تفسير سورة الجمعة

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة الجمعة
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)
المراد بالنداء الأذان والإعلام، والمراد بالصلاة المنادى لها صلاة الجمعة، بدليل قوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذ غيرها من الصلوات التي يؤذّن لها لا مزية لها في يوم الجمعة عن غيره.
والأذان الذي يجب السعي عنده اختلف فيه، فقال بعضهم: المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب، ووجه هذا أنّه الأذان الذي كان على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فقد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذّن واحد، وكان إذا جلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المنبر أذّن على باب المسجد، وإذا نزل من على المنبر أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر كذلك، ويرى بعضهم أنّ السعي إنما يجب عند الأذان الأول الذي على المنارة، وهو الأذان الذي زاده عثمان رضي الله عنه، وذلك حين رأى كثرة الناس وتباعد مساكنهم، فأمر بالأذان الأول على داره التي تسمّى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام الصلاة، وفي بعض الروايات زاد الأذان الثالث، وكونه ثالثا، لأنّ الإقامة تسمّى أذانا، كما في
قوله عليه الصلاة والسلام: «بين كلّ أذانين صلاة» «١».
وهذا القول هو الظاهر من مذهب الحنفية، وهم قد نظروا فيه إلى المعنى.
وذلك أنّ المراد من النداء الإعلام، والسعي إنما يجب عند الإعلام، وقد فهم عثمان رضي الله عنه هذا المعنى، وزاد النداء الثاني ليتمكّن الناس من حضور الخطبة والصلاة من أماكنهم البعيدة، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لقرب مساكنهم من المسجد، ولأنّهم كانوا يحافظون على أن يجيئوا في أوّل الوقت- إن لم يكن قبله- محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يسمعهم
(١) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٥٧٣)، ٦- كتاب المسافرين، ٥٦- باب بين كل أذانين حديث رقم (٣٠٤/ ٨٣٨)، والبخاري في الصحيح (١/ ١٧٥)، ١٠- كتاب الأذان، ١٦- باب بين كل أذانين صلاة حديث رقم (٦٢٧).
765
فيحضرون سراعا، ويدركون الخطبة من أولها، لقرب المساكن من المسجد.
والسعي عند الأذان الثاني يفوّت على الناس سماع الخطبة التي خفّضت من أجلها الصلاة، ويفوّت عليهم السنة القبلية.
ومن يرى أنّ السعي إنما يجب بالأذان الذي بين يدي الخطيب يقول: إنّه النداء الذي كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وهو أحرص الناس على أن يؤدّي المؤمنون الواجب عليهم في وقته، فلو كان السعي واجبا قبل ذلك لبيّن لهم، ولجعل بين الأذان والخطبة زمنا يتّسع لحضور الناس، ومسألة السنة القبلية فيها كلام، وربّما كان في عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والأذان بين يديه وهو على المنبر ما يدل على أنّ السنة القبلية التي كانت في الظهر لم تعد مطلوبة في الجمعة، ومع ذلك فهي سنة، وهل يمكن أن يقال: إن السعي يجب قبل وقته لتحصيل سنة لم تثبت، ومع ذلك فالمصلي يندب له أن يجيء مبكّرا لفوائد جمة، منها أداء السنّة.
هذا وقد تكلّم المفسرون هنا في لفظ (من) وأنّها بمعنى (في) وتبعيضية، كما تعرّضوا لحركة (ميم) الجمعة، وما فيها من لغات، وفي أصل مدلولها قبل أن تكون علما، والمناسبة عند النقل، وذلك بحث لا طائل تحته بعد أن صارت الجمعة في لغاتها جميعا علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع.
وقد اختلف العلماء في أول جمعة صلّيت في الإسلام، فقد أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه، فنذكر فيه الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين، وذكّرهم، وسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا، وذبح لهم شاة، وغدّاهم، وعشّاهم منها «١».
وهذا الخبر مرويّ عن غير ابن سيرين أيضا فقد أخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء ترحّم على أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلّما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: لأنّه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات في هزم من حرّة بني بياضة، قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلا «٢».
(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٦/ ٢١٨).
(٢) رواه أبو داود في السنن (١/ ٤٠٢)، كتاب الصلاة، باب الجمعة حديث رقم (١٠٦٩)، وابن ماجه في السنن (١/ ٣٤٣)، ٥- كتاب إقامة الصلاة، ٧٨- باب فرض الجمعة حديث رقم (١٠٨٢).
766
قال الكمال بن الهمام: الظاهر من هذه الروايات أنّ صلاة أسعد بن زرارة للجمعة كانت قبل أن تفرض «١».
ويرى العلامة ابن حجر أنّ الجمعة فرضت في مكة، ولم تقم بها، إما لعدم تكامل العدد، وإما لأنّ أمرها كان على الإظهار، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان في مكة غير متمكن من الإظهار.
وقال: إنّ أول من أقامها بالمدينة أسعد بن زرارة، بقرية على ميل من المدينة، فلعلّها فرضت، ثم نزلت الآية، ولكن يمنع من هذا ما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه خطب فقال: «إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافا بها، أو جحودا لها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا برّ له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه» «٢»
. حيث ذكر في هذا الحديث أنّه لا حج له، والحج وإن كان قد اختلف في مبدأ افتراضه، إلا أنّهم صححوا أنه في السنة السادسة من الهجرة، فالظاهر أنّ الجمعة كانت بعد ذلك.
ويرى بعض آخر من العلماء أنّ أول من جمع بالناس مصعب بن عمير،
فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير: «أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقرّبوا إلى الله بركعتين» قال: فهو أول من جمع، حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة.
وقد جمع بين هذين بأنّ جمع أسعد كان بغير أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجمع مصعب كان بأمره، وأول جمعة صلّاها النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت بعد مقدمه بأربعة أيام حيث أدركه وقتها في بني سالم بن عوف، فصلّاها في بطن واد لهم، حيث خطب صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى بالناس.
وقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ السعي المراد منه المشي دون إفراط في السرعة.
أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم، فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» «٣».
(١) انظر فتح القدير للإمام كمال الدين السيواسي المعروف بابن الهمام الحنفي بيروت، دار الفكر (٢/ ٥١). [.....]
(٢) رواه ابن ماجه في السنن (١/ ٣٤٣)، ٥- كتاب إقامة الصلاة، ٧٨- باب فرض الجمعة حديث رقم (١٠٨١).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٤٢٠)، ٥- كتاب المساجد، ٢٧- باب ما يقال في تكبيرة الإحرام رقم (١٥١/ ٦٠٢)، والبخاري في الصحيح (١/ ٢٤٦)، ١١- كتاب الجمعة، ١٨- باب المشي إلى الجمعة حديث رقم (٩٠٨).
767
والمراد من ذكر الله الخطبة والصلاة جميعا، لاشتمالهما عليه، واستظهر بعضهم أنّ المراد به الصلاة، وقصره بعضهم على الخطبة.
وقد ورد الذكر في الآية مطلقا غير محدود، ومن أجل ذلك قال الحنفية: إنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمّى خطبة عرفا، لأنّ الله تعالى ذكر الذكر من غير تفضيل بين كونه طويلا أو قصيرا، يسمى خطبة أو لا يسمى خطبة، فكان الشرط هو الذكر مطلقا، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان الكيفية فهو يدل على السنية أو الوجوب، ولا ينتهض دليلا على أنه لا يجوز إلا ذلك. ودونه تبطل الخطبة، ولا تصح الصلاة، بل هو اختيار للفرد الكامل من أفراد المطلق.
والشافعية يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة، واستدلوا على ذلك بآثار وردت فيها، فإن ثبتت هذه الأدلة، وانتهضت دليلا لإثبات الشرطية، فهي الدليل.
وقد جاء في الآية الأمر بالسعي، والأمر للوجوب، فيكون السعي واجبا، وقد أخذوا من هذا أنّ الجمعة فريضة، وذلك أنّه قد رتّب الأمر للذكر على النداء للصلاة، فإذا كان المراد بالذكر هو الصلاة، فالدلالة ظاهرة، لأنه لا يكون السعي لشيء واجبا حتّى يكون ذلك الشيء واجبا.
وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط فهو كذلك، لأن الخطبة شرط الصلاة، وقد أمر بالسعي إليه، والأمر للوجوب، فإذا وجب السعي للمقصود تبعا، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب، ألا ترى أن من ارتفع عنه وجوب الجمعة لا يجب عليه السعي لها، إذا فالسعي تابع لوجوب الجمعة، والجمعة جاء طلبها والنكير على تركها في السنة، وقد انعقد الإجماع على وجوبها بشروطها.
وقد أجمعوا على اشتراط العدد فيها، بل هي ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع، وقد اختلف في أقلّ عدد تنعقد به الجمعة على أقوال كثيرة: ابتدأت من الاثنين إلى الثمانين، ولقد قيل: إنه قد زادت الأقوال فيها على ثلاثة عشر قولا.
والكلام فيها من حيث التحديد ومن حيث الأدلة يرجع [فيه] إلى كتب الفقه وكتب السنة، فإنّ الآية لم تعرض لشيء منها.
وَذَرُوا الْبَيْعَ المراد من البيع المعاملة، فهو مجاز عن ذلك، فيعم البيع والشراء والإجارة، ولقد ذهب جماعة إلى أنّ الأمر للوجوب، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء محرّما.
وقال بعضهم: هو مكروه تحريما، بل لقد زعم بعضهم أنّ الكراهة تنزيهية، بناء على أنّ الأمر للندب، ولم يرتضه كثير من العلماء، وقد قالوا: إنّ التحريم يستمرّ إلى فراغ الإمام من الخطبة.
768
وأما مبدأ التحريم فهو مبنيّ على الخلاف الذي قد علمته في المراد بالنداء، وظاهر أنّ المأمور بالسعي هو المأمور بترك البيع، وأما من عداهم فلا يشملهم الأمر، فإنّ الأمر بترك البيع إنما كان لوجوب السعي.
وقد روي عن بعض السلف أنّ ترك البيع وقت النداء واجب على الناس جميعا من وجب عليه السعي ومن لم يجب.
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي السعي إلى ذكر الله، وترك أعمالكم من أجل ذلك خير لكم وأنفع، والتفضيل باعتبار ما في المعاملة من المنافع الدنيوية، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ معناه: إن كنتم من أهل العلم عرفتم أنّ امتثال أوامر الله في الذهاب إلى الجمعة، والانتفاع بما يلقى على الناس من مواعظ خير لكم في الدنيا والآخرة.
في الدنيا حيث يبصّركم الإمام بما فيه خيركم ونجاتكم من الأذى، وفي الآخرة برضا الله عنكم، حيث امتثلتم أمره.
قال الله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠).
أي إذا فرغتم من أداء الصلاة فتفرّقوا في الأرض إلى حيث تؤدّون أعمالكم التي كنتم تركتموها من أجل الذكر، واطلبوا الربح من فضل الله وفيض إنعامه.
وقد قالوا: إن هذا أمر ورد بعد الحظر فهو للإباحة، وعليه فليس يطلب من الإنسان أن يخرج من المسجد بعد الصلاة، لا وجوبا ولا ندبا.
ولقد روي عن بعض السلف أنّه كان إذا انتهت الصلاة خرج من المسجد، ودار في السوق ساعة، ثم رجع إلى المسجد فصلّى ما شاء أن يصلّي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيّد المرسلين يصنع هذا، وتلا قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ رضي الله عن أصحاب رسول الله، فقد كانوا يتأسون بالمصطفى حتى في حركاته وسكناته.
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً وفي وقت اشتغالكم بأعمالكم، ولا تكتفوا بالذكر الذي سعيتم من أجله، لكي تفوزوا بخير الدارين.
وقد عرض المفسرون هنا لأحكام كثيرة تتعلق بالجمعة، كاشتراط المصر، وكون الخطبة قبل الصلاة أو بعدها، وهل هناك سنن قبلية، أو بعدية؟ ونحن نرى أن هذه الأحكام لا تدل عليها الآية، ولا من طريق الإشارة، فيرجع إليها في السنة والفقه.
769
قال الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١) أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي «١» وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال:
بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة قائما، إذ قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا، أنا فيها وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً إلى آخر السورة.
بهذا تضافرت الروايات على اختلاف بينها في التفاصيل،
وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا»
وفي بعضها:
كان الباقي ثمانية، وفي بعض آخر: بقي أربعون رجلا، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف تحمل طعاما، وكان قد أصاب المدينة جوع وغلاء سعر.
ولما كانت الآية نزلت بعد أن ترك من ترك رسول الله في موقفه، قال العلماء:
إن إِذا مستعملة في الماضي، ولما كان العطف بين قوله: تِجارَةً أَوْ لَهْواً ب أَوْ صحّ مجيء الضمير في إليها مفردا، ورجع الضمير إلى التجارة دون اللهو، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة، ولهوهم كان للفرح بمجيء التجارة التي أنقذتهم مما هم فيه من الجوع وغلاء السعر، وقد روي أنّه حين جاءت العير استقبلها الناس بالفرح وضرب الدفوف، فخرج المنفضون على ذلك.
وقد استدل العلماء بقوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً على مشروعية القيام أثناء الخطبة، والمشروعية أمر متفق عليه بين العلماء، وقد ثبت في السنة أنّ النبي ما خطب إلا قائما، وكذلك الخلفاء من بعده، استمرّ الأمر هكذا إلى زمن بني أمية، حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة فخطب جالسا.
نعم قد روي أن أول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه، وقد حمل العلماء هذه الرواية على فرض صحتها على أنّه كان عاجزا عن القيام، وإلا فمقام معاوية أجلّ من أن يخالف ما كان عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
أخرج البخاري ومسلم «٢» عن ابن عمر أن النبيّ كان يخطب خطبتين يجلس بينهما.
(١) رواه مسلم في الصحيح (١/ ٥٩٠)، ٧- كتاب الجمعة، ١١- باب قوله تعالى: إِذا رَأَوْا تِجارَةً حديث رقم (٣٩/ ٨٦٣)، والبخاري في الصحيح (٢/ ٧٥)، ٦٥- كتاب التفسير، ٢- باب وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً حديث رقم (٤٨٩٩)، والترمذي في الجامع الصحيح (٥/ ٣٨٦)، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الجمعة، حديث رقم (٣٣١١)، وأحمد في المسند (٣/ ٣٧٠).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٥٨٩)، ٧- كتاب الجمعة، ١٠- باب ذكر الخطبتين حديث رقم (٣٣/ ٨٦١)، والبخاري في الصحيح (١/ ٢٥١)، ١١- كتاب الجمعة، ٣- باب القعدة بين الخطبتين حديث رقم (٩٢٨).
770
وحكم القيام في الخطبة أنّه سنة عند الحنفية «١»، ويرى الشافعية أنّه أحد شروطها، وأنت تعلم أنّ الحنفية لا يثبتون الشرط إلا بقطعي، وهو غير موجود هنا.
والشافعية يتمسكون بما في الآية من إشارة، وبما ثبت من السنة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية على ما عرفت قبلا.
قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ قدمت التجارة على اللهو عند الرؤية، لأنها كانت الباعث الأقوى على الخروج، وأخّرت هنا لأنّه أقوى في الذم، والغرض التنفير، فكان من المناسب تقديمه.
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فهو الذي يقدّر الأقوات وييسرها، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وما يمسك فلا مرسل له، وما يرسل فلا ممسك له، إلا من بعد إذنه، وما ينبغي لأحد أن يهجر عبادة الله من أجل شيء، إن كان له فسوف يأتيه، وإذا لم يكن له فلن يفيد فيه الإسراع إليه، والجري وراءه، وهو لو شاء الحرمان منه لحرمه وهو في البيت، بل وفي اليد إلى الفم.
وقد حاول العلماء أن يستدلوا بما روي في أسباب النزول من أعداد الباقين والمنفضين على العدد في الجمعة، فمن صحّ عنده أن الباقين كانوا اثني عشر قال: إنّ العدد المعتبر في الابتداء هو العدد المعتبر في البقاء، فلو كان العدد الباقي لا تصحّ به الجمعة لما صحت الجمعة، ولم يرو أنّهم أعادوها.
وقد ردّ هذا الاستدلال من وجوه:
أولا: قد روي أنّ الباقي كان أربعين، وروي أنه كان ثمانية، ولو سلّم أنهم كانوا اثني عشر، فلا دلالة فيه، لأنّه لا يدل إلا على أنّها تصح باثني عشر، وهو لا يفيد أنها لا تصح بما دون ذلك، فأين التحديد باثني عشر.
وقد سبق أن قلنا: إن الآية لا يؤخذ منها شيء من هذه الأحكام التي يثبتها الفقهاء في الجمعة، ولا دلالة لها على أكثر من وجوب السعي عن الجمعة، وعلى وجوب ترك البيع وشؤون الدنيا من أجل الصلاة، وعلى أنّه لا يجوز أن يترك الناس الخطيب يخطب وينصرفوا إلى أي شأن آخر.
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١/ ٨٩).
771
Icon