تفسير سورة المائدة

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٥- سورة المائدة
نزولها: هى مدنيّة بالإجماع، إلا قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» فإنها نزلت يوم عرفة فى الموقف، فى حجة الوداع، ورسول الله ﷺ راكب على ناقته «العضباء» فسقطت الناقة على ركبتها من ثقل الوحى.
عدد آياتها: مائة وعشرون آية.. وقيل مائة واثنتان وعشرون آية..
عدد كلماتها: ألفان وثمان مائة وأربع آيات.
عدد حروفها: أحد عشر ألفا وتسع مائة وثلاثة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآية: (١) [سورة المائدة (٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
التفسير: «أوفوا بالعقود» يقال: وفى بالعقد، وأوفى به، إذا أداه على الوجه الذي التزم به.
و «العقود» جمع عقد، وهى المواثيق التي تبرم بين طرفين، على خلاف العهد الذي قد يكون من الإنسان، بالعهد يقطعه على نفسه! و «البهيمة» الحيوان من ذوات الأربع، برّيّا أو بحريّا.. وقيل هى كل ذى روح غير الإنسان، حيث تبهم عليها الأمور.
1023
و «الأنعام» : البهائم التي يتألفها الإنسان، وينتفع بها فى وجوه كثيرة بيّن الله بعضها فى قوله: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» (٥- ٦- ٧: النحل) وبدء السورة بهذه الآية الكريمة التي تدعو إلى الوفاء بالعقود هو مناسب للسورة التي قبلها «سورة النساء»، لما تضمنته من أحكام اليتامى، والمواريث، والزّواج، والتيمم، والجهاد، وغيرها، وكلها عقود ومواثيق بين الله وبين عباده الذين آمنوا به.. ثم إن هذا البدء مناسب لما سيجيئ بعد هذا- فى هذه السورة- من أحكام، بدئت بتلك التي تتصل ببهيمة الأنعام، وما أحلّ من لحومها..
وقوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» هو بيان لحلّ الأنعام، من بين البهائم.. ثم إن هذه الأنعام ليست كلها مما أحلت لحومها.. ولهذا جاء قوله تعالى: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» استثناء مقيّدا لهذا الإطلاق الذي تضمنه قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ».
وقوله سبحانه: «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» هو قيد على هذا القيد وهو أن جميع الأنعام حرّم صيدها، على الحاج وهو محرم بالحج. ومن هذه الأنعام الظباء، وبقر الوحش، وغيرها مما يصاد للأكل، كالأرانب، والطيور..
فالمحرم لا يحلّ له صيد أي حيوان، سواء للأكل أو لغيره، وذلك
1024
صيانة لنفسه من العدوان، على إنسان أو حيوان، فى تلك الحال التي دخل بها- محرما- إلى حمى الله، ملتمسا العافية لنفسه.. ولن تكمل له هذه العافية فى نفسه، حتى يكون هو نفسه سلاما خالصا مع الناس والحيوان السارح فى ملكوت الله! وقوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» هو دفع لكل اعتراض يقوم فى نفس لم تأخذ حظها كاملا من الإيمان.. فالله- سبحانه- له الخلق والأمر.. يحكم لا معقّب لحكمه.. «قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ» (٧٣: الأنعام). فهذا هو حكم الله، والله يحكم ما يريد.
الآية: (٢) [سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
التفسير: وإذ ذكرت الآية السابقة المحرم للحجّ، وحرمة الصيد عليه، وهو فى فترة الإحرام، ناسب أن يذكر مع هذا ما ينبغى على المحرم أن يلتزمه من حدود الله، والوفاء بالعقود والمواثيق التي أوجبها عليه إيمانه بالله..
وقوله تعالى: «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ
1025
وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ..»
هو بيان لهذه الحدود التي ينبغى للمحرم أن يلتزمها، ويقف عندها..
ومنها ألا يتحلل من شعائر الله.. والشعائر جمع شعيرة، وهى ما جعل شعارا، ومعلما من معالم الحج، من مواقف الحج، ومرامى الجمار، والمطاف، والمسعى وكذلك ما كان منها فعلا من أفعال الحج كالإحرام والطواف والسعى، والوقوف بعرفة، ورمى الجمار، والحلق، والنحر..
فهذه حدود يجب أن يلتزمها الحاجّ، ويؤديها على وجهها، ولا يغيّر من مكانها، أو صفتها.. وإلا كان محلّا لشعائر الله، مخالفا حكمه فيها..
ومنها: الشهر الحرام، ورعاية حرمته..
ومنها الهدى، وهو ما يساق إلى البيت، ويهدى إليه من شاء، أو بقر، أو إبل.. تقربا إلى الله.. فهذا الهدى له حرمته، وعلى الحاج أن يرعى له هذه الحرمة، وألا يمدّ إليه يدا بأذى، أو عدوان.. لأنه موجّه إلى الله، ومساق إلى بيت الله، والعدوان عليه عدوان على الله! ومنها: القلائد: جمع قلادة، وهى ما يقلّد به الهدى، كعلامة له، تدل على أنه مهدى إلى الله.. وفى تحريم العدوان على قلادة الهدى، مبالغة فى تأثيم العدوان على الهدى نفسه! ومنها: الذين يؤمّون البيت الحرام، ويقصدونه، فهم ضيوف الله، وعمّار بيته، والعدوان عليهم اجتراء على الله، وعدوان على حماه، ومن هم فى حماه.
فهذه حرمات، هى مواثيق موثّقة مع الله، والعدوان عليها نقض لتلك المواثيق، وتحلّل منها.. وليس لأحد حرمة إذا تحلل من مواثيق الله،
1026
وعمل على نقضها. فلينتظر انتقام الله لحرماته! وقوله تعالى: «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» هو إطلاق لهذا القيد الذي قيّد به الحاج وهو فى إحرام الحج.. فإذا أتم الحجّ، وتحلل من إحرامه أبيح له ما كان مباحا من قبل، وهو إطلاق يده فى صيد ما يشاء من حيوان أو طير! وقوله تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا» هو تذكير للمسلمين.. وهم فى تلك الحال التي راضوا فيها أنفسهم على التزام حدود الله والوفاء بمواثيقه- تذكير لهم بالاستقامة على هذا الطريق القويم الذي ساروا عليه، وهو أن يلتزموا العدل مع من كان إليهم عدوان منهم.. فالتزام العدل هو ميثاق أخذه الله على المؤمنين، يلتزمونه مع أوليائهم وأعدائهم جميعا..
وقوله تعالى «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» أي ولا يحملنكم على ارتكاب الجرم، وهو الظلم.. والشنآن: البغض والعداوة..
والمعنى: ولا يدعوكم ما بينكم وبين غيركم من عداوة وبغضاء، إذ صدوكم عن المسجد الحرام، وحالوا بينكم وبينه- لا يدعوكم هذا إلى أن تركبوا ما ركبوا من ظلم وعدوان، بل خذوهم بالعدل، وخذوا حقكم منهم دون ظلم أو بغى! وقوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» أي العدل هو الذي ينبغى أن يكون سبيلكم مع هذا الذي حملكم بفعله على بغضكم له، لأنكم بهذا إنما تقيمون ميزان الحق، وتحفظون ميثاق الله معكم، وذلك هو الذي يدخلكم مداخل التقوى، ويقيمكم مقام المتقين.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هو تأكيد للاستقامة
1027
على العدل الذي أمر الله به، وتحذير من انتقامه ممن تعدّى حدوده، ونقض مواثيقه.
الآية: (٣) [سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
التفسير: هذه الآية هى بيان لما جاء فى قوله تعالى فى الآية الأولى:
«أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» فهذا الذي يتلى على المؤمنين فى هذه الآية، هو البيان الشارح لهذا الاستثناء! فهذه المحرمات هى استثناء من قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» وهى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
فالميتة مما تعافه النفوس، حتى إن بعض الحيوانات لا تأكل الميتة ولو هلكت جوعا، كالأسد مثلا.. وكذلك الدم الذي تستقذره النفوس الطيبة، وكذلك الشأن فى لحم الخنزير، الذي حرّمته الشرائع السماوية كلها، للشبه الكبير الذي بينه وبين السباع، والكلاب!.
1028
والتوراة التي هى شريعة اليهود- كما هى شريعة المسيحيين- تحرّم الخنزير، وقد التزم اليهود بهذا التحريم، وكذلك أتباع المسيح مدة حياته معهم، وشطرا كبيرا من عهد الحواريين بعده..
ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين فى أوربّا، وكان لحم الخنزير من طعامهم، واقتناؤه وتربيته مصدر ثروة لهم- أباح لهم المبشرون بدعوة المسيح أن يأكلوا لحم الخنزير، حتى يقرّبوهم من دعوة المسيح، ويجذبوهم إليها..
ففى التوراة: «والخنزير لا تأكل.. يشقّ الظلف لكنه لا يجترّ..
فهو نجس لكم»
(تثنية ١٤: ٨).
فهذا حكم ملزم لأتباع هذه الشريعة، والتوراة هى شريعة اليهود والمسيحيين، كما قلنا، ولكن هكذا تلعب الأهواء حتى بشرائع السماء!! ولا ندرى كيف يخالف المسيحيون نصّا صريحا من كتابهم المقدس، يقرءونه ويتعبدون به؟ ولا ندرى كيف يظلّ هذا النصّ الصريح فى الكتاب المقدس قائما بين أعينهم، ثم يخالفونه عن عمد وإصرار!.
وأكثر من هذا.. عملية الختان.. إنها شريعة التوراة، حيث تقول:
«قال الله لإبراهيم: هذا هو عهدى الذي تحفظونه بينى وبينك وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون فى لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بينى وبينكم... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن فى لحم غرلته فقطع تلك النفس من شعبها.. إنه نكث عهدى» (تكوين ١٧: ٩).
ولقد ختن المسيح نفسه، عملا بتلك الشريعة، ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين من الرومان واليونان الذين لم يقبلوا الختان رفع عنهم هذا الحكم، كما رفع عن المسيحيين جميعا..
1029
يقول «لوقا» صاحب الإنجيل المعروف باسمه، فى رسالة بعث بها الرسل المبشرون بالمسيحية إلى أهل أنطاكية وسورية وكيليكية، الذين دخلوا فى المسيحية، ثم رجعوا عنها، حين قيل لهم إنكم لن تقبلوا عند الله إذا لم تخنتوا- فى هذه الرسالة يقول لوقا: «قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلقين أنفسكم، وقائلين أن تختنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم- رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبنا برنابا بولس.. رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل ربنا المسيح، فقد أرسلنا يهوذا وسيلا «١»، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها، لأنه قد رأى الروح القدس، ونحن، لا نضع عليكم ثقلا أكثر من هذه الأشياء الواجبة:
أن تمتنعوا عن الذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق والزنا» (أعمال الرسل ١٥: ٢٤- ٢٨).
وهكذا سقط «الختان» من الشريعة المسيحية، بل لقد أصبح الختان سبّة يعرّض بها دعاة المسيحية فى مواجهة المختونين، ويقولون: إنهم غير مختونى القلوب، وإن ختنوا بالأجسام!!.
ومما حرمه الله تعالى على المسلمين: «ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» أي ما ذكر عند ذبحه اسم غير اسم الله، فهو- والحال كذلك- متلبس بالرجس، مشوب بالخبث.. وما كان لمؤمن أن يدخل إلى معدته رجسا أو خبثا، كما لا يدخل إلى معتقده شركا أو كفرا..
«والمنخنقة» وهى التي تموت خنقا من الحيوان.. إنها فى حكم التي تموت حتف أنفها، فى تعفف النفس الطيبة عنها..
«والموقوذة» وهى التي ضربت ضربا قضى عليها.. هى فى حكم الميتة كذلك
(١) يهوذا وسيلا هما الرجلان اللذان اختارهما الرسل لهذه المهمة.
1030
«والمتردّية» وهى التي ماتت نتيجة سقوطها من علوّ..
«والنطيحة» وهى التي ماتت بنطح حيوان آخر لها..
«وما أكل السبع» أي ما وقع فريسة لحيوان مفترس..
وقوله تعالى: «إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ» أي هذه الحيوانات التي وقعت تحت هذه الأحداث من خنق، أو وقذ، أو تردّ، أو نطح، أو افتراس سبع- هذه الحيوانات محرم طعامها والأكل منها إذا هى ماتت قبل أن يلحقها من يذكيها، أي يطهرها بالذبح، وهى حية بعد، تجرى الحياة فى كيانها كله..
وإلا كان ذبحها غير مطهر لها، وغير مبيح للأكل منها..
قوله تعالى: «وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ».
والنّصب: الحجارة المنصوبة للذبح عليها تقربا للأوثان..
فالحيوان المذبوح هذه الذّبحة قد تدنس لحمه بهذا الرجس، فكان حراما على المؤمن أن يطعم منه.
وقوله تعالى: «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» وهو بيان لنوع آخر مما حرم على المسلمين أكل لحمه من الحيوان.. وهو الحيوان الذي يذبح، ثم يقسّم لحمه بالأزلام، وهى القداح، يقتسم بها الجماعة الحيوان المذبوح بينهم، وهذا ضرب من ضروب الميسر، وإذ حرم الله الميسر فقد حرّم ما يثمره الميسر من ثمر خبيث.. وقد وصفه الله سبحانه بقوله: «ذلِكُمْ فِسْقٌ» أي هذا العمل فى اقتسام لحم الحيوان، فسق، وخروج عن أمر الله، وعدوان على حرماته.
قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
1031
يبدو هذا المقطع من الآية الكريمة، وكأنه غريب عنها، إذ هو معترض بين أولها وآخرها، حيث يقول الله تعالى بعد هذا المقطع: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» :.
وبالنظر فى وجه الآية الكريمة يبدو التجانس واضحا بين مقاطعها جميعا، بحيث تتلاحم معانيها، كما تتناغم كلماتها، فتؤلف صورة، هى آية من آيات الله، ومعجزة من معجزات كتابه الكريم.
ففى قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ..» الآية.. تذكير للمؤمنين بفضل الله عليهم فيما بيّن لهم من أمر دينهم، وفيما شرع لهم من أحكام، هى دستور لحياة كريمة طيبة، ومنهج لتربية أمة أراد الله لها الكرامة والعزة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس..
فإذا ذكر المسلمون ذلك، وهم يتلقون أحكام هذا الدستور، ومادّة ذلك المنهج، كان ذك أشرح لصدورهم، وأرضى لنفوسهم، وأدعى إلى تمسكهم بدين الله، واستقامتهم على شريعته..
ومن تمام نعمة الله على المؤمنين أن يسوق إليهم هذه البشريات، وهو يزودهم بهذا الزاد الطيب من أحكام دينهم، وأصول شريعتهم.. فقد أصبحوا بمأمن من الكفار والمشركين والمنافقين من أن يفسدوا عليهم دينهم، وأن يفتنوهم فيه، إذ بلغ الإسلام غايته، وأخذ مكانه من القلوب، وانضوى إلى رايته من ينصره ويحمى حماه، «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ»..
هكذا صار موقف الكافرين من الإسلام.. اليأس من أن يقفوا له، أو يصرفوا الناس عن طريقه.. وعلى هذا فليقف المسلمون للكافرين وقفة التحدّى والرّدع إن هم حاولوا أن ينالوا منهم نيلا.. «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ» وفى قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
1032
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»
هو نشيد النصر الأكبر، والفتح المبين للمسلمين، بعد هذا الجهاد المضنى، والبلاء العظيم، الذي احتملوه فى مسيرتهم على طريق الدعوة الإسلامية، منذ فجرها، إلى استواء شمسها.. فقد كمل الدين، وتمت النعمة، ولبس المسلمون ثوب الإسلام الذي رضيه الله لهم دينا..
قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجرىّ فى كتابه «الشريعة» :
«إن الله عز وجل بعث محمدا ﷺ إلى الناس كافة ليقروا بتوحيده، فيقولوا: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فكان من قال، هذا مؤمنا من قلبه ناطقا بلسانه، أجزأه أي (كفاه) ومن مات على هذا، فإلى الجنة.. فلما آمنوا بذلك وأخلصوا توحيدهم، فرض عليهم الصلاة بمكّة، فصدقوا بذلك، وآمنوا، وصلّوا.
«ثم فرض عليهم الهجرة، فهاجروا وفارقوا الأهل والأوطان.
«ثم فرض عليهم بالمدينة الصيام، فآمنوا، وصدقوا، وصاموا شهر رمضان.
«ثم فرض عليهم الزكاة، فآمنوا، وصدقوا، وأدوا ذلك كما أمروا.
«ثم فرض عليهم الجهاد، فجاهدوا البعيد والقريب، وصبروا وصدّقوا.
«ثم فرض عليهم الحج فحجّوا وآمنوا به.
«فلما آمنوا بهذه الفرائض، وعملوا بها تصديقا بقلوبهم وقولا بألسنتهم، وعملا بجوارحهم، قال الله عز وجل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»
..
«فإن احتج محتج بالأحاديث التي رويت: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة».. قيل له: إن هذا كان قبل نزول الفرائض».
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: كان المشركون والمسلمون يحجّون
1033
جميعا.. فلما نزلت «براءة» نفى المشركون عن البيت الحرام، وحج المسلمون لا يشاركهم فى البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك من تمام النعمة- لمّا كان ذلك- نزل قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
وفى إضافة الدين إلى المسلمين «دينكم» وهو فى الحقيقة دين الله- إذ يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» - فى هذا ما يشعر بأن الأمة التي اختارها الله تعالى لحمل هذا الدين، وتبليغ رسالته، هى أهل لحمل هذه الأمانة العظيمة، كما أنها مستحقة لتكون فى هذا المقام الكريم التي تقوم فيه مقام الأنبياء والمرسلين فى القيام على دين الله..
وقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو رفع لهذا الحظر الذي ضربه الله سبحانه وتعالى على هذه المحرمات، وذلك فى حال المخمصة والاضطرار..
والمخمصة: هى الجوع المتّصل، الذي قد يؤدى إلى التلف.. فإنّ حفظ النفس من التلف، من الأمور التي جاءت الشرائع السماوية لتقريرها، والوصاة بها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (١٩٥: البقرة).
وقوله تعالى: «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» أي غير مائل إلى إثم وراغب فيه..
والمراد بالإثم هنا، هو عين هذه المحرمات، لأن أكلها فى غير اضطرار هو إثم، فعبّر عنها القرآن بالإثم تقبيحا لها وتنفيرا منها.
والمعنى: أن من وقع فى مخمصة، أي جوع شديد، وخاف على نفسه أن يهلك جوعا، ولم يكن ثمة سبيل إلى طعام غير هذا الطعام الخبيث، فليأخذ منه بقدر
1034
ما يحفظ عليه حياته، وألا يقبل عليه إقبال المشتهى له، المستطيب لأكله..
وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة مضيئة تكشف عن أن إباحة هذه المحرمات فى حال الاضطرار لا ينفى عنها خبثها، ولا يرفع الإثم المتلبس بها.. ولكن رحمة الله ومغفرته هما اللتان تمحوان عن المضطر خبثها، وإثمها.. وفى هذا ما فيه من صرف النفس عن هذه الخبائث، وتجنبها، ومحاذرة إلفها.. إذ كان إثمها يعلق بكل من يدخل فى جوفه شيئا منها، مضطرا، أو غير مضطر.. إلا أن المضطر يعود إليه الله سبحانه وتعالى برحمته ومغفرته، فيغسل ما علق به من درن!
الآية: (٤) [سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
التفسير: السّائلون هنا هم المؤمنون.. والمراد بهم جماعات منهم، قد سألوا النبىّ تلميحا أو تصريحا: «ماذا أُحِلَّ لَهُمْ؟» وكأنه قد وقع فى نفوسهم من عرض هذه المحرمات فى صورة مفصّلة أن فى ذلك تضييقا عليهم، وأن ما حرّم عليهم أكثر مما أحلّ لهم.. فجاء قوله تعالى عن هذا السؤال المسئول، أو الذي سيسأل- جاء قوله تعالى: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» جوابا شافيا لكل وسواس، كاشفا لكل شبهة، فى إيجاز معجز، تخشع القلوب لجلاله، وتخضع الأعناق لروعته..
1035
فما أحلّ الله هو كل طيب، وما حرّمه فهو كلّ خبيث- هذا هو مناط الحكم فى الحلّ والحرمة. وهذا هو فيصل ما بين الحلال والحرام.. فكل طيب هو حلّ مباح، وكل خبيث، هو حرام محظور.. فليست العبرة بكثرة هذا أو ذاك، فى الكمّ والعدد، وإنما العبرة بالكيف الذي عليه هذا وذاك..
فما اتصف بأنه طيب، تقبله النفوس الطيبة، وترضاه، فهو حلال، وما اتصف بأنه خبيث، تعافه النفوس الطيبة، وتنفر منه، فهو حرام..
والواقع يحدّث بأن الطيبات كثيرة لا حصر لها، وأن الخبائث قليلة يمكن حصرها، والإشارة إليها، ولهذا أطلق الله الطيبات، وجعلها شاملة عامة، وقيد الخبائث، وحصرها فى تلك الدائرة الضيقة، وأباح كل ما وراءها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» (٢٢: الأعراف) ويقول سبحانه فيما حرّم من خبائث ومنكرات:
«إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (٣٣: الأعراف).
وقوله تعالى: «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» هو بيان لأمر تشوبه شبهة الحرام، وهو الصيد الذي يصاد بالحيوانات التي يدرّبها أصحابها على الصّيد، كالكلاب والنسور ونحوها..!
والشبهة فيها، هى أن حيوان الصيد قد يدميها بنابه أو مخلبه، أو منقاره، وربما تموت قبل أن تصل إلى يد صاحب الحيوان الصائد لها..
وقد جاء قوله تعالى هنا مبيحا لهذا الأسلوب من الصيد، ولكن قيّدّه
1036
بقيود، وهى أن يكون الحيوان المرسل للصيد معلما، ومدربا على صيد الحيوان، وحمله إلى صاحبه، دون أن يتسلط عليه بأنيابه أو مخالبه، لينال منه، كما ينال الحيوان المفترس من فريسته..
وفى قوله تعالى: «تُعَلِّمُونَهُنَّ» وقوله سبحانه: «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» إشارة إلى أن هذه الحيوانات المدرّبة على الصيد هى من الحيوانات القابلة للتعليم والتدريب، والواعية لما تتلقى على يد مدربها من خطط الصيد، والمحافظة على ما يصاد سليما، وحمله إلى صاحبه.. ولهذا خاطبها الله سبحانه وتعالى خطاب العقلاء بقوله «تعلمونهن» و «أمسكن عليكم» ولم يقل «تعلمونها» و «أمسكت» كما هو الشأن فى خطاب غير العاقل.. وذلك لأنها حين درّبت، واستجابت لما درّبت عليه كانت أهلا لأن تتّسم بسمة أصحاب العقول.
وقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» أي اذكروا اسم الله على الصّيد الذي يحمل إليكم من كلاب الصيد هذه، وذلك بذبحها وذكاتها وذكر اسم الله عليها بقولكم: «باسم الله.. الله أكبر» ! وكذلك ينبغى أن يذكر اسم الله على الصيد الذي يصاد بالسّهام، وترسل الكلاب المعلّمة للإتيان به بعد أن يصيبه السهم، حيّا أو ميتا.. فذلك هو ذكاة له.
وفى قوله تعالى: «مُكَلِّبِينَ» إشارة إلى أن الكلاب هى أصل الحيوانات المعلمة للصيد، وأقربها إلى تلقى التدريب والتعليم. ومن ثمّ كان اسم كلب الصّيد جامعا لكل حيوان أو طير يدرب على هذا العمل..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» تنبيه إلى أن تقوى الله، هى ملاك الأمر فى الرقابة على تنفيذ أحكام الحلال والحرام، ووضع الحدود الفاصلة بين الطيب والخبيث، إذ كان ذلك أمانة بين العبد وربّه،
1037
لا رقيب عليه إلا دينه، ولا وازع له إلا تقواه.. فمن خان الله، واستحلّ محارمه فحسابه على الله، وهو حساب لا يفلت منه أحد: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ».
الآية: (٥) [سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
التفسير: فى قوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» - ما يسأل عنه..
وهو: ما هو هذا اليوم الذي أحلّت للمسلمين فيه الطيبات؟ ولم كانت مظروفية هذا اليوم هى ابتداء هذا الحكم؟ ثم ماذا كان شأن المسلمين قبل هذا اليوم..
ألم تكن قد أحلت لهم الطيبات؟
والجواب: (أولا) أن هذا اليوم هو اليوم الذي تمت فيه أحكام الشريعة، واستوفت غايتها، وهو اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
(وثانيا) ومنذ هذا اليوم الذي كملت فيه أحكام الشريعة تمّ إحكام الحدود بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث.. فكانت مظروفية هذا اليوم هى الحجاز الفاصل فصلا تامّا بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث.
(وثالثا) كان المسلمون قبل استكمال الشريعة متلبسين بكثير من العادات والأعمال التي كانت لهم فى الجاهلية.. وقد تعقبها الإسلام، عادة عادة، وعملا
1038
عملا، فى مدى ثلاثة وعشرين عاما، هى مدة البعثة النبوية، حتى إذا كانت آخر آية نزلت من القرآن كانت الشريعة قد تمت، وكان كل ما لا ترضاه الشريعة ولا تقبله من أتباعها، قد بيّنت حكمها فيه.. وبهذا لم يكن لأحد بعد هذا اليوم أن يحلّ أو يحرّم غير ما أحلت الشريعة وغير ما حرمت! وقوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» إشارة إلى أن كل ما أحل للمسلمين هو الطيب الكريم، وأن ما حرم عليهم هو الخبيث الكريه...
قوله تعالى: «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» هو من الطيب الذي أبيح للمسلمين تناوله من طعام، وهو طعام أهل الكتاب..
وكذلك لا حرج على المسلمين من أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم! كذلك من الطيبات التي أباحها الله للمسلمين «الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ» وهنّ اللائي تنعقد رابطة لزواج بهنّ انعقادا صحيحا بألا تكون المرأة المؤمنة من المحارم، ولا أن تكون فى عصمة الغير، ولا فى عدتها منه، ولا أن تكون مع وجود أربع زوجات غيرها.. والشأن فى المحصنات من المؤمنات، المحصنات من الكتابيات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ».. وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» (٢٢١: البقرة).
وقوله تعالى: «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» هو شرط فى زواج المحصنات من المؤمنات والكتابيات.. وهو إتيانهن مهورهن..
1039
وقوله تعالى: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» هو حال بعد حال، بعد حال، كشرط لحلّ المرأة، وإضافتها إلى الطيبات التي أحلها الله، وذلك بأن يكون المراد بالاتصال بها الإحصان، والحماية من الفساد، لا أن يكون الاتصال بها لإشباع الشهوة، والزنا بها، لقاء أجر معلوم، أو اتخاذها خليلة، لا زوجا.. للمتعة، مع التحلل من رابطة الزوجية.
قوله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» بيان لأن الإيمان من أطيب الطيبات التي دعا الله عباده إليها..
فمن تحلل من الإيمان، وكفر بالله فقد حرم من كل طيب، وطعم من كل خبيث.. لا يقبل منه عمل، «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» يلقى الله وقد صفرت يداه من كل خير، وأثقل ظهره بكل سوء!.
الآية: (٦) [سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
التفسير: القيام للصلاة: اتجاه النية إلى أدائها، والتعبير بلفظ القيام للدلالة على عظم قدر الصلاة، ورفعة شأنها، وأنها بحيث تستدعى حضور الوجود
1040
الإنسانى كلّه، وقيامه ظاهرا وباطنا للتوجه إليها، ولقائها، بكيان جميع لا يتخلّف منه شىء عن الانتظام فى موكب الاحتفاء بهذه الفريضة الكريمة..
وهذه بعض المشاعر التي يثيرها قوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» عند من يستصحب معه هذه الدعوة الإلهية، وهو يتهيأ للصلاة، ويأخذ لها وسائلها، الموصلة إليها..
والوضوء إنما يكون بعد طهارة الجسد، والثوب، كالاغتسال من الجنابة ونحوها..
وهو- أي الوضوء- كما بينه الله سبحانه فى هذه الآية.. «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» فهذان عضوان يجب غسلهما فى الوضوء.. الوجه واليدان إلى المرفقين.. والمرفق هو من منقطع الأظفار إلى آخر الزندا عند مفصل العضد.
وقوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» هو بيان لتتمة المفروض فى الوضوء.. وهو خاص بالرأس، والرجلين..
أما الرأس، فالمفروض هو مسحه باليد، بماء جديد، أي بأن تغمس اليد فى ماء الوضوء، ثم يمسح بها على الرأس.. وأىّ ما مسّ الرأس من اليد بالمسح فهن مجز، سواء شمل المسح الرأس كلها، أو معظمها، أو بعضها، قلّ أو كثر هذا البعض! ذلك أن المسح فى ذاته لا أثر له فى نظافة الرأس، فهو لا يعدو- والأمر كذلك- أن يكون إشارة إلى أن الرأس من الأعضاء المطلوب نظافتها، والالتفات إليها فى هذا الشأن.. ولكن لرحمة الله بنا، ويسر شريعته علينا، كان الاكتفاء بتلك الإشارة، دون الأمر بغسل الرأس عند كل وضوء، ففى ذلك ما فيه من حرج وإعنات.. وقد عافانا الله فى ديننا من كل أمر يحرج أو يعنت.
1041
أما الرّجلان.. فقد اختلف فى قراءتهما، ولهذا اختلف فى الحكم الواقع عليهما.. إذ قرىء: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» بالنصب بعطف أرجلكم على «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ» كما قرىء بالجرّ، بعطف أرجلكم على رءوسكم. التي هى أقرب معطوف إليها.
فالذين قرءوا «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب، قالوا إن غسل الرجلين إلى الكعبين فرض، شأنهما فى هذا شأن الوجه واليدين إلى المرافق..
والذين قرءوا وأرجلكم «بالجرّ».. قالوا: إن حكم الأرجل هنا هو حكم الرءوس، وهو المسح.. أي فامسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. ولكنّ هذا الحكم منسوخ بالسنّة، لما روى البخارىّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «تخلّف النبىّ ﷺ فى سفر، فأدركنا وقد أرهقنا العصر- أي كاد يفلت منا وقته- فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى- أي رسول الله- بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين، أو ثلاثا.
وروى هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن طريق آخر، قال: «خرجنا مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق، تعجّل قوم عند العصر، فتوضئوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء»
.
يقول ابن حزم فى التعليق على هذا الخبر:
«فكان هذا الخبر زائدا على ما فى الآية... وناسخا لما فيها.. ولما فى الآية (أي من أحكام) والأخذ بالزائد (أي ما جاءت به السنة هنا) واجب.».
1042
أي أنه يؤخذ بما فى الآية، وبما جاءت به السنة، مكملا لها زائدا عليها، وهذا وذاك واجب فى الوضوء.. فكان غسل الرجلين (الذي هو زائد على المسح) واجبا..
فابن «حزم» يأخذ الحكم بوجوب غسل الرجلين من هذا الخبر الذي يروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ويجعل هذا الخبر ناسخا لحكم المسح الذي فهم الآية الكريمة عليه. وكان الأولى من هذا، ألا يضع الآية تحت حكم النسخ، بل أن يجعل هذا الخبر شارحا لمعناها على الوجه الذي فهمها عليه أكثر المفسرين والفقهاء والنحاة، وهو أن قوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» حكم مستقل، معترض بين ما سبقه وما تقدمه، وأن قوله سبحانه: «وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» معطوف على قوله سبحانه:
«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» وفى هذا صيانة للكتاب من تسليط خبر لم يبلغ حدّ التواتر فى نقض حكم من أحكام القرآن.
ثم ماذا لو نظرنا فى الآية الكريمة نظرا لا يخضعها لأحكام النحو، ولا يقيمها على موازين قواعده؟ وماذا لو أخذنا من الآية الكريمة لمحة من لمحات إعجازها، فقلنا إن فى هذا الوضع الذي اتخذه حكم «الرّجلين» فى الوضوء ما يسمح بأن يعطى الرجلين حكما وسطا، يجمع بين المسح والغسل؟.. بمعنى أن يكون المسح عاما شاملا من باطن وظاهر.. إلى الكعبين، وأن يسيل الماء منهما حتى لكأنه الغسل، وأن يكون الغسل شيئا قريبا من المسح، بلا تدليك، ولا تخيل أصابع.. فهو مسح كالغسل، وغسل كالمسح..
وفى هذا ما يتفق مع يسر الشريعة، وتخفيفها على العباد، وخاصة فى الأحوال التي يشتد فيها البرد، أو يقل فيها الماء.. وذلك مما يدخل الطمأنينة فى شعور المتوضئ أنه أدّى الواجب إذا غسل رجليه هذا الغسل الخفيف، وأنه يدخل
1043
الصلاة وقد استوفى حقّ الدخول فيها.. ثم إنه ليس يعنى هذا أن يلتزم المتوضئ هذه الصورة فى غسل رجليه.. بل إن له أن يجرى عليهما الماء ما شاء، وأن ينظفهما ما أراد وما استطاع، إذ لا حرج عليه فى هذا، وإنما الحرج فى ألا يدفع عنه هذا الحرج إذا هو غسل رجليه وكأنه يمسحهما، أو مسحهما وكأنه يغسلهما.. ذلك والله أعلم.
قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» هو إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلم قبل الوضوء، وهو أن يكون على طهارة من الجنابة..
بالاغتسال، أو التيمم فى المرض أو السفر، أو عند فقد الماء.
وفى قوله تعالى «فَاطَّهَّرُوا» إشارة إلى أن المطلوب هو التطهر.. ولم يحدّد اللفظ القرآنى أسلوب التطهر.. أهو بالاغتسال أو بالتيمم.. وذلك لأنه سبحانه قد خفف على عباده، فلم يجعل التطهر بالاغتسال أمرا لازما فى جميع الأحوال.. فالمريض، والمسافر، قد أبيح لهما التطهر من الجنابة بالتيمم، وكذلك الصحيح المقيم إذا فقد الماء.. فإذا تيمم أحدهم طهر من الجنابة، وإذا قام للصلاة وجب أن يتيمم للصلاة، وهو على طهارته بتيمم الطهارة من الجنابة.
فانظر إلى هذا الإعجاز القرآنى فى قوله تعالى: «فَاطَّهَّرُوا» وإلى توافق هذا الأمر الإلهى مع قوله تعالى بعد هذا: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ»..
ولو كان اللفظ القرآنى: «فاغتسلوا» بدل قوله تعالى: «فَاطَّهَّرُوا» لوقع تصادم بين هذا اللفظ وبين الحكم الوارد بعده فى هذه الآية، والذي جاء مثله فى سورة النساء فى قوله تعالى:
1044
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» (٤٣: النساء).. وقد سبق أن شرحناه فى موضعه! ولكن كيف يقع التصادم والتخالف فى كتاب منزل من رب العالمين، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وفى قوله تعالى: «ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ما يكشف عن جوانب كثيرة من رحمة الله بنا، وفضله علينا، وأنه أقامنا على شريعة، لا حرج فيها ولا إعنات، وأن كل ما جاءت به هو تصحيح لإنسانيتنا، وتكريم لآدميتنا، وحماية لنا من دواعى الفساد والعطب..
وفى هذا الذي يلبسنا من نعم الله وأفضاله، ما يستوجب الحمد والشكر، وذلك بأن نتلقى أحكام الله بالقبول والرضا، وأن نأنس بالحياة معها، والعيش فيها، وأن نستوحش من البعد عنها، أو التفريط فى الإمساك بها..
الآية: (٧) [سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
التفسير: عطف هذه الآية على ما قبلها هو توكيد للشكر الواجب علينا
1045
أن نعيش فيه مع الله الذي تحفّ بنا ألطافه، وتشتمل علينا نعمه.. ففى كل نفس يتنفسه الإنسان نعم ظاهرة تحدّث بها كل جارحة فيه.. فضلا عن النعم التي تساق إليه من هذا الوجود الذي يتحرك فى رحابه ويتقلب بين أرضه وسمائه..
قوله تعالى: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ» هو عطف على قوله تعالى: «نِعْمَةَ اللَّهِ» أي اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الّذى واثقكم به..
والميثاق الذي واثقنا الله به هو ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (١٧٢: الأعراف) فهذا إقرار من الناس جميعا- قبل أن يخلقوا وقبل أن يكونوا أناسا- بالولاء لله، والاعتراف بربوبيته.. وهو إقرار ضمن الإقرار العام للوجود كلّه بالانقياد لله، والولاء له..
وإذ يذكر الإنسان أنه كان على عهد مع الله وهو فى مضمر الغيب، قبل أن يكون له وجود، وقبل أن يستكمل وجوده، ويصبح كائنا، عاقلا رشيدا- إذ يذكر الإنسان هذا من أمر نفسه، ويذكر ما ينبغى أن يكون موقفه من الله، وهو الإنسان العاقل الرشيد- وجد من السفاهة والضلال أن يكون على غير هذا الطريق القويم الذي انتظم فيه مع الوجود كله يوم أن لم يكن شيئا..
فكيف يسفه ويحمق، ويشرد عن هذا الطريق، ويتخذ لنفسه طرقا لا معلم فيها، ولا أنيس له فى مجاهلها إلا من كان على شاكلته من التأئهين والضالين وإخوان الشياطين؟
1046
هذا، ويمكن أن يكون هذا الميثاق الذي واثق الله به الذين آمنوا هو ذلك الميثاق الذي بايع به المسلمون رسول الله إذ دخلوا فى الإسلام، فقد كانت بيعتهم لرسول الله قائمة على: «السمع والطاعة فى المكره والمنشط» أي فى الضرّاء والسّرّاء. والعقد الذي وثّقه النبىّ ﷺ مع المؤمنين، هو عقد لله، ومن ثمّ كانت إضافته إلى الله تعالى، تكريما للنبىّ، وتوثيقا بعد توثيق لهذا الميثاق العظيم.. «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» (١٠: الفتح).
فكل من دخل الإسلام، دخل بهذا الميثاق، سواء شهده أو لم يشهده..
فلا إيمان بغير استجابة، ولا استجابة بغير طاعة وامتثال.
الآية: (٨- ١٠) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٨ الى ١٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
التفسير: مما يدخل فى الميثاق الذي واثق الله به المؤمنين أن يكونوا «قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» والقيام لله هو الانتصار لشريعته والرعاية لأحكامه.. سواء فى محيط الإنسان فى ذاته، أو فى دائرة الجماعة الإسلامية كلها.. فحيثما كان لله أمر أو نهى فى شأن من الشئون أو موقف من المواقف
1047
كان على الإنسان أن يستحضر له وجوده كله، وأن يلقاه بوجوده كلّه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَوَّامِينَ لِلَّهِ» حيث يحمل هذا الفعل معنيين، يكمل أحدهما الآخر: القيام، ثم المبالغة فى هذا القيام إلى أقصى حد يستطاع.
وهذه الدعوة بالقيام بأمر الله ونهيه، والمبالغة فى هذا القيام، هو أمر ملزم للمؤمن فى ذاته، كما هو ملزم للمؤمنين جميعا.. الإنسان فيما هو له وعليه، والجماعة كلها فيما هو لها أو عليها.. فليس يكفى لسلامة الإنسان أن يسلم فى نفسه، وإنما أن تسلم الجماعة معه، ففى سلامتها سلامة له، وفى عطبها عطب ضمنى له! وقد شرحنا هذه الآية عند وقوفنا بين يدى الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» (١٣٥: النساء) ويلاحظ أن صورة النظم قد اختلفت هنا عن صورتها هناك، فقد سلّط كل من الفعلين على ما سلط عليه صاحبه: «كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ».. «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» وهذا يعنى أن القوامة بالقسط هى قوامة لله، وأن الشهادة لله هى شهادة بالقسط.. ذلك أن القسط هو العدل، والعدل صفة من صفات الحق جلّ وعلا.. ومجموع الصورتين يعطينا صورة مؤكّدة للمأمور به فيهما، هكذا:
كونى قوامين لله.. شهداء لله.
كونوا قوامين بالقسط.. شهداء بالقسط.
ولكنّ النظم القرآنى جاء بهما على هذا النمط الذي صانهما من هذا التكرار، كما فوّت الجمع بين الله سبحانه وتعالى وبين صفته. وكلاهما نحن مدعوون إلى توقيره، مأمورون بالاحتفاء به.
1048
وبين يدى الدعوة إلى رعاية أوامر الله، واجتناب نواهيه، والتزام حدود العدل والحق- تنتصب صورتان، إحداهما لمن آمن واهتدى، واستقام على طريق الله، فأحل الحلال، وحرّم الحرام، والأخرى لمن كفر بالله، واتبع هواه، وركب طرق الغواية والضلال.. وفى الصورة الأولى يرى المؤمنون ما أعد الله لهم من واسع رحمته، وعظيم فضله، وفى الصورة الثانية يرى الكافرون ما أعد لهم من جهنم وقد فغرت فاها، ومدت ألسنتها لتصطادهم من بعيد وقريب: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ».
الآية: (١١) [سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
التفسير: الهمّ بالأمر.. هو العزم عليه، دون تنفيذه لأمر ما، من داخل النفس أو خارجها.. «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» (٢٤: يوسف).
وبسط فلان إلى فلان يده: مدّها إليه بالشر والأذى.. «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» (٢٨: المائدة).
وقد اختلف المفسّرون فى هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إلى المؤمنين بالأذى فكف الله أيديهم عنهم..
والصورة التي ترتسم لمن يقرأ الآية الكريمة، مستعرضا أحداث الإسلام
1049
الأولى، يرى أنها تشير إلى ما وقع فى غزوة الخندق، المسماة غزوة الأحزاب كذلك- فقد جاءت قريش بجموعها، وبجموع أحلافها، تريد أن تقتلع الدعوة الإسلامية من أصولها، فعسكرت حول المدينة، ووقفت أمام الخندق الذي أقامه الرسول والمسلمون حولها.. وكان من تدبير الله سبحانه أن أوقع الخلاف بين هؤلاء الأحلاف، بعد أن طال بهم المقام فى مواجهة المدينة دون أن يصلوا إليها.. ثم أرسل الله عليهم ريحا عاصفة فى ليلة مظلمة باردة.. فأطفأت نارهم، وقلبت قدورهم، وهدمت خيامهم.. حتى إذا انكشف وجه الصباح كانوا هشيما مبعثرا على كل طريق.. إلا الطريق إلا المدينة، وهكذا كان فضل الله، وكانت رحمته التي ينبغى أن تكون مما يذكره المسلمون من نعم الله ورحماته! وفى هذا يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (٩- ١٠: الأحزاب).. ويقول سبحانه: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً»
(٢٥: الأحزاب) فهل نعمة أعظم من هذه النعمة؟ وفضل أكبر من هذا الفضل؟.
ومن عجب ألا أجد أحدا من المفسرين يقول بهذا الرأى.. فيما بين يدىّ من كتب التفسير! وفى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وفى عطفه على قوله سبحانه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ما يشير إلى أن المراد بذكر نعم الله، ومراجعة أفضاله
1050
على الإنسان، ليس هو مجرد لذكر باللسان، والتسبيح به، وإنما الذي يحقق لهذا الذكر أثره هو أن يكون مبعثا لخشية الله، واستحضارا لجلاله وعظمته، وذلك مما يبعث إلى التقوى، التي تقوم على مراقبة الله، وحراسة جوارح الإنسان من معصيته.
الآية: (١٢) [سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
التفسير: فى مواجهة النعم التي أنعم الله بها على المسلمين، ودعاهم إلى تذكرها، وملء مشاعرهم بها، لتفتح قلوبهم بخشية الله، وتملأها بتقواه- فى مواجهة هذا يذكر الله سبحانه ما كان له من نعم وأفضال على بنى إسرائيل ثم ما كان منهم من جحودها، والتنكر لها، واتخاذها ذرائع للإفساد والطغيان..
ثم ما كان من عقاب الله لهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، ودمغهم باللعنة والغضب.. وتلك هى عاقبة من حادّ الله، وكفر به، ومكر بآياته، وجحد أفضاله ونعمه..
«وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً».
فهذا الميثاق الذي أخذه الله على بنى إسرائيل قد حمله إليهم أنبياء الله،
1051
وعزّرهم النقباء الذين كان كل نقيب منهم على رأس جماعة من جماعاتهم، حتى يكون ذلك أقرب إلى لقائهم معه، واستجابتهم له، لأنه منهم أشبه بالأب من أبنائه، قرابة ومودة.. وهؤلاء النقباء هم رسل الله إليهم، ولهذا جاء قول الله عنهم. «وبعثنا» حيث يغلب مجىء هذا اللفظ فى بعث الرسل من عند الله إلى عباد الله..
وقوله تعالى: «وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» - هو الميثاق الذي أخذه الله عليهم، ووثقه معهم.
فهو- سبحانه- معهم، إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وآمنوا بما يبعث إليهم من رسل الله، وعزروهم، أي نصروهم، وبذلوا مما فى أيديهم فى وجوه الخير، أي أقرضوا الله قرضا حسنا، بلا منّ ولا أذى، ولا ربا..
إنهم إن فعلوا هذا كفّر الله عنهم سيئاتهم وأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وإن كفروا فقد ضلوا سواء السبيل، وركبوا الطريق المؤدى بهم إلى جهنم.. وبئس المصير..
فماذا كان من القوم مع هذا الميثاق العظيم؟
ذلك ما نجده فى قوله تعالى، فى الآية التالية:
1052
الآية: (١٣) [سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
التفسير: لقد نقض بنو إسرائيل الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فكفروا بآيات الله، ومكروا بها وجحدووا نعمه وأفضاله، وكذبّوا رسله، وأخذوهم بالأذى الذي بلغ فى كثير من الأحيان حدّ القتل.
فبسبب هذا لعنهم الله.. وكفى بهذا العقاب عقابا ونكالا.. إنه الهلاك الأبدى، والضياع لمعالم الإنسانية كلها، والخسران فى الدنيا والآخرة..
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (٥٢: النساء) قوله تعالى: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً» هو مسخ لهذه القلوب، وقلب لطبيعتها، وتحول بها من قلوب بشرية إلى قلوب لا تمتّ إلى عالم البشر بصلة..
وهذا ما يشير إليه اللفظ القرآنى: «وجعلنا» الذي يدلّ على خلق جديد لهذه القلوب، وتصويرها فى صورة غير الصورة التي كانت.. ولهذا استباحت تلك القلوب كل منكر، وتقبّلت كل خبيث، دون أن تتأثّم أو تتحرج، حتى بلغ بها ذلك أن عبثت بكلمات الله، وغيرت معالمها، وبدّلت أوضاعها، وخلطتها بأهوائها ونزعاتها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ».. وقد ضبط القرآن الكريم الجيل الذي عاصر نزوله من أجيال اليهود- ضبطهم متلبسين بهذا المنكر الذي كان عليه آباؤهم مع كتاب الله الذي بين أيديهم.. فقد جرت على ألسنة هؤلاء الأبناء الذين عاصروا نزول القرآن، صور من صور التحريف والتبديل لكلمات الله، فقال تعالى: «مِنَ
1053
الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ..»
(٤٦: النساء).
وهذا شاهد يشهد بلسان الواقع أن الأبناء والآباء على سواء، فى قسوة القلوب، وجرأتها على الله، وتبديلها لكلماته! قوله سبحانه: «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ».. الضمير هنا راجع إلى آباء اليهود، وأنهم لم يقفوا عند حدّ التحريف والتبديل لكلمات الله، بل لم يعملوا بما ظل سليما من تحريفهم فى الكتاب الذي بين أيديهم.. ذلك أنه بعد أن استقرت التوراة على ما فيها من تحريف، وتداولتها الأيدى، لم يكن من سبيل إلى إدخال تحريف عليها- فكان تحللهم من الأخذ بما لا يرضون من أحكام التوراة الباقية عندهم، هو الطريق البديل لهم من التحريف، لو كان ذلك التحريف مستطاعا لهم.. فعملهم هذا هو تحريف بصورة أخرى، بما يتأولون به النصوص، ويخرّجونها عليه، حسب ما تمليه أهواؤهم..
وقوله تعالى: «وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ» هو خطاب للنبى الكريم، وأنه يجد بين يديه من خيانات اليهود لأمانة الكلمة، وشرف العهد ما يصل حاضر اليهود بماضيهم، وأنهم أبدا على خيانة لله، ولرسول الله، ولعباد الله! وفى التعبير عن الخيانة بالخائنة ما يكشف عن هذا الأسلوب الخبيث الذي يتخذه اليهود فى خياناتهم، وأنه أسلوب قائم على المداهنة والنفاق.. حيث يخرج اليهود خيانتهم فى خبث ودهاء ومواربة، فلا يلقون بها إلا حيث لا ترصدهم العيون، ولا تواجههم الوجوه! وقوله تعالى: «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» هو استثناء لجماعة قليلة من اليهود، قد سلمت من هذا الداء الخبيث الذي اشتمل على القوم، ولم يبق على شىء منهم
1054
إلا كما يبقى الحريق على بعض ما اشتمل عليه، وكما يبقى البحر على بقايا سفينة غارقة! وقوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» هو توجيه لرسول الله ﷺ أن يقبل هذه الجماعة القليلة التي سلمت وأسلمت من اليهود، وألا يأخذها بجريرة الكثرة الكثيرة منهم! وألا ينظر إليها من خلال موقفها من النبي أول الدعوة، فقد كان اليهود جميعا على عداوة وحسد للنبى..
الآية: (١٤) [سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
التفسير: قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ»، هو معطوف على قوله سبحانه فى الآية (١٣) «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ».
وبين المعطوف والمعطوف عليه صلة: إذ كانت دعوة المسيح خاصة باليهود، كما يقول المسيح عن نفسه فيما تروى عنه الأناجيل: «أنا لم أرسل إلّا إلى خراف إسرائيل الضالة» ولهذا كان حواريوه كلهم من اليهود، كما كانت معجزاته لليهود، وفى اليهود، حتى إنه- عليه السلام- أبى على المرأة الأمميّة- أي من غير اليهود- أن يشفى ابنتها مما كانت تعانى من داء، وقال لها تلك القولة التي روتها الأناجيل عنه: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيداء،
1055
وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود.. ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضآلة» (متى: ١٥).
وفى قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا» به إشارة إلى أن هؤلاء النصارى الذين أخذ الله عليهم الميثاق كانوا من اليهود، الذين اتبعوا المسيح.. والمعنى: «ومن اليهود الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» وفى هذا تشنيع على اليهود أيضا، إذ كانوا دائما على هذا الخلق اللئيم فى المكر بآيات الله، ونقض المواثيق التي واثقهم الله بها.. فهم فى ثوب النصرانية كما هم مسلاخ اليهودية، وهم فى اتّباعهم لعيسى كما هم فى أخذهم لشريعة موسى.. كفر مع كفر، وضلال إلى ضلال.
وفى قوله تعالى: «نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» إشارة إلى أن أتباع المسيح قد تأولوا دعوته على غير مدلولها الذي أقامهم عليه، وعاش فيهم به.. فلم يكن فيهم إلها ولا ابن إله، ولم يؤمن به الذين عاشوا معه على أنه إله أو ابن إله، ولم يقل أصحاب الأناجيل الأربعة- وفيهم اثنان من الحواريين- أنه إله ولا ابن إله، وإنما كانوا- كما تحدث الأناجيل- ينادونه: يا معلم، يا سيد، وأن أعظم صورة تصوروها له: أنه يوحنّا المعمدان، بعث إليهم من جديد! فنسيان حظهم مما ذكّروا به هو هذا التأويل الفاسد لما فى الأناجيل، ولو أنهم استقاموا عليها لما وقع لأحد من أتباعه أن المسيح إله، أو ابن إله! وقد عرضنا هذه القضية من قبل، عند تفسير الآيات الأخيرة من سورة النساء.
قوله تعالى: «فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» هو بيان لثمرة هذا النسيان المتعمد، وذلك التأويل الفاسد لكلمات المسيح وتعاليمه، من
1056
أتباعه من اليهود. فقد أشاع اليهود من أتباع المسيح أنهم هم الذين وجّهوا دعوته تلك الوجهة فأخرجوها على هذه الصورة التي لبس المسيح فيها ثوب الألوهية، وقام فيها مقام الله.. ولعلنا نذكر هنا دور «بولس الرسول» وهو يهودى، ومن أتباع المسيح، وحامل لواء التبشير بالمسيحية خارج دائرة اليهود. فقد كان هو الذي أباح ما حرمته الشريعة من حلّ لحم الخنزير، والتحلل من الختان، بل وحرمته، دون أن يلتفت إلى أن المسيح نفسه قد ختن، حسب الناموس! وثمرة هذا النسيان المتعمد هى هذا الخلاف الشديد بين أتباع المسيح..
ذلك الخلاف الذي لا تزيده الأيام إلا عمقا واتساعا، إذ أباح هذا التأويل الفاسد حرمة الأناجيل، وجعل لكل ذى نظر أن يتأول ما يشاء، ويقول ما يريد، بعد أن أهدرت معانى الكلمات المقيدة بألفاظها، وأصبحت الألفاظ رموزا وإشارات، وأحلاما وأضغاث أحلام، يتأولها كل حسب رأيه واجتهاده، غير مقيد بقيد، ولا محتكم إلى لغة.
وهذه العداوة ليست عداوة ترجع إلى اجتهاد فى فهم النصّ، بقدر ما هى عداوة ترجع إلى تضارب الأهواء، واختلاف المنازع، ومن هنا لم تكن مجرد عداوة بين علم وجهل، بل كانت عداوة محملة بشحنات ثقيلة من البغض والكراهية، لأنها عداوة بين هوى وهوى ومشرب ومشرب! ثم إن هذه العداوة المحملة بأثقال البغضاء ليست عداوة موقوتة بوقت، ولا محدودة بزمن.. وإنما هى عداوة موصولة، متجددة، لا تنقطع أبدا:
«إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ».
قوله تعالى: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» أي سيعلمون يوم القيامة فساد هذا الذي صنعوه، وغيرّوا به وجه رسالة المسيح ودعوته..
وفى لفظ «يصنعون» دلالة على أن أسلوبهم هذا الذي جروا عليه مع
1057
كلمات المسيح وتعاليمه- لا ينقطع أبدا، وأن هذه الكلمات وتلك التعاليم، ستلد كل يوم مواليد جديدة من التأويل والتخريج.. فما يكون حلالا اليوم قد يصبح حراما غدا، وما هو حرام غدا يكون حلالا بعد غد.. وهكذا..
وصدق الله العظيم، وصدقت كلماته وآياته، المنزلة على النبي الكريم، الصادق الأمين.
فلقد رأينا كيف كان للمجمع المقدس، الذي انعقد فى «روما» فى هذه الأيام «١» أن يخرج على العالم المسيحي بهذا الرأى الذي يجبه معتقدا عاشت فيه المسيحية، واعتنقه المسيحيون قرابة ألفى عام- وهو أن اليهود قد صلبوا المسيح، وحملوا تبعة دمه، هم وأبناؤهم من بعدهم.. إذ قالوا حين قدموه للصلب، كما روت الأناجيل «دمه علينا وعلى أبنائنا» فجاء المجمع المقدس يبرىء اليهود من دم المسيح، ويقول: «إذا كان اليهود الأولون هم الذين صلبوا المسيح واحتملوا دمه.. فما ذنب أبنائهم من بعدهم؟».
وهذه قضية لا دخل للإسلام بها، إذ ينكرها من أصلها.. ولكن الذي نريد أن نقوله هنا- لحساب العقل والمنطق-: ما هو الحكم الذي يحكم به المجمع المقدس على أتباعه الذين عاشوا خلال الألفى عام يتعبدون بلعن اليهود، ويتقربون إلى المسيح بهذه اللعنات التي يسبّحون بها صباح مساء؟ ثم على من تقع تبعة هذه الدماء الغزيرة التي أراقها أتباع المسيح فى مدى هذه الأزمان المتطاولة- من اليهود، انتقاما للمسيح، وتشفيّا ممن تطاولت أيديهم إلى إلههم المعبود، حتى علقوه على خشبة الصليب وسقوه المرّ المذاب؟ ثم ألا يحقّ لليهود اليوم أن يطالبوا القائمين على أمر المسيحية بديت ملابين القتلى منهم؟
(١) كان انعقاد هذا المجمع فى خريف عام ١٩٦٤.
1058
إن ذلك هو العدل الذي يستقيم مع منطق المجمع المقدس الذي أصدر هذا الحكم، وأفتى بتلك الفتوى! «وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» لا بما صنعوا، وحسب..
فإنهم كل يوم يصنعون جديدا، ويستولدون أحكاما وشرائع.
(الآيتان: ١٥- ١٦) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
التفسير: «يا أَهْلَ الْكِتابِ» هى دعوة عامة إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
«قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» هو بيان لما يحمله الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أهل الكتاب من حق يصححون به ما أخفوا من أحكام الكتاب الذي فى أيديهم، وما غيّروا وبدّلوا.. وأن كثيرا مما أخفوه وحرّفوه قد تجاوز القرآن الكريم عنه، وترك الخوض معهم فيه، حتى لا يدخل معهم فى طريق طويل من الخلاف والجدل، وإنما كان الذي اهتم له القرآن الكريم، ووقف عنده، هو ما كان من الأصول العامة فى العقيدة، وهو ما يتصل بالألوهية، وعزلها عن كل ما دخل على مفهومها من ضلال وبهتان.. هذه هى قضية
1059
الإسلام الأولى، فإذا استقامت استقام كل شىء بعدها.
وقوله تعالى، «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» هو وصف لهذا الكتاب الكريم، وما يحمل إلى الناس من «نور» هو نور الحق، المهدى من السماء، لينير للناس سبلهم إلى الله، وليبدّد الظلام الذي يحجبهم عن الرؤية الصحيحة للحق والهدى..
ووصف الكتاب بأنه نور، ثم وصفه بأنه كتاب مبين، هو غاية ما يمكن أن تكون عليه دعوة الحق فى جلالها، ووضوحها، وإشراق شمسها، وأن من لا يرى الحق فى وجه هذه الدعوة، ولا يتناوله منها، هو أعمى أو متعام، ليس لدائه دواء، «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (٨١: النمل).
وقوله سبحانه: «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» سبل السلام هى طرق الحق، التي يأمن سالكها من كل عطب، ويسلم من كل سوء.. وهى مفعول به لقوله تعالى: «يَهْدِي». و «مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ» مفعول ثان له.. والمعنى أن الله سبحانه يهدى بهذا الكتاب إلى سبل السلام من اتبع رضوان الله، وابتغى مرضاته، فجاء إليه مستشفيا من دائه، مستطبّا لعلته، مستهديا لبصره وبصيرته.. أما من أعرض مستكبرا، ولوى وجهه جاحدا، فهو وما اختار لنفسه: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (١٧: فصلت).
قوله تعالى: «وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». هو بيان لفضل الله ولطفه بعباده الذين يوجهون وجوههم إليه.. إذ كانت عناية الله إلى جوارهم، تمسك بهم على الطريق، وتسدد خطاهم إلى الغاية التي يجدون عندها الأمن والسلام.
1060
وفى قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» وفى إضافة الرسول إلى الله بضمير المتكلم، تكريم للرسول الكريم، وتمجيد له، وتعظيم لشأنه، ولشأن ما يحمل بين يديه من ربّه، من هدى ونور.
الآية: (١٧) [سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
التفسير: وإذا كان النصارى- من أهل الكتاب- لم يعرفوا الداء الذي يكمن فيهم، وما يحمل إليهم القرآن من شفاء- فها هو ذا القرآن يضع يده على موضع الداء منهم..
إن جعلهم الله هو المسيح بن مريم، هو أصل الداء.. فما كان لله أن يولد من رحم امرأة، وأن تكون نسبته إليها..
إن الإله الذي يتصور على تلك الصورة، هو إله هزيل، لا تلده إلا عقول لا تعرف جلال الله وعظمته، وقدرته..
وأين المسيح الإله وقوته وقدرته، أمام قوة الله وقدرته؟
إن أراد الله أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا.. فمن يقف لهذه الإرادة، أو يردّ عليها ما أرادت، أو بعض ما أرادت؟
ألم تمت أمّ المسيح؟
وإذا كان فى المسيح شك أنه لم يمت بعد، فهل من شك فى أنه سيموت؟
1061
لقد مات الأصل، وهو أمّه. فهل يبقى الفرع، وهو المسيح ابنها؟
وقوله تعالى: «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» دفع لاعتراض قد يقيم شبهة عند من يرفعون المسيح عن مستوى البشرية إلى مرتبة الألوهية، فإن ميلاده من غير أب- هذا الميلاد الذي يثير فى النفس تساؤلات وتصورات- ليس الصورة الفريدة فيما خلق الله وأبدع من مخلوقات.. من ملائكة وجنّ وشياطين، وكواكب.. فأى إنسان مهما عظم هو ضئيل بالنسبة لأى مخلوق من تلك المخلوقات.. فإذا نظرنا إلى المسيح فى صورته، وجدناه كائنا بشريا، فى خلقته وفى سلوكه.. كان جنينا، ثم طفلا، ثم صبيا، ثم شابا، ثم رجلا.
وأكثر من هذا، فإن أتباعه أماتوه صلبا، ثم دفنوه بأيديهم فى التراب بعد أن حملوه على أيديهم جثة هامدة! ثم لقد كان له ما للناس فى هذه الحياة.. يأكل، ويشرب، وينام، ويصحو، ويبول ويغوط، ويفرح، ويحزن.. إلى غير ذلك مما يجرى على الناس! فأىّ شىء يخرج المسيح من الإنسانية إلى مقام الألوهية؟ ألأنه ولد من غير أب؟
إنه ليس أول من ولد من غير أب؟ إن الذي خلق الأب وخلق الأم لا يعجزه أن يخلق خلقا من غير أب ولا أم.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
إن غرابة المخلوق فى ميلاده، أو فى شكله، ولونه، وطوله، وعرضه..
إن دلّت على شىء فإنما تدل على قدرة الخالق، لا أن تكون مزلقا إلى الكفر بالله، والتعلق بالغريب العجيب مما صنعت يداه! فإن ذلك هو الضلال والسّفه، إذ كيف يتشابه الخالق والمخلوق، ويختلط الصانع بالمصنوع!؟
1062
الآية: (١٨) [سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
التفسير: مما يفسح لأهل الضلال فى ضلالهم، ويمدّ لهم فى حبل الغواية، أن يتمنوا على الله الأمانىّ، وأن يجدوا فى هذه الأمانى الباطلة، تعلّة يتعللون بها، وسرابا خادعا يجرون وراءه..
ولقد قامت لكل من اليهود والنصارى دعوى على الله، بأنهم أبناؤه وأحباؤه.
فاليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه..
والحق أنهم ما كانوا إلا أبناء لأهوائهم، وإلا أحباء لشهواتهم.. أمّا الله الذين يدّعون عليه هذه الدعوى، فهم أعداؤه وحرب عليه..
إن اليهود قد بدلوا كلمات الله وحرفوها، فآذوا رسله، وقتلوا أنبياءه فكيف تستقيم مع هذا دعواهم بأنهم أبناؤه وأحباؤه؟
والنصارى قد ألبسوا الله هذا الثوب البشرىّ، وداروا به فى الأرض دورة قاسية، يتلقى بها اللطمات واللعنات، ثم ينتهى به الأمر معلقا على خشبة بين لصّين! وقد ردّ الله عليهم هذا الادعاء الكاذب، وسلكهم جميعا- اليهود والنصارى- مسلكا واحدا، إذ كان طريقهم على الضلال واحدا.. فقال
تعالى: «فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟» أي إن كنتم أبناء الله حقا وأحباءه صدقا، فلم تغرقون فى الإثم، وتموجون فى الخطيئة، وتلقون فى النار؟
إن أبناء الله وأحباءه، لا يخرجون عن طاعته، ولا يمكرون بآياته! وفى قوله تعالى: «يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» ما يقطع بأنهم معذبون، وأن هذا العذاب إنما استحقوه بما كسبت أيديهم، شأنهم فى هذا شأن كل من يكذب بالله ويخرج عن طاعته! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» فلا محاباة لأحد عند الله، ولا كرامة لإنسان عنده، إلا بالعمل الصالح.
وفى قوله تعالى: «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» إشارة إلى أن الله عبادا أرادهم للجنة فعملوا لها، واستحقوا مغفرته ورضوانه، وعبادا أرادهم للنار فعملوا لها، فوقعوا تحت نقمته وعذابه..
يروى عن عمر بن الخطاب وقد سئل عن قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» فقال: سمعت رسول الله ﷺ سئل عنها فقال: «إن الله عز وجل لمّا خلق آدم، مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال:
خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره واستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون»
.
الآية: (١٩) [سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
1064
التفسير: ومرة أخرى يدعو الله سبحانه أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن ينظروا فى أنفسهم، وأن يتدبروا أمرهم فى موقفهم من هذا الرسول الكريم، الذي جاءهم على فترة من الرسل- أي بعد زمن انقطعت فيه رسالة الرسل- وأن يلتقوا به، ويتعاملوا معه، ويصححوا معتقدهم فى الله على ما جاء به، فتلك هى فرصتهم، إن اهتبلوها غنموا ونجوا، وإن ضيعوها ضاعوا وهلكوا، ثم لم يكن لهم على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين! وفى قوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» هو قطع لكل علّة يعتلّون بها، فى ركوبهم الباطل، وخوضهم فى الضّلال.. فليس لقائل منهم أن يقول: «ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» أي رسول من عند الله، يكشف لنا معالم الطريق، ويرفع منارات الهدى.
وقوله سبحانه: «فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» هو حجة الله عليهم، بما حمل إليهم هذا البشير النذير من حق وهدى.
وفى مواجهة أهل الكتاب- اليهود والنصارى- بهذا الخطاب، من الله، ، دليل على عموم رسالة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، وأنه رسول إليهم كما هو رسول إلى الناس كافّة: «فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» هو «محمد» عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يشير إليه أيضا قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٨٥: آل عمران).
وفى قوله تعالى. «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وعيد لأهل الكتاب إذا هم لم يستجيبوا لهذا النبىّ، ولم يصححوا معتقدهم على ما جاء به من عند الله، وأنهم إذا لم يفعلوا فلن يفلتوا من عذاب الله، وأنهم لن يعجزوا الله فى الأرض، ولن يعجزوه هربا.
1065
الآيات: (٢٠- ٢٦) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
التفسير: هذا موقف من مواقف بنى إسرائيل العناديّة مع أنبياء الله، وحملة النور والخير إليهم، وإن فى ذلك لعزاء وسلوى، للنبىّ الكريم لما استقبل به اليهود دعوته، من كيد وتضليل.. إذ ليس هذا شأن اليهود مع النبىّ وحده، بل هو شأنهم مع كل نبى من أنبيائهم..
فهذا موسى عليه السلام، الذي بعثه الله إليهم، لينقذهم من الذلة والهوان، وليطلق سراحهم من يد الأسر المضروب عليهم من فرعون- موسى عليه السلام،
1066
الذي أطلق بين أيديهم معجزات آمن بها كهنة مصر وسحرتها، وفلق بهم البحر، ونجاهم من فرعون، وفجّر لهم من الصخر عيونا.. موسى وهذه بعض آياته ومعجزاته، قد أعنتوه والتووا عليه، وخرجوا من يده فى أكثر من موقف..
فها هو ذا يدعوهم إلى خير ساقه الله إليهم، ويوجههم إلى دار أمن وقرار وعدهم الله بها، وهو- عليه السلام- يقدم بين يدى دعوته استعراضا لنعم لله عليهم، ورحمته بهم.. «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ».. فقد جعل الله فيهم أنبياء وملوكا، وملوكا أنبياء، يجمعون بين سلطان الدنيا والدين، كما كان ذلك لداود وسليمان عليهما السلام، الأمر الذي لم يكن لأنبياء من قبل، ولا لملوك فى الأرض.. فما هو إلا سلطان واحد.. نبوّة أو ملك.. ولكن جمع الله لأنبياء بنى إسرائيل النبوة والملك معا..
وقوله تعالى: «وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» أي من هذه النعم التي تحملها السماء إليهم فى صورة معجزات: كالمنّ والسلوى، وكالجمع لأنبيائهم وملوكهم بين النبوة والملك- وهذا من شأنه يقوّى صلتهم بالله، ويوثق إيمانهم به.. ولكن كانت هذه النعم أسلحة يحاربون بها الله، ومعاول يهدمون بها معالم الحق، ومنارات الهدى! والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ» (٥١ فصلت).
وقوله تعالى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» هو دعوة موسى لهم، إلى نعمة جديدة، بعد تذكيرهم بما لله فيهم من نعم سابقة سابغة.. فهو
1067
لم يدعهم إلّا إلى ما فيه خير عاجل لهم، وهو أن يخرجوا من الصحراء، وأن ينتقلوا من حياة الرعي والخيام، إلى حياة المدينة، والاستقرار! ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا إلى أرض مقدسة، تحفّها رحمات الله، وتبارك أرضها..
ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا ليمدّوا أيديهم إلى ما وعدهم الله به، وكتبه لهم.. إنها ثمرة طيبة دانية القطوف، لا يحتاج من يريد أن يطعم منها إلى أكثر من أن يمدّ يدّه إليها! ومع هذا فقد أبى القوم أن يتقبلوا دعوة موسى، وأن يصدّقوا وعد الله لهم، بل غلب عليهم سوء طبعهم، فخيّل إليهم أن فى الأمر شيئا، وأن وراء هذه الدعوة ما وراءها! وموسى عليه السلام، خبير بالقوم، عليم بما ينطوى عليه كيانهم من خبث وفساد.. ولهذا لم يرسل الدعوة إليهم بدخول الأرض المقدسة مطلقة، بل أتبعها بهذا التحذير الذي كان لا بد منه فى مواجهة قوم كهؤلاء القوم..
«وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» إذ لا ينتظر من هذه الجماعة إلا أن تصطدم مع هذه الدعوة، كما تصطدم الكرة بجدار فترتدّ إلى وراء! وفى التعبير بارتداد القوم على أدبارهم، إشارة إلى أنهم إنما يرتدون إلى الوراء وعيونهم معلقة بالمتجه الذي تتجه إليه الدعوة، وكأن هذا المتجه حيوان مفترس يتحفز للوثوب عليهم.. فهم يسيرون إلى الوراء، على أقفيتهم، وأبصارهم شاخصة إلى هذا الأمر المخيف الذي دعاهم إليه! فهم- والحال كذلك- بين خطر يقع عليهم من تصوراتهم لهذا الأمر الذي يدعون إليه، وخطر يترصدهم، وهم يتدافعون إلى الوراء نحو مجهول لا يرون لهم منه مهربا..
1068
وانظر كيف كانت سفاهة القوم مع موسى عليه السلام.. يدعوهم إلى خير، فيكذّبونه ويمكرون به، ويتخابثون عليه.. ويناديهم متلطفا مترفقا، «يا قوم» «يا قوم» ويردّون عليه فى غلظة، وجفاء، واستعلاء: «يا موسى»..
«يا موسى» !! وقاحة، وجبن، ونذالة..
«قالُوا يا مُوسى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ».. هكذا كان ردهم على تلك الدعوة الكريمة المترفقة، المحمّلة بالخير والأمن..
إنهم- وذلك دأبهم أبدا- يأخذون دون أن يعطوا، ويجنون مالم يزرعوا..
يأكلون ثمرة الزارعين، ويسرقون جهد العاملين. فلا يريدون أن يدخلوا الأرض المقدسة إلا أن يخليها لهم أصحابها، ويهتفوا بهم: أن أقبلوا.. ولو وقع هذا لوقع فى أنفسهم أن يطلبوا إلى موسى أن يهيىء لهم مراكب سماوية تقلهم إلى حيث هم ذاهبون!! إنها طبائع أطفال، وتعلّات صبيان، وأمانىّ جبناء.
ومع هذا الردّ الوقح، فإن موسى لم يعتزلهم، ولم ينه الموقف معهم على هذا اليأس القاطع منهم.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
وقد اختلف المفسرون فى هذين الرجلين، وأكثروا من مذاهب القول فيهما، وذهب بعضهم إلى الإدلاء باسميهما.. إلّا أن الأمر الذي أجمع عليه المفسرون هو أن هذين الرجلين لم يكونا موسى وهرون! والذي نقول به ونطمئن إليه، هو أن هذين الرجلين، هما موسى وهرون!! وشاهدنا على هذا، ما توحى به الآيات الكريمة، بل وتكاد تصرح به!
1069
فأولا: الردّ الذي ردّ به القوم على هذه الدعوة، وهو ما جاء فى قوله تعالى: «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ».. فلو أن هذين اللذين دعواهما بقولهما: «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» - لو أنهما كانا غير موسى وهرون لما كان ردهم موجها إلى موسى.. بل كان يكفى أن يقولوا: «لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها»..
وأمّا أنهم واجهوا موسى بهذا الردّ، ولم يوجهوه إلى موسى وهرون معا، فلأن موسى كان هو رجل الموقف، وهرون كان ظهيرا له..
وثانيا: ما جاء فى قوله تعالى على لسان موسى: «قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ».. وهذا القول من موسى قاطع بأنه لم يكن فى القوم من استجاب له غير أخيه هرون.. وإذن فهو وهرون جبهة، والقوم جميعهم جبهة أخرى.. ولو أنه كان هناك فى جبهة موسى وهرون غيرهما لما قال هذا القول: «لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» إذ هو يملك- غير نفسه وغير أخيه- هذين الرجلين اللذين قيل عنهما إنهما قالا هذا القول.
وثالثا: فى قوله تعالى: «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» - أكثر من إشارة:
فالذين يخافون هم القوم كلهم، وبلا استثناء أحد.. والمعنى على هذا هو كهذا: قال رجلان من القوم الخائفين، وهذان الرجلان قد أنعم الله عليهما فعافاهما من هذا الخوف: اللذى لبس القوم واستولى عليهم.. وفى هذا تعبير للقوم، واحتقار لهم، وإزراء عليهم، ووصمهم جميعا بهذا الداء الذي لا يزايلهم أبدا.. داء الجبن والخوف من كل شىء.
ثم إن فى قوله تعالى: «فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» هو وعد مؤكد
1070
بدخول القوم هذه الأرض المقدسة لو أنهم جرءوا واتجهوا إلى العدو ودخلوا عليه الباب.. وهذا الوعد لا يكون إلا عن علم سماوى.. الأمر الذي لم يكن لأحد من القوم أن يقول به، غير موسى وهرون، اللذين هما على صلة بالوحى الإلهى.
هذا، وقد انتهى الأمر بين موسى وتلك الجماعة الشاردة، إلى اليأس، فكان أن اعتذر موسى إلى ربه بقوله: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ (أي احكم) بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» أي الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة الله، وامتثال أمره إليهم.. وقد قبل الله من موسى ما اعتذر به إليه، واستجاب له ما دعاه به، فحكم بينه وبين هؤلاء القوم الفاسقين.. فكان هذا حكم الله فيهم: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ».. إذ ضرب عليهم التيه والضلال فى الصحراء أربعين سنة، يضطربون فى هذا القبر المطبق عليهم، لا يعرفون لهم وجها للخلاص منه.
ولعل الحكمة فى توقيت التّيه بأربعين سنة، هى أن يموت أبناء هذا الجيل الذي كان منه هذا العناد والضلال، فلا يرى أحد منهم الأرض المقدسة، ومن رآها منهم ممن امتد عمره، فإنه يراها فى شيخوخة واهية، فلا ينتفع بخيراتها، ولا ينشىء له حياة فيها.. إن هؤلاء الشيوخ الذين يدخلون الأرض المقدسة بعد هذا التيه هم أشبه بالأطفال وبمن لم يبلغوا الحلم من أبنائهم الذين شهدوا موقف آبائهم من موسى ودعوته إليهم..
وهكذا يستدير الزمن بهذه الجماعة بعد تلك السنين الأربعين، فإذا أطفالها رجال، وإذا رجالها أطفال... !
1071
الآيات: (٢٧- ٢٩) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الصورة التي عرضتها الآيات السابقة لبنى إسرائيل كانت صورة معتمة للإنسان، فاضحة لمساوئه ومخازيه، حين تفسد فطرته، وتضيع معالم إنسانيته، فيدفع بكلتا يديه الخير المسوق إليه، وينفخ بفمه فى شعلة النور المنصوبة لهدايته.. مؤثرا أن يظل هكذا فى الظلام والضلال.
ولأنّ الإنسانية ليست كلها على هذه الصورة الكئيبة المعتمة، التي تتمثل فى بنى إسرائيل، إذ أن فى الإنسانية خيرا كثيرا، وفى الناس أخيار كما فى الناس أشرار وفجار- فكان من تمام العرض للإنسانية أن يعرض جانبها الطيب كما عرض جانبها الخبيث.
وقوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ» هو عرض للإنسانية كلها، من جانبيها: الطيب والخبيث، وعلى وجهيها: المشرق والمظلم. وفى مثليها: الملائكى والشيطاني.
وذلك، لكى تهتز هذه الصورة التي تتمثلها الخواطر للإنسانية المريضة، وهى تنظر إلى الإنسان من خلال آيات الكتاب الكريم، وما عرضت من ضلال هذه الجماعة وسفهها- ثم لتقوم مقام تلك الصورة صورة أخرى للإنسان حين يعلو بإنسانيته، ويرتفع بوجوده عن تراب هذه الأرض، وما اختلط به من ضباب ودخان، حيث يرى وجه الحق سافرا مشرقا، فيأنس به، ويحيا معه.
1072
وقد اتفق المفسرون قولا واحدا فى ابني آدم هذين، على أنهما هما قابيل وهابيل، وأن آدم كان قد أمر ولديه هذين أن يتزوج كل منهما توأم أخيه، وألا يتزوج الأخت التي ولدت معه.. ثم يقولون: إن توأم قابيل كانت أجمل من توأم هابيل، فأباها على أخيه، وأصر على أن يمسكها لنفسه، على حين أبى هابيل أن يعصى أمر أبيه، الذي هو وحي سماوى.. ثم اتفقا على أن يحتكما إلى الله، وذلك بأن يقدم كل منهما قربانا إلى الله، فمن قبل الله قربانه كان على الآخر أن ينزل على مشيئته! وقدّم كل منهما قربانه.. فتقبل الله من هابيل، ولم يتقبل من قابيل.
ولكن قابيل لم يرض بحكم السماء، وأصر على موقفه العنادىّ من أخيه، ومن أمر أبيه، ووصاة ربه..
وإنه لكى يخلو لقابيل الطريق، ويبلغ ما يريد، هداه شيطان الهوى إلى أن يقتل أخاه، وبذلك يقطع تلك اليد التي تنازعه المرأة التي يريدها.. ثم لا يكون- بهذا- قد خالف أمر ربّه أو وصاة أبيه.. فهكذا خيّل إليه أنه بهذا يضع حكم الله وشرعه أمام أمر واقع. وهكذا المفتونون وأصحاب الأهواء..
يتأولون فى شرع الله، فيبدلون ويغيّرون، حسب ما يميله عليهم الهوى، وتدعوهم إليه الشهوة!.. هذا ما قاله المفسرون فى هذه الآيات، معتمدين فى أكثر ما قالوا على ما يحدّث به اليهود من أخبار الماضين.
ونحن نرى- والله أعلم- أن حصر مضمون هذا الخبر القرآنى، فى هذا المحتوى الضيق المحدود، يذهب بكثير من معطياته، ويطلع بأضوائه من أفق محدود، لا تطلع شمسه إلا على صاحبى هذه القصة، فإن تجاوزهما إلى غيرهما، فلا أكثر من امتداد ظلهما، فى طوله أو قصره! والذي يعطى هذه القصة، بعض مالها من امتداد، وبعض ما فيها من حكمة،
1073
هو أن يكون الأخوان إنسانين من الناس. أي من بنى آدم.. وأن أحدهما مؤمن بالله، مستقيم على طاعة أوامره واجتناب نواهيه، وأن الآخر، لا يرعى لله حرمة، ولا يحفظ له عهدا..
وهذا واقع لا تنكره الحياة.. ففى كل مجتمع أخيار وأشرار، وفى الإخوة:
المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي..
وبنو إسرائيل، وإن كانوا من أبناء آدم، فإن انحرافهم عن الحق، وركوبهم طرق الضلّال، لا يعنى أنهم كلّ الإنسانية، ولا أنهم فى مركز القيادة فى سفينة الحياة.. فما هم إلا وجه من وجوه الإنسانية، وفى الإنسانية وجوه مشرقة، تفيض خيرا وبرا ورحمة، إذا هبّت من تلقاء بنى إسرائيل سمائم الشر، وأعاصير الفتن.
والحسد هو العلّة المتمكنة القاتلة فى بنى إسرائيل.. لا يرون أحدا تلبسه نعمة من نعم الله، حتى يطير صوابهم، وتطيش أحلامهم، فيضربون رءوسهم حتى تدمى، أسفا وحزنا، أن ينال أحد غيرهم خيرا..
وما جرى بين ابني آدم من هذا الصراع الدامي ما هو إلا شرارة من شرارات الحسد، اندلعت فى صدر أحد الأخوين، ثم لم تلبث أن شبّ ضرامها..
فكانت فتنة، وكان دم، وكانت خطيئة، وكان هلاك!.
ففى قوله تعالى: «إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ» مشهد من مشاهد هذه القصة.
فهذان أخوان يقدّم كلّ منهما قربانا إلى الله، يريدان بهذا القربان أن ينالا رضى الله، ومغفرته، ورحمته..
والقربان ما يتقرب به إلى الله من ذبائح ونحوها.
1074
وكان أن تقبّل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. لما يعلم- سبحانه- من أمر كل منهما، وما هو أهل له عنده..
وهنا تتحرك الغيرة، وتتحول إلى حسد، ويستغلظ الحسد فيكون عدوانا وانتقاما.. وإذا الأخ يتوعد أخاه، ثم تمتد إليه يد الإثم فتقتله، ولا تعطفه عليه عاطفة الأخوة، ولا لحمة الإنسانية، ولا وداعة الأخ وبره بأخيه، وحرصه على سلامته..
وفى هذا يقول الله تعالى: «قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»..
فهذا يتهدّد أخاه بالقتل، وذك يدعوه إلى الهدى، ويكشف له معالم الطريق إلى الله، ليكون فى المقبولين عند الله مثله: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» فاتق الله، واستقم على طريقه، يكن لك من الله ما كان لى، فليس عند الله محاباة، وإنما أكرم الناس على الله، أتقاهم لله..
ولكن الحسد يغطى على عقل هذا الأخ، ويطمس على بصيرته، فلا يرى إلا النقمة من أخيه، شفاء لدائه وسكنا لأوجاعه.. والأخ يلقاه ملاطفا موادعا:
«لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ».. فهو ملازم للتقوى متمسك بها، بعد أن عرف ثمرتها فى هذا المشهد الذي شهده بين يدى ربّه.. إنه على خوف من ربّه أن ينحرف عن طريق التقوى. أما هذا الأخ الحسود، فلم يزده اللّين والنصح إلا عنادا وإلا جفاء.
وإذ لم تصل الكلمات اللّينة الوادعة إلى قلب هذا الأخ الحسود، فقد جاءه بمقرعة يقرعه بها، وينبهه إلى هذا الخطر الذي هو مقدم عليه، والذي إن أصرّ على موقفه منه، كان فى ذلك هلاكه وسوء مصيره.. فيقول له:
«إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» ولو كان فى هذا الأخ الحسود بقية من عقل لفوّت على أخيه ما يريده له
1075
من سوء العاقبة، وخسران المنقلب: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» إذن فهذا القتل الذي يتهدد به أخاه، هو مما يريده هذا الأخ، لأنه يريد السلامة لنفسه أولا، ثم الهلاك لهذا الذي يريد أن يهلكه. ثانيا.. وليس الهلاك فى أن يقتل، بل الهلاك فى أن يكون قاتلا!.
ومع هذا فإن الحسد قد غطّى على كل شىء منه، فلم ير فى كلمات أخيه، وفى تحديه له، شيئا يعدل به عن طريقه الذي ركبه من أول الأمر.. وكان أن قتل أخاه، وأسال على الأرض دمه!.
ومعنى يبوء بإثمه أي يرجع به، حاملا له على كاهله، والإثم: الذنب الغليظ، المنكر..
وفى قوله تعالى: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» ما يسأل عنه:
إن القتل هو إثم يقع على القاتل.. فكيف يبوء القاتل هنا بإثمين: إثمه، وإثم قاتله؟
والجواب- والله أعلم- أن هذه معركة بين طرفين.. فقد همّ أحدهما أن يقتل الآخر.. وكان من شأن هذا الآخر أن ينتقم لنفسه، وأن يدفع القتل عنه، إلى هذا الذي يريد قتله..
وإذن فهنا قتيلان.. حكما، وإن كان القتيل واحدا.. فعلا.. فقد كان من المتوقع فى هذه المواجهة بين خصمين، أن يقتل كل منهما الآخر، ولكن الذي حدث هو أن أحدهما قد أخلى نفسه من أول الأمر من أن يلوث يده بدم إنسان، فضلا عن أن هذا الإنسان هو أخوه.. فلم يكن إلا يد واحدة آثمة، هى تلك التي امتدت إلى اقتراف هذا الذنب العظيم، فكان عليها أن تحمل وزرها، ووزر اليد الأخرى التي كان من المتوقع أن تشاركها الإثم الذي أقدمت هى عليه..
1076
يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار» قيل هذا القاتل.. فما شأن المقتول؟ قال:
«كان حريصا على قتل صاحبه..»
وهذا يعنى أن جريمة القتل التي تقع نتيجة للصراع بين اثنين، هى جريمة مشتركة بينهما، وإثمها واقع عليهما معا.. يقتسمانه على السواء.. أما أن أحدهما كان البادئ المعتدى، والآخر المدافع الذي يدافع عن نفسه، فذلك له حكم آخر غير جريمة القتل التي وقعت.. إذ لا شك أن البادئ بالعدوان، عليه تبعة هذا الموقف العدوانىّ الظالم، وعليه عقاب المعتدين الظالمين.. أما جريمة القتل فهى أشنع وأفدح من أن يحتملها إنسان، ومن هنا كانت آثارها السيئة تفيض عن القاتل، حتى لمسّ البريء المقتول.
الآيات: (٣٠- ٣١) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
التفسير: انتهى الموقف بين الأخوين إلى تلك النهاية السيئة، فسمحت نفس الأخ، واتسعت لقبول هذا المنكر الغليظ، فقتل أخاه، وأخمد أنفاسه، ظلما وعدوانا.. فكتب بيده وثيقة خسرانه، وسطّر بهذا الدم البريء المسفوك، الحكم- بإدانته، وسوء مصيره! وقوله تعالى: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
1077
يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ».
يقول المفسرون لهذه الآية: إن الله بعث بين يدى قابيل غرابين، اشتبكا فى صراع، فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فواراه فيها، فعجب قابيل لهذا، ورجع على نفسه باللائمة أن عجز عن أن يفعل ما فعل الغراب إذ وارى جثة قتيله.. ومن هذا العمل الذي عمله الغراب أخذ قابيل بما دلّه عليه الغراب، فحفر لهابيل حفرة، وأودعه فيها! وممكن أن يقع الأمر على هذه الصورة، إذا جعلنا فى الحساب ما يقول به المفسرون من أن هذا كان أول قتيل من بنى آدم، وأنه لم يكن مما علمه أبناء آدم كيف يفعلون بموتاهم أو قتلاهم..
ولكن لنا على هذا اعتراضات:
أولها: أننا لا نسلّم بأن هذه الحادثة كانت أول حدث يقع بين ولدين لآدم.. إذ أن لنا فى آدم مفهوما غير هذا المفهوم الذي يرى أن آدم كان سماوىّ المولد، وأنه خلق ابتداء على صورة الإنسان هذه.. ولو سلّمنا بهذا فإنّا لا نسلم بأن هذا النزاع كان أول نزاع وقع فى الأرض، وأنه كان بين ابني آدم، الأب الأول للإنسانية كلها..
وثانيها: أننا إذا سلمنا بأن هذا القتيل كان أول قتيل فى الأرض- فكيف تكون عملية القتل وإزهاق الروح معلومة لابن آدم هذا؟ وكيف يتوعد أخاه ويتهدده بقوله: «لَأَقْتُلَنَّكَ» ؟ كيف يقول هذا وهو لا يعرف القتل، بل ولا يعرف الموت بعد؟ ولو عرفه لعرف- تبعا لهذا- الأسلوب الذي يتخذ مع الموتى أو القتلى، بعد موتهم أو قتلهم!!
1078
وثالثها: أن الآية صريحة فى أن المبعوث هو غراب لا غرابان..
ولو كانا غرابين لذكرتهما الآية..
ورابعها: أنه لو وقع بين الغرابين هذا الصراع الذي انتهى بقتل أحدهما لكان فى ذلك عزاء لابن آدم القاتل، إذ يرى فى هذا تبريرا لفعلته، وإجازة لجريمته. فضلا عن أن الغربان لا تواري موتاها أو قتلاها.
وخامسا: لو أن هذا الذي فعله ابن آدم كان أول فعلة وقعت من نوعها فى عالم البشر لما كان عليه كبير إثم منها.. لأنه فعل فعلا لا يدرى ما هو، وما عاقبته، ولما كان مستحقا أن يوصف بما وصفه الله به، وهو قوله تعالى:
«فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ».
ولكن ما مفهوم هذه الآيات؟ وما شأن الغراب هنا؟ ولم هذا الندم الذي استشعره القاتل مما فعله الغراب؟
أما مفهوم هذه الآيات- والله أعلم- فإنها ترفع لبنى إسرائيل مشهدا من مشاهد الآثام التي يأتونها من غير تحرج أو تأثم، وأن مردّ هذه الآثام يرجع فى أكثره إلى الحسد، الذي يملأ صدورهم نقمة على الناس، ويبسط ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى إلى كل من تلبسه نعمة من نعم الله..
وأنهم فى الإنسانية إنما يمثلون هذا الإنسان الظالم الآثم من ابني آدم، الذي حمله الحسد لأخيه على أن يلقى بنفسه إلى التهلكة، وأن يخسر الدنيا والآخرة جميعا! هذا هو المضمون الظاهر لهذه الآيات..
أما الغراب، فقد يكون غرابا حقيقيا، أو كائنا سماويا تمثّل فى هذه الصورة.
وعلى أىّ فهو ملهم من الله تعالى بأن يفعل ما فعل بين يدى ابن آدم هذا..
1079
لأن الله سبحانه وتعالى يقول: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» فهو مبعوث من عند الله لهذا الأمر.
أما الندم الذي كان من هذا القاتل، فهو مما أثاره ما فعل الغراب.. هذا الحيوان الأعجم، الذي أقبل على جثة القتيل، يلقى عليها التراب، بما يحفر بقدميه حولها، حتى لكأنه يريد أن يواريها عن الأنظار، ويحميها من أن تنهشها السباع والطيور.
وهنا يتنبه هذا القاتل إلى وجوده، وإلى شناعة الإثم الذي ارتكبه، وأن هذا القتيل مظلوم، حتى استدعى ظلمه الحيوان الأعجم، ليكون إلى جانبه، حين تخلّى عنه أخوه، وأبى عليه إلا أن يكون طعاما للسباع والطير..
وهنا أيضا يستشعر القاتل الندم، ويقع ليقينه أنه قتل هذا القتيل عدوانا وظلما.
ولهذا وجد عاطفة الأخوّة تستيقظ فى نفسه، تلك العاطفة التي كانت قد أماتها الحسد، وذهب بكل أثر لها.. وذلك ما يشير إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسان هذا القاتل: «يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي».. أخى.. هكذا يقولها بملء فيه، ومن قلب يفيض حسرة وندما! «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» أي أنه لم يكن يجد شيئا من الندم، قبل أن يرى ما فعل الغراب، ثم أصبح بعد ذلك من النادمين، إذ رأى نفسه أضأل من هذا الحيوان شأنا، وأعمى بصيرة، وأضلّ سبيلا.. وهكذا الإنسان، إذا غلبه الهوى، وركبه الضلال، كان أحط مرتبة فى عالم الحيوان، والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ..» (٤- ٦ التين).
1080
الآية: (٣٢) [سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
التفسير: قوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» الإشارة هنا إلى محتوى هذه الحادثة كلّه، وما تضمنته من تسلط الحسد على بعض النفوس، ذلك الدّاء الذي يقطع أواصر المودة والأخوّة بين الناس، ويلقى بينهم العداوة والبغضاء، حتى يهلك بعضهم بعضا، ويذيق بعضهم بأس بعض.. ثم هذه الجريمة الشنعاء، التي ذهبت بحياة إنسان برىء، لم يبسط لسانه أو يده بعدوان على أحد..
ثم إن القتل عدوان بيّن على الله سبحانه، الذي بيده وحده الحياة والموت..
فإذا لم يكن الإنسان يملك من أمر الحياة شيئا، فليس له أن يملك من أمر الموت شيئا..
ومن هنا كانت غيرة الله سبحانه وتعالى على تلك الحرمة المقدسة.. حرمة الحياة الإنسانية، وقداسة الإنسان وكرامته على الله..
وقوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً».
أي بسبب حرمة الحياة الإنسانية وقداستها وكرامتها، فرض الله على بنى إسرائيل هذا الفرض، وأوجب عليهم هذا الحكم، وهو أنه من قتل نفسا،
1081
عدوانا وظلما، أي من غير قصاص فى قتل، أو سعى بفساد فى الأرض- فكأنما قتل الناس جميعا، «وَمَنْ أَحْياها» أي أحيا نفسا إنسانية، بأن كفّ يده عن العدوان عليها، أو دفع عنها يدا معتدية عليها- فكأنه أحيا الناس جميعا.. ذلك أن الإنسان يمثّل الإنسانية كلها.. إذ كان خلقها جميعا من نفس واحدة، كما يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» (١: النساء).. وفى كل إنسان هذه النفخة المقدسة التي كانت منها الإنسانية كلها، فمن قتل إنسانا، فقد أخمد تلك الشعلة المقدسة التي هى أصل الحياة، ومن أحياها، أي تركها حيّة فلم يعرض لها بسوء، فكأنما أحيا الإنسانية كلها، وترك شعلتها المقدسة متّقدة..
وفى هذا الحكم الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى على بنى إسرائيل، تغليظ لجريمة القتل، وتشنيع عليها، وتهويل لها، ووضع القاتل أو من تحدّثه نفسه بالقتل أمام تلك الجريمة المفزعة، التي يرى فيها الإنسانية كلها وهى جثث هامدة، وأشلاء ممزقة بين يديه.. حتى أهله وأقرب الأقربين إليه من آباء وأبناء..
إنهم جميعا من قتلاه.. بل إنه هو نفسه فيمن قتل بيده.. إذ كيف يحيا وحده فى هذا العالم الموحش، وقد خلا من وجه الإنسان؟
وفى هذا الموقف يطلّ علينا من بعيد هذا الشبح المخيف لابن آدم الذي قتل أخاه، فاستولت عليه الوحشة القاتلة بعده، وأصبح غريبا فى هذا العالم، لا يجد لحياته وجودا على هذه الأرض، حتى ليذهل عن كل شىء وتضيع من نفسه معالم المعرفة، التي لا تتحرك ولا تعمل إلا فى مواجهة الإنسان للإنسان..
ولهذا كان الغراب أقدر على الحياة منه، وأصلح للعمل فيها، لأنه يعيش بين جنسه، مع فطرته، التي تستجيب لحياة الجماعة وتعمل معها.
والسؤال هنا: لم كان هذا الحكم واقعا على بنى إسرائيل وحدهم؟
1082
والجواب- والله أعلم- هو أن شريعتهم أقدم الشرائع السماوية، العاملة فى الحياة، والتي أدركها الإسلام، والتحم بها، وبأتباعها.. ولا يمنع من هذا أن يكون هذا الحكم قد كان مفروضا فى الشرائع السماوية السابقة على شريعة التوراة..
ثم إنه من جهة أخرى- تأديب خاص لبنى إسرائيل، وابتلاء لهم بهذا الحكم الذي يحمّل القاتل منهم دم الإنسانية كلها، إذ كانوا أكثر الناس استخفافا بدم الناس، حتى دم الأنبياء والقديسين.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» (٨٥: البقرة).
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ».. إشارة إلى ما فى بنى إسرائيل من بغى وعدوان، وأنهم- وقد بعث الله إليهم رسله، بالبينات والهدى- لم يستقيموا على طريق الحق، ولم ينزعوا ما فى نفوسهم من حسد وبغى.
الآيتان: (٣٣- ٣٤) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
1083
التفسير: فى الآية السابقة جاء قوله تعالى «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» وفى هذه الآية جاء قوله سبحانه:
«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا » بيانا شارحا لجزاء المفسدين الذين أباح الله دماءهم، ورفع عن قاتلهم تبعة الإثم الواقع على من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى بنى إسرائيل، وإلى أنهم هم الوجه البارز فى الإنسانية، الذي تظهر فيه تلك المنكرات ظهورا واضحا، حتى لتكاد تكون الأصل الذي يقاس عليه كل منكر يظهر فى الناس.
فهم يحادّون الله ورسوله.. والمحادة هى العدوان على حدود الله، والاستباحة لحرماته..
وهم الذين يسعون فى الأرض فسادا، بما يرتكبون من جرائم وآثام، لما يحملون فى صدورهم من غلّ وحسد..
وقد رصد الله سبحانه هذا العقاب الرادع لتلك الجرائم المنكرة، ليكون فيه تنكيل، وبلاء، وإهدار لآدميّة من يهدر آدميته، حين يضيّع حقوق الله، ويستخفّ بها، ويهدر حقوق الناس ويغتالها، ويستبيح دماءهم وأموالهم.
وفى قوله تعالى: «أَوْ يُصَلَّبُوا» إشارة أخرى إلى اليهود، حيث أن هذا النوع من العقاب وهو الصلب، كان شريعة لهم، يأخذون به من يحادّ الله، ويكفر به.. وقد قدّموا المسيح بهذه التهمة، وحكموا عليه بالموت صلبا.
وفى قوله تعالى: «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» إشارة ثالثة تشير إلى اليهود، وأنهم أولى الناس بهذه العقوبات، وأكثرهم تعرضا لها.. ولقد وقع عليهم هذا الحكم، فأجلاهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من المدينة، ونفاهم من
1084
الأرض.. إذ كانوا مصدر فتنة وقلق واضطراب للمجتمع الإسلامى فى المدينة، يفتنون الناس عن دينهم، ويؤلفون مع المنافقين حلفا لمحاربة الإسلام والكيد له، ولقد كان منهم هذا الغدر اللئيم الذي جمع بينهم وبين مشركى قريش، حين جاءوا إلى المدينة بجموعهم يريدون القضاء على المهاجرين والأنصار فى غزوة الخندق.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» (٣: التغابن) وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» هو استثناء من هذا الحكم الواقع على أصحاب تلك الجرائم المنكرة.. فمن تاب منهم، ورجع عما هو عليه من منكر، وذلك قبل أن تناله يد المسلمين، وتمسك به متلبسا بجرمه- من تاب منهم قبل هذا فقد رفع الله عنه هذا الحكم، وفتح له بتوبته، الطريق إلى النجاة.. فليغفر لهم النبىّ والمسلمون، وليلقوهم بالصفح الجميل، وليعلموا «أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
الآية: (٣٥) [سورة المائدة (٥) : آية ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
التفسير:
[الوسيلة.. والتوسل بأصحاب القبور] وبين يدى هذه العقوبة الراصدة للذين يحادّون الله ورسوله ويسعون فى لأرض فسادا، تجىء دعوة للمؤمنين أن يثبتوا على ما هم عليه من إيمان وتقوى، وأن يعملوا ما وسعهم العمل على الاقتراب من الله، بالعمل الصالح والجهاد فى
1085
سبيله، حتى يبتعدوا أكثر ما يمكن عن هذه المهالك، التي تأخذ المفسدين بأنواع النّكال والبلاء..
والدعوة إلى السلامة والنجاة، فى الحال التي يشهد الإنسان فيها مصارع الظالمين والبغاة، هى دعوة مستحابة، تتلقاها النفوس حفية بها، حريصة عليها..
حيث هى الحبل الممدود لنجاة من يمسك به، فى هذه الريح العاصف، التي تنزع الناس، وتلقى بهم فى مهاوى الهلاك..
والوسيلة: هى ما يتوسل به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة التي ترضى الله، وتدنى الإنسان من ربه.
فالوسيلة فى اللغة، ما يتوسل به إلى أي أمر ابتغاء تحقيقه، وجمعها وسائل، ولكل أمر وسائله وأدواته التي يتوسل بها إليه، فمن أخطأته الوسائل، لم يبلغ من أمره ما يريد..
وتقوى الله هى مطلوب كل مؤمن بالله، ورغيبة كل طامع فى رضا الله، ساع إلى مرضاته..
ولهذا فقد أمر الله تعالى الذين آمنوا، بالتقوى، فى قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ».. فليس الإيمان- مجرد الإيمان- هو الذي يطلب من المؤمن، ليكون فى عباد الله المؤمنين، وإنما الذي يحقق الإيمان، وينضج ثمرته، هو «التقوى».
والتقوى هى اجتناب محارم الله، وامتثال أوامره، أو هى كما عرفها بعض العارفين: «ألّا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك».
والتقوى على تمامها مطلب صعب المنال، غالى الثمن، لا يقدر على الوفاء به إلّا من رزقه الله قوة الإيمان، وثبات اليقين، ووثاقة العزم.. تلك هى بعض
1086
الوسائل التي يتوسّل بها إلى التقوى- ولهذا جاء قوله تعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» معطوفا على قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ» - أي اتقوا الله بابتغاء الوسائل المؤدية إلى التقوى..
وهنا ما يسأل عنه: كيف جاء النظم القرآنى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» إذا كان المراد بالوسيلة ما تحقق به التقوى.. إذ لو كان الأمر كذلك لجاء النظم القرآنى كهذا: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ..».. كيف هذا؟
والجواب على هذا، هو أن التقوى هى تقوى الله، ووسائلها التي تتحقق بها هى وسائل موصلة إلى الله، مدنية من رضاه ومغفرته.. فليست التقوى..
والأمر كذلك- مقصودة لذاتها، وإنما هى مرادة لما هو أولى بالمؤمن أن يتعلّق به، ويعمل له، وهو القرب من الله، والنزول فى رحاب رضوانه.. فابتغاء وسائل التقوى هو فى الحقيقة ابتغاء للوسائل المؤدية إلى رضى الله، ومن ثمّ كان عود الضمير إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى التقوى، التي هى بدورها وسيلة إلى التقرب من الله! وأمر آخر من أمر الوسيلة.. نريد أن نقف قليلا عنده..
فقد ذهب كثير من العلماء، وخاصة علماء الشيعة، إلى أن المراد بالوسيلة هنا هو التوسل بآل البيت- رضوان الله عليهم- والاستغاثة بهم، واللّجأ إليهم فى الملمّات..
وعن هذا المنزع ما يأخذ به بعض المسلمين أنفسهم من التوسل بالأموات، ممن يعتقد فى صلاحهم، واستقامة سلوكهم فى الحياة، فيلمّون بقبورهم وأضرحتهم، طالبين قضاء حوائجهم التي قصرت عنها أيديهم.
والذي يأباه الدّين هنا هو ما يتخذه كثير من أولئك الذين يزورون قبور الصالحين وأضرحتهم، من التمسح بهذه المواطن، ومناجاة الراقدين فيها، وطلب
1087
الغوث منهم، حتى ليكاد المسلم يذهل عن الله فى هذا الموقف، وحتى لكأن هذا الإنسان الصالح هو الذي يتصرف فى هذا الكون.. إن شاء أعطى، وإن أراد منع! أمّا أمر زيارة قبور الصالحين، فهو إن تجردّ من هذه المشاعر، وخلص من تلك التصورات، ووقف به الزائر عند حدّ العبرة والعظة، بذكر الموت الذي تذوقه كل نفس، ويرد مورده كل إنسان، فذلك مما لا بأس به، إذ يكون الإنسان- وهو فى معرض يذكّره بالموت- أمام صورة طيبة، لسيرة عبد من عباد الله الصالحين، الذين أصبحوا ذكرا طيبا على ألسنة العباد.. ولعلّ فى هذا ما يدعوه إلى الأسوة، والسّير على طريق الصالحين.
ومع هذا، فإن الضعف البشرى، والجهل بما لله وما للعباد، قد يحمل بعض الناس ممن يلمّون بقبور الصالحين، على ألا يذكروا شيئا من هذا، وألا يستحضروا الموت فى هذا الموقف، إذ قد يتمثل لهم أن صاحب هذا «الضريح» لم يتحول بعد إلى تراب ضائع فى التراب، وأنه بكيانه كله لا يزال يلقى الناس ويلقونه، ويأخذ ويعطى.. ومن هنا كان الأولى بمن لا يعرف كيف يحمى نفسه من هذا المزلق، ويحرسها من هذا الضلال- أن يتجنّب زيارة الأضرحة، ليدفع عن إيمانه عوارض الضعف ودواعى الشرك.
ولا بأس هنا من أن ننقل ما ذكره «الشّوكانى» عند تفسيره لهذه الآية، قال: «قد أكثر الناس من دعاء غير الله تعالى، من الأولياء، الأحياء منهم والأموات.. مثل يا سيدى فلان أغثنى.. وليس ذلك من التوسل المباح فى شىء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوّه بذلك، وألّا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا، وإلّا يكنه فهو قريب منه.. ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعوّ الحىّ الغائب، أو الميت المغيّب، يعلم
1088
الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم.
«فالحزم، التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله القوىّ الغنىّ الفعّال لما يريد.
ثم يقول: ومن وقف على سرّ ما رواه الطبراني فى معجمه، من أنه كان فى زمن النبىّ صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذى المؤمنين، فقال الصديق- أبو بكر رضى الله عنه- هيّا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق، فجاءوا إليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله»
.. من عرف سرّ ذلك لم يشك فى أن الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلّبه فى الجنان عن الالتفات إلى ما فى هذا العالم، وبين شقى ألهاه عذابه وحبسه فى النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرّنك أن المستغيث بمخلوق، قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة من الله عزّ وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث فى صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة ممن استغاث به.. هيهات هيهات، وإنما هو شيطان من أضلّه وأغواه، وزين له هواه..».
وهذا الذي يقوله الشوكانى هو الذي يجب أن يؤمن به كل مسلم، فى نظرته إلى أصحاب القبور، وإلى من يعدّه من الصالحين، وذوى الكرامات فيهم..
إنهم جميعا فى عالم وراء هذا العالم الذي نعيش فيه، شغلوا بما هم فيه من نعيم أو بلاء، وإنّهم لأشدّ حاجة إلينا منا إليهم، بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.. حيث أننا- أعنى الأحياء- فى دار عمل وابتلاء، يتقبل الله منا أعمالنا، ويحصيها علينا، ويحاسبنا عليها، وهم قد صاروا إلى عالم قد انقطع عنهم كل عمل فيه، فلا يضاف
1089
إلى أعمالهم التي عملوها فى الدنيا شيئا جديدا من كسب أيديهم فى عالمهم الأخروىّ.. فكيف والحال كذلك يكون لهم كسب يضاف إلى غيرهم، من قضاء الحوائج، وتفريج الكروب؟.
ولا شك أن كثيرا ممّن يلمّون بمقابر من يعتقدون فى ولايتهم وصلاحهم، تستولى عليهم فى تلك الحال مشاعر، توحى إليهم بأنهم على مداناة وقرب من الله، وأن ما يدعون به مستجاب، وأن وراءهم من أمداد الصالحين والأولياء، ما يزكىّ دعاءهم عند الله، وينزله منازل القبول..
وهذا، وغيره من المشاعر المختلطة التي تستولى على الإنسان، فى تلك الحال- من شأنه أن يبعث الراحة والطمأنينة فى الإنسان، ويعلّله بالأمل والرجاء، وهذا بدوره عامل نفسىّ له أثره الإيحائى الذاتي، الذي تتغير به نفسية الإنسان، وتتبدل مشاعره، وفى ذلك شفاء له من كثير مما كان يكابده ويشقى به..
والعلاج بالإيحاء أمر معروف مشهود، وما يجده الذين يزورون أضرحة الأولياء والصالحين، من روح وراحة لا يعدو أن يكون ضربا من الإيحاء النفسىّ، سواء أكانت وارداته من خارج النفس أو داخلها..
ولعلّ فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ما يشير إلى شىء من هذا الذي يعرف بالإيحاء النفسي.. فالإنسان تتغير حاله، ويتبدّل سلوكه نحو شىء ما إذا تغيّرت مدركاته له، ومشاعره نحوه.. وكذلك شأنه فى جميع أحواله، حيث يقوم تعامله مع الأشياء على أساس من إدراكه لها، ومشاعره نحوها، فإذا تغيرت تلك المدركات تغيّرت تبعا لذلك مواقفه منها، وسلوكه معها.. وشأن الجماعات فى هذا، هو شأن الأفراد سواء بسواء..
على أن الذي نودّ أن ننّبه إليه هنا، هو ما يتطابر من شرر أو شرّ بين الذين
1090
يلتقون على خلاف فى مجال التوسّل بالأنبياء، والأولياء والصالحين..
فهذا الشّرر كثيرا ما يمتدّ إلى هؤلاء، الذين اختلف المختلفون فى التوسل إليهم، بين مغال فى التوسل، وبين مبالغ فى تحريمه وفى تكفير من يتوسلون!.
ففى الطرف المغالى فى التوسل يرمى دعاته وأنصاره بالقول جزافا، يكيدون به للطرف المقابل، الذي ينازعهم فيه، ويتهمهم بمرض قلوبهم، وفساد دينهم..
وإذا هم يبالغون ويبالغون فيما هم فيه، حتى ليبلغ بهم ذلك إلى حد الشرك الصّراح بالله.
وفى الطرف الآخر، الذي يحارب التوسل ويعاديه، يجد المرء نفسه أنه فى حرب حقيقية، وأن عليه أن ينتصر فيها بأى ثمن، وأن يضرب فى الجبهة المعادية له بأى سلاح، وإذا هو من حيث لا يدرى يضرب فى وجوه الأنبياء والأولياء والصالحين أنفسهم، ولا يسأل نفسه ماذا جنى هؤلاء الكرام من عباد الله من جناية، حتى يرميهم بما يرميهم به.. من استخفاف بهم، وتطاول على مقامهم الكريم..
إن الدعوة بالرفق والحسنى فى هذا المقام، أليق بالإنسان، وأنجح لدعوته، وأسلم لدينه، إن كان أمره فى هذا قائما على النصح لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا خير فى داع يدعو إلى الخير، ثم يعود آخر المطاف بمحصول وفير من الوزر والإثم!.
وأيّا كان الأمر، فإن الذي ينبغى أن يكون فى يقين المسلم دائما هو التوقير والولاء لأنبياء الله، وأوليائه، والصالحين من عباده، وألا يدخل شىء من الضيم على ولائه وتوقيره لهم، ما يجنيه عليهم غيرهم، والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وقد عبد النصارى المسيح بن مريم، واتخذوه إلها من دون الله، ومع هذا فمقامه عند الله عظيم، لم ينله شىء مما جنى أتباعه
1091
من ضلال وكفر.. وكذلك ينبغى أن يكون ولاؤنا له على قدر تلك المنزلة العظيمة التي جعلها الله له بين عباده المكرمين.
فإذا بالغ المبالغون منا، وغلا المغالون فينا، ونظروا إلى الأنبياء والأولياء والصالحين، تلك النظرة التي يأخذها عليهم المقتصدون، ويتهمهم بها فى دينهم المتهمون- فذلك كله ينبغى أن يكون بمعزل عن مقام هؤلاء المكرمين من عباد الله، من رسله، وأنبيائه، وأوليائه.. والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.
الآيتان: (٣٦- ٣٧) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
التفسير: وهذه لفتة أخرى للمؤمنين، إذ يرون فيها أهل الكفر والنفاق والفساد وما أعدّ لهم من عذاب أليم فى الآخرة، بعد أن رأوا ما حلّ بهم من نكال فى الدنيا.. فإذا أفلت منهم أحد من عقاب الدنيا، لم يكن له من سبيل إلى الإفلات من عذاب الآخرة، وأنه إذا دفع عن نفسه عذاب الدنيا بمال، أو حيلة، أو نحو هذا، فإنه لا دافع لعذاب الله الراصد له فى الآخرة..
وقوله تعالى: «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» هو تيئيس للكافرين من أن يخلصوا
من عذاب الآخرة، ولو كان لهم ما فى هذه الدنيا، وما فى دنيا مثلها..
وفى وصف العذاب بأنه «أليم» ثم وصفه بأنه «مقيم» استكمال لصورة هذا العذاب، وأنه يجمع بين الألم، واستمرار هذا الألم، الذي يقيمون فيه إقامة دائمة لا نهاية لها..
الآيتان: (٣٨- ٤٠) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
التفسير: وإذ جاء فى الآيات السابقة حكم الله فيمن يحادّون الله ورسوله، ويسعون فى الأرض فسادا، فقد كان من المناسب أن يرد بعد ذلك حكم السرقة، وجزاء مقترفها، إذ هى ضرب من ضروب الفساد فى الأرض.. ثم لأنها لم تبلغ من غلظ الجرم ما بلغت الجرائم السابقة، فقد خرجت من هذا الحكم العام لتلك الجرائم، وأفرد لها هذا الحكم الخاص بها..
والمرأة والرجل سيّان فى الحدّ الواجب على السارق، وهو قطع يده اليمنى، من مفصل الرسغ، وذلك لأن اليمنى غالبا هى التي يستخدمها السارق فى السرقة، فكان قطعها عقوبة له، وكأنه فى نفس الوقت عقوبة لليد التي سرقت! وشرط إقامة الحدّ فى السرقة، أن يكوون المسروق مالا مقوّما شرعا..
فسرقة الخمر والخنزير لا قطع فيها، وأن يكون هذا المال محروزا فى حرز مالكه
1093
وحفظه، فسرقة المال المتروك من غير حرز، ولا حراسة.. لا قطع فيه، ويشترط كذلك أن يكون المال ذا قيمة معتبرة.. وقد قدرها بعض الفقهاء بعشرة دراهم كما قدرها بعضهم بربع دينار.
هذا، وليس ذلك التغليظ فى عقوبة السرقة قسوة من الإسلام، واستخفافا بالإنسان، واسترخاصا لوجوده كما يقول ذلك- زورا وبهتانا- من يكيدون للإسلام، ويبيّتون له مالا يرضى من القول.. وإنما ذلك العقاب هو الجزاء العادل الرحيم، إزاء هذا الجرم الشنيع، الذي يعدّه الإسلام من أشنع الجرائم، إذ هو اعتداء على حرمة الإنسان، فى أعزّ ما يحرص عليه، وهو المال.
ولا بأس من أن نلفت أولئك الذين يتهمون الإسلام بالوحشية والحيوانية إلى ما جهلوه أو تجاهلوه من حكمة الإسلام، وتقديره السليم العادل لجريمة السرقة، ووزنها بالعدل والقسطاس.. بين السارق والمسروق منه..
فأولا: السرقة اعتداء خفىّ على حرمة الإنسان، واستباحة لماله الذي هو بمنزلة النفس عند صاحبه! وإذا كانت المدنيّة الحديثة قد استخفّت بهذه الجريمة، حتى استباحت سرقة الأمم والشعوب، فإن الإسلام الذي يحترم الإنسان- من حيث هو إنسان، ويرعى حرمته فى دمه، وماله وعرضة، كما يقول نبى الإسلام: «كل المسلم على المسلم حرام.. دمه، وماله، وعرضه» - فإن الإسلام لا يستخفّ بهذه الجريمة، بل يضعها موضعها بين الجرائم الغليظة، ولا تأخذه رحمة فيمن لا يرحم الناس، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» (٢٥٢: البقرة).
وهذا الحدّ الذي فرضه الإسلام لقطع يد السارق، هو بعض ما يدفع الله به
1094
الناس، بعضهم بعض، وهو بعض فضله على عباده.
وثانيا- ليس القطع فى السرقة فى مطلق السرقة، أىّ سرقة، بل لا بد من توافر شروط تتم بها أركان هذه الجريمة الموجبة للقطع، وهذه الأركان هى:
(١) أن يكون المسروق شيئا ذا قيمة- أي له اعتبار فى حياة الناس الاقتصادية.. وكانت هذه القيمة تقدر فى عهد النبي ﷺ بربع دينار- أي ثلاثة دراهم-.
وهذا النصاب الموجب للقطع، يقدّر فى كل زمان ومكان بحسب قوته الشرائية بالنسبة لعصر النبوة. والمعتبر فى هذا هو أنه مال له قيمته، وله أثره، سواء أكان نقدا أو ما يقوّم بالنقد.
(٢) أن تقع السرقة فى مال محروز، أي أن السارق يسرقه من حرز، فالمال الضائع، والثمر الذي يكون على الشجر بلا حائط يحيط به، والماشية التي لا راعى عندها، ونحو هذا، لا يقام على السارق حد فيه، ولكن يعزّر ويضاعف عليه العرم.
(٣) ما أخذ بالفم من ثمر على شجر، وأكل، ولم يحمل منه شىء- لا قطع فيه، ولا تعزير. ومن احتمل شيئا غير ما أكل فعليه ضعف ثمنه، ويضرب نكالا له، وزجرا لغيره.
(٤) السرقة فى أوقات المجاعات ليس فيها قطع.
(٥) هناك ظروف وأحوال يراها ولىّ الأمر، ويقدّرها، فى حال السارق، وظروفه، فيعزّره ولا يقطع يده، حيث تلوح له أية شبهة يدفع بها الحدّ، فقد روى عن أميّة المخزومي رضى الله عنه، قال: «أتى النبي ﷺ بلصّ قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1095
«ما إخالك سرقت؟» قال «بلى» (أي سرقت) فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع، وجىء به، فقال له النبي الكريم: «استغفر الله وتب إليه» فقال: أستغفر الله وأتوب إلى الله.. فقال نبىّ الرحمة: «اللهم تب عليه» ثلاثا.. أي قال النبىّ ذلك الدعاء ثلاث مرات.
(٥) يجوز لصاحب المال المسروق إذا ضبط السارق أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، فقد روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال لصفوان ابن أميّة وقد جاء ليشفع فيمن سرق رداءه- أي رداء صفوان-: «هلّا كان ذلك قبل أن تأتينى به؟».
وقوله تعالى: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» هو عزاء لهؤلاء الذين اقترفوا جريمة السّرقة، سواء أقيم عليهم الحدّ فيها، أو أفلتوا من إقامة الحدّ..
وليس عزاء كهذا العزاء الذي يقدمه الله إليهم، وقد أفسدوا إنسانيتهم بهذا الجرم الذي ارتكبوه، فجاءهم هذا العزاء فى صورة دعوة كريمة من رب كريم، يدعوهم فيها إلى جناب رحمته ومغفرته، إذا هم أرادوا أن يلوذوا بهذا الجناب الكريم، وأن يستظلوا به، وذلك بأن يستشعروا الندم عن جرمهم، وأن يبرءوا إلى الله منه بالتوبة والإنابة والاستغفار، فإنهم إن فعلوا قبل الله توبتهم وغفر لهم ذنبهم: «ومن يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً».
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هو إلفات للطائعين والعاصين جميعا، وأنهم كلهم فى قبضة الله، يعذب من يشاء منهم جزاء ما ارتكب من إثم، وقارف من ذنب، ويغفر لمن يشاء، فضلا منه وكرما.. فهو القادر على كل شىء، والمالك لكل شىء!
1096
وفى تقديم العذاب هنا على المغفرة- نظر.. إذ كانت رحمة الله تسبق غضبه وعذابه أبدا: ولكن إذ كان الموقف هنا موقف محاسبة للمذنبين، ثم مغفرة ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله منهم- كان ذكر العذاب مقدّما على ذكر المغفرة بالنسبة لهم، ولو تقدمت المغفرة على العذاب هنا لما كان لعقاب المذنبين- مع سبق الرحمة- مكان، ولشملتهم الرحمة قبل أن يؤخذوا بجرمهم، ويقام الحدّ عليهم، وإلا لسقطت الحدود، واضطرب نظام المجتمع! فكان تقديم العقاب أخذا لحق الله وحق العباد أولا، ثم تجىء مغفرة الله ورحمته، فتمحو آثار هذا العقاب وتعفّى عليه، لمن وجّه وجهه إلى الله، وطلب الصفح والمغفرة.
وقدّم السارق على السارقة.. لأن الرّجل أجرأ من المرأة على السرقة، وأكثر تمرسا بها.. كما قدّمت المرأة على الرجل فى جريمة الزنا، فى قول الله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» - لأن هذه الجريمة لا تتم إلا بالرجل والمرأة معا، والمرأة هى صاحبة الموقف هنا، وبيدها الأمر فيه، لأن الرجل طالب وهى مطلوبة، فإذا لم تعطه نفسها، ولم تمكنه منها فاته مطلوبه ولم تقع الجريمة..
1097
الآية: (٤١) [سورة المائدة (٥) : آية ٤١]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
التفسير: هذا عزاء وتسرية للرّسول الكريم، عن هذا الحزن الذي كان يقع فى نفسه من أولئك الذين يتخذون دين الله لعبا ولهوا، يلبسه أحدهم كما يلبس الثوب، يستر به جسده من لفح الزمهرير، أو وهج الحرور، فإذا أمن الحرّ أو البرد، طرحه، وبدا للناس عاريا.
إن هؤلاء المتلاعبين بالدين لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولم يعتقدوه عقيدة، تستولى على قلوبهم، وتختلط بمشاعرهم.. ومن هنا كان استخفافهم به، وتحولهم عنه، إذا أوذوا فى أموالهم أو فى أنفسهم، أو إذا لاح لهم فى أفق آخر لمعة سراب لعرض زائل من عروض الدنيا.
ومثل هذا الإيمان لا وزن له، والمؤمنون إيمانا كهذا الإيمان لا حساب لهم فى المؤمنين.. إن ضررهم أكثر من نفعهم، وخروجهم من الإيمان خير من دخولهم فيه..
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» هو كما قلنا عزاء وتسريه للرسول، كما أنه تهوين لشأن هؤلاء الذين دخلوا فى الإسلام بكلمة ألقوها على أفواههم، ثم خرجوا منه بكلمة قذفوا بها من أفواههم.. فخسارة الإسلام فيهم- إن بدت فى ظاهر الأمر خسارة- ليست فى حقيقتها إلا كسبا للإسلام وللمسلمين، إذ قطعت هذه الأعضاء الفاسدة من جسد المجتمع الإسلامى، وعزلت عنه هذا
1098
الداء الخبيث الذي يندسّ فى كيانه، ويعمل على إضعافه وإفساده.
وفى قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» هو عطف على قوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ».. فالذين يسارعون فى الكفر فريقان:
فريق من غير اليهود.. من جفاة الأعراب، الذين وصفهم الله بقوله سبحانه:
«وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ... » (١٠١: التوبة» واليهود، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى هنا بقوله: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» ومسارعة الذين هادوا إلى الكفر، إما أن تكون بعد دخول بعضهم فى الإسلام ثم نفاقهم فيه، أو أن تكون مسارعتهم بالكفر بما فى أيديهم من الكتاب، إذ أنكروا ما فيه من آيات تحدّث عن الرسول الكريم، وتبشر به، وتدعو إلى مؤازرته والإيمان به.. فقد حملهم العناد على أن يكفروا بهذا الذي يحدثهم به كتابهم عن؟؟؟
وعن الأمارات التي يجدونها دالة عليه فى كتابهم.. وكان ذلك إسراعا منهم فى الكفر، وخروجا من الدين جملة.
وقوله تعالى: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ» هو صفة لهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر من الفريقين.. والأعراب، وأشباههم من ضعاف الإيمان من غير اليهود، يلقون أسماعهم إلى الأكاذيب التي يذيعها المنافقون عن الإسلام والمسلمين، وعامّة اليهود يعطون زمامهم لأهل العلم فيهم، ويتحدثون إلى النبي وإلى المؤمنين بما يلقيه علماؤهم فى آذانهم، دون أن يجرؤ هؤلاء العلماء على لقاء النبي ومواجهته بهذه الأكاذيب وتلك الأباطيل، لأنهم يعلمون كذبها، وأنهم مفضوحون إن واجهوا النبىّ بها.
وقوله سبحانه «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» هؤلاء هم العلماء من أحبار اليهود، يحرّفون كلمات التوراة من بعد أن استقرت فى أماكنها، ولم يكن ثمة
1099
سبيل إلى تبديلها. والتحريف هنا هو فى فساد التأويل والتخريج، وكتمان بعض، وعرض بعض.
وقوله تعالى: «يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا» هو بيان لضرب من ضروب التحريف، والفساد فى التأويل. إذ يقيم علماء اليهود عامتهم على رأى خاص محرّف، ويقولون لهم إن قبله محمد منكم فاقبلوه منه، ووافقوه عليه، وإن لم يقبله فاحذروا أن تأخذوا بما يدعوكم إليه، مخالفا لهذا الرأى الذي أنتم عليه.
وقوله سبحانه: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» هو تعقب فاضح لهذا الموقف اللئيم الذي يقفه علماء اليهود من دينهم الذي يدينون به، فقد فتنوا هم فيه وأفسدوا على أتباعهم دينهم، بهذه التأويلات الفاسدة المنكرة..
وإن هؤلاء الفاتنين والمفتونين معا صائرون إلى هذا المصير المشئوم، إذ كان موافقا لطبيعتهم، مستجيبا لأهوائهم.. فأخلى الله بينهم وبين أهوائهم، فلم يمد إليهم يد الهداية والتوفيق.. «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (٨- ٩- ١٠: الليل).. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: فى خاتمة هذه الآية: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ».
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ» عرض كاشف لهم فى هذا الوضع السيّء، مطرودين من رحمة الله، واقعين تحت نقمته، «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ»، حيث يشهد الناس كذبهم، ونفاقهم، «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ».. فإن كان فى وجوههم صفافة تحتمل هذا الخزي، ولا تبتلّ بقطرة من عرق الخجل والحياء، فى الدنيا، فإن جلودهم- ولو كانت فى بلادة الحجر،
1100
أو صلابة الحديد، فلن تدفع عنهم حريق جهنم أن ينفذ إلى ما وراءها من لحم وعظم، وأن يجعلهم كتلا من جمر، وحمم.
الآية: (٤٢- ٤٣) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
التفسير: هاتان الآيتان تستكملان الصفات الذميمة التي دمغ الله بها اليهود، وجعلها طبيعة قائمة فيهم، ولم يذكرهم القرآن هنا، بل جاء بالوصف الدال عليهم، هكذا: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» فما أحد أكثر من اليهود كذبا، ولا أجرأ منهم عليه.. وحسبهم أن يكذبوا على الله، وأن يحرفوا كلماته، وأن يقولوا على الله ما لم يقله الله.. وما أحد آكل من اليهود للسّحت، وهو الحرام الذي يلبسونه وجه الحلال كذبا وافتراء وبغيا وعدوانا.
وقوله تعالى: «فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ».
قيل فى سبب نزول هذه الآية إنه وقعت فى اليهود جريمة زنا بين كبيرين من كبرائهم، وكان حد الزنا فى الإسلام يومئذ هو ما جاء فى قوله تعالى:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» ولم يكن جاء بعد ما جاء
1101
فى عمل الرسول من رجم المحصنة والمحصن.. فأراد اليهود أن يفيدوا من هذا الحكم الذي جاء فى الإسلام، وأن يأخذوا صاحبيهما- الزانية والزاني- بالحدّ الذي شرعه الإسلام، وهو الجلد، وأن يحموا الزانية والزاني من الرجم، لما لهما من منزلة عندهم.
ولا شك أن هذا تلفيق فى الدين، فإما أن يكونوا يهودا على شريعة اليهود، فيقيموا حكم التوراة- وهو الرجم هنا- على صاحبيهما، مهما كانت منزلتهما، وإما أن يكونوا مسلمين فيقام عليهما حكم الإسلام وهو الجلد.
ولكن هكذا اليهود.. يأخذون من الأحكام الشرعية ما يرضى هواءهم، فإن لم يكن بالتحريف والتبديل، كان بالتحول من شريعة إلى شريعة، ومن دين إلى دين، حسب الحال الداعية إليه.
وقد جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألونه الحكم فى هذين الزانيين، فسألهم الرسول: ما حكم التوراة فيهما؟ فقالوا: الجلد بحبل مطلىّ بالقار، وعرض الزانيين على الناس، يطاف بهما وهما على حمار بن، فى وضع مقلوب.
فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «كذبتم، الحكم فى التوراة هو الرجم» فأنكروا.. ثم فضحهم الله، فشهد شاهد من علمائهم: أنه الرجم.. فأمر الرسول بإمضاء حكم التوراة فيهما، ورجمهما.
وقوله تعالى: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» استنكار لموقف اليهود، وتحكيمهم النبي ﷺ فى أمر هو من شئون دينهم الذين هم عليه- وحكم التوراة واضح فى هذا الأمر..
ثم كيف يحكمون النبىّ وهم لا يؤمنون به، ولا يعترفون برسالته، ولا بالكتاب الذي فى يده؟ إن ذلك لم يكن لطلب حق، ولا ابتغاء هدى، وإنما كان إشباعا لأهواء، وإرضاء لشهوات، وتحللا من حكم شرعى قائم
1102
بهذا التأويل الفاسد الذي ذهبوا إليه، بالانتقال- فى هذه الحالة- من دين إلى دين..
وقوله تعالى: «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» هو فضح لما عليه اليهود من ضلال ورياء فى الدين- إنهم لا يقبلون من النبىّ إلا ما وافق أهواءهم، وهم ليسوا بالمؤمنين، بما يأخذون أو يدعون من شريعة النبي،..
ثم إنهم ليسوا بالمؤمنين إطلاقا، لا بدين محمد، ولا بالشريعة التي هم عليها..
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» تشنيع عليهم، واستدعاء لكل ذى نظر أن يمسك بهم، وهم على هذا الكفر الذي يعيش معهم.
الآية: (٤٤) [سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
التفسير: فى هذه الآية تعريض بأحبار اليهود وعلمائهم، الذين عاصروا النبوة، وكتموا ما معهم من التوراة وأحكامها..
وقوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» هكذا أنزلنا التوراة، تحمل شريعة الله، وضيئة مشرقة بالهدى والحق.. وهكذا حكم بها النبيون الذين جاءوا بعد موسى، يأخذون بها، ويبينون لليهود أحكام الشريعة فيها.
ووصف النبيين بالذين أسلموا إشارة إلى أنهم على دين الله، الذي ارتضاه الله لعباده، وهو الإسلام، الذي كانت خاتمة دعوته، وتمام رسالته، الدعوة
1103
الإسلامية، ورسالة رسولها محمد بن عبد الله.. وفى هذا دعوة لليهود أن يلتقوا مع رسالة الإسلام، وأن يؤمنوا كما آمن الناس، وإلا فهم على غير دين الله، إذا كان ما معهم من شرع لا يلتقى من شريعة الإسلام، فى الإيمان بالله، وما شرع الله.
وقوله تعالى: «وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» هو عطف على قوله سبحانه «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ» أي ويحكم بها- أي بالتوراة- الربانيون والأحبار، مشهدين بما تلقوا على يد الرسل والأنبياء من شريعة التوراة، وكانوا هم أنفسهم شهودا على ما تلقوا.. وفى هذا تحريض لأحبار اليهود وعلمائهم الذين عاصروا النبوة والذين جاءوا بعدهم أن يكونوا على ما كان عليه أنبياؤهم، وحواريّو هؤلاء الأنبياء، من الحكم بما أنزل الله، دون تحريف، أو تبديل.. وإلا فهم ليسوا ربانيين ولا أحبارا.
وقوله سبحانه: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» توكيد للدعوة التي دعى إليها هؤلاء الربانيون والأحبار، وهو أن يرقبوا الله ويتقوه فيما فى أيديهم من كتاب الله، وألا تغلبهم شهوة المال على الوفاء بعهد الله، وأداء الأمانة التي اؤتمنوا عليها.. والميثاق هو الذي واثقهم الله عليه فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» (١٨٧: آل عمران).
وقوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الرّبّانيين والأحبار، وحكم عليهم بالكفر الصريح، إذا هم لم يحكموا بما أنزل الله، ولم يلقوا الناس بما فى أيديهم من كتاب الله.
1104
والربيون: جمع ربّىّ، وهو العالم الزاهد، المنقطع للعلم والعبادة.
والأحبار: جمع حبر، وهو العالم الفقيه، المتمكن من تعاليم الشريعة.
الآية: (٤٥) [سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
التفسير: قوله تعالى: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها» أي فرضنا عليهم فى التوراة أحكام القصاص، على هذا الوجه الذي بيّنه الله فى قوله تعالى:
«أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ».
فكل عدوان على الإنسان، فى أية جارحة من جوارحه، أو عضو من أعضائه، جزاؤه عدوان مثله على المعتدى.. إن قتل قتل، وإن فقأ عينا فقئت عينه، وإن جدع أنفا جدع أنفه، وإن صلم أذنا صلمت أذنه، وإن كسر سنّا كسرت سنّه! وقوله تعالى: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» هو عطف على قوله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» والجروح هى ما دون تلف هذه الأعضاء التي بينتها الآية الكريمة، مثل قطع إصبع، أو كفّ، أو قدم، ونحو هذا.
وقوله تعالى: «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» هو خطاب للمعتدى عليه،
أو وليّه فى القصاص، وهو أن يتصدق بالعفو على من اعتدى عليه، فهذا التصدق كفارة له، وحطّ من سيئاته بقدر ما تصدق به، والضمير فى «به» يعود إلى القصاص.. أي: ومن تصدق بالقصاص فلم يقتص من خصمه فهو كفارة له.
وقوله تعالى «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» هو تحذير ووعيد لمن غيّر أو بدّل فى أحكام الله، فإن هذا عدوان على الله، وظلم للنفس، إذا أوقعها تحت غضب الله ونقمته، بالعدوان على ما شرع من أحكام.
وقد وصف الذين يحكمون بما أنزل بوصفين، وصفوا أولا بأنهم «هم الكافرون»، ووصفوا ثانيا بأنهم «هم الظالمون».. فهم كافرون ظالمون.. قد جاوز كفرهم كل حدود الكفر، فكان كفرا وظلما معا.
الآيتان: (٤٦- ٤٧) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
التفسير: التقفيه: المجيء من الخلف، أو القفا، ومعناه هنا: مجىء عيسى، بعد هؤلاء الأنبياء الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا».
فقوله تعالى: «وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي بعثنا بعد هؤلاء
1106
الأنبياء عيسى بن مريم، فجاء على آثارهم، متبعا خطوهم فى طريقهم الذي سلكوه، من دعوة الناس إلى الحق والهدى..
وقوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» أي مؤيّدا لها، بإيمانه بها، وأخذه بشريعتها.
وقوله سبحانه: «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» هو عطف على قوله تعالى «وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» وقوله تعالى «فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» هو حال من الإنجيل، تكشف عن مضمون هذا الكتاب الكريم، وهو أنه يحمل الهدى والنور فى آياته وكلماته..
وقوله تعالى: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» هو حال أيضا من الإنجيل، يبين أن الإنجيل مصدّق لما فى التوراة، لأنه حقّ مثلها، منّزل من عند الله، كما أنها منزلة من عند الله، فالمسيح عليه السلام، مصدق للتوراة بإيمانه بها قبل أن يكون معه كتاب من عند الله، ثم لما تلقى كتابه من الله سبحانه وتعالى، جاء هذا الكتاب وهو «الإنجيل» مصدقا للتوراة، مؤيدا لما جاء فيها.
قوله تعالى: «وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» بيان لهذا الهدى والنور الذي يحمله الإنجيل، وأنه لا يفيد منه، ولا يهتدى به، إلا المتقون الذين تلقّوه بقلوب مطمئنة، ونفوس سليمة، لا تحرّف كلماته، ولا تبدّل آياته.. إنه أشبه بالدواء المرصود لداء ما.. إذا تغيرت معالمه بعناصر غريبة دخلت عليه، فسدت طبيعته، ولم يفد منه صاحب الداء، بل ربما أصابه منه ضرر، فكان داء إلى الداء! وقوله تعالى: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» هو دعوة إلى أتباع الإنجيل أن يأخذوا أنفسهم
1107
بأحكامه وآدابه كما جاء بها، ثم هو وعيد لهم إذا هم انحرفوا عن الأخذ بما أنزل الله فيه، فتأوّلوه على غير وجهه، أو حرّفوا الكلم عن مواضعه.. إنهم حينئذ يحكمون بغير ما أنزل الله.. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أي الخارجون على دين الله، وما تلقى المسيح من ربه.. فلينظروا أي دين هم عليه بعد هذا الدين؟.. وقد وصف الذين يحكمون بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف.. الظالمون.. الكافرون.. الفاسقون.. فجمعوا الشر من جميع أطرافه.
الآية: (٤٨) [سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
التفسير: بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى، التوراة وما أنزل فيها من شريعة، والإنجيل وما حمل من آيات الله، وبعد أن دعا أصحاب التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيهما، وأن يقيموهما على ما نزلا به من الحق والهدى- بعد ذلك ذكر الله- سبحانه- القرآن الكريم، والنبىّ الذي تلقاه من ربه.
فقال تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ».. وفى هذا أمور:
١- توجيه الخطاب للنبىّ من الله سبحانه وتعالى، وفى هذا تكريم للنبى الكريم، وتشريف لمقامه العظيم، وقربه من ربه جلّ وعلا..
1108
٢- العدول عن ذكر القرآن وتسميته بالكتاب، إشارة إلى أنه الأصل الذي ترجع إليه الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء من قبل، والتي هى جميعها كتاب واحد.
٣- فى وصف الكتاب بالحق- مع أن نزوله من عند الله، يخلع عليه هذه الصفة من غير وصف- هو توكيد لما يحمل من الحق، وصيانة لهذا الحق من أن يقع تحت تحريف أو تبديل، إذ كان منزلا بيد الله.. «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ».. إنه غرس من غرس الله، ولن يتعرض هذا الغرس الإلهى لأية آفة من الآفات التي تعرّض لها غيره.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».
وفى قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» أمور أيضا:
١- أن هذا الكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب.. والكتاب الأول هو القرآن، والكتاب الثاني هو جميع الكتب السابقة، أي هو مستول عليها، ومشتمل على أصولها، التي تنضبط عليه، وترجع عند تأويلها إليه..
وقوله تعالى: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» هو خطاب للنبى أن يحكم بين المحتكمين إليه من اليهود والنصارى، بما أنزل الله، وأن يكون القرآن الذي بين يديه هو عمدة الأحكام، يرجع إليه، وتضبط أحكام الكتب السابقة على أحكامه، فما وافقه منها أخذ به، وما خالفه اعتبر محرفا ومبدلا، ليس من كتاب الله، ولا من شريعة الله.
وقوله سبحانه: «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» هو تنبيه للنبىّ ألّا يمدّ بصره إلى تحريفات أهل الكتاب، وإلى الشرائع التي أحدثوها..
وحسبه ما بين يديه من الحق الذي يجده فى القرآن الكريم.
1109
وقوله سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» هو بيان للحكمة فى تعدد الشرائع السماوية، وتعدد الكتب التي جاءت بها، والرسل الذين حملوها.. إذ كان لكل أمة زمانها ومكانها، وللزمان والمكان، أثره فى الأمم، وفى اختلاف مناهجها فى الحياة، وأساليبها فى العمل.. فكان أن حمل رسل الله إلى كل أمة قبسا من شريعة الله، مقدورا بقدرها، محسوبا بحسابها، وما يلائم طبيعتها، وظروف زمانها ومكانها.. وهى جميعها (أي الشرائع) تستقى من شريعة واحدة، وتورد أتباعها على مورد من مواردها..
وفى قوله تعالى: «شِرْعَةً» ما يشير إلى أنها مقطع من مقاطع الشريعة العامة، التي جاء بها القرآن الكريم، وأن تلك الشرعة ما هى إلا مورد ترده الأمة على نهر الشريعة العامة، فتستقى منه، وتحمل بقدر ما تحتمل..
وفى قوله تعالى: «وَمِنْهاجاً» إشارة أخرى إلى اختلاف الأمم والشعوب، وأنها لا يمكن أن ترد موردا واحدا، على الشريعة العامة، وأن تحشر حشرا على مورد واحد منها.. لاختلاف الطبيعة، واللغة، وغيرها مما يجعل لكل أمة وجهها الذي تظهر به فى. الحياة، فاقتضت حكمة الحكيم العليم أن يقيم كل أمة على مورد من شريعته.
وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» أي لو أراد الله سبحانه أن يجعل الناس أمة واحدة، تلتقى على مشاعر واحدة، ولغة واحدة، لفعل، فما لمشيئته من معقّب، أو معترض، ولكنه سبحانه حكيم عليم، اقتضت حكمته، وشاءت إرادته أن يجعل الناس أمما وشعوبا، كما جعلهم أفرادا، وكما جعلهم ذكرا وأنثى..
وقوله سبحانه: «وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» أي ولكنه سبحانه وتعالى لم يجعلكم أمة واحدة، كما لم يجعلكم كائنا واحدا، ليكون لكل أمة حسابها،
1110
كما يكون لكل فرد حسابه، وفى مجال العمل والخير والحق تتسابق الأمم، كما يتسابق الأفراد.
وقوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» والاستباق: هو السبق والإدراك..
أي أدركوا الخيرات التي دعيتم إليها فى كتب الله التي بين أيديكم وبادروا إلى تحصيلها، قبل أن تفلت منكم، فلا يبقى فى أيديكم إلا الحسرة، وإلا الندم، وسوء العاقبة.
وقوله سبحانه: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» تحذير لهؤلاء المختلفين فى كتب الله، المحرفين لها، وأنهم سيرجعون إلى الله يوما، وسيحاسبون على ما كان منهم من عبث بالشرائع التي فى أيديهم، وحملها على ما تشتهى أنفسهم.. فما جرى منها مع أهوائهم قبلوه، وما لم يجر منها على ما يشتهون حرفوه وبدّلوه.. ولهذه الأفعال المنكرة، جزاؤها المرصود لأصحابها.
الآية: (٤٩) [سورة المائدة (٥) : آية ٤٩]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
التفسير: قوله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» دعوة أخرى للنبى الكريم أن يلتزم فى حكمه بين أهل الكتاب ما أنزل الله إليه، وألا يلتفت إلى ما تمليه أهواؤهم، وما يسوقون إلى النبي من كيد ومكر، ليفتنوه، ويفتنوا
المؤمنين معه.. «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» وذلك بالأخذ ببعض الأحكام التي يقولون- كذبا- أن شريعة التوراة جاءت بها، وهى جلد المحصن الزاني، وليس الرجم كما جاءت به التوراة.
وقوله سبحانه: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ» أي فإن حكمت بين هؤلاء اليهود بما أنزل الله إليك، وأبوا أن ينزلوا على هذا الحكم وأن يأخذوا به، فإن عقاب الله راصد لهم، يأخذهم ببعض ما اكتسبوا.. ولو أخذهم بكل ما اكتسبوا لخسف بهم الأرض، أو لأطبق عليهم السماء، ولكنه سبحانه رحيم إذ يؤدّبهم بهذا العقاب، الذي هو قليل من كثير، مما كانوا أهلا لأن ينزل بهم.
وقوله سبحانه: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ».. الناس هنا هم اليهود، وعدم ذكرهم هو إبعاد لهم من هذا الشرف بأن يكونوا محمل كلمة من كلمات الله، حتى فى مقام الهوان والعذاب، فما أشقى هؤلاء الأشقياء، وما أبخس صفقتهم بين عباد الله، وما أرذل منزلتهم بين الناس.
الآية: (٥٠) [سورة المائدة (٥) : آية ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
التفسير: فى هذا الاستفهام إنكار على أهل الكتاب هذا الموقف الذي يقفونه من شرع الله، وأنهم لا يأخذون منه إلا ما يستجيب لأهوائهم، فهم- والحال كذلك- يريدون أن يتحللوا من كل شرع، ويفلتوا من كل قانون، شأن الحياة الجاهلية التي تحكمها الأهواء، وتسيّرها النزعات الذاتية السائدة فيها، حيث لا مرجع إلى شرع أو قانون.
وقوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» هو تسفيه لأهل الكتاب، وفضح لجهلهم وضلالهم، إذ يعدلون عن شرع الله، ويخرجون عن حكمه، إلى شريعة الجاهلية، وأحكام السفاهة والضلال.. وذلك من حماقة عقولهم، وسفه أحلامهم، إذ أنه لا يعرف فرق ما بين أحكام الله، وأحكام غير الله، إلا من أخلى قلبه من نزعات الهوى، وصفّى مشاعره من وساوس النفاق، ونظر إلى الله بقلب سليم، فعرفه حق معرفته، وقدره حقّ قدره، ورأى أن هدى الله هو الهدى، وأن من اتبع غير سبيله ضل وهلك، ومن سلك سبيله رشد وسعد.
الآيتان: (٥١- ٥٣) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
التفسير: الأولياء: جمع ولىّ، والولي هو النصير، والظهير، والمعين..
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» هو للنهى عن موالاة اليهود والنصارى، وليس دعوة إلى عداوة أو قطيعة،
1113
وإنما هو نهى عن مناصرتهم ومعاضدتهم، والوقوف إلى جانبهم، وهم على موقفهم من الإسلام ومحاربتهم له، فذلك خيانة للمسلمين، وعدوان على الإسلام.. إذ كيف يكونون هم حربا على الإسلام، ثم يكون فى المسلمين من هو على ولاء لهم، ومودة معهم؟
وقوله تعالى: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» أي أن اليهود أولياء لليهود، والنصارى أولياء للنصارى.. وهذا أوّل ما فيه أن يجعل المسلمين أولياء للمسلمين، فلا يكون ولاء المسلم، ومناصرته ومناصحته، لغير المسلمين، فإذا لم يكن هذا الولاء، وتلك المناصحة من المسلم للمسلمين فلا أقّلّ من أن يقف عند هذا الحدّ السلبي- وهو موقف آثم- فلا يتحول إلى جبهة معادية للإسلام وأهله، فيكون لها مساندا مناصحا.. إن ذلك- كما قلنا- نفاق ظاهر، وكفر خفى! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو بيان للوصف الذي يكون عليه من يجعل ولاءه لغير المسلمين من أهل الكتاب المحادّين لله ورسوله، المحاربين للإسلام والمسلمين، وهو أنه من هؤلاء الظالمين، المعتدين على حق دينه، وحق أتباع دينه، بخذلانهما، ومناصرة أعدائهما..
والظلم هنا شبيه بالظلم فى قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».. لأن المسلم الذي يوالى أهل الكتاب، ويترك موالاة المؤمنين قد حكم بغير ما أنزل الله واتبع ما يرضى هواه، ويحقق نفعا ذاتيا له، على حساب دينه.
قوله سبحانه: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ»..
«الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» هم المنافقون، الذين ستروا نفاقهم بالدخول فى الإسلام، والانضواء تحت لواء المسلمين، ليتخذوا من الإسلام تجارة يتجرون بها فى سوق السحت والاختلاس.. وهذا لا يكون إلا من قلب مريض، يستقبل كل ضلال، دون أن يغصّ به، أو يزورّ عنه..
1114
والمسارعة فيهم أي فى أهل الكتاب: الانغماس فيهم، ولهذا جاء اللفظ القرآنى بتعدية الفعل سارع بحرف الجرّ «فى»، بدلا من تعديته بحرف الجر «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل غالبا.. كقوله تعالى: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» (١٣٣) آل عمران.
وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» ما يكشف عن أن هؤلاء المنافقين ينغمسون فى أهل الكتاب، ويدخلون فيهم دخولا كاملا، حيث يحتويهم ظرف واحد، إذ هم كيان واحد يألف بعضه بعضا.
وفى قوله تعالى: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ» تشهير بهؤلاء المنافقين، وفضح لهم، وأنهم وإن لبسوا كل أثواب التخفّى، لا يلبث أمرهم أن ينفضح وينكشف، وأنهم بمرأى من النبي والمؤمنين، ولهذا جاء الفعل «ترى» وكأنه يشير إليهم، ويحدّد موقفهم الذي هم فيه فى الجبهة الأخرى، جبهة أهل الكتاب.. وهكذا المنافق دائما، إن لم يلتفت إليه أحد، دلّ هو الناس عليه، بكثرة التفاته إليهم وحذره منهم، وصدق المثل الذي يقول:
«يكاد المريب يقول خذونى!» وقوله تعالى: «يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» هو ترجمة لهذه التصوّرات المريضة، التي يعيش فيها المنافقون.. فهم أبدا على خوف وقلق، لا يسكنون إلى أمر، ولا يقيمون على رأى، بل تراهم وأعينهم تدور هنا وهناك، يريدون أن يجمعوا بين الشيء ونقيضه، حتى إذا فاتهم هذا لم يفتهم ذاك.. فهم مع المؤمنين، يخشون أن تكون الكرّة لأهل الكتاب.. وهم مع أهل الكتاب يخشون أن تكون الدولة للمؤمنين.. ولهذا فهم يلبسون الإيمان ظاهرا، ثم يوادّون أهل الكتاب باطنا.. وبهذا- كما تصور لهم نفوسهم المريضة- يحمون أنفسهم من أىّ أذى يصيبهم من أية جبهة غلبت، إذ سرعان ما يتحولون إلى الجبهة الأخرى التي كانوا قد احتفظوا بمكان لهم فيها..
1115
فهؤلاء الذين يوادّون غير المؤمنين، ويلقون بأنفسهم فى أهل الكتاب، ويوثقّون صلاتهم بهم، إنما يفعلون هذا ليكون لهم منه شفيع عند أهل الكتاب، إذا كان لهم الغلب يوما على المؤمنين، فلا يصيبهم من الدائرة- وهى الهزيمة وما يلحق أصحابها من أذى- ما يصيب المؤمنين، إذا هم أصابتهم الدائرة التي يتوقعها المنافقون لهم.
وقوله تعالى: «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» هو وعيد للمنافقين بما يملأ قلوبهم حسرة وندما، إذ جاء تدبيرهم وبالا عليهم وخسرانا لهم، حين قدّروا أن الدائرة ستدور على المؤمنين، فأخلوا مكانهم من بينهم، واتخذوا أهل الكتاب أولياءهم- ثم هو وعد كريم من الله، يجىء بتلك البشريات المسعدة للمؤمنين، وبأنهم هم المنتصرون، وأن الخزي والخذلان لأعدائهم، ولمن انضوى إليهم من منافقين.. «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» الذي يمكّن للمؤمنين من أعدائهم، وقد جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا فدالت دولة الشرك، وذهبت ريح النفاق والمنافقين.
وقوله تعالى: «أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» أي تدبير من عند الله، يجىء على غير انتظار، وعلى غير عمل من المؤمنين، كأن يوقع الشقاق والخلاف بين أحلاف السوء ومجتمع الضلال، فيفضح بعضهم بعضا، ويخذل بعضهم بعضا، فإذا أولياء الأمس أعداء اليوم، يبرأ بعضهم من بعض.
وحمل هذا الوعد الكريم من الله للمؤمنين على يدى فعل الرجاء «عسى» إنما ليقيم المسلمين على رجاء وأمل فى رحمة الله بهم، وفضله عليهم، فتظل قلوبهم شاخصة إلى الله، ذاكرة له، ترقب غيوث رحمته، وفواضل نعمه..
ولو جاء هذا الوعد الكريم قاطعا منجزا لما بعث فى القلوب المؤمنة تلك
1116
المشاعر المتجددة، ولما أمسك بها هذا الزمن الطويل، متشوّفة بأبصارها وقلوبها إلى غيوث رحمة الله، ومواطر أفضاله ونعمه.
وقوله تعالى: «فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» هو عرض لتلك النهاية التي ينتهى إليها أمر هؤلاء المنافقين، وما يؤول إليه عاقبة مكرهم وتدبيرهم.. إنه الندم والحسرة والخسران.
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ».. هو عرض لهؤلاء المنافقين فى معرض آخر من معارض الخزي والفضيحة، فبعد أن دعا الله سبحانه وتعالى كل ذى نظر أن ينظر إلى هؤلاء المنافقين، ويشهد كيف يتهالكون على أهل الكتاب، ويرتمون فى أحضانهم، خوفا من أوهام متسلطة عليهم- بعد أن عرضهم الله سبحانه فى هذا المعرض الفاضح، وتوعدهم بالخزي والخسران، بنصر الله المؤمنين، وبخذلان الكافرين والمنافقين- جاءت هذه الآية الكريمة، تدعو المؤمنين إلى أن يديروا النظر مرة أخرى إلى هؤلاء المنافقين، وأن يقلّبوا صفحات تاريخهم فى الإسلام، ويتتبعوا مسيرتهم معه.. ثم ليصدروا حكمهم عليهم.. وهنا يكثر حديث المؤمنين عن هؤلاء المنافقين، ويلقى بعضهم بعضا بما اطلعوا عليه من نفاقهم، فتكثر فيهم القالة، ويكثر العجب والدهش من أمرهم، وإذا الفضيحة تجلجل بصوتها فى كل أفق، وتتحرك بأشباحها فى كل مكان.
وليس ما حكاه القرآن من مقولة المسلمين فيهم: «أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» ليس هذا هو كل ما قيل فيهم.. وإنما هو مضمون ما قيل، وصميم ما ينبغى أن يقال فى هؤلاء المنافقين.. إذ أنهم كانوا يحلفون بالله للمؤمنين جهد أيمانهم- أي بأغلظ أيمانهم وآكدها- إنهم لمع المؤمنين، ولن يتخلّوا عنهم فى حرب أو سلم..
1117
وهذا الحلف نفسه، والمبالغة فيه هو الذي يكشف المستور من أمرهم، ويعطى الدليل على أنّهم على غير الإسلام.. إذ أنهم لو كانوا مسلمين حقّا لما حلفوا وأكّدوا الحلف أنهم مؤمنون، ومع المؤمنين.. فما دعاهم أحد أن يحلفوا، ولكنّ كائن النفاق الذي يعيش فى كيانهم هو الذي حملهم على أن يستروا كذبهم ونفاقهم بهذه الأيمان المؤكدة، حتى لا يفتضح ما فى قلوبهم..
وهكذا المجرم، يحوم حول جريمته، يريد أن يخفى معالمها حتى ولو لم تكن هناك معالم لها.. لأنه لخوفه يتصور أن كل ما كان فى مكان الجريمة من كائنات، شاهد عليه، ينادى فى الناس بالإمساك به قبل أن يفلت.
وقوله تعالى: «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» أي فسد تدبيرهم، وخاب ظنّهم، وبطل سعيهم، فكان ذلك خسران لهم أي خسران.. خسروا المؤمنين الذين أصبحوا فيهم وقد افتضح أمرهم لهم، وخسروا أولياءهم من أهل الكتاب بعد أن أصابتهم الهزيمة، وعلت راية الإسلام، وعزّت كلمته..
الآيات: (٥٤- ٥٦) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
التفسير: بعد هذه المراقبة التي اطلع منها المسلمون على هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم، وألقوا بأنفسهم فى مجتمع اليهود وغيرهم، ممن يكيدون
1118
للإسلام، ويبيّتون الشرّ للمسلمين، وبعد أن عاين المسلمون ما وقع أو ما سيقع للمنافقين من سوء حال وشر منقلب، وخسران للدنيا والآخرة- بعد هذا كان على المسلمين أن يراقبوا أنفسهم، وأن يأخذوا حذرهم من أن يردوا هذا المورد الآسن الآثم.. فجاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» منبها لهم ومحذّرا، أن من يرتدّ منهم عن دينه كما ارتدّ هؤلاء المنافقون الذين عرفوا أمرهم ومصيرهم، فستكون عاقبة المرتد منهم هى نفس عاقبة أولئك المنافقين: النّدم والحسرة والخزي والخسران المبين..
والارتداد، معناه الرجوع إلى وراء، والعودة من المكان الذي كان قد تحرك منه المرتدّ إلى الأمام.. وهذا يعنى أنه يهدم ما بنى، وينقض ما غزل ولا يفعل ذلك إلا سفيه أحمق! وفى إضافة الدّين إلى المؤمن، وبلفظ المفرد. هكذا: «عَنْ دِينِهِ» ما يلفت المؤمن إلى هذا الدين الذي دخل فيه، وأصبح من أهله، وأنه دينه هو، وثمرته عائدة عليه وحده، وأنه الدّين الذي ينبغى أن يعيش فيه، ويشتدّ حرصه عليه.
إذ هو الدين الذي يدين به كل عاقل.. إنه دينه، إن كان من أهل العقل والرشاد.
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» هو معطوف على جواب الشرط، وليس جوابا للشرط، وإن كانت الفاء الواقعة فى جواب الشرط تشير إلى هذا الجواب..
ويكون معنى الآية هكذا: يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسيلقى مالقى هؤلاء المنافقون الذين ارتدوا، من نكال وبلاء وسوء مصير، ثم إنّه لن يضرّ الله شيئا، ولن يضير المسلمين فى شىء، لأنه سيخلى مكانه، الذي كان له
1119
فى الإسلام، ليأخذه من هو أولى به منه، وأكرم عند الله، وأكثر نفعا للمسلمين، وأعظم غناء فى الإسلام.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ... » الآية.
وهؤلاء القوم الذين سيأتى الله بهم، ويدخلهم فى دينه، قد وصفوا بأوصاف أربعة:
أولا: يحبهم الله ويحبونه..
وحبّ الله لهم: دعوتهم إلى الإسلام، وشرح صدورهم له، وثثبيت أقدامهم فيه.. لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أحبّهم، وهو الذي اختارهم ودعاهم.. وهذا فضل عظيم، ودرجة من الرضا، لا ينالها إلا من أكرمه الله، واستضافه، وخلع عليه حلل السعادة والرضوان.. جعلنا الله من أهل محبته، وضيافته.
أما حبّهم هم لله، فهو فى استجابة دعوته، وامتثال أمره، والولاء له، ولرسوله وللمؤمنين..
ثانيا: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ».
إجماع المفسّرين على أن هذا الوصف، هو وصف لهؤلاء القوم بعد أن دخلوا فى الإسلام، فكانت تلك صفتهم، وهذا سلوكهم فيه.. «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» أي متخاضعين للمؤمنين، لا يلقونهم إلا باللّين والتواضع.. «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» أي أشدّاء وأقوياء، لا يلقى منهم أهل الكفر إلا بلاء فى القتال، واستبسالا فى الحرب.. أما فى السّلم فهم جبال راسخة فى الإيمان..
لا ينال أحد منهم نيلا فى دينه، ولا يطمع أحد من أعداء الإسلام فى موالاتهم أو فى تعاطفهم معه.
1120
هذا هو إجماع المفسّرين فى فهم هذا المقطع من الآية، ويشهدون لذلك بقوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» (٢٩: الفتح) ومع هذا، فإنى أستريح لفهم آخر، غير هذا الفهم.. أرى أنه يفتح لهذا المقطع آفاقا أرحب من هذا الأفق الذي حصره المفسرون فيه، وأطلعوه منه.
فأقول- والله أعلم- إن هذا الوصف هو وصف لهؤلاء القوم الذين سوف يدعوهم الله سبحانه وتعالى إليه، وييسّر لهم الطريق إلى دينه.
وفى قوله تعالى «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» - نرى:
١- أن هؤلاء القوم المدعوّين إلى ضيافة الله هم من الذين كانوا يستخفّ بهم مؤمنون، ويحقرونهم، لأنهم كانوا على عداوة ظاهرة للإسلام، وعلى كيد عظيم للمسلمين.. فهم- والحال كذلك- ميئوس من دخولهم فى الإسلام، لا يطمع المسلمون فى أن يكونوا معهم فى يوم ما، وعلى هذا، فهم لا حساب لهم فى الإسلام عند المسلمين، ثم هم فى الوقت نفسه «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» إذ كانوا سندا قويا لهم فى مواجهة الإسلام والمسلمين.
وحسبنا أن نذكر هنا خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبى سفيان، وقد كانا هما للّذين كسبا معركة أحد لقريش، بعد أن كادت الدائرة تدور عليهم.
ثم دخلا بعد ذلك فى الإسلام فكانا درعين حصينين للإسلام، وقوة من القوى التي استند عليها فى هزيمة الكفر، وإعلاء كلمة الله.. كانا أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين.. هكذا كانا قبل أن يدخلا فى الإسلام.
٢- أن فى هذا العرض لهؤلاء القوم الذين لم يكن أحد ينتظر منهم خيرا
1121
للإسلام، ثم إذا هم خير كثير له بعد أن دخلوا فيه- فى هذا ما يغرى أولئك المسلمين الذين تتلجلج فى صدورهم دواعى النفاق، أن يستمسكوا بمكانهم فى الإسلام، وأن يرسّخوا أقدامهم فيه، حتى لا يأخذ مكانهم أولئك القوم، الذين ينظرون إليهم نظر اتهام وازدراء، إذا كانوا حربا على الإسلام والمسلمين..
٣- حين ينظر المنافقون إلى هذا المقطع من الآية الكريمة- على هذا الفهم- ويرون أن رؤوس الكافرين، وأهل العزّة فيهم سيكونون يوما فى جانب المسلمين- حين يرون هذا يفكرون أكثر من مرة قبل أن يلوذوا بحمى هؤلاء الأعزة الأقوياء، ويرون أن من الخير لهم أن ينتظروهم على الطريق وهم متجهون إلى دين الله! ٤- فى هذا الفهم تبدو هناك طريق مفتوحة دائما لمن يكيدون للإسلام- وهم غالبا أصحاب دولة وصولة فى مجتمع الكفر والضلال- ينفذون منها إلى الإسلام، ويعطون من قوتهم له، ما أعطوه من قبل فى حربه، وعداوته..
وفى عمر بن الخطاب شاهد مبين لهذا.
وهكذا، يصبح من كان عدوا لله ولرسوله وللمؤمنين، وليّا لله، متابعا لرسول الله، مجاهدا فى سبيل الله، على حين يتحول من كان- فى ظاهره- مواليا لله، ولرسوله، ولدينه، عدوا الله، ولرسوله، وحربا على دينه..
فهناك طريقان: طريق.. يستقبل منه الإسلام، أقواما كانوا أعداء له وحربا عليه.. وطريق.. يتسلل منه جماعات من المسلمين، إلى حيث الكفر والضلال..
ثالثا: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
هذه صفة ثالثة من صفات أولئك الداخلين فى الإسلام، المدعوين إلى
1122
ضيافة الله فيه، بعد أن طرد من ضيافته أولئك المنافقين ومن فى قلوبهم مرض.
فهؤلاء المسلمون الجدد: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ويدفعون عن الإسلام والمسلمين يد البغي والعدوان، ويعطون ولاءهم كله لدينهم الذي دعاهم الله إليه، وارتضاهم له.. لا يضنّون عليه بأموالهم ولا بأرواحهم.
رابعا: «لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ».
ومن صفاتهم أنهم فى إيمانهم، وفى جهادهم فى سبيل الله، لا ينظرون إلى غير الله، ولا يلتفتون إلّا إلى نصرة دين الله، لا يثنيهم عن ذلك لوم لائم، من قريب أو صديق، ممن بقي على الكفر من أقاربهم وأصدقائهم.. إنهم باعوا كل شىء، وتخلّو عن كل شىء، إلا إيمانهم بالله، ونصرتهم لدين الله.
وفى قوله تعالى: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن هذا الذي يجرى فى حياة الناس، من تحول وتبدل، فيتحول أهل الكفر والضلال إلى الهدى والإيمان، هو من فضل الله، الذي استنقذ به أولئك الضالين الذين كانوا على شفا حفرة من النار.. وهذا الفضل هو بيد الله، لا يملك أحد منه شيئا «يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» ويصرفه عمن يشاء.. «وَاللَّهُ واسِعٌ» لا يضيق فضله بأحد، ولا تنفذ خزائنه بالإنفاق.. «عليم» بمن هم أهل لهذا الفضل، فخصّهم به، واجتباهم له.. «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».
قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ».. هو دعوة للمؤمنين جميعا، من دخل فى الإسلام، ومن لم يدخل بعد، أن تكون ولايتهم ونصحهم لله ولرسوله وللمؤمنين..
1123
وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» هو صفة للمؤمنين الذين يطمئن إليهم المؤمن، ويعطيهم ولاءه ونصحه، ومحبته.
وفى هذا تحذير للمؤمنين أن ينخدعوا لمن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه..
ومن آثار الإيمان بالقلب أن يقيم المؤمن الصلاة، وأن يؤتى الزكاة..
يقيم الصلاة خاشعا، ويؤدى الزكاة راضيا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَهُمْ راكِعُونَ» أي خاشعون، فى غير رياء، أو استعلاء.. لأنهم فى صلاتهم وزكاتهم على عبادة لله، وفى حضور بين يديه، فينبغى أن يعطوا هذا المقام حقّه من الخشوع لله، والخضوع بين يديه، حتى يكونوا فى معرض القبول من الله، لصلاتهم وزكاتهم.
قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» بيان لما تثمره الموالاة لله ورسوله والمؤمنين، فإن من يوالى الله يكون من حزب الله، ومن كان فى حزب الله فهو من الفائزين، لأنه فى ضمان الله، وفى جنده الذين لا يغلب أبدا.. «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٢١: المجادلة).
هذا، وقد ذهب كثير من المفسّرين إلى أن قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» مراد به «علىّ بن أبى طالب» كرّم الله وجهه.. ويروون لهذا أحاديث، تفيد أن هذه الآية نزلت فى «علىّ» رضى الله عنه، وأنّه تصدق على فقير سأله وهو راكع فى الصلاة، فنزع خاتما كان فى يده، وألقاه إليه، وهو فى صلاته..!
وفى هذا الخبر أمور.. منها:
أولا: أن الخطاب عام، بلفظ الجمع: «الَّذِينَ آمَنُوا..» والوقوف
1124
بالآية عند صريح لفظها خير من التأويل والتخريج، إذ لا يعدل عن صريح اللفظ، إلا إذا كان ما يخفيه وراءه أولى مما يبديه ظاهره.
والعكس هنا صحيح، إذ ظاهر الآية وصريح لفظها أولى من حمله على غير هذا المحمل، كما سترى.
وثانيا: هذا السائل الذي يسأل مؤمنا قائما بين يدى الله يؤدى الصلاة..
ألا ينتظر حتى يفرغ المصلّى من صلاته؟ أهو غريق مشرف على الهلاك، حتى يستنجد بمن هو قائم بين يدى الله، عابدا خاشعا؟
ثالثا: الإمام «على» كرم الله وجهه، وهو فى استغراقه فى صلاته بين يدى ربه.. أيقطع هذا الموقف، وجلاله، وروعته، ليتصدق على فقير؟
وماذا لو انتظر حتى يفرغ من الصلاة؟ أيموت هذا الفقير جوعا؟ إن ذلك كان يمكن أن يقع لو أن نارا علقت بهذا الإنسان الفقير، وكادت تلتهمه، ولا منقذ له إلا على بن أبى طالب! وعلى هذا فالآية الكريمة خطاب عام للمؤمنين جميعا.. وإنما صرفها إلى هذا الوجه من التأويل، ما جاء فيها من «الولاية» التي يستخرج منها بعض الشيعة دليلا على أحقّية علىّ بالخلافة، وأن هذه الآية تؤيد حديثا يروى عن رسول الله ﷺ أنه أخذ بيد علىّ كرم الله وجهه، ثم قال:
«من كنت مولاه فعلىّ مولاه.. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.» !
والموالاة هنا معناها الحبّ، والمودة، لا الخلافة، فمن أحبّ النبىّ ﷺ وجب عليه- دينا- أن يحبّ آل بيته، ومنهم علىّ كرم الله وجهه، بل ووجب عليه دينا أن يحبّ كل مؤمن.. «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا».
1125
الآيتان: (٥٧- ٥٨) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
التفسير: دعوة أخرى من الله- سبحانه- إلى المؤمنين أن يجتنبوا هؤلاء المنافقين والكافرين، الذين يهزءون بهم وبدينهم، ويتخذون من أحاديثهم فى المجالس معرضا للسخرية بالمسلمين والزراية بدينهم.. وهذا أقل ما فيه هو أن يغار المسلم على دينه، وأنه إن لم يستطع قطع هذه الألسنة التي تهزأ بدينه وتسخر منه، فإن أضعف الإيمان فى هذا الموقف هو أن يتجنب هؤلاء الساخرين المستهزئين، وأن ينظر إليهم نظرة العدوّ المتربص به، فلا يأمن له، ولا يركن إليه.
قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الغيرة على الدين، والانتصار له ممن ينتهك حرمته، هو من تقوى الله، وأن موالاة أعداء الإسلام، والكائدين له، والمستهزئين به، هو مما يبعد عن التقوى، ويحجز المؤمن عن أن يكون من المتقين.. فإذا كان المؤمن مؤمنا حقّا، فليتق الله.. وأول مداخل التقوى إلى الله، هو توقير الله، وتوقير دينه، والغيرة على حرماته، والدفاع عنها، واعتبار كل عدوان عليها منكرا، يدفعه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.. كما يقول ذلك النبىّ الكريم فى حديثه الشريف.
وقوله تعالى: «وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً» هو استحضار لصورة من صور الهزء والسخرية التي يحارب بها الإسلام، فى محيط الكافرين، والمنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. وفى عرض هذه الصورة ما يثير مشاعر المسلمين، ويلفتهم إلى هذا العدوان الذي يرميهم به أعداؤهم، وهم فى هذا الموقف العظيم، بين يدى رب العالمين.. فإن كل مسلم ينتظم فى صفوف المسلمين للصلاة يصيبه رشاش من هذا الأذى الذي يرمى به أعداؤهم فى أعقاب المسلمين، وهم ركّع وسجود.. ولن يطهّر هذا الأذى، ويذهب بهذا الرجس، إلا بأن يأخذ المسلم بحقّه من هؤلاء الذين اعتدوا عليه، وآذوه فى دينه! وقوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» هو تسفيه لهؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله، ويهزءون ممن يولّى وجهه إلى الله، راكعا وساجدا..
ولو عقلوا لعلموا أنهم بعملهم هذا، يحاربون الله ويصدّون الناس عن أداء حقّه عليهم من الولاء لجلاله، والشكران لنعمه إنهم ظلموا أنفسهم ظلما فوق ظلم..
ظلموها (أولا) إذ لم يؤدّوا حق الله عليهم، وظلموها (ثانيا) إذ يصدّون الناس عن عبادة الله، بهذا الاستهزاء الذي يلقونه إليهم وهم بين يدى الله.
الآيتان: (٥٩- ٦٠) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
1127
التفسير: قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ» هو نداء مطلق لأهل الكتاب، وخاصة اليهود، وليس المراد بهذا القول أن يلقاهم النبىّ به، وأن يبلغهم إيّاه، وإنما هو قول موجّه إلى النبىّ وإلى المؤمنين. تنكشف به حال أهل الكتاب، وموقفهم العنادىّ من المؤمنين.. وليس يمنع من هذا أن يستمع اليهود إلى هذا القول، وأن يعرفوا رأى القرآن فيهم، إذ كانوا دائما يتتبعون أخبار النبىّ وما ينزل عليه من كلمات ربّه، ليبحثوا فيها عن شبهة، يضلّون بها المؤمنين، ويفتنونهم فى دينهم..
وفى هذه الآية يرى المؤمنين أن هذا الموقف العنادىّ من أهل الكتاب الذي يقفونه منهم، لا سبب له، إلا إيمان المؤمنين بالله، وما أنزل عليهم من قرآن، وما أنزل على النبيين قبلهم من كتب الله.. ذلك فى حين أن أكثر أهل الكتاب «فاسقون» أي خارجون على دين الله، منكرين أو متنكرين لرسل الله وكتب الله..
تلك إذن هى أسباب هذه الحرب الخبيثة التي يعلنها اليهود على المؤمنين.. إنها عداوة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين من استجاب لله ورسله، ومن حادّ الله ورسله.
وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ» الإشارة هنا إلى موقف أهل الكتاب هؤلاء، ونقمتهم على المؤمنين، لا لشىء إلا لأنهم مؤمنون.. وهذا موقف يورد صاحبه موارد البوار والهلاك، وهذا هو المصير الذي سيصير إليه المعاندون من أهل الكتاب، الذين وقفوا من النبىّ ومن دعوته إلى الإيمان بالله، هذا الموقف.. ثم إذ يعرض القرآن اليهود المعاصرين للنبوة فى هذا المعرض، ينتقل بهم فى لمحة خاطفة تردّهم إلى الماضي البعيد، وتشرف بهم على آبائهم وأجدادهم، الذين كان لهم موقف من رسل الله كهذا
1128
الموقف الذي يقفونه هم من رسول الله، ومن المكر بآيات الله، فكان عقابهم أليما شديدا، إذ جعل الله منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، بهذه اللعنة التي رماهم الله بها، فمسخت آدميتهم، ونسخت طبيعتهم، فإذا هم قردة وخنازير فى صور آدمية، يعبدون الطاغوت، ويوالون الشيطان.. والأبناء يعرفون عن يقين خبر هذا البلاء الذي حلّ بآبائهم، فكانوا مثلة فى الناس. فإذا كان هؤلاء الأبناء لم يمسخوا بعد قردة وخنازير وعبدة للطاغوت، فإنهم على الطريق الذي يقودهم إلى هذا البلاء، إذا هم ظلّوا على هذا الموقف من النبىّ، ومن دعوته، ولم يفيئوا إلى السلامة والعافية، بموادعة النبىّ أو متابعته على دينه.
وفى التعبير عن العقاب الأليم هنا بلفظ المثوبة، التي يعبّر بها فى مقام الجزاء الحسن- فى هذا ما يشير إلى أن هذا العقاب هو الجزاء الحسن الذي يحلّ باليهود، إذا هو قيس بما وراءه من ألوان العقاب والنّكال، الراصد لهم!
الآيات: (٦١- ٦٣) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
التفسير: النفاق هو الصفة الغالبة على اليهود، فهو توأم الحسد الذي يملأ قلوبهم ضغينة وحقدا على الناس..
فهم إذا التقوا بالمؤمنين لأمر ما بيّتوه فى صدورهم، أظهروا الإيمان،
1129
حتى يطمئن إليهم المؤمنون، ويأمنوا جانبهم.. وهم على الحقيقة ليسوا من الإيمان فى شىء..
وفى قوله تعالى: «وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ» تغليظ لكفرهم، وتجسيم له، لكثافته، وإطباقه عليهم، حتى لكأنه يكاد يكون كائنا محسوسا، يعيش معهم كما يعيش بعضهم مع بعض.. «وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ».. إنه أشبه بالوليد تحمله أمّه على صدرها، حتى لكأنه قطعة منها، تغدو به، وتروح به، لا تدعه بعيدا عنها لحظة واحدة.. وقد حسبوا أنهم أخفوا هذا الكفر الذي يحملونه فى صدورهم، ولكن الله أعلم بما يكتمون، لا تخفى على الله منهم خافية.
قوله تعالى: «وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» أي أن كثيرا من هؤلاء اليهود، يأتون المنكرات فى غير تحرّج أو تأثّم، بل يفعلونها وكأنها قربات يتقربون بها إلى الله.. فهم يلقون بالكلمات الكاذبة، الآثمة وكأنّهم يرتّلون مزمارا من مزامير داود، وهم يعتدون على حرمات الله، ويستبيحون محارمه، وكأنهم يتناولون طعاما شهيا، على جوع وحرمان، وهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وكأنها مائدة عيسى المنزلة عليهم من السماء! وهذا كله يكشف عن ضمائر ميتة، ومشاعر متبلّدة، لا تتأثّم من إثم، ولا تعفّ عن محرّم.
وفى قوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» حكم يدين أفعالهم تلك، ويدمغها بالسوء، الذي يردى أهله، ويهلك المتلبّسين به.
وقوله تعالى: «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» هو تشنيع على علماء اليهود، وأهل الرأى فيهم، وأنّهم لا ينكرون
1130
هذا المنكر الذي يعيش فيه أتباعهم، ويموج فيه عامتهم، وهم الأعين المبصرة فيهم، ولكنها أعين ترى الحق فتصدّ عنه، وترى النور فتعشى به.
وقوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» هو توبيخ لهؤلاء العلماء، ووعيد لهم، إذ عرفوا الحق وكتموه، ورأوا المنكر وسكتوا عنه أو أجازوه..
ولهذا وصف الله عملهم هذا بأنه ليس مجرد عمل، بل هو صنعة، أي عمل مع علم، على حين وصف عمل أتباعهم بأنه «عمل» لأنه عمل لا يستند إلى علم، وإنما مستنده أوهام وأباطيل.. «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»
الآية: (٦٤) [سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
التفسير: لم تقف جرائم اليهود عند حدّ التطاول على الأنبياء، والاعتداء على أموال الناس وأكلها سحتا وعدوانا، بل لقد تطاولوا على الله سبحانه وتعالى، وتعاملوا معه كما يتعاملون مع النّاس، فقالوا فيه سبحانه تلك القولة المنكرة: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» أي ممسكة، بخيلة، حتى لكأن غلّا يمسكها، وقيدا يقيّدها عن البذل والعطاء!.
إنهم لا يرضون بما فى أيديهم من هذا المال الكثير الذي سلبوه من الناس، وجمعوه من كل وجه حرام.. بل هم يريدون أن تتحول الجبال ذهبا، يكون لهم وحدهم، لا ينال أحد غيرهم ذرة منه..
1131
إنهم يريدون الله أن يكون مترضيّا لأهوائهم، مستجيبا لهذا الجشع الذي لا يشبع أبدا.. فإن لم يفعل ذلك كان عندهم إلها بخيلا ممسكا، لا يستحق أن يحمد أو يعبد!.
وقد أخذهم الله سبحانه بهذه القولة العظيمة، فجعل عقابهم من جنس عملهم: «غلّت أيديهم».. فهذا هو حكم الله عليهم بما جدّفوا هم عليه به..
فجعل أيديهم شحيحة ممسكة، لا تنضح بخير أبدا، ولا تجود بمعروف أبدا..
يجمعون المال، ويشقون فى جمعه، ثم لا ينعمون بهذا المال، ولا ينالون منه ما ينال أصحاب المال من أموالهم من متع الحياة ونعيمها.. فهم هكذا أبدا..
كائنات مشتتة فى كل وجه من وجوه الأرض، تجمع المال، وترد موارد الهلاك فى سبيله، وأيد شحيحة لا تنفق من هذا المال، ولا تنتفع به..
«كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».
وليس هذا وحده هو حكم الله فيهم، وعقابه لهم، على تلك الكلمة الفاجرة، بل لقد رماهم الله بعقوبة أخرى، هى آلم وأنكى.. إذ صبّ عليهم لعنته:
«وَلُعِنُوا بِما قالُوا».. فهم لعنة تمشى على الأرض، لا يراهم النّاس إلا كانوا منهم فى وجه عداوة وبغضه، وإلّا موضع بلاء وانتقام.. «مَلْعُونِينَ.. أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» (٦١: الأحزاب).
وقوله تعالى: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ».. تلك هى يد الله، عطاؤها جزل، ومواهبها تفيض على الأرض والسماء.. له ملك السموات والأرض.. ينفق كيف يشاء، حسب ما يقضى علمه، وكما تقدّر حكمته.
وفى قوله سبحانه: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً» إشارة إلى أن هذا الذي نزل على «محمد» من هدى ونور، هو مما بسطته يد الله لعباده من رزق، وإنه لرزق كريم، فيه الغنى كلّه، والسعادة كلها..
1132
وهؤلاء القوم مدعوّون فيمن دعوا.. إلى هذا الرزق الكريم، وإلى هذا العطاء الجزل، ولكنّهم لم يستقبلوا هذا الخير استقبال النعم، بالحمد والشكر، بل زادهم ذلك طغيانا إلى طغيان وكفرا إلى كفر.. ولن يكون حالهم أحسن من هذا الحال، لو بسط الله لهم فى الرزق، من مال وغيره.. إنهم لن يزدادوا به إلا طغيانا وكفرا.. فهذا شأنهم مع كل نعمة من نعم الله.
قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» هو لعنة من لعنات الله على هؤلاء القوم، تقطع معهم مسيرتهم فى الحياة، متنقلة بهم من جيل إلى جيل، إلى أن تقوم الساعة.. فالعداوة قائمة بينهم، يطعمون منها طعاما خبيثا، يملأ كيانهم حقدا وبغضا، لا يطمئن لهم قلب، ولا يستريح لهم بال، فهم فى حرب مستعرة فيما بينهم، وهم فى حرب متصلة بينهم وبين الناس جميعا.. يبغضون الناس، ويبغضهم الناس، وتلك هى اللعنة التي تأخذ الملعونين بالبأساء والضرّاء، مع كل نفس يتنفسونه، من الميلاد إلى الممات..
وفى قوله تعالى: «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» تأبيد لهذه اللعنة التي لا ترفع عن الملعونين أبدا، حتى بعد موتهم.. فتصحبهم إلى قبورهم. وتبعث معهم يوم يبعثون.
قوم تعالى: «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» النار التي يوقدها اليهود هنا، هى كيدهم لدين الله، ولرسول الله.. كلّما نزلت آية من آيات القرآن.
الكريم، نظروا فيها، وتأوّلوها تأويلا فاسدا، وعرضوها على ما عندهم من مقولات باطلة مضللة، ليفسدوا بها على الناس دينهم.. وفى كل مرة يفعل اليهود هذا تفضحهم آيات الله على الملأ، فلا يرجعون إلا بالخزي وسوء المنقلب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَطْفَأَهَا اللَّهُ» أي أنه تعالى بما ينزل من آيات القرآن الكريم على النبي، يبطل ما دبّر اليهود، ويتبّر ما كانوا يعملون،
1133
فإذا نارهم التي أوقدوها قد أصبحت رمادا، لم يبق منها إلّا ما اصطبغت به وجوههم وجلودهم، من سواد دخانها، وذرور شررها.
قوله تعالى: «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» العطف هنا هو على قوله تعالى: «وَلُعِنُوا بِما قالُوا..» وعلى هذا يكون قوله تعالى «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» حكم من أحكام الله عليهم، وأنه بعض معطيات اللعنة التي صبّها الله عليهم.. فهم أبدا مأخوذون بهذا الحكم، لا يتحولون عنه أبدا.. أي أن سعيهم فى الأرض فسادا هو طبيعة فيهم، لا يتحولون عنها أبدا.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» هو حكم على اليهود، يتناولهم هم أولا، ثم يمتدّ إلى كل مفسد غيرهم ثانيا، فقد وصفهم الله سبحانه قبل ذلك بأنهم يسعون فى الأرض فسادا.. أي أنهم مفسدون، ثم حكم سبحانه بأنه لا يحبّ المفسدين.. أي لا يحبّ هؤلاء الذين وصفوا بالفساد، ولم يذكرهم الله تعالى بقوله والله «لا يحبهم» ليقيم الوصف الملازم لهم- وهو الفساد- مقامهم، فهم والفساد كائن واحد.
الآية: (٦٥- ٦٦) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
التفسير: العقوبات التي أخذ الله سبحانه وتعالى بها بنى إسرائيل لم تكن
1134
إلا جزاء لما كسبت أيديهم من سوء، وما اكتسبت ألسنتهم من إثم.. وإلا فهم خلق من خلق الله، وعباد من عبيده، لم يخصّهم بهذه اللعنات التي مسخت وجودهم وغيّرت خلقهم، إلّا لما كان منهم من محادّة الله ورسله، ومكر بآياته وكتبه.
ولو أنهم آمنوا كما آمن المؤمنون، واتقوا الله كما اتقى المتقون، لكفّر الله عنهم سيئاتهم، ولمسّهم برحمته، وأفاض عليهم من رضوانه، ولسلك بهم مسالك الحق والهدى.. ثم كان جزاؤهم فى الآخرة أن ينعموا بجناته التي أعدّها للمؤمنين المتقين من عباده.
فهذا مشهد يراه «اليهود» وكان من حقهم- لو عملوا له- أن ينالوه ويسعدوا به.. ولكنهم- وقد نكصوا على أعقابهم- لن ينالوه أبدا، ولن يأخذوا نصيبهم منه أبدا.
وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» - هو إشارة إلى ما بين أيديهم من خير ضيّعوه، وما معهم من نور أطفئوه! فهذه التوراة.. يقول الله فيها.. «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (٤٤: المائدة) وهذا الإنجيل.. يقول الله فيه.. «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» (٤٦: المائدة).
وهذا القرآن.. يقول الله فيه.. «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (٢: البقرة).
هذه الكتب المنزلة من عند الله، تحمل الهدى والنور.. هى بين يدى
1135
أهل الكتاب- وخاصة اليهود- فلو أنهم أقاموا هذه الكتب على وجهها وأخذوا عنها بعض ما فيها، واستقاموا على أمرها ونهيها، لا استقام طريقهم فى الحياة، ولملأ الله قلوبهم غنى ورضى، ولوجدوا فيما أنزل الله من رزق. هو خير كثير، يسع الناس جميعا، ويسعد به الناس جميعا.
ولكنّهم كفروا بآيات الله، واتبعوا أهواءهم، وجروا على ما تمليه عليهم أنفسهم من حقد وحسد، وشره، وتكالب على المال.. فكان الجري اللاهث فى الحياة نصيبهم، وكان الجوع النفسي، والجدب لوجدانى، خاتمة مطافهم وسعيهم.
إنهم لم يتوكلّوا على الله، ولم يعطوه أيديهم ليقودهم إلى الخير، ولو فعلوا لكفل لهم رزقا حسنا، وحياة طيبة، كما يقول الرسول الكريم: «لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خمصا (أي جياعا) وتروح بطانا (أي شبعى) ».
وقوله سبحانه: «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ».
الأمة: الجماعة، والاقتصاد: هو المتوسط فى الأمر، وعدم المبالغة فى مجاوزة حدوده..
والمعنى، أن من هؤلاء اليهود جماعة مقتصدة، أي معتدلة فى زيغها وانحرافها، لم تبالغ فى الزيغ والانحراف، ولم تبعد كثيرا عن طريق الحق..
أما كثرتهم ففى ضلال مبين، وكفر غليظ.
الآية: (٦٧) [سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
1136
التفسير: بعد أن عرض الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب فى هذه المعارض المختلفة، فى زيفهم وطغيانهم، وفيما أخذوا به من نقمة وبلاء، وفى غفلتهم عما بين أيديهم من حق وخير، واتّباعهم لما فى نفوسهم من سراب الأهواء والأباطيل- بعد هذا كان من الله- سبحانه- هذا النداء الكريم، لنبيه الكريم: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» - فهو أمر ملزم للرسول أن يؤذّن فى الناس بما يتلقّى من آيات ربّه.. «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ».. فتلك هى مناط رسالة الرسول، وفحوى الحكمة من رسالته.. إنه وصلة بين الله والنّاس، وفى هذا يقول الله تعالى:
«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» (١: المدثر) ويقول سبحانه: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (٩٤: الحجر) وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» هو تنبيه للرّسول، وإلفات له إلى الأمر الذي دعاه الله إليه، وأنه إن لم يفعل فقد حبس هذا الخير المرسل من الله إلى عباده دون أن يصل إليهم..
وانظر إلى قوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» وقف خاشعا بين يدى هذا الأدب السماوي، وأقصر الطرف عن النظر إلى جلال هذا الإنسان العظيم الذي يخلع الله عليه خلعا وضيئة من فيوض رحمته، وغيوث رضوانه، فلا يلقاه ربّه إلا بهذا اللطف العظيم، فى أمر لو وقع لكان داعية للّوم، أو الوعيد بالعقاب الشديد! ولكنه- سبحانه سبحانه- يرفع نبيّه الكريم، عن موطن العتاب، أو اللوم.. فيقول له- جل شأنه- «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» ! ولم يقل سبحانه: «وإن لم تفعل فأنت ملوم، أو مؤاخذ»..
1137
هكذا أدب السماء مع الأصفياء من عباد الله، وهكذا ألطاف الله مع رسول الله.
ورسول الله خير من يلقى هذا اللطف بما هو أهل له من حمد وشكر، وسيّد من يقوم لهذه الإشارة بما تقتضيه من جدّ وعزم..
فما وهن الرسول الكريم، وما ضعف عن حمل الرسالة، واحتمال ما تنوء به الجبال من أعبائها.. فلكم لقى من السفهاء، والحمقى، والطغاة، من بغى وعدوان؟ حتى لقد خرج مهاجرا من البلد الحرام، الذي عاش فيه شبابه، وقضى فيه أيام صباه، بين أهله وعشيرته، وألقى بنفسه فى أحضان الغربة، فرارا بالرسالة التي بين يديه أن يمسكها المشركون عن أن تبلغ غايتها، وتملأ أسماع العالمين بهديها، وتفتح مغالق القلوب بنورها.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» هو من تمام نعمة الله سبحانه وتعالى على نبيّه الكريم، فهو- سبحانه- قد اصطفاه ليكون رسولا للعالمين، حاملا مختتم رسالات السماء إلى الناس.. ثم لم يدعه سبحانه- يحمل أعباء الرسالة، ويلقى الضرّ والأذى فى سبيلها دون أن تكون أمداد سماوية تعينه، وتحمل عنه بعض ما يحمل من أعباء، وكلّا.. فقد أمده الله بأمداد من الصبر واليقين، والعزم، وإذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يواجه قريشا كلها بصلفها وكبرها، وبجبروتها وعتوّها، فلا يلين لها، ولا يحفل بتهديدها ووعيدها.. ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يخوض غمرات الحرب، ويتقدم صفوف الأبطال والفرسان، ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يلقى كيد اليهود ومكرهم، ملاطفا وموادعا، حتى إذا لجّوا فى الضلال، وتمادوا فى الكيد والبغي، صدمهم صدمة ألقت بهم خارج الجزيرة العربية كلها.
1138
ومع هذا كله، مما فضل الله به على نبيّه الكريم، من قوة الاحتمال، وثبات الجنان، ووثاقة العزم- يجىء هذا المدد العظيم، من ربّ عظيم، إلى نبى كريم، تحمله كلمات الله إلى رسول الله: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».. فأى نعمة مع هذه النعمة؟ وأي تكريم مع هذا التكريم؟
فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ إلى جنابه الكريم، عبده ورسوله محمدا، صلوات الله وسلامه عليه، وإذا هو فى حمى ربّ العالمين، لا يناله سوء من أحد، ولا يصيبه أذى من إنسان!..
«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».. وإنه لو اجتمع الناس جميعا لما نالوا من محمد نيلا.. هكذا كان وعد الله، وهكذا استيقن رسول الله من وعد ربّه..
ولا شك أن هذا من أنباء الغيب، ومن تحدّيات القرآن للكافرين والملحدين والمنافقين.. فلو أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- أصيب بأذى بعد هذه الآية الكريمة لكان ذلك دليلا- أي دليل- على أن ما يتقوله الكافرون والمنافقون على القرآن الكريم، وأنه قول بشر، وتلفيقات إنسان..
وإذا علمنا أن هذه الآية فى سورة المائدة، وأن هذه السورة كانت آخر سور القرآن نزولا، على أصح الأقوال، أو أنها من آخر سور القرآن نزولا، بلا خلاف- إذا علمنا هذا أدركنا السرّ فى تأخر هذا الوعد الكريم إلى أخريات أيام الرسول، وإلى مختتم رسالته، وذلك حتى لا ينكشف للرسول وهو قائم على طريق الدعوة، أنّه فى ضمان هذه الحراسة الربانية، وفى ظلّ تلك العصمة التي عصمه الله بها من الناس، وذلك ليكون له بلاؤه، وجهده، وعزمه، فى ملاقاة الشدائد، واحتمال المحن، مستقبلا كل ما يمكن أن تتمخض عنه الأحداث، ولو كان فى ذلك ذهاب نفسه..
1139
أمّا لو كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد تلقّى هذا الوعد الكريم من ربّه من أول خطواته على طريق رسالته، لما كان له فضل فى مكابدة الأهوال، ومصادمة الشدائد، والتعرض للأخطار، ولا سوى فى هذا أوهى الناس عزما، وأقلّهم صبرا، وأجبنهم قلبا، مع أقواهم عزما، وأكثرهم صبرا، وأشجعهم قلبا.. إذ كان كلّ منهما يلقى الموت وهو فى أمان وثيق من أنه لن يموت بيد إنسان.
وقد يسأل سائل هنا: إذا كان ما تلقّاه الرسول من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية» - قد كان فى مختتم رسالة النبىّ، فما محصّل هذا الأمر بالتبليغ، وقد بلّغ الرسول فعلا ما أنزل إليه من ربّه؟ ثم ما محصّل هذه العصمة، وقد استقرّ أمر الإسلام، وانطفأت جذوة أصحاب الشوكة والبغي! والجواب على هذا:
أولا: أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إذ يتلقى هذا الخبر المسعد من الله، يراجع خط سيره على طريق دعوته، من أول يوم دعاه الله فيه بقوله:
«قُمْ فَأَنْذِرْ» إلى هذا اليوم الذي كادت الدعوة تنتهى فيه إلى غايتها- فيرى أنه كان فى ضمان هذه الرعاية الكريمة من رب كريم، وأن عناية الله لم تتخلّ عنه لحظة، وأنه كان فى عصمة من الله من أن تناله يد بسوء، يقطع عليه طريق دعوته، ويعجزه عن الوفاء بها.. فها هو ذا- صلوات الله وسلامه عليه- قد بلّغ رسالة ربّه، وجاهد فى سبيلها، حتى اجتمع الناس عليها، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وهذا كله من فضل الله عليه، ورعايته له.
ففى هذه المراجعة يرى الرسول مكانته عند ربّه، ومنزلته فى المصطفين
1140
الأخيار من عباده.. فينشرح لذلك صدره، وتنتعش روحه، ويجد فى هذا جزاء طيبا يستقبله من عند الله، وهو يوشك أن يحطّ رحاله بعد هذه الرحلة الطويلة المضنية.
ثانيا: أن انكشاف عواقب الأمور قبل أن تقع، يقطع على الإنسان طريقه إلى العمل والكفاح، ويسلمه إلى استسلام أشبه باليأس، انتظارا للمقدور الذي يسعى إليه، كما ينتظر راكب القطار مجيئه فى موعده المحدد.
إن فى انتظار المجهول إيقاظا للمشاعر، وحفزا للهمم، وتشوّقا إلى ما تكشف عنه الأيام.. فمن يعمل لغاية لا يدرى ما عاقبة أمره فيها، باذلا جهده فى التمرس بالأسباب، هو ممسك بوجوده كله، ينتظر ثمرة عمله، وغاية سعيه الموصلة لها..
إنه إن بلغ الغاية حمد وسعد، وإن لم يبلغها فقد أعذر لنفسه، ورضى عن مسعاه، وإن لم يحصّل منه ما يريد..
فكيف بالرسول، وقد حمل الرسالة، وواجه بها النّاس جميعا، متحدّيا عقائد فاسدة، ومتصديا لقلوب مريضة، وعقول مظلمة، وطبائع صلدة متحجرة؟ كيف به وقد بلغ بصبره، وجهاده، وعزمه، ما أراد الله لدعوته أن تبلغ؟ إنها سعادة ورضى، وحمد وشكر.. كل أولئك لو قسم فى الناس جميعا لوسعهم واشتمل عليهم.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» إشارة إلى تلك العصمة التي عصم الله بها النبي من الناس، وأنه سبحانه لا يهدى الكافرين إلى طريق الحق، كما أنه سبحانه لا يهديهم إلى الطريق الذي يخلص منه إلى النبي أذى على أيديهم.. فقد سدّ الله عليهم المنافذ التي يبلغون بها ما يريدون به من أذى.. «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (٣: الطلاق).
1141
الآية: (٦٨) [سورة المائدة (٥) : آية ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
التفسير: صلة هذه الآية بما قبلها، هى أن الرسول الكريم، وقد بلّغ رسالة ربّه، وأدّاها إلى عباد الله فاستجاب لها الناس، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وأن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- ما زاوا على موقفهم من تلك الدعوة، لم يستجيبوا لها- فى جملتهم- ولم ينتفعوا بما حملت إليهم من إلفاتهم إلى الكتب التي بين أيديهم، وتنبيههم إلى ما أدخلوه عليها من تحريف وتبديل، وما كتموه من حق فيها، وما تأوّلوه من أحكامها حسب أهوائهم- أما وذلك هو حال أهل الكتاب إلى هذا اليوم الأخير من أيام الدعوة الإسلامية، فقد جاء أمر الله سبحانه إلى النبي الكريم يدعوهم دعوة أخيرة، إلى أن يصححوا موقفهم من التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربّهم على يد أنبيائهم، من أسفار ضمّوها إلى التوراة، وجعلوها جميعا كتابهم المقدس..
ذلك أنهم إذا لم يستجيبوا للنبىّ، ولم ينتفعوا بما بين يديه من كتاب كريم، فلا أقلّ من أن يستجيبوا لما فى أيديهم هم، وأن يقيموه على وجهه الصحيح، من غير تحريف، أو تأويل هو أشد خطرا من التحريف- فإن لم يفعلوا فهم ليسوا على شىء من الدين.. إنهم- والحال كذلك- أسوأ حالا، وشرّ مكانا، من الكفار والمشركين، إذ كانوا أهل كتاب فضيعوه، وأصحاب
دين فأفسدوه.. وعلى هذا فهم يحسبون أنهم أهل كتاب وأهل دين، وما هم- فى الواقع- بأهل كتاب، ولا بأصحاب دين.
وقوله تعالى: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً» هو حكم قاطع مؤكدّ، بأنهم لن يصلحوا ما أفسدوا، ولن يستقيموا على التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم، وإلّا لكانت لهم رجعة إلى الدعوة الإسلامية، والتصالح معها ومع النبىّ الذي حملها.. ولكن أمرهم على غير هذا.. إنهم لن يزدادوا بما يسمعون من آيات الله التي تنزل على «محمد» إلا كفرا، وإلا عنادا وطغيانا..
وقوله تعالى: «فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» هو استخفاف بأمر أهل الكتاب- وصرف النظر عنهم، وتركهم فى ضلالهم يعمهون، ليلقوا المصير السيّء الذي يلقّاه المحادّون لله، الكافرون به، غير مأسوف عليهم.. إذ كان ذلك من صنع أيديهم، وما جنته عليهم أنفسهم، وقد نصحوا فلم ينتصحوا، وأنذروا فلم تغنهم النّذر.. ومن كان هذا شأنه فلا يستحق أن يأسى (أي يحزن) عليه أحد.
الآية: (٦٩) [سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
التفسير: الصابئون: هم الذين عبدوا غير الله.. يقال صبأ فلان أي مال.
فالصائبون، قد مالوا عن دعوة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، واتبعوا أهواءهم..
1143
وفى قوله تعالى: «وَالصَّابِئُونَ» بالرفع. بعد قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا» ما يشعر باختلاف النسق فى النظم، إذ عطف المرفوع على المنصوب.. وكان نسق النظم يقضى بأن يجىء هكذا: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى».. كما تقرر ذلك قواعد النحو، ومقولات النحاة.
وهذا أمر قد وقف عنده المفسّرون، وأكثروا وجوه القول فيه، والتخريج له، ليقيموا الآية الكريمة على أصول النحو وقواعده.
فقال قائل: إنه بعد أن طال الفصل بين إنّ وواو العطف فى «والصابئون» ضعف عمل إن فيما بعد الواو، وصارت الواو أشبه بواو استئناف..!!
وقال آخر: إن «الواو» واو استئناف فعلا، وذلك باعتبار أنها متأخرة على قوله تعالى: «وَالنَّصارى».. أي أن المعنى هكذا: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم، والصابئون كذلك.!!
وهذه التخريجات، وإن أرضت النحاة، وسوّت حسابهم مع قواعد النحو، إلا أنها تذهب بكثير من روعة النظم القرآنى، وتخفت كثيرا من أضواء إعجازه.
والذي نراه فى الآية الكريمة، ونطمئن إليه، هو أن «والصابئون» معطوفة على الذين آمنوا، والذين هادوا، كما أن لفظ «النصارى» معطوف عليها، وأنها جميعا واقعة تحت حكم إنّ المؤكدة للخبر، الواقع على هؤلاء المذكورين جميعا! ولكن كيف هذا؟ وعلى أي وجه كان؟
1144
نقرأ الآية الكريمة مرة أخرى، فنرى أربع طوائف من الناس، يقع عليها حكم واحد..
أولا: الذين آمنوا..
ثانيا: والذين هادوا..
ثالثا: والذين صبئوا..
رابعا: والذين تنصّروا ولا يظهر الإعراب فى أية لفظة من هذه الألفاظ الأربع إلا فى لفظة «الصابئون»..
وقد ذكر القرآن الكريم الذين آمنوا والذين هادوا، فى صيغة الموصول وصلته، ولو ذكر «الذين صبئوا» بهذه الصيغة لوقع التكرار الذي يثير اضطرابا فى النظم، الأمر الذي يترفع عنه كلام الله..
ولهذا، عدل النظم القرآنى عن الذين «صبئوا» إلى قوله تعالى:
«وَالصَّابِئُونَ».. و «ال» فى «وَالصَّابِئُونَ» يحتمل معنى الاسم الموصول، «الذين» وصابئون خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم، أي والذين هم «صابئون» ومثلها «والنصارى» أي وكذلك الذين هم نصارى..
وقد كثر استعمال «ال» بمعنى الاسم الموصول، إذا اتصلت باسم مشتق، وهذا الاستعمال عربى فصيح.. يقول ابن هشام صاحب «مغنى اللبيب» فى «ال» إنها تأتى على ثلاثة أوجه.. أحدها: أن تكون اسما موصولا، بمعنى الذي وفروعه، وهى الداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين» ومن هذا قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» فقد دخلت الفاء فى الخبر، على تقدير: الذي يزنى والتي تزنى، فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة.. فذلك الشأن فى خبر الاسم الموصول دائما، مثل
1145
قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما».
ومعنى الآية الكريمة: أن الذين آمنوا، والذين اختلط إيمانهم بضلال أو فسق وهم الذين هادوا، والذين هم شرك ظاهر وهم «الصابئون» و «النصارى» - هؤلاء جميعا هم عباد الله، وصنعة يده، وأنهم مدعوون إلى الإيمان به، والاستقامة على أوامره ونواهيه، فمن استجاب منهم لله، وآمن به وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون..
فالإيمان بالله والعمل الصالح هو الذي يقرب الإنسان من ربه، ويدنيه من رحمته، ويؤهله لجناته، وليس شىء غير ذلك يتوسل به إلى الله، وإلى مرضاته.. من جاه أو حسب أو سلطان.. «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» (١٣: الحجرات).
الآيتان: (٧٠- ٧١) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
التفسير: ذكر الله سبحانه فى الآية السابقة أن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، مدعوون إلى الإيمان بالله، والعمل الصالح الذي يرضى الله، ويستقيم مع ما أمر به ونهى، وأن من قبل ذلك فقد فاز برضوان الله.
ثم جاءت هذه الآية: «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ
1146
رُسُلًا»
- جاءت لتسجل على اليهود، أنهم غير معذورين، بخروجهم عن طاعة الله، وبإفسادهم لدينه الذي فى أيديهم.. إذ أخذ الله عليهم ميثاقا بعد خروجهم من مصر، وأنقذهم من العذاب المهين الذي كانوا فيه، وأراهم آياته عيانا، ففرق بهم البحر، وأغرق آل فرعون.. وأنزل عليهم المنّ والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظلل عليهم الغمام، وأجرى لهم من صميم الحجر عيونا- بين يدى هذه الآيات الناطقة أخذ الله العهد عليهم أن يؤمنوا به، وأن يعملوا بأحكام التوراة، بقلوب سليمة، وعزائم وثيقة، فإن القلوب لتخشع، ولو كانت أقسى من الحجارة، وهى فى مواجهة هذه الآيات البينات، فتتقبل الخير وتستجب له، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (٥٠- ٥٧: البقرة) ثم يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
1147
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ»
(٦٤- ٦٥: البقرة).
لقد نقض بنو إسرائيل ميثاقهم مع الله، الذي أخذه عليهم وهم على بساط هذه النعم الغامرة، فكفروا وعبدوا العجل، فعفا الله عنهم، وأرسل إليهم رسله، يجمعونهم من أشتات الطرق التي شردوا فيها.. فما تبدلت حالهم، ولا تغير ما بنفوسهم، فمكروا يرسل الله، وأخذوهم بالعنت والعذاب.. كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كفروا به، وبسطوا فيه ألسنتهم بقالة السوء ومدوا إليه أيديهم بالأذى.. فريقا كذبوا وفريقا يقتلون.
وقوله تعالى: «وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» إشارة إلى أنهم- وقد رأوا نعم الله تتظاهر عليهم- أنهم بمأمن من الفتن، وأن لهم أن يفعلوا ما تشتهى أنفسهم، وترتضى أهواؤهم، ولم يعلموا أن هذه النعم هى إبتلاء من الله لهم، وأنها ستكون نقمة عليهم إن لم يشكروا الله ويحمدوا له، شأن من يتلقى نعم الله من عباده المتقين، كما فعل سليمان مثلا، والذي يقول الله سبحانه على لسانه:
«فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي- أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (٤٠: النمل).
ولكنهم عموا وصموا عن نعم الله، فجعلوها أسلحة يحاربون الله ورسله بها، ويسعون فى الأرض فسادا..
ومع هذا فقد تاب الله عليهم، وبسط لهم يد المغفرة، فلم يزدهم ذلك إلا ضلالا وكفرا ثم عموا وصموا كثير «منهم» أي أن كثرتهم الغالبة لم ترجع إلى الله، بل ظلت شاردة فى طرق الضلالة والغواية، وقليل منهم هم الذين كانت لهم من إلى رجعة.. وهذه القلة منهم هم شهود عليهم بالضلال والعصيان..
1148
الآيات: (٧٢- ٧٧) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
التفسير: وهؤلاء هم النصارى- بعد اليهود- قد كفروا بالله، إذ تصوروه فى هذه الصورة المجسدة، التي رأوا فيها عيسى عليه السلام، فجعلوه الله رب العالمين.. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..»
وهى قولة منكرة، أملتها أهواء مضللة، وتأويلات نضحت بها مشاعر فاسدة.
أما المسيح عليه السلام فإنه لم يقل إلا ما قاله القرآن عنه: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» فما جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه، إلا ليصحح معتقدات اليهود الفاسدة، وإلّا ليقيمهم على شريعة التوراة التي أفسدوها، وبعدوا عنها..
1149
ومن عجب أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون، ليست فيها لفظة واحدة يؤخذ منها أن المسيح إله أو ابن إله!. وما عرف المسيح بألوهية فى حياته، ولا عرف أن أحدا من أتباعه ادّعى له هذه الدعوة، ولا عبده كما يعبد الإله.
ومن طوائف المسيحيين من جعل الإله ثلاثة آلهة: الأب والابن وروح القدس، وهى فى مجموعها إله واحد، ولكن لكل من هؤلاء الثلاثة عمل واختصاص فى داخل الإله الواحد.. وهذا كفر بالله.. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ».. «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ»..
وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو وعيد للقائلين بهذه القولة، المعتقدين بها، العابدين الله عليها، وليس المراد بقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» مجرد الانتهاء عن القول والكفّ عنه، وإنما لأن هذا القول هو ترجمان العقيدة، وعنوانها.. فإذا أمسكوا عن هذا القول، تحوّلوا عن المعتقد القائم عليه، وكان لهم قول غيره، ومعتقد غير معتقدهم..
وقوله تعالى: «أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو نداء كريم، من ربّ رحيم، يدعو به هؤلاء الضالين عنه، ليتوبوا إليه، وليستغفروا لذنبهم العظيم، بتصورهم الإله هذا التصوّر الخاطئ.. فإذا عادوا إلى الله، وعرفوه حقّ معرفته، واستغفروا لذنبهم وجدوا ربّا رحيما غفورا، يقبل التائبين، ويتجاوز عن سيئات المسيئين..
قوله تعالى: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ».. هو عرض للمسيح، يكشف عن حقيقته، وأنه رسول من رسل الله، وأمّه خلق مما خلق الله، وناس من الناس، وأنهما يجوعان
1150
كما يجوع الناس، ويأكلان مما يأكل النّاس، ويخضعان للضرورات التي يخضع لها الناس.. ومن كان هذا شأنه، فكيف يكون إلها مع الله؟. كيف ومن خلق الله من يستعلى على تلك الضرورات المتحكمة على المسيح وأمّه، كالملائكة مثلا؟ فإنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يمرضون! وقوله سبحانه: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» تعجّب من موقف هؤلاء الذين يرون المسيح إلها أو ابن إله، وأنهم مع هذه الآيات البينات، التي تكشف لهم عن المسيح، وتريهم مكانه عيانا بين الناس- إنهم مع هذا لا يزالون على ما هم عليه من إفك وافتراء على الله، إذ يقولون فيه هذا القول الشنيع الآثم.
وقوله سبحانه: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» هو تسفيه لعقول أولئك الذين يعبدون من دون الله أربابا من حيوان أو جماد، ثم يرجون عندها النفع والضرّ، وهى فى قيد العجز، لا تملك من أمر وجودها شيئا، فكيف يكون لها فى هذا الوجود سلطان على العباد؟ ذلك هو الضلال البعيد، والبلاء المبين..
وقد اتخذ المسيحيون المسيح إلها، وأضافوا إليه أنفسهم، بل أضافوا إليه الوجود كلّه.. وما فكّروا أن «المسيح» عيسى بن مريم مخلوق عاجز ضعيف أمام قدرة الله وسلطان الله..
لقد كان المسيح جنينا فى أحشاء أمّه تسعة أشهر، ثم ولد طفلا، ترضعه أمه وتغذوه، وتحمله قبل أن تحمله رجلاه.
أفهذا يكون إلها يملك الضرّ والنفع، ويدبرّ أمر السموات والأرض؟
ذلك مالا يقبله عقل، ولو كان به مسّ أو خبل!.. إذ أن مسافة الخلف بين الإله والإنسان أوسع من أن يملأها تصوّر، أو يصل بين طرفيها خيال.
1151
وفى تقديم الضرّ على النفع، هو مما يجرى مع طبيعة الإنسان، ويلتقى مع مطالبه- فدفع الضرّ مقدّم عند الكائن الحىّ على جلب النفع.. إذ أن الكائن الحىّ يطلب السلام لنفسه أولا، كى يضمن وجوده وبقاءه، ولا بقاء لحىّ مع وجود الخطر الذي يتهدّد حياته.. فإذا تمكن الكائن الحىّ من استخلاص نفسه من بين الأخطار التي تترصده، وتريد القضاء عليه، كان له بعد ذلك أن يطلب ما ينفع فى إمساك حياته، واستمرار وجوده، مما يتصل بمعاشه، من طعام، ولباس، وسكن، وغير هذا..
وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو إلفات إلى ذات الله سبحانه وتعالى، وإلى جلال الذات وعظمتها، التي يختفى أمام بهائها وسلطانها كل ذى جاه وسلطان.. وأنه هو وحده- سبحانه- السميع العليم، لا سمع لأحد مع سمعه، ولا علم لعالم مع علمه.. سبحانه وتعالى عما يشركون.
وقوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ» المراد بأهل الكتاب هنا- هم النصارى، والدعوة إليهم هى ألا يغلو فى دينهم، أي يبالغوا فى الصورة التي ارتسمت لهم من المسيح، فى ميلاده وفى المعجزات التي جاءت على يديه.. وأن هذه المبالغة قد أرتهم فى المسيح ما ليس له، فما هو إلا إنسان، ولد كما يولد الناس، من رحم امرأة، ربّى فى حجرها، ورضع من ثديها.
وقوله تعالى: «غَيْرَ الْحَقِّ» هو قيد للنّهى عن المغالاة، إذ هى مبالغة فى طريق الضلال، وغلوّ فى متابعة الهوى..
ويجوز أن يكون «غير الحق» مفعول به لقوله تعالى: «لا تَغْلُوا» بمعنى لا تتجاوزوا بدينكم حدود الحق، بل التزموا هذه الحدود، وقفوا
1152
عندها، فإن ما بعدها هو الضلال والكفر.. «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ». (٣٢: يونس)
الآيات: (٧٨- ٨١) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
التفسير: الذين كفروا من بنى إسرائيل هم عامّة بنى إسرائيل ومعظمهم، ولم يجىء النصّ القرآنى عامّا شاملا بلعن بنى إسرائيل جميعا حتى لا يدخل الذين سلم لهم دينهم منهم، تحت هذا الحكم، فيكون ذلك مدعاة إلى سوء ظنّهم بأنفسهم.. أولا، وبالله.. ثانيا.
ومن جهة أخرى فإن النصّ القرآنى قد حمل- معه إلى جانب اللعنة التي رمى الله بها هؤلاء القوم- حمل وصفا كاشفا لهم، وهو أنهم كفروا، ولو جاء النظم القرآنى هكذا: «لعن بنوا إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم» لدخل معهم فى هذه اللعنة الذين آمنوا منهم، ثم لم يكن هذا الوصف بالكفر مصاحبا لتلك اللعنة صبّت عليهم.
وقوله تعالى: «عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي أن الله وجّه حكمه باللعنة على الذين كفروا من بنى إسرائيل، محمولا على لسان داود وعيسى
1153
ابن مريم.. فقد لعنهم الله سبحانه مرتين.. مرة على لسان «داود»، ومرة على لسان «عيسى» عليهما السلام.
ولا نسأل ماذا كانت لعنة داود لهم، ولا عن أي شىء كانت تلك اللعنة التي رماهم الله بها على لسان داود، وكذلك الشأن فى اللعنة التي جاءتهم على لسان المسيح.. فقد غيّر القوم وبدّلوا فى زبور داود، وفى إنجيل عيسى.
والذي علينا أن نؤمن به، هو أن الله لعن اليهود هذه اللعنات على لسان هذين النبيين الكريمين.
قوله تعالى: «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» هو بيان لسبب آخر من أسباب اللعنة التي لعن الله بها بنى إسرائيل، وهى أنهم مع عدوانهم على حرمات الله، وتطاولهم على أنبيائه بالتكذيب وبالقتل، فإنه لم يكن فيهم من رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، ويردّهم عن هذا الضلال.. «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» أي لا ينهى محسنهم مسيئهم، ولا يأخذ عالمهم بيد جاهلهم، فلا تناصح بينهم على معروف، ولا تناهى عن منكر.. وليس هذا شأن الجماعة السليمة، المتنبهة لكل آفة تعرض لأى عضو من أعضائها.
فجماعة اليهود جماعة يعيش كل فرد فيها فى ذات نفسه، لا يعنيه إلا ما يتصل به اتصالا مباشرا، ولا عليه أن يهلك الناس جميعا.. وليس هذا شأن عامتهم وحسب، بل هو شأن رؤسائهم وأصحاب السلطة الروحية فيهم، وقد نصّ الله عليهم ذلك بقوله: «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (٦٣: المائدة).
وقوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» هو تجريم لأفعال اليهود جميعا، عامتهم وخاصتهم، علماؤهم وجهلاؤهم.. أفعالهم كلها منكرة، لا تتحرّى الحق، ولا تستقيم عليه.
1154
وقوله تعالى: «تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» الضمير فى «منهم» يعود إلى علماء اليهود، وخاصتهم، وأنّهم يعطون ولاءهم ومودتهم للذين كفروا من مشركى العرب، ومن كافرى اليهود أنفسهم، ليظاهروهم على الدعوة الإسلامية، وليقودوا جبهة الكفر المتصدّية لها.. وهذا منهم هو كفر فوق كفر، وضلال فوق ضلال.. إذ لم يكفهم أنهم عرفوا الحق وكتموه، بل أجلبوا عليه الأعداء، وكانوا لهم فى حربه سندا وظهيرا..
فاستحقوا لهذا سخط الله عليهم، وأن يصلوا النار التي أعدّها للعصاة المحادّين لله ورسوله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ».. وقوله تعالى: «أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» هو مصدر مؤول، وهو المخصوص بالذم أي بئس شيئا قدمته لهم أنفسهم، وأعدته ليوم الجزاء، سخط الله ولعنته لهم فى الدنيا، والعذاب الشديد يوم القيامة فى جهنم خالدين فيها أبدا.
قوله تعالى: «وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ» هو بيان لهذا المرض الخبيث المستكنّ فى قلوب هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل، وهو أنهم قد أعمى بصائرهم بالحسد، فألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وكفروا بالله، إذ كفروا بالنبيّ وما أنزل إليه من ربه، وكان ما بأيديهم من دلائل تدل على نبوته، وما عندهم من علم به وبرسالته- جديرا بأن يجعلهم أسبق الناس إلى لقاء هذا النبىّ، والإيمان به، والوقوف من ورائه، والجهاد تحت رايته.. ولكنهم تخلّوا عن مكانهم هذا، الذي كان ينبغى أن يأخذوه مع النبي، وانحازوا إلى جهة الكافرين والمنافقين..
حسدا وبغيا.
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» هو حكم على الكثرة
1155
الغالبة من علماء اليهود بالفسق، والخروج عن الطريق القويم، طريق الحق والنور، إلى طريق العماية والضلال.. وإن قليلا منهم هو الذي سلم فلم يقع تحت طائلة هذا الحكم.
ولسائل أن يسأل: كيف يحكم على اليهود بالكفر، مع أنهم أهل كتاب، وأنهم يؤمنون بالله، وأن الإسلام قد وضعهم وضعا خاصا فى أحكامه، فجعلهم أهل ذمّة، وسمح لهم أن يعيشوا فى المجتمع الإسلامى، وألا تهدم بيوت عبادتهم، وألا يحال بينهم وبين أن يؤدوا شعائر دينهم فيها.. كيف هذا؟
والجواب من وجوه:
فأولا: هم كافرون- لا شك فى هذا- لأنهم اجترءوا الله، فنبذوا كتاب الله الذي فى أيديهم، وحرّفوه، ثم ما بقي بأيديهم منه لم يستقيموا عليه، بل تأولوه تأويلا فاسدا، يجرى مع أهوائهم وما يشتهون.. فهم- وإن لم ينكروا الله- قد حاربوا الله، واستخفّوا بكلماته، وجعلوها تبعا لأهوائهم، ولم يجعلوا أهواءهم تبعا لها.
والكافر بالله، والمنكر له، وإن غلظ جرمه. وعظم إثمه- هو أخفّ جرما، وأقل إثما، ممن عرف الله واستخفّ به، وأعلن الحرب عليه، فشوّه وجه كلماته، وأراق دم أنبيائه.
وثانيا: هم كافرون- لا شك فى هذا أيضا- لأنهم أنكروا نبوّة النبىّ، وبهتوه، وكفروا بما أنزل عليه، وهم يعلمون- بما فى أيديهم من كتب الله- أنه رسول من عند الله، وأن الآيات التي بين يديه هى كلمات الله.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا
1156
جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ»
(٨٩- ٩٠: البقرة) فلقد دمغهم الله- سبحانه- بالكفر أكثر من مرة.. «كَفَرُوا بِهِ»..
«فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ».. «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ».. «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ».
فهذا بعض ما وصفهم الله به فى هاتين الآيتين، وقد توعدهم الله سبحانه باللعنة، ورماهم بالغضب بعد الغضب، ورصد لهم العذاب المهين يوم القيامة»..
وثانيا: إن تصوّر اليهود لله هو تصور خاطئ فاسد، إذ يرون الله هو إله اليهود وحدهم لا يتعامل مع غيرهم، ولا يعمل لأحد سواهم، ولا يشغل إلّا بهم وبمشكلاتهم.. فهو «رب الجنود» يقودهم فى ميادين القتال، بل ويقاتل لهم وهم ينظرون، كما قالوا لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (٢٤: المائدة).
وهذا تصور خاطئ لله رب العالمين.. إنهم لا يرونه إلا أشبه بإنسان يملك قوى خارقة لا يملكونها، أشبه بآلهة الأساطير التي تولدت فى خيال الوثنيين لتحقق لهم أحلاما قصرت أيديهم عن تحقيقها.. ولهذا، فقد طلبوا إلى موسى أن يريهم الله جهرة، أي عيانا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم:
«لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (٥٥ البقرة)..
هذا هو إله اليهود الذي يؤمنون به.. إنه إلههم وحدهم.. أما هذا الوجود فله إله أو آلهته.. وذلك كفر، أو شرك، أو فسق.. وقد صف صف اليهود بهذه الصفات جميعا..
1157
ورابعا: جعل الإسلام أهل الكتاب أهل ذمّة ولم يأخذهم بما أخذ به غيرهم ممن لا كتاب لهم من المشركين والكافرين، كالصائبين والمجوس، ومشركى العرب وغيرهم، لأنهم على شبهة من دين، ولهذا لم يقم عليهم حدّ القتل، إذ كان من أصول الإسلام: «درء الحدود بالشبهات»..
فهم- أي أهل الكتاب- كافرون، ولكن كفرهم مشوب بإيمان باهت.. وهذا الإيمان على ما فيه، لا يرفع عنهم الحكم- ديانة- بأنهم كافرون، ولكنه يرفع عنهم إقامة حدّ الكفر عليهم بقتلهم، إذا وقعوا فى حوزة المسلمين وصاروا إلى أيديهم، وأبوا أن يدخلوا فى الإسلام..
فهذا الكفر المشوب بالإيمان، أو الإيمان المختلط بالكفر، يعصم دماءهم، وأموالهم، ويجعلهم ذمة فى يد المسلمين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» (٢٩: التوبة).. فهذه الجزية التي تؤخذ منهم، وهذا الصّغار الذي ينضح عليهم من الجزية التي يؤدونها- هو تعزير لهم على جناية الكفر الذي حالت دون إقامة الحدّ عليهم فيه، شبهة الإيمان المختلط بكفرهم.
تم الكتاب الثالث، ويليه الكتاب الرابع فى تفسير الجزءين السابع والثامن.. إن شاء الله؟ المؤلف
1158

[الجزء الرابع]

[تتمة سورة المائدة]
الآيات (٨٢- ٨٦) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
التفسير: الخطاب فى قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ» موجّه إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم، ثم هو خطاب من بعده لكل من هو أهل لأن يخاطب، من المؤمنين، وغير المؤمنين.
فاليهود والنصارى، هم فيمن دخل فى هذا الخطاب.
وفى قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» هو كشف لهذا الموقف العدائى، الذي يقفه اليهود من الدعوة الإسلامية وأهلها.. فهم.. كما يقول الله تعالى:
3
وهذا وضع مقلوب بالنسبة لليهود، إذ كانوا- وهم أهل كتاب- أولى الناس بأن يناصروا أهل الكتاب ويوادّوهم، لا أن يكونوا فى الجبهة الأولى من الجبهات المعادية للمؤمنين، إذ يتقدمون فى هذا الموقف اللئيم أهل الكفر والشرك، فيكونون قادة الحملة الموجهة لحرب الله والمؤمنين بالله! وفى قوله تعالى «لَتَجِدَنَّ» إشارة إلى أن هذا الحكم الذي فضح الله به اليهود، ليس حكما معلّقا على أي شرط، بحيث يقع إذا وقع هذا الشرط، أو هو حكم خفىّ لا تظهر آثاره للعيان.. وإنما هو حكم مطلق، واقع دائما، ظاهر لا خفاء فيه، ولهذا جاء التعبير عنه بلفظ «تجد» بمعنى ترى، وتبصر، وتتحقق، ثم جاء هذا اللفظ مؤكدا بالقسم، وبنون التوكيد «لتجدنّ».. فهو أمر واقع، مؤكد الوقوع، لا احتمال فيه لشك أو ريب.
هذه هى وجهة اليهود فى الحياة، وهذا هو حكم الله عليهم.. فماذا يرى الراءون منهم؟ وما مدى انطباق هذا الحكم عليهم؟
إن مسيرتهم فى الحياة تشهد شهادة ناطقة بأنهم حرب على الأديان وعلى المؤمنين.. بل هم حرب على الإنسانية كلّها، قبل أن يكونوا حربا على الأديان التي يدين بها الناس.
ولكن لمّا كان الدّين هو ملاك أمر المجتمعات الإنسانية، ومنطلق خياتها الرّوحية والاجتماعية- كان الميدان الذي يعمل فيه اليهود، لإفساد المجتمعات، وإصابتها فى مقاتلها، هو ميدان الدين، فإذا تحلّل الناس من الدّين، وتقطعت بينهم وبينه الأسباب، تحوّلوا إلى حيوانات ضارية، يقتل بعضها بعضها، بلا حساب من عقل أو ضمير..
وهذا ما يفعله اليهود فى كل مجتمع يعيشون فيه..
لقد دخلت الدعوة المسيحية أو ربّا، فأحيت كثيرا من معالم الإنسانية التي
4
كانت قد افتقدتها زمنا طويلا، ولكن ما إن كادت هذه الصحوة الإنسانية تسفر عن وجهها، حتى تصدّى لها اليهود، فدخل كثير منهم فى المسيحية كذبا، واجتهد كثير منهم فى الدعوة، زورا وبهتانا، حتى إذا بلغ مكانة بين المسيحيين، لعب بالدين، ومسخ تعاليمه، وجاء إلى الناس بالمفتريات والأباطيل، حتى كانت تلك الحروب التي اشتعلت فى أوربا بين العلم والدين، وإذا العلم فى مواجهته للدّين يجد الطريق مهيأة له، للنّيل منه، بل والقضاء عليه، فأجلاه عن موطنة من القلوب التي كانت تجد فيما احتفظت به من دين، شيئا تمسك به، وتحرص عليه! ومن هنا كان هذا الإلحاد الذي طغى على المجتمع الغربي كله فى أوربا وأمريكا.. وإذا الحياة هناك حياة ماديّة طاغية، تعصف بالناس عصفا، وتسوقهم سوقا عنيفا إلى هذا الصراع المرير، الذي أشعل نار الحرب، فشملت العالم كلّه، ودارت دورتها مرتين فى أقل من ربع قرن من مطلع هذا القرن الذي نعيش فيه- القرن العشرين الميلادى- دون أن يكون هناك وازع من الدّين يحمى الناس من هذا الضّياع المستولى عليهم، ودون أن يكون لدعوة المسيح عليه السلام أي أثر فى إقامة الناس على الأمن والسلام اللذين جاء مبشرا بهما.
واليهود، هم تجار هذه الحروب الدائرة فى كل صقع من هذا العالم، يجنون منها مكاسبها، ويجمعون من مخلّفات رمادها الشيء الكثير! فهم- أولا- يشبعون نقمتهم من الإنسانية، بهذه الأنهار المتدفقة من الدماء المراقة من الناس، على اختلاف أجناسهم وأديانهم! وهم- ثانيا- يقطعون علائق المودة والإخاء بين الناس، بهذه الحروب التي لا تنقطع أبدا.
وهم- ثالثا- يشترون الذّمم والضمائر، التي تروج سوقها أعظم رواج،
5
فى هذه الأجواء العاصفة، التي تشتمل على الناس، وتستولى على عقولهم وقلوبهم.. فلا ثمن لضمير- حيث لا ضمير- ولا حساب لشرف، حيث الموت راصد يخطف النفوس! «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ».. ففتش وراء كلّ شر يهبّ على المجتمعات الإنسانية من أي أفق، تجد أن مطلعه اليهود.. قديما وحديثا.. اليوم، وما بعد اليوم..
ونكاد نقف عند قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ».. أما «الَّذِينَ أَشْرَكُوا» فهم من صنع اليهود، إذ هم الذين أفسدوا على كثير من المؤمنين دينهم، وساقوهم إلى الشرك، كما أنهم- وقد سبقوا إلى الإيمان بالله، بما أرسل الله إليهم من رسل، وما أنزل عليهم من كتب- لم يفتحوا للمشركين طريقا إلى الإيمان بالله، ولم يدعوهم إليه، بل ضنّوا بما فى أيديهم، وحجبوه عن كل عين.. بل وأكثر من هذا، فإنهم زيّنوا الشرك للمشركين، ويسّروا لهم سبله، بما أذاعوا فى المجتمعات الإنسانية من مفاسد وشرور.
وقوله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى» هو وجه مشرق من وجوه الدّين وما يفعله فى المتدينين، يقابل هذا الوجه الكريه الذي بدا من بعض أصحاب الدين، وهم اليهود.. ففى دعوة المسيح التي يدين بها النصارى دعوة كريمة إلى التواضع، والتسامح، والإخاء.. مع الإنسانية كلها، بل والتآلف مع الوجود كلّه، ناطقه وصامته! وإذا كانت المسيحية اليوم قد تغيّر وجهها عند المتدينين بها، فذلك من جناية اليهود عليها، وعلى المتدينين بها.
والنصرانىّ المتمسك بنصرانيته، الموالي لعقيدته. هو إنسان وديع رقيق، يتأسّى بالسيد المسيح فى وداعته، ورقته، ورحمته، وإنسانيته.
6
وأىّ نصرانى يستمع إلى قولة المسيح: «أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» - أي نصرانى يستمع إلى تلك القولة الكريمة، ثم لا يمسّ قلبه شعاعة من نورها الألق، أو قبسة من نفحاتها المباركة؟ ولكن اليهود أدخلوا على المسيحية ما غيّر وجهها، وأفسد طبيعتها.. وحسبنا أن نذكر هنا «بولس الرسول» وما كان له- هو اليهودي- من شأن فى هذا المقام! وقوله سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً» إشارة إلى أن علماء النصارى، وأصحاب الرياسة والتوجيه الديني فيهم، هم جماعة يمثلون الوجه المشرق للمسيحية، فى وداعتهم، ولطفهم، وحبهم للإنسانية.. على حين يقابل هذا:
الربانيون والأحبار، الذين هم قادة اليهود وأصحاب الرياسة الدينية عندهم، والذين هم العقل المفكر واليد العاملة للمجتمع اليهودي، وما يرمى به الناس من شر وبلاء بأيديهم!..
فالقسيسون والرهبان.. رأس سليم، معافى من الأمراض الخبيثة.. يقوم على جسد المسيحية، ويعمل على حمايته من الآفات، التي يرمى بها اليهود فى كيانه..
والربانيون والأحبار.. رأس فاسد، تدور فيه عواصف الشر والبغي..
يقوم على جسد اليهود، فيغذى بذور الشر والبغي الكامنة فيه! وشتان بين رأس ورأس، وجسد وجسد! وقوله تعالى: «وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» إشارة أخرى إلى ما بين رؤساء المسيحيين ورؤساء اليهود، وبين المسيحيين وبين اليهود، من تفاوت بعيد! فهؤلاء- أي النصارى- لا يستكبرون، ولا يعزلون أنفسهم عن المجتمع الإنسانى، ولا يرون ما يراه اليهود فى أنفسهم من أنهم شعب الله المختار..
ولهذا اختلط المسيحيون بالعالم كله، ودعوا الناس جميعا إلى ما معهم من دين الله..
7
أما اليهود، فقد عزلهم الكبر والغرور عن أن يختلطوا بالناس، وأن يدعوهم إلى دين الله الذي معهم..
وقوله تعالى: «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ».. هو شاهد ثالث على الإنسانية المنطلقة التي تنشد الخير، وتطلب الحق، وأنها حين تستمع إلى كلمات الله، تستمع إليها فى غير كبر أو استعلاء، فإذا اهتدت إلى طريق الحق، استقامت عليه، ولزمته.. وإن لم تهتد، توقفت وأمسكت فى رفق ولطف.
ولهذا دخل كثير من أتباع المسيح فى الإسلام عن اعتقاد صحيح، وإيمان وثيق: «تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» أي اجعلنا من الذين شهدوا النبي واستمعوا إليه وآمنوا به.
وليس كذلك شأن اليهود، قد أعماهم التعصب، وأصمّهم الكبر، عن أن يستمعوا لكلمة حق، أو يستجيبوا لدعوة رسول..!
وقوله تعالى: «وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ».. إنه لسان الحال، لكل طالب حق، حين تبدو له أماراته، وتلوح لعينيه دلائله، لا يتردد أبدا فى قبوله، والأخذ به، ليرشد وليكون فى عباد الله الصالحين..
وقوله تعالى: «فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ».. هو الجواب المسعد لهذا التساؤل المتعاطف مع الحق، المستجيب له..
فقد تلقاهم الله- سبحانه- بهذا اللطف الكريم، وملأ أيديهم من هذا
8
الرزق الطيب.. «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ»..
وفى قوله تعالى: «بِما قالُوا» إشارة إلى أن قولهم هذا لم يكن مجرد قول، وإنما هو ترجمة عن إيمان صادق، خفق به القلب، واهتزت له المشاعر، وفاضت به العيون، دمعا خاشعا.. لو ظفرت الأرض بقطرة منه لاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» يطلع على الناس فى الموقف بصورة ذات دلالتين: دلالة يرى منها أولئك الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، ما أعد لهم من نكال وعذاب، جزاء كفرهم وتكذيبهم بآيات الله، ورسل الله، وعداوتهم للمؤمنين بالله وبرسل الله..
والوجه البارز فى هذه الصورة هم اليهود ومن ورائهم كل كافر، وكل مكذب..
والدلالة الأخرى يراها المؤمنون الذين أضافهم الله فى رحابه، وأنزلهم منازل إكرامه، وعافاهم من هذا البلاء، الذي يتقلب فيه الكافرون المكذبون- فيضاعف بهذا نعيم المؤمنين، وتردّد ألسنتهم قول الحق جل وعلا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ»
. (٣٥: فاطر)
(الآيات: ٨٧- ٨٨) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
9
التفسير: هؤلاء المؤمنون الذين يستجيبون لله ولرسوله، ويدخلون فى دين الله، سيجدون دينا سمحا، وشريعة رفيقة رحيمة، تأسو جراح الإنسانية، وتطبّ لأدوائها، وتقوم على أمنها وسلامتها..
فهذه طيبات الحياة مما أحلّ الله، هى مباحة للمؤمنين، ينالون منها ما تبلغه أيديهم، وتشتهيه أنفسهم، غير مضيّق عليهم فى شىء منها.. «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» (٣٢: الأعراف).
والله سبحانه ينهى عباده أن يحرموا شيئا مما أحل الله لهم.. إذ أن ذلك- وإن كان منهم مبالغة فى تأديب النفس بالحرمان- هو اجتراء على الله، وتبديل فى شرعه، وخروج على أحكامه.. وللإنسان أن يقتصد فى الطيّب الحلال، أو أن يؤدب نفسه بالحرمان من بعض الطيبات، ولكن على اعتقاد أن ذلك الذي حرم نفسه منه، هو حلال مباح.. فذلك مما لا بأس به، فهو أشبه شىء بالإمساك عن الطعام والشراب، بالصيام.
وكما نهى الله المؤمنين عن الجوز على أنفسهم بتحريم ما أحل الله لهم من طيبات- نهاهم عن متابعة أهواء النفس، باستباحة ما حرم الله. فذلك عدوان على شريعة الله، ونسخ لأحكامه.
والذي تغلبه نفسه، فتحمله على ارتكاب مأثم من المآثم، وهو على علم من أنّ ما يفعله هو منكر، حرّمه الله على المؤمنين، ورصد لمقترفه العقاب الأليم- هذا الإنسان هو خير من ذلك الذي يتأوّل فى شرع الله، فيحل الحرام، ويفتح له من التأويل بابا يدخله منه إلى ما أحل الله من طيبات.
إن الأول مؤمن عاص، يعلم من أمر نفسه أنه منحرف عن الطريق القويم، خارج على أوامر الله ونواهيه.. وهذا العلم من شأنه أن يزعج مرتكب المنكر، وينخس ضميره، فلا يستمرىء هذا المنكر، ولا يستسيغه على إطلاقه.. وقد
10
يجىء اليوم الذي يرجع فيه إلى الله، وينتهى عما نهى الله عنه..
أما الآخر- وقد تأول للحرام، وأدخله مداخل الحلال- فإنه لن يجد لهذا الحرام مرارة فى نفسه، ولا وخزا فى ضميره.. ومن هنا فلن تكون له إلى الله رجعة عن هذا المنكر، الذي خادع به نفسه، وخدع به عقله، وخالف ربه، وأفسدو وجدانه ومشاعره.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».. والمعتدون هم من يخرجون على شريعة الله، بتحريم ما أحل الله من طيبات، وإباحة ما حرم من خبائث ومنكرات.
وقوله تعالى: «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» هو دعوة إلى الإقبال على الحياة، وترك الزهد فيها، والعزوف عنها..
فما قام الإنسان خليفة لله على هذه الأرض، إلا ليعمرها، ويفتح مغالقها، ويستخرج الطيب الكريم منها، ثم يكون له من هذا الثمر الذي غرسه ما ينعم به، من رزق الله الذي بثّه فى كل مكان فى هذه الدنيا.. فى أرضها وسمائها، وبحرها وجوّها..
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» هو الميزان الذي تنضبط عليه تصرفات المؤمنين، فيما بين أيديهم من رزق، وفيما حصّلوه من ثمرات سعيهم وجدّهم..
فما دام معهم هذا الميزان- وهو تقوى الله- وما دامت تصرفاتهم قائمة على هذا الميزان، فإنه لا جناح عليهم فى أي شىء يعملونه أو يطعمونه.
وفى قوله تعالى: «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» هو تذكير للمؤمنين، بالله الذي آمنوا به، واتقوه، وجعلوا تقواه وخشيته ملاك أمرهم فيما يأخذون أو يدعون من أمور..
11
فالتقوى إذا لم تسكن إلى قلب مؤمن بالله، ذاكر له، كانت عرضة لأن يهتز ميزانها إذا طلعت عليها أهواء النفس، ونزغات الشيطان.. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة فى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (٩٣: المائدة) فقد رفع الله عن المؤمنين الحرج فى كل ما يطعمون، بعد أن شدّهم إليه بالتقوى، ثم ربط التقوى بالإيمان، والعمل الصالح، والإحسان.
الآية (٨٩) [سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن ما قبلها كان بيانا لحدود الله، وأن فى هذه الحدود سعة تسمح للإنسان أن يتحرك فيها كيف شاء، غير مضيّق عليه فى شىء، مادام قائما على تقوى الله.. هنالك يجد المؤمن دينا سمحا، وشريعة ميسّرة، تفتح له أبواب العمل فى كل مجال، وتملأ يديه من كل خير..
وهنا فى هذه الآية باب من أبواب اليسر والسماحة فى دين الله، الذي يؤمن به المؤمنون..
12
فما أكثر ما يجرى ذكر الله على ألسنة المؤمنين، وما أكثر ما يستحضرونه فى كل أمر يعرض لهم، ثم ما أكثر ما يزكّون هذه الأمور بالقسم عليها باسم الله، دون أن يكون ذلك بقصد الحلف لإجازتها، وعقد اليمين بها..
فهناك فرق بين القسم، والحلف.. إذ القسم لتعظيم الشيء وتزكيته، ورفع قدره، وقد أقسم الله سبحانه ببعض مخلوقاته.. من شمس، وقمر، ونجم، وليل، وضحى.
أما الحلف فهو إقرار يشهد به الإنسان على نفسه، أو غيره. وقد جعل الله كفيلا عليه، بالحلف به.. ومن هنا كان لزاما عليه- ديانة- أن يحترم هذه الكفالة، ويقوم على الوفاء بما التزم به، وإلا أثم، بجرأته على الله، والاستخفاف بكفالته له، والله تعالى يقول: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (٩١: النحل).
وكان من رحمة الله بعباده، ورفقه بهم، وإسباغ نعمه عليهم، فى تعاملهم مع اسمه الكريم- ما حملته هذه الآية الكريمة من لطف، ورحمة، وحكمة:
فأولا: قد عفا الله سبحانه عن الأيمان التي لا يقصد بها الحلف، والتي تجرى على الألسنة خارجة عن هذا القصد.. «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» وتسمية هذه الأيمان لغوا، لأنّها لا تحلّ حراما، ولا تحرّم حلالا، ولا تجلب خيرا، ولا تدفع ضرّا..
والأيمان جمع يمين، وقد سمّى اليمين يمينا، لأنه مشتق من اليمن والبركة، إذ كان الذي يقسم به- عادة- اسم كريم عزيز، عند من أقسم به،
13
وهو عند المؤمنين اسم الله جلّ وعلا.. فما أكرم هذا الاسم الكريم، وما أيمنه.
وثانيا: الأيمان التي يراد بها الحلف، وينعقد بها أمر من الأمور، بين الإنسان ونفسه، أو بينه وبين غيره- هذه الأيمان كما قلنا- هى أيمان وثّقت عهدا، وجعلت الله- سبحانه- شاهدا على هذا العهد وكفيلا له.. فإذا حنث الحالف بيمين الله هنا، فإنه يكون قد اقترف ذنبا عظيما فى حق الله سبحانه وتعالى، وفى حقّ الناس، بما استباح من حقوقهم، بنقض العهد معهم.
أما حقّ الله المتعلق بالحانث فى يمينه، فقد جعل فيه للحانث ما يكفّر به ذنبه، ويغسل به حوبته، وهو أن يطعم عشرة مساكين، من أوسط ما يطعم هو وأهله، أي مما يغلب أن يكون طعامهم، فى حياتهم، فى غير أيام السّعة أو الضيق.. فإن لم يكن طعام، فكسوة عشرة مساكين، مقدرة هذه الكسوة بحال الحانث فى يمينه.. فإن لم يكن طعام أو كسوة، فتحرير رقبة، أي عتق رقبة من الرّق.. فإن كان الحانث معسرا، لا يستطيع أن يطعم أو يكسو أو يعتق، فصيام ثلاثة أيام.
وقد اختلف فى تتابع هذه الأيام، وفى إفرادها، فرأى بعضهم الأخذ بما أطلقه القرآن، حيث لم يقيد الصوم بالتتابع، ولا حجة عنده فى قراءة من قرأ «ثلاثة أيام متتابعات».. لأن الإطلاق هنا والتقييد فى قوله تعالى: «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» يقوّى الأخذ بمنطوق الآية، وعدم التعويل على هذه القراءة التي لم تتأكد بالتواتر.. على حين يرى البعض الأخذ بالقراءة «ثلاثة أيام متتابعات» حيث وجدت مثبتة فى مصحف السيدة عائشة رضى الله عنها، فيوجب التتابع فى الصوم.
ويقوّى هذا الرأى عندنا: أن صيام ثلاثة الأيام هذه فى تتابعها، هى التي تعدل إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، مع أن إطعام مسكين واحد،
14
يجزى عن إفطار أي يوم من أيام رمضان لمن لا يقدر على الصوم، كما يقول الله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ» فتتابع أيام الصوم هو الذي يجعل صيام الأيام الثلاثة على هذا الوجه، موازنا لإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.
والتكفير عن الحنث فى اليمين يجزى بأيّ من هذه الكفارات الثلاث:
إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.. فمن كفّر بأى منها أجزأه ذلك، دون نظر إلى ترتيب فيها، حيث كان الحكم بالتخيير بينها بحرف العطف «أو».. ولا يصار إلى الصيام إلا عند فقد القدرة على الوفاء بالإطعام، أو الكسوة، أو تحرير الرقبة.
وقد اختلف فى صفة الرقبة التي تحرّر هنا، وهل يلزم أن تكون مؤمنة، أم أن تحرير أي رقبة أعتقها الحانث يجزىء فى التكفير عن اليمين؟
يرى بعض الفقهاء أن يكون العتق لرقبة مؤمنة، وكونها لم توصف هنا بأنها مؤمنة، ولم يجعل الإيمان شرطا لعتقها- إحالة على ما وصفت به فى قوله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» (٩٢: النساء).
ونرى- كما يرى بعض الفقهاء- الوقوف عند منطوق الآية، والأخذ بالحكم على إطلاقه، دون قيد للرقبة بأنها مؤمنة أو غير مؤمنة.
ففى فكّ الرقبة وعتقها إحياء لنفس ميتة، أيّا كانت تلك النفس، مؤمنة أو كافرة.. وإحياء النفس- أي نفس- شىء عظيم، لا يحتاج إلى وصف آخر يرفعه ويعلى من قدره..
وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» ؟
(٣٢: المائدة).
15
وأما قيد الرقبة بوصف الإيمان فى دية القتل الخطأ، فهو لموافقة النفس المؤمنة التي قتلت خطأ.. «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ..» (٩٢: النساء).. وذلك مما يوجبه القصاص.. النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ.. وقياسا على هذا يكون من دبة المؤمن فى القتل الخطأ إحياء نفس مؤمنة.. أما هنا فهو إحياء لنفس أيّا كانت هذه النفس، ففى إحيائها كفارة لأى ذنب وإن عظم، إنه إحياء للإنسانية كلها.. ومع هذا، فإن المسلم حين ينظر فى أي الرقاب يعتق، فإنه يتجه أول ما يتجه إلى الرقبة المؤمنة، امتثالا لقول الله تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»
ولا شك أن الرقبة المؤمنة أحب إلى مالكها من الرقبة غير المؤمنة.. وقد روى مسلم أن أبا ذر رضى الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا»..
والرقبة المؤمنة أنفس عند المسلم وأكثر ثمنا.
وفى قوله تعالى: «فَكَفَّارَتُهُ» إشارة إلى اليمين بلفظ المفرد، لأن هذه الكفارة هى كفّارة عن اليمين الواحد.. فإذا حنث الإنسان فى أكثر من يمين كان لكل يمين كفارته، على هذا النحو.. وهذا هو السرّ فى إفراد الضمير.. وكان النظم يقضى بأن يجىء هكذا: «فكفارتها» إذ كان الحديث عن الأيمان..
وقوله تعالى: «وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ» إشارة إلى أن هذه الكفارة هى دواء الداء، جلبه الإنسان إلى نفسه، وكان أحرى به أن يتجنب هذا الداء، وأن يظل سليما معافى.. إذ أن الوقاية دائما خير من العلاج.. أما إذا كان
16
الحلف على منكر، فإن الحنث فيه واجب، ولا كفارة فيه، كمن حلف أن يشرب خمرا.. مثلا، فعليه أن يحنث فى يمينه، ولا كفّارة عليه.
أما من حلف على غير منكر، ثم بان له أن الحنث فى اليمين يترتب عليه إلحاق ضرر به أو بغيره، فإن الحنث خير له من البرّ بيمينه، ولكن عليه كفارة الحنث.. كمن حلف على ألا يسافر إلى جهة ما، ثم بدا له أن فى السفر خيرا يعود عليه منه، وكمن حلف ألا يتعامل فى تجارة مع فلان.. ثم ظهر له أن هذا يعود عليه أو عليهما بالخسارة والضرر- فالحنث هنا خير من البرّ باليمين، وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه».
أما حقوق الناس فيما ترتب على الحنث باليمين، فلن تشفع لها هذه الكفارة، ولن تدفع عن الحانث ما نجم عن هذا الحنث من ضرر وقع على الغير بسببه.
فذلك له حسابه عند الله، وله العقاب الراصد له.
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» إشارة إلى ما تحمل آيات الله إلى عباده، من رحمة، ولطف، إذ تقيلهم من عثراتهم، وتقيمهم على طريقه القويم.. وهذا من شأنه أن يستقبله العباد بالحمد والشكر لله رب العالمين.
(الآيات: (٩٠- ٩٢) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
17
التفسير: الخمر: ما خامر العقل، وستره، كما يستر الخمار وجه المرأة..
فكلّ ما ستر العقل، وحجب عنه الرؤية الصحيحة التي يرى بها الأشياء، ويتصور حقائقها- هو خمر، سواء أكان شرابا أو طعاما، وسنعرض لهذا، بعد قليل.
والميسر: هو القمار، والمخاطرة بالمال.
والأنصاب: هى حجارة كانت تنصب حول الأصنام، لتذبح عليها الذبائح، تقربا إليها.
والأزلام: جمع زلم، وهى قداح الميسر، يلعب بها على الذبائح، مقامرة.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هو خطاب عام للمؤمنين، واستدعاء لما فى قلوبهم من إيمان، ليكون هذا الإيمان بمحضر من تلك المنكرات التي يدعون إلى اجتنابها.. إذ لا يجتمع الإيمان وهذه المنكرات فى قلب مؤمن.. حيث أن من شأن الإيمان أن يقيم فى كيان المؤمن وازعا يزع كل منكر، ويدفع كل ضلال.
وقوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» هو عرض لبعض المنكرات التي تغتال إيمان المؤمن، وتقطع الصلة بينه وبين ربّه.. وهى: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام.. وقد وصفها الله سبحانه بصفتين: أنها رجس.. والرجس ما تعافه النفس بفطرتها وتتقذّره بطبيعتها، من غير حاجة إلى من يلفتها إليه، ويحذّرها منه، إذ كان أمره من القذارة والفساد بحيث لا يخفى إلّا على من فسدت طبيعته، وشاهت فطرته..
والصفة الأخرى لهذه المنكرات: أنها من عمل الشيطان.. وإضافة
18
هذه المنكرات إلى الشيطان يجعلها منكرا إلى منكر.. فالرجس فى ذاته، على أي وجه ظهر، ومن أي أفق طلع، هو شر وبلاء على من يقبل عليه ويتعامل معه، فإذا كان هذا الرجس هو من عمل الشيطان، ومن صنعة يده، ومن الطعام الممدود على مائدته، لم يكن فيه مظنّة لخير أبدا.. إذ يكفى الخير شناعة وسوءا أن يجىء من قبل الشيطان، وعلى يده.. فكيف إذا كان ما يحمله الشيطان ويدعو إليه هو «الرجس» ؟
أرأيت إلى طعام طيب هنىء تحمله إلى آكليه يد إنسان رعى الجذام وجهه وقضم يديه؟.. أفتجد نفس لهذا الطعام مساغا، أو يمدّ إليه إنسان يدا ولو هلك جوعا؟ فكيف إذا كان ما يحمله هذا الإنسان المجذوم طعاما فاسدا متعفنا تعافه الكلاب؟ ذلك أقرب شىء شبها إلى الرجس الذي يكون من عمل الشيطان وصنعته.
فالرجس- وتلك صفته من السوء- فى غير حاجه إلى أمر بحظر يضرب عليه، ويحال بين الناس وبينه.
والرجس الذي هو من عمل الشيطان، أمره أظهر وأبين من أن ينبّه على اجتنابه، إشارة أو عبارة.. ومع هذا فإن بعض الناس تضيع إنسانيتهم، وتنطمس معالم فطرتهم، وتفسد طبيعتهم، فلا تزكم أنوفهم رائحة كريهة، ولا تلفظ أفواههم طعاما خبيثا.
ولهذا كان من فضل الله على الناس ورحمته بهم، أن بعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين، ليصلحوا ما فسد منهم، ويصححوا عمل أجهزتهم التي عطبت أو فسدت.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى هنا «فَاجْتَنِبُوهُ» تعقيبا على ما كشف من أمر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ووصفها بأنها رجس، وأنها من
19
عمل الشيطان.. فهذا الأمر باجتناب هذه المنكرات، هو فى الواقع توكيد لما تحمل فى أوصافها من أكثر من نهى ضمنىّ باجتنابها. وذلك زيادة عناية بالإنسان، وحراسة مضاعفة له من الموبقات والمهلكات.. وضمير الغائب فى «فاجتنبوه» يعود إلى الرجس الذي جمع هذه المنكرات كلها فى كيانه.
أما الأنصاب- وإن كان الإسلام قد حطم الأصنام التي كانت مشرفة عليها-، فإن الإبقاء على عادة الذبح على هذه النّصب، مما يثير غبار الشرك، ويحرّك ريح الوثنية الكريهة.. فضلا عن أن هذه الذبائح التي تذبح على النصب كانت مجالا للمقامرة، إذ تقسّم لحومها بين المقامرين عليها، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر.
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ترغيب فى الاستجابة لهذا الأمر، الذي فى الامتثال له مدخل إلى الفلاح والسلامة، وإنه لا فلاح ولا سلامة مع صحبة هذه المنكرات، والولاء لها.
وقوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» هو بيان لما يبغيه الشيطان من وراء هذه المنكرات التي عرضها للناس، فى معارض مغوياته، ومفسداته.. إنه يريد؟؟؟ أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس فى مواطن الخمر والميسر، حيث يفقد الإنسان عقله بالخمر، فلا يدارى قولة سوء، ولا يمسك كلمة شر، وحيث يستنزف الميسر أموال الناس، ويريهم أن بعضهم أكل بعضا، وهم- فى الواقع- مأكولون جميعا، فيقع بينهم الشر، وتشتعل نار العداوة والبغضاء.. وبهذا تتمزق وحدة المجتمع، ويصبح الإنسان فى مجتمعه إما طالبا أو مطلوبا، لا يبيت على أمن، ولا يستقرّ على حال..
ثم إن هذه المنكرات من خمر وميسر وأنصاب وأزلام، مع ما تزرع
20
بين الناس من أشواك العداوة والبغضاء.. تصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، حيث تلهى أصحابها، وتمسك بهم فى مجالها، فلا يخطر ببال أحدهم ذكر الله، وقد استولى عليه هذا الرجس، ولا يجيب داعى الله إلى الصلاة، إن هو وجد أذنا تستمع إلى هذا الداعي.
وقوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» يحمل تحريضا قويا على الانخلاع عن هذه المنكرات، ومجاهدة النفس فى اجتنابها، ومغالبة الأهواء الداعية إليها..
فهذه المنكرات لها سلطانها المتسلط على النفوس، بما فيها من مغويات تدعو الإنسان إلى التحلل من سلطان العقل، وما يدعو إليه من وقار، وجدّ، لتحمله على أجنحة الخلاعة والعبث والمجون.. ومن وراء ذلك شيطان يستحثّ أهواء النفس، ويثير غرائزها الحيوانية الخسيسة.. فإذا لم يأخذ الإنسان حذره ويتجرد لحرب هذه المغويات المتسلطة عليه، ويلقاها بإيمان وثيق وعزم ثابت، غلبته على أمره، وأخذته من مقوده، وأقامته على هذا المرعى الوبيل، ليطعم منه، ويعيش عليه..
ففى قوله تعالى «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» استفهام مطلوب الجواب عليه، ولن يعطى الجواب الذي ينبغى أن يجيب به المؤمن إلّا من نظر إلى نفسه، وإلى موقفه من ربه الذي يدعوه إليه، فإن استجاب لله، وانتهى عن هذه المنكرات واجتنبها، كان له أن يلقى الله بوجهه، وأن يدخل فى عباده المؤمنين، وإلا اختطفه الشيطان، وألقى به بين ضحاياه وصرعاه! قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا» هو دعوة مجدّدة إلى المؤمنين، إلى طاعة الله ورسوله، والحذر من هذا الرجس، الذي بين يدى الشيطان.. يدعوهم إليه، ويغريهم به..
21
وليس للمؤمنين بعد هذا البلاغ بلاغ، فإن تولّوا، ولم يستجيبوا لأمر الله، فلهم ما اختاروا، وليس لأحد سلطان عليهم إلا وازع ضمائرهم.. «فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ».. وقد بلّغ الرسول هذا البلاغ المبين، الذي تلقاه من ربّه، «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (١٠٨: يونس).
الخمر.. مادتها، وصفتها، وحكم شاربها
ونودّ أن نشير هنا إلى أمرين.
أولهما: الخمر.. ماهى؟
وثانيهما: الخمر.. ومكانها بين المحرمات..
أما الخمر، فأمرها معروف، ولم تكن بنا حاجة إلى الكشف عن وجهها، لولا أن كثر كلام الفقهاء فيها، وفى المادة التي تصنع منها، والطريقة التي تصنع بها، حتى تكون خمرا..
أما المادة التي تصنع منها الخمر، فقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا بينا، فوقف بها بعضهم عند التمر والعنب، مستدلّين على هذا بما يروى عن النبي ﷺ أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين» وأشار إلى النخلة والعنبة..
بل لقد ذهب بعضهم إلى أن الخمر ما كان من العنب وحده، مستدلا على ذلك بقوله تعالى: «إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً» ومؤولا الحديث: «الخمر من هاتين الشجرتين» على أن المراد به شجرة العنب.. كما فى قوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» والمراد أحد البحرين.
وواضح أن هذا التأويل فاسد، لا يلتفت إليه، ولا يوقف عنده.
22
أما الوقوف بالخمر عند ما أخذ من العنب والنخل، فهو محمول على قوله تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» (٦٧: النحل).. ولكن الحديث، وإن أشار إلى أن الخمر من النخل والعنب، فإنه لم يحصره فيهما، وكذلك الآية الكريمة.. وإن دل ذلك على أن أكثر ما كان معروفا متداولا عند العرب من خمر، هو ما كان من هاتين الشجرتين.
إذ كانت النخيل والأعناب أكثر أشجار الفواكه، وأهمّها عند العرب، ولذلك كان وصف الجنات الدنيوية والأخروية، أبرز ألوانه النخيل والأعناب كقوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ» (٣٢: الكهف)..
وقوله سبحانه: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ» (٢٤٤: البقرة).. وقوله: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً» (٩٠- ٩١: الإسراء).
وإشارة النبي ﷺ إلى النخل والعنب، تعنى أنه لم يكن من بين الأشجار القائمة بين يديه، والماثلة أمام عينيه، ما يتخذ منه الخمر غير هاتين الشجرتين.. يومئذ..
ولهذا، فإنه ﷺ فى موقف آخر، لم يكن بين يديه أشجار، قال: «إن من العنب خمرا، وإنّ من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن البرّ خمرا، وإنّ من الشعير خمرا».. وحصر النبي ﷺ الخمر فيما صنع من هذه الأشياء، هو تقرير للواقع، ولو كان هناك مواد أخرى متخذ منها العرب الخمر لذكرها.
23
قال الخطابىّ فى تعليقه على هذا الحديث: «ليس معناه أن الخمر لا يكون إلا من هذه الأشياء الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصا، لكونها معهودة فى ذلك الزمان، فكل ما كان فى معناها.. من ذرة، وسلت «١»، ولبّ ثمرة، وعصارة شجرة، فحكمه حكمها».
وفى صحيح مسلم عن أنس قال: «لقد أنزل الله الآية التي حرّم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب يشرب إلّا من تمر».
وفى صحيح البخاري عن أنس قال: «حرمت علينا الخمر حين حرّمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» وعلى هذا، فمادّة الخمر لا معتبر لها فى تحريمه، وإنما المعتبر فى أية مادة هنا هو لبوسها لباس الخمر. أي أنها تسكر من يتعاطاها، وينال منها.. فكل ما أسكر فهو خمر، لأنه يخامر العقل، ويستره.
وفى الحديث: «إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، وإنى أنهاكم عن كل مسكر» (مختصر سنن أبى داود:
للمنذرى حديث ٣٣٢)..
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو يخطب: «نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهى من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير.. والخمر، ما خامر العقل..».
وقد اختلف الفقهاء فى صنعة الخمر كما اختلفوا فى مادتها، فقال بعضهم:
الخمر ما خمّر، دون أن تمسّه النار، وأن ما طبخ بالنار فليس خمرا.. كذلك اختلفوا فى «النبيذ» وهو ما ينقع، فقال بعضهم: إذا تخمر وغلا ورمى بالزبد فهو خمر، قليله وكثيره حرام، وإذ لم يتخمر ويرمى بالزّبد، فإذا أسكر فهو مكروه، وإذا لم يسكر فلا شىء فيه.
(١) السلت: الشعير.
24
ومن هذه المقولات قول أبى حنيفة فى النبيذ: «الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء: الخمر، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، ونقيع التمر فإنه السّكر، ونقيع الزبيب».. ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: «ولا خلاف عن أبى حنيفة فى أن نقيع «الدوشاب «١» » عنده حلال وإن أسكر، وكذلك نقيع الرّبّ، وإن أسكر».
وقال أبو يوسف- صاحب أبى حنيفة-: كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على الترك فهو مكروه، ولا أجيز بيعه، ووقته عشرة أيام، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام فهو مكروه، فإن كان فى عشرة أيام فأقل، فلا بأس.»
وقال محمد بن الحسن- صاحب أبى حنيفة-: ما أسكر كثيره مما عدا الخمر أكرهه ولا أحرمه.
«فإن صلّى إنسان وفى ثوبه منه أكثر من قدر الدرهم البغلىّ بطلت صلاته وأعادها أبدا» ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: فاعجبوا لهذه السخافات، لئن كانت تعاد منه الصلاة أبدا، فهو نجس، فكيف يبيح شرب النجس، ولئن كان حلالا فلم تعاد الصلاة من الحلال؟ ونعوذ بالله من الخذلان!! ثم يعلق ابن حزم على هذه الآراء جميعها- رأى أبى حنيفة وصاحبيه، فيقول: «فأول فساد هذه الأقوال أنها كلها أقوال ليس فى القرآن شىء يوافقها ولا شىء من السنن، ولا فى شىء من الروايات الضعيفة، ولا عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من خلق الله، قبل أبى حنيفة، ولا أحد قبل أبى يوسف فى تحديده عشرة أيام..
«فيالعظم مصيبة هؤلاء القوم فى أنفسهم، إذ يشرّعون الشرائع، فى الإيجاب
(١) الدوشاب: نقيع من الشعير، والرب: خثارة كل ثمرة بعد اعتصارها.
25
والتحريم والتحليل، من ذوات أنفسهم، ثم بأسخف قول وأبعده عن المعقول» «١».
وقد تتبع ابن حزم جميع الأدلة والأسانيد التي استند إليها أبو حنيفة وصاحباه فى رأيهم فى النبيذ، وفندها، فرد ضعيف أخبارها، أو تأولها على وجهها الذي يدعم وجهة نظره، فى دفع هذه المقولات، ودحضها.
وفى هذا الجدل بين أصحاب تلك الآراء المختلفة، متعة ذهنية، ورياضة عقلية، لا شك فيها، ولكنها متعة تذهل الإنسان كثيرا عن الحقيقة التي بين يديه، وتفتح لذوى القلوب المريضة طريقا إلى الجمع بين المتناقضات من الآراء، فيأخذ من كل رأى ما يرضيه ويوافق هواه، فإذا دينه رقع مختلفة الألوان.. رقعة من هنا، ورقعة من هناك، وكلها- حسب رأيه- من الدّين ومن مقولات الأئمة الأعلام فى الشريعة!! وفى هذه القضية بالذات، أخذ قوم بهذا المذهب الذي يجمع بين متناقضات الآراء، ويتتبع ما يرضى هواه منها، دون نظر إلى حلال أو حرام.. وفى هذا يقول الشاعر متهكما بهذا التضارب فى شأن الخمر، التي ليس فيها إلا قولا واحدا، هو أنها الخمر، وأنها الحرام، قليلها وكثيرها سواء..
يقول الشاعر متهكما.
أحلّ العراقىّ النبيذ وشربه... وقال الحرامان: المدامة والسّكر «٢»
«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ » ثم يأتى من بعدهم فى العداوة للمؤمنين، الذين أشركوا..
وقال الشآمى النبيذ محرّم فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
ويعنى الشاعر بهذا أن أبا حنيفة ومن تابعه (وهو عراقىّ) قد قال فى
(١) المحلى: لابن حزم- الجزء السابع. ص ٥٦٢ وما بعدها.
(٢) المدامة هى الخمر، أي ما خمر من العنب وحده. على ما ذهب إليه بعض أصحاب أبى حنيفة، والسكر: نقيع التمر.
26
فى النبيذ قولا يخرجه به من الخمر، ويرفع عنه الحرمة المضروبة على الخمر، وأن أقصى ما يكون على شاربه أنه أتى فعلا مكروها إذا شرب حتى سكر.
أما الحرامان عند أبى حنيفة ومن تابعه فهما المدامة (أي الخمر المصنوعة من العنب) والسّكر، وهى الخمر المصنوعة من التمر، فما خمّر من تمر وعنب فهو الخمر، وهو الحرام قليله وكثيره، أسكر أو لم يسكر، أما ما خمّر من غير العنب والتمر، فهو نبيذ- وقد عرفنا رأيه فيه.
وأما الشآمى الذي يشير إليه الشاعر، فهو مالك وأصحابه، ومالك يحرّم النبيذ من أي شىء كان، إذا أسكر كثيره فقليله حرام، وهى الخمر التي حرمها الله..
والشاعر يرى بين يديه رأيين مختلفين فى النبيذ.. وكل رأى هو قول لإمام من أئمة الشريعة.. ولا على الشاعر أن يأخذ برأى أبى حنيفة فى النبيذ!! وهذه كلها مما حكات، تفسد على المرء رأيه، وتشرّد مجتمع عزيمته، وتقيمه من هذا المنكر بين الشك واليقين.. إذ ينظر فيرى وجوها من الخلاف فى أمر لا خلاف فى أنه منكر، وقد جاء القرآن الكريم صريحا قاطعا بتحريمه:
«إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه» وجاءت السنة المطهرة تحكم هذا الحكم المحكم، فيقول النبي الكريم:
«كل مخمّر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست «١» صلاته أربعين صباحا.. فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل وما طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار»
(١) ومعنى بخست صلاته: أي كانت ناقصة، ولم يؤت أجرها كاملا.
27
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
فكيف يزاغ عن هذا الحكم القاطع فى الخمر وحرمتها، أيّا كان الوجه الذي تظهر به، وأيّا كان لونها وطعمها؟
إن كل ما أسكر فهو خمر، قليله وكثيره حرام.. هذا هو حكم الله، والحلال بيّن والحرام بيّن.. والمرء مؤتمن على دينه، فما عرف أنه مؤثّر على عقله من شراب أو طعام، كان حراما عليه أن يذوق قطرة منه، أو يطعم أقل القليل منه.
هذا هو فيصل الأمر فى الخمر.. وإذن فلا قول بعد هذا، ولا بحث فى مادتها، ولونها.
فالعلة فى تحريم الخمر هى الإسكار والتأثير على العقل، تأثيرا يغيّر طبيعته، ويفقده توازنه، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما.. وليست علة تحريم الخمر قلتها وكثرتها، وإنما علتها أنها الخمر، وأنها الحرام، وليس فى الحرام قليل وكثير.. فما حرم كثيره فقليله حرام، سدّا للذرائع.. حيث لا حجاز بين القليل والكثير، فقد يسكر بعض الناس من قطرات من الخمر بينما لا يسكر بعضهم إلا بما يملأ بطنه منها!! وأما مكان الخمر بين المحرمات، فأشهر من أن يدلّ عليه، فهى كبيرة الكبائر، وأم المحرمات.
ولكن الذي دعانا إلى بحث هذا الأمر ما نسمعه يجرى اليوم على أفواه بعض المثقفين من الشبان، الذين لقّنوا تأويلات فاسدة، دخلت عليهم مدخل الدين، من مقولات الملحدين، الذين يكيدون للإسلام، ويثيرون فى وجهه
28
العواصف، التي انتزعت أديانا كثيرة من مواطنها، فى الغرب والشرق! وهيهات أن تنال العواصف والزوابع من دين هو أرسخ من الجبال الراسيات! يقول بعض المتأولين: إن تحريم القرآن للخمر لم يكن تحريما قاطعا ملزما، وإنما هو تحريم أشبه بالكراهية، الأمر الذي يجعلها لا تدخل فى باب الكبائر من المحرّمات! وحجة القائلين بهذا القول، هى أن الله سبحانه وتعالى لم يقرنها بالمحرمات التي ورد فى القرآن الكريم النصّ على تحريمها بصريح اللفظ: «حرّم» أو «حرمت» مثل قوله تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» (٩٦: المائدة) وقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» (٣: المائدة) وقوله سبحانه:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ».. الآية (٢٣: النساء).
هكذا يجى النصّ القرآنى بلفظ التحريم صريحا، فيما أراد الله تحريمه، من منكرات.. تحريما قاطعا جازما!! أما فى الخمر، فقد جاء النصّ فى معرض الحكم عليها بقوله تعالى:
«رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ. ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».. ولو كان من تدبير الشريعة تحريم الخمر تحريما قاطعا لجاء النصّ صريحا بلفظ التحريم هكذا:
«حرمت عليكم الخمر» ! هكذا يهوّن هؤلاء المتألون من شناعة الخمر، ويستخفّون بجريمتها، ويجدون فى الإقدام على شربها ما يرفع عنهم كثيرا من آثامها.. فما شربها
29
عندهم- وأمرها على هذا الوصف- إلا من قبيل الصغائر من الذنوب، أو إلّا من اللّمم المعفوّ عنه من الآثام! وكذبوا على الشريعة، وافتروا على كلمات الله! وقد بينا من قبل أن الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة- بيّنا أن هذه الأوصاف تضع الخمر على رأس المنكرات كلها، وتقيمها فوق كل كبيرة..
فالميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها مما حرم الله من طعام، وجاء تحريمها نصا بلفظ التحريم «حرمت» - لم توصف إلا بأنها فسق ولم تلحق بها تلك الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وبأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة!..
ونقول لهؤلاء المتأولين لكلمات الله على هذا الوجه الجريء الفاسد: ألا تقوم تلك الصفات التي وصفت بها الخمر شهادة على أنها أشنع المحرمات، وأغلظ المنكرات؟ ثم ألا يكون أمر الله باجتنابها، ولو لم توصف بما وصفت به، حكما ملزما لكل مؤمن بالله أن يجتنبها اجتنابه للعدوّ المتربص به، الراصد لاغتياله والقضاء عليه؟
إن حكم الله على شىء، بأمر المؤمنين باجتنابه، هو حكم عليه بأكثر من الحكم بتحريمه.. إذ الأمر باجتناب الشيء يجعله تحت حكم مؤبد بحرمته، بحيث لا يحل أبدا بوجه من الوجوه، أو فى حال من الأحوال، وذلك بخلاف الأمور التي حكم الله بتحريمها ابتداء بصريح لفظ التحريم، حيث تجدّ ظروف وأحوال تغيّر من صفتها، وتنقلها من الحرمة إلى الحلّ أو الإباحة..
فالمطاعم التي حرمّها الله، من الميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها قد أبيح
30
للمضطر أن ينال منها ما يحفظ عليه حياته، ولا إثم عليها فيما طعم منها..
وصيد البرّ، الذي حرّم على المحرم، يصبح مباحا بعد أن يتحلل المحرم من إحرامه.. والمرأة المحصنة- أي المتزوجة- محرمّة على غير زوجها، فإذا طلقت منه، وانتهت عدتها كانت حلّا لأى رجل مسلم، من غير محارمها، إذا هو تزوجها.
أما ما أمر الله باجتنابه من منكرات، فلم يرفع عنه هذا الحظر بحال أبدا..
ففى قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (٣٠: الحج) أمر ملزم لكل مؤمن باجتناب هذين المنكرين ما دام على الإيمان:
عبادة الأوثان، وقول الزور.
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» (٢٦: النحل) هو ملاك دعوة الرسل.. الإيمان بالله، وترك عبادة الأوثان.. فلا يكون فى المؤمنين أبدا من لم يجتنب عبادة الأوثان.. إنه مشرك بالله بلا ريب.
وكانت دعوة إبراهيم إلى ربه قوله: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» (٣٥: إبراهيم).
فتجنب الشيء واجتنابه هو الابتعاد عنه، اتقاء للخطر المتوقع منه، إذا داناه الإنسان، فكيف إذا اختلط به، وسكن إليه؟
فالأمر باجتناب الخمر، وما أمرنا باجتنابه من منكرات، هو أمر ملزم مؤبد لافكاك منه أبدا، إلا فى حال الاضطرار الذي يشمل الخمر وغيرها من المحرمات.
وهذا هو وجه من وجوه إعجاز القرآن، فى إلباس المعنى المراد، اللفظ المناسب له، والذي لا يصلح له غيره من ألفاظ اللغة العربية كلها.
31
والدّين- كما قلنا- هو أمانة بين العبد وربّه، والحلال بيّن والحرام بيّن، وخير للمرء أن يلقى الله عاصيا من أن يلقاه منافقا، يمكر به وبآياته، فذلك منكر إلى منكر وبلاء إلى بلاء، إذ هو إلى جانب ارتكاب المنكر، استخفاف بالله، وإنكار لعلمه به، وقدرته عليه..
الآية (٩٣) [سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
التفسير: الجناح: هو اللّوم، والمؤاخذة، على أمر فيه حرج وضيق.
وفى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» بيان لسعة فضل الله على المؤمنين، وأنّه وقد أحل لهم الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث، فإنهم فى سعة من أمرهم فيما يطعمون، حيث لا تطلب أنفسهم إلا الطيب، على حين تعاف الخبيث وتنفر منه.. فهم- والأمر كذلك- لا يجدون حظرا على أي طعام يشتهونه، ولا يستشعرون حرجا إزاء أي طعام حرّم عليهم.. إذ كان فى الطيب ما يصرفهم عن الخبيث الذي لا تشتهيه إلّا نفس خبيثة..
وقوله تعالى: «إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» هو قيد وارد على رفع الحرج عن المؤمنين فيما يطعمون، وفى استغنائهم عن الحرام بالحلال، وعن الخبيث بالطيب..
فالمؤمن إذا ما اتقى الله وعمل الصالحات.. صلحت نفسه، وطابت طبيعته
32
فلا يجد فيما حرّم الله عليه من خبائث، تضييقا عليه، ولا حرجا على أي طعام يشتهيه، إذ كان إيمانه وتقواه، وملازمته لتقوى الله وطاعته- إذ كان كل ذلك قد عزل نفسه، وغضّ بصره عن النظر إلى هذه المحرّمات، وحسابها فيما يطعمه الناس.
ولا شك أن هذه منزلة لا يبلغها الإنسان إلا بعد أن يروض نفسه على التقوى، ويذلّلها بالعبادات والأعمال الصالحة، التي تقيمها على الصبر، والتعفّف والقناعة.. إذ كانت شهوات النفس غالبة، وأهواؤها متسلطة، والخبائث محمولة إليها على يد شيطان يزين الخبيث ويغرى به.. «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»..
فالمؤمنون الذين تخلو أنفسهم من التلفّت إلى تلك المحرمات، ولا يجدون لها فى صدورهم وسواسا يوسوس بها، أو داعيا يدعوهم إليها- هؤلاء المؤمنون هم قلّة فى المؤمنين.. هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم إزدادوا إيمانا بالتقوى والأعمال الصالحة، ثم لزموا طريق التقوى والإيمان، ثم انتهوا إلى التقوى والإحسان- فهؤلاء هم الذين يبلغون تلك المنزلة التي تطمئن فيها قلوبهم إلى الطيبات، وتنقطع فيها وساوس الشيطان لهم بالمحرمات، حيث ييأس من أن يلتفتوا إليه، أو ينزع بهم منزع إلى شىء مما فى يديه، من خبيث كل مطعوم ومشروب.
فالآية الكريمة تكشف عن حقيقة الإيمان وأثره فى إقامة النفس على طريق تلتقى فيه لقاء مصافحا لما أحلّ الله من طيبات، حيث تجد فى ذلك
33
راحتها، وسعادتها، ولا تستشعر ضيقا عليها، ولا حرجا فى إقامتها على حدود هذا الحلال الطيب المباح لها..
وهذا هو السرّ فى التكرار الذي جاء عليه النظم القرآنى فى تلك الآية الكريمة، والذي اضطرب فيه المفسّرون اضطرابا مزعجا، وذهبوا فى تأويله مذاهب تدور لها الرءوس..
فقد وصف المؤمنون وصفا مكررا بالإيمان والتقوى، والعمل الصالح، والإحسان..
«الذين آمنوا وعملوا الصالحات..
... اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات..
... ثم اتقوا وآمنوا...
... ثم اتقوا وأحسنوا... »

والسبب فى هذا الذي وقع فيه المفسرون من اضطراب هنا، هو أنهم نظروا جميعا إلى «الحرج» على أنه رفع الإثم والمؤاخذة على ما يناله المؤمنون بالله من أطعمة، بعد أن يتّصفوا بتلك الصفات.
ولو أنهم نظروا- كما نظرنا بتوفيق الله- إلى «الحرج» على أنه ما يقع فى صدور المؤمنين من ضيق، إذا هم واجهوا المحرمات من المطعومات والمشروبات، حين يدعوهم إيمانهم وامتثالهم لأمر الله إلى التعفف عنها، والإمساك بأنفسهم عن الإلمام بها- لو أنهم نظروا تلك النظرة- لرأوا أن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة فى موقفهم إزاء هذه المحرمات، وأنهم على منازل مختلفة منها..
فبعضهم ينتهى عنها، وفى صدره حرج وضيق، وفى كيانه مكابدة ومجاهدة..
34
وبعضهم ينتهى عنها وفى نفسه ميل إليها، ورغبة فيها، ولكنّ خوف الله يغلّ يده، وخشية الله تكسر حدة مشاعره..
وبعضهم تراوده نفسه عليها، وتؤامره على الإلمام بها، ثم التوبة عنها..
وهكذا تتغاير منازل المؤمنين، وتتعدد مواقفهم، إزاء هذه المنكرات، بعدا وقربا، وصبرا، وجزعا، واطمئنانا وقلقا، واجتنابا ومقارفة.
أما المنزلة التي يكون فيها المؤمن، وقد انعزلت مشاعره، وسكنت بلابله، فلم يكن لهذه المنكرات من المطاعم والمشارب نخسة فى نفسه، أو همسة فى صدره- فلن يبلغها المؤمن إلا بعد مجاهدة ومصابرة، وبعد طريق شاق طويل يقطعه مع الإيمان والتقوى والعمل الصالح، متنقلا من حال إلى حال، مرتفعا من منزلة إلى منزلة، حتى يكون المؤمن الرّبانى الذي يكون على الوصف الذي ورد فى الحديث القدسي: «ما يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه».
ففى هذا الإنسان الرباني تموت كل نوازع الهوى، وتسكن كل دواعى الشهوة إلى محرم أو مكروه.
وفى الفاصلة التي ختمت بها الآية الكريمة: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» فى هذه الفاصلة ما يكشف عن هذه المنزلة التي تهتف الآية الكريمة بالمؤمنين أن يسعوا إليها، وأن يعملوا على بلوغها..
وتلك هى منزلة الإحسان، تلك المنزلة التي ذكرها الرسول الكريم فى قوله، وقد جاءه جبريل عليه السلام، وهو مع أصحابه فى صورة رجل يسأله عن الإيمان والإحسان.. فقال جبريل يا رسول الله: «ما الإسلام؟ قال ألّا تشرك بالله
35
شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان..
قال: صدقت.. ثم قال يا رسول الله: «ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله» قال صدقت.. قال يا رسول الله.. ما الإحسان قال: «أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك....» الحديث كما رواه مسلم.
فالإحسان هو أعلى درجات الإيمان: «أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه براك».
وتلك منزلة لا ينالها إلا المصطفين من عباد الله. ولهذا ضمهم الله إليه، وجعلهم من أصفائه وأحبابه فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ».
الآية (٩٤) [سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
التفسير: مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنها تعرض للمؤمنين امتحانا يمتحن به إيمانهم، وتختبر به تقواهم، فيما هو من طعامهم، الذي بيّنت لهم حدود ما بين الحلال والحرام منه.. وأنه ليس على هذه الحدود وازع يزع المؤمنين عن الوقوف عندها إلا ما فى قلوبهم من إيمان وتقوى وإحسان.
والمؤمنون المخاطبون هنا هم الذين فى حال إحرامهم بالحج أو العمرة.
والصيد المبتلون به، والممتحنون فيه، هو صيد البر، لا صيد البحر.
36
وقد يراد بالمؤمنين من هم فى البيت الحرام.. ويكون المراد بالصيد ما احتمى بالبيت الحرام من طير، وحوّم فى سمائه.
وقوله تعالى: «تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» أي تطوله وتبلغه أيديكم ورماحكم، أي هو صيد واقع تحت قدرتكم على صيده من غير معاناة، أو بحث عنه، إذ هو قريب دان، يغرى بصيده.
ومعنى الآية: أن الله- سبحانه وتعالى- سيضع المؤمنين موضع امتحان وابتلاء، فى هذا الصيد الذي يدنو منهم، ويعرض لهم، ويقع فى متناول أيديهم، ورماحهم، وهو لائذ بالحرم، ساكن إليه أو هو فى غير هذا الحمى، وهم محرمون بالحج أو العمرة.
وقد حرّم الله على المؤمنين صيد هذا الحيوان المتعرّض لهم، الواقع لأيديهم مباشرة، أو على قيد رمح منهم- وهو لائذ بالحرم، أو هو خارج الحرم وهم محرمون، فمن صاد شيئا من هذا الحيوان، وهو فى حاله تلك، أو هم فى حالهم هذه، فقد أثم، وخان الله على ما أتمنه عليه من أحكام شرعه.
وقوله تعالى: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ» إشارة إلى أن هذا الامتحان هو امتحان لما فى القلوب من إيمان وتقوى وإحسان.. حيث لا وازع يزع الإنسان هنا إلا إيمانه وتقواه.. فلا سلطان يحول بين المؤمن وبين هذا الصيد الذي بين يديه.. فمن غفل فى كيانه وازع إيمانه وتقواه كان له أن ينال من هذا الصيد ما يشاء، وعليه أن يلقى العقاب وأصوله.
ومعنى علم الله هنا، هو العلم المسلط على الواقع بعد أن يقع، أما علمه سبحانه، فهو علم شامل محيط بكل ما كان وما سيكون، وما وقع أو سيقع..
37
وفى هذا العلم المتسلط على الواقع يؤخذ الإنسان متلبسا بعمله، من خير أو شر، ومن هنا تصح محاسبته، ويكون ثوابه أو عقابه.
وقوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ».. الإشارة هنا فى «ذلك» واقعة على ما نصبه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين من معالم الهدى، وما رسم لهم من حدود.. فمن اعتدى منهم بعد هذا البيان المبين فلا عذر له، وعليه جزاء المتعدى، وهو العذاب الأليم.
الآيات (٩٥- ٩٦) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
التفسير: ما زالت الآيات، تتحدث إلى المؤمنين، ويناديهم الحق سبحانه وتعالى بهذه الصفة، صفة الإيمان، فيما يشرّع لهم من حدود ما يطعمون من طيبات، وما يتجنبون من خبائث.
وواضح من هذا، عناية الشريعة الإسلامية بهذا الأمر، والتفاتها إليه، والتقاؤها بالمسلمين على كل طريق يكون لهم فيه داع يدعوهم إلى مطعوم أو مشروب.
38
ذلك أن أكثر ما يبتلى به المؤمنون فى دينهم ما كان مورده من جهة طعامهم.. إذ الطعام قوام الحياة، وإليه ينصرف أكثر جهد الإنسان وعمله، فإذا لم يتحرّ الحلال فيما يأكل، لم يتحرّ الحق فيما يعمل ويكسب.. ولهذا أعطى الله سبحانه وتعالى صفة الأكل لكل مال يقع ليد الإنسان من حرام، فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (١٠: النساء) وقال سبحانه: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» (٢٧٥: البقرة) وقال: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (١٨٨: البقرة).
من أجل هذا كانت عناية الشريعة تلك العناية البالغة ببيان الحلال والحرام، من طعام الإنسان وشرابه، ليقيم وجهه على ما أحلّ الله له من طيبات. وليعرض عما حرّم عليه من خبائث..
وفى هاتين الآيتين يبيّن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين حكم الصيد، وما لهم منه، وما عليهم فيه، وهم محرمون.
فيقول سبحانه وتعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» والخطاب للمؤمنين، لأنهم أهل لأن يستمعوا لهذا النداء الكريم، وأن يستجيبوا له، وهم متحلّون بهذه الصفة، صفة الإيمان، وإلا فقد آذنوا أنفسهم بأن يتخلّوا عنها، وأن يكونوا من غير جماعة المؤمنين.
والمراد بالصيد المنهي عن صيده هنا، هو صيد البرّ، ويكشف عن هذا المراد قوله تعالى «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ» لأن صيد البحر لا يقتل، وإنما الذي يقتل هو صيد البر، كما يكشف عنه قوله تعالى بعد ذلك: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
39
وَطَعامُهُ... »
فهو استثناء وارد على تحريم الصيد، وبهذا يعرف المراد من الصيد المنهي عن صيده، وهو صيد البر.
والنهى عن صيد حيوان البر مقيد بحال الإحرام فقط، أما بعد أن يتحلل المسلم من إحرامه فالصيد مباح له.
وقوله تعالى: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» وهو بيان للكفارة الواجبة، والدية المطلوبة من كل من قتل صيدا متعمدا وهو محرم..
وهذه الدية لا تفى بالمطلوب إلا إذا كانت مثل الحيوان المقتول، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» أي فجزاء القاتل أن يغرم حيوانا مثل هذا الحيوان الذي قتله، إن لم يكن مثله عينا كان مثله قيمة وثمنا.
وقوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» هو بيان للعملية التي يتم بها تقويم الحيوان الذي قتل، وتحديد قيمته.. وذلك يكون بالرجوع إلى رجلين عدلين لهما نظر وخبرة، يحتكم إليهما فى تقدير قيمة هذا الحيوان..
وقوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» هو حال من الضمير فى «به» الذي يعود إلى قوله تعالى: «فَجَزاءٌ».. أي أن ما يحكم به الحكمان يساق هديا إلى إلى البيت الحرام «بالغ الكعبة» أي مساقا إلى الكعبة.
وقوله تعالى: «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» هو تخيير فيما يجبر به هذا الذنب، ويقع كفارة له.. فالكفارة إما أن تكون هدايا يساق إلى الكعبة أي البيت الحرام، مقدّرا قيمته بقيمة الحيوان الذي قتل، وإما أن يكون بإطعام مساكين بقدر هذه القيمة، وإما بصيام يعدل ما كان يمكن أن يطعم من مساكين، من قيمة هذا الصيد المقتول.
وهل يكون حساب الصوم باعتبار اليوم الواحد مقابلا لإطعام مسكين
40
واحد، كما فى قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ»، أو أن يكون الحساب قائما على أن يكون صوم كل ثلاثة أيام مقابلا لإطعام عشرة مساكين، كما قوله تعالى: «إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» ؟ وهل يكون الصوم هنا متتابعا متصلا، أو مفرّقا غير متصل؟
والذي عليه أكثر المفسرين والفقهاء أن يكون الصوم يوما واحدا، فى مقابل كل مسكين يمكن أن يطعم من قيمة الحيوان المقتول.
كما أنّ الذي عليه الرأى فى إفراد الصيام أو تتابعه، أن يكون باختيار الصائم، إن شاء أفرد أو إن شاء تابع ووصل.
كذلك اتفق رأى المفسرين والفقهاء على أن قتل الصيد خطأ من المحرم، يلحق بقتله عمدا منه، حيث ثبت عندهم أن السّنة ألحقت قتل الخطأ بالقتل العمد فى هذا المقام.
وأمر آخر.. لم اختلف النظم فى قوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» ؟ ولم لم يكن العطف عطف نسق بين قوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» وبين ما بعده.. «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» ؟ أو بمعنى آخر.. لم كان العطف على القطع، ولم يكن على النسق. مع أن الأمر على التخيير فيها جميعا بحيث يجزىء أىّ منها.. الهدى، أو الإطعام، أو الصيام؟
والجواب على هذا:
أولا: أن تقويم قيمة الصّيد المقتول يكون منظورا فيه إلى حيوان آخر مثله، قيمة وقدرا، وأن ذلك الحيوان هو الأصل فى الموازنة بينه وبين
41
الحيوان المقتول، فكان من الحكمة استحضاره فى تلك الحال، وجعله حالا قائمة فى نظر الحكمين اللذين يرجع إليهما فى الحكم فى هذا الأمر.. وذلك من شأنه أن يجعل الحيوان المقتول، والحيوان المنظور إلى إحلاله محله فى مجال نظر الحكمين، مما يجعل حكمهما أقرب إلى الصحة والسلامة.
وثانيا: تأسيسا على هذا يصبح الحيوان الذي يساق هديا إلى الكعبة أصلا يقاس عليه، عند العدول إلى غيره، مما يساوى قيمته، من إطعام مساكين، أو صيام أيام تعادل ما يطعم من مساكين. ويكون تقدير النظم القرآنى على هذا الوجه «يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو ما يقوم مقامه من إطعام مساكين، أو ما يعدل إطعامهم من صيام. ومن هنا كان القطع لازما، بعد تقرير الحكم، وتقدير الحيوان الذي يحلّ محلّ الصيد المقتول.
وفى قوله تعالى: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ»
الفاعل هنا هو المحرم الذي قتل الصيد، والوبال: هو السوء والضرّ، ومنه قولهم طعام وبيل، وماء وبيل، إذا كانا فاسدين لم تسفهما النفس، ومن ذلك قوله تعالى فى فرعون: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» (١٦: المزمل).
وفى قوله تعالى: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ» تشنيع على الاعتداء على حرمات الله، وعلى العدوان على من لاذبحماه، ولو كان حيوانا أحل الله ذبحه وأكله، فمن فعل ذلك فقد عرّض نفسه لبلاء شديد يلقاه من عذاب الله.
وتظهر بشاعة هذا الفعل، وشناعته من وجوه:
فأولا: هذه الكفارة التي تقدّم بها قاتل الصيد فى الحرم، أو وهو محرم- هذه الكفارة عن تقديم هدى مثله إلى الكعبة أو إطعام مساكين أو صيام-
42
لم تكن لتغسل هذا الدّم الذي أريق، فمازال عالقا بمن أراقه بعض الإثم، ولهذا جاء التعبير القرآنى- فى أعقاب تقديم هذه القربات- بهذا اللفظ المؤذن بأن تلك القربات كانت ضربا من العقاب والنكال لمن قدمها: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ..».
وثانيا: أن الشريعة هنا لم تعف القتل الخطأ من إلحاقه بالعمد، وأخذ القاتل خطأ بما أخذ به القاتل عمدا..
وفى ذلك ما يشعر بأن القاتل عمدا هنا أشبه بمن قتل نفسا مؤمنة عمدا، وأنه إذا كان قد أخذ بما أخذ به القاتل خطأ، فذلك من فضل الله ورحمته بعباده..
فالشريعة الإسلامية قد رفعت الإثم عمّا وقع من المسلم خطأ من المنكرات.
ولكنها فى باب الدماء، قد جعلت للخطأ وضعا خاصا، فلم تعف الذي قتل نفسا خطأ من الأخذ بشىء من العقاب، صيانة لدم الإنسان، وتكريما له أن أن يذهب هدرا من غير حساب..
«وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» (٩١: النساء) وقد ألحق الحيوان اللائذ بحمى الله، بالإنسان.. وفى ذلك ما يوقع فى نفس المسلم كثيرا من التأثم والتحرج لأيّة قطرة دم تراق بغير حقّ، ولو كانت دم حيوان! ثالثا: فى التعبير عن صيد الحيوان «بالقتل» فى قوله تعالى: «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» -- فى هذا ما يشعر بأن عملية الصيد فى هذا الموطن، وفى تلك الحال هى عملية «قتل».. تلك الكلمة التي تثير فى النفس مشاعر القتل الذي يقع على
43
الإنسان، والذي يكاد يكون لفظا خاصا به.
وإذا ذكرنا أن الأمة العربية- فى جاهليتها- كانت مستخفة بالدماء، مستبيحة لحرماتها، مستهينة بإزهاق الأرواح وإراقة الدماء- إذا عرفنا ذلك- لم نستغرب، ولم ندهش لهذا التدبير الحكيم فى أخذ النّاس بتلك الأحكام فى قتل الحيوان، فى حال ما، وهو الذي أبيح ذبحه وأكله، فى غير هذه الحال، فما كان لمجتمع ألف الولوغ فى دم الإنسان، أن تنتزع منه هذه المشاعر المتحجرة إلا بمثل هذا الأدب السماوي الحكيم.
ثم إن هذا الأدب، لن يبطل حكمه، ولن تفتقد حكمته فى أي مجتمع، وفى أي زمان أو مكان.. فالناس هم الناس، فى عدوان بعضهم على بعض، وفى إراقة بعضهم دم بعض.. وحسب هذه الحروب المشبوبة اليوم، فى كل آفاق الأرض، وما يراق فيها من دماء، وما يزهق فيها من أرواح- شاهدا على أن الناس هم اليوم أشد حاجة إلى هذا الأدب السماوي من حاجة العرب الجاهليين إليه.
وقوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» هو رفع للحرج، وغسل الإثم الذي وقع لبعض المسلمين من قتل الصيد عمدا أو خطأ، قبل أن ينزل هذا الحكم، ويصبح أمرا ملزما، بعد أن بلّغه الرسول، وعرفه المسلمون..
قوله تعالى: «وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» هو وعيد لمن تجاوز الله سبحانه وتعالى له، عما كان منه من هذا الأمر، قبل أن يأتى حكم الله فيه، ثم وقع منه هذا المحظور بعد النهى عنه.. فهو حينئذ معرّض لنقمة الله، واقع تحت عقابه.. «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» لا يفلت من سلطانه أحد «ذُو انْتِقامٍ» يأخذ بمن اعتدى على حرماته، بنقمته، وعذابه.
44
قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ» هو بيان من الله سبحانه وتعالى، يفرّق به بين حكم صيد البرّ وصيد البحر.. فإذا كان صيد البر قد أقيم عليه هذا الحظر فى حال الإحرام، فإن صيد البحر حلّ مباح، لا حرج على المحرم أن ينال منه ما يشاء، فيصطاده، ويبيعه، ويأكل منه.. «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ» أي والأكل منه.. «مَتاعاً لَكُمْ» أي زادا لكم تتزودن به، وتطعمون منه.. «وَلِلسَّيَّارَةِ» أي وللسائرين الذين ليسوا فى حال إحرام.. أي أن صيد حيوان البحر يستوى فيه المحرم وغير المحرم، حيث لم يكن للإحرام أثر فى هذا النوع مما يصاد من حيوان.
وقوله تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» هو توكيد لحرمة صيد البر فى حال الإحرام، واحتراس من أن يكون رفع الحظر عن صيد البحر مؤذنا يرفع الحظر عن صيد البر، الذي تقرر حكمه من قبل، وفى هذا مزيد عناية بتقرير هذا الحكم الواقع على صيد البر وحراسة له من أن يقع فيه لبس، أو شك، ولو على سبيل الاحتمال البعيد.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» هو حراسة مشدّدة على الحدّ الذي أقامه الله سبحانه وتعالى على حرمة صيد البرّ فى حال الإحرام أو فى الحرم.. وتلك الحراسة هى الخوف من الله، والتحذير من عقابه للخارجين على حدوده، والمعتدين على حرماته..
الآيات (١٠٠- ٩٧) [سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٧ الى ١٠٠]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
45
التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أنها تحدّث عن مواطن حرمات الله، التي بينت الآيات السابقة بعضا منها.
وقوله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ».
القيام: التقويم، والإصلاح.
أي أن الله سبحانه وتعالى جعل الكعبة، والبيت الحرام، المقام عليها- جعلها موطن إصلاح وهداية ورشاد للناس، حيث جعلها حرما آمنا، يفيض الأمن منها على كل كائن، من إنسان أو حيوان أو نبات.. بل لقد شمل هذا البلد كله الذي أقيم حول الكعبة، واحتمى بحماها، فكان هذا البلد أيضا حمى لكل من لاذبه، واحتمى فيه، وسكن إليه، استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً».
وقوله: «وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» أي والشهر الحرام كذلك جعله الله ظرف أمن وسلام، وإصلاح لأمر الناس، حيث لا قتال فيه، والمراد بالشهر الحرام، الأشهر الحرم.. ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم ورجب، والتعبير عنها، بالشهر الحرام باعتبارها كيانا واحدا فى حرمة القتال فيها، وإن تفرقت أزمانا، واختلفت أسماء.. فهى بمنزلة شهر واحد.. وفى هذا ما يقيم شعور المسلم على حال واحدة فيها، وألا ينعزل عن هذا الشعور بانتقاله من شهر إلى شهر.. بل إن من الخير له أن يصل بعيدها بقريبها.. فشهر رجب وإن سبق الأشهر الثلاثة بشهرين،
46
وتأخر عنها بستة أشهر، جدير به أن يوصل بها من طرفيه، وبهذا يكون العام كله شهر حرام، لا قتال فيه، وإن كانت الأشهر الحرم قد أفردت بهذا الحكم، فهو حكم واجب فيها، مستحبّ فى غيرها..
قوله تعالى: «وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» معطوف على الشهر الحرام، الذي هو معطوف على الكعبة.. أي أن الحيوان المساق إلى البيت الحرام هديا له، والقلائد التي يقلّدها ويعلّم بها، هى من حرمات الله، التي ينبغى ألا يتعرض لها أحد بأذى أو عدوان، وفى هذا تأديب للناس، وتهذيب لهم، وإصلاح لأمرهم.. حيث يعفّ الإنسان عن الاعتداء على حرمات الناس، إذا هو امتثل أمر الله وكفّ يده عن العدوان على حرماته.. فى رعاية كل حرمة من هذه الحرمات هداية للناس، وتقويم لانحراف المنحرفين منهم، وتدريب لهم على الامتثال والطاعة، ورعاية الحرمات فيما بينهم. وبهذا تكون كل تلك الحرمات:
«الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد» - قياما للناس وتسديدا لسلوكهم فى الحياة.
قوله تعالى: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».. الإشارة هنا إلى هذه الحرمات، التي جعلها الله قياما للناس، وإصلاحا لهم.. وقوله تعالى «لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» تعليل للحكمة التي تختفى وراء هذه الحرمات التي بيّن الله سبحانه وتعالى معالمها، وحدد حدودها، وأنها منصوبة للمؤمنين لتكون امتحانا لإيمانهم، وابتلاء لما فى قلوبهم من توقير لله، واحترام لحرماته، وذلك لا يكون إلا لمن آمن بالله، واستيقن من أنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شىء.. فمن لم يؤمن بالله هذا الإيمان
47
لم يقم فى كيانه شعور بمراقبة الله، أو التوقي من العدوان على حرماته، والتعدي على حدوده..
فهذه الحرمات التي نصبها الله لأعين المؤمنين هى تدريب لهم على التعرف على الله، حيث ينتهى بهم الوقوف إزاءها، وتحريم حرماتها إلى العلم بالله، وأنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه بكل شىء عليم..
وإذن فليس ثمرة هذه الحرمات فيما يجنى منها من إشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس، بل إنها- مع هذا- تفتح فى قلب المؤمن طريقا إلى الله، يشهد منه سعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى ما تكن الضمائر، وما تخفى الصدور.
وقوله: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو تعقيب على هذا الحظر الذي أقامه الله تعالى على حرماته، وحذّر الناس من العدوان عليها.. فهناك عقاب شديد راصد لمن اعتدى على حرمات الله.. وهناك غفران ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله من قريب، واستغفر لذنبه، وندم على ما فرط منه.
وقدّم عقاب الله هنا على مغفرته، لأن ذلك فى مواجهة حدود أقامها الله، وحذّر من مجاوزتها والاعتداء عليها، فناسب ذلك أن يجىء العقاب أولا لمن اعتدى على هذه الحدود، ثم تجىء الرحمة والمغفرة لمن أثم وأذنب ثم تاب واستغفر..
وقوله تعالى: «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» هو تنبيه للناس إلى أنه لا سلطان لأحد عليهم فيما يأتون من طاعات، أو يرتكبون من آثام، إلا أنفسهم، وما فى قلوبهم من إيمان، وما فى كيانهم من عزائم.. إذ ليس مع أوامر الله ونواهيه قوى مادية تقهر الناس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وإنما كل ما هنالك، هو دستور سماوى، وقانون إلهى، يحمله رسول من
48
الله إلى عباد الله، ويبيّن لهم ما حمل إليهم من ربّه.. ثم يتركهم لأنفسهم.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ومن شاء فليستقم، ومن شاء فلينحرف:
«ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» وليس من رسالته أن يقهر الناس على الخير الذي يحمله إليهم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (٩٩: يونس).
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» هو بيان لما بعد البلاغ الذي هو من عمل الرسول.. فهناك بعد أن يبلغ الرسول ما أنزل إليه من ربّه، يتولى الله سبحانه وتعالى مراقبة الناس فيما بلغهم إياه رسوله، واطلاعه سبحانه على ما يكون منهم من طاعة أو عصيان.. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ»..
لا تخفى عليه منكم خافية، «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (٣١: النجم) «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (٤٠: الرعد).
وقوله تعالى: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» هو إلفات للناس إلى ما بين الطيب والخبيث، من بعد بعيد. واختلاف شديد، فى الآثار التي تتبع كل منهما، وفى الثمار التي يجنيها الزارعون لهما.. من خير أو شر، ومن طيّب أو خبيث.
فالطيب وإن بدا قليلا فى كمّه، هو كثير فى كيفه.. إنه نبتة من نبّات الحق، يزكو مع الزمن، ويعلو مع الأيام. إنه أشبه بالكلمة الطيبة، والشجرة الطيبة، لا تغرب شمسه، ولا تنقطع موارد الخير منه.. «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (٥٤- ٢٥: إبراهيم).
والخبيث وإن زها وازدهر، وانداح وامتدّ، هو كثير فى كونه، ضئيل
49
فى قدره.. لا ظلّ له ولا ثمر فيه.. «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» (٢٦: إبراهيم).
هكذا الطيب والخبيث، فى كل شىء، ومن كل شىء.. فى الناس، وفى الحيوان، والنبات والجماد، وفى المعاني والمحسوسات.. وفى القول وفى العمل..
الطيب حياة دائمة متجددة لا تموت أبدا.. والخبيث موات لا يمسك ماء ولا يطلع نبتا..
فالذين يستخفّون بالطيّب، لضمور شخصه، أو خفوت صوته، أو احتجاب ضوئه- إنما هم مخدوعون فى أبصارهم، مصابون فى بصائرهم، لا يرون من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يعلمون من الأمور إلا قشورها، أما الصميم فهم فى عمّى عنه، وأما اللّباب فهم على جهل به.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (٧: الروم).
وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هو دعوة إلى أصحاب العقول أن يستعملوا عقولهم، وأن يفيدوا منها فى التعرف على الحق والخير، والتعامل مع الطيب والحسن، ففى ذلك يكون الفلاح، ونجاح المسعى.
ودعوة ذوى الألباب إلى التقوى، هى الدعوة المرجوّ لها القبول والنجاح، حيث لا تحصّل التقوى إلا بالعمل الطيب، وحيث لا يتهدّى إلى الطيب، ولا يعمل له، ويتعامل معه، إلا أصحاب العقول السليمة، الذين احترموا عقولهم، وأخذوا بما تكشف لهم بصائرهم من معالم الحق والخير..
50
الآيات (١٠٢- ١٠١) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن التعرف على الحلال والحرام، والتهدّى إلى تمييز الطيب من الخبيث، يكون عن نظر وتقدير، كما يكون عن مدارسة، ومساءلة لأهل العلم والذكر، كما يقول الله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (٧: الأنبياء).
وقد أشارت الآية السابقة إلى التفرقة بين الخبيث والطيب، وأن الخبيث خسيس لا قيمة له، ولو لبس ثوبا من البريق الزائف الذي يخدع الحمقى والسفهاء..
وكان من هذا أن أكثر المسلمون من التنقيب والبحث، وتقليب الأمور على وجوهها، ليتعرفوا على ما ينكشف منها من طيب أو خبيث، ومن خير أو شر، ومن حق أو باطل.. وقد أغراهم بهذا أن الرسول الكريم قائم فيهم، مقام الشمس فى وضاءتها وامتداد سلطانها على الآفاق، فكانوا يلقونه- صلوات الله وسلامه عليه- بكل عارض يعرض لهم، وبكل شبهة تقع لأبصارهم، فيلقاهم الرسول الكريم بما يجلو الشّبه، ويكشف معالم الطريق إلى الحق والخير..
وقد تجاوز بعض المسلمين هذه الحدود فيما يعنيهم من أمر دينهم أو دنياهم، فجعلوا يسألون عن أمور لم تقع، قد افترضوا وقوعها، واستعجلوا الحكم الشرعي فيها.. وهذا من شأنه أن يجعل الرسول بين أمرين إما أن يجيبهم إلى ما سألوا، وإما أن يدعهم يسألون ولا يجيب.
والأمر الثاني: إن أخذ به الرسول، ووقف عنده، أقام السائلين على قلق،
51
وحيرة، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتشعب بهم الآراء فى كل وجه..
فكان لا بد- والحال كذلك- أن يلقى الرسول كلّ سائل بالجواب عما سأل، قبولا أو ردّا، وموافقة أو مخالفة...
وإذا علمنا أن القرآن الكريم كان ينزل منجّما، وأن التشريع الإسلامى جاء متدرجا، شيئا فشيئا، وحالا بعد حال، حسب تقدير العزيز العليم، وحكمة الحكيم الخبير، حتى تتأصل أصول الشريعة، وترسخ أحكامها، وتنزل من النفوس منزلة الاطمئنان والقرار..
فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وهى أركان الإسلام، بعد الإيمان بالله- هذه العبادات لم تفرض على المسلمين مرة واحدة.. بل فرض بعضها فى مكة، قبل الهجرة، كالصلاة التي فرضت بعد الإسراء، ثم فرضت الزكاة، والصوم- فى السنة الثانية بعد الهجرة، ثم الحج، الذي كان آخر ما فرض من العبادات!.
- إذا علمنا هذا، كان لنا أن نسأل:
ماذا يكون الأمر لو سأل سائل من المسلمين النبىّ ﷺ وهو فى مكة لم يهاجر بعد- عن الزكاة، أو عن الصوم مثلا؟
أكان الجواب بأن الزكاة فرض على المسلمين، أو أن الصوم المفروض عليهم هو صوم رمضان؟
كان لا بد إذن أن ينزل قرآن فى هذا، وأن يعجّل بأمر لم يرد الله تعجيله، لحكمة أرادها، ولتقدير قدره.
إذن، فإن من الخير للمسلمين أن يسكتوا عما سكتت السريعة عنه، إلى
52
أن تقول كلمتها فيه، أو تدعه فلا تقول شيئا عنه.. وفى هذا وذاك خير للمسلمين، ورحمة بهم، وإحسان إليهم.
ولهذا جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» والأشياء المنهىّ عن السؤال عنها ليست الأشياء جميعها على إطلاقها، وإنما هى الأشياء التي يترتب على إقرار الشريعة لها، وأخذ المسلمين بها إضافة تكاليف وأعباء، كتحريم أمر كان غير محرم، وحظر طعام كان مباحا.. ونحو هذا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» أي إن انكشف لكم حكم الشريعة فيها ساءكم، وشق عليكم، وأعنتكم..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ذرونى ما تركتكم.. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه».
واستمع إلى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ... » (٢٥ محمد)..
فقد سأل المسلمون النبىّ أن تنزل عليهم كلمة الله فى القتال، وحكمة فيه، فلما نزلت سورة محكمة، أي جلية واضحة، لا تحتمل تأويلا، وجاء أمر القتال فيها واجبا ملزما- ساء ذلك كثيرا من النفوس، وثقل عليها احتماله، أما الذين احتملوه فاحتملوه على جهد ومشقة..
واستمع بعد ذلك إلى قوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
53
الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ»
(٧٧: النساء) فالذى كان مطلوبا أولا من المسلمين أن يكفّوا أيديهم عن الإثم والعدوان وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.. وكان ذلك أول الإسلام، وعلى الخطوات الأولى من مسيرة المسلمين فيه.. ثم كان بعد ذلك أن فرض الله عليهم القتال، فرضه عليهم بعد أن قطع بهم على طريق الإسلام تلك المرحلة التي دربوا فيها على الطاعات، وتوثقت فيها صلتهم بالله فماذا كان بعد أن كتب عليهم القتال؟ لقد تمنى كثير منهم ألا يكون هذا الحكم فريضة واجبة عليهم.. لقد ضاقت به نفوس، ووجفت منه قلوب..
فكيف كان الحال لو أن الأمر بالقتال جاءهم ابتداء، فكان فرضا لازما من أول يوم الإسلام؟
كان من الخير إذن للمسلمين ألا يسألوا عن مثل هذه الأشياء، وألا يفتحوا على أنفسهم أبوابا من الأعباء، سدّها الله دونهم، وعافاهم مما يجيئهم منها من تكاليف وواجبات.. لا عن نسيان منه، سبحانه، وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، ولكن كان ذلك رحمة وفضلا وإحسانا..
يقول الرسول الكريم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تصيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها».. وفى الحديث، أنه لما نزلت آية الحج، نادى النبي صلّى الله عليه وسلم فى الناس فقال: «أيها الناس.. إن الله قد كتب عليكم الحج فحجّوا» فقالوا يا رسول الله: أعاما واحدا أم كل عام؟
54
فقال: «لا، بل عاما واحدا، ولو قلت كلّ عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم!» أي لم تستطيعوا الوفاء بما فرض عليكم، وفى هذا مخالفة لحكم من أحكام الله، وتضييع لفريضة من فرائضه، وذلك هو كفر بالله.
وقوله تعالى: «وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ».
المراد بقوله تعالى: «حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ» أي حين تجىء آيات الله فى الوقت المقدور لنزولها، بما تنزل به من أحكام، حتى يتم نزول القرآن الكريم كله.. فإن بقي فى نفوسهم شىء بعدها سألوا عنه.. وفى هذا إشارة إلى أن أحكام الشريعة كانت تتنزل بقدر مقدور لها، وبتوقيت محدد لنزولها..
فإذا جاء القرآن بحكم من الأحكام، كان السؤال مطلوبا من المسلمين عما خفى عليهم من هذا الحكم الذي جاء به، على أن يكون ذلك موقوفا به عند حدود الحكم، وفى بيان محتواه..
أما مجاوزة هذه الحدود فهى مما نهى عنه. وهى من التنطع والتكلف الذي لا يجرّ وراءه إلا الحسرة والندم، كهذا السؤال الذي سئله الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وهو يدعو الناس إلى أداء فريضة الحج.. فقد كان أمر الرسول واضحا محددا، وكذلك ما نزل به القرآن فى أمر الحج «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» فالسؤال بعد هذا عن الحج، وهل هو كل عام، أو مرة واحدة- فيه تكلف لا مبرر له، ولا حاجة إليه.
وقوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْها» الضمير هنا يعود إلى تلك الأشياء التي كانت مباحة للمسلمين فى أول الإسلام، ثم جاء الإسلام، فى زمن متراخ فحرمها عليهم.. كالخمر، والربا، والزواج من زوجات الأبناء من الأصلاب وكثير غير هذا، مما حرمته الشريعة، من أمور كان يأتيها الجاهليون وجرى عليها المسلمون فى أول الإسلام..
55
فهذه الأشياء قد عفا الله عنها، فلا يؤاخذهم عليها، وإن كانوا قد فعلوها وهم مسلمون، إذ لم يكن قد جاء حكم الشريعة فيها..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» إشارة إلى أنّ فى مغفرته ما يسع هذه المنكرات التي أتاها المسلمون، وهم مسلمون، ووجدوا فى أنفسهم حرجا منها، وضيقا بها، وإن كانوا لم يتلقوا حكم- الله فيها..
فهذه مغفرة الله تدفع عنهم هذا الحرج، وتذهب بما فى صدورهم من ضيق..
وهذا حلم الله يأخذهم بالأناة واللطف، فيما يشرّع لهم من أحكام.. إنه- سبحانه- يقبلهم مسلمين بما كانوا عليه، وبما فعلوه مما لم ينههم عنه من قبل..
فليرفقوا بأنفسهم، ولا يعجلوا بالسؤال عن حلّ هذا الشيء أو حرمته، حتى يأتيهم أمر الله فيه..
وقوله تعالى: «قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ».
الضمير فى «سألها» يعود إلى تلك الأشياء التي لم تقل الشريعة قولا فيها، بحلّ أو حرمة.
والقوم هنا، هم بنو إسرائيل..
والمعنى أن بنى إسرائيل سألوا رسلهم عن كثير من أمور لم يأتهم الرسل بحكم الله فيها، فلما جاءهم الحكم فيما سألوا عنه، كفروا به، ولم يمتثلوا حكم الله فيه.
وما كان أغناهم عن أن يسكتوا.. ولكن القوم بما ركّب فيهم من لجاج وعناد وخلاف، لا يدعون لرسول من رسل الله فيهم، سبيلا، إلا أخذوه عليه، يسألون ويلحفون فى السؤال، فى كل صغير وكبير، وقريب وبعيد! ثم ما كان أولاهم إذا لم يسكتوا أن يتقبلوا جواب ما سألوه عنه، وأن ينزلوا على مقرراته، ويقفوا عند حدوده.. ولكنهم لم يسألوا ليهتدوا من ضلال، وليبصروا من عمى، ولكن كانت أسئلتهم مماراة، ومماحكة، وإعناتا!
56
الآيات (١٠٤- ١٠٣) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
التفسير: البحيرة: الناقة التي بحرت أذنها أي شقت ليكون ذلك معلما لها وكان الجاهليون يفعلون ذلك بالناقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا.. فيشقّون أذنها، ويحرمون ركوبها، وأكل لحمها، والتعرض لها إذا وردت ماء أو كلأ.
والسائبة: وهى الناقة التي تسيّب، وتترك، وفاء لنذر ينذره صاحبها، إذا برأ من علة، أو نجا من مهلكة: أو سلم من قتال.. مثلا.
والوصيلة: وهى من الغنم، وذلك أن الشاة كانت إذا ولدت ولدا ذكرا جعلوه لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى جعلوها لهم، وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم..!
والحامى: هو الذكر من الإبل، إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا كلأ..
وهذه الآية كأنها جواب لسؤال كان من الأسئلة التي تتوارد على خواطر المسلمين، حين نهوا عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، وأن يدعوا السؤال عن تلك الأشياء التي تدور فى خواطرهم، أو تتحرك على شفاههم، حتى
57
ينزل القرآن، أي حتى يتمّ نزوله، فإن بقي فى أنفسهم شىء لم يبينه القرآن لهم، كان لهم أن يسألوا.
فقوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ» هو بيان لحكم شرعىّ، جاء فى مرحلة متأخرة من حياة الدعوة الإسلامية، وقد عاش المسلمون زمنا وهم متلبسون بهذه الأشياء، لم ينكروها على من أخذ بها منهم، إذ لم يكن قد جاء حكم شرعىّ فيها بعد..
فهذه السوائم، قد عقد العرب فى جاهليتهم معها روابط وصلات، أشبه بالعهود والمواثيق.. قد ألزموا أنفسهم حيالها أمورا اتخذت صبغة عقائدية، لا يمكن أن يتحلّلوا منها..
فإذا ولدت الناقة كذا، أو الشاة كذا، أو علق من الفحل كذا وكذا من النّوق.. أو نحو هذا- كان أمرا لازما أن يمضى الرجل منهم ما جرت به تلك العادة التي اعتادوها، فإن لم يمضها توقّع أن يحلّ به البلاء، وتنزل به المكاره، فى نفسه، أو ولده وأهله، أو ماله.. كأنّ قوى خفيّة وراء هذه السوائم، تقتصّ لها، وتأخذ بحقها ممن نقض ميثاقه معها.. وهذا مدخل كبير من مداخل الشرك بالله، وذريعة من الذرائع المؤدية إليه.
وقوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ.. الآية» نفى لهذه المعتقدات السيئة القائمة بين الناس، وأنها لم تكن مما شرع الله، ولكنها ممّا ولدته الأهواء المضلّة، وأملته العقول المظلمة.. وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بيان لموقع هذه المنكرات من الحق، وأنها أبعد ما تكون منه، إذ هى من مفتريات الكافرين وأباطيلهم، يضيفونها كذبا إلى الله، وينسبونها زورا إلى دينه.. «وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».
58
وقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» هو كشف لحقيقة هؤلاء الكافرين، وما فى أيديهم من مفتريات وأباطيل.. فإن أكثر هؤلاء الضالين لا يعقلون، لأنهم لو عقلوا لما حملوا فى نفوسهم هذا التوقير لتلك الأباطيل، ولرأوا أنهم قد أذلّوا أنفسهم، واسترخصوا عقولهم، فأعطوا ولاءهم لتلك الحيوانات، وجعلوا لها سلطانا عليهم، لا ينازعونها فيه، ولا يخرجون عن حدوده معها.
وقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا».. هو تسفيه لأحلام هؤلاء الضالين.. فقد أطبق عليهم الجهل، واشتمل عليهم السّفه والضلال. فليس مصيبة الإنسان فى أن يضلّ عن جهل، أو يتعثّر من عشى أو عمى، ولكن المصيبة كلها فى أن ينبّه من ضلاله ثم لا ينتبه، ويقاد من يده فيأبى أن يتبع قائده.. إن ذلك هو الضلال المبين، والتّيه الذي لا عودة منه، ولا أمل فى نجاة وراءه.
فهؤلاء الضالون إذا دعاهم داعى الحق إلى أن يردّوا من شرودهم، وإلى أن يعودوا إلى كتاب الله، وما تحمل آياته البينات من هدى ونور، وإلى رسول الله، وما يحمل بين يديه وعلى شفتيه من أقباس الحق وأضوائه- إذا دعوا إلى هذا الهدى، لوّوا رءوسهم، ولووا وجوههم، وقالوا «حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا» أي أن هذا الذي نحن فيه هو الخير لنا، والسلامة لأنفسنا ولأهلينا.. إننا نحيا حياة آبائنا، ونسعى سعيهم، ونقفو آثارهم.. إننا- والحال كذلك- نسير على طريق معلوم، مأنوس بخطو آبائنا وأجدادنا، فكيف ندعى إلى السّير فى طريق لم يسلكه أحد قبلنا؟ وكيف نغامر هذه المغامرة بالدخول فى تلك التجربة الجديدة، التي لا ندرى ما وراءها؟.
وقد ردّ القرآن الكريم على هذا السفه، وهذا الجمود الغبيّ، بما يفحم ويخرس. «أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون؟».. أفهذا منطق
59
يأخذون به أنفسهم؟ وتلك حجة يقيمونها بين يدى ضلالهم وغيّهم؟ إنه لو أخذت الحياة بهذا المنطق، وقبلت هذه الحجة، لكان على الناس أن يمسكوا بالزمن أن يتحرك، وبالأشياء أن تظل على حال واحدة، لا تتحول عنها أبدا.
ولكن أنّى للناس أن يفعلوا هذا؟ وأنّى للحياة أن تستجيب لهم لو أرادوا؟
إن الحياة وأشياءها فى تحول وتطور.. وفى كل لحظة تلبس الحياة ثوبا جديدا، وتبلى قديما.. وهكذا تبلى وتجدّد: وتخلع وتلبس..
وماذا يبقى للإنسان من عقله، بل ماذا يبقى له من وجوده، إذا لم يكن له حرية التحرك فى الحياة، والنظر فى كل جديد يطلع عليه منها، ثم الأخذ بما يقضى به العقل المتحرر من قيود التقاليد، ممّا يراه حقا وخيرا؟ وإنه لبالغ من ذلك ما فيه خيره وسعادته، إذ لا يغيب عن نظر العاقل وجه الخير، ولا تخفى عليه سمته.. فالحلال بين والحرام بيّن.. «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ» (١٩- ٢٢: فاطر) «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» (١٢: فاطر).
الآية (١٠٥) [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
التفسير: وإذا كان الحلال بيّنا والحرام بيّنا، وإذ قد دعى الضالون، إلى الهدى، فلم يسمعوا، ونودوا من قريب إلى الرشاد فلم يرشدوا. «وقالوا حسبنا
60
ما وجدنا عليه آباءنا» - إذ كان ذلك فلا يشغل المؤمنون أنفسهم بهم، ولا يقفوا طويلا معهم على هذا المرعى الوبيل، الذي يرعون فيه، فلربما غفل المؤمنون عن أنفسهم وهم على هذا الموقف، وفاتهم ما كان ينبغى أن يحصلوه لأنفسهم من خير..
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» دعوة للمؤمنين أن يلتفتوا إلى أنفسهم أولا، وأن يعملوا على تحصينها من مسارب الضلال، وتزويدها بالمزيد من البر والتقوى.. فإنهم إن أنقذوا أنفسهم أولا كان ذلك كسبا لهم، وللحياة الإنسانية.. وذلك ما ينبغى أن يكون موضع نظرهم، ومحل اهتمامهم أولا، فإن بقي عندهم بعد هذا فضل من قوة لاستنقاذ من إذا مدوا إليه أيديهم استجاب لهم، فعلوا، وإلا كان عليهم أن ينجوا بأنفسهم، وألّا يكونوا كمن يمد يده إلى غريق يأبى إلا أن يموت غرقا، فيهلك ويهلك من أعطاه يده.
وهذا، لا يمنع المؤمن أن يكون رسول خير وهدى إلى الناس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، فهذا من دعوة الإسلام له، ومن حق العباد عليه.
ولكن لن يكون ذلك بالذي يذهله عن نفسه، ويشغله عن مطلوبها منه، فى تحصيل ما يقدر عليه من البر والتقوى.
فالآية لا تعنى أبدا أن يعتزل المسلم الناس، وأن يعيش لنفسه وفى داخل نفسه، ومن فهمها على هذا الوجه فقد أخطأ الفهم، وجانب الصواب..
وإنما الآية دعوة إلى النّجاة بالنفس فى الحال التي يواجه الإنسان فيها سرّا صارحا، وضلالا، متكاثفا، بحيث لا يصل إلى الآذان صدى من كلمة حق تقال، ولا ينفذ إلى العيون لمعة من مصباح هدى يضىء..
روى أن أبا ثعلبة سأل رسول الله ﷺ عن هذه الآية، فقال
61
صلوات الله وسلامه عليه: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحّا مطاعا، وهوى متّبعا، وإعجاب كلّ ذى رأى برأيه، فعليك بخويصة نفسك، ودع الناس وعوامّهم»..
وتجد فى قول الرسول الكريم، وفى تلك الكلمات الموجزة، أوضح بيان وأبلغ بلاغ فى الدلالة على مفهوم الآية الكريمة..
ففى قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر» هكذا بخطاب الجمع، هو دعوة عامة للمسلمين جميعا، أن يكون أمرهم بينهم قائما على هذا الدستور: الائتمار بالمعروف، والتناهى عن المنكر..
وفى قوله صلوات الله وسلامه عليه: «حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة وشحّا مطاعا وهوى متّبعا، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخويصّة نفسك ودع الناس وعوامهم». فى هذا بيان لموقف آخر من موقف المسلم فيما هو مطلوب منه، من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفى كلمة «حتى» إشارة إلى تلك الغاية التي يصل إليها المسلم، ويقف عندها على النظر إلى خاصة نفسه، وذلك حين يستشرى الفساد، ويطبق الظلام، ويتلفت إلى الناس من حوله، فإذا هم على طريق وإذا هو على طريق.. ولهذا جاء الخطاب بلفظ المفرد، «حتى إذا رأيت» الذي يشعر بأنه يقف وحده، جبهة مواجهة لهذا البلاء لجارف، الذي إن لم يأخذ فيه لنفسه حذرها، جرفه التيار، وغرق مع المغرقين.
62
الآيات: (١٠٦- ١٠٨) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
التفسير: هذه الآيات الثلاث تعرض لأمر كان يقع كثيرا فى حياة المسلمين وهم على سفر، لغزو أو تجارة، وبمنقطع عن أهليهم وذوى قرابتهم.. فيمرض أحدهم، ويجد ريح الموت دانية منه، وبين يديه مال أو متاع، يريد أن يصل إلى ولده وأهله..
تلك هى المشكلة التي عرضت لها هذه الآيات، وجاءت لتضع العلاج السليم لها، حتى تصل الحقوق إلى أهلها، وحتى يموت الميت وهو مطمئن إلى أنه لن يعتدى على ماله، وهو لا يملك أن يدفع هذا الاعتداء، وقد أصبح فى عالم الموتى! والملاحظ فى هذه الآيات أنها جاءت على نظم خاص، وأسلوب يكاد يكون فريدا فى القرآن الكريم..
فقد كثر فيها الخروج على مألوف النظم القرآنى، خروجا متعمّدا..
63
فهناك تقديم وتأخير.. بحيث تبدو الجمل، وكأنما يدفع بعضها بعضا، ليزيله عن موضعه قسرا..
وهناك جمل اعتراضية، تكاد تعزل المبتدأ عن خبره، والفعل عن فاعله.. بحيث لا يهتدى إلى الجمع بينهما إلا بعد نظر دقيق، وبحث شامل..
وهناك ضمائر يتجاذبها أكثر من عائد يريدها أن تعود إليه، وتلتقى به..
ثم هناك هذا العسر الشديد فى التقاط الكلمات، وشدّها إلى اللسان، وجمعها عليه..
هذا وذاك كلّه، مما يجعلنا نقف بين يدى هذه الآيات، ونملأ العين والقلب من بعض ما يفيض من أضوائها، لعلّنا نمسك بشىء من الحكمة فى قيام بنائها على هذه الصورة الفريدة فى النظم القرآنى! ونقرأ الآيات مرة ومرة، فإذا هى كعهدنا بها تتأبّى على اللسان، وتكاد تمسك به..
ثم نعود فنقرؤها قرآنا مرتلا، ونجيئها مستصحبين قوله تعالى: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا»، فإذا هى كلمات متناغمة، يأنس بعضها إلى بعض، ويتجاوب بعضها مع بعض، وإذا هى على اللسان ليّنة المسّ، عذبة المذاق، وإذا هى على الأذن لحن موسيقى، علوىّ النغم، يهزّ القلب، ويمسك بمجامعه! وننظر فى وجه الآيات مرة أخرى، فإذا هى مسفرة مشرقة، تتلألأ بأضواء الحكمة والموعظة الحسنة، وإذا بنا منها بين يدى دعوة قاهرة، وسلطان غالب، يلزمنا أن نقف عند حدوده، ويمسكنا أن نفلت من بين يديه، إذا نحن حاولنا ذلك، واستجبنا لداعى أنفسنا للإفلات منه..
ونسأل: ما حكمة هذا التدبير فى النظم الذي جاءت عليه تلك الآيات؟
64
ولم هذا الخروج الذي جاء عن عمد، على غير المألوف من النظم القرآنى؟
والجواب:
أولا: أن هذه الآيات تضبط حالا من أحوال الناس، تقع على صورة غير مألوفة لما تجرى عليه حياتهم، فى الغالب الأعمّ منها..
فالناس أكثر ما يموتون، يموتون وهم بين أهليهم، وذوى قرابتهم..
حيث يجد من يحضره الموت منهم، الوجوه التي ألفها، وعاش معها، وأودعها سرّه وما ملكت يمينه.. فلا يجد- والحال هذه- من الوحشة للموت، أو الفزع منه، والخوف الكارب من الضياع له، ولماله ومتاعه الذي بين يديه، ما يجده ذلك الذي يموت غريبا، فى طريق سفر، أو دار غربة..
ومن هنا جاءت كلمات الآية متزاحمة، متراكبة، أشبه بتلك الحال القلقة المضطربة، المستولية على هذا الغريب الذي يحضره الموت، وفى صدره كثير من الأسرار، يريد أن يفضى بها إلى أهله، ويكشف مستورها لهم.
هذه واحدة! وثانيا: الذين حضروا هذا الميت الغريب، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة من الحياة، قد شهدوا منه هذا الاضطراب المستولى عليه، وتلك الوحشة التي تمسك لسانه، وتردّ الأسرار التي تضطرب فى صدره.. ثم إذ هم يطلّون عليه بنظرات حزينة، مواسية، يرى أنهم أهل لأن يفضى لهم ببعض ما عنده.. إذ كان ما لا بد أن يكون..
وهنا شدّ وجذب، وأخذ وعطاء، وخواطر متناثرة، وكلمات حذرة قلقة، ملفّفّة فى دخان من الريبة والشك، وأسرار تمشى على استحياء، يعرّف بعضها ويعرض عن يعض..
ومن هنا أمسك النظم القرآنى بهذه المشاعر المختلطة المضطربة، وعرضها
65
فى هذه الصورة، التي تكاد تكون وعاء حاملا لتلك المشاعر، بحيث ترى وتحسّ.
وتلك أخرى..
وثالثا: هذا المتاع الذي بين يدى هذا الإنسان المحتضر.. إنه متعلق بأكثر من جهة.. فهناك صاحب هذا المتاع الذي يريده أن يبلغ أهله، وهو فى شك من أن يصل إليهم سالما.. وهناك الشاهدان اللذان أشهدهما المحتضر على وصيّته، ووضع فى أيديهما كل ما فى يده.. إنهما يحملان أمانة ليس وراءها من يطالبهم بها، إلا ما معهما من إيمان وتقوى.. وما أكثر وساوس النفس فى تلك الحال، وما أكثر نداءها الصارخ لاغتيال هذا المال الذي غاب عنه صاحبه.. إن لم يكن كله، فالخيار الكريم منه.
وهناك ورثة صاحب هذا المال، ومن أوصى لهم بشىء منه.. إنهم مهما حرص الشاهدان على أداء الأمانة كاملة فيما اؤتمنا عليه، ومهما تحرّيا الصدق فى قولهما، وفيما أدى إليهما هذا الميت من اعترافات وأسرار وأموال- فلن يقع هذا كله من أهل الميت موقع اليقين والطمأنينة..
من أجل هذا أيضا كان تنازع الكلمات القرآنية فيما بينها، حتى لكأنها هذه الجهات المتنازعة المتخاصمة، فى مسارب نفوسها، وفى مجرى خواطرها، حتى وإن لم يتخذ هذا النزاع وذلك التخاصم صورة عملية فى واقع الحياة..!
وقد آن لنا- بعد هذا- أن ننظر فى معنى هذه الآيات، على هذا الوجه الذي فهمناها عليه، ونظرنا إليها منه..
فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ.» هو تشريع للمؤمنين، فيما يواجهون به موقفا كهذا
66
الموقف، وهو موت أحدهم، وهو يضرب فى الأرض، بعيدا عن أهله، وذوى قرابته.
ففى تلك الحال ينبغى أن يتخيّر المحتضر شاهدين، يتوسم فيها الأمانة والاستقامة، ثم يدعوهما إليه، ويفضى إليهما بما يريد أن يوصى به أهله فيما خلّفه وراءه من شون تتصل بماله وأهله، وماله، وما عليه.. ثم يسلّم إليهما ما يريد أن يحملاه إلى أهله، من ماله ومتاعه.
فقوله تعالى: «شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» مبتدأ، خبره «اثنان». والجملة الخبرية هنا مراد بها الأمر والإلزام.. والتقدير، إذا حضر أحدكم الموت فشهادة قائمة بينكم لهذا المحتضر، يشهدها اثنان ذوا عدل منكم.. أي من المؤمنين.
«أو آخران من غيركم» أي غير المؤمنين، عند الضرورة.
وقوله تعالى: «فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» إشارة إلى أن هذا الموت الذي يقع فى الغرية هو شىء أكثر من الموت، لما يبعث من حسرة مضاعفة.. فى المحتضر الذي لم يشهده أهله، وفى أهله الذين لم يحضروا موته، ولم يؤدّوا ما يجب للميت على الحىّ.. ومن هنا جاء التعبير عن الموت بالمصيبة، الذي هو فى واقعه شىء طبيعى، فى غير تلك الحال التي وقع فيها.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ».
فإذا أدّى الشاهدان ما حمّلهما الميت إلى أهله، من قول، ومن مال ومتاع، ورضى أهله بما أدّى إليهما الشاهدان، فقد انتهى الأمر عند هذا الحدّ، ولا متعلّق لأحد عند هذين الشاهدين.
أما إذا وقع فى نفس الورثة وأولياء الميت شىء من الريبة والشك، فيما
67
جاءهم به الشاهدان من عند صاحبهم، ثم ارتقى هذا الشك والارتياب إلى التهمة، ثم النزاع والخصام، فإن للقضية وجها آخر.. بل وجهين آخرين:
والوجه الأول، هو أن يدعى الشاهدان إلى الحلف على ما أشهدهما عليه الميت، وما حملهما من مال ومتاع..
وحلف الشاهدين مشروط بشرط، وهو أن يدعيا بعد الصلاة مباشرة، وهما خارجان من بين يدى الله، قبل أن يتلبّسا بشىء من أمور الدنيا، وذلك ليكون لهذا الموقف أثره فى إقامة شهادتهما على الحق والعدل، أو على ما هو أقرب إلى الحق والعدل..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ».
فحبسهما من بعد الصلاة، هو إمساكهما قبل أن يتّصلا بالحياة العامة، ويباشرا شئونا مختلفة فيها.. حتى يكونا أقرب إلى الخير، وأبعد من الضلال.
وقد اختلف فى الصلاة التي يحبسان بعدها، أهي صلاة العصر، أو صلاة الظهر؟..
والرأى، أنها أي صلاة، حيث أطلق القرآن ذلك، ولم يقيده.
وقوله تعالى: «إِنِ ارْتَبْتُمْ» هو جملة اعتراضية، أريد بها بيان الحال الدّاعية إلى حلف الشاهدين، وهى الشك والريبة فى شهادتهما..
وقوله تعالى: «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» هو بيان لنصّ الحلفة التي يحلف بها الشاهدان.. وفيها من التوكيد والتحذير والتخويف، ما يجعل لهذه الحلفة أثرا واقعا فى نفس الشاهدين..
68
والضمير فى قوله تعالى «به» يعود إلى هذا القسم الذي يقسمان به، وأنهما لا يحنثان فى هذا القسم، ولا يبيعانه بهذا الثمن وإن كثر، لأنه حطام من حطام الدنيا، لا يساوى شيئا إزاء جلال الله وعظمته، وقد أقسما به، وأشهداه على ما يقولان.
هذا، وقد أثار بعض الفقهاء والمفسرين اعتراضا على حلف الشاهدين..
وأنهما حين ردّ ورثة الميت شهادتهما، أصبحا متهمين بالنسبة لهم، على حين أصبح أهل الميت أصحاب دعوى عليهما.. وإذ لم يكن لأهل الميت بينة على دعواهم، كان على المدعى عليهما الحلف، عملا بالمبدأ الشرعي: «البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر». فهما على هذا الرأى متهمان، وليسا شاهدين.
فإذا وجد أهل الميت مقنعا بعد حلف الشاهدين، انتهى الأمر، وإلا سارت القضية إلى الوجه الآخر من وجهيها..
وفى هذا الوجه يندب أهل الميت اثنين منهما، فيشهدان بما يعلمان من أمر الميت، مما لم يشهد به الشاهدان من قبل..
على أنه لا يصار إلى هذا الموقف إلا بعد أن يثبت بالبيّنة القاطعة، والبرهان الواضح، أن الشاهدين لم يقولا الحق، ولم يؤدّيا الأمانة.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ».
والمعنى: فإن ظهر، أو تبين أن الشاهدين قد اقترفا إثما بسبب تلك الشهادة التي أدّياها على غير وجهها، فليقم آخران مقامهما بتلك الشهادة، من أهل الميت الدين فرض عليهم الشاهدان السابقان، واللذان كانا أولى منهم بالحكم فى
69
شئون قريبهم الميت، لأنهما شاهدان، رأيا، وسمعا، على حين أن أهله غائبون عنه، لم يروا ولم يسمعوا..
وفى قوله تعالى: «فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ» تحريض للشاهدين على أن يؤدّيا الشهادة على وجهها، وأنهما بما احتملا من أمانة الشهادة، أصبحا بهذه المنزلة من الميت، وأنهما أقرب من قرابته وأولى منهم بكلمة الفصل فى شئونه، ولكنهما إذا خانا الأمانة، ولم يؤديا الشهادة على وجهها، زحزحا عن هذا الموقف، وانتقلا من منصّة الحكم، إلى موقف الاتهام.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ».. أي فى هذا التدبير الحكيم بإقامة شاهدين من أولياء الميت مقام هذين الشاهدين، عند العثور على خيانتهما- فى هذا ما يدعوهما إلى الحرص على أداء الشهادة، أقرب ما تكون إلى الحق، إن لم يكن ذلك عن ديانة وإيمان، كان عن خوف من الفضيحة والاتهام والخزي أمام الناس.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» هو دعوة للشاهدين، ولأولياء الميت، ثم لكل مؤمن، بتقوى الله، والامتثال لأمره ونهيه، فمن خرج عن شريعة الله، فهو فى ضلال دائم، لا يهتدى إلى خير أبدا.. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» (٣٥: الرعد).
الآية: (١٠٩) [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
70
التفسير: الظرف فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» أي أن الله لا يهدى الفاسقين، إلى رضوانه، ونعيم جناته، يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل..
وسؤال الرسل يوم القيامة، يكون فى مواجهة من أرسلوا إليهم، ومن دانوا بشريعتهم، حيث يقول الله تعالى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (٥: الأعراف).
وفى هذا الجمع بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم، وفى هذه المساءلة فى مواجهتهم، تحذير من هذا الموقف، الذي يجزى فيه من وقف من رسل الله موقف المحادّة والعناد، حيث لا يجد الضالّون والمعاندون ما يقولونه، وحيث لا يكون قول الرسل فيهم إلا وبالا عليهم، وخزيا وفضحا لهم..
وقوله تعالى: «ماذا أُجِبْتُمْ» أي ماذا أجبتم به ممن دعوتموهم إلى الإيمان؟ وهل استجابوا أم أبوا؟ ومن استجاب منهم ومن أبى؟
وفى قوله تعالى: «قالُوا لا عِلْمَ لَنا» وفى التعبير بلفظ الماضي عن إجابتهم، ما يشير إلى أن ذلك هو قول الرسل دائما، إذا سئلوا من قبل الله عن شىء! إن علمهم بهذا الشيء لا يعتبر علما إلى علم الله، الذي يعلم الشيء ظاهرا وباطنا، وحقيقة وكونا.
وقوله تعالى: «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ».. الغيوب جمع غيب، وهو بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى شىء واحد، واقع تحت علمه، أما بالنسبة للرسل وغيرهم، فهو غيب وغيوب.
71
الآية: (١١٠- ١١١) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
التفسير: يوم يجمع الله الرسل، يوم القيامة، ويسألهم الحقّ سبحانه وتعالى: «ماذا أُجِبْتُمْ» - فى هذا اليوم يستدعى سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بين يديه، ويذكره بأفضاله ونعمه، وما أجرى على يديه من معجزات..
وفى إلفات عيسى، عليه السلام، إلى هذه النعم، وفى تذكيره بالمعجزات التي طلع بها على بنى إسرائيل- فى هذا تسفيه لبنى إسرائيل، السابقين منهم واللاحقين، إذ كفروا بتلك المعجزات الناطقة، التي لا ينكرها إلا مكابر ومعاند، ولا يمارى فيها إلا غوىّ ضال، أحمق جهول.
فقد كان كلام عيسى فى المهد، وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى، وبعثهم من القبور- كان هذا، بل بعض هذا جديرا به أن يبعث الطمأنينة والإيمان، فى قلب أي إنسان له مسكة من عقل، أو أثارة من إدراك، حيث يرى وليدا يخرج من رحم أمه ليومه، ينطق بلسان مبين، ومنطق مستقيم، وهو مع هذا لا يملك من أمر نفسه شيئا، إذ هو مازال فى صورة الوليد ليومه.. فى كل شىء، إلا هذا اللسان الذي نطق به..!
72
فمن أنطقه؟ ومن أعطاه تلك الكلمات البيّنات؟ ومن منح لسانه هذه القدرة على النطق بها فصيحة مبينة؟ أليس ذلك برهانا مبينا على أن ما نطق به هذا الوليد، هو إشارة إلى أنه آية من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، تشهد بأنه رسول من الله رب العالمين؟
وإذا لم يكن فى هذا النطق آية متحدّية، يشهدها بنو إسرائيل، أفلم يكن إحياؤه الموتى، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وخلقه من الطين طيرا.. أفلم يكن فى هذه الآيات المتظاهرة ما يقيم لبنى إسرائيل طريقا إلى الإيمان بهذا الإنسان الذي أجرى الله على يديه تلك المعجزات، وإلى أنه رسول الله، يحمل إليهم كلمات الله وآياته؟
وبأى شىء يؤمن الناس إذا لم يؤمنوا بتلك الشموس الطالعة، لا يحجبها سحاب أو ضباب؟ وبأى داع يدعوهم الله سبحانه إليه، إن لم يكن فى هذا الداعي مقنعا لهم، وهاديا يهديهم إلى الله؟
إنه ليس بعد هذا إلا أن يروا الله جهرة..!
وقد فعلها بنو إسرائيل من قبل، فقالوا لموسى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (٥٥: البقرة).
ألا ما أشدّ غباء القوم، وما أقسى قلوبهم، وما أنكد حظهم من البصيرة والأبصار! «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (٤٤: المائدة).
هذا، وقد توسعنا فى معنى هذه المعجزات فى الآيات الواردة فى سورة آل عمران (٤٨- ٥٠: آل عمران).. فليرجع إليها من شاء.
وفى قوله تعالى: «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» إشارة إلى ما أبطل الله سبحانه
73
وتعالى به مكر بنى إسرائيل، حين مكروا بعيسى، وأرادوا صلبه، مدّعين عليه كذبا وبهتانا أنه ساحر مشعوذ، يدّعى على الله كذبا أنه «المسيح»، فنجّاه الله منهم، وأوقعهم فى سوء أعمالهم، وكتب عليهم عقوبة دم نبىّ، أيقنوا أنهم قتلوه: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (٥٦: النساء).
وقوله: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» معطوف على قوله تعالى: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» وما بعده.. أي واذكر يا عيسى من نعمتى عليك أنى أوحيت إلى الحواريين وألهمتهم أن يتبعوك، ويكونوا أنصارا لك، وقوة إلى جوارك، فى مواجهة القوى الضالّة من بنى إسرائيل.. فآمن هؤلاء الحواريون بك، وصدّقوك، وكانوا ردءا لك، وأنسا لو حشتك فى هذا الظلام الكثيف المنعقد حولك.
والحواريون: جمع حوارىّ، والحوارى: هو الناصر والمعين على الخير، وأصله اللّباب من كل شىء، ومنه الحوارى، وهو لباب الدقيق.
الآيات: (١١٢- ١١٥) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
74
التفسير: وقع بين المفسرين اختلاف شديد فى مائدة بنى إسرائيل هذه، وفى الحواريّين الذين طلبوا هذا الطلب..
فأنكر بعضهم أن يكون من الحواريين هذا الطلب المتحدّى، الأمر الذي لا يكون إلا من إنسان لم يؤمن بالله.. وكيف وهم قد دعاهم الله إليه فاستجابوا من غير تردد، وتبعوا المسيح، وساروا مسيرته خطوة خطوة، كأنهم بعض ظلّه على الأرض؟
وقد كان للمنكرين على الحواريين أن يكون منهم هذا الطلب، تأويلان لهذا الاعتراض..
التأويل الأول: أن هؤلاء الحواريين، لم يكونوا مؤمنين إيمانا صادقا، وأنهم حين دعوا إلى الإيمان فقالوا «آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» - لم يكن هذا القول إلا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم فلا يستغرب منهم- وهذا إيمانهم- أن يطلبوا هذا الطلب، الذي لا يكون ممن آمن بالله إيمانا صادقا! وهذا التأويل فاسد، ظاهر الفساد.
فالحواريون مدعوّون من الله، ملهمون إلى الإيمان به.. فكيف يكون إيمانهم على تلك الصفة الهزيلة المنافقة؟
إن من يدعى من الله هذه الدعوة، ويلهم هذا الإلهام إلى الإيمان به، لا بدّ أن يكون أشدّ الناس إيمانا، وأوثقهم يقينا واطمئنانا. وإن غير ذلك هو اتهام لله، ولعلمه، وقدرته..
ولقد كان الحواريون على إيمان وثيق بالله، أقرب إلى إيمان أنبياء الله ورسله، كما يشهد لذلك قول الله تعالى فيهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ
75
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ... »
(١٤: الصفّ).. فهم القدوة فى وثاقة الإيمان، وفى نصرة دين الله. ونصرة رسول الله.. ولهذا دعا الله المؤمنين أن يكونوا أنصار الله ورسول الله «محمد» صلوات الله وسلامه عليه.. كما كان هؤلاء الحواريون أنصار الله، وأنصار رسول الله عيسى، عليه السلام.
فكيف يلتقى هذا القول بنفاقهم وضعف إيمانهم مع هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى فيهم؟ إن مثل ذلك القول فى الحواريين هو تكذيب صريح لكلام الله! أما التأويل الآخر لهذا الطلب الذي كان من الحواريين بإنزال مائدة من السماء عليهم، فقد اعتمد فيه القائلون به، على قراءة من قرأ قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» على هذا الوجه: «هل تستطيع ربّك» أي هل تستطيع أنت يا عيسى أن تطلب من ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء.. فتكون الاستطاعة هنا مضافة إلى عيسى عليه السلام، لا إلى الله سبحانه وتعالى..
وعلى هذا، فإنه لا بأس من أن يطلب الحواريّون إلى عيسى هذا الطلب، ويراودوه عليه! وهذا تأويل مقبول على هذه القراءة..
ولكن ما تأويل طلب الحواريين على القراءة المشهورة: «هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء» ؟
نقول- والله أعلم- إن الاستطاعة هنا لا يراد بها القدرة على إجابة الطلب، وإنما المراد بها الرضا والقبول له، بمعنى: هل يرضى ربّك، أو يقبل ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟
فهذا أمر لم تجر به العادة، ولم يقع فى حياة الناس.. والحواريون إذ يطلبون
76
هذا الطلب الغريب، لا يتوقعون استجابته، وإنما كان طلبهم له من قبيل الاستطراد للمعجزات الخارقة، التي كانت تقع تحت حواسّهم، من إحياء الموتى، وخلق طير من الطين، وبعث الحياة فيه، وإبراء الأكمه والأبرص.. فماذا لو طلبوا هذا الطلب الغريب؟ هل يقبله الله؟ وهل يجيبهم إليه؟ إنهم لا يشكّون فى قدرة الله، ولكنهم يشكون فى أن يستجاب لهم فيما طلبوا.. ومن هنا أخذ هذا الطلب صورة الاستدعاء بالقدرة والاستطاعة.. لا بالإضافة إلى من طلب إليه، ولكن بالنسبة لمن طلب له..
كمن يقول لمن هو أعلى منه منزلة: هل تستطيع أن تعطينى هذا الكتاب الذي معك؟ إنه لا شك مستطيع، إذ لا شىء يمسكه عن ذلك.. ولكن الأمر متروك لتقديره هو.. وهل يرى هذا الشخص مستحقا لهذه المكرمة أو غير مستحق لها؟
وليس فى قول الحواريين: «هل يستطيع ربّك» إنكار لربوبية الله لهم، ولكنه استصغار لشأنهم، وإخفاء لذاتهم، وهم يطلبون هذا الطلب، الذي لا يصح أن يكون طالبه من الله إلا إنسانا له عنده من المنزلة مثل ما لعيسى عليه السلام، فهو ربّه الذي أفاض عليه هذه المكرمات، وهو ربّه الذي يطلب منه هذه المكرمة.. ولهذا أضافوا عيسى إلى الربّ، ولم يضيفوا هم أنفسهم إليه، استصغارا لمكانهم فى هذا المقام.
وفى قول عيسى عليه السلام للحواريين: «اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تأديب لهم، ودعوة إلى ما هو أولى بالمؤمنين أن يكونوه مع الله، كما يقول السيد المسيح فى بعض تعاليمه: «لا تجرّب الربّ إلهك».. فذلك هو الكمال كلّه، والإيمان كلّه.
ولكن- كما قلنا- للمؤمنين المقربين إلى الله، المشاهدين لعظمة جلاله، المحفوفين بخفىّ ألطافه- لهؤلاء المؤمنين أنس بروح الله، وانتشاء بنسائم قربه،
77
وأنفاس مودته، وذلك ممّا يحملهم على هذا الدّلال فى طلب ما لا يطلب الناس، ولا يطمعون فيه..
وفى إبراهيم عليه السلام مثل لهذا.. فقد طلب من الله- سبحانه- أن يريه كيف يحيى الموتى! وقد أجابه مولاه- كرما ولطفا- إلى ما طلب..
وكذلك ما كان من موسى- عليه السلام- حيث طلب أكثر من هذا، فقال: «ربّ أرنى أنظر إليك» ! وموسى يعلم يقينا أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرى، إذ لو رؤى لتحدّد، ولو تحدّد لتحيّز، ولو تحيّز لكان مخلوقا.. لا خالقا! وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ومع هذا فقد طلب موسى هذا الطلب، الذي لا تدركه الأبصار.. فكان جواب الحق جلّ وعلا: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي.. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً.. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ.. تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (١٤٢: الأعراف).
فمثل هذا الطلب من الحواريين، لا يدلّ بحال على ضعف إيمان، أو شك فى الله، ولكنه طلب المزيد من الإيمان، والرضوان من الله! ولهذا كان جوابهم على عيسى عليه السلام: «نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين» فهم يريدون المائدة لأمور.. منها:
أولا: أن يأكلوا منها.. فهى فى هذا لا تختلف كثيرا عن المنّ والسّلوى الذي أطعمه الله سبحانه وتعالى آباءهم، حين نجّاهم من فرعون على يد موسى..
فلما كفروا بهذه النعم لعنهم الله، وضرب عليهم الذلة والمسكنة.
وثانيا: أن تطمئن قلوبهم إلى رحمة الله بهم، وألطافه عليهم، باستجابة طلبهم.. وفى هذا ما يفتح لهم إلي الله طريقا يرون منه إشارات السماء
78
بحواسّهم، بعد أن أدركوها بعقولهم.. وهذا ما يبعث فى قلوبهم الطمأنينة التي تثبّت الإيمان، فلا يهتزّ لعارض يعرض له من ريبة أو شك.
وثالثا: أن يزداد علمهم بصدق عيسى، وبصدق هذه الآيات التي تجرى على يديه، فلا يطوف بأنفسهم منها طائف من الشك والوسوسة، التي كان يثيرها اليهود حولها.
ورابعا: أن تكون هذه المائدة المنزلة من السماء شهادة بين أيديهم فى دعوتهم الناس إلى الإيمان.. إذ كانوا ممن طعموا منها، ومثل هذا الطعام السماوي لا بدّ أن يترك آثارا فيمن طعم منه.. وربما كانت آثاره مادية ومعنوية معا، يراها الناس ظاهرة عليهم، فيكون منها شهادة للحواريين، أنهم ممن لبسوا تلك النعمة الإلهية، وفى هذا ما يجعل القلوب مطمئنة إليهم، وإلى ما يدعون إليه.
وأمر آخر من تلك المائدة، أثار اختلافا بين المفسّرين، حتى لقد رأى بعضهم أن المائدة لم تنزل، وأن الحواريين حين سمعوا قول الله تعالى: «إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» قالوا: لا حاجة لنا.. فلم تنزل عليهم!! وهذا قول مردود، ورأى فاسد.. وذلك:
أولا: أن عيسى عليه السلام، دعا ربّه، وضرع إليه، أن ينزّل هذه المائدة، كما طلبها الحواريون ولم يكتف بهذا، بل لقد جعل لطلبها أسبابا ومبررات من عنده، حتى لكأن هذا الطلب كان منه ابتداء، لما حمّل هذا الطلب من ثمرات طيبة تجىء معه، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه: «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»
79
أفبعد هذا لا يستجيب الله لعيسى بن مريم، ولا يحقق له ما دعا به إليه؟
إن عيسى يقول: «اللهمّ ربّنا أنزل علينا» ولم يقل عليهم.. ويقول:
«تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا» ولم يقل: تكون لهم عيدا لأولهم وآخرهم» وقال «وارزقنا» ولم يقل: وارزقهم..
فهى عيد وبهجة ومسرّة للمسيح، ولمن يطعم من تلك المائدة من أتباعه.
ثم هى آية من آيات الله وشاهد من شهود قدرته وجلاله.
وهى رزق كريم طيب.. وليست لعنة، ولا عقوبة..
وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى استجاب لعيسى، فقال سبحانه: «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ».. وفى هذا: أن القائل ليس أيّ قائل، بل هو الله سبحانه وتعالى.. «قالَ اللَّهُ».. وأنه سبحانه قد حكم هذا الحكم القاطع المؤكد:
«إنى منزلها عليكم».. هكذا: «إنى منزّلها عليكم».. وذلك التوكيد.
ليرفع أىّ احتمال للشك عند أقلّ المؤمنين إيمانا بالله، بأن المائدة لم تنزل.
فكيف يقع لعقل عاقل أن كلمة الله لا تنفذ، وأن قضاءه لا يمضى؟
ولا ندرى كيف نظر شيخ المفسّرين «الطبري» إلى هذه الآية، ولا كيف طوّع له قلمه أن يجعل لهذا الرأى مكانا فى تفسيره؟
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» إنما هو حراسة لهذه النعمة العظيمة، من أن يعبث بها العابثون، أو يلحد بها الملحدون.. إنها شمس طالعة فى وجه صبح مشرق.. فمن عمى عنها، ولم يهتد بها، فهو فى حرب سافرة مع الله.. لا جزاء له إلا أن يلقى أشد العذاب! وليس فى هذا تهديد للحواريين، ولا وعيد لما سيكون منهم من كفر
80
بهذه الآية، ومكر بها.. بل هو استبعاد لأن يقع شىء من هذا منهم، وإن جاز أن يقع من غيرهم.. وأنه لو جاز أن يكفر أحد من الحواريين بهذه الآية فإنه سيلقى هذا العذاب.. فكيف يكون العذاب لمن كفر من غيرهم؟ وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى مخاطبة من يستبعد منهم فعل منكر، ليكون ذلك تخويفا لغيرهم، وزجرا لهم عن إتيان هذا الإثم..
يقول تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (٦٥: الزمر).
ويقول سبحانه وتعالى مشيرا إليه صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (٤٤- ٤٧: الحاقة).
والنبي الكريم أبعد من أن يطوف به طائف من الشرك، وأبعد من أن يتقوّل على الله قولا.. إن ذلك كان أمرا مستحيلا بالنسبة لذاته الكريمة.. ولكنّ المقام مقام تحريم الشرك والتشنيع عليه، فناسب أن يبرز فى تلك الصورة المفزعة التي تحبط كل عمل، ولو كان نبيّا كريما من أنبياء الله، ورسولا مجتبى من رسله.. فكيف غير النبىّ وغير الرسول! وكذلك الأمر فى التقول على الله والافتراء عليه.
وفى قوله تعالى على لسان السيد المسيح: «تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» أي ينال منها، ويسعد بها كلّ من اتبعه، وآمن به، واجتمع إليه، لا الحواريون وحدهم الذين كان منهم هذا الطلب ابتداء- فهى رحمة منزلة من السماء، ونعمة محمولة على جناح الرحمة، ينال منها كل من صدّق بصاحب هذه الدعوة، واتبع سبيله، من أقرب المقربين إليه، إلى من هم أبعد منهم صلة به.
81
الآيات: (١١٦- ١١٨) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
التفسير: قوله تعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» معطوف على ما قبله مما عطف على قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ»..
فهذه المساءلة لعيسى من الله تعالى، تكون يوم القيامة.. يوم يجمع الله الرسل..
وفى قوله تعالى: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إنما يراد به إقامة الحجة على أتباعه، الذين غيّروا معالم رسالته، وقلبوا حقائقها، واتخذوا من المسيح وأمه إلهين.. المسيح ابن الله، وأمه مريم زوجا لله! وفى خطاب المسيح بقوله تعالى: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» إشارة إلى الصفة
82
التي هى له ولأمه.. فهو ابن مريم لا ابن الله، وأمّه أمة من إماء الله، لها ولد كما للنساء أولاد.
وفى سؤال المسيح: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخذ اعترافه وإقراره على هؤلاء الذين ألبسوه وأمه هذا الثوب الإلهى، وعبدوهما من دون الله.
وفى هذا الإقرار خزى بعد خزى وإذلال بعد إذلال لهم، حيث يكشف المسيح عن وجهه ووجهه أمّه أمام هؤلاء الذين ضلّوا، ورأوا فيه وفى أمّه غير الحق..
ويواجه المسيح هؤلاء الذين كفروا بالله، وجعلوا المسيح وأمه إلهين- يواجههم بما يخزيهم ويبهتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وندما: «سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» والذي ليس لى بحق هو أنى لست إلها ولا ابن إله، والذي هو لى بحق أنى عبد الله ورسوله.. فإن كنت قلت ما ليس لى بحق فقد علمته، وعلىّ تبعة هذا القول المنكر العظيم.. إن يكن قد كان منىّ..
وفى قوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» توكيد لما بين المسيح وبين الألوهية من بعد بعيد.. فلو أنه كان إلها لعلم ما يعلم الله، ولكنه لا يعلم حتى ما اشتملت عليه ذاته، وسكن فى كيانه.. أمّا الله سبحانه فهو يعلم كل شىء.. لا يعزب عنه مثقال ذرّة فى السموات ولا فى الأرض..
هذا وسنعرض لألوهية المسيح، ودعوى الذين يدعونها له فى مبحث خاص، بعد ختام هذه السورة..
وفى جواب المسيح: «ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» إشارة إلى أن المسيح مأمور، وأنه لا يقول شيئا من عنده، وإنما هو
83
رسول يبلغ ما أمره به ربّه، وقد بلّغ رسالة ربّه، كما أمره بها: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ».. فالمسيح عبد لله، كما أنهم عبيد له.. ومن كان عبدا لله فليس له إلى الألوهية سبيل.
وقوله: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» هو توكيد لبراءة عيسى مما تقوّله عليه أتباعه، وأنه كان عليهم شهيدا مدّة وجوده معهم، يقوّم انحرافهم، ويصحح معتقدهم، فلما قبضه الله إليه، انقطع اتصاله بهم، وبما أحدثوا بعده من هذه المعتقدات الفاسدة فيه، وفى أمّه.. وأنه إذا كان المسيح لم يعلم شيئا مما أحدثوا من بعده، فذلك ما لا يغيب عن علم الله، فقد علمه الله منهم، وأحصاه عليهم، وهاهم أولاء بين يديه يلقون جزاء ما صنعوا..
والشهيد: من يرى ما يقع فى محيط حواسه.. مما يدانيه ويختلط به..
والرقيب: من يرى من مكان عال، وهو المرقب، حيث ينكشف له ما لا ينكشف لغيره..
ولهذا كان التعبير فى جانب المسيح، بالشهيد، والتعبير فى جانب الله، بالرقيب.. وهذا تمثيل، ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى.
ثم كان من تمام هذا التمثيل قوله: «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» أي تطلع على كل شىء قريب وبعيد، ظاهر وخفى، اطلاع شهادة وحضور.
وقوله: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هو تفويض لله سبحانه وتعالى للقضاء فى أمر هؤلاء، الذين حملوا أوزارهم على ظهورهم، وأحاطت بهم خطيئتهم..
فإلى الله سبحانه وتعالى أمرهم، لا شفاعة لأحد فيهم.
84
«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وصنعة يديك، وربائب نعمتك، وغرس فضلك.. وليس لأحد أن يشارك المالك فى تصرفه فيما ملك.
«وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» لا يسألك أحد لم غفرت لهؤلاء العصاة الظالمين.. فما غفرانك لهم عن عجز أو قصور أن تنالهم يدك، ويأخذهم عقابك، وإنما هو حلم الحليم، وحكمة الحكيم.. فعن قدرة عفا وغفر، وعن حكمة كان هذا العفو وتلك المغفرة..
سمع أعرابى قارئا يقرأ: «إن تعذبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم» فأنكر ما سمع، وقال ما هذا كلام الله، إذ ينقض آخره أوله.. فأعاد القارئ قراءة الآية على وجهها: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» فقال الأعرابى: نعم هذا كلام الله..
عزّ فحكم، فإن شاء عفا وغفر!!
(الآيتان: ١١٩- ١٢٠) [سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٩ الى ١٢٠]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
التفسير: هذا ختام الموقف، وتلك كلمة الفصل من رب العزة جلّ وعلا، فى مجمع الرسل والأمم يوم القيامة..
ففى هذا اليوم العظيم يجد الصادقون الذين أخلصوا دينهم لله، ولم يحرّفوا ولم يبدلوا فى دين الله- يجدون عاقبة هذا الصدق، مغفرة ورحمة ورضوانا فى جنات
85
تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. لا يتحولون عنها، ولا ينتقلون إلا من نعيم إلى نعيم فيها.
«رضى الله عنهم» بما كان منهم من صدق فى القول والعمل، «ورضوا عنه» بما أحسن إليهم من جزاء، وأفاض عليهم من نعيم.. و «ذلك هو الفوز العظيم» الذي تعدل اللحظة منه عمر الدنيا كلها، وما لقى المنعّمون فيها من نعيم، وما ذاق السعداء فيها من طعوم السعادة. فكل هذا، لا يعدّ شيئا إلى نظرة رضى من الله إلى من رضى الله عنهم، جعلنا الله منهم وأدخلنا فى زمرتهم، وأرضانا بما أرضاهم، بما تبلغه بنا سوابغ رحمته، وتؤهلنا له أمداد مننه وأفضاله.
وفى قوله تعالى «وَرَضُوا عَنْهُ» لفتة كريمة من ربّ كريم، إلى عباده المكرمين، حيث يرضى عنهم وبرضون عنه، حتى لكأنه رضى متبادل بين الخالق والمخلوقين، والمعبود والعابدين، فسبحانه من ربّ كريم، برّ رحيم..
شاهت وجوه من يتجهون إلى وجه غير وجهه، وخسئ وخسر من يلوذون بجناب غير جنابه. ويطوفون بحمى غير حماه.
وقوله سبحانه: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» قولة حق ينطق بها الوجود كله فى هذا اليوم، ويشهد تصريفها الناس عيانا فى هذا اليوم المشهود، حيث تخشع الوجوه للحىّ القيوم، وتخفت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وحيث تذلّ جباه الجبابرة، وتغبر وجوه الظالمين، وحيث ينادى منادى الحق: «لمن الملك اليوم؟» فإذا رجع هذا النداء، هو هذا الوجود كله لسان بسبّح بكلمة الحق: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ».
86
مبحث فى المسيح الإله والمسيح الإنسان
نعرض فى هذا البحث قضية الألوهية، التي ادّعاها المدّعون للمسيح، وآمنوا عليها، وأقاموا لها منطقا استساغوه، وغذّوا منه مشاعرهم، وترضّوا به عواطفهم..
وسبيلنا فى عرض هذه القضية، هى أن نلقاها لقاء بعيدا عن النصوص الدينية، التي يقيمها أصحاب هذه الدعوى شاهدا على ما يدّعون، وبمنأى كذلك عن النصوص الدينية التي جاء بها القرآن الكريم لدحض هذه الدعوى.
وإسقاط كل حجة لمدعيها.
ذلك لأن تعارض هذه النصوص حول تلك القضية فى جانبى الإثبات والنفي، لا يتيح لمن يقف موقفا محايدا من هذه القضية سبيلا إلى الحكم فيها، إذا هو أخذ بتلك النصوص المتعارضة، وجعل لها عنده الاحترام والولاء، الذي يمسكها عليه أصحابها. من طرفى الخصومة فى هذه القضية..
إذن، فالعقل، والعقل وحده هو الحكومة التي يرجع إليها للقضاء فى هذه القضية، أولا.. ثم إذا كان للنصوص الدينية بعد هذا التقاء مع العقل والمنطق أخذ بها كشاهد يؤيد العقل ويزكّى منطقه، وإلّا انفرد العقل بالحكم الذي يطمئن إليه، ويعيش معه فى تلك القضية على وفاق ووئام، وبهذا يحتفظ الإنسان بوحدته، فلا يكون شعوره الديني فى ناحية، واتجاهه العقلي فى ناحية أخرى.. فذلك أشأم بلاء يبتلى به الإنسان فى مسيرة الحياة.
87
العقل فى مواجهة المسيح:
وإن العقل إذ يواجه المسيح، فإنما يواجه منه شخصية تاريخية، لها وجود مادى محقق، رآها الناس رأى العين، كما يرون أنفسهم.. فالمسيح هو «يسوع» الذي ولد فى قرية الناصرة من مقاطعة الجليل، بأرض اليهودية، من بلاد الشام، وأمه «مريم»، وأبوه الذي ولد على فراشه، ونسب إليه، هو «يوسف».. وكان مولده إبان حكم الرومان لبلاد الشام فى السنة الثالثة أو الرابعة أو السابعة قبل الميلاد، على خلاف فى تحديد السنة التي ولد فيها.
والتاريخ يتحدث عن «يسوع» أنه ولد ميلادا طبيعيا، حملت به أمّه مدة الحمل المعتاد للناس، فاحتواه رحمها تسعة أشهر، وأرضعته من ثدبيها، وكفلته كفالة الأمهات لأطفالهن. ثم كان له صبى، وشباب، وكهولة، وطريق فى الحياة يسلكه، ورسالة يقوم عليها، وأنه فى سبيل هذه الرسالة- شأنه شأن أصحاب الرسالات- قد دخل فى صراع مع القائمين فى طريقه، والمتصدين لرسالته، حتى انتهى به الأمر إلى الموت صلبا! هذا هو مجمل الصورة التي تقع لعينى من يطالع حياة يسوع «المسيح» ويقرأ ما سطر التاريخ من سيرته! إنه إنسان قبل كل شىء، وفى كل شىء؟ لم تفكر أمّه التي امتزج دمها بدمه، ولحمها بلحمه، وخالطت روحها روحه، وأنفاسه، لم تنكر شيئا من أمره، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات من أبنائهن، وإن كانت مخايل النبل، والطهر والحكمة تفوحان من أردانه! إنه بكرها، وواحد من أولادها، الذين استقبلتهم بعده «١» !.. ولو أنها
(١) كان للمسيح إخوة من أمّه «مريم» ومن زوجها يوسف بن هالى، كما تحدث بذلك الأناجيل، بقول صريح قاطع.
88
رأت فيه شيئا لم تعرفه الأمهات فى أبنائهن لأنكرته، أو لأنكرت نفسها، ثم لكانت منها نفرة من الاتصال برجلها «يوسف» ومعاودة الحمل والولادة! فهو- أي عيسى- إن يكن إلها فقد ولدته، ولا يعقل أن تلد إلها أو آلهة غيره.. وإن يكن خلقا آخر، غير الإله، وغير البشر. فلن تطاوعها نفسها على الدخول فى تجربة جديدة، تلد بها أعجوبة أخرى! ولكنها إذ لم تنكر من وليدها «يسوع» شيئا، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات فى أطفالهن، مضت فى طريقها، طريق الأمومة، الذي تسلكه الأمهات! واتصلت برجلها «يوسف» فولدت منه بنين وبنات!! أين يضع العقل المسيح؟
والعقل إذ يواجه المسيح، وإذ يلقاه على هذا الوجه الذي عرفته الحياة منه، وسجله التاريخ له- لا يمكن أن يخرجه عن دائرة البشرية، أو يعزله عن عالم الإنسان..
والمسألة هنا هى: أين يأخذ المسيح مكانه من الناس، وأين المكان الذي ينزله العقل فيه؟
وهنا نرى «المسيح» يأخذ أوضاعا مختلفة، وينزل منازل متباينة..
حسب وزن العقول له، وتقديرها لشخصيته، وحسابها لمقومات تلك الشخصية! وإذن فلا نستبعد أن نرى «المسيح» يأخذ مكان القمة من الإنسانية، كما لا نستغرب إذا رأيناه ينزله منزلة الحضيض فيها.. ففى هذا الفراغ الهائل، بين السطح والقاع، يتحرك الناس، وفيه يتقلّبون، بحيث يملأ بهم هذا الفراغ كلّه! والمسيح- فى هذه النظرة- واحد من آحاد الناس، وللناس أن ينزلوه
89
فيهم بالمكان الذي يرونه.. صعودا، ونزولا.. مغالين، أو مقتصدين، أو ظالمين.. دون أن يخرج فى هذا كلّه عن دائرة الإنسانية، أو يتعدّى حدودها! فكل قول يقال فى «المسيح»، مما يقع فى محيط الإنسانية، يمكن أن يوضع موضع البحث والنظر، وأن يعتبر فى معرض القبول والتسليم.. فإذا قال فيه قوم إنه نبىّ أو صدّيق.. لم يكن هذا القول مستحيلا.. إذ فى الناس الأنبياء والصدّيقون! وإذا قال قوم إنه فارس مغوار، أو فيلسوف عظيم، أو عالم كبير..
لم يكن هذا القول مستحيلا أيضا، إذ فى الناس الفرسان والفلاسفة والعلماء! وإذا قال قوم إنه مشعوذ محتال.. لم يكن هذا القول مستحيلا كذلك، لأن فى الناس المشعوذين والمحتالين! وهكذا كل قول يقال فيه، مدحا أو ذمّا، مما هو واقع فى عالم البشر، لم يكن مستحيلا، ولا مستغربا.. والبحث، والنظر، هو الذي يكشف عن صدق أو كذب كل ما يقال فيه، ويمخض ما فيه من حق أو باطل..
ماذا عن المسيح الله؟
فإذا جاء إلى الناس من يقول لهم: إن «يسوع» هذا الذي رأيتموه أو سمعتم أخباره، والذي عرفتم من أمره أنه لم يكن إلا بشرا سويا.. فى هيأته وملامحه، وفى طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وفرحه وحزنه، ورضاه، وسخطه، وفى كل ما تعرفون من شئونكم، وما تتقلّبون فيه من حياتكم- «يسوع» هذا، هو الله رب العالمين! عاش تلك الفترة المحدودة من الزمان وفى هذا الوضع المحدود من المكان فى مسلاخ الإنسان «يسوع» وفى جسده..
ثم ترك هذا الجلد، وزايل ذلك الجسد، وارتفع إلى ملكوته- نقول إذا
90
جاء أحد يقول للناس هذا القول، فى شأن المسيح، أو فى أي إنسان غيره من الناس على طول الإنسانية وعرضها، فبأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول، وبأى عقول يلقونه؟
ولنذكر أننا بمعزل عن مقولات الكتب المقدسة فى أمر «المسيح» وأننا إنما نواجه «المسيح» من خارج الدائرة العقيدية، وأننا إنما ننظر إليه كظاهرة إنسانية، كان لها فى حياة الناس- ولا يزال- دور كبير، دارت وتدور حوله شئون لهم وشئون!..
ونعيد سؤالنا مرة أخرى: بأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول الذي يقال فى المسيح الإله، وبأى عقول يلقونه؟
ولا نتكلّف لهذا السؤال جوابا، فالجواب حاضر، نأخذه من فم التاريخ الذي يحدّث عن أعداد كثيرة من الناس قد لبسوا أثواب الآلهة، أو ألبسوا هذه الأثواب.. ويحدث التاريخ- قبل المسيح وبعده- أن الناس انخدعوا لهذه الآلهة، وآمنوا بها، وأنزلوها من قلوبهم وعقولهم منزلة الإله الذي يؤمن به المؤمنون بالله! ففى مصر، والهند، وفارس، وفى بلاد اليونان والرومان، دان الناس أحقابا طويلة للالهة البشرية.. من فراعنة، وقياصرة وأباطرة، وهراقلة، وعبدوهم عبادة المؤمنين لله رب العالمين.. ولا زالت بقايا هذه الظاهرة باقية ممتدة فى القرن العشرين إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كان امبراطور اليابان «الإله» المعبود من دون الله، فى أمة بلغت من الحضارة والمدنية حظّا كاد يجعلها على رأس العالم المتحضر فى هذا العصر! وفى التاريخ الإسلامى ادّعى المدعون ألوهية «علىّ» رضى الله.. وكادت تكون فتنة، لولا أن صدمتها العقيدة الإسلامية صدمة قاتلة، بيد «علىّ» نفسه، الذي أرادوا أن يلبسوه ثوب الإله.!
91
ويحدث التاريخ الإسلامى أيضا أن «المقنّع» الخراسانى، - واسمه عطاء- كان صاحب فرقة من فرق الشيعة، وكان مشعوذا، قد بلغ به الأمر أن ادعى الألوهية لنفسه، وكان لا يسفر عن وجهه، وقد اصطنع لذلك وجها من ذهب، تقنع به، فسمى المقنع.. وكانت له شعوذات خدع بها الأغرار من الناس، فتبعه خلق كثير، مما وراء النهر، وآمنوا بألوهيته، وكادت تكون فتنة.
«ولما اشتهر أمره ثاروا عليه، وقصدوه الناس فى قلعته التي اعتصم بها، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما، فمتن منه، ثم تناول شربة من ذلك السم فمات أيضا، وذلك فى سنة ثلاث وستين ومئة هجرية «١» ».
ويحدّث التاريخ الإسلامى كذلك عن بعض الفرق المنحرفة من الشيعة، وعن تأليههم للخليفة الحاكم بأمر الله، الذي لا زالت بقايا هذه الفرقة المارقة تتعبد له، فى جهات منعزلة من بلاد الشام! وليس ببعيد خبر «سليمان المرشد» الذي ظهر فى بلاد الشام منذ سنوات وادّعى الألوهية، ووجد فى الناس من يستجيب له ويؤمن به! وتستند دعوى الألوهية لإنسان من الناس على قوة غيبية احتوت هذا الإنسان الإلهى، أو احتواها هو.. وبهذه القوة الغيبيّة المقدسة فيه، صار فوق مستوى الناس، ونزل منازل الآلهة! وقد كان الناس قبل عصر العلم التجربي، يفتحون آذانهم وعقولهم وقلوبهم للقوى الغيبية هذه، ويتشوّفون إليها، فيما وراء المادة، وكانت حياتهم موصوله بها، مشدودة إليها.. فإذا جاءهم من يحمل إليهم- إن صدقا وإن كذبا- خبرا من تلقائها، أو حديثا من عندها، وجد من يصغى إليه، ويلهث جريّا
(١) وفيات الأعيان، لابن خلكان: جزء أول ص ٤٠٢. [.....]
92
وراءه! وبهذا الشعور خلق الفنانون الأساطير، ونسجوا الخرافات، التي كانت المورد الذي تتزاحم عليه الإنسانية، وتروى منه أشواقها ومواجدها، وتغذّى به آمالها وأحلامها..
وإذ طلع عصر العلم التجريبى على الناس واستقامت العقول على منطق التجربة، وحكم الواقع المادىّ- لم يعد للقوى الغيبية هذا السلطان المتسلط على العقول والقلوب، ولم يعد فى الناس من تستهويه هذه القوى، أو تحمله على الوقوف طويلا عندها.. فإن يكن للناس مع هذه القوى وقفة فى هذا العصر، فهى وقفة اللاهي العابث، الذي يلتمس التخفف من ضغوط المادة، وثقل الواقع..
ثم لا يلبث أن يأخذ طريقه إلى عالم المادة والواقع، الذي يتقلب فيه، ويتعامل معه! ولهذا، فإن أي لباس يلبسه الإنسان اليوم غير جلده البشرىّ، وثوبه الإنسانى، لا يمكن أن يحجب أعين الناس عن حقيقته، أو أن يخيّل إليهم منه أنه غير إنسان!! فقد يلبس الناس على المسارح جلود الحيوانات، وأثواب الشياطين، والجن والآلهة.. ثم هم مع هذا فى أعين المتفرجين أناس كسائر الناس.. وأن هذه الأثواب، وتلك الأصباغ أشياء مستعارة.. لا تغير ولا تبدّل من الحقيقة الواقعة شيئا.
ولا يخرج الحال بأولئك الذين يدّعون لأنفسهم، أو يدّعى لهم أنهم من طينة غير طينة الناس، ومن جلود غير جلود الناس- لا يخرج بهم الحال عن تلك الصّور المتغايرة التي يلبسها الممثلون والمهرجون! إن الناس قد استقلّوا اليوم بعالمهم الأرضى، وأجلوا عنه كل قوى غيبية كانت تعيش مع أسلافهم فيه، وتتحكم فى مصائرهم، وتبدل من أحوالهم!
93
وأنهم إذا شاقهم لقاء تلك القوى الغيبية أطلعوها بقدر، للتسلية والترفيه، ثم أرسلوها لتعود من حيث جاءت! والسؤال هنا هو: ترى لو جاء «الله» إلى الناس اليوم فى صورة إنسان من الناس، يعرفون وجهه، وليدا وطفلا، وصبيا، وشابا، وكهلا.. ثم دعاهم هو، أو دعاهم داع غيره إلى الإيمان به إلها، والتعبد له ربا- أكان يجد من الناس أذنا صاغية، وقلبا واعيا، لتلك الدعوة؟ ربما كان بعض الأغرار، وأصحاب الأهواء والبدع، ممن تستهويهم المواقف الشاذة، وتروقهم الانحرافات والشطحات- ربما كان بعض هؤلاء وأولئك يلتفتون إلى هذه الدعوة، ويستجيبون لها.. ولكنهم مهما بلغ عددهم، يظلون فى عزلة عقلية واجتماعية عن المجتمع الإنسانى العصرى.. لا ينظر إليهم الناس إلا نظره الشذاذ الخارجين على الجماعة الإنسانية! ينكرهم الناس أينما التقوا بهم.. ثم لا يلبث أمرهم أن ينتهى إلى ما ينتهى إليه كل أمر لا يقوم اليوم على واقع التجربة، ولا يستند إلى برهانها! والصورة التي ظهر بها «يسوع» المسيح وإن تشابهت مع هذا التصور فى بعض ملامحه، إلا أنها تخالفه من وجهين:
(الوجه الأول) هو أن «المسيح» ظهر فى عصر غير هذا العصر.. فى عصر كانت فيه صور الآلهة البشرية تعيش فى تفكير الناس، وفى أحلامهم، لا ينكرونها إذا هى التقت بهم، وتحدثت إليهم.. فلطالما التقى آباؤهم بالآلهة، وتحدثوا إليهم وتعبّدوا لهم، ولا تزال وجوه هذه الآلهة وأشباحها تطلّ عليهم من قريب! (والوجه الثاني) هو أن ألوهية المسيح لم تعلن إلى الناس وهو حىّ قائم فيهم، حتى كان يمكنهم أن يعيدوا النظر إليه، ويملئوا عيونهم منه، وهم يلتقون به
94
على تلك الصفة.. وإنما كان ذلك بعد أن انتهي المسيح تلك النهاية المعروفة..
فقيل للناس بعد هذا: إنه بعد أن صلب عاد إلى الحياة.. وصعد بعد أربعين يوما إلى ملكوته السماوي الذي نزل منه! وهنا تكثر الأحاديث عن «المسيح» وعن شخصيته! إنه ليس مجرد إنسان! وشاهد ذلك معجزاته الكثيرة التي عرفها الناس منه فى حياته..
وإنه ابن الله!.. وشاهد هذا أنه ولد من عذراء! فليس «يوسف النجار» أباه، وإنما هو زوج أمه! وإنه هو الله ذاته! شاهد ذلك أنه أمات نفسه ثم أحياها.. والله وحده هو الذي يحيى ويميت، ويميت ويحيى! «يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ» ! وهكذا استدبر الناس حياة «المسيح» إلها، بعد أن استقبلوا حياة المسيح إنسانا بشرا! وبهذا لم يكن للشاهد أكثر مما للغائب فى شأن البحث عن ألوهية المسيح والتحقق منها.. إذ أن الذين شاهدوا المسيح لم يكن يقع لتفكيرهم أنهم يعيشون مع إله، ويتحدثون أو يستمعون إلى إله.. وإنما هم مع إنسان، وإن عظم فى الناس أمره، وسما قدره.. فهم والذين لم يروه على سواء، فى التحقق من الصفة الجديدة التي كان عليهم أن يروه من خلالها.. إنهم يستعيدون ذكريات، ويتذكرون أحداثا، على حين يطالع غيرهم- ممن غاب عنهم شخص المسيح- تلك الذكريات، وهذه الأحداث، مسطورة فى كتب، مصورة فى رسائل! وأين الإله إذن فى هذا الإنسان «يسوع» ؟
إن أحدا لم يره إلها، ولم يتعامل معه كإله، وإلّا كانت قد دارت الرءوس وجنّ جنون الناس!
95
فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد تخريجات وتأويلات، لذكريات وأحداث، وأخبار، عن تلك الذكريات وهذه الأحداث! فالله الذي تجسد فى «يسوع» المسيح لم يعلن نفسه للناس الذين ظهر فيهم وولد وعاش، وصلب، وقام من الأموات بينهم! وإنما كان هذا الإعلان بعد أن ترك «الله» هذا الجسد، وزايل هذا المكان الذي كان فيه! هذه واحدة! وأخرى، يقف العقل إزاءها متسائلا:
لماذا ظهر الله فى هذا الجسد المحدود؟ فى هذا الزمن المحدود؟ فى هذا المكان المحدود؟
إنه لو كان يريد أن يكشف ذاته للناس لكان غير ذلك أولى به وأجدى!! كان ينبغى مثلا أن يظهر ظهورا متجددا متكررا.. فى أجساد كثيرة، وفى أمكنة متعددة، وفى أزمنة متجددة، حتى يستطيع الناس أن يأخذوا جميعا حظهم من هذا الإعلان.. إن كان لهذا الإعلان حكمة، وكان له أثر! ولا بد أن يكون له حكمة وأثر، وإلا لما كان هناك داعية له.
إن مثل هذه الاعتراضات قد دارت فى كثير من الرءوس التي واجهت تلك المقولات التي تقال فى المسيح، وفى تجسد الله فى الجسد الذي اتخذه من عذراء! وقد أجاب عليها الذين آمنوا بهذه المقولات، ورضوا بها واطمأنوا إليها..
وإنه لا بأس من أن نعرض هنا نماذج من تلك الاعتراضات، ودفع المعترضين عليها، ثم تعليقنا على هذه الدفوع.
اعتراض: - «إن الأنبياء كانوا يقومون بإعلان الله للبشر وهدايتهم
96
إليه.. لذلك لم يكن هناك داع لأن يقوم الله تعالى بمهمة كان يقوم بها نفر من عبيده! فما تأويل هذا؟».
وجواب: «إن الأنبياء لم يعلنوا للبشر ذات الله، بل قاموا فقط بتبليغ أقواله لهم.. إذ فضلا عن أنهم مثل غيرهم من الناس، غير معصومين من الخطيئة، الأمر الذي لا يجعلهم أهلا لإعلان ذات الله، فهم أيضا محدودون فى ذواتهم، والمحدودون لا يستطيعون أن يعلنوا غير المحدود.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن غرض التجسّد لم يكن مجرد إعلان ذاته لليشر، بل الظهور بينهم بحالة مدركة لهم، لكى يستطيعوا معرفته والاقتراب منه، والتوافق معه- اتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له إطلاقا» «١».. والذي يرد على هذا الاعتراض هو رجل من رجال الدين المسيحي! وعالم من علماء المسيحية «٢».
وتعليق: وندع مقولته فى عصمة الأنبياء، وأنهم لهذا ليسوا أهلا لإعلان ذات الله.. ونسأل ما الغاية من إعلان ذات الله؟ وما أثر هذا لإعلان؟ ألا يكفى الإعلان عن آثاره، وأعماله، لتكون عند الناس شاهدا على وجوده، وعلى ماله من صفات الجلال والكمال؟
إن الناس يتمثلون ذوات القادة، والزعماء، والعلماء فى آثارهم وأعمالهم، دون أن يروهم أو يتصلوا بهم.. ومع هذا يحبّون منهم من يحبون، ويطيعون من يطيعون، وينقادون لمن ينقادون، بقدر ما يقع فى نفوسهم مما لهم من آثار وأعمال!..
ثم ألا يكون هذا الوجود كله، بما فيه من آيات، وما يشتمل عليه من عجائب وأسرار تقف أمامها العقول مشدوهة، وتنظر إليها الأبصار خاشعة-
(١- ٢) الله- طرق إعلانه عن ذاته للأستاذ عوض سمعان ص ٨٢ وما بعدها.
97
ألا يكون هذا إعلانا واضحا عن الله؟ ثم ألا يكون فيما يجىء به رسل الله وأنبياؤه من دعوات تكشف عن هذا الوجود، وتجلّى للأبصار والعقول ما غشّى عليها الجهل والضلال منه- ألا يكون فى هذا ما يكشف للناس عن وجود الله، وعظمة الله، وجلال الله، حتى يجىء الله نفسه للناس ليقول لهم: ها أنا ذا؟
اعتراض آخر.. يقول: إن التوافق مع الله لا يتوقف على رؤيته بالعين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله، ولذلك لم يكن هناك داع لأن يتجسد الله.. إذ أنه موجود فى كل مكان.. وفى أقواله لنا ما يكفى نفوسنا لإدراك كل شىء عنه وبالتالى للتوافق معه! وجواب: «حقا إن التوافق مع الله لا يتوقف على رؤية العين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله.. لكن هل تستطيع النفس أن تدرك شيئا عن الله من مجرد السمع أو القراءة عنه؟ الجواب: طبعا لا، لأن النفس كما قلنا محدودة، والله غير محدود، والمحدود لا يدرك من تلقاء ذاته غير المحدود، لذلك كان من البديهي أنه إذا أراد الله أن يجعل ذاته مدركا لنفوسنا- وعمل مثل هذا يتفق مع ذاته وصفاته كل الاتفاق- أن يظهر لنابهيئة محسوسة، نستطيع عن طريقها الاتصال به، وهذه هى الهيئة التي تنازل واتخذها، له المجد!» «١».
وتعليق: هذا الجواب ليس بالذي يسدّ هذه الثغرة التي أوجدها الاعتراض، الذي يجاب عليه بهذا الجواب! فإذا كان الإيمان بالله لا يكمل ولا يتم بمجرد السمع أو القراءة عن الله، بل لا بد من رؤيته مجسسدا، فمعنى هذا أن جميع الذين لم يروا الله مجسدا فى المسيح هم على تلك الصفة.. إيمانهم ناقص، لا يتم إلا برؤية الله مجسدا فى المسيح،
(١) المصدر السابق.
98
ومعنى هذا أيضا أن إيمان جميع الذين سبقوا المسيح من الأنبياء والرسل وأتباعهم إيمان ناقص، وكذلك إيمان أتباع المسيح جميعا الذين لم يروه رأى العين! فما الجواب؟ وأظن لا جواب! اعتراض ثالث: «إن كان ولا بد من تجسّد الله.. فلماذا لم يظهر بالهيئة التي تليق بمجده وبهائه، حتى تهابه الناس وتخضع له؟» وجواب: «إن غرض الله من التجسد، لم يكن لإظهار عظمته، أو إثارة وإعجاب الناس به (لأن تصرفا كهذا لا يصدر إلا من الناقص، الراغب فى تعظيم الناس له) بل هو جمعهم حوله لكى يمتّعهم بحبّه وعطفه، ويخلصهم من خطاياهم وضعفتهم، حتى تكون لهم معه حياة روحية سعيدة، وبما أنه لو كان تعالى قد ظهر لهم بهيئة تناسب مجده الأزلى لارتعب الناس منه، ولما استطاع واحد منهم أن يدنو إليه- كان البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، وهى الهيئة البشرية، لكى تتحقق أغراضه هذه، كما أنه لو كان قد تجنب الظهور بمجده الخاص الذي يرعب الناس، وظهر فقط بإحدى مظاهر العظمة الأرضية، لحرم متوسطو الحال والفقراء من التمتع به، وهؤلاء- كما نعلم- هم السواد الأعظم من البشر، وهم فى جملتهم أكثر من الأغنياء استعدادا لمعرفته والسير فى سبيله، لذلك كان من البديهي أيضا ألا يظهر بأى مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية كذلك، بل يظهر بالمظهر العادي، الذي ظهر به فعلا، لأنه هو الذي يفسح المجال أمام جميع الناس للاقتراب إليه والاتصال به، والإفادة منه «١».
وتعليق وهذا الجواب أيضا أبعد من أن يدفع الاعتراض المعترض به..
فالله إذ ظهر هذا الظهور الذي هو أقرب إلى الخفاء والتستر، منه إلى أي
(١) المصدر السابق ص ٨٥.
99
شىء آخر، إذ لم ير الناس- الذين رأوه شيئا منه.. إنهم لم يروا إلا إنسانا..
مجرد إنسان يقال عنه، أو قيل عنه- فيما بعد- إنه هو الله! فأين الله الذي رآه الناس على أنه الله- وأين الناس الذين رأوه على تلك الصورة؟ لا جواب!.
ثم إن الذين رأوه، هم قلّة فى الناس، لا يكادون يذكرون إلى تلك الأعداد التي لا حصر لها من الذين لم يروا المسيح، ولم يضمهم إليه، ويمتعهم بمحبته! واعتراض رابع: إذا كان المسيح هو الله.. فلماذا لم يعلن ذلك صراحة أمام الناس، حتى يؤمنوا جميعا به؟».
وجواب: «لا يخفى لدى العاقل أنه لو كان المسيح قد أعلن للناس عن حقيقة ذاته قبل أن يختبروها بأنفسهم، لكانوا قد اعتبروه محترفا ومدعيا، ولما كانوا قد آمنوا به إطلاقا.. لكن شاء أن يستنتجوا هم حقيقة ذاته، من حياته، وأعماله، لكى لا يكون إيمانهم به نظريا أو سماعيا، بل إيمانا اختباريا عمليا...
«ومع كل فقد أعلن السيد المسيح عن حقيقة ذاته بكل صراحة للذين كانوا يشكّون فى شخصيته، أو لا يستطيعون الكشف عنها..
فقد قال مرة لأعمى كان- له المجد- قد شفاه: «أتؤمن بابن الله؟»
فلما سأله هذا: «من هو يا سيد لأومن به؟ أجاب- له المجد: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو» فقال له الأعمى: أو من يا سيد، وسجد له «١» ».
وتعليق: المسيح، كما هو ظاهر من هذا القول، لم يعلن أنه هو الله، بل قال إنه «ابن الله». وللبنوة هذه معنى كان معروفا عند الناس إذ ذاك فى
(١) المصدر السابق ص ٨٨.
100
الكتب المقدسة.. وطبيعى أن هذا الأعمى لم يكن عنده علم بالأقانيم الثلاثة التي يمثل الابن وجها من وجوه الله بها.. والتي عرفت بعد ذلك بزمن طويل.
فإذا اعترف بأن المسيح ابن الله، كان اعترافه بأن المسيح ذات مستقلة عن الله.. فالمسيح ابن، والله أب.. والأب غير الابن..
أما القول بأن المسيح لم يعلن عن ألوهيته حتى يختبرها الناس فى أعماله وآثاره، فقد كانت نتيجة هذا الاختبار هو صلب المسيح كما يؤمن بذلك الذين آمنوا بألوهيته.. وهى نتيجة ناطقة ببطلان هذا القول..
واعتراض خامس: «إن كان ولا بد من تجسد الله، فلماذا لم يظهر فى العالم رجلا كامل النمو، بدلا من ولادته من امرأة، ومروره فى أدوار الطفولة والصبا، التي لم يفعل فيها شيئا مذكورا؟».
وجواب: «إن السنّة التي وضعها الله للأفراد والجماعات هى النمو والتقدم، وبناء على ذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح- وقد رضى أن يكون إنسانا- طفلا، يتدرج فى النمو، قامة وعقلا، وتتدرج معه الجماعة المحيطة به يقظة ووعيا، تتهيأ بسببه لقبول المسيح والاستماع إليه..
كما أننا إذا وضعنا قبلة أنظارنا أن غرض الله من التجسد لم يكن مجرد إعلان ذاته لنا، بل الاتحاد الجوهري بنا، لكى يكون الرأس الفعلى أو الحقيقي لجنسنا (عوضا عن آدم الأرضىّ الذي بانتسابنا إليه، وتوالدنا منه قد ورثنا الطبيعة الخاطئة، وورثنا معها قضاء الموت الأبدى) حتى نستطيع بدورنا أن نتحد بالله اتحادا عمليا حقيقيا- اتضح لنا أنه لو كان قد ظهر كامل النمو، أو بتعبير آخر ظهر دون أن يأخذ جسدا من جنسنا، لكان قد ظل غريبا عنا، ومفارقا لنا، وبالتبعية لما كان رأسا لنا، ولما كان لنا نحن صلة فعلية به، لكن بتفضله بالولادة من جنسنا، قد اتحد بنا، وأصبح لنا بدورنا أن نتحد به، اتحاد
101
الأغصان بالكرمة، وبذلك تحققت أغراضه السامية بالتجسد «١» ».
وتعليق: لقد انحرف هنا الجواب أيضا عن الرد المباشر على الاعتراض..
وهو لماذا لم يظهر «الله» حين تجسد، رجلا كامل النمو، بدلا من أن يمر فى تلك الأدوار التي مرّ فيها. ؟ وقد أجاب المجيب إجابة متهافتة، وإذ شعر بهذا، فقد اتجه اتجاها آخر بالإجابة على هذا الاعتراض، وهو أن الله قد اتحد بجنسنا لكى نتحد نحن به، لأن الجنس أشكل بجنسه! وكان على المتصدّى للرد على هذا الاعتراض أن يعلل لتجسد الله- لا فى جسد إنسانى وحسب- بل وبمرور هذا التجسد فى جميع أدوار الحياة الإنسانية من الميلاد إلى الممات.! ولو أنه فعل لوجد أن المسيح الذي تجسد الله فيه قد مات شابا، فلم يمرّ فى أدوار الكهولة، والشيخوخة! وكان منطق الردّ يقضى بأن يمر المسيح أو الله المتجسد فى المسيح، فى جميع هذه الأدوار، حتى يلبس الإنسانية كلها، وبهذا يمكن أن يكون رأسا لها! ثم ماذا يقول المجيب على هذا الاعتراض، عن حياة المسيح فى رحم أمه، ثم فى دور طفولته، وهو فى قيد الضعف والعجز، لا يملك من أمر نفسه شيئا... ؟
واعتراض سادس: «إذا كان المسيح هو الله.. فلماذا ظهر فى أماكن محدّدة، ولم يظهر فى جميع الأمكنة، حتى يراه جميع الناس، ويؤمنوا به؟
وجوابه: إذا رجعنا إلى العصر الذي عاش فيه المسيح على الأرض، وجدنا أن الشعب الوحيد الذي كان يؤمن بالله إيمانا خالصا من كل زيغ، هو الشعب
(١) المصدر نفسه ص ١٠٠.
102
اليهودي، ولذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح بوصفه «الله المتأنّس»، بين اليهود لأنهم أقرب الناس إلى الإيمان به «١» !.. وكان من البديهي أيضا أن يظل بينهم حتى يعرفوه حق المعرفة، ويؤمنوا به كل الإيمان، ولكن لما رفضوه على الرغم من الأدلة الكتابية والاختبارية التي تثبت حقيقة ذاته «٢» - اختار من بينهم أشخاصا كانوا أكثر استعدادا من غيرهم لمعرفته والتوافق معه، وقضى مدة طويلة فى تدريبهم وتعليمهم «٣»، حتى عرفوا بعد قيامته من بين الأموات حقيقة ذاته كل المعرفة «٤»، ثم كلفهم بعد ذلك أن يحملوا رسالته، ليس إلى اليهود وحدهم، بل إلى كل الأمم (متى ٢٨: ١٨) [وهذا يناقض ما نطق به المسيح: «إلى أمم لا تمضوا: [متى ١٠: ٥] «وإذا أضفنا إلى هذا: (أولا) أن فلسطين التي ظهر فيها المسيح لم يره كل شخص من سكانها، بل إن كثيرين لم يروه إطلاقا، وأنه لو كان قد انتقل إلى كل بلاد العالم لكان كثيرون أيضا من سكانها لا يرونه. و (ثانيا) أن معرفة الله فى المسيح لا تتوقف على رؤية العين، بل على الإيمان به بالقلب، وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه، إذا كانوا قد
(١) وشاهد هذا أنهم كذبوه، وبهتوه، وطعنوه فى شرف مولده، وفى عفة أمه.. ثم ساقوه إلى الصلب، فصلبوه!! كما يقولون.
(٢) ومفهوم هذا أن الله قدر فلم يحسن التقدير، واختار فلم يحسن الاختيار، وهل يكون «الله»
الذي يلبس ثوب الإنسان، ويضع نفسه فى إهابه منزها عن هذا النقص؟
(٣) انظر إلى «الله» هذا الذي يعانى ما يعانى فى تعليم الناس وتدريبهم..
أهو يخرج عن طبيعة البشر العاجزين الضعفاء؟
(٤) انظر كيف عجز «الله» هذا، عن أن يعرف نفسه للخاصة الذين اختارهم من بين البشر إنه لم يستطع أن يعرفهم به إلا بعد أن مثل أمامهم عملية الموت فى نفسه، فمات، وقبر، ثم قام من الأموات!
103
آمنوا به!! ويستوى الذين رأوه والذين لم يروه إذا كانوا لم يؤمنوا به!».
وتعليق: ونقف عند هذا المقطع الأخير من الجواب.. ونسأل: إذا كانت معرفة الله لا تتوقف على رؤيته بالعين، بل على الإيمان به بالقلب- وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه من المؤمنين به وغير المؤمنين- فلماذا إذن هذا التجسد لله؟ وما حكمته، إذا كان يستوى فى ذلك الذين رأوه والذين لم يروه؟ ثم لم هذه البلبلة وهذا الاضطراب، وهذه الفتن التي تجىء من وراء القول بتجسد الله؟ وإن أقلّ ما فيه أنه يفتح باب الادعاء على مصراعيه، لكل من يدّعى أنه الله، وأن الله قد تجسّد فيه! وفى هذا ما فيه من التعمية على الناس، والتشويش على المؤمنين بالله!؟
واعتراض سابع: «إن تجسد الله، إما أن يظل إلى آخر الدهور، فتدوم فوائده، وإما أن يكون مؤقتا، وحينئذ لا يكون هناك مبرر لتمتع جيل خاص برؤيته فى الجسد، دون غيره من الأجيال».
وجوابه: «بما أنه مع ظهور الله فى الجسد فى العالم، ورؤية الناس لأعماله ومعجزاته، استمر معظمهم فى شرورهم وآثامهم. وبما أنه تعالى يريد أن يكون الإيمان به مقترنا كل الاقتران بحياة القداسة.. وبما أن حياة القداسة لا تتأتّى بواسطة الاقتناع النظري بحقيقة الله، بل بواسطة الاتصال الروحي به.. وبما أن هذا الاتصال لا يتولد عن النظر إليه بعين الجسد الخارجية، بل عن النظر إليه بعين الإيمان الباطنية- إذن كان من البديهي أن يقتصر الرب فى أمر ظهوره بالجسد على المدة التي قضاها فى العالم (وهذه والحمد لله-
104
يقول المؤلف- كانت كافية كل الكفاية لإثبات شخصيته، وإظهار محبته للبشر أجمعين، حتى تكون علاقتهم به ليس العلاقة الجسدية، بل العلاقة الروحية... ) «١».
والتعليق: وإذن فقد كان ظهور الله متجسدا فى تلك المدة المحدودة، فى الزمان والمكان- كان ذلك لمجرد إثبات شخصيته! ولكن لمن؟
لجماعة معدودة من الناس.. فى جيل محدود من أجيالهم، وفى رقعة محدودة من أوطانهم.. وإذن فقد كان على الله أن يقدّم «بطاقة» شخصية إلى كل إنسان، فى كل زمان، وفى كل مكان.. وإلا كان من حق الناس أن يجهلوه ولا يعترفوا به! مشكلات كثيرة أثارها تجسّد الله فى المسيح.. فى إنسان معروف للناس، رأوه رأى العين، يعالج من شئون الحياة ما يعالجون، ويأتى ما يأتون، ويذر ما يذرون.. ثم يعود فيطلع عليهم من عالم الأموات، فإذا هو الله «رب العالمين!!» كان يمكن أن تكون هذه الدعوى أكثر احتمالا، وأقرب إلى الواقعية لو أن الناس قد التقوا بدعوى ألوهية المسيح حال حياته، حيث يتاح لهم النظر إليه من قرب، واختبار أحواله عن واقع.. وأدخل من هذا فى باب الاحتمال والواقعية لو أن المسيح لم يلتق بالناس ولم يلتق به الناس إلا رجلا كاملا، لم يروا فيه ضعف الطفولة، وعجزها، وتحكّم الضرورات الإنسانية فيها، وخضوعه خضوعا مطلقا ليد من يرعاه ويقوم بأموره!
(١) الله- طرق إعلانه عن ذاته ص- ١٠٤.
105
وقد رأينا الدفوع التي دفعت بها هذه الاعتراضات وأشباهها، وأنها كانت دفوعا هزيلة متهافته، لا تغنى من الحق شيئا، ولا تزيد الأمر إلا غموضا على غموض، وشبها فوق شبه! حلّ أضاف إلى المشكلة مشكلات:
وأمر آخر من أمر المسيح «الإله» زاد العقدة عقدا، وأضاف إلى المشكلة مشكلات.. وهو هذا الفهم الجديد للألوهية، ذلك الفهم الذي لم تعرفه الدعوات السماوية من أمر الإله، فى هذا الوصف الكاشف لذاته، والتشريح المكيّف لتلك الذات.. حيث ظهر القول بتلك الأقانيم أو التعيّنات الثلاثة «لله» واعتباره ثلاثة فى واحد، وواحدا فى ثلاثة.. هم: الأب، والابن، وروح القدس! هذه المقولة قد وضعت المسيح «الله» وضعا جانبيا فى الذات الإلهية..
فلم يكن هو «الله» «كلّ الله» وإنما هو «الابن» ظاهرا، ثم هو فى الوقت نفسه الأب والروح القدس، قائما وراء هذا الظاهر! إنها عملية معقدة! وحلقة مفرغة لا يدرى أحد أين طرفاها!! فالمسيح إنسان، وإله..
إنسان كامل.. وإله كامل..
وانظر كيف يجتمع الإنسان والإله فى كيان واحد!.. شخصية مزدوجة، وجهها إله، وظهرها إنسان! والمسيح.. ابن، وأب، وروح قدس! والابن هو الله..!
والأب هو الله..!
106
وروح القدس هو الله! والأب، والابن، وروح القدس، وهم الله! إنها ألغاز وطلاسم، لا يمكن أن يتصورها العقل إلا إذا اصطنع لها التشبيهات، والتخيلات! ولعل أقرب صورة تمثل هذا المفهوم لله، هو القمر، ومنازله المختلفة..
فالقمر يكون هلالا.. فبدرا.. فمحاقا..
وهو هو القمر.!
فإذا كان هلالا ففى كيانه البدر والمحاق! وإذا كان بدرا فمن ورائه المحاق والهلال! وإذا كان محاقا.. فبين يديه الهلال والبدر! ومع هذا فإن الناس لا يقولون عن الهلال إنه بدر أو محاق. ولا يقولون عن البدر إنه محاق أو هلال.. إن لكل وجه من هذه الوجوه مفهوما خاصّا عند الناس! ولكن لو كان لله تعينات، ووجوه كوجوه القمر، فإن معنى هذا أن «الله» متحول متغيّر.. يلبس أثوابا مختلفة، ويبدو فى وجوه متعددة! والمؤمنون بالله- ومنهم أتباع المسيح- مؤمنون بأن الله لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا يتحول من حال إلى حال أبدا! ثم من جهة أخرى... لا يرى الذي يؤمن بألوهية المسيح- على هذا المفهوم- إلا وجها واحدا من «الله» وهو وجه «الابن» أو أقنوم الابن..
ولهذا فإنه يحدّق دائما فى هذا الوجه، ويتعامل معه، دون أن يكون للوجهين الآخرين حساب أو تقدير، فى مجال الشعور والوجدان، وإن كان لهما فى مجال
107
البحث والدرس حساب وتقدير عند من لهم قدرة على البحث والدرس! إن «المسيح» الذي يمثل أقنوم «الابن» فى «الله» هو وحده الذي يتعامل معه أتباع المسيح.. فهو الله المسيح! وهو الله الابن! أما «بقية» الله، أو الجوانب الأخرى من الله، فهى شىء وراء هذا الحساب، وهذا التقدير!! والشعور الذي يقوم فى كيان «المؤمن» بالله على هذا الوجه، شعور يتسلط عليه إحساس منه، بإيثار بعض «الله» على بعض، وأن الله أبعاضا.. هذا التصور، لا يمكن أن يتخلّص من الإحساس به أي مؤمن بالله المسيح، ولو حاول ذلك وأجهد نفسه فى المحاولة! فالمؤمن بالله المسيح، إنما يعنيه من الله هذا الوجه المطل عليه فى شخص المسيح، وهو أقنوم «الابن» الذي تجسد الله به فى هذا الجسد! ألم نقل إن الحلّ الذي أريد به إيجاد تسوية لألوهية «المسيح» قد أضاف إلى المشكلة مشكلات، وزاد عقدها عقدا؟
وبلى! فإن القول بأن المسيح هو «الله».. كلّ الله.. بجميع صفاته وأقانيمه، وتعيّناته- هذا القول أقرب إلى العقل من القول بأن «المسيح» هو الله متجسدا فى أقنوم «الابن» دون الأقنومين الآخرين اللذين يقال إنهما لله، وهما الأب وروح القدس! إن القول بتجسد «الله» فى أقنوم الابن، الذي منه كان المسيح، ثم القول بأن المسيح هو الله- يجعل المسيح ذا صور ثلاث: إنسانا، وإلها وبعض إله.
108
وهذه الصور الثلاث تتخايل دائما- مجتمعة ومتفرقة- فى عينى من يعتقد فى ألوهية المسيح.. فكلما ذكر المرء «المسيح» وقعت فى تصوره هذه الصور الثلاث.. تجتمع، وتتفرق، ويختلط بعضها ببعض، فتتشكل منها صور وأشكال..!
العقل.. والمسيح الإنسان:
الوجه الإنسانى فى المسيح، هو أبرز هذه الوجوه الثلاثة، التي تتخايل منه، لمن ينظر إليه على اعتبار أنه «الله» «مصمتا» مجملا، أو الله «مفككا» مفصلا.!
فالمسيح الإنسان قد رآه الناس رأى العين، وقد وصفه الواصفون وصف رؤية وعيان.. فهو حقيقة ماثلة فى عين من يؤمنون بألوهيته.. فضلا عن الذين لا يؤمنون به إلها!! وقد استجاب المؤمنون بالمسيح الإله، لهذا المعطيات التي أعطاها الشهود الحسّى لهم منه، فتمثلوه- وهو الله- حاضرا معهم فى جسده، الذي رأوه رؤية بصرية، أو خبرية.. فصوروه. وصنعوا له التماثيل، وليدا، ومصلوبا، وصاعدا إلى السماء. بعد قيامته من الأموات! إن المسيح الإنسان هو الذي يملأ قلوب المؤمنين بأنه هو الله، وإنهم- مهما جهدوا- لن يستطيعوا أن يتمثلوا الله فى حال من الأحوال، إلا فى صورة المسيح الإنسان الذي رأوه فى صوره المختلفة التي تمثلوها له، وصوروه، أو مثلوه عليها! ولهذا فقد غلبت صورة المسيح الإنسان على كلّ تصور لله، ولهذا أيضا كانت صورة «المسيح» الإنسان فى عينى، وفى قلب كل مؤمن بأنه «الله».
109
ونسأل:
وماذا لو استقام المسيح على وجه واحد.. فكان إنسانا لم يخالطه شىء من الألوهية، أو كان إلها لم تشبه شائبة من البشرية؟ إن أعدل صورة للإنسان هو أن يكون إنسانا فى كل شىء.. فى ظاهر أمره وباطنه جميعا.
فأعضاؤه، وحواسّه، إذا خرج منها شىء عن حدود البشرية، ومألوفها..
فسد أمره، واضطرب وجوده بين الناس! وانظر كيف يكون حال إنسان له رجل واحدة بدل اثنتين، أو كان له أربع عيون بدلا من عينين، أو أن عينيه ركبتا فوق رأسه، أو أن حاسة بصره كانت أشبه بالمجهر، أو أن حاسة سمعه كانت كمكبرات الأصوات.. أترى مثل هذا الإنسان يهنؤه طعام، أو يستقيم له أمر؟
وقل مثل هذا فى كيانه الداخلى.. فى عواطفه ونوازعه، وفى أفكاره وخواطره.. إنه إن خرج فى شىء من ذلك عن حدود البشرية، فى أعلا ذراها، أو أدنى مستوياتها، تعس وشقى! إن الغراب الذي يلبس جلد الطاووس.. ليس غرابا، وليس طاووسا.. بل ليس من عالم الطير إطلاقا! والمسيح- صلوات الله وسلامه عليه- تحدّث سيرته عن إنسان كرم فى الإنسانية غرسه، وطاب ثمره، فكان غرّة فى جبينها، ودرة فى تاجها، ونجما لامعا فى سمائها، ومصباحا هاديا فى أرضها.. هيهات أن تلد الأمهات من يدانيه، نبلا، وطهرا، واستقامة وعفّة.. إلا من كان من الصفوة المتخيّرة من رسل الله وأنبيائه! فالمسيح- الإنسان- أمل من آمال الإنسانية، ومنزع من منازعها،
110
وحلم من أحلامها.. قد ظفرت به حقيقة واقعة، فرأت فيه الإنسان كيف يستعلى على شهواته، وكيف يقهر هواه، وكيف يبلغ به خلقه فى العالم الأرضى ما لا تبلغ الملائكة فى عالمها العلوي! وإنه لكسب عظيم للإنسانية أن يكون «المسيح» الإنسان واحدا منها، إذ به وبمن شابهه أو داناه، من الأنبياء، والحكماء، والقادة، والمصلحين- تثقل موازين الإنسانية، ويرتفع قدرها، ويستقيم خطوها، وتثبت أقدامها على طريق الحق، والخير، والسلام! وانظر كيف يكون حال الإنسانية من الجدب والعقم، فى خلقها، وفى تفكيرها، لو أن هؤلاء العباقرة، وأولئك الرءوس الشوامخ الذين تلدهم الحياة بين الحين والحين- أضيفوا إلى عالم غير عالم البشر، فكانوا من الجن، أو الملائكة، أو الآلهة.. أو أي خلق آخر مما يكبر فى صدور الناس؟
إن هذه الفتوح العظيمة التي حققتها الإنسانية على هذه الأرض، فى ميادين العلم والفنّ، وما أخرج العلم والفن من ثمرات عمرت بها الحياة، وقامت بها تلك الحضارة التي تملأ وجوه الأرض، حياة وعمرانا- هذه الفتوح العظيمة هى من صنع الإنسان، ومن وحي العباقرة والملهمين من الناس! فلو أن الإنسانية لم تلد هؤلاء العباقرة والملهمين من أبنائها، لظلت تحبو فى طفولتها، وتعيش فى هذا المستوي الطفولىّ، الذي لا يرتفع بها كثيرا عن مرتبة الحيوان! وحول الإنسانية، وفى محيطها قوى غيبية لا حدّ لقدرتها، ولا نفاد لحولها وقوتها.. كالجن والملائكة مثلا.. ومع هذا فإن الإنسان لم يفد منها شيئا، فى صراعه مع الحياة، ولا فى غزواته لكشف أسرارها!.
ولقد تتعلق عيون الناس وآمالهم قرونا وأجيالا طويلة بهذه القوى الغيبية
111
تريد عونها ومساندتها، فى الإمساك بسفينتها المضطربة بين متلاطم الأمواج..
ولكن الذي كان يطلع على الإنسانية دائما، هو واحد من أبنائها، يستجيب لندائها، ويحقق ما اتجهت إليه أنظارها، وتفتحت له آمالها..
ولو ارتفع المسيح إلى مرتبة الألوهية، وخرج من حساب الإنسانية، لخفّ ميزان النّاس، ولحرموا هذا الخير الكثير الذي يجدونه فى تلك الكلمات المشرقة المسعدة، التي تطلع عليهم من فم إنسان، ومن قلب إنسان، ومن تفكير إنسان ثم لمّا نزعت بهم نازعة إلى تمثّل سيرته، واقتفاء أثره، إلا إذا حسبوه فى سجلّ الإنسانية، وعدوّه إنسانا من الناس.. أما إذا أضيف إلى الآلهة، وحسب فى عدادها، فلا يقع فى نفس إنسان أن يتشبه به، أو يحذو حذوه.. فذاك إله، وهذا إنسان.. وأين الإنسان من الإله؟
لذلك طريق ولهذا طريق!.
والأمر أكثر من هذا خسارة على الإنسانية وتفويتا لما يرجى لها من خير.. لو أن «المسيح» كان هو «الله» الذي يؤمن به المؤمنون، ويتعبّد له المتعبّدون! وانظر كيف يكون هذا الحساب! إنّ «الله» الذي يؤمن به المؤمنون.. أزلىّ أبدى.!
فهو هو لم يتغيّر ولم يتبدّل، ولن يتغيّر أو يتبدل، ولم يزد ولم ينقص، ولن يزيد ولن ينقص! و «المسيح» الذي ظهر فى فترة ما، لأعين الناس الذين رأوه، ليس إلا «الله» الأزلى الأبدى.. على ما يؤمن المؤمنون بألوهيته..
وظهور الله فى هذا «الجسد» لم يغيّر من ذات الله شيئا!
112
فالله هو الله- فى جسد المسيح، وفى غير جسد المسيح.. أو فى أي جسد آخر..
بشرى، أو غير بشرى!.
وإذن فليس هنا «الله» و «المسيح»..
وإذن- أيضا- فلا ذات إلا ذات واحدة، تمثلّ الألوهية، هى:
الله أو المسيح!.
فالله- كما قلنا- ذات واحدة، لم ولن تتبدل أو تتغيّر، ولم ولن تزيد أو تنقص، وهذا هو ما يقول به أتباع المسيح.. كما يقول به المؤمنون بالله.
فالقول بألوهية المسيح، وبأنه الله، قول لا يدخل منه على الألوهية شىء، فلا يضيف إلى ذات الله بهاء، ولا جلالا، بل إن العكس هو الصحيح، إذ نزل بقدر الله، وعفّر ذاته بتراب الأرض، وعرض وجهه للبصق والصّفع، وأقام جسده على الصليب مشدودا، تدقّ يداه وقدماه بالمسامير، ويستسقى فيسقى المرّ المذاب، ويصرخ صرخات ضارعة مستيئسة، ولا راحم، ولا مجيب! وتعالى الله عند ذلك علوّا كبيرا.
إن «الله» المسيح، قد كشف فى هذه الأحوال عن إله لا حول له ولا قوة، يصارع الخطيئة التي غرسها بيده فى كيان الإنسان.. (ونعم غرسها بيده، إذ كان الشيطان هو الذي ساقه إليها، أو ساقها إليه، والشيطان من صنعة يد الله، بلا شك) ثم يحتال الله لذلك، فلا تسعفه الحيل إلا بأن يتخلّق فى رحم امرأة، ويولد منها، ويرضع من ثديها، حتى يشبّ ويكون رجلا، فيتخذ له تلاميذ وأتباعا، يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه.. ثم ينتهى أمره إلى الموت صلبا، ليكون بهذا الموت ذبيحة، لغفران الخطيئة التي أخطأها آدم فى عصيانه أمر الله!.
113
أرأيت أعجب من هذا العجب! إنسان يخطىء فى حق الله، ويخرج عن طاعته..
فلا يعاقبه الله، ولا يأخذه بجريرته! ولو وقف الأمر عند هذا الحد، لكان مفهوما مقبولا.. إنسان أخطأ، ورب غفور رحيم! ولكن الذي لا يفهم، ولا يقبل، هو أن يجىء الله، لكى يغفر جريمة هذا الإنسان، فيربّى نفسه فى حجر الإنسانية، ثم إذا أصبح «حملا» صالحا للذبح، ذبح نفسه، ليكون كفارة لهذا الذنب الذي ارتكبه فى حقه عبد من عبيده! وندع هذا الحساب المغلوط، شكلا وموضوعا.. لمن يقيم خلله، إن كان فى الناس من يحسن البناء على خواء، ويقيم صرحا فى الهواء.
ونسأل: أين «المسيح» الإنسان؟
أين ذلك الوجه المشرق الوضيء الذي طالع فيه الناس سمات الإنسانية، فى نبلها، وطهرها، وعفتها، ورحمتها، وحكمتها؟ أين ذلك الإنسان الذي عاش فى الناس فآنس وحشتهم، وفتح لهم طرقا مستقيمة إلى معالم الخير، والنور، والسلام؟
إنه لا وجود له فى عالم الناس..!
إنه لم يكن إلا «الله».. ولم تكن تلك الفترة التي رآه الناس فيها فى صورة إنسان- إلا حلما من تلك الأحلام المسعدة، التي يصحون بعدها على الواقع الذي يعيشون فيه! هكذا هو فى زى الإله الذي ألبسوه إياه.
114
إن المسيح «الله».. لا حساب له في عالم الناس.!
وإنها لخسارة فادحة محققة للإنسانية، إذ تفتقد المسيح إنسانا، حين تراه إلها..
ثم تتطلع إليه مقام الألوهية، فلا ترى له وجودا.. لأنه عاش على الأرض وصلب، ودفن فى الأرض.. وأن من كان هذا شأنه، فلن يعود إلى مقام الألوهية أبدا، على فرض أنه كان الإله، وكان الله رب العالمين..
إن مخايل الإنسانية وصفاتها، ومشخصاتها لن تفارقه بحال، ولن تزايل أنظار الناظرين إليه، والمؤمنين به على تلك الصفة..
أما الله سبحانه وتعالى، فهو الله الذي تنزّه عن التجسد والتشكل.
الله وحده.. لا شريك له! الله فى عظمته وجلاله.. قبل المسيح.. وبعد المسيح! الله الذي آمن به آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وجميع أنبياء الله، ورسله، ومن استجاب لهم، وسلك سبيلهم!
115
Icon