؟ فَسَمِعَ مِنْهُ. وَقَالَ : أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي فَأُخْبِرُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَقَدْ جَاءَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَرَجَعَ بِقَفَا غَادِرٍ. وَرَجَعَ فَأَغَارَ عَلَى سَرْحٍ من سُرُوحِ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ بِهِ، وَقَدِمَ بِتِجَارَةٍ أَيَّامَ الْحَجِّ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَأَرَادَ نَاسٌ من أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ [ الْآيَةُ ] أَيْ لَا تَعْتَدُوا [ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] بِقَطْعِ سُبُلِ الْحَجِّ، وَكُونُوا مِمَّنْ يُعِينُ فِي التَّقْوَى، لَا فِي التَّعَدِّي، وَهَذَا من مَعْنَى الْآيَةِ مَنْسُوخٌ، وَظَاهِرُ عُمُومِهَا بَاقٍ فِي كُلِّ حَالٍ، وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْمِلَهُ بُغْضُ آخَرَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ ظَالِمًا، فَالْعِقَابُ مَعْلُومٌ عَلَى قَدْرِ الظُّلْمِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾. وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ.
فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أما قوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ :﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ الْمُنْخَنِقَةُ ﴾ : فَهِيَ الَّتِي تُخْنَقُ بِحَبْلٍ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَوْقُوذَةُ : الَّتِي تُقْتَلُ ضَرْبًا بِالْخَشَبِ أَوْ بِالْحَجَرِ، وَمِنْهُ الْمَقْتُولَةُ بِقَوْسِ الْبُنْدُقِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمُتَرَدِّيَةُ : وَهِيَ السَّاقِطَةُ من جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ. وَأَمَّا الْمُتَنَدِّيَةُ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَيُقَالُ : نَدَّتْ الدَّابَّةُ إذَا انْفَلَتَتْ من وَثَاقٍ فَنَدَّتْ فَخَرَجَ وَرَاءَهَا فَرُمِيَتْ بِرُمْحٍ أَوْ سَيْفٍ فَمَاتَتْ، فَهَلْ يَكُونُ رَمْيُهَا ذَكَاةً أَمْ لَا ؟ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ ذَكَاةً فِيهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَبِيبٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُذَكَّى بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ﴿ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَصَلَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَأَهْوَى إلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا ﴾.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ تَسْلِيطَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ذَكَاةٌ لَهُ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ : إنَّمَا هُوَ تَسْلِيطٌ عَلَى حَبْسِهِ لَا عَلَى ذَكَاتِهِ ؛ فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، فَلَا يُرَاعَى النَّادِرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الصَّيْدِ حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى ﴿ أَبُو الْعَشْرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ؟ قَالَ : لَوْ طَعَنْت فَخِذَهَا لَأَجْزَأَ عَنْك ﴾.
قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : هَذَا فِي الضَّرُورَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَعْجَبَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي دَاوُد، وَأَشَارَ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ من الْحُفَّاظِ أَنْ يَكْتُبَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : النَّطِيحَةُ : وَهِيَ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا الْأُخْرَى بِقُرُونِهَا. وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ : الْمَنْطُوحَةُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ﴾ : وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أَكَلَ السَّبُعُ شَاةً أَكَلُوا بَقِيَّتَهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ غَيْرُ عَائِدٍ إلَى شَيْءٍ من الْمَذْكُورَاتِ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، يَجْعَلُونَ إلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، من ذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً ﴾. مَعْنَاهُ : لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُنَا عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِأَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ :
أَمْسَى سَقَامٌ خَلَاءً لَا أَنِيسَ بِهِ *** إلَّا السِّبَاعُ وَمَرُّ الرِّيحِ بِالْغُرَفِ
أَرَادَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ السِّبَاعُ، أَوْ لَكِنْ بِهِ السِّبَاعُ. وَسَقَامٌ : وَادٍ لِهُذَيْلٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ *** إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
وَقَالَ النَّابِغَةُ :
وَمَا بِالرَّبْعِ من أَحَدِ *** إلَّا الْأَوَارِيَ
وَمِنْ أَبْدَعُهُ قَوْلُ جَرِيرٍ :
مِنْ الْبِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأْ *** من الْأَرْضِ إلَّا ذَيْلَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ
كَأَنَّهُ قَالَ : لَمْ تَطَأْ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا أَنْ تَطَأَ ذَيْلَ بُرْدٍ مُرَحَّلٍ. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ أَبُو الْحَسَنِ الطُّيُورِيُّ عَنْ الْبَرْمَكِيِّ، وَالْقَزْوِينِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ ابْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَمِنْ أَصْلِهِ نَقَلْته.
الثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ - من الْمُنْخَنِقَةُ إلَى. . . . مَا أَكَلَهُ السَّبْعُ. الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى التَّحْرِيمِ لَا إلَى الْمُحَرَّمِ، وَيَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا يُنْكَرُ فِي اللُّغَةِ وَلَا [ فِي الشَّرِيعَةِ ] فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ حَسْبَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ هُوَ أَصْلُ اللُّغَةِ، وَجُمْهُورُ الْكَلَامِ، وَلَا يُرْجَعُ إلَى الْمُنْقَطِعِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْمُتَّصِلُ. وَتَعَذُّرُ الْمُتَّصِلِ يَكُونُ من وَجْهَيْنِ : إمَّا عَقْلِيًّا وَإِمَّا شَرْعِيًّا ؛ فَتَعَذُّرُ الِاتِّصَالِ الْعَقْلِيِّ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ من الْأَمْثِلَةِ قَبْلَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ. وَأَمَّا التَّعَذُّرُ الشَّرْعِيُّ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ يُونُسَ ﴾. فَإِنَّ قَوْلَهُ :﴿ إلَّا قَوْمَ يُونُسَ ﴾ لَيْسَ رَفْعًا لِمُتَقَدِّمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى لَكِنْ. وَقَوْلَهُ :﴿ طَه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْك الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾. وَقَوْلَهُ :﴿ إنِّه لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ ﴿ إلَّا مَنْ ظَلَمَ ﴾.
عُدْنَا إلَى قَوْلِهِ :﴿ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾، قُلْنَا : فَأَمَّا الَّذِي يُمْنَعُ أَنْ يَعُودَ إلَى مَا يُمْكِنُ إعَادَتُهُ إلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ الْمُنْخَنِقَةُ ﴾ إلَى آخِرِهَا، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :" إذَا أَدْرَكْت ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَكُلْهَا "، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ؛ وَهُوَ خَالٍ عَنْ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ يَرُدُّهُ ؛ بَلْ قَدْ أَحَلَّهُ الشَّرْعُ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ ﴿ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِالْجَبَلِ الَّذِي بِالسُّوقِ، وَهُوَ سَلْعٌ، فَأُصِيبَتْ مِنْهَا شَاةٌ فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا ﴾.
وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ :﴿ أَنَّ ذِئْبًا نَيَّبَ شَاةً فَذَبَحُوهَا بِمَرْوَةِ، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَكْلِهَا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَا كَانَ بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ. وَاَلَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي وَهِيَ تَطْرِفُ فَلْيَأْكُلْهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ من قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ، وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ من كُلِّ بَلَدٍ عُمْرَهُ، فَهُوَ أَوْلَى من الرِّوَايَاتِ الْغَابِرَةِ، لَا سِيَّمَا وَالذَّكَاةُ عِبَادَةٌ كَلَّفَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي [ يَأْتِي ] بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا هُوَ أَحَدُ مُتَعَلِّقَاتِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ فِي الذَّكَاةِ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ : الْمُذَكِّي، وَالْمُذَكَّى، وَالْآلَةِ، وَالتَّذْكِيَةِ نَفْسِهَا. فَأَمَّا الْمُذَكَّى فَيَتَعَلَّقُ الْقَوْلُ فِيهِ بِأَنْوَاعِ الْمُحَلَّلَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا الْمُذَكِّي : وَهُوَ الذَّابِحُ فَبَيَانُهُ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا التَّذْكِيَةُ نَفْسُهَا وَالْآلَةُ فَهَذَا مَوْضِعُ ذَلِكَ :
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي التَّذْكِيَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمَامِ، وَمِنْهُ ذُكَاءُ السِّنِّ، وَيُقَالُ : ذَكَّيْتُ النَّارُ إذَا أَتْمَمْتُ اشْتِعَالَهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى فِي الْمُذَكَّاةِ بَقِيَّةٌ تَشْخَبُ مَعَهَا الْأَوْدَاجُ وَيَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْمَذْبُوحِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ الشَّاةَ أَدْرَكَهَا الْمَ
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ الطَّيِّبَاتُ ﴾ :
رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ :{ جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ :
قَدْ أَذِنَّا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : أَجَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ : فَأَمَرَ أَنْ نَقْتُلَ الْكِلَابَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَتَلْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا، فَتَرَكْته وَجِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْته، فَأَمَرَنِي فَرَجَعْت إلَى الْكَلْبِ فَقَتَلْته، فَجَاءُوا فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا يَحِلُّ لَنَا من هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْت بِقَتْلِهَا، فَسَكَتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ }.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ الطَّيِّبَاتُ ﴾ :
وَهِيَ ضِدُّ الْخَبِيثَاتِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالطَّيِّبُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُلَائِمُ النَّفْسَ وَيُلِذُّهَا.
وَالثَّانِي : مَا أَحَلَّ اللَّهُ. وَالْخَبِيثُ : ضِدُّهُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ قِيلَ : مَعْنَاهُ الْكَوَاسِبُ، يُقَالُ : جَرَحَ إذَا كَسَبَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾ فَكُلُّ كَاسِبٍ جَارِحٌ إذَا كَسَبَ كَيْفَمَا كَانَ، وَمِمَّنْ كَانَ، إلَّا أَنَّ هَاهُنَا نُكْتَةً، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ ﴾. فَنَحْنُ فَرِيقٌ وَالطَّيِّبَاتُ فَرِيقٌ، وَمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ فَرِيقٌ غَيْرُ الِاثْنَيْنِ، وَذَلِكَ من الْبَهَائِمِ الَّتِي يَعْلَمُهَا بَنُو آدَمَ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَعْلُومَةً وَهِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ فِي أَكْلِ مَا صِيدَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَحْقِيقًا ؟ قُلْنَا : يُبَيِّنُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ؛ أَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ :﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾، كَلَّبَ الرَّجُلُ وَأَكْلَبَ إذَا اقْتَنَى كَلْبًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :﴿ مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ من أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ ﴾. وَالضَّارِي : هُوَ الَّذِي ضَرَّى الصَّيْدَ فِي اللُّغَةِ.
وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى. فَقَالَ : إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك [ الْمُعَلَّمَ ] وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك ؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ قَتَلَ، مَا لَمْ يُشْرِكْهُ كَلْبٌ آخَرُ. قَالَ : وَإِنْ أَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ [ مِنْهُ ] ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ. وَعِنْدَ جَمِيعِهِمْ :﴿ فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ﴾
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ؟ قَالَ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ. وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْهُ نَحْوَ الْأَوَّلِ عَنْ عَدِيٍّ. وَفِيهِ :{ فَإِنْ صِدْت بِكَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ. فَقَدْ فَسَّرَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ التَّكْلِيبَ وَالتَّعْلِيمَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ :﴿ إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك ﴾. وَالْمُعَلَّمُ : هُوَ الَّذِي إذَا أَشْلَيْتَهُ انْشَلَى، وَإِذَا زَجَرْته انْزَجَرَ، فَهَذَا رُكْنُ التَّعْلِيمِ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ. فَلَوْ اسْتَرْسَلَ عَلَى الصَّيْدِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَغْرَاهُ صَاحِبُهُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يُؤْكَلُ بِهِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِيَةُ : لَا يُؤْكَلُ ؛ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ أَكْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ الِانْشِلَاءُ وَانْزَجَرَ عِنْدَ الِانْزِجَارِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الصَّيْدِ : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ). فَاعْتَبَرَ الِاسْتِرْسَالَ مِنْهُ وَالذِّكْرَ ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَغْرَاهُ فَغَرِيَ فِي سَيْرِهِ : إنَّهَا نِيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْكَلْبِ، فَإِنَّهُ عَادَ إلَى رَأْيِ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَرَجَ لِنَفْسِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إنْ أَكَلَ الْكَلْبَ : فَفِيهَا رِوَايَتَانِ :
إحَدَاهُمَا : أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِثْلُهُ، وَالثَّانِي : يُؤْكَلُ. وَالرِّوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى حَدِيثَيْ عَدِيٍّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ. وَحَدِيثُ عَدِيٍّ أَصَحُّ، وَهُوَ الَّذِي يَعْضُدُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ ؛ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ يُحْمَلُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ :﴿ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ﴾. فَجَعَلَهُ خَوْفًا، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْأَصْلُ فِي الْحَيَوَانِ التَّحْرِيمُ، لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّكَاةِ وَالصَّيْدُ، وَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَوْلَ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَمَا جَازَ الْبِدَارُ إلَى هَجْمِ الصَّيْدِ من فَمِ الْكَلْبِ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَأْكُلَ، فَيَجِبُ إذًا التَّوَقُّفُ حَتَّى نَعْلَمَ حَالَ فِعْلِ الْكَلْبِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلْبَ قَدْ يَأْكُلُ لِفَرْطِ جُوعٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَقَدْ يَذْهَلُ الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَكَيْفَ بِالْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ أَنْ تَسْتَقْصِيَ عَلَيْهَا هَذَا الِاسْتِقْصَاءَ ! وَقَدْ أَخَذْنَا أَطْرَافَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ :
عَامٌّ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ. وَقَالَ مَنْ لَا يَعْرِفُ : إنَّ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ لَا يُؤْكَلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ ). وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مِثْلَهُ لَقَالَهُ، وَنَحْنُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَأْتِيَ من النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظٌ يَقْتَضِي صَرْفَنَا عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنْ أَدْرَكْت ذَكَاةَ الصَّيْدِ فَذَكِّهِ دُونَ تَفْرِيطٍ، فَإِنْ فَرَّطْت لَمْ يُؤْكَلْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْك، وَفِي قَوْلِهِ :﴿ إنْ وَجَدْت مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْهُ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ ﴾، نَصٌّ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الذَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ صَاحِبُهُ إلَيْك وَتَجْتَمِعَا فَيَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا : قَدْ سَمَّيْت ؛ فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :﴿ فَإِنْ أَرْسَلْت كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ ﴾، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ، إنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى الْعَبَثِ لَا عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْأَكْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا نَدْرِي أَنَّا إذَا أَرْسَلْنَا غَيْرَ الْمُعَلَّمِ هَلْ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ أَمْ يَعْقِرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : أَمَّا الْفَهْدُ وَنَحْوُهُ إذَا عُلِّمَ فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ صَادَ عَلَيَّ ابْنُ عُرْسٍ لَأَكَلْته، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلْبٌ [ كُلُّهُ ] فِي مُطْلَقِ اللُّغَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، فَأَمَّا جَوَارِحُ الطَّيْرِ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَة : فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ :( أَنَّ الْبَازِيَ وَالصَّقْرَ وَالْعُقَابَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ من الطَّيْرِ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا يَفْقَهُ مَا يَفْقَهُ الْكَلْبُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ صَيْدُهُ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ عَلِيٍّ لَا نُبَالِي بِهِ ). وَاخْتَلَفَ عُلَمَ
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ ﴾ :
قَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بِالْمَدِينَةِ.
الثَّانِي : أَنَّهُ بِمَعْنَى الْآنَ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ الْيَوْمَ كَذَا بِمَعْنَى الْآنَ، كَأَنَّهُ وَقْتُ الزَّمَانِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ :
وَبَيَانُهُ أَنَّ كَوْنَهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بِمَعْنَى الزَّمَانِ فَصَحِيحٌ مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ غَيْرَهُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِعُمَرَ : لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةُ لَاِتَّخَذْنَا ذَلِكَ عِيدًا. فَقَالَ عُمَرُ :( قَدْ عَلِمْت فِي أَيِّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ). وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ، فَرَاجَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ مَا رَاجَعَهُ عُمَرُ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَانِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ رَاجِعَةً إلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيَّامًا سِوَاهَا ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مَعْنَى كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ فِيهِ :
وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ فِي سَبْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، أَرَادَ :( الْيَوْمَ عَرَّفْتُكُمْ بِنَفْسِي بِأَسْمَائِي وَصِفَاتِي وَأَفْعَالِي فَاعْرِفُونِي ).
الثَّانِي : الْيَوْمَ قَبِلْتُكُمْ وَكَتَبْت رِضَائِي عَنْكُمْ لِرِضَائِي لِدِينِكُمْ ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الدِّينِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَبُولِ.
الثَّالِثُ : الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ ؛ أَيْ اسْتَجَبْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ، وَدُعَاءَ نَبِيِّكُمْ لَكُمْ. ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ).
الرَّابِعُ : الْيَوْمَ أَظْهَرْتُكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ بِجَمْعِ الْحَرَمَيْنِ لَهُ أَوْ بِتَعْرِيفِ ذَلِكَ فِيهِ. الْخَامِسُ : الْيَوْمَ طَهَّرْت لَكُمْ الْحَرَمَ عَنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ مَعَكُمْ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَلَا كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ فِي مَوْقِفِهِمْ ؛ بَلْ وَقَفُوا كُلُّهُمْ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ.
السَّادِسُ : الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ الْفَرَائِضَ وَانْقَطَعَ النَّسْخُ.
السَّابِعُ : أَنَّهُ بِكَمَالِ الدِّينِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ يُصَرِّفُ نَبِيَّهُ وَأَصْحَابَهُ فِي دَرَجَاتِ الْإِسْلَامِ وَمَرَاتِبِهِ دَرَجَةً دَرَجَةً حَتَّى أَكْمَلَ شَرَائِعَهُ وَمَعَالِمَهُ وَبَلَغَ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ تَمَّتْ بِهِ النِّعْمَةُ وَرَضِيَهُ دِينًا، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ ؛ يُرِيدُ : فَالْزَمُوهُ وَلَا تُفَارِقُوهُ وَلَا تُغَيِّرُوهُ، كَمَا فَعَلَ سِوَاكُمْ بِدِينِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ من هَذِهِ الْأَقْوَالِ : كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَقَدْ فَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يُخْتَصُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّ جَمِيعَهَا مُرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ آيَةٌ وَلَا ذُكِرَ بَعْدَهُ حُكْمٌ لَا يَصِحُّ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ قَالَ :( آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ ﴿ يَسْتَفْتُونَك ﴾ وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ ".
وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :( آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا ). وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَسِيرٍ.
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي تَارِيخِهِ حَدِيثُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَهَذَا تَارِيخٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ :
فِي ذِكْرِ الطَّعَامِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَطْعُومٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُ الِاشْتِقَاقِ. وَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي أَلَّا يُؤْكَلَ طَعَامُهُمْ لِقِلَّةِ احْتِرَاسِهِمْ عَنْ النَّجَاسَاتِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ سَمَحَ فِي ذَلِكَ ؟ لِأَنَّهُمْ أَيْضًا يَتَوَقَّوْنَ الْقَاذُورَاتِ، وَلَهُمْ فِي دِينِهِمْ مُرُوءَةٌ يُوصِلُونَهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسَ الَّذِينَ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ لَا يُؤْكَلُ طَعَامُهُمْ وَيُسْتَقْذَرُونَ وَيُسْتَنْجَسُونَ فِي أَوَانِيهِمْ، رُوِيَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ :﴿ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ. فَقَالَ : أَنْقُوهَا غَسْلًا وَاطْبُخُوا فِيهَا ﴾. وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ قَالَ :( يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ }. قَالَ : وَهُوَ صَحِيحٌ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَغَسْلُ آنِيَةِ الْمَجُوسِ فَرْضٌ، وَغَسْلُ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَضْلٌ وَنَدْبٌ ؛ فَإِنَّ أَكْلَ مَا فِي آنِيَتِهِمْ يُبِيحُ الْأَكْلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ ( أَنَّ عُمَرَ تَوَضَّأَ من جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ )، وَصَحَّحَهُ وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرَاجِمِ.
وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَكْلَ طَعَامِهِمْ رُخْصَةٌ، فَإِذَا احْتَجْت إلَى آنِيَتِهِمْ فَغَسْلُهَا عَزِيمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلرُّخْصَةِ.
قُلْنَا : رُخْصَةُ أَكْلِ طَعَامِهِمْ حِلٌّ تَأَصَّلَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاسْتَقَرَّ، فَلَا يَقِفُ عَلَى مَوْضِعِهِ ؛ بَلْ يَسْتَرْسِلُ عَلَى مَحَالِّهِ كُلِّهَا، كَسَائِرِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ.
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ، وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي طَعَامِهِمْ : قَالَ لِي شَيْخُنَا الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النَّابُلُسِيُّ فِي ذَلِكَ كَلَامًا كَثِيرًا، لُبَابُهُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَذِنَ فِي طَعَامِهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ غَيْرَهُ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَلَقُوا بِذَيْلِ نَبِيٍّ جُعِلَتْ لَهُمْ حُرْمَةً عَلَى أَهْلِ الْأَنْصَابِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ :( تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ الْمُطْلَقَةُ إلَّا مَا ذَبَحُوا يَوْمَ عِيدِهِمْ أَوْ لِأَنْصَابِهِمْ. وَقَالَ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ : تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ غَيْرِ الْمَسِيحِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ نَذْكُرُ لَكُمْ مِنْهَا قَوْلًا بَدِيعًا :
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ من الذَّبَائِحِ، وَأَذِنَ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ يَقُولُونَ :[ إنَّ ] اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أُكِلَ طَعَامُهُمْ، وَإِنْ ذَكَرُوا فَقَدْ عَلِمَ رَبُّك مَا ذَكَرُوا، وَأَنَّهُ غَيْرُ الْإِلَهِ، وَقَدْ سَمَحَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالَفَ أَمْرُ اللَّهِ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ، وَلَا تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ لَهُ.
وَقَدْ قُلْت لِشَيْخِنَا أَبِي الْفَتْحِ الْمَقْدِسِيِّ : إنَّهُمْ يَذْكُرُونَ غَيْرَ اللَّهِ. فَقَالَ لِي : هُمْ من آبَائِهِمْ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَبَعًا لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ.
وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ قَالَ : لَوْ سَمَّى النَّصْرَانِيُّ الْإِلَهَ حَقِيقَةً لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى شَرْطِ الْعِبَادَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَعْبُودَ، فَلَيْسَتْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ، وَاشْتِرَاطُهُمْ التَّسْمِيَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَا يُعْقَلُ.
قُلْنَا : تُعْقَلُ صُورَةُ التَّسْمِيَةِ، وَلَهَا حُرْمَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسَمِّي مَنْ يُسَمِّي. وَلَوْ شَرَطْنَا الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مَا جَازَ أَكْلُ كَثِيرٍ من ذَبْحِ مَنْ يُسَمِّي من الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ ذَبْحًا يُذْكَرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَصْرِيحًا. فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ اللَّهَ فَيُصِيبُ قَصْدَهُ فَهُوَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّ
فِيهَا اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ من أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَسَائِلَ وَأَكْثَرِهَا أَحْكَامًا فِي الْعِبَادَاتِ، وَبِحَقِّ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ )، فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ عَنْهُ. وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ فِيهَا أَلْفَ مَسْأَلَةٍ، وَاجْتَمَعَ أَصْحَابُنَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فَتَتَبَّعُوهَا فَبَلَّغُوهَا ثَمَانَمِائَةِ مَسْأَلَةٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُبَلِّغُوهَا الْأَلْفَ، وَهَذَا التَّتَبُّعُ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ يُرِيدُ تَعْرِيفَ طُرُقِ اسْتِخْرَاجِ الْعُلُومِ من خَبَايَا الزَّوَايَا، وَاَلَّذِي يَلِيقُ الْآنَ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ الِانْتِدَابُ إلَى انْتِزَاعِ الْجَلِيِّ وَأَنْ نَتَعَرَّضَ لِمَا يَسْنَحُ خَاصَّةً من ظَاهِرِ مَسَائِلِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ نُزُولِهَا غَيْرُ مَتْلُوٍّ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْوُضُوءَ كَانَ بِمَكَّةَ سُنَّةً، مَعْنَاهُ كَانَ مَفْعُولًا بِالسُّنَّةِ، فَأَمَّا حُكْمُهُ فَلَمْ يَكُنْ قَطُّ إلَّا فَرْضًا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُصَلِّيَ بِهِ فَغَمَزَ الْأَرْضَ بِعَقِبِهِ، فَانْبَعَتْ مَاءً، وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ، وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ، وَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ السَّيِّدُ وَالْعُلَمَاءُ يَتَغَافَلُونَ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَإِنْ ذَهَبَ. وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِذِكْرِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ : هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْكَافِرِينَ دَاخِلُونَ فِيهِ ؛ لِمَا ثَبَتَ من أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا خَصَّ الْخِطَابَ الْمُلْزِمَ لِلْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ النَّازِلَةَ عَرَضَتْ لَهُ، وَالْقِصَّةَ دَارَتْ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ لَنَا شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ ﴾ : مَعْنَاهُ : إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ حَالَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ النِّيَّةُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ وَاجِبَةٌ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهِيَ من طُيُولِيَّاتِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِيهِ.
وَالْأَصْلُ الْمُحَقَّقُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْعِبَادَاتُ لَا يُتَعَبَّدُ بِهَا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَيُخَالِفُ الشَّعْبِيُّ إلَّا الْجُمُعَةَ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : مَعْنَاهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ من النَّوْمِ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ، وَبِهِ قَالَ جُمْلَةُ الْأُمَّةِ، سَمِعْت عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ حَدَثًا، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدِي عَنْهُ.
وَرُوِيَ لِي عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ حَدَثًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ إذَا كَانَ الَّذِي أَثَارَهُمَا سَبَبًا فَلَا بُدَّ من دُخُولِ السَّبَبِ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ وَرَاءَ ذَلِكَ هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِهِمَا أَمْ يَكُونَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا ؟
وَثَبَتَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ :( أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلَّا من جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ من بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَوْمٍ ).
وَالْأَمْرُ أَظْهَرُ من ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُعَرِّفَكُمْ وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي صَحِيحِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ صَفْوَانَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ فَهُوَ حَدَثٌ لِمَا يَصْحَبُهُ غَالِبًا من خُرُوجِ الْخَارِج. وَقَالَ الْمُزَنِيّ : هُوَ حَدَثٌ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَنَامُونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ. وَمِنْهُ فِي الصَّحِيحِ ﴿ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ : أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ. فَقَامَ رَجُلٌ يُنَاجِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ ثُمَّ صَلَّوْا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا تَفْصِيلَهُ فِي النَّوَازِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ من الْأَحْوَالِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ نَامَ عَلَى هَيْئَةٍ من هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ وُضُوءُهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ :﴿ نَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ سَاجِدٌ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ؛ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّك قَدْ نِمْت. فَقَالَ : إنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ ﴾. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد أَنْكَرَهُ، فَقَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْفُوظًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ :﴿ تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي ﴾.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا ؛ إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ ). وَهُوَ بَاطِلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَوْضَحْنَا خَلَلَهُ.
وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ فَإِنَّمَا بَنَى عَلَى أَنَّ الرَّاكِعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْقِلَ نَوْمًا وَيَثْبُتَ رَاكِعًا، فَدَلَّ أَنَّ نَوْمَهُ ثَبَاتٌ وَخُلَسٌ لَا شَيْءَ فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ الْوُضُوءُ فِي النَّوْمِ فَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ، وَإِيَّاهُمْ صَادَفَ الْخِطَابُ، وَلَكِنَّا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُطْلَقِ الْخِطَابِ وَلَا يَرْبِطُ الْحُكْمَ بِالْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ : إنَّ الْوُضُوءَ يَلْزَمُ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ، إلَّا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَوَى :{ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. قُلْت : كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ ؟ قَالَ : كَانَ يَجْزِي أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ ). خَرَّجَهُ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَعَلْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. فَقَالَ : عَمْدًا فَعَلْته ). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.
تَقَدَّمَ أَكْثَرُ مَعْنَاهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِنَظِيرَتِهَا، وَنَحْنُ نُعِيدُ ذِكْرَ مَا تَجَدَّدَ هَاهُنَا مِنْهَا، وَنُعِيدُ مَا تَحْسُنُ إعَادَتُهُ فِيهَا فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، ذَهَبَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ فَوَعَدُوهُ ثُمَّ هَمُّوا بِغَدْرِهِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلَّا يُحَمِّلَهُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الْحَالَةِ الْمُبْغِضَةِ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْحَقِّ فِيهَا قَضَاءً أَوْ شَهَادَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ﴾ : أَوْ ( قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قِيَامُهُ لِلَّهِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ يَكُونُ بِالْعَدْلِ، وَمَنْ كَانَ قِيَامُهُ بِالْعَدْلِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ؛ لِارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ارْتِبَاطَ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ وَالْعَدْلُ مُرْتَبِطٌ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ :
يُرِيدُ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِّ ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَ [ نُفُوذُ ] شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ أَبْغَضَهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهٌ.
فَإِنْ قِيلَ : الْبُغْضُ وَرَدَ مُطْلَقًا فَلِمَ خَصَّصْتُمُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي اللَّهِ تَعَالَى ؟
قُلْنَا : لِأَنَّ الْبُغْضَ فِي غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا بِقَوْلِ الْحَقِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَعَ عَدَاوَةٍ لَا تَحِلُّ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِلْوَصْفِ، وَفِيهِ أَمْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا خِطَابٌ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِعْلِ مُوسَى مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَبَعْثِهِ النُّقَبَاءَ مِنْهُمْ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، لِيَخْتَبِرُوا حَالَ مَنْ بِهَا، وَيُعْلِمُوهُ بِمَا أَطْلَعُوهُ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَنْظُرُوا فِي الْغَزْوِ إلَيْهَا ؛ وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي كِتَابِنَا هَذَا عِنْدَمَا عَرَضَ مِنْهَا مَا يَكُونُ مِثْلَهَا، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ مَالِكٍ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، رَكَّبْنَا عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ لِكَوْنِهِ من وَاضِحَاتِ الدَّلَائِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَيَحْتَاجُ إلَى اطِّلَاعِهِ من حَاجَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَيُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، وَيَرْبِطُ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ.
وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ رُوِيَ ( أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا تَائِبِينَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ، وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا نَصِيبَهُمْ لَهُمْ من السَّبْيِ فَقَالُوا قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : ارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ )، وَاحِدُهَا عَرِيفٌ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، أَيْ يَعْرِفُ بِمَا عِنْدَ مَنْ كُلِّفَ أَنْ يَعْرِفَ مَا عِنْدَهُ.
وَمِنْ حَدِيثِ ( وَفْدِ هَوَازِنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ فَقَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْت أَنْ أَرُدَّ عَلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَطِيبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ من أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ.
فَقَالَ النَّاسُ : قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ. فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ. فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا ).
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ : وَهُوَ النَّقِيبُ أَوْ مَا فَوْقَهُ، وَيَنْطَلِقُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقِيبَ الْأَنْصَارِ. وَيَنْطَلِقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْأَمِينِ وَالْكَفِيلِ.
وَاشْتِقَاقُهُ ؛ يُقَالُ : نَقَبَ الرَّجُلُ عَلَى الْقَوْمِ يَنْقُبُ إذَا صَارَ نَقِيبًا، وَمَا كَانَ الرَّجُلُ نَقِيبًا، وَلَقَدْ نَقَبَ، وَكَذَلِكَ عَرَفَ عَلَيْهِمْ إذَا صَارَ عَرِيفًا، وَلَقَدْ عَرَفَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ نَقِيبٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ دَخِيلَةَ أَمْرِ الْقَوْمِ وَمَنَاقِبَهُمْ، وَالْمَنَاقِبُ تُطْلَقُ عَلَى الْخِلْقَةِ الْجَمِيلَةِ وَعَلَى الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَعَلَى هَذَا انْبَنَى قَبُولُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فِي الَّذِي يُبَلِّغُهُ إيَّاهَا من مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامِ الدِّينِ وَدُخُولِ الدَّارِ بِإِذْنِ الْآذِنِ، وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ لَا نُطَوِّلُ بِهَا ؛ فَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَيْهَا وَعَلَى أَنْوَاعِهَا، فَأَلْحِقْ كُلَّ شَيْءٍ بِجِنْسِهِ مِنْهَا، وَمِنْ هَاهُنَا اتَّخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النُّقَبَاءَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : كَانَتْ الْأَنْصَارُ سَبْعِينَ رَجُلًا، يَعْنِي مَالِكٌ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، فَكَانَ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ أَحَدَ النُّقَبَاءِ نَقِيبًا.
قَالَ مَالِكٌ : النُّقَبَاءُ تِسْعَةٌ من الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ من الْأَوْسِ، مِنْهُمْ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ : كَانَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بْنُ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ من النُّقَبَاءِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : التِّسْعَةُ من الْخَزْرَجِ هُمْ : أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بْنِ حَرَامٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ. وَمِنْ الْأَوْسِ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيْهَانِ ؛ فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُقَبَاءَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَعَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ.
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مَسْكَنٌ يَأْوِي إلَيْهِ وَامْرَأَةٌ يَتَزَوَّجُهَا وَخَادِمٌ يَخْدُمُهُ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَكَمِ، وَقَتَادَةَ، زَادَ قَتَادَةُ : كَانَت بَنُو إسْرَائِيلَ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ الْخَدَمَةَ ؛ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَمَلَكَ دَارًا وَخَادِمًا بَاعَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ بِبَيْعِ خَادِمِهِ أَوْ دَارِهِ وَهُوَ مَلِكٌ، وَالْمُلُوكُ لَا يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ وَلَا يُوصَفُونَ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِعْتَاقِ.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا ﴾ : اُخْتُلِفَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ من بَنِي إسْرَائِيلَ.
الثَّانِي : أَنَّهُ وَلَدُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُ من النَّاسِ، جَرَى من أَمْرِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :( مَا من قَتِيلٍ يُقْتَلُ [ ظُلْمًا ] إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ من دَمِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا ﴾ :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَابِيلَ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَفْعَلُ بِهَابِيلَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ، فَتَنَازَعَا فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
الثَّانِي : أَنَّ الْغُرَابَ إنَّمَا بُعِثَ لِيُرِيَ ابْنَ آدَمَ كَيْفِيَّةَ الْمُوَارَاةِ لِهَابِيلَ خَاصَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ سَوْأَةَ أَخِيهِ ﴾ :
قِيلَ : هِيَ الْعَوْرَةُ. وَقِيلَ : لَمَّا أَنْتَنَ صَارَ كُلُّهُ عَوْرَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ سَوْأَةً لِأَنَّهَا تَسُوءُ النَّاظِرَ إلَيْهَا عَادَةً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : دَفْنُ الْمَيِّتِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا لِسَتْرِهِ. الثَّانِي لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْأَحْيَاءَ بِجِيفَتِهِ.
وَقِيلَ : إنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ الْغُرَابَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كَانَا غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى سَوْأَةِ أَخِيهِ حَتَّى عَرَفَ كَيْفَ يَدْفِنُهُ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ ابْنَ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ حَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ سَنَةً يَدُورُ بِهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ، وَدَفَنَ فَتَعَلَّمَ، وَعَمِلَ مِثْلَ مَا رَأَى، وَقَالَ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ). وَقَالَ تَعَالَى :( أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ). وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي الْخَلْقِ، وَفَرْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْكِفَايَةِ، مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَرْضُهُ ؛ وَأَخَصُّ الْخَلْقِ بِهِ الْأَقْرَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ من الْجِيرَةِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَهُوَ حَقٌّ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ ( عَلِيٍّ قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ ؟ قَالَ : اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي. فَوَارَيْته، ثُمَّ جِئْت، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ وَدَعَا لِي ).
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ ﴾ :
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ ؛ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَأَصْبَحَ من النَّادِمِينَ ﴾ :
وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْكَامِ هَاهُنَا لِأَنَّهَا من الْأُصُولِ ؛ لَكِنَّا نُشِيرُ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِهَا، فَنَقُولُ : من الْغَرِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ نَدِمَ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( النَّدَمُ تَوْبَةٌ ).
قُلْنَا : عَنْ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْحَدِيثُ لَيْسَ يَصِحُّ، لَكِنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سَلِمَ، لَكِنَّ النَّدَمَ لَهُ شُرُوطٌ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بِشُرُوطِهِ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُقْبَلْ.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ نَدَمُهُ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ النَّدَمُ إذَا اسْتَمَرَّ.
الثَّالِثُ : أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَاضِي إنَّمَا يَنْفَعُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ ﴾ :
تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ قَالَ : إنَّ ابْنَيْ آدَمَ كَانَا من بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْلُ زَمَانُ آدَمَ وَلَا زَمَنُ مَنْ بَعْدَهُ من شَرْعٍ. وَأَهَمُّ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ حِمَايَةُ الدِّمَاءِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ وَحِيَاطَتُهُ بِالْقِصَاصِ كَفًّا وَرَدْعًا لِلظَّالِمِينَ وَالْجَائِرِينَ وَهَذَا من الْقَوَاعِدِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمِلَلُ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ لِلْكِتَابِ فِيهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَ ذَلِكَ من الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ كَانَ قَوْلًا مُطْلَقًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ، بَعَثَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ فَكَتَبَ لَهُ الصُّحُفَ، وَشَرَعَ لَهُ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَقَسَّمَ وَلَدَيْهِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَوَضَعَ اللَّهُ إسْمَاعِيلَ بِالْحِجَازِ مُقَدِّمَةً لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاهَا عَنْ الْجَبَابِرَةِ تَمْهِيدًا لَهُ، وَأَقَرَّ إِسْحَاقَ بِالشَّامِ، وَجَاءَ مِنْهُ يَعْقُوبُ وَكَثُرَتْ الْإِسْرَائِيلِيَّة، فَامْتَلَأَتْ الْأَرْضُ بِالْبَاطِلِ فِي كُلِّ فَجٍّ، وَبَغَوْا ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى وَكَلَّمَهُ وَأَيَّدَهُ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَخَطَّ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْقِتَالِ، وَوَعَدَهُ النَّصْرَ، وَوَفَّى لَهُ بِمَا وَعَدَهُ، وَتَفَرَّقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ بِعَقَائِدِهَا، وَكَتَبَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي التَّوْرَاةِ الْقِصَاصَ مُحَدَّدًا مُؤَكَّدًا مَشْرُوعًا فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ، إلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ من الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا بِكَثِيرٍ من ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ :
هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً لَيْسَ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَجَازُ، وَلَهُ وَجْهٌ وَفَائِدَةٌ ؛ فَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَاهُ قَتَلَ نَبِيًّا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ من الْخَلْقِ يُعَادِلُ الْخَلْقَ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ بَعْدَهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي النَّبِيِّ.
الثَّانِي : أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ، إمَّا لِأَنَّهُ فَقَدَ نَفْسَهُ، فَلَا يَعْنِيهِ بَقَاءُ الْخَلْقِ بَعْدَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَأْثُومٌ وَمُخَلَّدٌ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ مُجَاهِدٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَكْسُهُ فِي الْإِحْيَاءِ مِثْلُهُ.
الثَّالِثُ : قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ مَعْنَاهُ يُقْتَلُ بِمَنْ قُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ أَجْمَعِينَ.
الرَّابِعُ : أَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ذَمَّ الْقَاتِلِ، كَمَا عَلَيْهِمْ إذَا عَفَا مَدْحُهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازٌ. وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ من بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ من أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، أَعْلَمَنَا اللَّهُ بِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ ﴾ :
اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ : هُوَ الْكُفْرُ. وَقِيلَ : هُوَ إخَافَةُ السَّبِيلِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَصْلُ ( فَسَدَ ) فِي لِسَان الْعَرَبِ تَعَذُّرُ الْمَقْصُودِ وَزَوَالُ الْمَنْفَعَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ كَانَ أَبْلَغَ، وَالْمَعْنَى ثَابِتٌ بِدُونِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) أَيْ لَعَدِمَتَا، وَذَهَبَ الْمَقْصُودُ. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :﴿ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ وَهُوَ الشِّرْكُ أَوْ الْإِذَايَةُ لِلْخَلْقِ، وَالْإِذَايَةُ أَعْظَمُ من سَدِّ السَّبِيلِ، وَمَنْعِ الطَّرِيقِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ الْمُطْلَقُ مَا يُزَيِّفُ مَقْصُودَ الْمُفْسِدِ، أَوْ يَضُرُّهُ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ.
وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ هُوَ الْإِذَايَةُ لِلْغَيْرِ. وَالْإِذَايَةُ لِلْغَيْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ : خَاصٌّ، وَعَامٌ ؛ وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا جَزَاؤُهُ الْوَاقِعُ وَحْدَهُ الرَّادِعُ، حَسْبَمَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ فَجَزَاؤُهُ مَا فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذِهِ من الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾
ظَاهِرُهُ خِلَافُ مُشَاهَدَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ إلَّا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ تَحَمَّلَ أَوْجُهًا من الْمَجَازِ. مِنْهَا : أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ مَنْ قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَلَهُ أَجْرُ مَنْ أَحْيَا جَمِيعَ النَّاسِ إذَا أَصَرُّوا عَلَى الْهَلَكَةِ.
وَمِنْهَا : أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لَأَنْ يَقْتُلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْقَذَ وَاحِدًا من غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ عَدُوٍّ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَأَنْ يَفْعَلَ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ ذَلِكَ ؛ فَالْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ. وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ( أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ : هَلْ لِي من تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ لَهُ : لَا، فَكَمَّلَ الْمِائَةَ بِهِ، ثُمَّ جَاءَ غَيْرَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ : لَك تَوْبَةٌ. . . ) الْحَدِيثَ { إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ ).
وَمِنْهَا : أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَقَدْ سَنَّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَكُلُّ مَنْ يَقْتُلُ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ من إثْمٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَحْيَا مِثْلُهُ فِي الْأَجْرِ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :( مَا من نَفْسٍ تُقْتَلُ إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا ) لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنّ الْقَتْلَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :﴿ إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ظَاهِرُهَا مُحَالٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ وَلَا يُشَاقُّ وَلَا يُحَادُّ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا هُوَ عَلَيْهِ من صِفَاتِ الْجَلَالِ، وَعُمُومِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى الْكَمَالِ، وَمَا وَجَبَ لَهُ من التَّنَزُّهِ عَنْ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ.
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْمُتَحَارِبِينَ فِي جِهَةٍ وَفَرِيقٍ عَنْ الْآخَرِ. وَالْجِهَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ من الْمُفَسِّرِينَ لِمَا وَجَبَ من حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمَجَازِ : مَعْنَاهُ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ؛ وَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَةِ سُبْحَانَهُ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إكْبَارًا لِإِذَايَتِهِمْ، كَمَا عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنْ الْفُقَرَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ لُطْفًا بِهِمْ وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَكَشْفًا لِلْغِطَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي، وَجُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي، وَعَطِشْت فَلَمْ تَسْقِنِي، فَيَقُولُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ، وَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ). وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ مُحَالٌ، وَلَكِنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُ تَشْرِيفًا لَهُ، كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ.
وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ الْكُفْرُ، وَهِيَ مَعْنًى صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَبْعَثُ عَلَى الْحَرْبِ ؛ وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ.
الثَّانِي : نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّالِثُ :( نَزَلَتْ فِي عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، قَدِمَ مِنْهُمْ نَفَرٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَقَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ إنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ، فَيَشْرَبُوا من أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَلُوا أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالَهِمْ ) وَقَالَ قَتَادَةُ : فَبَلَغَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ ).
هَذَا فِي الصَّحِيحِ من قِصَّتِهِمْ، وَتَمَامُهَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي صَرِيحِ الصَّحِيحِ، زَادَ الطَّبَرِيُّ : وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ.
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُعَاتَبَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ ؛ قَالَهُ اللَّيْثُ.
الْخَامِسُ : قَالَ قَتَادَةُ : هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا فَعَلَ فِي الْعُرَنِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ : لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ لَكَانَ غَرَضًا ثَابِتًا، وَنَصَّا صَرِيحًا. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ، وَدَخَلَ تَحْتَهَا كُلُّ ذِمِّيٍّ وَمَلِّيٍّ. وَهَذَا مَا لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا من الْيَهُودِ حَارَبَ، وَلَا أَنَّهُ جُوزِيَ بِهَذَا الْجَزَاءِ.
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ عُكْلًا وَعُرَيْنَةَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَفْسَدُوا، وَلَكِنْ يَبْعُدُ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ، كَمَا يَسْقُطُ قَبْلَهَا، وَقَدْ قِيلَ لِلْكُفَّارِ :﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾. وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ :﴿ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ﴾. وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ، وَفِي الْآيَةِ النَّفْيُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُنْفَى، وَفِيهَا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا تُقْطَعُ لَهُ يَدٌ وَلَا رِجْلٌ ؛ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا يُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَلَا الْمُرْتَدُّونَ.
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَقْوَى ؛ وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْكَمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْعُرَنِيِّينَ من سَمْلِ الْأَعْيُنِ، وَقَطْعِ الْأَيْدِي.
قُلْنَا : ذَلِكَ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَسَمَلَ الْأَعْيُنَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ
إذَا تَعَيَّنَ فَاعِلُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ حَرْبِيِّينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ ؛ وَالْمُرْتَدُّ يَلْزَمُ اسْتِتَابَتُهُ، وَعِنْدَ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ يُقْتَلُ.
قُلْنَا : فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَالْأُخْرَى : لَا يُسْتَتَابُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَقِيلَ : لَا يُسْتَتَابُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُمْ.
وَقِيلَ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِتَابَةَ هَؤُلَاءِ لِمَا أَحْدَثُوا من الْقَتْلِ وَالْمُثْلَةِ وَالْحَرْبِ ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ الَّذِي يَرْتَابُ فَيَسْتَرِيبُ بِهِ وَيُرْشَدُ، وَيُبَيَّنُ لَهُ الْمُشْكِلُ، وَتُجْلَى لَهُ الشُّبْهَةُ.
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ :﴿ إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ وَتِلْكَ صِفَةُ الْكُفَّارِ ؟
قُلْنَا : الْحِرَابَةُ تَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَيُجَازَى بِمِثْلِهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾.
فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الرِّبَا قُلْنَا : نَعَمْ، وَفِيمَنْ فَعَلَهُ، فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَمَةُ عَلَى أَنْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ يُحَارَبُ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى الْعَمَلِ بِالرِّبَا، وَعَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْمُحَارَبَةِ :
وَهِيَ إشْهَارُ السِّلَاحِ قَصْدَ السَّلْبِ، مَأْخُوذٌ من الْحَرْبِ ؛ وَهُوَ اسْتِلَابُ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ عَلَيْهِ، وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.
وَقَدْ شَرَحَ ذَلِكَ مَالِكٌ شَرْحًا بَالِغًا فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : الْمُحَارِبُ الَّذِي يَقْطَعُ السَّبِيلَ وَيَنْفِرُ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَان، وَيُظْهِرُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا، إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ يُقْتَلُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ بِالْقَتْلِ، أَوْ الصَّلْبِ، أَوْ الْقَطْعِ، أَوْ النَّفْيِ ؛ قَالَ مَالِكٌ : وَالْمُسْتَتِرُ فِي ذَلِكَ وَالْمُعْلِنُ بِحِرَابَتِهِ [ سَوَاءٌ ]. وَإِنْ اسْتَخْفَى بِذَلِكَ، وَظَهْرَ فِي النَّاسِ إذَا أَرَادَ الْأَمْوَالَ وَأَخَافَ فَقَطَعَ السَّبِيلَ أَوْ قَتَلَ، فَذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ ؛ يَجْتَهِدُ أَيَّ هَذِهِ الْخِصَالِ شَاءَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ قَرِيبًا وَأَخَذَ بِحِدْثَانِهِ فَلْيَأْخُذْ الْإِمَامُ فِيهِ بِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِمَالِكٍ.
الثَّانِي : أَنَّهَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْمُكَابِرُ بِاللُّصُوصِيَّةِ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ فِي الطَّرِيقِ لَا فِي الْمِصْرِ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَطَاءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي التَّنْقِيحِ :
أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَسَاقِطٌ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَفْعَلهُ مُج
فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرَحَ حَقِيقَةِ السَّرِقَةِ ؛ وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى خُفْيَةٍ من الْأَعْيُنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ قَطْعِ النَّبَّاشِ من مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ فِي كُتُبِهِ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ : السَّارِقُ هُوَ الْمُعْلِنُ وَالْمُخْتَفِي.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : هُوَ الْمُخْتَفِي، وَالْمُعْلِنُ عَادٍ. وَبِهِ نَقُولُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ من السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ بَيَّنَّا مَعْنَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ. وَقُلْنَا : إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ وَيَرِدَانِ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَلِلتَّعْيِينِ، وَكِلَاهُمَا تَعْرِيفٌ بِمَنْكُورٍ عَلَى مَرَاتِبَ ؛ فَإِنْ دَخَلَتْ لِتَخْصِيصِ الْجِنْسِ فَمِنْ فَوَائِدِهَا صَلَاحِيَةُ الِاسْمِ لِلِابْتِدَاءِ بهُ، كقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾.
و﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾.
وَإِنْ دَخَلَتْ لِلتَّعْيِينِ فَفَوَائِدُهُ مُقَرَّرَةٌ هُنَالِكَ، وَهِيَ إذَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ الْجِنْسِ أَفَادَتْ التَّعْمِيمَ فِيهِ بِحُكْمِ حَصْرِهَا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا صَالِحًا فِي رَبْطِهِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً.
وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كَمَا أَنْكَرُوا جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْخِيصِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ : عَامٌّ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَدًّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ من الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْمُجْمَلَ، وَلَا الْعَامَّ ؛ فَإِنَّ السَّرِقَةَ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً -إذْ لَيْسَتْ لَفْظَةً شَرْعِيَّةً بِاتِّفَاقٍ- رُبِطَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَخْصِيصًا، وَعُلِّقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ بِالْحُكْمِ رَبْطًا، فَقَدْ أَفَادَتْ الْمَقْصُودَ، وَجَرَتْ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالْعُمُومِ، إلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا :( وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ ) ؛ لِيُبَيِّنَ إرَادَةَ الْعُمُومِ.
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ لَك بِصِحَّةِ إرَادَةِ الْعُمُومِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ من ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ لِحَصْرِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْعُمُومُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ : وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ، وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ : هِيَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْي فِي هَذَا النَّصْبُ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْكَلَامِ تَقَدُّمَ الْفِعْلَ، وَهُوَ فِيهِ أَوْجَبُ، وَإِنَّمَا قُلْت زَيْدًا اضَرَبَهُ، وَاضْرِبْهُ مَشْغُولُهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِالْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ من الْإِضْمَارِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ.
قَالَ الْقَاضِي : أَصْلُ الْبَابِ قَدْ أَحْكَمْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَنُخْبِتُهُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ من فَاعِلٍ وَمَفْعُولِ، فَإِذَا أَخْبَرْت بِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ خَبَرًا غَرِيبًا كَانَ عَلَى سِتِّ صِيَغٍ :
الْأُولَى : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا. الثَّانِيَةُ : زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا. الثَّالِثَةُ : عَمْرًا ضَرَبَ زَيْدٌ. الرَّابِعَةُ : ضَرَبَ عَمْرًا زَيْدٌ. الْخَامِسَةُ : زَيْدٌ عَمْرًا ضَرَبَ. السَّادِسَةُ : عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ.
فَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ نَظْمٌ مُهْمَلٌ لَا مَعْنَى لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَجَاءَ من هَذَا جَوَازُ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ، كَمَا جَازَ تَقَدُّمُ الْفَاعِلِ، بَيْدَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمْت الْمَفْعُولَ بَقِيَ بِحَالِهِ إعْرَابًا، فَإِذَا قَدَّمْت الْفَاعِلَ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ فِي الْإِعْرَابِ، وَبَقِيَ الْمَعْنَى الْمُخْبَرُ عَنْهُ، وَحَدَثَ فِي تَرْتِيبِ الْخَبَرِ مَا أَوْجَبَ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى الِابْتِدَاءُ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْبَابِ الْأَدَوَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ لِتَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَوْ الْمَقَاصِدِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي التَّغْيِيرِ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْأَمْرِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ، تَقُولُ : اضْرِبْ زَيْدًا.
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءَ إيقَاعِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ هُنَالِكَ فَاعِلٌ سَقَطَ فِي إسْنَادِ الْفِعْلِ، وَثَبَتَ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ، وَتَكُونُ لَهُ صِيغَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ. وَالثَّانِيَةُ : زَيْدًا اضْرِبْ، كَمَا كَانَ فِي الْخَبَرِ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ صِيغَةٌ ثَالِثَةٌ، فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ مَفْعُولًا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهُ أَلَّا يَأْتِيَ إلَّا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ، وَلَكِنْ رَفَعُوهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ وُقُوعُهُ بِهِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ، ثُمَّ يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِيهِ، فَإِنْ اقْتَضَى وَلَمْ يُخْبِرْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَنْصُوبًا، وَإِنْ أَخْبَرَ وَلَمْ يَقْتَضِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَرْفُوعًا، فَهُمَا إعْرَابَانِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى من الْآخَرِ.
تَتْمِيمٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقُلْت : زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ فَإِنْ نَصَبْته فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ، وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى تَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدِ الْمُخْبِرِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ مَعَ النَّصْبِ اضْرِبْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، فَأَمَّا إذَا طَالَ الْكَلَامُ فَقُلْت : زَيْدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ كَانَ النَّصْبُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَطُولُ فَيَقْبُحُ الْإِضْمَارُ فِيهِ لِطُولِهِ. وَهَذَا قَالَبُ سِيبَوَيْهِ أَفْرَغْنَا عَلَيْهِ. وَأَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ، أَوْ كَانَتْ الْفَاءُ فِيهِ مُنَزَّلَةً عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِهِ فَإِنَّ الرَّفْعَ فِيهِ أَعْلَى ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ، فَلَا يَبْقَى لِتَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ إلَّا وَجْهٌ بَعِيدٌ ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ، لَا طَرِيقَ لِلْإِجْمَالِ إلَيْهَا، فَالسَّرِقَةُ تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ : فِعْلٌ هُوَ سَرِقَةٌ، وَسَارِقٌ، وَمَسْرُوقٌ مُطْلَقٌ، وَمَسْرُوقٌ مِنْهُ، وَمَسْرُوقٌ فِيهِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ مُتَعَلِّقَاتٍ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ عُمُومُهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ.
أَمَّا السَّرِقَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
وَأَمَّا السَّارِقُ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَهُوَ فَاعِلٌ من السَّرِقَةِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ مَعَانٍ :
الْعَقْلُ : لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا.
وَالْبُلُوغُ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا يَتَوَجَّه إلَيْهِ الْخِطَابُ شَرْعًا.
وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ : لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُثَافَنْ حَتَّى يَعْرِفَ الْأَحْكَامَ، وَادَّعَى الْجَهْلَ فِيمَا أَتَى من السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَظَهَرَ صِدْقُهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَالْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ من قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إنَّ من أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ من كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ من كَسْبِهِ ). وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إذَا وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَهَذَا الْأَبُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِصُورَةٍ السَّرِقَةِ فِي أَخْذِ الْمَالِ خِفْيَةً فَإِنَّ لَهُ فِيهِ سُلْطَانَ الْأُبُوَّةِ وَتَبَسُّطَ الِاسْتِيلَاءِ، فَانْتَصَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ : فَهُوَ كُلُّ مَالٍ تَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ، وَيَصْلُحُ عَادَةً وَشَرْعًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ لَمْ يَنْفَعْ تَعَلُّقُ الطَّمَاعِيَةِ فِيهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَثَلًا. وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ سَارِقِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْنَى فِيهِ. وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ. وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا شَوَاذٍّ، وَلَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ، بَلْ يَقْطَعُ الْمُنْصِفُ أَنَّ سَرِقَةَ التَّافِهِ لَغْوٌ، وَسَرِقَةَ الْكَثِيرِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً مَحْسُوبٌ، وَالْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَى الْفَصْلِ فِيهِ بِحَدٍّ تَقِفُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ، فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَحْدِيدَهُ بِرُبْعِ دِينَارٍ. وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَائِشَةَ :( مَا طَالَ عَلَيَّ وَلَا نَسِيت : الْقَطْعُ
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوك شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ من بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا من كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ }.
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ( أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَانَهُ ).
الثَّانِي : نَزَلَتْ فِي شَأْنِ ( [ بَنِي ] قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا [ لَهُ ] : إنَّ النَّضِيرَ يَجْعَلُونَ خَرَاجَنَا عَلَى النِّصْفِ من خَرَاجِهِمْ. وَيَقْتُلُونَ مِنَّا مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَإِنْ قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَّا وَدَوْهُ أَرْبَعِينَ وَسْقًا من تَمْرٍ ).
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ( الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا [ لَهُ ] : إنَّ رَجُلًا مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ، إنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ، فَأَتَوْا بِهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ. فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُجِمَا ). هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ [ وَالْبُخَارِيُّ ] وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :( إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ : ائْتُونِي عِلْمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ، فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمَرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ قَالَا : نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا. قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟ قَالَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّهُودِ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُخْتَارِ من ذَلِكَ :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ وَمَا قَالَ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَمَا شَكَوْهُ من التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ تَحْكِيمًا مِنْهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَكْوًى.
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، كِلَاهُمَا فِي وَصْفِ الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَكَّمُوهُ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ.
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُصَالَحُونَ، وَعُمْدَةُ الصُّلْحِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ تَعَرَّضُوا لَنَا وَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إلَيْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا رَفَعُوهُ ظُلْمًا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَةٍ، أَوْ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرِيعَةُ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ لَمْ يُمَكَّنْ بَعْضَهُمْ من بَعْضٍ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَيَحْكُمُونَنَا فِيهِ وَيَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ أَعْرَضَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ.
قُلْت : وَإِنَّمَا أَنْفَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، لِيُحَقِّقَ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ وَكَتْمَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ.
وَمِنْهُ صِفَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرَّجْمُ عَلَى مَنْ زَنَا مِنْهُمْ. وَعَنْهُ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ من الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ من آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ، وَحُجَجِهِ الْبَيِّنَةِ، وَبَرَاهِينِهِ الْمُثَبِّتَةِ لِلْأُمَّةِ، الْمُخْزِيَةِ لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي التَّحْكِيمِ من الْيَهُودِ :
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَكَمَ أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ إنْفَاذَ الْحُكْمِ حَقُّ الْأَسَاقِفَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا حَكَّمَ الزَّانِيَانِ الْإِمَامَ جَازَ إنْفَاذُهُ الْحُكْمَ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْأَسَاقِفَةِ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا لَنَفَذَ [ حُكْمُهُ ] وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْحَاكِمِ ؛ فَالْكِتَابِيُّونَ بِذَلِكَ أَوْلَى، إذْ الْحُكْمُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْحَاكِمِ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عِيسَى، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ؛ إنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا من أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ، وَكَانُوا حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ يَسْرَةُ، وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ، وَإِنْ أَفْتَى بِهِ فَاحْذَرُوهُ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ أَرَادَهَا اللَّهُ فِيهِمْ فَنَفَذَتْ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ : مَنْ أَعْلَمُ يَهُودَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : ابْنُ صُورِيَّا. فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ اللَّهَ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ طَبَعَ [ اللَّهُ ] عَلَى قَلْبِهِ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ.
وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ، فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ. . . . ﴾. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ :( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك ؛ فَهَؤُلَاءِ ) هُمْ الْجَوَاسِيسُ، وَلَمْ يَعْرِضْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ، وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ، وَكُلُّ مَنْ
فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ، قَالُوا : يَا مُحَمَّد : اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إخْوَاننَا بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ دَمٌ، وَكَانَتْ النَّضِيرُ تَتَعَزَّزُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي دِمَائِهَا وَدِيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالُوا : لَا نُطِيعُك فِي الرَّجْمِ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا، فَنَزَلَتْ :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾، وَنَزَلَتْ :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْمَعْنَى : فَمَا بَالُهُمْ يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ وَيَفْقَئُونَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ ؛ وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ خَاصَّةً، فَشَرَّفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَةَ بِالدِّيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ.
قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ : هَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.
وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ : هَذِهِ الْآيَةُ، إنَّمَا جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَأَخْذِهِمْ من قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ، وَأَخْذِهِمْ من قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَقَاصِدِ.
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ من بَعْضٍ ؛ ( عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : لَا، إلَّا مَا فِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا من قِرَابِ سَيْفِهِ، وَإِذَا فِيهِ : الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ ).
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾.
وَقَالَ :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ ؛ فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِر ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ، فَلَا تَسْتَوِي نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ الْمُبِيحَاتِ، وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ.
وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً حَسَنَةً، قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا ؛ فَإِذَا الْتَزَمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ -وَهُوَ الصَّحِيحُ- كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي مِلَّتِنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنَّا تُقَابِلُ نَفْسًا، فَأَمَّا مُقَابَلَةُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَّا بِنَفْسٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ من مُقْتَضَى الْآيَةِ، وَلَا من مَوَارِدِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ خَاصَّةً.
وَقَالَ غَيْرُهُ : يُوجِبُ ذَلِكَ أَخْذَ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَخْذَ أَطْرَافِهِ بِأَطْرَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَنَخُصُّ هَذَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ السَّلَامَةِ فِي الْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرَيْنِ : إنَّ نَقْصَ الرِّقِّ الْبَاقِيَ فِي الْعَبْدِ من آثَارِ الْكُفْرِ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ من السِّلَعِ يَصْرِفُهُ الْحُرُّ كَمَا يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ يُوجِبُ قَتْلَ الرَّجُلِ [ الْحُرِّ ] بِالْمَرْأَةِ [ الْحُرَّةِ ] مُطْلَقًا ؛ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ : يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاجُعِ، فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ خُيِّرَ وَلِيُّهَا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْعَقْلِ. وَقَتَلَ الرَّجُلَ. وَعُمُومُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ ).
وَالْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ فَقَدْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ فِي الدَّمِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ زِيَادَةٌ كَالرَّجُلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا تُقْتَل الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾.
قُلْنَا : هَذَا عُمُومٌ تَخُصُّهُ حِكْمَتُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ عَنْ الْقَتْلِ، فَلَوْ عَلِمَ الْأَعْدَاءُ أَنَّهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ لَقَتَلُوا عَدُوَّهُمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ، فَحَكَمْنَا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ رَدْعًا لِلْأَعْدَاءِ، وَحَسْمًا لِهَذَا الدَّاءِ، وَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَى هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ أَوْ الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. . . ﴾ الْآيَةَ ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ قَصْدَ بِذَلِكَ الْمُثْلَةَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ لَمْ يُمَثَّلْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّشَفِّيَ، وَإِمَّا إبْطَالَ الْعُضْوِ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْقَتْلُ يَأْتِي عَلَيْهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِقِصَاصٍ [ وَلَا انْتِصَافٍ ] ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ تَأَلَّمَ بِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ [ كُلِّهَا ] وَبِالْقَتْلِ، فَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْقِصَاصِ من أَنْ يَأْلَمَ كَمَا آلَمَ، وَبِهِ أَقُولُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾، وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ وَالْأُذُنَ وَالسِّنَّ وَتَرَكَ الْيَدَ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بِهَا يُفْعَلُ [ كُلُّ ] ذَلِكَ.
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْيَدَيْنِ، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، فَإِنَّ الْيُسْرَى لَا تُسَاوِي الْيُمْنَى ؛ فَتَرَكَ الْقَوْلَ فِيهَا لِتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾. ثُمَّ يَقَعُ النَّظَرُ فِيهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْيَدَ بِالْيَدِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ؛ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ، وَفِيهِ إشْكَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ قَرَأَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالنَّصْبُ إتْبَاعٌ لِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَالرَّفْعُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى حَالِ النَّفْسِ قَبْلَ دُخُولِ أَنْ.
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ :
لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَقَأَهَا، أَوْ أَذْهَبَ بَصَرَهَا وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا، أَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ.
وَقَدْ أَفَادَنَا كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ مِنْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِرْآةٍ فَحُمِّيَتْ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنًا، ثُمَّ أُخِذَتْ الْمِرْآةُ بِكَلْبَتَيْنِ فَأُدْنِيَتْ من عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ إنْسَانُ عَيْنِهِ.
فَلَوْ أَذْهَبَ رَجُلٌ بَعْضَ بَصَرِهِ فَإِنَّهُ تُعْصَبُ عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُ الْمَضْرُوبِ فَيُعَلَّمَ، ثُمَّ تُغَطَّى عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ، فَحَي
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
قِيلَ : نَزَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ :( جَاءَ ابْنُ صُورِيَّا، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ، فَقَالُوا لَهُ : نَحْنُ أَحْبَارَ يَهُودَ، إنْ آمَنَّا لَك آمَنَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ بِك، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْك لِتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ بِك وَنُصَدِّقُك ؛ فَأَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ قَوْمٌ : هَذَا نَاسِخٌ لِلتَّخْيِيرِ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا : مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ. وَهَذَا مَجْهُولٌ من هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى، وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك ﴾ :
قَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك، وَالْبَعْضُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ :
أَوْ يَغْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا ***. . .
وَيُرْوَى : أَوْ يَرْتَبِطْ. أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ﴿ بَعْضَ ﴾ عَلَى حَالِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ أَوْ الْحُكْمُ الَّذِي كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الْكُلِّ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ :
اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ، وَابْنِ أُبَيٍّ ؛ وَذَلِكَ ( أَنَّ عُبَادَةَ تَبَرَّأَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حِلْفِ قَوْمٍ من الْيَهُودِ كَانَ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ أُبَيٍّ بِهِمْ، وَقَالَ : إنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ ). الثَّانِي : كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَازِرونَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِيفٍ، وَكَانُوا يَمِيرُونَهُمْ وَيُقْرِضُونَهُمْ، فَقَالُوا : كَيْفَ نَقْطَعُ مَوَدَّةَ قَوْمٍ إذَا أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَاحْتَجْنَا إلَيْهِمْ وَسَعَوْا عَلَيْنَا الْمَنَازِلَ وَعَرَضُوا عَلَيْنَا الثِّمَارَ إلَى أَجَلٍ، فَنَزَلَتْ،
وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ ؛ فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي أَبِي لُبَابَةَ فَمُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى يَهُودِ إلَى حَلْقِهِ بِأَنَّهُمْ إنْ نَزَلُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الذَّبْحُ فَخَانَهُ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ لَا تَخُصُّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اتَّخَذَ بِالْيَمَنِ كَاتِبًا ذِمِّيًّا، فَكَتَبَ إلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ من أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، ، فَقَرَأَ :﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا، وَعَلَى هَذَا جَاءَ بَيَانُ تَمَامِ الْآيَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى عَامَّةً فِي نَفْيِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ من الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ إلَى الصَّلَاةِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ وَسَخِرُوا مِنْهُ ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَذَانِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا إنَّهُ ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا من النَّصَارَى، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : حُرِقَ الْكَاذِبُ، فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ من نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ، فَتَعَلَّقَتْ النَّارُ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ، وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ ؛ فَكَانَتْ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ. وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ.
وَقَدْ كَانُوا يُمْهِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ :( كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ، يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِلَّا أَغَارَ ) ؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ :( كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ فَيَجْتَمِعُونَ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ [ لِبَعْضٍ ] : اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ النَّصَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْل قَرْنِ الْيَهُودِ ؛ فَقَالَ عُمَرُ : أَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَا بِلَالُ ؛ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ ).
وَفِي الْمُوَطَّأ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ :( لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ فَيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا، فَقُلْت لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ، تَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ ؟ فَقَالَ لِي : مَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ فَقُلْت : نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ. قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ من ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : بَلَى. فَقَالَ : تَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. . . فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ.
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت، فَقَالَ : إنَّهَا لِرُؤْيَا حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ. فَفَعَلْت ). ( فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ خَرَجَ مُسْرِعًا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْحَمْدُ لِلَّهِ ).
وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَذَانِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِهِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ من طَرِيقَيْهِ : فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي الْعَمَلِ ؛ فَغُلُوُّهُمْ فِي التَّوْحِيدِ نِسْبَتُهُمْ لَهُ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ، وَغُلُوُّهُمْ فِي الْعَمَلِ مَا ابْتَدَعُوهُ من الرَّهْبَانِيَّةِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ ).
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ امْرَأَةً من اللَّيْلِ تُصَلِّي، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قِيلَ : الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ. فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، اكْلَفُوا من الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ).
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّا نَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَنَا فِي سُنَنِهِ، وَكَانَتْ الْكَفَرَةُ قَدْ شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ، وَشَبَّهَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْبَارِيَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ فِي مَصَائِبَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْأُصُولِ لَا تَقْصُرُ فِي الْبَاطِلِ عَنْ الْوَلَدِ، وَغَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْعَمَلِ حَتَّى تَرَهَّبَتْ وَتَرَكَتْ النِّكَاحَ، وَوَاظَبَتْ عَلَى الصَّوْمِ، وَتَرَكَتْ الطَّيِّبَاتِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي ﴾. وَسَنَكْشِفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا بِالِاخْتِصَارِ ؛ إذْ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِالطُّولِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَخُصُوصًا فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾. وَهِيَ :
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، جَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِ النَّصَارَى من تَحْرِيمِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ، وَإنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ وَالزِّينَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَتَرَهَّبُوا، وَلَا يَأْكُلُوا لَحْمًا وَلَا وَدَكًا ؛ وَقَالُوا : نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا فَعَلَ الرُّهْبَانُ.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَنْكِحُ النِّسَاءَ، وَيَأْكُلُ من الْأَطْعِمَةِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ، وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ، وَأَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَقَالَ لَهُمْ :﴿ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، فَشَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ ﴾.
وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
الثَّانِي : رُوِيَ ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ، فَانْقَلَبَ ابْنُ رَوَاحَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ. فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ : مَا عَشَّيْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ : كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا، فَانْتَظَرْتُك أَنْ تَأْتِيَ. قَالَ : حَرَمْت ضَيْفِي من أَجْلِي، فَطَعَامُك عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته. فَقَالَتْ هِيَ : وَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ لَمْ تُذَقْهُ.
وَقَالَ الضَّيْفُ : هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته إنْ لَمْ تَذُوقُوهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَالَ : قَرِّبِي طَعَامَك، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَغَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَحْسَنْت. وَنَزَلَتْ الْآيَةُ : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ :( فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا، فَنَزَلَتْ :﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ. . . ﴾ الآية.
الثَّالِثُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي إذَا أَصَبْت اللَّحْمَ انْتَشَرْت لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ، فَحَرَّمْت عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَنَزَلَتْ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. . . ﴾ إلَى ﴿ مُؤْمِنِينَ ﴾.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : صَحِيحَةُ الْإِرْسَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ظَنَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ طَرِيقُ مَنْ قَبْلَهُمْ من رَفْضِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ فَكَانَتْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَشَرِيعَتُنَا بِالسَّمْحَةِ الْحَنِيفِيَّةِ.
وَفِي الصَّحِيحِ ( أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ نَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّبَتُّلِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا ).
وَاَلَّذِي يُوجِبُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيِّهِ :﴿ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ ؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّبَتُّلَ بِفِعْلِهِ ؛ وَشَرَحَ أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ، وَلَيْسَ بِتَرْكِ الْمُبَاحَاتِ، ( وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا وَجَدَهُ، وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ تُبْتَاعُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا، وَيُكْثِرُ من الْوَطْءِ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ذَلِكَ )، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ لِسُنَّةِ عِيسَى فَلَيْسَ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا إذَا كَانَ الدِّينُ قِوَامًا، وَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ حَرَامًا ؛ فَأَمَّا إذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ، وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ وَتَرْكُ اللَّذَّاتِ أَوْلَى، وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالُ فَحَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ وَكَانَ داتشمند رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول : إذْ عَمَّ الْحَرَامُ وَطَبَقَ الْبِلَادَ، وَلَمْ يُوجَدْ حَلَالٌ اُسْتُؤْنِفَ الْحُكْمُ، وَصَارَ الْكُلُّ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبَهُ. وَأَنَا أَقُولُ : إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْقَاسٌ إذَا انْقَطَعَ الْحَرَامُ، فَأَمَّا وَالْغَصْبُ مُتَمَادٍ، وَالْمُعَامَلَاتُ الْفَاسِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ، وَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ من حَرَامٍ إلَّا إلَى حَرَامٍ فَأَشْبَهَ الْمَعَاشُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ قَدِيمُ الْمِيرَاثِ يَأْكُلُ من غَلَّتِهُ، وَمَا رَأَيْت فِي رِحْلَتِي أَحَدًا يَأْكُلُ مَالًا حَلَالًا مَحْضًا إلَّا سَعِيدًا الْمَغْرِبِيَّ، كَانَ يَخْرُجُ فِي صَائِفَةِ الْخِطْمِيِّ، فَيَجْمَعُ من زَرِيعَتِهِ قُوَّتَهُ وَيَطْحَنُهَا وَيَأْكُلُهَا بِزَيْتٍ يَجْلِبُهُ الرُّومُ من بِلَادِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِشَيْءٍ من الْحَلَالِ عَدَا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهُ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ.
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ؛ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ الْمُتَقَدِّمُ.
وَفِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ من أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُمْ ( أَنَّهُمْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْكَفَّارَةِ )، فَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَمَوْضِعُهَا سُورَةُ التَّحْرِيمِ، وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ فِي الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِعَوْنِهِ.
فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَغْوَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ الْمُنْفَعِلَةُ من الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا مُنْتَظِمًا، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ من ذَلِكَ بِلِسَانِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : صُورَةُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدَةٌ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا : قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَلْتَزِمَ بِذَلِكَ الِاحْتِفَاءِ، وَنَكْشِفَ عَنْهُ الْخَفَاءَ، فَنَقُولُ :
إنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مَا قُلْنَاهُ. وَاللَّغْوَ ضِدُّهُ وَالْيَمِينَ اللَّغْوَ سَبْعُ مُتَعَلِّقَاتٍ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ : الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ : الْيَمِينُ مَعَ النِّسْيَانِ، فَلَا شَكَّ فِي إلْغَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذْ قَصَدَ زَيْدًا فَتَلَفَّظَ بِعَمْرو فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ قَصْدِهِ، فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ يُحْكَى.
وَالْمُتَعَلِّقُ الثَّالِثُ : فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، فَيَنْزِلْ بِهِ كَذَا، فَهَذَا قَوْلٌ لَغْوٌ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ فِي الْعَقْدِ مَكْرُوهٌ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( لَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَرُبَّمَا صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهَا ).
وَالْمُتَعَلِّقُ الرَّابِعُ : فِي يَمِينِ الْمَعْصِيَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً، وَالْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ مَعْصِيَةً، وَيُقَالُ لَهُ : لَا تَفْعَلْ فَكَفَّرَ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ فَجَرَ فِي إقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ أَوْ الْكَفَّ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَأَتَّى فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ.
وَالْمُتَعَلِّقُ الْخَامِسُ : فِي يَمِينِ الْغَضَبِ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ : يَمِينُ الْغَضَبِ لَا يَلْزَمُ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ يُرْوَى :﴿ لَا يَمِينَ فِي إغْلَاقٍ ﴾، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ، وَالْإِغْلَاقُ : الْإِكْرَاهُ ؛ لِأَنَّهُ تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَتَرُدُّهُ إلَى مَقْصِدِهِ، وَقَدْ ( حَلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ). وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ جِدًّا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ : لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : نَزَلَتْ :﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ : لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ.
قُلْنَا : هَذَا صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَكْثَرَ الرَّجُلُ فِي يَمِينِهِ من قَوْلِ : لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، عَلَى أَشْيَاءَ يَظُنُّهَا كَمَا قَالَ، فَتَخْرُجُ بِخِلَافِهِ.
أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : قِسْمًا يُظَنُّ وَقِسْمًا يُعْقَدُ، فَلَا يُؤَاخَذُ مِنْهَا فِيمَا وَقَعَ عَلَى ظَنٍّ، وَيُؤَاخَذُ فِيمَا عَقَّدَ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ قَوْلَهُ : لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، فِيمَا يَعْتَقِدُهُ وَيُعَقِّدُهُ أَنَّهُ لَغْوٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَالتَّهَافُتِ بِهِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ ؛ فَنُهِيَ عَنْهَا وَلَا يُؤَاخَذُ إذَا فَعَلَهَا.
هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ الْقَوْلُ اللَّغْوُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَأَنَّهُ الْيَمِينُ عَلَى ظَنٍّ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي أَيِّ قِسْمٍ هِيَ ؟
قُلْنَا هِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى وَدَاهِيَةٌ كُبْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَقَدْ أَفَضْنَا فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَوَجْهُ إشْكَالِهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ، فَلَا تَقَعُ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ الْمُنْعَقِدَةِ، تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَحَلُّهُ طَوِيلٌ ؛ اخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ : لَغْوٌ، وَمُنْعَقِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي أَيْمَانِ النَّاسِ ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَلَا يَرْضَى بِهَا ذُو دِينٍ أَوْ مُرُوءَةٍ، وَيَحِلُّ الْإِشْكَالُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قِسْمَيْ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ، فَدَعْ مَا بَعْدَهَا يَكُونُ مِائَةَ قِسْمٍ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُنْعَقِدَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَلْبِ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْنَا : عَقْدُ الْقَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ عَقْدًا إذَا تُصُوِّرَ حِلُّهُ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي صَوَّرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي يَمِينِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا ؛ فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِي الْكَفَّارَةِ، هَذَا وَقَدْ فَارَقَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْحِلَّ. وَكَيْفَ تَنْعَقِدُ ؟ وَقَدْ مَهَدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ :
قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ، وَهِيَ رَبْطُ الْعَقْدِ بِالِامْتِنَاعِ وَالتَّرْكِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ بِمَعْنَى مُعَظَّمٍ حَقِيقَةً أَوْ اعْتِقَادًا.
وَالْمُعَظَّمُ حَقِيقَةً، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ. وَالْمُعَظَّمُ اعْتِقَادًا، كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ. وَالْحُرِّيَّةُ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَهُ، لِاعْتِقَادِهِ عَظِيمَ مَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ.
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ). فَسَمَّى الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَالِفًا.
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ من جِهَةِ النَّذْرِ لَا من جِهَةِ الْيَمِينِ. وَالنَّذْرُ يَمِينٌ حَقِيقَةً، وَلِأَجْلِهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ). وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : أَقْسَمْت عَلَيْك، أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا إذَا قَصَدَ بِاَللَّهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُذْكَرَ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. قُلْنَا : إنْ كَانَ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَقَدْ نَوَاهُ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ).
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَهِيَ يَمِينٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَالَ : وَعِلْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا. وَظَنَّ قَوْمٌ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ : إذَا حَلَفَ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتْ يَمِينًا. وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْمُحْدَثُ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَذُهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ أَيْضًا تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَقْدُورِ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي الْمَعْلُومِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِ
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ :( اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْعَقْلَ وَالْمَالَ ) فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ :﴿ يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ﴾. فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ :" اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ :" اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . . ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ مُنْتَهُونَ ﴾ ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ :( انْتَهَيْنَا. انْتَهَيْنَا ).
وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُلَاحَاةٍ جَرَتْ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ من الْأَنْصَارِ. وَهُمَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا، وَقَدْ انْتَشَيَا، فَتَفَاخَرَتْ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ، فَأَخَذَ الْأَنْصَارِيُّ لَحْيَيْ جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَفَزَرَهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنِ عِتْبَانَ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْآيَةِ كَمَا رَوَى الطَّبَرِيُّ، فَيُدْعَى عُمَرُ فَتُقْرَأُ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَصَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ : فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ رِجْسٌ ﴾ :
وَهُوَ النَّجَسُ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ ( أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ : إنَّهَا رِكْسٌ } أَيْ نَجَسٌ.
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :( أَعُوذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، الرِّجْسِ النَّجِسِ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ ).
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ من طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ، فَيَكُفُّ عَنْهَا، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ : يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً ؛ وَهَذَا أَمْرٌ بِاجْتِنَابِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ الْفَلَاحُ.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ من الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا، وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ آثَارَ مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا إخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ. . . ﴾ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ : كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ، وَرُوِيَ : بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الصَّلَاةِ حِينَ أَمَّ النَّاسَ، فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ :
فَقَالَ عُمَرُ : انْتَهَيْنَا. حِينَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، ( وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ : أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ؛ فَكُسِرَتْ الدِّنَانُ، وَأُرِيقَتْ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إلَّا من الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ }، وَهَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ﴾ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ. قَالَ : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. أَمَّا عِقَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى الْمُرْسِلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي ؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : اُخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ ؟ قَالَ : فَخَرَجْت، فَقُلْت : هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي : أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ لِي : اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، وَكَانَ الْخَمْرُ من الْفَضِيخِ. قَالَ : فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا. . . ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ الْمُحْسِنِينَ ﴾. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ صَحِيحًا عَنْ الْبَرَاءِ أَيْضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ : إذَا مَا طَعِمُوا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّرْبِ طَعَامًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . . ﴾ إلَى :﴿ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : اتَّقَوْا فِي اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، وَاتَّقَوْا فِي الثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَاتَّقَوْا فِي لُزُومِ النَّوَافِلِ ؛ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ.
الثَّانِي : اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي غَيْرِهَا من الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا، ثُمَّ اتَّقَوْا فِي الَّذِي بَقِيَ من أَعْمَارِهِمْ، فَاجْتَنَبُوا الْعَمَلَ الْمُحَرَّمَ.
الثَّالِثُ : اتَّقَوْا الشِّرْكَ، وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا الْحَرَامَ، ثُمَّ اتَّقَوْا تَرْكَ الْإِحْسَانِ، فَيَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ.
وَقَدْ صُرِفَتْ فِيهَا أَقْوَالٌ عَلَى قَدْرِ وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَأَشْبَهُهَا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَبِالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَكَانَ عُمَرُ من بَعْدِهِ يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ من الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شَرِبَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ، فَقَالَ : أَتَجْلِدُنِي، بَيْنِي وَبَيْنَك كِتَابُ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ :" أَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَلَّا أَجْلِدَك ؟ " فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا. . . ﴾ الْآيَةَ ؛ فَأَنَا من الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا.
فَقَالَ عُمَرُ :( أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ ) ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ عُذْرًا لِمَنْ صَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . . ﴾ الْآيَةَ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى ؛ فَإِنْ كَانَ من الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ.
فَقَالَ عُمَرُ :( صَدَقْت، مَاذَا تَرَوْنَ ) ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ :( إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي جَلْدُ ثَمَانِينَ ). [ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ].
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ : اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَقَدْ كَانَ شَهِدُ بَدْرًا، وَهُوَ خَالُ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ زَادَ الْبَرْقَانِيُّ : فَقَدِمَ الْجَارُودُ من الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا، وَإِنِّي إذَا رَأَيْت حَدًّا من حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى حُقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ إلَيْك. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ :( مَنْ يَشْهَدُ لِي عَلَى مَا تَقُولُ ؟ ) فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ.
فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ :( عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ) ؟ فَقَالَ :( لَمْ أَرَهُ حِينَ شَرِبَ، وَقَدْ رَأَيْته سَكْرَانَ يَقِيءُ ). فَقَالَ عُمَرُ :( لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي الشَّهَادَةِ ).
ثُمَّ كَتَبَ عُمَرَ إلَى قُدَامَةَ وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ : أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ :( أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ ) ؟ فَقَالَ الْجَارُودُ : أَنَا شَهِيدٌ. قَالَ :( قَدْ كُنْت أَدَّيْت الشَّهَادَةَ ). فَسَكَتَ الْجَارُودُ، ثُمَّ قَالَ : لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي أَنْشُدُك اللَّهَ. فَقَالَ عُمَرُ :( أَمَا وَاَللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ لِسَانَك أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ ). فَقَالَ الْجَارُودُ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ بِالْحَقِّ أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّك وَتَسُوءَنِي : فَتَوَعَّدَهُ عُمَرُ.
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ :( يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ كُنْت تَشُكُّ فِي شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ ). فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى هِنْدَ يَنْشُدُهَا بِاَللَّهِ، فَأَقَامَتْ هِنْدُ عَلَى زَوْجِهَا قُدَامَةَ الشَّهَادَةَ. فَقَالَ عُمَرُ :( يَا قُدَامَةُ ؛ إنِّي جَالِدُك ). فَقَالَ قُدَامَةُ : وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت كَمَا تَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ. قَالَ :( لِمَ يَا قُدَامَةُ ؟ ) قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا. . . ﴾ الْآيَةَ إلَى :﴿ الْمُحْسِنِينَ ﴾. فَقَالَ عُمَرُ :( إنَّك أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ ؛ إذَا اتَّقَيْت اللَّهَ اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ ).
ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ :( مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ ) فَقَالَ الْقَوْمُ : لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى جَلْدِهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ :( مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ ) فَقَالُوا : لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا. فَقَالَ عُمَرُ :( إنَّهُ وَاَللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ تَحْتَ السَّوْطِ أَحَبُّ إلَيَّ من أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَهِيَ فِي عُنُقِي، وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ ). فَجَاءَ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ :( قَدْ أَخَذْتُك بِإِقْرَارِ أَهْلِكَ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا ). قَالَ : فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ، فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ، فَحَجَّا وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ، حَتَّى قَفَلُوا من حَجِّهِمْ، وَنَزَلَ عُمَرُ بِالسُّقْيَا وَقَامَ بِهَا ؛ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ قَالَ :( عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ لِي : سَالِمْ قُدَامَةُ فَإِنَّهُ أَخُوكَ ). فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ ؛ فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ صُلْحِهِمَا.
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعُمَرَ فِي حَدِيثِ الْبَرْقَانِيِّ، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ لَا يُحَدُّ عَلَى الْخَمْرِ مَا حُدَّ أَحَدٌ، فَكَانَ هَذَا من أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ، وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا | عَلَى شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت عَلَى عُمَرَ |
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُحْرِمْ بَعْضُهُمْ فَكَانَ إذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، خَاطَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا كُلَّ مُسْلِمٍ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَتَهَا، وَأَوْضَحْنَا -فِيمَا تَقَدَّمَ- مَعْنَاهَا فِي كُلِّ آيَةٍ تَجْرِي عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْمُحِلُّونَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَتَعَلَّقَ مَنْ عَمَّمَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ مُطْلَقٌ فِي الْجَمِيعِ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ خَصَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ :﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ؛ فَإِنَّ تَكْلِيفَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ.
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ :﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ الَّذِي يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ من أُمُورِ الصَّيْدِ، وَمَا شُرِعَ لَهُ من وَظِيفَةٍ فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ، وَالْإِبَاحَةُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ يُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِهِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ : لَا أَصْلَ فِي شَيْءٍ إلَّا مَا أَصَّلَهُ الشَّرْعُ بِتِبْيَانِ حُكْمِهِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ من حِلٍّ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَوُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ لِمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ، حَتَّى قِيلَ الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ. وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَقُلْنَا : إنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ فَلَا يُحَرِّمُهُ أَكْلُ الْكَلْبِ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ. ثُمَّ ذَكَرْنَا التَّعَارُضَ فِيهِ وَالِانْفِصَالَ عَنْهُ، فَلْيُنْظَرْ فِي مَوْضِعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ من الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ فَكُلُّ شَيْءٍ يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ، أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ من سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ، فَهُوَ صَيْدٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : صَيْدُ الذِّمِّيِّ : قَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ صَيْدُ الذِّمِّيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَلِّينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ، لِاخْتِصَاصِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ.
وَلَيْسَ هَذَا من بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ بِخِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ من بَابِ أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ مَنْطُوقٌ بِهِ، مُبَيَّنٌ حُكْمُهُ، وَالثَّانِي مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى مَا نُطِقَ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ﴾.
قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ طَعَامِهِمْ. وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذِكْرِ الطَّعَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : نَقِيسُهُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ نَوْعُ ذَكَاةٍ، فَجَازَ من الذِّمِّيِّ كَذَبْحِ الْإِنْسِيِّ.
قُلْنَا : لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِمَّا يُذَكَّى شُرُوطٌ، وَلِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ شُرُوطٌ أُخَرُ ؛ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضُوعٌ وُضِعَ عَلَيْهِ، وَمَنْصِبٌ جُعِلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ فِيمَا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُ فِي الْأَصْلِ ؛ وَهَذَا فَنٌّ من أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : أَمَّا صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ : فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاقِعَ مِنْهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ؛ وَالْمَجُوسِيُّ إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ، وَيَفْعَلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إذَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك الْمُعَلَّمِ فَكُلْ ).
فَإِنْ قِيلَ : فَالذِّمِّيُّ لَا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ.
قُلْنَا : لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الذِّمِّيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الِالْتِزَامُ. وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يُؤْكَلُ فَلِمُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ عَلَى أَحَدِ الْأَدِلَّةِ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي نَأْكُلُهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَاطَبُوا بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ يَكُونُ كَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَهَذَا كُلُّهُ مُتَرَدِّدٌ عَلَى الْآيَاتِ بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فِيهَا.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ أَكْلِ صَيْدِهِ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ حَبِيبٍ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِه :﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ لَيُكَلِّفَنَّكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ التَّكْلِيفَ بَعْدَهُ فَقَالَ ؛ وَهِيَ :
فِيهَا ثَمَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ :﴿ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ ﴾ :
وَالْقَتْلُ : كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ، وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ ؛ فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا لِلرُّوحِ، وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى نَفْسَ الِاصْطِيَادِ ؛ فَقَالَ :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ كُلِّ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ الشَّارِعِ بِالْأَعْيَانِ، فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْمقولُ فِيهِ : لَا تَقْرَبُوهُ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ : لَا تَتْرُكُوهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَامًّا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ ذَكَاةٌ ؛ وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ من أَهْلِهِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ، مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ، فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ من حِلِّ الْأَكْلِ من أَصْلِهِ ذَبْحِ الْحَلَالِ.
وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى دَعْوَى ؛ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ ؛ إذْ الْأَهْلِيَّةُ لَا تُسْتَفَادُ عَقْلًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي الذَّبْحِ ؛ أَوْ يَنْفِيهَا الشَّرْعُ أَيْضًا ؛ وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ الذَّبْحِ. وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ ؛ فَقَدْ انْتَفَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ، فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ، فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَا يُفِيدَهُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ. وَإِذَا بَطَلَ مَنْزَعُ الشَّافِعِيِّ وَمَأْخَذُهُ فَقَدْ اعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَبْحٌ مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ، فَلَا يَجُوزُ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ، وَهَذَا صَحِيحٌ. فَإِنَّ الَّذِي قَالَ :﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ هُوَ الْقَائِلُ :﴿ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾. وَالْأَوَّلُ : نَهْيٌ عَنْ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ ؛ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ. وَالثَّانِي : نَهْيٌ عَنْ السَّبَبِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِهِ شَرْعًا، فَلَا يُفِيدُ مَقْصُودُهُ حُكْمًا، وَهَذَا من نَفِيسِ الْأُصُولِ فَتَأَمَّلُوهُ.
وَقَوْلُ عُلَمَائِنَا : لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ فِيهِ احْتِرَازٌ من السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْكَالَّةِ وَمِلْكِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ من التَّذْكِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ وَلَا فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُحَرَّمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ ؛ فَجَعَلَ الْقَتْلَ مُنَافِيًا لِلتَّذْكِيَةِ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الذَّبْحِ لِلْأَكْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ وَلَدِي فَهُوَ عَاصٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي فَإِنَّهُ يَفْتَدِيه بِشَاةٍ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَيَانُهُ.
وَالْمِقْدَارُ الْمُتَعَلِّقُ مِنْهُ هَاهُنَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ من أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ بِمُطْلَقِهِ وَلَا الْخَنْقَ، وَلَا يُعَدُّ من بَابِ الذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ اللَّذَيْنِ شُرِعَا فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِتَطْيِيبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ جَرَى عُمُومُهُ عَلَى كُلِّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ، حَتَّى جَاءَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾ ؛ فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إبَاحَةً مُطْلَقَةً، وَحَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِينَ ؛ فَصَارَ هَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِ صَيْدِ الْبَحْرِ من النَّهْيِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ عَامٌّ فِي التَّحْرِيمِ بِالزَّمَانِ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِالْمَكَانِ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَامِ، إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ كَانَ، مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، سَبُعًا أَوْ غَيْرَ سَبُعٍ، ضَارِيًا أَوْ غَيْرَ ضَارٍ، صَائِلًا أَوْ سَاكِنًا ؛ بَيْدَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ عَنْهُ وَتَخْصِيصِهِ مِنْهَا ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْمَضَرَّةِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمِنْ الطَّيْرِ كَالْغُرَابِ وَالْحَدَأَةِ ؛ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِنَا فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، وَخَالَفَنَا فِي السَّبُعِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَغَيْرِهَا من السِّبَاعِ، فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ بِقَتْلِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ إلَّا السَّمْعُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( خَمْسٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ ). وَفِي رِوَايَةٍ :( يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ). وَفِي رِوَايَةٍ :( الْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ) خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ. وَفِيهِ ( الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ ) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ :﴿ السَّبُعُ الْعَادِي ﴾ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْأَجْنَاسِ.
أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْفِسْقُ بِالْإِذَايَةِ، وَأَمَّا الْأَجْنَاسُ فَنَبَّهَ بِكُلِّ مَذْكُورٍ عَلَى نَوْعٍ من الْجِنْسِ وَذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ بِعِلَّةِ الْعَقْرِ الْفَهْدُ وَالسَّبُعُ، وَلَا سِيَّمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ من طَرِيقِ السِّجْزِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ.
وَالْعَجَبُ من أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ يَحْمِلَ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ، وَلَا يَحْمِلَ السِّبَاعَ الْعَادِيَةَ عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ لَحْمَهَا لَا يُؤْكَلُ فَهِيَ مَعْقُورَةٌ لَا جَزَاءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ كَالْخِنْزِيرِ.
وَأَمَّا إنْ قُلْنَا : إنَّهَا تُؤْكَلُ فَفِيهَا الْجَزَاءُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ مَأْكُولٌ.
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي أَكْلِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى. وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ صَيْدٌ تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ أَنَّهُ يُقْصَدُ لِأَجْلِ جِلْدِهِ، وَالْجِلْدُ مَقْصُودٌ فِي الْمَالِيَّةِ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ فِي الْأَكْلِ. قُلْنَا : لَا تُسَمِّي الْعَرَبُ صَيْدًا إلَّا مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ كَانَتْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عِنْدَ الْعَرَبِ صَيْدًا.
فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ دُونَ الْأَسْمَاءِ.
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ، إنَّ الصَّيْدَ لَا يُعْرَفُ إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ. وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّرْعَ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ دُونَ الْأَسْمَاءِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَابِعَةٌ لِلْأَسْمَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : فِيهَا جَزَاءٌ ؛ قَالَ : نَعَمْ، كَبْشٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ أَكْ
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ﴾ : عَامٌّ فِي الْمُحِلِّ وَالْمُحْرِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ من جِهَةِ التَّقْسِيمِ وَالتَّنْوِيعِ قَبْلَ هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ الْبَحْرِ ﴾ :
هُوَ كُلُّ مَاءٍ كَثِيرٍ، وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَدَائِنُ بِحَارًا. وَيُقَالُ لِلْبَلْدَةِ : الْبَحْرَةُ وَالْبُحَيْرَةُ ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا ؛ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ : إنَّ الْبَحْرَ الْبِلَادُ، وَالْبَرَّ الْفَيَافِي وَالْقِفَارُ.
وَفَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَرًّا وَبَحْرًا وَهَوَاءً، وَجَعَلَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ من هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الثَّلَاثَةِ عِمَارَةً، فَعِمَارَةُ الْهَوَاءِ الطَّيْرُ، وَعِمَارَةُ الْمَاءِ الْحِيتَانُ، وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ، وَجَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى شُرُوطٍ وَتَنْوِيعٍ، هِيَ مُبَيَّنَةٌ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ صَيْدُ الْبَحْرِ ﴾ :
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا صِيدَ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الثَّانِي : هُوَ حِيتَانُهُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ : السَّمَكُ الْجَرِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَرْجِعُ إلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ حِيتَانُهُ تَفْسِيرًا، وَيَرْجِعُ من طَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا حُووِلَ أَخْذُهُ بِحِيلَةٍ وَعَمَلٍ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ : مَا صِيدَ مِنْهُ، وَهُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ :( أُحِلَّ لَكُمْ أَخْذُ مَا فِي الْبَحْرِ من الْحِيتَانِ بِالْمُحَاوَلَةِ، وَأُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ، وَهُوَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ ) وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ وَلَا حِيلَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا طَفَا عَلَيْهِ مَيْتًا.
وَالثَّانِي : مَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَأَخَذَهُ النَّاسُ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَطَعَامُهُ ﴾ :
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا جَزَرَ عَنْهُ.
وَالثَّانِي : مَا طَفَا عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقَتَادَةُ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْنٍ عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ : صَيْدُ الْبَحْرِ مَا صِيدَ، وَطَعَامُهُ مَيْتَتُهُ.
الثَّالِثُ : مَمْلُوحُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ ).
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ.
وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ). وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَلَا كَلَامَ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ حَرَامٌ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ﴾ وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ من غَيْرِ ذَكَاةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَخُصُّ هَذَا الْعُمُومَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ بِهِ الْخَلِيفَتَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَثَبَتَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ ( عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَا تَقَدَّمَ من أَكْلِهِمْ الْحُوتَ الْمَيِّتَ فِي غُزَاةِ سَيْفِ الْبَحْرِ، وَمِنْ ادِّخَارِهِمْ مِنْهُ جُزْءًا، حَتَّى لَقُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَ مِنْهُ ).
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ إنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَا يُحَرَّمُ بِالْإِحْرَامِ، وَمَا لَا يُحَرَّمُ بِهِ، لَا لِبَيَانِ مَا حَرُمَ بِنَفْسِهِ. وَإِنَّمَا بَيَانُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ. . . ﴾ إلَى آخِرِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ السَّمَكُ الْمَذْكُورُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ. وَهَذِهِ عُمْدَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
قُلْنَا : هَذَا قَلْبُ الْمَبْنَى، وَإِفْسَادُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ تَحْلِيلِ الصَّيْدِ، وَهُوَ أَخْذُ مَا لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَلَا أَنَسَ لَهُ بِهِ، وَصِفَةُ تَذْكِيَتِهِ حَتَّى يَحِلَّ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ بِهِ الْمُحِلِّينَ، فَبَيَّنَ رُكْنَ التَّحْلِيلِ فِي ذَلِكَ وَأَخْذَهُ بِالْقَهْرِ وَالْحِيلَةِ فِي كِبَارِهِ، وَبِالْيُسْرِ فِي صِغَارِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَ تَحْلِيلَ صَيْدِ الْبَحْرِ فِي بَابِهِ، وَزَادَ مَا لَا يُصَادُ مِنْهُ ؛ وَإِنَّمَا يَرْمِيهِ الْبَحْرُ رَمْيًا، ثُمَّ قَيَّدَ تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ خَاصَّةً بِالْإِحْرَامِ، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ.
فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ وَأَجْنَاسُهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ﴾ فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَهُ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ، فِي مَيْتَةِ الْمَاءِ خَاصَّةً.
وَأَمَّا حَدِيثُ :( أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ) ؛ فَلَمْ يَصِحَّ فَلَا يَلْزَمُنَا عَنْهُ جَوَابٌ، ثُمَّ نَقُولُ : إنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ : السَّمَكُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا فِي الْبَحْرِ، اسْمٌ عَامٌّ. وَقَدْ يُطْلَقُ بِالْعُرْفِ فِي بَعْضِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا لِبَعْضِ الْحُوتِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ سَمَكٌ دُونَ سَائِرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ( أَبِي عُبَيْدَةَ : إنَّهُمْ أَكَلُوهُ وَهُمْ مُسَافِرُونَ، وَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُقِيمٌ ) ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَلَالٌ لِمَنْ أَقَامَ، كَمَا أَحَلَّهُ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ لِمَنْ سَافَرَ.
الثَّانِي : أنَّ السَّيَّارَةَ هُمْ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ :( أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْعَرَكِيُّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ من الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ لَهُ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَلَوْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :" نَعَمْ " لَمَا جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُرْتَبِطٌ بِالسُّؤَالِ. وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَدَأَ بِتَأْسِيسِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ الشَّرْعِ ؛ فَقَالَ :( هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ). فَزَادَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ جَوَابَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ :( هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ) ابْتِدَاءً.
الثَّانِي :( الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ).
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾ :
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالٍ ؛ فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾ إنْ كَانَ الصَّيْدُ الْفِعْلَ فَمَعْنَاهُ مَعَ الِاصْطِيَادِ كُلِّهِ عَلَى أَنْوَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الصَّيْدِ الْمَصِيدَ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ ؛ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ : حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ، وَهَذَا من غَرِيبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَفْعَالِ، وَتَفْسِيرُ وَجْهِ التَّعَلُّقِ ؛ فَصَارَ الصَّيْدُ فِي الْبَرِّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ مُمْتَنِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ، وَكَانَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ كَإِضَافَةِ الْخَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ وَالْمَيْتَةِ ؛ إذْ أنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ " أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ :( خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ أَبْصَرْت أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ، فَنَظَرْت فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، فَأَسْرَجْت فَرَسِي، وَأَخَذْت رُمْحِي، ثُمَّ رَكِبْت، فَسَقَطَ سَوْطِي، فَقُلْت لِأَصْحَابِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ : نَاوِلُونِي السَّوْطَ. فَقَالُوا : وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْت فَتَنَاوَلْته، ثُمَّ رَكِبْت فَأَدْرَكْته من خَلْفِهِ، وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ، فَطَعَنْته بِرُمْحِي، فَعَقَرْته، فَأَتَيْت بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَ
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ جَعَلَ اللَّهُ ﴾ : وَهُوَ يَتَصَرَّفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : بِمَعْنَى سَمَّى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ بِمَا يَنْبَغِي.
الثَّانِي : بِمَعْنَى خَلَقَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ :﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾.
الثَّالِثُ : بِمَعْنَى صَيَّرَ، كَقَوْلِك، جَعَلْت الْمَتَاعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ.
وَتَحْقِيقُهُ هَاهُنَا خَلَقَ ثَانِيًا وَصْفًا لِشَيْءٍ مَخْلُوقٍ أَوَّلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَعْبَةَ وُجُودًا أَوَّلًا، ثُمَّ خَلَقَ فِيهَا صِفَاتٍ ثَانِيًا، فَ ( خَلَقَ ) عَامٌّ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَ ( جَعَلَ ) خَاصٌّ فِي الثَّانِي خَبَرٌ عَنْ الصِّفَاتِ الَّتِي فِيهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْكَعْبَةُ ﴾ :
وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِتَرَبُّعِهَا ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِنُتُوئِهَا وَبُرُوزِهَا ؛ فَكُلُّ نَاتِئٍ بَارِزٌ كَعْبٌ، مُسْتَدِيرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَدِيرٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، يُقَالُ : كَعَبَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ ؛ وَهَذِهِ صِفَتُهَا هُنَا، وَقَدْ شَرَحْنَا أَمْرَهَا فِي ( إيضَاحِ الصَّحِيحَيْنِ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾ :
سَمَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْتًا ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ سَقْفٍ وَجِدَارٍ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْبَيْتِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سَاكِنٌ ؛ وَلَكِنْ جَعَلَ لَهَا شَرَفَ الْإِضَافَةِ بِقَوْلِهِ :﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ ﴾. وَقَالَ :﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾. عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ الْحَرَامَ ﴾ :
سَمَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِ إيَّاهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا لَهُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً من نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ). رَوَاهُ الْكُلُّ من الْأَئِمَّةِ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ ( قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ : أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ ؟ قُلْنَا : بَلَى. قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ : أَلَيْسَ الْبَلْدَةُ ؟ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّمَا أُمِرْت أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ :( أَلَيْسَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ).
وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : حَرَّمَهَا أَيْ بِعِلْمِهِ وَكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ وَإِخْبَارِهِ بِتَحْرِيمِهَا وَخَلْقِهِ لِتَحْرِيمِهَا، كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ، وَإِلَيْهِ مَنْسُوبٌ.
فَإِنْ قِيلَ : وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ حَرَّمَهَا ؟ قُلْنَا : من سَطْوَةِ الْجَبَابِرَةِ وَمِنْ ظَلَمَةِ الْكُفْرِ فِيهَا بَعْدَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( لِيُخَرِّبَن الْكَعْبَةَ ذُو السَّوِيقَتَيْنِ من الْحَبَشَةِ ).
قُلْنَا : هَذَا عِنْدَ انْقِلَابِ الْحَالِ، وَانْقِضَاءِ الزَّمَنِ، وَإِقْبَالِ السَّاعَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ الْآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ :
قِيَامُ الشَّيْءِ قَوَامُهُ وَمِلَاكُهُ أَيْ يَقُومُونَ بِهِ قِيَامًا، كَمَا قَالَ :﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ ؛ أَيْ يَقُومُونَ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
[ الْأَوَّلُ ] : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : قِيَامًا لِلنَّاسِ، أَيْ صَلَاحًا.
الثَّانِي : قِيَامًا لِلنَّاسِ ؛ أَيْ أَمْنًا.
الثَّالِثُ : يَعْنِي فِي الْمَنَاسِكِ وَالْمُتَعَبِّدَات ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَدْخُلُ فِيهِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ من الصَّلَاحِ، وَيَدْخُلُ التَّمَكُّنُ من الْمَنَاسِكِ وَالْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ لِكُلٍّ مَصْلَحَةً.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي الْجِبِلَّةِ أَخْيَافًا يَتَقَاطَعُونَ تَدَابُرًا وَاخْتِلَافًا، وَيَتَنَافَسُونَ فِي لَفِّ الْحُطَامِ إسْرَافًا، لَا يَبْتَغُونَ فِيهِ إنْصَافًا، وَلَا يَأْتَمِرُونَ فِيهِ بِرُشْدٍ اعْتِرَافًا، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ الْمَمْلَكَةَ، وَصَرَفَ أُمُورَهُمْ إلَى تَدْبِيرِ وَاحِدٍ يَزَعُهُمْ عَنْ التَّنَازُعِ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّأَلُّفِ من التَّقَاطُعِ، وَيَرْدَعُ الظَّالِمَ عَنْ الْمَظْلُومِ، وَيُقَرِّرُ كُلَّ يَدٍ عَلَى مَا تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ حَقًّا، وَيَسُوسُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ لُطْفًا وَرِفْقًا، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ صِدْقَ ذَلِكَ وَصَوَابَهُ، وَأَرَاهُمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالتَّجْرِبَةِ صَلَاحَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَمَآلِهِ، وَلَقَدْ يَزَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ، فَالرِّيَاسَةُ لِلسِّيَاسَةِ وَالْمُلْكُ لِنَفْيِ الْمُلْكِ، وَجَوْرُ السُّلْطَانِ عَامًا وَاحِدًا أَقَلُّ إذَايَةً من كَوْنِ النَّاسِ فَوْضَى لَحْظَةً وَاحِدَةً، فَأَنْشَأَ اللَّهُ الْخَلِيقَةَ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ، كُلَّمَا بَانَ خَلِيفَةٌ خَلَفَهُ آخَرُ، وَكُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ مَلَكَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ ؛ لِيَسْتَتِبَّ بِهِ التَّدْبِيرُ، وَتَجْرِيَ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ الْأُمُورُ، وَيَكُفَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَادِيَةَ الْجُمْهُورِ ؛ فَإِذَا بَعَثَ نَبِيًّا سَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكَ فِي وَقْتِهِ إنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَكَانَ صَغْوُهُ إلَيْهِ وَعَوْنُهُ مَعَهُ، كَمَا فَعَلَ بِدَانْيَالَ وَأَمْثَالِهِ.
وَإِنْ بَعَثَهُ قَوِيًّا يَسَّرَ لَهُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، وَأَعْرَى أَرْضَ السُّلْطَانِ عَنْ ظِلِّهِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ، كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى، وَلِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ من التَّيْسِيرِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ، وَالتَّقْدِيمِ لَهُ، وَالتَّشْرِيفِ لِقَوْمِهِ أَسْكَنَ أَبَاهُ إسْمَاعِيلَ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ حَيْثُ لَا إنْسَ وَلَا أَنِيسَ، وَاسْتَخْرَجَ فِيهَا ذُرِّيَّتَهُ، وَسَاقَ إلَيْهِ من الْجُوَارِ مَنْ عَمَرَتْ بِهِ تِلْكَ الْبِلَادُ وَالدِّيَارُ، وَجَرَّدَهُمْ عَنْ الْمُلْكِ تَقَدُّمَةً لِرِئَاسَةِ الْمِلَّةِ، وَكَانُوا عَلَى جِبِلَّةِ الْخَلِيقَةِ وَسَلِيقَةِ الْآدَمِيَّةِ، من التَّحَاسُدِ وَالتَّنَافُسِ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالسَّلْبِ وَالْغَارَةِ، وَالْقَتْلِ وَالثَّارَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ الْأَوَّلِيَّةِ من كَافٍّ يَدُومُ مَعَ الْحَالِ، وَرَادِعٍ يُحْمَدُ مَعَهُ الْمَآلُ ؛ فَعَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لِحَقِّهِ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ لِحِكْمَتِهِ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ لِقَهْرِهِ ؛ فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ، وَكَانَ مَنْ اُضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ من حَوْلِهِمْ ﴾. بَيْدَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْضِعًا مَخْصُومًا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ مَظْلُومٍ وَلَا يَنَالُهُ كُلُّ خَائِفٍ جَعَلَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : مَلْجَأٌ آخَرُ، فَقَرَّرَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ؛ فَكَانُوا لَا يَرُوعُونَ فِيهَا سَرْبًا، وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا ذَنْبًا، وَلَا يَتَوَقَّعُونَ فِيهَا ثَأْرًا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ فَلَا يُؤْذِيهِ. وَاقْتَطَعُوا فِيهَا ثُلُثَ الزَّمَانِ، وَوَصَلُوا مِنْهَا ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً، فُسْحَةً وَرَاحَةً، وَمَجَالًا لِلسِّيَاحَةِ فِي الْأَمْنِ وَاسْتِرَاحَةً، وَجَعَلُوا مِنْهَا وَاحِدًا مُفْرَدًا فِي نِصْفِ الْعَامِ دَرْكًا لِلِاحْتِرَامِ ؛ ثُمَّ يَسَّرَ لَهُمْ الْإِلْهَامَ، وَشَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ، فَكَانُوا إذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا، وَعَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلًا. ر
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْخَبِيثِ :
وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْكَافِرُ. وَالثَّانِي : الْحَرَامُ.
وَأَمَّا الطَّيِّبُ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْمُؤْمِنُ. الثَّانِي : الْحَلَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَعْجَبَك كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ : وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْجِبُهُ الْكُفَّارُ وَلَا الْحَرَامُ، وَإِنَّمَا يُعْجِبُ ذَلِكَ النَّاسَ.
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْجَابًا بِهِ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُ من كَثْرَةِ الْكُفَّارِ، وَالْمَالِ الْحَرَامِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِلَّةِ الْمَالِ الْحَلَالِ. وَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ بِذَلِكَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يَا آدَم، ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ : من كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ لِلْجَنَّةِ ).
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي وَجْهِ عَدَمِ اسْتِوَائِهِ وَوُجُوبِ تَفَاوُتِهِ :
إنَّ الْحَرَامَ يُؤْذِي فِي الدِّينِ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ، وَالْحَلَالُ يَنْفَعُ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ [ وَيَصِحُّ تَنْفِيذُهُ ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾. وَقَالَ :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾. فَلَا يُعْجِبَنَّكَ كَثْرَةُ الْمَالِ الرِّبَوِيِّ، وَنُقْصَانُ الْمَالِ بِصَدَقَتِهِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحَقُ ذَلِكَ الْكَثِيرَ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيُنَمِّي الْمَالَ الزَّكَاتِيَّ بِالصَّدَقَةِ ؛ وَبِهَذَا احْتَجَّ من عُلَمَائِنَا مَنْ رَأَى أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ، وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوقٍ، وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَنٍ ؛ فَيَسْتَوِي فِي إمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ؛ بَلْ يُفْسَخُ أَبَدًا.
وَقَدْ احْتَجَّ أَيْضًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ اكْتَرَى قَاعَةً إلَى أَمَدٍ فَكَمُلَ أَمَدُهُ، وَقَدْ بَنَى بِهَا وَأَسَّسَ، فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يُخْرِجَهُ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا، وَلَا يَهْدِمُهُ عَلَيْهِ، كَمَا يُفْعَلُ بِالْغَاصِبِ إذَا بَنَى فِي الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ. وَنَظَرَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الْبَيْعَ إذَا فُسِخَ بَعْدَ الْفَوْتِ يَكُونُ فِيهِ غَبْنٌ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَمُلَ أَمَدُ الْبَانِي فَأَيُّ حُجَّةٍ لَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبُنْيَانَ إلَى أَمَدٍ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْعَرْصَةِ سَيَحْتَاجُ إلَى عَرْصَتِهِ لِمِثْلِ مَا هِيَ عَلَيْهِ من الْبِنَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَلْزَمَهُ إخْلَاؤُهَا مِمَّا شَغَلَهَا بِهِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا حُقُوقٌ مُرْتَبِطَةٌ بِحَقَائِقَ وَأَدِلَّةٍ تَتَّفِقُ تَارَةً وَتَفْتَرِقُ أُخْرَى، وَتَتَبَايَنُ تَارَةً وَتَتَمَاثَلُ أُخْرَى.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : حَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ : الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ، وَضِدُّهُ الِاعْوِجَاجُ، وَذَلِكَ يَتَصَرَّفُ إلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : الِاسْتِوَاءُ فِي الْمِقْدَارِ، وَلَا يَتَسَاوَى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِقْدَارًا فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ أَوْزَنُ دُنْيَا وَالطَّيِّبُ أَوْزَنُ أُخْرَى.
الثَّانِي : الِاسْتِوَاءُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ فِي النَّارِ وَالطَّيِّبَ فِي الْجَنَّةِ.
الثَّالِثُ : الِاسْتِوَاءُ فِي الذَّهَابِ، وَلَا يَتَسَاوَيَانِ أَيْضًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ وَالطَّيِّبَ يَأْخُذُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ.
الرَّابِعُ : الِاسْتِوَاءُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ مُنْفِقَ الْخَبِيثِ يَعُودُ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ فِي الدَّارَيْنِ، وَمُنْفِقَ الطَّيِّبِ يَرْبَحُ فِي الدَّارَيْنِ. أَمَّا خُسْرَانُ الْأَوَّلِ فَنَقْصُ مَالِهِ فِي الدُّنْيَا، وَنَقْصُ مَالِهِ فِي الْآخِرَةِ ؛ وَرَبِحَ مُنْفِقُ الطَّيِّبِ فِي الدُّنْيَا حُسْنُ النِّيَّةِ وَصِدْقُ الرَّجَاءِ فِي الْعِوَضِ، وَرِبْحُهُ فِي الْآخِرَةِ ثِقَلُ الْمِيزَانِ.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ :( خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَةً مَا سَمِعْنَا مِثْلَهَا. قَالَ : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. قَالَ : فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوهَهُمْ، وَلَهُمْ حُنَيْنٌ. فَقَالَ رَجُلٌ : مَنْ أَبِي ؟ فَقَالَ : أَبُوك فُلَانٌ )، فَنَزَلَتْ :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }.
الثَّانِي : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، ( كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ : مَنْ أَبِي ؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ : تَضِلُّ نَاقَتُهُ : أَيْنَ نَاقَتِي ) ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾.
الثَّالِثُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ :( لَمَّا نَزَلَتْ :﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا. وَلَوْ قُلْت : نَعَمْ لَوَجَبَتْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَعْضُهُ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ : هَذَا الْمَسَاقُ يُعَضِّدُ من هَذِهِ الْأَسْبَابِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّ سَبَبَهَا سُؤَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ : مَنْ أَبِي ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَشَفَ لَهُ عَنْ سِرِّ أُمِّهِ رُبَّمَا كَانَتْ قَدْ بَغَتْ عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ الْعَارُ بِهِمْ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ السَّائِلِ قَالَتْ لَهُ : يَا بُنَيَّ ؛ أَرَأَيْت أُمَّك لَوْ قَارَفْت بَعْضَ مَا كَانَ يُقَارِفُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَكُنْت تَفْضَحُهَا ؟ فَكَانَ السَّتْرُ أَفْضَلَ.
وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْ تَفْسِيرِ فَرْضِ الْحَجِّ ؛ فَإِنَّ تَكْرَارَهُ مُسْتَثْنًى لِعَظِيمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَعَظِيمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَشْيَاءَ فَامْتَثِلُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَاجْتَنِبُوهَا، وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْهُ، فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ : وَهَذَا يَشْهَدُ لِكَوْنِهَا من بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يُبَيِّنُهُ إلَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ نُزُولَ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْجَوَابِ ؛ إذْ لَا شَرْعَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ﴾ ؛ أَيْ أَسْقَطَهَا، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي يَسْقُطُ لِعَدَمِ بَيَانِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ وَسُكُوتِهِ عَنْهُ هُوَ بَابُ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَيُحَرِّمُ عَالِمٌ، وَيُحِلُّ آخَرُ، وَيُوجِبُ مُجْتَهِدٌ. وَيُسْقِطُ آخَرُ ؛ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ لِلْخَلْقِ، وَفُسْحَةٌ فِي الْحَقِّ، وَطَرِيقٌ مَهْيَعٌ إلَى الرِّفْقِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ من قَبْلِكُمْ ﴾ :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَوْمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَائِدَةِ.
الثَّانِي : قَوْمُ صَالِحٍ فِي النَّاقَةِ.
الثَّالِثُ : قُرَيْشٌ فِي الصَّفَا ذَهَبًا.
الرَّابِعُ : بَنُو إسْرَائِيلَ، كَانَتْ تَسْأَلُ : فَإِذَا عَرَفْت بِالْحُكْمِ لَمْ تُقِرَّ وَلَمْ تَمْتَثِلْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَلَقَدْ كَفَرَتْ الْعِيسَوِيَّةُ بِعِيسَى وَبِالْمَائِدَةِ، وَالصَّالِحِيَّةِ بِالنَّاقَةِ، وَالْمَكِّيَّةِ بِكُلِّ مَا شَهِدَتْ من آيَةٍ، وَعَايَنَتْ من مُعْجِزَةٍ مِمَّا سَأَلَتْهُ وَمِمَّا لَمْ تَسْأَلْهُ عَلَى كَثْرَتِهَا ؛ وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مَنْ سَبَقَ من الْأُمَمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اعْتَقَدَ قَوْمٌ من الْغَافِلِينَ تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ جَهْلٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَعُ الْمَسَاءَةُ فِي جَوَابِهِ، وَلَا مَسَاءَةَ فِي جَوَابِ نَوَازِلِ الْوَقْتِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ من السَّلَفِ الصَّالِحِ يَكْرَهُهَا أَيْضًا، وَيَقُولُ فِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ من ذَلِكَ : دَعُوهُ دَعُوهُ حَتَّى يَقَعَ، يُرِيدُ : فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَئِذٍ يُعِينُ عَلَى جَوَابِهِ، وَيَفْتَحُ إلَى الصَّوَابِ مَا اسْتَبْهَمَ من بَابِهِ ؛ وَتَعَاطِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ غُلُوٌّ فِي الْقَصْدِ، وَسَرَفٌ من الْمُجْتَهِدِ ؛ وَقَدْ وَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَبِيعَةِ الرَّأْيِ وَهُوَ يُفَرِّعُ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ : مَا الْعِيُّ عِنْدَنَا إلَّا مَا هَذَا فِيهِ مُنْذُ الْيَوْمِ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِبَسْطِ الْأَدِلَّةِ، وَإِيضَاحِ سُبُلِ النَّظَرِ، وَتَحْصِيلِ مُقَدَّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادِ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ ؛ فَإِذَا عَرَضَتْ النَّازِلَةُ أَتَيْت من بَابِهَا، وَنُشِدَتْ فِي مَظَانِّهَا، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ فِي صَوَابِهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَهُمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ :﴿ لَا تَسْأَلُوا. . . ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ تَسُؤْكُمْ ﴾ سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَضُرُّ وَيَسُوءُ، فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ يَضُرُّ. وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَمَّا لَا يَعْنِي. وَهَذَا بَيِّنٌ.
الثَّانِي : قَالَ : قَوْلُهُ :﴿ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ يَعْنِي : وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ فَكَيْفَ يَنْهَاهُمْ وَيَقُولُ : إنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ إنْ سَأَلُوهُ عَنْهَا. وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ مَحْضٌ عَارٍ عَنْ الْبُرْهَانِ ؛ وَأَيُّ فَرْقٍ أَوْ أَيُّ اسْتِحَالَةٍ فِي أَنْ يُقَالَ : لَا تَسْأَلْ، فَإِنَّك إنْ سَأَلْت يُبَيِّنُ لَك مَا يَسُوءُك، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِك، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَفَا عَنْهَا لَك.
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ :﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ من قَبْلِكُمْ ﴾ :
قَالَ : فَهَذَا السُّؤَالُ لِغَيْرِ الشَّيْءِ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي هُوَ سُؤَالٌ عَنْ غَيْرِ الشَّيْءِ، وَهَذَا كَلَامٌ فَاتِرٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ضِدُّهُ حِينَ قَالَ : إنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ هُوَ سُؤَالٌ عَنْ الشَّيْءِ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ بَلَاغٌ فِي الْآيَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ جَعَلَ ﴾ :
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْسِيمُهُ وَتَفْسِيرُهُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ هَاهُنَا : مَا سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ حُكْمًا وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، بَيْدَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا، وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ خَلْقًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا لُغَةٌ :
فَالْبَحِيرَةُ، هِيَ : النَّاقَةُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنُ لُغَةً، يُقَالُ : بَحَرْت أُذُنَ النَّاقَةِ ؛ أَيْ شَقَقْتهَا.
وَالسَّائِبَةُ، هِيَ : الْمُخَلَّاةُ لَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ لَهَا.
وَالْوَصِيلَةُ فِي الْغَنَمِ : كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا وَلَدَتْ الشَّاةُ أُنْثَى كَانَتْ لَهُمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا كَانَتْ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا : وَصَلَتْ أَخَاهَا، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآلِهَةِ، وَلَمْ يَذْبَحُوا الذَّكَرَ.
وَالْحَامِي : كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا نَتَجَتْ من صُلْبِ الْفَحْلِ عَشَرَةُ أَبْطُنٍ قَالُوا : حَمَى ظَهْرَهُ فَسَيَّبُوهُ لَا يُرْكَبُ وَلَا يُهَاجُ.
وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرٌ طَوِيلٌ بِاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ يَرْجِعُ إلَى مَا أَوْضَحَهُ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتِقُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ يُسَيِّبُونَهَا، فَأَمَّا الْحَامِي فَمِنْ الْإِبِلِ ؛ كَانَ الْفَحْلُ إذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ من رِيشِ الطَّوَاوِيسِ وَسَيَّبُوهُ. وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَمِنْ الْغَنَمِ وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى سَيَّبُوهَا. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( أَوَّلُ مَنْ نَصَبَ النُّصُبَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ عمرو بْنِ لُحَيٍّ ؛ وَلَقَدْ رَأَيْته يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ ).
قَالَ : وَأَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ ( رَجُلٌ من بَنِي مُدْلِجٍ عَمَدَ إلَى نَاقَتَيْنِ لَهُ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا، ثُمَّ احْتَاجَ إلَيْهِمَا، فَشَرِبَ أَلْبَانَهُمَا، وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَقَدْ رَأَيْتهمَا فِي النَّارِ يَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا وَيَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا ).
وَنَحْوُهُ عَلِيُّ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ :( لَقَدْ رَأَيْته يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ ) وَلَمْ يَزِدْ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : السَّوَائِبُ الْغَنَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ.
وَالسَّائِبَةُ هِيَ النَّاقَةُ إذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ لَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ، فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ من أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَخُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا، فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ، كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا ؛ فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ. وَالْوَصِيلَةُ : الشَّاةُ إذَا أَتْأَمَّتْ عَشْرَ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ جُعِلَتْ وَصِيلَةً، قَالُوا : قَدْ وُصِلَتْ، فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إِسْحَاقَ : فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِذُكُورِهِمْ دُونَ إنَاثِهِمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَالْحَامِي الْفَحْلُ إذَا نَتَجَ لَهُ عَشْرُ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ حُمِيَ ظَهْرُهُ، فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهُ، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهُ، وَخُلِّيَ فِي إبِلِهِ يَضْرِبُ، لَا يُنْتَفَعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْبَحِيرَةُ النَّاقَةُ. وَالْوَصِيلَةُ الشَّاةُ. وَالْحَامِي الْفَحْلُ. وَسَائِبَةٌ يَقُولُ يُسَيِّبُونَهَا لِأَصْنَامِهِمْ. وَرُوِيَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عمرو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ. قَالَ : فَسَأَلْته عَمَّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ من النَّاسِ. قَالَ : هَلَكُوا ).
وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نَصْبِ الْأَوْثَانِ وَتَغْيِيرِ دِينِ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ خَرَجَ من مَكَّةَ إلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَأْرِبَ من أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ؛ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ أَوْلَادُ عِمْلِيقَ، وَيُقَالُ عِمْلَاقُ بْنُ لَاوِذْ بْنُ سَامِ بْنُ نُوحٍ، رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَقَالَ لَهُمْ : مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : هَذِهِ أَصْنَامٌ نَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا، وَنَسْتَنْصِرُنَا فَتَنْصُرُهَا. فَقَالَ لَهُمْ : أَفَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا أَسِيرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُوهُ ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ. فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ من بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِزَعْمِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبِّهِمْ وَفِي طَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إنَّمَا تُعْلَمُ من قَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلَّهِ بِذَلِكَ قَوْلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ :﴿ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ من رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ :﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ من الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَمِنْ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ :﴿ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ :( رَأَيْت عمرو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْك بِهِ وَلَا بِهِ مِنْك. فَقَالَ أَكْثَمُ : أَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : لَا ؛ لَأَنَّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ ؛ إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ ).
وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَوْنُ بْنُ مَالِكٍ بْنُ نَضْلَةَ الْجُشَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ ( أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَرَبُّ إبِلٍ أَنْتَ أَمْ رَبُّ غَنَمٍ ؟ فَقَالَ : من كُلِّ الْمَالِ آتَانِي اللَّهُ فَأَكْثَرَ وَأَطْيَبَ. فَقَالَ : هَلْ تُنْتِجُ إبِلُك صِحَاحًا آذَانُهَا فَتَعْمِدَ إلَى الْمَوَاسِي فَتَقْطَعَ آذَانَهَا، فَتَقُولَ : هَذِهِ بُحُرٌ. وَتَشُقُّ جُلُودَهَا، فَتَقُولَ : هَذِهِ صُرُمٌ، فَتُحَرِّمُهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ لَك مَا آتَاك، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ، وَسَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ من ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ من الْبَاطِلِ، وَلَزِمَهُمْ الِانْقِيَادُ إلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى من التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، دُونَ التَّعَلُّقِ بِمَا كَانَ يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ من الْأَبَاطِيلِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : الْحَبْسُ الَّذِي جَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِطْلَاقِهَا الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ من بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ﴾.
قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَبَا يُوسُفَ عِنْدَ هَارُونَ. وَ
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : في ارْتِبَاطهَا بِمَا قَبْلَهَا :
وَذَلِكَ بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ جَهَالَةِ الْعَرَبِ فِيمَا تَحَكَّمَتْ فِيهِ بِآرَائِهَا السَّقِيمَةِ فِي الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْحَوَامِي، وَاحْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ ؛ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِهِ من دِينِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعُقُولَ لَا حُكْمَ لَهَا بِتَحْسِينٍ وَلَا تَقْبِيحٍ، وَلَا تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ ؛ إذْ الْعُقُولُ لَا تَهْتَدِي إلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي تُرْشِدُ من ضَلَالِ الْخَوَاطِرِ، وَتُنْجِي من أَهْوَالِ الْآخِرَةِ بِمَا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَى تَفْصِيلِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ من تَحْصِيلِهِ، فَكَيْفَ أنْ تَغَيَّرَ مَا مَهَّدَهُ الشَّرْعُ، وَتَبَدَّلَ مَا سَنَّهُ وَأَوْضَحَهُ، وَذَلِكَ [ كُلُّهُ ] من غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ وَتَحَكُّمِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ : لَأَجْلِبَنَّ عَلَيْهِمْ وَلِأُشَارِكَنهُمْ وَلَأَعِدَنَّهُمْ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَحلِك وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الْكُفَّارِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي مَوَاضِعَ من الْقُرْآنِ. وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْبَاطِلِ. فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ من أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ من عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إلَيْهَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ عَنْ دَرْكِ النَّظَرِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، فَأَمَّا جَوَازُهُ، بَلْ وُجُوبُهُ، فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَصَحِيحٌ، وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْعَالِمِ من غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِدَلِيلِهِ ؛ وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُقَالَ : إنَّا نُقَلِّدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ لِأَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ، وَأَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ مُوَافِقَةً لِدَعْوَاهُ، وَدَالَّةً عَلَى صِدْقِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ التَّقْلِيدِ وَوَجْهَهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
لِبَابُهِ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَنْ يَقْصِدَ أَعْلَمَ مَنْ فِي زَمَانِهِ وَبَلَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ نَازِلَتِهِ، فَيَمْتَثِلُ فِيهَا فَتْوَاهُ، وَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ أَعْلَمَ أَهْلِ وَقْتِهِ بِالْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَتَّصِلَ لَهُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ وَيَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ من الْأَكْثَرِ من النَّاسِ. وَعَلَى الْعَالِمِ أَيْضًا فَرْضُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا مِثْلَهُ فِي نَازِلَةٍ خَفِيَ عَلَيْهِ فِيهَا وَجْهُ الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ، وَأَرَادَ أَنْ يُرَدِّدَ فِيهَا الْفِكْرَ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ ؛ فَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ ذَلِكَ، وَخِيفَ عَلَى الْعِبَادَةِ أَنْ تَفُوتَ، أَوْ عَلَى الْحُكْمِ أَنْ يَذْهَبَ فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ، وَاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ، عَوَّلُوا مِنْهُ عَلَى مَا أَشَرْنَا لَكُمْ إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ : هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ وَالِاحْتِجَاجَاتِ لَا تَكُونُ بِمُحْتَمَلٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاتِّبَاعُ فِيهَا بِمَا خَرَجَ من الِاحْتِمَالِ، وَوَجَبَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ : وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَنَحْنُ نَقْتَدِي بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَنَمْتَثِلُ مَا شَاهَدْنَاهُ من أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ بِالْهُدَى عَامِلُونَ، وَعَنْ غَيْرِ الْحَقِّ مَعْصُومُونَ، وَنَسُوا أَنَّ الْبَاطِلَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَالْخَطَأَ وَالْجَهْلَ لَاحِقٌ بِهِمْ ؛ فَبَطَلَ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِيهِ، وَوَضَحَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ بِشُرُوطِهِ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ من شُرُوطِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ من الْقُرْآنِ لَيْسَ لَهَا أُخْتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا آيَةٌ يَنْسَخُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا ؛ نَسَخَ قَوْلُهُ :﴿ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ قَوْلَهُ :﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾. وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي من عُلُومِ الْقُرْآنِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَالْحَظُوهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلَمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾. وَإِنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعَذَابٍ من عِنْدِهِ.
وَرَوَى ( أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ : أَتَيْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْت لَهُ : كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؟ فَقَالَ : أَيَّةُ آيَةٍ ؟ قُلْت : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ ؛ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْت عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : بَلْ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسِك، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ ؛ فَإِنَّ من وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا، يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ. . . } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ من أُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَخِلَافَةُ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا أَبْوَابَهُ وَمَسَائِلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَهِيَ من فُرُوعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا فِي آيَاتٍ قَبْلَ هَذَا، وَذَكَرْنَا بَعْضَ شُرُوطِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْقِيَامَ بِهِ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَعَرَضْت هَذِهِ الْآيَةَ الْمُوهِمَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ لِمُعَارَضَتِهَا لِمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِمَا يَتَأَخَّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى من الْآيَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَعِنْدَ سَدَادِ النَّظَرِ وَانْتِهَائِهِ إلَى الْغَايَةِ يَتَبَيَّنُ الْمَطْلُوبُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ لِأَجْلِ سُكُوتِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْرُوفِ الْمَتْرُوكِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آنِفًا بِقَوْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ من عِنْدِهِ ). وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ بِيَقِينِ الْأَمْنِ من الضَّرَرِ عِنْدَ الْقِيَامِ بِهِ ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ :( فَإِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسِك، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ. وَذَلِكَ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَى مُعَارَضَةِ الْخَلْقِ، وَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ من الْقِيَامِ بِالْحَقِّ. وَتِلْكَ رُخْصَةٌ من اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَسَّرَهَا عَلَيْنَا، وَفَضْلُهُ الْعَمِيمُ آتَانَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ فِيهِ وَالِاخْتِلَافَ عَلَيْهِ.
وَيَعْضُدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ).
وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَدَّثَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدَيْنِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ : ذَهَبَ مَا كُنْت تَعْلَمُ. فَسَكَتَ أَبُو سَعِيدٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ؛ إذْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَلِكِ، وَلَا اسْتَطَاعَ مُنَازَعَةَ الْإِمَارَةِ، وَسَكَتَ.
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ النَّاسِ، وَلِمَ يَحْضُرُ بِدْعَةً، وَيُقِيمُ سُنَّةً مُبْدَلَةً ؟
قُلْنَا : فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَا قَالَ عُثْمَانُ، حِينَ قِيلَ لَهُ إنَّهُ يُصَلِّي لَنَا إمَامُ فِتْنَةٍ. قَالَ :( الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ ؛ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ ).
الثَّانِي : أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَسْتَطِعْ الْخُرُوجَ ؛ فَإِنَّ الْمَوْضِعَ كَانَ مُحَاطًا بِهِ من الْحَرَسِ مَشْحُونًا بِحَاشِيَةِ مَرْوَانَ، يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ النَّاسِ، وَيَلْحَظُونَ حَرَكَاتِهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ لَخَافَ أَنْ يَلْقَى هَوَانًا، فَأَقَامَ مَعَ النَّاسِ فِي الطَّاعَةِ، وَخَلَصَ بِنَفْسِهِ من التَّبَاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَذَاكَرْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى طَهَّرَهُ اللَّهُ مَعَ شَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ :( إنَّ من وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ. . . لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ. فَقَالُوا : بَلْ مِنْهُمْ. فَقَالَ : بَلْ مِنْكُمْ ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا، وَهُمْ لَا يَجِدُونَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا )، وَتَفَاوَضْنَا كَيْفَ يَكُونُ أَجْرُ مَنْ يَأْتِي من الْأُمَّةِ أَضْعَافَ أَجْرِ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّهُمْ أَسَّسُوا الْإِسْلَامَ، وَعَضَّدُوا الدِّينَ، وَأَقَامُوا الْمَنَارَ، وَافْتَتَحُوا الْأَمْصَارَ، وَحَمَوْا الْبَيْضَةَ، وَمَهَّدُوا الْمِلَّةَ ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ ).
فَتَرَاجَعْنَا الْقَوْلَ فَكَانَ الَّذِي تَنَخَّلَ من الْقَوْلِ، وَتَحَصَّلَ من الْمَعْنَى لُبَابًا أَوْضَحْنَاهُ فِي شَرْحِ [ الْحَدِيثِ ] الصَّحِيحِ، الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ لَهُمْ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ سَرْدُهُ ؛ وَذَلِكَ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يُدَانِي شَأْوَهُمْ فِيهَا بَشَرٌ، وَالْأَعْمَالُ سِوَاهَا من فُرُوعِ الدِّينِ يُسَاوِيهِمْ فِيهَا فِي الْأَجْرِ مَنْ أَخْلَصَ إخْلَاصَهُمْ، وَخَلَّصَهَا من شَوَائِبِ الْبِدَعِ وَالرِّيَاءِ بَعْدَهُمْ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بَابٌ عَظِيمٌ هُوَ ابْتِدَاءُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَيْضًا انْتِهَاؤُهُ ؛ وَقَدْ كَانَ قَلِيلًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، صَعْبَ الْمَرَامِ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْحَقِّ، وَفِي آخِرِ الزَّمَانِ أَيْضًا يَعُودُ كَذَلِكَ بِوَعْدِ الصَّادِقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَظُهُورِ الْفِتَنِ، وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ، وَاسْتِيلَاءِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ عَلَى الْحَقِّ من الْخَلْقِ، وَرُكُوبِ مَنْ يَأْتِي سَنَنَ مَنْ مَضَى من أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ ). وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا فَلَا بُدَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ أَنْ يَرْجِعَ الْإِسْلَامُ إلَى وَاحِدٍ كَمَا بَدَأَ من وَاحِدٍ، وَيَضْعُفَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ مَعَ احْتِوَاشِهِ بِالْمَخَاوِفِ، وَبَاعَ نَفْسَهُ من اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ إلَيْهِ كَانَ لَهُ من الْأَجْرِ أَضْعَافُ مَا كَانَ لِمَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، مُعَانًا عَلَيْهِ بِكَثْرَةِ الدُّعَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ :( لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَهُمْ لَا يَجِدُونَ إلَيْهِ أَعْوَانًا حَتَّى يَنْقَطِعَ ذَلِكَ انْقِطَاعًا بَاتًّا، لِضَعْفِ الْيَقِينِ، وَقِلَّةِ الدِّينِ ) كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ ). يُرْوَى بِرَفْعِ الْهَاءِ وَنَصْبِهَا من الْمَكْتُوبَةِ، فَإِنْ رُ
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا من الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ من شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ. ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }.
وَإِنَّمَا نَظَمْنَاهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ من الْمُشْكِلَاتِ، وَقَدْ عَسُرَ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى الْمُتَبَحِّرِينَ، فَأَمَّا الشَّادُونَ فَالْحِجَابُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِعْزَفٌ، وَالسَّبِيلُ الْمُوَصِّلَةُ إلَيْهَا لَا تُعْرَفُ، وَمَا زِلْنَا مُدَّةَ الطَّلَبِ نَقْرَعُ بَابَهَا وَنَجْذِبُ حِجَابَهَا إلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ وَجَلَوْنَاهُ عَلَيْكُمْ فِي تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِيهِ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ من طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لَوْ سَرَدْنَاهَا بِطُرُقِهَا، وَسَطَرْنَاهَا بِنُصُوصِهَا، وَكَشَفْنَا عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا بِالتَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ لَاتَّسَعَ الشَّرْحُ، وَطَالَ عَلَى الْقَارِئِ الْبَرْحُ، فَلِذَا نَذْكُرُ لَكُمْ من ذَلِكَ أَيْسَرَهُ وَوَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ أَكْثَرُهُ، فَنَقُولُ :
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، ( عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. . . ﴾ بَرِئَ مِنْهَا النَّاسُ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ، وَمَعَهُ جَامُِ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ، وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ، فَأَوْصَى إلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ.
قَالَ تَمِيمٌ : فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ، فَسَأَلُونَا عَنْهُ، فَقُلْنَا : مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، وَمَا دَفَعَ إلَيْنَا غَيْرَهُ.
قَالَ تَمِيمٌ : فَلَمَّا أَسْلَمْت بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ من ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَأَخْبَرْتُهُمْ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْت إلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. . . ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا، فَنُزِعَتْ الْخَمْسُمِائَةِ من عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ ).
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ.
وَقَدْ رُوِيَ شَيْءٌ من هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الِاخْتِصَارِ قَالَ :( خَرَجَ رَجُلٌ من بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا من فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا : اشْتَرَيْنَاهُ من عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ وَتَمِيمٍ، فَقَامَ رَجُلَانِ من أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ من شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ. قَالَ : وَفِيهِمْ نَزَلَتْ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. . . ﴾.
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ فَهُوَ صَحِيحٌ.
وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الْكَلْبِيُّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ :( وَأَمَّا قَوْلُهُ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. . . ﴾. قَالَ : بَلَغَنَا -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَوْلًى من مَوَالِي قُرَيْشٍ، ثُمَّ لِآلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ انْطَلَقَ فِي تِجَارَةٍ نَحْوَ الشَّامِ، وَمَعَهُ تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيُّ بْنُ بَدَاءَ، وَيُرْوَى بَيْدَاءَ، وَهُمَا نَصْرَانِيَّانِ يَوْمَئِذٍ، فَتُوُفِّيَ الْمَوْلَى فِي مَسِيرِهِ ؛ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ ثُمَّ جَعَلَهَا فِي مَالِهِ وَمَتَاعِهِ، ثُمَّ دَفَعَهَا إلَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا : أَبْلِغَا أَهْلِي مَالِي وَمَتَاعِي ؛ فَانْطَلَقَا لِوَجْهِهِمَا الَّذِي تَوَجَّهَا إلَيْهِ، فَفَتَّشَا مَتَاعَ الْمَوْلَى الْمُتَوَفَّى بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأَخَذَا مَا أَعْجَبَهُمَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَا بِالْمَالِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي بَقِيَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ فَدَفَعَاهُ إلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَّشَ الْقَوْمُ الْمَالَ وَالْمَتَاعَ الَّذِي بَقِيَ فَقَدُوا بَعْضَ مَا خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُمْ مَعَهُ من عِنْدِهِمْ، فَنَظَرُوا إلَى الْوَصِيَّةِ -وَهِيَ فِي الْمَتَاعِ- فَوَجَدُوا الْمَالَ وَالْمَتَاعَ فِيهِمَا مُسَمًّى، فَدَعَوْا تَمِيمًا وَصَاحِبَهُ، فَقَالُوا لَهُمَا : هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ اشْتَرَى ؟ فَقَالُوا : لَا. قَالُوا : فَهَلْ مَرِضَ فَطَالَ مَرَضُهُ فَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ؟ قَالُوا : لَا. قَالُوا : فَإِنَّا نَفْقِدُ بَعْضَ الَّذِي مَضَى بِهِ صَاحِبُنَا مَعَهُ. قَالُوا : مَا لَنَا عَمَّا مَضَى بِهِ من عِلْمٍ، وَلَا بِمَا كَانَ فِي وَصِيَّتِهِ ؛ وَلَكِنْ دَفَعَ إلَيْنَا هَذَا الْمَالَ وَالْمَتَاعَ، فَبَلَّغْنَاكُمُوهُ كَمَا دَفَعَهُ إلَيْنَا. فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرُوا لَهُ الْأَمْرَ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. . . ﴾ إلَى ﴿ الْآثِمِينَ ﴾ فَقَامَا فَحَلَفَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إدْبَارَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُمَا، ثُمَّ طَلَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إنَاءٍ من فِضَّةٍ مَنْقُوشٍ مُمَوَّهٍ بِالذَّهَبِ عِنْدَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَقَالُوا : هَذَا من آنِيَةِ صَاحِبِنَا الَّتِي مَضَى بِهَا مَعَهُ، وَقَدْ قُلْتُمَا إنَّهُ لَمْ يَبِعْ من مَتَاعِهِ شَيْئًا، فَقَالَا : إنَّا كُنَّا قَدْ اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ، فَنَسِينَا أَنْ نُخْبِرَكُمْ بِهِ ؛ فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ :( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا. . . } إلَى ﴿ الْفَاسِقِينَ ﴾، فَقَامَ رَجُلَانِ من أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ إنَّهُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، وَلَقَدْ خَانَهُ تَمِيمٌ وَعَدِيٌّ. فَأَخَذَ تَمِيمٌ وَعَدِيٌّ بِكُلِّ مَا وُجِدَ فِي الْوَصِيَّةِ لَمَّا اطَّلَعَ عِنْدَهُمَا من الْخِيَانَةِ ).
وَقَدْ ذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَنْ الضَّحَّاكِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ :﴿ رَكِبُوا الْبَحْرَ مَعَ الْمَوْلَى بِمَالٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ عَلِمَهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَرَفُوهُ من بَيْنِ آنِيَةٍ وَوَرِقٍ وَهِيَ الْفِضَّةُ، فَمَرِضَ الْمَوْلَى، فَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ إلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ النَّصْرَانِيِّينَ، وَذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ : أَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ مَا تَرَكَ مَوْلَاكُمْ من الْمَتَاعِ إلَّا مَا أَتَيْنَاكُمْ بِهِ، وَإِنَّا لَا نَشْتَرِي بِأَيْمَانِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا من الدُّنْيَا. قَالَ : ثُمَّ وُجِدَ عِنْدَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ إنَاءٌ من آنِيَةِ الذَّهَبِ، فَأُخِذَا بِهِ، فَقَالَا : اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَبَا، فَكَلَّفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى بَيِّنَةٍ، فَرَفَعَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :{ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا. . . ﴾ إلَى ﴿ الْفَاسِقِينَ ﴾. فَحَلَفَ وَلِيَّانِ من أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ : إنَّ مَالَ صَاحِبِنَا كَذَا، وَإِنَّ الَّذِي نَطْلُبُهُ قِبَلَ الدَّارِيَّيْنِ حَ