تفسير سورة القدر

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة القدر من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سورة القدر
مدنية، وقيل: مكية، وآيها: خمس آيات، وحروفها: مئة وخمسة وعشرون (١) حرفًا، وكلمها: ثلاثون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾.
[١] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ الضميرُ للقرآن، ولم يتقدم ذكرُه؛ لدلالة المعنى عليه.
﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا جملةً، ثم نزل به نجومًا إلى الأرض على محمد - ﷺ - في عشرين، أو ثلاث وعشرين سنة، وسميت ليلة القدر؛ لأنها تُقَدَّر فيها آجالُ العباد وأرزاقُهم، ويأتي الكلام عليها بعد انتهاء التفسير.
...
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢)﴾.
[٢] ثم عجَّبَ الله تعالى نبيَّه - ﷺ - فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾
(١) في "ت": "عشر".
لأنها ليلة تقدير الأحكام والأمور، يقدر الله فيها أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة؛ لقوله ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤].
...
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)﴾.
[٣] روي أن رسول الله ذُكر له رجلٌ من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألفَ شهر، فعجب رسولُ الله - ﷺ -، وتمنى ذلك لأمته، فقال: "يا ربِّ جعلْتَ أمتي أقصرَ الأممِ أعمارًا، وأقلَّ أعمالًا"، فأعطاه الله ليلة القدر (١)، فقال: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ أي: قيامُها والعبادةُ فيها.
﴿خَيْرٌ مِنْ﴾ عمل ﴿أَلْفِ شَهْرٍ﴾ ليس فيها ليلةُ القدر، وهي ثماثون سنة، وثلاثة أعوام، وثلث عام (٢).
وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمرَ لمعاوية: "إن الله تعالى أرى نبيَّه في المنام بني أمية ينزون على منبره نزوَ القردة، فاهتمَّ لذلك، فأعطاه الله ليلة القدر خير له ولذريته ولأهل بيته من ألف شهر" (٣)، وهي مدة ملك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون أمر الناس هذا القدرَ من الزمان، ثم كُشِفَ الغيبُ أن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوكهم هذا القدر من الزمان بعينه.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٦٥٨).
(٢) "وثلث عام" ساقطة من "ت".
(٣) كذا ساقه ابن عطية في "المحرر الوجيز" (٥/ ٥٠٥)، وقد روى أبو يعلى في "مسنده" (٦٤٦١)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الذهبي في "السير" (٢/ ١٠٨) في ترجمة الحكم بن أبي العاص: ويروى في سبه أحاديث لم تصح. فذكر هذا الحديث منها.
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)﴾.
[٤] ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ هو جبريل عليه السلام ﴿فِيهَا﴾ أي: في ليلة القدر. قرأ البزي (شَهْر تَّنَزَّلُ) بتشديد التاء حالة الوصل (١).
﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أي: بأمره ﴿مِنْ كُلِّ﴾ أي: بكل ﴿أَمْرٍ﴾ من الخير والشر.
...
﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)﴾.
[٥] ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾ أي: سلام على أولياء الله وأهل طاعته، وسميت سلامًا؛ لكثرة السلام فيها؛ لأن الملائكة لا تمر بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلَّمت عليه، فـ (حَتَّى) متعلقة بـ (سَلاَمٌ)؛ أي: إن الملائكة تسلم من غروب الشمس.
﴿حَتَّى﴾ أي: إلى وقت ﴿مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ أي: طلوعه. قرأ الكسائي، وخلف: (مَطْلِعِ) بكسر اللام، والباقون: بفتحها (٢)، وهما لغتان في مصدر طَلَع، والأزرق عن ورش على أصله في تفخيمها.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي - ﷺ - قال: "من قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبِه" (٣).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٢٠٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢٤)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٦٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ٢٠٣ - ٢٠٤).
(٣) رواه البخاري (٣٥)، كتاب: الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان، ومسلم =
407
والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان، وعامة الصحابة والعلماء على أنها باقية إلى يوم القيامة، وقد أبهمها الله -عز وجل- على الأمة؛ ليجتهدوا في الدعاء والعبادة لياليَ شهر رمضان؛ طمعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، واسمَه الأعظم في الأسماء، وأخفى قيامَ الساعة (١)؛ ليجتهدوا في الطاعات؛ حذرًا من قيامها.
واختلف الأئمة فيها، فعند أبي حنيفة: هي في شهر رمضان تدور فيه، وعنه رواية تدور في كل السنة، وعند صاحبيه: هي منكَّرة؛ أي: غير معينة، ولكنها دائمة في شهر رمضان؛ أي: ثابتة لا تتقدم ولا تتأخر، وعند مالك: هي في شهر رمضان في العشر الأخير لتسع بقين، أو سبع أو خمس، وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين، أو الثالث والعشرين منه، وعند أحمد: هي في العشر الأخير منه، والوتر آكد، وأرجاه ليلة سبع وعشرين.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "شرح البخاري" (٢) فيها خمسة وأربعين قولًا، ولخصها صاحب "الإنصاف" فيه: الأول: قد رفعت، والثاني: خاصة بسنة واحدة وقعت في زمنه عليه أفضل الصلاة والسلام، الثالث: خاصة بهذه الأمة، الرابع: ممكنة في جميع السنة، الخامس: تنتقل في جميع السنة، السادس: ليلة النصف من شعبان،
= (٧٦٠)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(١) "الساعة" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "فتح الباري" (٤/ ٢٦٢).
408
السابع: مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، الثامن: أول ليلة منه، التاسع: النصف منه، العاشر: ليلة سبع عشرة، الحادي عشر: ثماني عشر، الثاني عشر: تسع عشر، الثالث عشر: حادي عشرين، الرابع عشر: ثاني عشرين، الخامس عشر: ثالث عشرين، السادس عشر: رابع عشرين، السابع عشر: خامس عشرين، الثامن عشر: سادس عشرين، التاسع عشر: سابع عشرين، العشرون: ثامن عشرين، الحادي والعشرون: تاسع عشرين، الثاني والعشرون: ليلة الثلاثين، الثالث والعشرون: أرجاها ليلة إحدى وعشرين، الرابع والعشرون: ثلاث وعشرين، الخامس والعشرون: سبع وعشرين، السادس والعشرون: تنتقل في جميع رمضان، السابع والعشرون: في النصف الأخير، الثامن والعشرون: في العشر الأخير كله، التاسع والعشرون: في أوتار العشر الأخير، الثلاثون: مثله بزيادة الليلة الأخيرة، الحادي والثلاثون: في السبع الأواخر، وهي الليالي السبع من آخر الشهر، الثاني والثلاثون: أو هي آخر سبع من الشهر، الثالث والثلاثون: منحصرة في السبع الأواخر منه، الرابع والثلاثون: في أشفاع العشر الأوسط والعشر الأخير، الخامس والثلاثون: مبهمة في العشر الأوسط، السادس والثلاثون: أول ليلة أو آخر ليلة، السابع والثلاثون: أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة، الثامن والثلاثون: في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني، التاسع والثلاثون: ليلة ست عشرة أو سبع عشرة (١)، الأربعون: ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو
(١) "أو سبع عشرة" ساقطة من "ت".
409
إحدى وعشرين، الحادي والأربعون: ليلة تسع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، الثاني والأربعون: ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، الثالث والأربعون: ليلة اثنين وعشرين أو ثلاث وعشرين، الرابع والأربعون: ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين، الخامس والأربعون: الثالثة من العشر الأخير أو الخامسة منه، والله أعلم (١).
* * *
(١) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (٣/ ٣٥٥ - ٣٥٦).
410
Icon