تفسير سورة المائدة

زاد المسير
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
قال ابن عباس، والضحاك : هي مدنية. وقال مقاتل : نزلت نهارا وكلها مدنية. وقال أبو سليمان الدمشقي : فيها من المكي ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ قال : وقيل : فيها من المكي ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ والصحيح أن قوله :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ نزلت بعرفه يوم عرفة، فلهذا نسبت إلى مكة.

سورة المائدة
قال ابن عباس، والضّحّاك: هي مدنيّة. وقال مقاتل: نزلت نهارا وكلّها مدنيّة. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ: فيها من المكّي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال: وقيل: فيها من المكّيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ والصّحيح أنّ قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت بعرفة يوم عرفة، فلهذا نسبت إلى مكة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المائدة (٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين: أحدهما: أنهم المؤمنون من أُمتنا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج.
وبِالْعُقُودِ: العهود، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضحاك والسدي والجماعة وقال الزجاج: «العقود» : أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال «١» :
أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني:
أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن. والثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحِلْفُ الذي كان بينهم، قاله قتادة. والرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإِيمان بالنبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين. والخامس: أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح، أو عقد الإِنسان على نفسه من نذر أو يمين، وهذا قول ابن زيد «٢».
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٨٨: وأولى الأقوال عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم، وألزمكم فرضه وبين لكم حدوده.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٤٤٤- ٤٤٥: ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم، كان حلّها محرّما لأن حلها بفعل المحرّم، وهو محرّم وإن كانت على فعل مندوب، أو ترك مكروه.
وإن كانت على فعل مباح، فحلّها مباح. فإن قيل: فكيف يكون حلّها مباحا وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها؟ قلنا: هذا في الأيمان في العهود والمواثيق، بدليل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، والعهد يجب الوفاء به بغير يمين، فمع اليمين أولى، فإن الله تعالى.
قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
وإن كانت على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فحلّها مندوب إليه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» وإن كانت اليمين على فعل محرّم، أو ترك واجب فحلّها واجب، لأن حلّها بفعل الواجب، وفعل الواجب واجب.
505
قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أُمهاتها إِذا ذبحت الأُمهات، قاله ابن عمر، وابن عباس. والثاني: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسدي. وقال الربيع: هي الأنعام كلها. وقال ابن قتيبة:
هي الإِبل، والبقر، والغنم، والوحوش كلها. والثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس، وأبي صالح. وقال الفراء: بهيمة الأنعام: بقر الوحش، والظباء، والحمر الوحشيّة. قال الزجاج: وإِنما قيل لها بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميّز، وكل حي لا يميّز فهو بهيمة.
قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، روي عن ابن عباس أنه قال: هي الميتة وسائِر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباري: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، فانتصب على الحال. وقال غيره: المعنى: أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، قال الزجاج: الحرم: المحرمون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل حرام، وقومٌ حرمٌ.
قال الشاعر:
فقلت لها فيئي إِليك فإنني حرامٌ وإِني بعد ذاك لبيبُ «٢»
أي: ملبّ. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد.
(١) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٣٠٨- ٣١٠: ما ملخصه: إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه بعد ذبحها، أو وجد ميتا في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح، فهو حلال روي هذا عن ابن عمر وعلي وبه قال ابن المسيب والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال ابن عمر: ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث، لأن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وهذا إشارة إلى جميعهم. فكان إجماعا. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان، فقال: لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين، ولنا «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ولأن هذا إجماع من الصحابة فمن بعدهم، فلا يعول على ما خالفه، ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقه، يتغذى بغذائها، فتكون ذكاته ذكاتها، كأعضائها، ولأن الزكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة، بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية، والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه، فيكون ذكاة له. فصل: واستحب أبو عبد الله- الإمام أحمد بن حنبل- أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه. فصل: فإن خرج حيا حياة مستقرة، يمكن أن يذكى، فلم يذكه حتى مات فليس بذكي. قال أحمد: إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأنه نفس أخرى. قلت: وقال أبو يوسف ومحمد بقول الجمهور، راجع «الهداية» ٩/ ٥٠٨ بتخريجي.
(٢) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى كما في «مجاز القرآن» ١/ ١٤٥ و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي ٤١١.
506

[سورة المائدة (٥) : آية ٢]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ في سبب نزولها قولان.
(٣٩٤) أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إِلام تدعو؟
فقال: «إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله، وأنِّي رسولُ الله»، فقال: إِن لي أُمراء خلفي أرجع إِليهم أشاورهم، ثم خرج، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم»، فمر شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلما كان عام الحُديبية، خرج شريح إِلى مكة معتمراً، ومعه تجارة، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّي: اسمه الحطم بن هند البكري. قال: ولما ساق السَّرح جعل يرتجز:
قدْ لَفَّها الليل بسوّاقٍ حُطَم ليس براعي إِبل ولا غنم
ولا بجزّارٍ على ظَهْرِ وضم باتوا نيَاما وابنُ هندٍ لم ينم
بات يُقاسِيهَا غلامٌ كالزَّلَمْ خَدلَّجُ الساقين ممسوحُ القدم «١»
(٣٩٥) والثاني: أن ناساً من المشركين جاءوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله تعالى وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال ابن قتيبة: وشعائِر الله: ما جعله الله علماً لطاعته. وفي المراد بها هنا سبعة أقوال «٢» :
أحدها: أنها مناسك الحج، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقال الفرّاء: كان عامّة العرب لا يرون الصّفا
أخرجه الطبري ١٠٩٦١ عن السدي، وهذا مرسل، وكرره ١٠٩٦٢ عن عكرمة وعن ابن جريج ونسبه الواحدي ٣٧٩ لابن عباس بدون سند، فلعل هذه المراسيل المتقدمة تتأيد بمجموعها، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» ٦١٠ بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٠٩٦٣ عن عبد الرحمن بن زيد مرسلا.
__________
(١) الرجز في «الأغاني» ١٤/ ٤٤ و «حماسة أبي تمام» ١/ ٣٥٤ وقد اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافا كثيرا، ونسبه في: «الحماسة» لرشيد بن رميض العنزي، ونسب أيضا للأغلب العجلي، وللأخنس بن شهاب، ولجابر بن حني التغلبي ولعل الحطم أنشده مدحا لنفسه فيما فعل وقبل هذا الرجز:
هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم والسّرح: المال السائم. وفي «اللسان» : الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو بارية يوقى به من الأرض. وقد ذكره في «اللسان» ونسبه إلى رشيد بن رميض العنزي. وقيل أبو زغبة الخزرجي. والزلم: القدح كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وخدلّج الساقين: عظيمهما.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٩٣: وأولى التأويلات بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ، قول عطاء: من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه. [.....]
507
والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك. والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: دين الله كله، قاله الحسن. والرابع:
حدود الله، قاله عكرمة وعطاء. والخامس: حَرمُ الله، قاله السدي. والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام، قاله أبو عبيدة والزجاج. والسابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إِذا أرادوا دخول مكة، ذكره الماوردي، والقاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قال ابن عباس: لا تُحِلُّوا القتال فيه. وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذو القَعدة، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلَّ سنة فيقول: ألا إِني قد أحللت كذا، وحرّمت كذا. والثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطبري. والهدي: كل ما أهدي إِلى بيت الله تعالى من شيءٍ.
وفي الْقَلائِدَ قولان: أحدهما: أنها المقلَّدات مِن الهدي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إِبلهم وأنفسهم في الجاهلية، ليأمنوا به عدوّهم، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إِلا في الأشهر الحُرُم، فمن لقوة مقلِّداً نفسه، أو بعيره، أو مشعراً بُدُنَهُ أو سائِقاً هدياً لم يُتعرض له. قال ابن عباس: كانَ مَن أراد أن يسافر في غير الأشهر الحُرُم، قلد بعيره من الشعر والوبر، فيأمَن حيثُ ذهب.
(٣٩٦) وروى مالك بن مِغوَل عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إِذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إِذا خرج من بيته يريد الحج تقلّد من السَّمُرِ، فلم يَعرِض له أحد، وإِذا رجع تقلَّد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد. وقال الفراء: كان أهل مكة يُقلّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يُقلّدون بالوبر والشعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال «١» : أحدها: لا تستحلّوا المقلَّدات من الهدي. والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد. والثالث: أن هذا نهيٌ للمؤمنين أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرف، والربيع بن أنس.
قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «الآمّ» : القاصد، و «البيت الحرام» : الكعبة، والفضل:
الربح في التجارة، والرضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم. ومثله قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي «٢»، وقيل: ابتغاء الفضل عام، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصّة.
أخرجه الطبري ١٠٩٥٤ عن عطاء مرسلا، وكرره ١٠٩٥٣ من مرسل قتادة.
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٩٦: والذي هو أولى بتأويل قوله: وَلَا الْقَلائِدَ إذ كانت معطوفة على أول الكلام ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهي عن التقليد أو اتخاذ القلائد من شيء، أن يكون معناه: ولا تحلّوا القلائد. ونهي من الله عز وجل عن استحلال حرمة المقلّد، هديا كان ذلك أو إنسانا، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلّد.
(٢) سورة طه: ٩٧.
508
قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا لفظُه لفظُ الأمر، ومعناه الإِباحة، نظيره فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «١» وهو يدلُ على إِحرامٍ متقدّم.
قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنْكم» بسكون النون، وتخفيفها. قال ابن عباس: لا يحملنّكم، قال غيره: لا يدخلنكم في الجُرم، كما تقول: آثمتُه أي: أدخلته في الإثم، وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارمُ أهله، أي: كاسُبهم، وكذلك جريمتهم. وقال الهُذلي:
ووصف عقاباً:
جريمةَ ناهضٍ في رأس نِيْقٍ تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَليبا «٢»
والناهض: فرخها، يقول: هي تكسب له، وتأتيه بقوته. و «الشنآن» البغض، يقال: شنئته أشنؤه:
إِذا أبغضته. وقال ابن الأنباري: «الشنآن» : البغض، و «الشنآن» بتسكين النون: البغيض. واختلف القراء في نون الشنآن، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بتحريكها، وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختُلف عن نافع. قال أبو علي:
«الشَّنآن»، قد جاء وصفاً، وقد جاء اسماً، فمن حرّك، فلأنه مصدر، والمصدر يكثر على فَعَلان، نحو النَّزَوان، ومن سكَّن. قال: هو مصدر، وقد جاء المصدر على فَعْلان، تقول: لويته دينَه لَيَّانًا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإِن اختلف اللفظان.
واختلفوا في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح جعل الصّد ماضياً، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم، ومن كسرها، جعلها للشرط، فيكون الصّد مترقَّباً. قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر، كقوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «٣» وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو علي الفارسي:
إِذا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْني لئيمةٌ وَلَمْ تَجِدي من أن تُقِرِّي بها بُدّا
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، والجزاء إِنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إِن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة.
قال ابن جرير: وقراءة مَن فتح الألف أبيَن، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان الصدّ تقدّم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان: أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه، فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إِذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة، وصدّهم إِياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية.
قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قال الفراء: لِيُعِن بعضكم بعضاً. قال ابن عباس: البرّ ما
(١) سورة الجمعة: ١٠.
(٢) الصليب: الودك. وقد تقدم وقال ابن فارس: يقال جرم وأجرم ولا جرم بمنزلة قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي اكتسب. انظر «تفسير القرطبي» ٦/ ٤٤.
(٣) سورة يوسف: ٧٧.
509
أُمرت به، و «التقوى» : ترك ما نُهيت عنه. فأمّا «الإثم» فالمعاصي. والعدوان: التّعدّي في حدود الله، قاله عطاء.

فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:


أحدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه، واختلفوا في «القلائد» فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلِّد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلُّوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إِلى البيت.
والثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال: أحدها: أن جميعها منسوخ، وهو قول الشعبي. والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلِّدون هداياهم، ويظهرون شعائِر الحج من الاحرام والتلبية، فنُهي المسلمون بهذه الآية عن التعرّض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١» وهذا قول الأكثرين. والثالث: أن الذي نُسخ قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ نسخه قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «٢» روي عن ابن عباس، وقتادة. والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام، وآمّون البيت الحرام: إِذا كانوا مشركين، وهدي المشركين. إِذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ مفسّرٌ في «البقرة»، فأمّا وَالْمُنْخَنِقَةُ فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره. قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك، قال ابن قتيبة: وَالْمَوْقُوذَةُ: التي تُضرب حتى توقَذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة. و «المتردّية» : الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إِذا سقط. وَالنَّطِيحَةُ: التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة، «فعيلة» في معنى «مفعولة» وَما أَكَلَ السَّبُعُ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى:
السَّبع: بسكون الباء. والمراد: ما افترسه فأكل بعضه إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إِلا ما لحقتم من هذا كله وبه حياة، فذبحتموه «٣». فأما الاستثناء، ففيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إِلى المذكور من عند قوله تعالى:
(١) سورة التوبة: ٥.
(٢) سورة التوبة: ٣٨.
(٣) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٢٩١: «مسألة: وإذا ندّ بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل». قال: وكذلك إذا تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته، فجرحه في أي موضع قدر عليه، فقتله أكل، إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل، لأن الماء يعين على قتله، هذا قول أكثر الفقهاء، روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال مسروق والأسود والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور. وقال مالك: لا يجوز أكله إلا أن يذكّى. وهو قول ربيعة والليث. قال أحمد: لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج اه باختصار.
510
وَالْمُنْخَنِقَةُ. والثاني: أنه يرجع إِلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول.
فصل في الذكاة: قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن، وهو تمام السِّن. قال الخليل: الذكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في الفهم، وهو أن يكون فهماً تاماً، سريع القبول. وذكّيت النار، أي: أتممت إِشعالها. وقد روي عن عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عينٌ تَطْرِف أو ذنب يتحرك، فأكله حلالٌ. قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إِن كان يعيش مع ما به، حل بالذبح، فان كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فان لم تكن حياته مستقرّة، وإِنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شُقَّ جوفه، وأُبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإِن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله. ومن الناس من يقول: إِذا كانت فيه حياة في الجملة أُبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إِذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في حكم الميت.
ألا ترى أن رجلاً لو قطع حُشْوَةَ آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان «١» : إِحداهما: أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فإن نقص من ذلك شيئاً لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله.
والثانية: يجزئ قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك: يجزئ قطع الأوداج، وإِن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفَس، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة.
(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣/ ٣٠٣- ٣٠٨: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف أن الأكمل قطع الأربعة: الحلقوم والمريء والودجين اه ملخصا. ويسنّ الذبح بسكين حادّ، ويكره أن يسنّ السكين والحيوان يبصره ويكره أن يذبح شاة وأخرى تنظر إليه، ويستحب أن يستقبل القبلة. وإذا ذبح فأتى على المقاتل، فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. يعني وطئ عليها شيء يقتلها مثله غالبا. وقال أصحابنا المتأخرين: لا يحرم بذلك وهو قول أكثر الفقهاء، لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت، وكذلك لو أبين رأسها بعد الذّبح، لم تحرم. وإذا ذبحها من قفاها، وهو مخطئ، فأتت السكين على موضع ذبحها، وهي في الحياة أكلت. قال القاضي: معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه، فتأتي السكين على القفا، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها في محل ذبحها، فسقط اعتبار المحل. وقد روي أن الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عن من ذبح في القفا؟ قال: عامدا أو غير عامد؟ قلت: عامدا. قال: لا تؤكل، فإذا كان غير عامد، كأنه التوى عليه، فلا بأس. ومن ذبحها من قفاها اختيارا. لا تؤكل. وقال القاضي: إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، حلّت وإلا فلا. وهذا مذهب الشافعي. وهذا أصح. لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحلّه. ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك.
511
والمريء: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح. فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر، سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين. فأما البعير إِذا توحش أو تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره. وقال مالك:
ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيداً فأبان بعضه وفيه حياة مستقرة فذكّاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان.
قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ في النصب قولان: أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتُعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النُّصب، وقيل لأجلها، فتكون «على» بمعنى «اللام»، وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ «١» أي: عليك، وقوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «٢». والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرِّحون اللحم عليها ويعظمونها، وهو قول ابن جريج.
وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النَّصْب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نُصُبٌ ونُصْبُ ونَصْبٌ، وجمعه أنصاب.
قوله تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا عِلم ما قُسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، واستفعلت من القسم، قسم الرزق والحاجات. قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم. والاستقسام بها: أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمرٍ أو نهي، فكانوا إِذا أرادوا أن يقتسموا شيئاً بينهم، فأحبُّوا أن يعرفوا قسم كل امرئٍ تعرفوا ذلك منها، فأخِذ الاستقسام من القِسم وهو النصيب. قال سعيد بن جبير: الأَزلام: حصى بيض، كانوا إِذا أرادوا غدواً، أو رواحاً، كتبوا في قدحين، في أحدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به. وقال مجاهد: الأزلام: سهام العرب، وكعاب «٣» فارس التي يتقامرون بها. وقال السدي:
كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل: في بيت الأصنام. وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة.
قال الزجاج: ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا.
قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ في المشار إِليه بذلكم قولان: أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته.
قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ في هذا «اليوم» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن عباس «٤». وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم. والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد.
(١) سورة الواقعة: ٩١.
(٢) سورة الإسراء: ٧.
(٣) في اللسان الكعاب: فصوص النّرد. واللعب بها حرام.
(٤) لا يصح عن ابن عباس، فهو من رواية أبي صالح، وهو غير ثقة في ابن عباس، وراوية أبي صالح هو محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.
512
والثالث: أنه لم يرد يوماً بعينه، وإِنما المعنى: الآن يئسوا، كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي، فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر:
فيومٌ علينا ويوم لنا ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر «١»
أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إِليه غيره.
وفي معنى يأسهم قولان: أحدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: يئسوا من بطلان الإِسلام، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وإِنما يئسوا من إِبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إِليهم. وأمنهم إِلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على إِبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإِنما قاتلوهم بعد ذلك ظناً منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى:
فَلا تَخْشَوْهُمْ قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري.
قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
(٣٩٧) روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إِلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إِنكم تقرؤون آيةً من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأيّ آية هي؟ قال: قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فقال عمر: إِني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك أحداً وثمانين يوماً «٢».
فأما قوله تعالى: الْيَوْمَ ففيه قولان: أحدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه ليس بيوم معيّن، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفاً.
وفي معنى إِكمال الدين خمسة أقوال «٣» : أحدها: أنه إِكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه
صحيح. أخرجه البخاري ٤٥ و ٤٤٠٧ و ٤٦٠٦ و ٧٢٦٨ ومسلم ٣٠١٧ والترمذي ٣٠٤٣ والنسائي ٨/ ١١٤ وأحمد ١/ ٢٨ والطبري ١١٠٩٨ و ١١٠٩٩ عن طارق بن شهاب عن عمر به.
__________
(١) البيت للنمر بن تولب كما في «الشواهد الكبرى» للعيني ١/ ٥٦٥. [.....]
(٢) هو مرسل، وتقدم في أواخر سورة البقرة.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤١٩: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن قبض بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ النساء: ١٧٦ آخرها نزولا، وكان ذلك من الأحكام والفرائض.
513
الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن عباس، والسُدّي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائِع دينكم. والثاني: أنه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذلّ الشّرك ودروسه، لا تكامل الفرائض والسّنن، لأنّها لم تزل تنزل إِلى أن قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم نصر دينكم. والثالث: أنه رفع النسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قُبض، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج. والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها. وفي إِتمام النعمة ثلاثة أقوال:
أحدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة. والثاني: الهداية إِلى الإيمان، قاله ابن زيد. والثالث: الإِظهار على العدو، قاله السدي.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ أي: دعته الضرورة إِلى أكل ما حرُم عليه. فِي مَخْمَصَةٍ أي:
مجاعة، والخمص: الجوع. قال الشاعر يذم رجلاً:
يَرَى الخمْصَ تعذيباً وإِن يلق شَبْعَةً يَبِتْ قلبُه من قِلَّة الهمِّ مُبْهما «١»
وهذا الكلامُ يرجع إِلى المحرمات المتقدّمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما.
قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، و «الجنف» : الميل. وقال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإِثم. وفي معنى «تجانف الإِثم» قولان:
أحدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين.
والثاني: أن يتعرّض لمعصية في مقصده، قاله قتادة. وقال مجاهد: من بغى وخرج في معصية، حرم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إنما يصحّ في سفر العاصي، ولا يصح حمله على تناول الزِّيادة على سد الرّمق، لأن الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله غير متجانف لإِثم، فإن الله غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إِذْ أحل ذلك للمضطر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ في سبب نزولها قولان:
(٣٩٨) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحلّ لنا من
ضعيف، أخرجه الحاكم ٢/ ٣١١ والطبري ١١١٣٧ والطبراني ٩٧١ و ٩٧٢ والواحدي في «الأسباب» ٣٨٣ من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» ٦٠٩٦ والوهن في هذا الحديث ذكر جبريل عليه السلام، أما الأمر بقتل الكلاب ونزول الآية، فقد ورد من وجه آخر عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع، ورجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، وله شاهد من مرسل عكرمة أخرجه الطبري ١١١٣٨ ومن مرسل محمد بن كعب برقم ١١١٣٩، وقد صح لفظ «لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» فهذا أخرجه مسلم ٢١٠٥، وليس فيه ذكر الآية والأمر بقتل الكلاب، وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٦٩ و «أحكام القرآن» ٦٢١ بتخريجي.
__________
(١) البيت لحاتم الطائي كما في «الأغاني» ١٦/ ١٢٢.
514
هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(٣٩٩) وكان السبب في أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأذن له، فلم يدخل وقال: «إِنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة»، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.
(٤٠٠) والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله: زيد الخير، قالا: يا رسول الله إِنا قومٌ نصيد بالكلاب والبُزاة «١»، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.
قال الزجاج: ومعنى الكلام: يسألونك أي شيء أُحل لهم؟ قل: أُحلّ لكم الطيبات، وأُحل لكم صيد ما علّمتم من الجوارح، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم، لأن في الكلام دليلاً عليه. وفي الطيبات قولان: أحدهما: أنها المباح من الذبائح. والثاني: أنها ما استطابته العربُ مما لم يحرّم. فأما الْجَوارِحِ فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير، كالكلب، والفهد، والصقر والبازي، ونحو ذلك مما يقبل التعليم «٢». قال ابن عباس: كل شيءٍ صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان: أحدهما: لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب، يقال: امرأة لا جارح لها، أي: لا كاسب. والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: وعلامة التعليم أنك إِذا دعوته أجاب، وإذا أسّدته على الصيد استأسد، ومضى في طلبه، وإِذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه. وعلامة إِمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئاً، هذا في السباع والكلاب «٣»، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع، لأن الطائر إِنما يُعلّم الصيد بالأكل،
هو بعض المتقدم، وقوله «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» دون باقي الخبر، متفق عليه، وسيأتي.
أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في ابن كثير ٢/ ٢٢، وهو مرسل، ومع إرساله، فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد بن جبير صحيفة. وذكره الواحدي في أسبابه ٣٨٤ بدون إسناد عن سعيد بن جبير. وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري ٤٢٢٧ من حديث جابر وإسناده ضعيف. فيه أشعث بن سوّار، ضعيف والحسن لم يسمع من جابر. وقد أخرجه عبد الرزاق ٢٦٥٦ بإسناد على شرط مسلم عن جابر موقوفا وهو الصواب وورد عن جماعة من الصحابة. والإجماع منعقد على ذلك. وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٧٠ و ٧٧١ بتخريجنا.
__________
(١) في «اللسان» : الباز: لغة في البازي، وجمع البازي بزاة.
(٢) وقال الإمام الموفق في «المغني» ١٣/ ٢٦٥- ٢٦٦: فصل: وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم: كالفهد أو جوارح الطير فحكمه حكم الكلب في إباحة صيده، وبمعنى هذا قال ابن عباس وطاوس ويحيى بن أبي كثير والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وأبو ثور. وحكي عن ابن عمر ومجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب اه باختصار.
(٣) قال الإمام البغوي في «تفسيره» عقب الحديث ٧٥٣: واختلفوا فيما أخذت الصيد وأكلت منه شيئا، فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه روي ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، وهو أصح قولي الشافعي، ورخص بعضهم في أكله روي ذلك عن ابن عمر وسلمان وسعد بن أبي وقاص، وبه قال مالك.
وانظر «المغني» ١٣/ ٢٦٢- ٢٦٣. و «الأحكام للجصاص» ٣/ ٣١٢- ٣١٣.
515
والفهد، والكلب، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل، فهذا فرق ما بينهما.
وفي قوله تعالى: مُكَلِّبِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أصحاب الكلاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والسدي، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال: رجل مكلّب وكلاّبي، أي: صاحب صيد بالكلاب. والثاني: أن معنى مُكَلِّبِينَ: مُصرّين على الصيد، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثالث: ان مُكَلِّبِينَ بمعنى: معلمين. قال أبو سليمان الدمشقي: وإِنما قيل لهم: مكلبين، لأن الغالب من صيدهم إِنما يكون بالكلاب. قال ثعلب: وقرأ الحسن، وأبو رزين: مُكْلِبين، بسكون الكاف، يقال:
أكلب الرجل: إِذا كثرت كلابه، وأمشى: إِذا كثرت ماشيته، والعرب تدعو الصائد مكلّبا.
قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ قال سعيد بن جبير: تؤدّبونهن لطلب الصيد. وقال الفراء:
تؤدّبونهن أن لا يأكلن صيدهن. واختلفوا هل إِمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟
على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فان أكلت، لم يؤكل، روي عن ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه ليس بشرط في الكل، ويؤكل وإِن أكلت، روي عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي. والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم، وليس بشرط في جوارح الطير، وبه قال الشعبي، والنخعي، والسدي، وهو أصح لما بيّنا أن جارح الطير يعلم على الأكل، فأبيح ما أكل منه، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إِذا أكل الكلب والفهد من الصيد، لم يبحْ أكله. فأما ما أكل منه الصقر والبازي، فمباح، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وقال مالك: يباح أكل ما أكل منه الكلب، والفهد، والصقر، فإن قتل الكلب، ولم يأكل، أُبيح. وقال أبو حنيفة: لا يباح، فان أدرك الصيد، وفيه حياة، فمات قبل أن يذكيه، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أُبيح، وإِن أمكنه فلم يذكّه، لم يبحْ، وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين. فأما الصيد بكلب المجوسي، فروي عن أحمد أنه لا يكره، وهو قول الأكثرين، وروي عنه الكراهة، وهو قول الثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهذا خطاب للمؤمنين «١». قال القاضي أبو يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود، وإِن كان معلماً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتله،
(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣/ ٢٧٢: وإن صاد المسلم، بكلب مجوسيّ فقتل، حلّ صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيّب، والحكم، ومالك والشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد: لا يباح. وكرهه جابر والحسن، ومجاهد، والنخعي، والثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. وهذا لم يعلّمه. ولنا، أنه آلة صاد بها المسلم، فحلّ صيده، كالقوس والسهم. قال ابن المسيّب: هو بمنزلة شفرته.
والآية دلّت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا، فهو في معناه، فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه، يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة، ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم. وإنما يشترط إرسال الآية من الكلب والسهم، وقد وجد هاهنا.
516
والأمر بالقتل: يمنع ثبوت اليد، ويبطل حكم الفعل، فيصير وجوده كالعدم، فلا يباح صيده «١».
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قال الأخفس: «من» زائدة كقوله تعالى: فِيها مِنْ بَرَدٍ «٢».
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الإِرسال، قاله ابن عباس، والسدي، وعندنا أن التسمية شرط في إِباحة الصيد «٣». والثاني: ترجع إِلى الأكل فتكون التسمية مستحبّة.
قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ، وفي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وقيل: ليس بيوم معيّن، وقد سبق الكلام في «الطيبات» وإنما كرّر إِحلالها تأكيداً. فأما أهل الكتاب، فهم اليهود والنّصارى. وطعامهم: ذبائحهم،
(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣/ ٢٦٧: ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود، إذا كان بهيما لأنه شيطان. قال أحمد: الذي ليس فيه بياض وممن كره صيده الحسن، والنخعي، وقتادة، وإسحاق. قال أحمد: ما أعرف أحدا يرخّص فيه. يعني من السلف. وأباح صيده أبو حنيفة ومالك والشافعي، لعموم الآية والخبر، والقياس على غيره من الكلاب. ولنا، أنه كلب يحرم اقتناؤه، ويجب قتله، فلم يبح صيده كغير المعلّم، ودليل تحريم اقتنائه ما روى مسلم في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن المغفّل، قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، فقال: «عليكم بالأسود البهيم، ذي النكتتين، فإنه شيطان». فالنبي سماه شيطانا، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول رخصة، فلا تستباح بمحرّم كسائر الرّخص.
(٢) سورة النور: ٤٣.
(٣) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٢٥٧- ٢٦٥: مسألة، قال أبو القاسم، رحمه الله «وإذا سمّى وأرسل كلبه أو فهده المعلّم، واصطاد، وقتل، ولم يأكل منه، جاز أكله فاشترط في إباحة ما قتله الجارح شروط منها. أن يسمّي عند إرسال الجارح، فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي وأبي ثور، وعن أحمد أن التسمية تشترط في إرسال الكلب في العمد والنسيان، ولا يلزم ذلك في إرسال السهم. وممن أباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان». وقال الشافعي: يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا لأن البراء روى، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم يذبح على اسم الله، سمّى أو لم يسمّ». وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا. ولنا قوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلت كلبك، وسمّيت، فكل»، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: «لا تأكل، فإنك إنما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على الآخر» متفق عليه.
وحديث أبي ثعلبة، فهذه نصوص صحيحة لا يعرّج على ما خالفها. وأما أحاديث الشافعي، وإن صحت فهي في الذبيحة، ولا يصح قياس الصيد عليها، والتسمية المعتبرة «بسم الله» وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا ذبح قال: «بسم الله والله أكبر». وجاء في تفسير قوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ لا أذكر إلا ذكرت معي.
ولنا، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «موطنان لا أذكر فيهما، عند الذبيحة، والعطاس» رواه أبو محمد الخلّال بإسناده.
517
هذا قول ابن عباس، والجماعة. وإِنما أريد بها الذبائح خاصّة، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن توَّلاه من مجوسي وكتابي، وإِنما الذكاة تختلف، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك، دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان «١»، فروي عن ابن عباس أنه سُئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا بأس بها، وتلا قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والحكم، وحماد. وقد روي عن علي، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين. إِحداهما: تباح ذبائحهم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك. والثانية: لا تباح. وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، لم يبح أكل ذبيحته.
قوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي: وذبائحكم لهم حلال، فاذا اشتروا منا شيئاً كان الثمن لنا حلالاً، واللحم لهم حلالاً. قال الزجاج. والمعنى: أُحل لكم أن تطعموهم.
فصل: وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إِباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإِن ذكروا غير اسم الله عليها، فكان هذا ناسخاً لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «٢» والصحيح أنها أطلقت إِباحة ذبائحهم، لأن الأصل أنهم يذكرون الله فيُحمل أمرهم على هذا. فإن تيقنّا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ، وإِلى هذا الذي قلته ذهب علي، وابن عمر، وعبادة، وأبو الدرداء، والحسن في جماعة.
(١) فائدة: قال الإمام الخرقي في «المختصر» مسألة: وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا، أو نسوا التسمية» قال الإمام الموفق في «شرحه» : وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة، بالغا أو صبيا، حرا أو عبدا، لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. ويشترط أن يكون عاقلا، فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل، لم يصح منه الذبح، وبهذا قال مالك، وقال الشافعي: لا يعتبر القول. ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد، فيعتبر لها العقل كالعبادة. فإن من لا عقل له، لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها. قال: والتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا، فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد، أو ذكر اسم غير الله، لم تحل ذبيحته، روي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والشافعي وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال عطاء ومجاهد ومكحول: إذا ذبح النصراني باسم المسيح حلّ، فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته، وقد علم أنه سيقول ذلك. اه ملخصا ١٣، ٣١١- ٣١٢.
وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : وذبيحة المسلم والكتابي حلال. ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط، وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل، لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد، والأقلف والمختون سواء، وإطلاق اسم الكتابي ينتظم:
الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي. ولا تؤكل ذبيحة المجوسي والمرتد والوثني والمحرم، وكذا لا يؤكل ما ذبح من الصيد في الحرم، وإن ترك التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل، وإن تركها ناسيا أكل وقال الشافعي: أكل في الوجهين. وقال مالك: لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء اه ملخصا «فتح القدير شرح الهداية» ٩/ ٤٩٧- ٤٩٩ بتخريجي.
(٢) سورة الأنعام: ١٢١.
518
قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ فيهن قولان: أحدهما: العفائف، قاله ابن عباس. والثاني:
الحرائِر، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قولان: أحدهما: الحرائِر أيضاً، قاله ابن عباس. والثاني: العفائِف، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، والضحاك والسدي، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهن والأمة.
فصل: وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية. وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائِلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية. وعن طلحة بن عبيد الله: أنه تزوج يهودية. وقد روي عن عمر، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية، فقال ابن عباس: لا تحل، والجمهور على خلافه، وإِنما كرهوا ذلك، لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «١»، والنكاح يوجب الود. واختلفوا في نكاح نساء تغلب، فروي عن عليّ رضي الله عنه الحظر، وبه قال جابر بن زيد، والنخعي، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب، فروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن، وبه قال الأوزاعي، ومالك، واللّيث بن سعد، والشافعي، وأصحابنا، وروي عن الشعبي، وأبي ميسرة جواز ذلك، وبه قال أبو حنيفة. فأما المجوس، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب، وقد شذّ من قال: إِنهم أهل كتاب.
(٤٠١) ويبطل قولهم قولُه عليه السلام: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب».
فأما «الأجور»، و «الإحصان»، و «السّفاح»، و «الأخذان» فقد سبق في سورة النساء.
قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
(٤٠٢) سبب نزول هذا الكلام: أن الله تعالى لما رخَّص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوّج الرجل منا الكتابية، وليست على ديننا، فنزلت: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل بن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إِحصان المسلمين إِياهن بالذي يخرجهن من الكفر. وروى ليث عن مجاهد: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال:
الإِيمان بالله تعالى، وقال الزجاج: معنى الآية: من أحل ما حرّم الله، أو حرّم ما أحلّه الله فهو كافر.
وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله الله من شرائِع الإِيمان، وعرفه من الحلال والحرام، فقد حبط
صحيح. أخرجه مالك في «الموطأ» عن محمد الباقر وهو مرسل لأنه لم يدرك عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. ورواه ابن سعد وفيه شيخه الواقدي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والواقدي ضعيف.
لكن أخرجه البخاري ٣١٥٧ وأبو داود ٣٠٤٣ والترمذي ١٥٨٧ والدارمي ٢٤٠٦ وابن الجارود ١١٠٥ والبيهقي ٩/ ١٨٩ وأحمد ١/ ١٩٠، ٩٤ كلهم عن بجالة بن عبدة قال: «لم يكن عمر يأخذ الجزية من المجوس حتى حدثه ابن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر» فهذا إسناد صحيح متصل.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، ولم يسمع منه كما قال ابن حبان، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
__________
(١) سورة المجادلة: ٢٢.
519
عمله المتقدّم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النّيسابوريّ الفقيه يقول: إنّما أباح الله عزّ وجلّ الكتابيّات، لأنّ بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فَحَذَّر ناكحهنَّ من الميل إِلى دينهن بقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال الزجاج: المعنى: إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة، كقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «١» قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ أهل الحسب، وإِذا اتجرت فاتجر في البزّ «٢». قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدّماً ومؤخراً، تقديره: إِذا غسلتم وجوهكم، واستوفيتم الطهور، فقوموا إِلى الصلاة. وللعُلماء في المراد بالآية قولان «٣».
أحدهما: إِذا قمتم إِلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مضمراً في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء. والثاني: أن الكلام على إِطلاقه من غير إِضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثاً كان، أو غير محدث، وهذا مروي عن عليّ رضي الله عنه وعكرمة، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً، ثم نسخ بالسنّة.
(٤٠٣) وهو ما روى بُريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوءٍ واحدٍ، فقال له عمر: لقد صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: «عمداً فعلته يا عمر».
صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٧ وأبو داود ١٧٢ والترمذي ٦١ والنسائي ١/ ١٦ والدارمي ١/ ١٦٩ وأحمد ٥/ ٣٥٠- ٣٥١- ٣٥٨ وأبو عوانة ١/ ٢٣٧ والطحاوي في «المعاني» ١/ ٤١ وابن حبان ١٧٠٦ و ١٧٠٧ و ١٧٠٨ والبيهقي ١/ ١٦٢ من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.
__________
(١) سورة النحل: ٩٨. [.....]
(٢) في «اللسان» : البزّ: الثياب، وقيل البزّ من الثياب أمتعة البزاز والبزاز بائع البزّ وحرفته البزازة.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٥٤: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: إن الله عني بقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا، جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم إلى صلاته، بعد حدث كان منه ناقض طهارته، وقبل إحداث الوضوء منه، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته لذلك كان عليه السلام يتوضأ لكلّ صلاة قبل فتح مكة ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعله عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعة منه إلى ما ندبه إليه ربّه، لا على أن ذلك كان عليه فرضا واجبا.
520
وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: إِذا قمتم إِلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم «١».
قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «إِلى» حَرْفٌ موضوعٌ للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة، وقد لا تدخل، فلما كان الحديث يقيناً، لم يرتفع إِلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه «٢»، وهو قول مالك، وروي عنه: يجب مسح أكثره، وروي عن أبي حنيفة روايتان: إِحداهما: أنه يتقدّر بربع الرأس. والثانية: بمقدار ثلاث أصابع.
قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم:
بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب:
بفتح اللام عطفاً على الغَسل، فيكون من المقدم والمؤخّر. قال الزجاج: الرِّجل من أصل الفخذ إِلى القدم، فلما حدّ الكعبين، عُلمَ أن الغسل ينتهي إِليهما، ويدل على وجوب الغَسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد «إلى المرافق» ولم يجيء في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر:
(١) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» ٢/ ٤٨: قال زيد بن أسلم: معناه إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وبين هذا أن النوم حدث، وبه قال جملة الأمة.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١/ ٢٣٥- ٢٣٧ ما ملخصه. فصل: والنوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
نوم المضطجع، فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من يقول بنقضه بالنوم. الثاني: نوم القاعد، إن كان كثيرا نقض، رواية واحدة، وإن كان يسيرا لم ينقض، وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: لا ينقض وإن كثر، إذا كان القاعد متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض. الثالث:
نوم القائم والراكع والساجد، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان: إحداهما: ينقض، وهو قول الشافعي، والثانية: لا ينقض إلا إذا كثر. وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر.
لأنه حال من أحوال الصلاة، فأشبهت حال الجلوس. والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس.
واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي. فعنه: لا ينقض يسيره. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: الوضوء من النوم؟ قال: إذا طال. قيل: فالمحتبي؟ قال: يتوضأ. قيل: فالمتكئ؟ قال: الاتكاء شديد، والمتساند كأنه أشد من الاحتباء، ورأى منها كلها الوضوء، إلا أن يغفو قليلا، وعنه: ينقض بكل حال لأنه معتمد على شيء، فهو كالمضطجع، والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير اه باختصار. وانظر «المدونة» ١/ ٩- ١٠ و «تفسير القرطبي» ٥/ ٢٢٢.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١/ ١٧٥- ١٧٦: لا خلاف في وجوب مسح الرأس. واختلف في قدر الواجب، فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد، وهو مذهب مالك. وعن أحمد: يجزئ مسح بعضه، وبه قال الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب، وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها اه ملخصا.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١/ ١٨٣- ١٨٤ ما ملخصه: فصل: والأذنان من الرأس، فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه. وقال الخلال: كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا أنه يجزئه، وذلك لأنهما تبع للرأس، والأولى مسحهما معه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مسحهما مع رأسه.
- وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : ومسح الأذنين، وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم دون الخلقة.
521
يا ليتَ بَعْلك قد غدا متقلِّداً سيفاً ورُمحاً «١»
والمعنى: وحاملاً رمحاً. وقال الآخر.
علفتها تبناً وماءً بارِداً «٢» والمعنى: وسقيتها ماءً بارداً. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجرّ على الإِتباع، والمعنى:
الغسل، نحو قولهم: جحر ضبٍ خربٍ. وقال ابن الأنباري: لما تأخّرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم: جحر ضبٍّ خَربٍ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمّي الغسل مسحاً، لأن الغسل لا يكون إِلا بمسح. وقال أبو علي: مَن جرّ فحُجَّتُه أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارّة، ووجه العاملين إِذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد، وهو «الباء» هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين «٣» :
(١) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» : ١٦٥ و «الكامل» ١/ ٢٨٩ و «اللسان» مادة: قلد. ونسبه في حواشي ابن القوطية على «الكامل» ١٨٩ لعبد الله بن الزبعرى. ويروى الشطر الأول منه «ورأيت زوجك في الوغى» وفي «اللسان» : تقلّد الأمر: احتمله.
(٢) هو صدر بيت وعجزه: حتى شتت همّالة عيناها. وهو في «الخزانة» ١/ ٤٩٩ وشرح «شواهد المغني» ٣١٤.
قال العيني: ٤/ ١٨١ أنشده الأصمعي وغيره، ولم أر أحدا عزاه إلى قائله.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٣٥: ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي ١/ ٧٥ عن النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته، وهو قائم، ثم قال: إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت، وقال: «هذا وضوء من لم يحدث». والأحاديث التي جاءت بالغسل كثيرة. ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:
«أسبغوا الوضوء، وبل للأعقاب من النار». وروى مسلم عن عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدم، فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» قال ابن كثير: وإسناده جيد قوي صحيح.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : وغسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غسل القدمين. وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه، وحكي عن ابن عباس أنه قال: ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين. وحكي عن الشعبي أنه قال: الوضوء مغسولان وممسوحان، فالممسوحان يسقطان في التيمم. ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير ما ذكرنا إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخيّر بين المسح والغسل، واحتج بظاهر الآية. وما روي عن ابن عباس. ولنا أن عبد الله بن زيد، وعثمان، حكيا وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالا: فغسل قدميه. وفي حديث عثمان: ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا، متفق عليهما. وعن علي أنه حكى وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا. فإن قيل: فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح. قلنا: قد افترقا من وجوه: أحدها: أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله، والرجلين أشبه بالمغسولات. والثاني: أنهما محدودان بحد ينتهي إليه، فأشبها اليدين. والثالث: أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. وأما حديث أوس في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك ابن عباس، ولذلك قال: أخذ ملء كفّه من ماء فرش على قدميه، والمسح يكون بالبلل لا برش الماء.
522
أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ «١»، أي ضرباً، فكأن المسح في الآية غسل خفيف. فإن قيل: فالمستحب التكرار ثلاثاً؟ قيل: إِنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون.
والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إِنما جاء في المغسول دون الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، عُلم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حَمل ذلك على الغسل لاجتماع فُقهاء الأمصار على الغسل.
قوله تعالى: إِلَى الْكَعْبَيْنِ «إِلى» بمعنى «مع»، والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي: فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد، وقد بيّن الله عزّ وجلّ طهارة الجنب في سورة النّساء بقوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا «٢» وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و «الحرج» : الضيق، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم.
قوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا، لأن الوضوء يكفر الذنوب.
قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال:
أحدها: بغفران الذنوب.
(٤٠٤) قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ، فدعا بِها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إِلى الصلاة، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن. فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «٣» فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في المائدة: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلى قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.
ضعيف بهذا اللفظ والإسناد. أخرجه البيهقي في «الشعب» ٢٧٢٨ من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب به، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه عيسى بن أبي عيسى.
- والذي صح عن عثمان ما أخرجه البخاري ١٥٩ و ١٩٣٤ و ٦٤٣٣ ومسلم ٢٢٦ وغيرهما عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه».
__________
(١) سورة ص: ٣٣.
(٢) سورة النساء: ٤٣.
(٣) سورة الفتح: ١- ٢.
523
والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان، وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد. والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان. والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلَّها. وفي هذا حثٌ على الشكر.
وفي الميثاق أربعة أقوال «١» : أحدها: أنه إِقرار كل مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس: لما أنزل الله الكتاب، وبعث الرسول، فقالوا: آمنا، ذكَّرهم ميثاقه الذي أقرُّوا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء.
والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقرّوا به من الإِيمان. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصّحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، ذكره بعض المفسّرين. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها من إيمان وشكّ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدّم ذكرهم في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
(٤٠٥) والثاني: أن قريشاً بعثت رجلاً ليقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأطلع الله نبيه على ذلك، ونزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن.
(٤٠٦) والثالث: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذهب إِلى يهود بني النضير يستعينهم في ديةٍ، فهمُّوا بقتله، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وقتادة.
ومعنى الآية: كونوا قوامين لله بالحق، ولا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل اعْدِلُوا في
هو الآتي بعد حديث.
هو الآتي بعد حديث جابر.
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٨١: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول ابن عباس، وهو أن معناه: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر.
الولي والعدو هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: إِلى التقوى. والمعنى: أقرب إِلى أن تكونوا متقين، وقيل: هو أقرب إلى اتّقاء النّار.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ في معناها قولان:
أحدهما: أن المعنى: وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى.
والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة. وقد بيّنّا في البقرة معنى «الجحيم» ».
[سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
في سبب نزولها أربعة أقوال «٢» :
(٤٠٧) أحدها: أن رجلاً من محارب قال لقومه: الا أقتل لكم محمداً، فقالوا: وكيف تقتله؟
فقال: أفتك به، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيفه في حجره، فأخذه، وجعل يهزّه، ويهمّ به، فيَكْبِتُه الله، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا، قال: لا تخافني وفي يدي السّيف؟! قال: يمنعني الله منك، فأغمد السيف، فنزلت هذه الآية، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله. وفي بعض الألفاظ: فسقط السّيف من يده. وفي لفظ آخر: فما قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئاً ولا عاقبه. واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث من محارب خصفة.
ذكر نزول الآية ضعيف. أخرجه الواحدي ٣٨٥ من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر به، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق والحسن وكلاهما مدلس، وفيه عمرو بن عبيد، وهو ضعيف، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية، وأما أصل الحديث فصحيح. أخرجه البخاري ٤١٣٥ و ٤١٣٦ ومسلم ٨٤٣ والواحدي ٣٨٦ والبيهقي ٦/ ٣١٩ والطبري ١١٥٦٩ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل نجد فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت سمرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت له: الله، فها هوذا جالس» ثم لم يعاقبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيه سبب نزول الآية.
والقائلة: شدة الحر. والعضاه: شجر له شوك. واختراط السيف: سله. صلتا: مجردا من غمده.
__________
(١) سورة البقرة: ١١٩.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٤/ ٤٨٧: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمته على المؤمنين به وبرسوله، في استنقاذه نبيهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم مما كانت اليهود همت به في قتله ومن معه، يوم سار إليهم نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في الدية التي كان تحمّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.
(٤٠٨) والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكفاه الله شرّهم، قال ابن عباس:
صنعوا له طعاماً، فأوُحِيَ إِليه بشأنهم، فلم يأت.
(٤٠٩) وقال مجاهد، وعكرمة: خرج إِليهم يستعينهم في دية، فقالوا: اجلس حتى نعطيك، فجلس هو وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فمن يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحّاش: أنا، فجاء إِلى رحى عظيمة ليطرحها عليه، فأمسك الله يده، وجاء جبريل، فأخبره، وخرج، ونزلت هذه الآية.
(٤١٠) والثالث: أن بني ثعلبة، وبني مُحارب أرادوا أن يفتكوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابه، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السابعة، فقالوا: إِِن لهم صلاة هي أحبّ إِليهم من آبائِهم وأمهاتهم، فإذا سجدوا وقعنا بهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأنزل صلاة الخوف، ونزلت هذه الآية، هذا قول قتادة.
والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هذا قول ابن زيد.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال أبو العالية: أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة، ولا يعبُدوا غيره. وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة.
وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضمين، قاله الحسن، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده، ولا يجوز أن يكون ضميناً عنهم بالوفاء، لأن ذلك لا يصح ضمانه. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم. والنقابة شبيهة بالعرافة. والثاني: أنه الشاهد، قاله قتادة. وقال ابن فارس:
النقيب: شاهد القوم، وضمينهم. والثالث: الأمين، قاله الربيع بن أنس، واليزيدي، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجاج: النقيب في اللغة، كالأمين والكفيل، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إِذا صار نقيباً عليهم، وصناعته النقابة، وكذلك عرِّف عليهم: إِذا صار عريفاً، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النّقبة، ويجمع النّقب والنّقب. وقال الشاعر:
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ٢/ ٤٨٩- ٤٩٠ من طريق عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس مطوّلا، ومقاتل متهم، والضحاك لم يلق ابن عباس، وأخرجه الطبري ١١٥٦٧ بسند فيه مجاهيل.
وانظر ما بعده،
أخرجه الطبري برقم ١١٥٦١ و ١١٥٦٢ عن مجاهد، وبرقم ١١٥٦٥ عن عكرمة، وكلاهما مرسل.
مرسل. أخرجه الطبري ١١٥٦٨ عن قتادة مرسلا. فهذه المراسيل تتأيد بمجموعها، وإن اختلفت ألفاظها، والله أعلم، فإن المعنى متحد، وهو محاولة الكفرة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
متبذِلاً تبدو محاسنُه يضعُ الهناء مواضِعَ النُّقب «١»
ويقال: في فلان مناقب جميلة، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عُمق ودخول، ومن ذلك نقبت الحائِط، أي: بلغت في النقب آخِرَه، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول. وإِنما قيل: نقيب، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم. ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسّير إلى الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبارون، فقال تعالى: يا موسى اخرج إِليها وجاهد من فيها من العدو، وخُذْ من قومك اثني عشر نقيباً، من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به، فاختاروا النقباء. وفيما بعثوا له قولان:
أحدهما: أن موسى بعثهم إِلى بيت المقدس، ليأتوه بخبر الجبارين، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومِهِمْ بالوفاء بميثاقهم، قاله الحسن، وابن إِسحاق. وفي نبوّتهم قولان: أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء.
قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ في الكلام محذوف. تقديره: وقال الله لهم. وفي المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم بنو إِسرائيل، قاله الجمهور. والثاني: أنهم النقباء، قاله الربيع، ومقاتل. ومعنى إِنِّي مَعَكُمْ أي: بالعون والنصرة، وفي معنى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قولان: أحدهما: أنه الإِعانة والنصر، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي. والثاني: أنه التعظيم والتوقير، قاله عطاء واليزيدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.
قوله تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً في هذا الإقراض قولان: أحدهما: أنه الزكاة الواجبة.
والثاني: صدقة التطوع. وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن.
قوله تعالى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ يشير إِلى الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: أخطأ قصد الطريق.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعنّاهم. وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل. والثالث: الإِبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: قاسِيَةً بالألف، يقال: قست، فهي قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضّل، عن عاصم: «قسيّةً» بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم. و «القسوة» : خلاف اللّين والرّقة. وقد ذكرنا هذا في (البقرة).
(١) البيت لدريد بن الصّمة كما في «اللسان» مادة- نقب. [.....]
وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال: أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: تغيير صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والثالث: تفسيره على غير ما أُنزل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ مبيّن في (سورة النساء).
قوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ النسيان هاهنا: الترك عن عمد. والحظ: النصيب.
قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أُنزل عليهم، وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم.
وفي معنى ذُكِّرُوا بِهِ قولان: أحدهما: أمروا. والثاني: أوصوا.
قوله تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وقرأ الأعمش «على خيانة منهم» قال ابن قتيبة:
الخائِنة: الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائِن، كما يقال: رجلٌ طاغية، وراوية للحديث. قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخروج كعب بن الأشرف إِلى أهل مكة للتّحريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن.
قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ واختلفوا في نسخها على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها آية السّيف. والثاني: قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ... «١». والثالث:
قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً... «٢».
(٤١١) والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ.
قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرةٍ فعلوها، ما لم ينصبوا حرباً، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصّغار، فلا يتوجّه النّسخ.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ قال الحسن: إِنما قال: قالوا:
إِنا نصارى، ولم يقُل: من النصارى، لِيَدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة، هم الذين اتبعوا المسيح. وقال قتادة: كانوا بقرية، يقال لها: ناصرة، فسمّوا بهذا الاسم، قال مقاتل: أُخذ عليهم الميثاق، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد، فتركوا ما أُمروا به.
قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ قال النّصر: هيّجنا، وقال المؤرّج: حرّشنا بعضهم على بعض وقال الزجاج: ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرّجل غرى مقصوراً: إِذا لصقت به، هذا قول الأصمعيّ.
تقدم آنفا، وقد ساقه المصنف بمعناه. وانظر كلام الطبري في «تفسيره» ٤/ ٤٩٨- ٤٩٩.
__________
(١) سورة التوبة: ٢٩.
(٢) سورة الأنفال: ٥٨.
وقال غير الأصمعي: غريت به غراءً ممدود، وهذا الغراء الذي يُغرى به إِنما يلصق به الأشياء، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقاً يكفّر بعضهم بعضاً. وفي الهاء والميم مِن قوله بَيْنَهُمُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى اليهود والنصارى، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني: أنها ترجع إِلى النصارى خاصة، قاله الربيع. وقال الزجاج: هم النصارى، منهم النسطوريّة واليعقوبيّة والملكيّة، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد لهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود. والثاني: اليهود والنّصارى. و «الرّسول» : محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: أخفوا آية الرّجم «١»، وأمر محمّد عليه السلام وصفته وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه. فان قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟
فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان متلقياً ما يؤمر به، فإذا أُمِر باظهار شيءٍ من أمرهم، أظهره، وأخذهم به، وإِلا سكت. والثاني: أن عقد الذّمة إِنما كان على أن يُقرّوا على دينهم، فلما كتموا كثيراً مما أُمروا به، واتخذوا غيره ديناً، أظهر عليهم ما كتموه مِن صفته وعلامة نبوته، لتتحقّق معجزته عندهم، واحتكموا إِليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إِقرارهم على دينهم. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وقال غيره: هو الإِسلام، فأما الكتاب المبين، فهو القرآن.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٦]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني: بالكتاب. ورضوانه: ما رضيه الله تعالى. و «السُبل»، جمع سبيل، قال ابن عباس: سبل السلام: دين الاسلام. وقال السدي: «السلام» : هو الله، و «سبله» :
دينه الذي شرعه. قال الزجاج: وجائِز أن يكون «سُبل السلام» طريق السَّلامة التي مَن سلكها سَلِمَ في دينه، وجائز أن يكون «السلام» اسم الله عزَّ وجلَّ، فيكون المعنى: طرق الله عزّ وجلّ. قوله تعالى:
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ قال ابن عباس: يعني الكفر إِلَى النُّورِ يعني: الإِيمان بِإِذْنِهِ أي:
بأمره وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. وقال الحسن: طريق الحقّ.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
(١) أخرجه الطبري ١١٦١٢ بسند حسن عن ابن عباس.
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال ابن عباس: هؤلاء نصارى أهل نجران، وذلك أنهم اتخذوه إِلهاً قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: فلو كان إِلهاً كما تزعمون لقَدَرَ أن يردّ أمرَ اللهِ إِذا جاءه بإهلاكه أو إِهلاك أمّه، ولما نزل أمر الله بأمّه، لم يقدرْ أن يدفع عنها. وفي قوله تعالى:
يَخْلُقُ ما يَشاءُ ردٌ عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب «١». فإن قيل: فلم قال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب أن المعنى: وما بَين هذين النوعين من الأشياء، قاله ابن جرير.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى قال مقاتل: هم يهود المدينة، ونصارى نجران. وقال السدي: قالوا: إِن الله تعالى أوحى إِلى إِسرائيل: إِنَّ ولدك بكري من الولد. فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهّرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أخرجوا كلَّ مختون من بني إِسرائيل.
وقيل: إِنهم لما قالوا: المسيح ابن الله، كان معنى قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ أي: منّا ابن الله. وفي قوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ إِبطال لدعواهم، لأن الأب لا يعذّب ولده، والحبيبُ لا يُعذّبُ حبيبه وهم يقولون: إِن الله يعذبنا أربعين يَوماً بالنار. وقيل: معنى الكلام: فلمَ عذّب منكم من مسخه قردةً وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائِدة.
قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي: أنتم كسائِر بني آدم تُجازَوْن بالإِحسان والإِساءة. قال عطاء: يغفر لمن يشاء، وهم الموحدون، ويعذّب من يشاء، وهم المشركون.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا.
(٤١٢) سبب نزولها: أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إِنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولاً بشيراً ولا نذيراً بعده، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما «الفترة» فأصلها السكون، يقال: فتر الشيء يَفتر فتوراً: إذا سكنت حدّته، وانقطع عمّا كان
ضعيف. أخرجه الطبري ١١٦١٩ من طريق محمد بن إسحاق به. وشيخه محمد بن أبي محمد مجهول كما في التقريب، وقال الذهبي في «الميزان» لا يعرف.
__________
(١) تقدم في آل عمران.
عليه، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد. والفتور: الضعف. وفي مدّة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال: أحدها: أنه كان بين عيسى ومحمّد عليهما السلام ستمائة سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سلمان الفارسي، ومقاتل. والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة، قاله قتادة.
والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة، قاله الضحاك. والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة، قاله ابن السائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي: انقطاع منهم، قال: وكان بين ميلاد عيسى، وميلاد محمّد عليهما السّلام خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرسل، فذلك قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «١». قال: والرابع لا أدري من هو. وكان بين تلك السنين مائة سنة، وأربع وثلاثون نبوّة وسائِرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع، والله أعلم: خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(٤١٣) «نبيٌ ضيَّعه قومُه».
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قال الفرّاء: كي لا تقولوا: مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «٢». وقال غيره: لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فيهم قولان: أحدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، وانطلقوا معه إِلى الجبل، جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون، وهذا قول ابن السائب ومقاتل.
والثاني: أنهم الأنبياء الذين أُرْسِلوا من بني إِسرائيل بعد موسى، ذكره الماوردي.
وبماذا جعلهم ملوكاً؟ فيه ثمانية أقوال: أحدها: بالمن والسلوى والحجر. والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجةً وخادماً. والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار الحسن، ومجاهد. والرابع: بالخادم والبيت، قال عكرمة. والخامس: بتمليكهم الخدم. وكانوا أول مَن ملك الخدم، ومن اتخذ خادماً فهو ملك، قاله قتادة. والسادس: بكونهم أحراراً يملك الإِنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدّي. والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك. والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم قوم موسى، وهذا مذهب ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: ويعني بالعالمين: الذين
ضعيف منكر. أخرجه البزار ٢٣٦١ من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع.
وهو معارض بحديث «أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علات، وليس بيني وبين عيسى نبي».
- أخرجه البخاري ٣٤٤٣ ومسلم ٢٣٦٥ وأحمد ٢/ ٣١٩ وغيرهم من حديث أبي هريرة.
- فهذا يرد الحديث المتقدم، بل ولا يصح ثبوت نبوة رجل بخبر ضعيف.
__________
(١) سورة يس: ١٤.
(٢) سورة النساء: ١٧٦.
هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال: أحدها: المن والسّلوى والحجر والغمام، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير:
ما أُوتي أحد من النِّعم في زمان قوم موسى ما أُوتوا. والثالث: كثرة الأنبياء فيهم، ذكره الماورديّ.
والثاني: أن الخطاب لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢١]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا وقرأ ابن محيصن: «يا قوم ادخلوا» بضمّ الميم، وكذلك «يا قوم اذكروا» و «يا قوم اعبدوا» «١». وفي معنى الْمُقَدَّسَةَ قولان:
أحدهما: المطهرة، قاله ابن عباس، والزجاج. قال: وقيل للسطل: القَدَس، لأنهُ يتطهّر منه، وسُمّي بيت المقدس، لأنه يتطهر فيه من الذنوب. وقيل: سمّاها مقدّسة، لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكناً للأنبياء والمؤمنين. والثاني: أن المقدَّسة: المباركة، قاله مجاهد.
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال: أحدها: أنها أريحا: رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن زيد. قال السدي: أريحا هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس. قال ابن قتيبة: وقرأت في مناجاة موسى أنه قال: اللهم إِنَّك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت بكة وإِيلياء ومن إِيلياء بيت المقدس، فهذا يدل على أن إِيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إِيلياء بيت المقدس، وهو معرَّب. قال الفرزدق:
وبيتانِ بَيْتُ الله نحْنُ ولاته وبيت بأعلى إيلياء مشرّف
والثاني: أنها الطور وما حوله، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردُن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الشام كلها، قاله قتادة.
وفي قوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى أمرَكم وفرض عليكم دخولها، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه بمعنى: وهبها الله لكم، قاله محمد بن إِسحاق. وقال ابن قتيبة: جعلها لكم. والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم.
فإن قيل: كيف قال: فإنها محرمة عليهم، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه إِنما جعلها لهم بشرط الطاعة، فلما عصَوْا حرَّمها عليهم.
والثاني: أنه كتبها لبني إِسرائيل، وإِليهم صارت، ولم يعنِ موسى أن الله كتبها للذين أُمِرُوا بدخولها بأعيانهم. قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم، وأُريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم، وقد دخلها يوشع، وكالب.
قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فيه قولان:
أحدهما: لا ترجعوا عن أمر الله إِلى معصيته. والثاني: لا ترجعوا إلى الشّرك به.
(١) سورة الأعراف: ٥٩.

[سورة المائدة (٥) : آية ٢٢]

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
قوله تعالى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال الزجاج: الجبار من الآدميّين: الذي يُجبِر الناس على ما يريد، يقال: جبار: بَيِّنُ الجَبَرِيَّة، والجِبِرِيَّة بكسر الجيم والباء، والجَبَرُوَّةُ والجُبُّورة والتَّجبار والجَبَرُوت. وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ذوي قوّة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا عظام الخلْق والأجسام، قاله قتادة. والثالث: أنهم كانوا قتَّالين، قاله مقاتل.
(الإِشارة إِلى القصَّة) قال ابن عباس: لما نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين، بعث اثني عشر رجلاً، ليأتوه بخبرهم، فلقيَهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائِه، فأتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا، فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيَه بخبركم، فأعطوهم حبَّةً من عنبٍ توقر «١» الرجل، وقالوا لهم، قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم، فلما رجعوا، قالوا: يا موسى إِن فيها قوماً جبارين. وقال السدي: كان الذي لقيهم، يقال له: عاج، يعني: عوج بن عناق، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حُجرته وعلى رأسه حُزمة حطب، وانطلق بهم إِلى امرأته، فقال: انظري إِلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، فطرحهم بين يديها، قال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا، بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلما خرجوا قالوا: يا قوم إِن أخبرتم بني إِسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك، فنكث عشرة، وكتم رجلان، وقال مجاهد: لما رأى النُّقباءُ الجبارينَ، وجدوهم يدخل في كمِّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إِلا خمسة أو أربعة، ويدخل في شطر الرّمّانة إذ نزع حبّها خمسة أو أربعة، فرجع النقباء كلُّهم ينهى سبطه عن قتالهم إِلا يوشع، وابن يوقنّا «٢».
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٣]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ في الرجلين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ابن يوقنّا، وهما من النقباء. والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما، روي عن ابن عباس. والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين، وهما على دين موسى، قاله الضحاك. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأيوب: «يُخافون» بضم الياء، على معنى أنهما كانا من العدوّ، فخرجا مؤمنين. وفي معنى «خوفهم» ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم خافوا الله وحده. والثاني: خافوا الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق. والثالث: يُخاف منهم، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال: أحدها: الإِسلام، قاله ابن عباس.
(١) في «اللسان» : الوقر: الحمل الثقيل.
(٢) هذه الأخبار من مجازفات الإسرائيليين وترّهاتهم، وفيها من المبالغة ما لا يخفى.
والثاني: الصلاح والفضل واليقين، قاله عطاء. والثالث: الهُدى، قاله الضحاك. والرابع: الخوف، ذكره ابن جرير عن بعض السلف. قوله تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ قال ابن عباس: قال الرجلان:
ادخلوا عليهم باب القرية فانهم قد مُلئوا منّا رعبا وفرقا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٤]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربَّك النصر. وقال غيرهما: اذهب أنت وليُعِنْكَ ربك.
(٤١٤) قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحبُّ إِليَّ مما عُدِلَ به، أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرق لذلك وجهه وسُرّ به.
(٤١٥) وقال أنس: استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم خرج إِلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر فسكت، فقال رجل من الأنصار: إِنما يريدكم، فقالوا: يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب وأنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنّا معك.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٥]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)
قوله تعالى: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فيه قولان: أحدهما: لا أملك إِلا نفسي، وأخي لا يملك إِلا نفسه. والثاني: لا أملك إِلا نفسي وإِلاّ أخي، أي: وأملك طاعة أخي، لأن أخاه إِذا أطاعه فهو كالمِلْكِ له، وهذا على وجه المجاز، كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٤١٦) «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إِلا لك يا رسول الله، يعني: أنِّي متصرّف حيث صرّفتني، وأمرك جائِز في مالي.
قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس: اقض بيننا وبينهم. وقال أبو عبيدة: باعد، وافصل، وميّز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال: أحدها: العاصون، قاله ابن عباس.
صحيح. أخرجه البخاري ٣٩٥٢ و ٤٦٠٩ والنسائي في «التفسير» ١٦٠ من حديث ابن مسعود.
صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ١٦١ وأحمد ٣/ ١٠٥ و ١٨٨ وأبو يعلى ٣٧٦٦ و ٣٨٠٣ وابن حبان ٤٧٢١ من حديث حميد الطويل عن أنس، وإسناده على شرط الشيخين. وأخرجه مسلم ١٧٧٩ وأبو داود ٢٦٨١ وأحمد ٣/ ٢١٩- ٢٢٠ وابن حبان ٤٧٢٢ من طريق حماد عن ثابت عن أنس نحوه.
صحيح. أخرجه النسائي في «فضائل الصحابة» ٩ وابن ماجة ٩٤ وابن أبي شيبة ١٢/ ٦- ٧ وأحمد ٢/ ٢٥٣- ٣٦٦. وابن حبان ٦٨٥٨، وهو حديث صحيح، رووه من حديث أبي هريرة. وأخرجه بأطول مما هنا الترمذي ٣٦٦١ وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأصله متفق عليه.
والثاني: الكاذبون، قاله ابن زيد. والثالث: الكافرون، قاله أبو عبيدة، قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت وربك، فدعا عليهم، وكانت عجلة من موسى عجلها.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٦]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الإِشارة إِلى الأرض المقدَّسة. ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها. فأمّا نصب «الأربعين»، فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم، وجائز أن يكون منصوباً ب «يتيهون». وقال الزجاج: لا يجوز أن ينتصب بالتحريم، لأن التفسير جاء أنها محرَّمة عليهم أبداً، قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك، فذهب الأكثرون، منهم عكرمة، وقتادة، إِلى ما قال الزجاج، وأنها حرّمت عليهم أبداً، قال عكرمة: فإنها محرّمة عليهم أبداً يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذهب قومٌ، منهم الربيع بن أنس، إِلى أنها حُرِّمَت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير إِليها، وهذا اختيار ابن جرير. قال: إِنما نصبت بالتحريم، والتحريم كان عاماً في حق الكلِّ، ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد، فلما انقضت، أُذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم. قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون:
يحورون ويضلون.
(الإشارة إلى قصتهم) قال ابن عباس: حرّم الله على الذين عَصَوْا دُخُولَ بيت المقدس، فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وماتوا في التيه، ومات موسى وهارون، ولم يدخل بيت المقدس إِلا يوشع وكالب بأبناء القوم، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها. وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السدي: لما ضرب الله عليهم التيه، ندم موسى على دعائه عليهم، وقالوا له: ما صنعت بنا، أين الطعام؟ فأنزل الله المنَّ. قالوا: فأين الشراب؟ فأُمِر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فأين الظلُّ؟ فظلّل عليهم الغمام. قالوا: فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرّق لهم ثوب، وقُبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إِلاَّ مات، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إِسرائيل من التيه، وقال لهم: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً، وادخلوا الباب سجداً، وقولوا حطةٌ... إِلى آخر القصّة. وهذا قول الربيع بن أنس، وعبد الرّحمن بن زيد. قال ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح، وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إِسرائيل، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج، وكان عوج ملكهم، وكان بلعم بن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب، وإِنما حرِّمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة أرض التيه قولان: أحدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس. قال مقاتل: هذا عرضها، وطولها ثلاثون فرسخاً. والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخاً، حكاه مقاتل أيضاً.
قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال الزجاج: لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي، ومخالفة الرسل. وقال ابن قتيبة: يقال أسيت على كذا، أي: حزنت، فأنا آسي أسى.

[سورة المائدة (٥) : آية ٢٧]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ النبأ: الخبر. وفي ابنيْ آدم قولان:
أحدهما: أنهما ابناه لِصُلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنهما أخوان من بني إِسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وهذا قول الحسن، والعلماء على الأول، وهو أصح لقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ «١» ولو كان من بني إِسرائيل، لكان قد عرف الدّفن.
(٤١٧) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنه: «إِنه أول من سن القتل».
وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي: كما كان. والقربان: فعلان من القرب، وقد ذكرناه في آل عمران.
وفي السبب الذي قربا لأجله قولان: أحدهما: أن آدم عليه السلام كان قد نُهِي أن يُنْكِحَ المرأة أخاها الذي هو توأمها، وأُجيز له أن يُنكحها غيره من إِخوتها، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأُنثى، فولدت له ابنة وسيمة، وأخرى دميمة، فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة: أنكحني أُختك، وأُنكحك أُختى، فقال أخو الوسيمة: أنا أحق بأختي، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث، وأخو الدميمة صاحب غنم، فقال: هلمَّ فلنقرّب قرباناً، فأينا تُقُبِّل قربانُه فهو أحقُّ بها، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الحرث بصُبْرَةٍ «٢» من طعام، فتُقُبِّل الكبش، فخزنه الله في الجنة أربعين خريفاً، فهو الذي ذبحه إِبراهيم، فقتله صاحب الحرث، فوَلَدُ آدم كلهم من ذلك الكافر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهما قرّباه من غير سبب. روى العوفي عن ابن عباس أن ابنيْ آدم كانا قاعدَين يوماً، فقالا: لو قرّبنا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها، وجاء الآخر ببعض زرعه، فنزلت النار، فأكلت الشاة، وتركت الزرع، فقال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تُقُبِّل، وأنك خيٌر مني لأقتلنَّك.
واختلفوا هل قابيل وأُخته وُلدا قبل هابيل وأُخته، أم بعدهما؟ على قولين، وهل كان قابيل كافراً أو فاسقاً غير كافر؟ فيه قولان: وفي سبب قبول قربان هابيل قولان: أحدهما: أنه كان أتقى الله من قابيل. والثاني: أنه تقرّب بخيار ماله، وتقرب قابيل بشرِّ ماله. وهل كان قربانهما بأمر آدم، أم من قِبل أنفسهما؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان وآدم قد ذهب إِلى زيارة البيت. والثاني: أن آدم أمرهما بذلك.
صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٣٥ و ٦٨٦٧ و ٧٣٢١ ومسلم ١٦٧٧ والترمذي ٢٦٧٣ والنسائي ٧/ ٨١- ٨٢ في «التفسير» ١٦٢ وعبد الرزاق ١٩٧١٨ وابن ماجة ٢٦١٦ وأحمد ١/ ٣٨٣ وابن أبي شيبة ٩/ ٣٦٤ وابن حبان ٥٩٨٣ والطحاوي في «المشكل» ١/ ٤٨٣ من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه أول من سنّ القتل؟». وانظر «تفسير الشوكاني» ٧٩٤ و «أحكام القرآن» ٦٩٠ بتخريجنا.
__________
(١) سورة المائدة: ٣١.
(٢) في «اللسان» : الصّبرة: ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن. كالكومة.
وهل قُتل هابيل بعد تزويج أُخت قابيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إِليها.
والثاني: أنه قتله بعد نكاحها.
قوله تعالى: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ وروى زيد عن يعقوب: «لأقتلنْك» بسكون النون وتخفيفها.
والقائل: هو الذي لم يُتقبَّل منه. قال الفراء: إِنما حذف ذكره، لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في الكلام أن تقول: إِذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإِذا اجتمع السفيه والحليم حُمِد، وإِنما كان ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مرّ بي رجلٌ وامرأةٌ، فأعنتُ، وأنت تريد أحدهما، لم يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مُرادِك. وفي المراد بالمتقين قولان: أحدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٨]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨)
قوله تعالى: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فيه قولان: أحدهما: أما أنا بمنتصرٍ لنفسي، قاله ابن عباس. والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان: أحدهما:
أنه منعه التحرُّج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر وابن عباس. والثاني: أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزاً، قاله الحسن ومجاهد.
وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه، وقد ذُكر أنه قتله غِيلةً، فلا يدَّعى ما ليس في الآية إلا بدليل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٩]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فيه قولان:
أحدهما: إِني أُريد أن ترجع بإثم قتلي وإِثمك الذي في عنقك، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس. ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أن تبوء بإثمي في خطاياي، وإِثمك في قتلك لي، وهو مروي عن مجاهد أيضاً. قال ابن جرير: والصحيح عن مجاهد القول الأول.
(٤١٨) وقد روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه كان أول من سن القتل».
فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإِثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة «١» : أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإِنما أراد: إِن قتلتني أردت أن تبوء بالإِثم، وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، وتقديره: إني
هو الحديث المتقدم.
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٤/ ٥٣٤: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وأما معنى: وَإِثْمِكَ
فهو إثمه بغير قتله وذلك معصيته لله جل ثناؤه في أعمال سواه، وأجمع أهل التأويل عليه.
أُريد أن لا تبوء بإثمي وإِثمك، فحذف «لا» كقوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ القيس:
فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً وَلَوْ قطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأوصالي «١»
أراد: لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء باثمي وإِثمك، وبطلان أن تبوء باثمي وإِثمك. فحذف ذلك، وقامت «أن» مقامه، كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «٢» أي: حبّ العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الإِشارة إلى مصاحبة النّار.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٠]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ فيه خمسة أقوال: أحدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس. والثاني: شجَّعته، قاله مجاهد. والثالث: زيَّنت له، قاله قتادة. والرابع: رخَّصت له، قاله أبو الحسن الأخفش. والخامس: أنَّ «طوّعت» فعَّلت من «الطوع» والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعاً، حكاه الزجاج عن المبرّد. وقال ابن قتيبة: شايعتْه وانقادت له، يقال: لساني لا يَطوع بكذا، أي: لا ينقاد، وهذه المعاني تتقارب.
وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثالث:
رضخ رأسه بين حجرين، قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثّل له إِبليس، وأخذ طائِراً فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل «هابيل» يومئذٍ عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال: أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس. والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق.
والثالث: عند عَقْبَة حِرَاء، حكاه ابن جرير الطّبريّ.
وفي قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ، وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إِلى النار، قاله ابن عباس. والثاني أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قاله الزجاج. والثالث: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إيّاها، قاله القاضي أبو يعلى.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣١]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ قال ابن عباس: حمله على عاتقه، فكان إِذا مشى تخطُّ يداه ورجلاه في الأرض، وإِذا قعد وضعه إِلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث
(١) في «اللسان» : الوصل: كل عظم على حدة لا يكسر، ولا يخلط بغيره، ولا يوصل به غيره والجمع أوصال والأوصال: مجتمع العظام.
(٢) سورة البقرة: ٩٣. [.....]
له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد: حمله على عاتقه مائة سنة. وقال عطية: حمله حتى أروح «١». وقال مقاتل: حمله ثلاثة أيام.
وفي المراد بسوأة أخيه قولان: أحدهما: عورة أخيه. والثاني: جيفة أخيه.
قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، فان قيل: أليس الندم توبة، فَلِم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدَّمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصّت بخصائِص لم تشارَك فيها، قاله الحسن بن الفضل. والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث:
أنه ندم إِذ لم يواره حين قتله. والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب. وفي هذه القصّة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً، وقال أبو عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر:
وأهل خباءٍ صالحٍ ذَاتُ بينهم قدِ احتربوا في عاجِلٍ أنا آجِلُه «٢»
أي: جانيه وجارٌ ذلك عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يَحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسن الوقف. والأوّل أصحّ.
وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. ومعنى قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: قتلها ظلماً ولم تقتل نفساً. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ «فساد» منسوق على نَفْسٍ، المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد بالفساد هاهنا: الشرك.
وفي معنى قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً خمسة أقوال: أحدها: أن عليه إِثم من قتل الناس جميعاً، قاله الحسن، والزجاج. والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعاً، قاله مجاهد، وعطاء. وقال ابن قتيبة: يُعذَّبُ كما يُعذَّب قاتل النَّاسِ جميعاً. والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعاً، قاله ابن زيد. والرابع: أن معنى الكلام: ينبغي لجميع الناس أن يُعينوا ولي المقتول حتى يُقيدوه منه، كما لو قتل أولياءَهم جميعاً، ذكره القاضي أبو يعلى.
والخامس: أن المعنى: من قتل نبياً أو إِماماً عادلاً، فكأنما قتل الناس جميعاً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصح.
فإن قيل: إِذا كان إِثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعاً، دل هذا على أنه لا إِثم عليه في
(١) في «اللسان» أروح اللحم: تغيّرت رائحته.
(٢) نسبه أبو عبيدة في «مجاز القرآن» إلى الخفوت وهو توبة بن مضرس. ونسبه التبريزي في شرح «إصلاح المنطق» إلى خوات بن جبير وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى في ديوانه بشرح الشنتمري.
قتل مَن يقتله بعد قتل الواحد إِلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعاً معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإِثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلاً زاده الله إِثماً، ومثل هذا قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «١» فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إِن قال: إِذا كان من أحيا نفساً فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلَّهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريبٌ منه، لأنه لا يجوز أن يكون إِثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص، وإِنما وقع التشبيه ب «كأنما»، لأن جميع الخلائِق من شخص واحد، فالمقتول يتصوّر منه نشر عدد الخلق كلِّهم.
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَحْياها خمسة أقوال: أحدها: استنقذها من هلكةٍ، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن. من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شدَّ عَضُدَ نبي أو إِمامٍ عادِلٍ، فكأنما أحيا الناس جميعاً. والثاني: ترك قتل النفس المحرّمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية. والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة. والرابع: أن يزجر عن قتلها وينهى. والخامس: أن يعين الوليَّ على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياةً، ذكرهما القاضي أبو يعلى. وفي قوله تعالى:
فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قولان: أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعاً، قاله الحسن وابن قتيبة. والثاني: فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني: بني إِسرائيل الذين جرى ذكرهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٣]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(٤١٩) أحدها: أنها نزلت في ناسٍ من عُرَينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
حديث صحيح دون ذكر نزول الآية. أخرجه البخاري ٤١٩٣ ومسلم ١٦٧١ وأبو داود ٤٣٦٦ والترمذي ٧٢ و ١٨٤٥ و ٢٠٤٢ والنسائي ٧/ ٩٧ و ١٦٠ وابن أبي شيبة ٧/ ٧٥ وأحمد ٣/ ١٨٦- ١٩٨ وابن حبان ١٣٧٦ والبغوي في «التفسير» ٧٨٢ من طرق كلهم من حديث أنس، رووه بألفاظ متقاربة والمعنى متحد، وليس في شيء من طرقه ذكر نزول الآية، وإنما ورد من طريق قتادة وحده، وليس في الصحيح.
وورد نزول الآية من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ١١٨١٢، وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري ١١٨١٤، وورد موصولا من حديث جرير البجلي، أخرجه الطبري ١١٨١٥ لكن فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو متروك. وورد عن قتادة عن أنس، أخرجه الطبري ١١٨١٩ ولعل الصواب كونه من مرسل قتادة كما تقدم آنفا، فوصله أحد الرواة وهما. وورد من وجه آخر عن أنس أخرجه الطبري ١١٨٢٠ وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري ١١٨٢١. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، إلا أن روايات الصحيح خالية من ذكر نزول الآية، فالله أعلم.
__________
(١) سورة الأنعام: ١٦٠.
540
إِبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإِبل، فأرسل رسول الله في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمَّر أعينهم، وألقاهم بالحرَّة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية، رواه قتادة عن أنس، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي.
(٤٢٠) والثاني: أن قوماً من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله بهذه الآية: إِن شاء أن يقتلهم، وإِن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
(٤٢١) والثالث: أن أصحاب أبي بُردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٤٢٢) وقال ابن السائب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يُهَجْ، ومن مرّ بهلال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يُهِجْ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناسٍ من قوم هلال، فَنَهَدُوا إِليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضراً، فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن «١».
واعلم أن ذكر «المحاربة» لله عزّ وجلّ في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما: أنه سمّاهم محاربين له تشبيهاً بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإِن لم يحارب. فيكون المعنى:
ضعيف. أخرجه الطبري ١١٨٠٧ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وفيه إرسال، علي لم يسمع من ابن عباس. وورد عن الضحاك مرسلا، أخرجه الطبري ١١٨٠٨ وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فحديثه لا شيء.
عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، واسمه محمد، وهو ساقط متهم، فخبره باطل.
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٤/ ٥٤٩: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعرنيين ما فعل.
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٢/ ٩٣: من قال: إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب لأن عكلا وعرينة ارتدّوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد، لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة. وقد قيل للكفار قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ. وقد قال في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وكذلك المرتد. يقتل بالردة دون المحاربة، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون فلو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا، ونصا صريحا. وإنما ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم استتابة العرنيين لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ويبيّن له المشكل.
541
يخالفون الله ورسوله بالمعاصي. والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة لله ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل: أراد بها الشرك «١». فأما «الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال، وإِخافة السبيل.
قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا اختلف العلماء هل هذه العقوبة على التّرتيب، أم على التّخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب «٢»، وأنهم إِذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا، قُتِلوا وصلِّبوا، وإِن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإِن لم يأخذوا المال، نُفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون «أو» مبعّضة، فالمعنى: بعضهم يفعل به كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «٣» المعنى: قال بعضهم هذا، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشافعي: إِذا قتلوا وأخذوا المال، قُتِلوا وصُلِّبوا، وإِذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلَّبوا، وإِذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك: الإِمام مخير في إِقامة أيِّ الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة، ومالك: يُصْلب ويُبعج برمحٍ حتى يموت.
واختلفوا في مقدار زمان الصّلب. فعندنا أنه يُصلب بمقدار ما يشتهر صلبُه. واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك حتى يسيل صديده.
قال أبو عبيدة: معنى «من خلاف» أن تُقطَع يدُه اليُمنى ورجله اليسرى، يُخالَف بين قطعهما. فأما «النفي» فأصله الطرد والإِبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال: أحدها: إِبعادهم من بلاد الاسلام إِلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا إِنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يُضطر إِلى ذلك. والثاني: أن يُطلبوا لِتُقام عليهم الحدود، فيُبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثالث: إِخراجهم مِن مدينتهم إِلى مدينة أُخرى، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك:
ينفى إِلى بلدٍ غير بلده، فيحبس هناك. والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا:
صِفَةُ النفي: أن يُشرّد ولا يترك يأوي في بلد، فكلما حَصَل في بلد نُفي إِلى بلد غيره. وفي «الخزي»
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٤/ ٥٥٢: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: «المحارب لله ورسوله» من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.
(٢) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٢/ ٤٧٥: مسألة: «فمن قتل منهم وأخذ المال، قتل وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، في مقام واحد، ثم حسمتا وخلي» قال الإمام الموفق في شرحه: روينا نحو هذا عن ابن عباس، وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق: وعن أحمد: أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع، كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخيّر فيهم بين القتل والصلب، والقطع والنفي لأن «أو» تقتضي التخيير، وهذا قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود، وقال أصحاب الرأي: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين قتله وصلبه، وبين قتله وقطعه، وبين أن يجمع له ذلك كله. لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦/ ١٥٠.
(٣) سورة البقرة: ١٣٥.
542
قولان: أحدهما: أنه العقاب. والثاني: الفضيحة.
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء «١»، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب، كما يُعتبر في حقِّ السَّارِقِ، خلافاً لمالك.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٤]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال أكثر المفسّرين: هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إِذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دمٍ، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود الله تسقط عنهم مِن انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشّافعيّ «٢».
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ في «الوسيلة» قولان:
أحدهما: أنها القربة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، والفراء. وقال قتادة: تقربوا إِليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقرّبت إليه. وأنشد:
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٢/ ٤٧٤: والمحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة. وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة، تعتبر لهم شروط ثلاث:
أحدها: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان منهم في القرى والأمصار، فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق وقال كثير من أصحابنا هو قاطع حيث كان. وبه قال الأوزاعي، والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولأن ذلك إذا وجد في مصر كان أعظم خوفا، وأكثر ضررا، فكان بذلك أولى.
(٢) جاء في «المغني» ١٢/ ٤٨٣: مسألة «فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين، من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق: لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل فيه قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا... فعلى هذا يسقط عنهم تحتّم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والديّة لما لا قصاص فيه، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة: كالزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة، لأنها حدود الله تعالى، إلا حد القذف، لأنه حق آدمي، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا.
إِذا غفل الواشُونَ عُدْنَا لِوَصِْلَنا وَعَاَد التَّصَافي بيننا وَالوَسَائلُ «١»
والثاني: المحبة، يقول: تحببوا إِلى الله، هذا قول ابن زيد.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قال ابن السائب: نزلت في طُعمة بن أُبيرق «٢»، وقد مضت قصّته في سورة النّساء. ووَ السَّارِقُ: إِنما سُمّي سارقاً، لأنه يأخذ الشيء في خفاءٍ، واسترق السّمع: إِذا تسمَّع مستخفياً. قال المبرّد: والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء، لأنه ليس القصد منه واحداً بعينه، وإِنما هو، كقولك: مَنْ سَرَق فاقطعْ يده. وقال ابن الأنباري: وإِنّما دخلت الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط، تقديره: من سرق فاقطعوا يَدَهُ، قال الفرّاء: وإِنما قال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما لأن كلَّ شيءٍ موحّد من خلق الإنسان إِذا ذُكِرَ مضافاً إِلى اثنين فصاعداً، جُمع، تقول: قد هشمت رؤوسَهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضرباً، ومثله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «٣» وإِنما اختير الجمع على التثنية، لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان: اليدين، والرجلين، والعينين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِبَ بالواحد منه إِذا أُضيف إِلى اثنين مذهب التثنية، وقد يجوز تثنيتهما.
قال أبو ذؤيب.
فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ كَنَوَافِذِ العُبُط التي لا تُرقَع «٤»
فصل: وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كلِّ سارق «٥»، وبينت السُنَّة أن المراد به السارقُ لِنِصابٍ من حِرْزِ مثله، كما قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ».
(٤٢٣) ونهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء، والصبيان، وأهل الصّوامع. واختُلِفَ في مقدار النصاب، فمذهب أصحابنا: أن للسّرقة نصابين: أحدهما: من الذهب ربع دينار، ومن الورق ثلاثة دراهم، أو
متفق عليه، وتقدم.
__________
(١) في «تفسير القرطبي» ٦/ ١٥١ وفي «مجاز القرآن» ١/ ١٦٤ لم يعرف قائله.
(٢) ابن السائب هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فخبره باطل، لا أصل له.
(٣) سورة التحريم: ٤.
(٤) تخالسا: جعل كل واحد منهما يختلس نفس صاحبه بالطعن. النوافذ: جمع نافذة وهي الطعن تنفذ حتى يكون لها رأسان. عبط: جمع عبيط، وأصل العبط: شق الجلد الصحيح.
(٥) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٢/ ٤٥٩ في شرح المسألة ١٥٨٩: وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده، وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم، والابن والبنت، والجد والجدة، من قبل الأب والأم وهذا قول عامة أهل العلم منهم: مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر:
القطع على كل سارق بظاهر الكتاب.
قال الإمام الموفق: والعبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا، ووافقهم أبو ثور، وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية اه ملخصا، وانظر «أحكام الجصاص» ٤/ ٨٠- ٨١ و «تفسير القرطبي». [.....]
(٦) سورة التوبة: ٥.
544
قيمة ثلاثة دراهم مِن العروض وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى تبلغ السّرقة عشرة دراهم. وقال الشافعي: الاعتبار في ذلك بربع دينار، وغيره مقوَّمٌ به، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار، قُطع، فان سَرق نصاباً من التّبر، فعليه القطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصاباً مضروباً، فان سرق منديلاً لا يساوي نصاباً، في طرفه دينار، وهو لا يعلم، لا يقطع. وقال الشافعي:
يقطع. فإن سرق ستارة الكعبة، قطع، خلافاً لأبي حنيفة. فإن سرق صَبياً صغيراً حُراً، لم يقطع، وإِن كان على الصغير حُلي. وقال مالك: يقطع بكل حال. وإِذا اشترك جماعة في سرقة نصاب، قطعوا «١»، وبه قال مالك، إِلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلاً يحتاج إِلى معاونة بعضهم لبعض في إِخراجه.
وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا قطع عليه بحال ويجبُ القطع على جاحد العاريَّة عندنا، وبه قال سعيد بن المسيب، والليث بن سعد، خلافاً لأكثر الفقهاء.
فصل: فأما الحرز، فهو ما جعل للسكنى، وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم بها، فكل ذلك حِرز، وإِن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سُرِق من ذلك وهو مفتوح الباب، أو لا باب له إِلا أنه محجّر بالبناء. فأما ما كان في غير بناءٍ ولا خيمة، فإنه ليس في حرز إِلا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميموني عن أحمد: إِذا كان المكان مشتركاً في الدّخول إِليه، كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه، ولم يُعتَبَر الحافظ. ونقل عنه ابن منصور: لا يقطع سارق الحمام إِلا أن يكون على المتَاع أجير حافظ. فأما النبّاش، فقال أحمد في رواية أبي طالب:
يقطع، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: لا يقطع.
فصل: فأما موضع قطع السارق «٢»، فمن مَفْصِل الكَفِّ، ومِن مَفْصِلِ الرِّجْلِ. فأمّا اليد اليسرى
(١) جاء في «المغني» ١٢/ ٤٦٨: «وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا» قال الإمام الموفق:
وبهذا قال مالك وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق: لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، كما لو انفرد كل واحد بدون النصاب اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦/ ١٤٦. وجاء في «المغني» ١٣/ ١٧٢- ١٧٣: «ولا يقام الحد على المسلم في أرض العدو» وجملته أن من أتى حدا من الغزاة، أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل، فيقام عليه حده، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق: وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يقام الحد في كل موضع، لأن الله تعالى أمر بإقامته في كل مكان وزمان، إلا أن الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام، أو أمير إقليم، فليس له إقامة الحد، ويؤخّر حتى يأتي الإمام. لأن إقامة الحدود إليه، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود، أو قوة به، أو شغل عنه أخّر. وقال أبو حنيفة: لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع. اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» ٦/ ١٧١ بتخريجي.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٢/ ٤٤٠: لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف، وهو الكوع، لأنها آلة السرقة، فناسب عقوبته بإعدام آلتها، وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، وبذلك قال جماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى، وروي عن داود وربيعة، وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وقول أبي بكر وعمر. وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما. وفي قراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» إذا ثبت هذا، فإنه تقطع رجله اليسرى لقوله تعالى: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم، وفعل ذلك عمر وكان علي يقطع من نصف القدم، من معقد الشراك، ويدع له عقبا يمشي عليها، وهو قول أبي ثور.
- قال: وإذا قطع حسم، وهو أن يغلى الزيت فيغمس عضوه فيه، لتنسد أفواه العروق اه ملخصا. وانظر «أحكام الجصاص» ٤/ ٦٩- ٧٤، و «تفسير القرطبي» ٦/ ١٧١- ١٧٢.
وجاء في «المغني» ١٢/ ٤٤٦- ٤٤٧ ما ملخصه: مسألة: «فإن عاد حبس، ولا يقطع غير يد ورجل» يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله، لم يقطع منه شيء آخر وحبس، وبهذا قال علي والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي، وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وفي الخامسة يعزر ويحبس، وروي عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل، وهذا قول قتادة ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز، أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة، والرجل اليمنى في الرابعة، ويقتل في الخامسة لحديث جابر: «جيء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بسارق فقال: اقتلوه.....» ولنا ما روى سعيد عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبيه قال:
حضرت عليّ بن أبي طالب، أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟
قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين. قال: قتلته إذا، وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام، بأي شيء يتوضأ بأي شيء يغتسل، بأي شيء يقوم على حاجته، فرده إلى السجن، ثم جلده جلدا شديدا ثم أرسله اه ملخصا.
وانظر «تفسير القرطبي» ٦/ ١٧٢ و «أحكام الجصاص» ٤/ ٧٢- ٧٣.
545
والرجل اليُمنى، فروي عن أحمد: لا تقطع، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي حنيفة، وروي عنه: أنها تقطع، وبه قال مالك، والشافعي. ولا يثبت القطع إِلا باقراره مرتين، وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يثبت بمرّة. ويجتمع القطع والغرم موسِراً كان أو معسراً. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فان كانت العين باقية أخذها ربُّها، وإِن كانت مستهلكة، فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إِن كان موسراً، ولا شيء عليه إِن كان معسراً «١».
قوله تعالى: نَكالًا مِنَ اللَّهِ قد ذكرنا «النكال» في البقرة. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال سعيد بن جبير: شديد في انتقامه، حكيم إذا حكم بالقطع. قال الأصمعي: قرأت هذه الآية، وإِلى جنبي أعرابيٌ، فقلت: والله غفور رحيم، سهواً، فقال الأعرابي: كلام مَن هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعد فأعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله، فتنبهت، فقلت: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فقال:
أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. سبب نزولها:
(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٢/ ٤٥٤ ما ملخصه: لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة إذا كانت باقية، فأما إن كانت تالفة، فعلى السارق رد قيمتها، أو مثلها إن كانت مثلية، قطع أو لم يقطع، موسرا كان أو معسرا، وهذا قول الحسن والنخعي وحماد والبتّي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يجتمع الغرم والقطع، إن غرمها قبل القطع سقط القطع، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم، وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول: لا غرم على السارق إذا قطع، ووافقهم مالك في المعسر، ووافقنا في الموسر. وانظر «أحكام الجصاص» ٤/ ٨٣- ٨٤.
(٤٢٤) أن امرأة كانت قد سرقت، فقالت: يا رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد الله بن عمرو. وقال سعيد بن جبير: فمن تاب من بعد ظلمه، أي: سرقته، وأصلح العمل، فإن الله يتجاوز عنه، إِن الله غفور لما كان منه قبل التوبة، رحيم لمن تاب.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤١]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «١» :
(٤٢٥) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ بيهودي وقد حمموه «٢» وجلدوه، فقال: أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدُك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنا نترك الشريف، ونُقيمه على الوضيع، فقلنا: تعالوا نُجْمِعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمَرَ به فَرُجم، ونزلت هذه الآية، رواه البراء بن عازب.
أخرجه أحمد ٢/ ١٧٧ والطبري ١١٩٢٢ من حديث عبد الله بن عمرو قال: «إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقطعوا يدها، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. فأنزل الله عز وجل: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ إلى آخر الآية.
وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف الحديث، وهذا الحديث يعرف بحديث المخزومية، وأصله في الصحيحين دون ذكر نزول الآية، وبسياق آخر. وانظر «تفسير الشوكاني»
٨٠٣ بتخريجنا.
صحيح. أخرجه مسلم ١٧٠٠ وأبو داود ٤٤٤٧ و ٤٤٤٨ وأحمد ٤/ ٢٨٦ وابن ماجة ٢٥٥٨ والبيهقي ٨/ ٢٤٦ والطبري ١٢٠٣٩ من حديث البراء بن عازب.
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: عني بقوله: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ... الآية، قوم من المنافقين. وجائز أن يكون ممن دخل هذه الآية ابن صوريا، وجائز أن يكون أبو لبابة، وجائز أن يكون غيرهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك ما روي عن البراء بن عازب وأبي هريرة لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيح من القول فيه أن يقال: عني به عبد الله بن صوريا.
(٢) في «اللسان» : حمّم الرجل: سخّم وجهه بالحمم، وهو الفحم. وفي الحديث أنه أمر بيهودي محمّم مجلود أي مسود الوجه.
547
(٤٢٦) والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة.
(٤٢٧) والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهودياً، ثم قال: سلوا محمداً فإن كان بُعِثَ بالدّية، اختصمنا إِليه، وإِن كان بعث بالقتل، لم نأته، قاله الشعبي.
والرابع: أنها نزلت في المنافقين، قاله ابن عباس، ومجاهد «١».
(٤٢٨) والخامس: أن رجلاً من الأنصار أشارت إِليه قريظة يوم حِصارهم: على ماذا ننزل؟ فأشار إِليهم: أنه الذّبح، قاله السدي.
(٤٢٩) قال مقاتل: هو أبو لبابة بن عبد المنذر، قالت له قريظة: اننزل على حُكم سعدٍ؟ فأشار بيده: أنه الذّبح، وكان حليفاً لهم. قال أبو لبابة: فعلمت أني قد خُنتُ الله ورسوله، فنزلت هذه الآية.
ومعنى الكلام: لا يحزنك مسارعة الذي يُسارِعُون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم وهم المنافقون، ومن الذين هادوا وهم اليهود. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال سيبويه: هو مرفوعٌ بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش: ويجوز أن يكونَ رفعُه على معنى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب. وفي معناه أربعة أقوال: أحدها: سماعون منك ليكذبوا عليك. والثاني: سماعون للكذب، أي: قائلون له.
والثالث: سماعون للكذب الذي بدَّلوه في توراتهم. والرابع: سماعون للكذب، أي قابلون له، ومنه:
«سمع الله لمن حمده» أي: قبل.
وفي قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ قولان: أحدهما: يسمعون لأولئك، فهم عيونٌ لهم. والثاني: سمّاعون من قوم آخرين، وهم رؤساؤهم المبدِّلون التوراة. وفي السمّاعين للكذب، وللقوم الآخرين قولان: أحدهما: أن «السّماعين للكذب» يهود المدينة، والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهود فدَك. والثاني: بالعكس من هذا.
وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال: أحدها: أنه تغيير حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيّروا الرّجم، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: تغيير ما يسمعونه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالكذب عليه، قاله الحسن. والثالث: إِخفاء صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والرابع: إِسقاط القود بعد استحقاقه. والخامس: سوء التأويل. وقال ابن جرير: المعنى يُحرّفون حكم الكلم، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك.
أخرجه الطبري ١١٩٢٦ و ١١٩٢٨ و ١١٩٢٩ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإسناد ضعيف، فيه راو لم يسمّ، وهو عجز حديث مطول. وأخرجه أبو داود ٤٤٥٠ و ٤٤٥١ والطبري ١٢٠١٣ والواحدي ٣٩٢ من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه أنه ابن صوريا.
ضعيف. أخرجه الطبري ١١٩٢٤ و ١١٩٢٥ عن الشعبي مرسلا، وهو معارض بحديث البراء، وذاك أصح.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١١٩٢٣ عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، والمتن منكر، معارض بما تقدم عن البراء، ومراسيل السدي مناكير. وانظر «أحكام القرآن» ٧١٧ بتخريجنا.
مقاتل متروك، وكذبه غير واحد، فخبره لا شيء، والصواب ما رواه البراء.
__________
(١) أخرجه الطبري ١١٩٣٠ عن عبد الله بن كثير مرسلا. وكرره ١١٩٣١ عن مجاهد مرسلا أيضا، ولم أره عن ابن عباس، والخبر ضعيف بكل حال.
548
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قال الزجاج: أي من بعد أن وَضَعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه. قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ في القائلين لهذا قولان:
(٤٣٠) أحدهما: أنهم اليهود، وذلك أن رجلاً وامرأةً من أشرافهم زنيا، فكان حدهما الرّجم، فكرهت اليهود رجمهما، فبعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألونه عن قضائه في الزّانيين إِذا أُحصِنَا، وقالوا: إِن أفتاكم بالجلد فخذوه، وإِن أفتاكم بالرّجم فلا تعملوا به، هذا قول الجمهور.
(٤٣١) والثاني: أنهم المنافقون. قال قتادة: وذلك أن بني النضير كانوا لا يُعطون قريظة القود إِذا قتلوا منهم، وإِنما يعطونهم الدية، فإذا قتلت قريظة من النضير لم يَرْضوا إلا بالقود تعززا عليهم، فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمداً، فأرادوا رفع ذلك إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال رجل من المنافقين: إِن قتيلكم قتيل عمد، ومتى ترفعوا ذلك إِلى محمد خشيتُ عليكم القود، فان قُبِلَتْ منكم الدِّية فأعطوا، وإِلا فكونوا منه على حذر.
وفي معنى فَاحْذَرُوا ثلاثة أقوال: أحدها: فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد. والثاني: فاحذروا أن تُطْلِعُوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. والثالث: فاحذروا أن تسألوه بعدها.
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ في «الفتنة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الضلالة، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: العذاب، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: الفضيحة، ذكره الزجاج. قوله تعالى: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تغني عنه، ولا تقدر على استنقاذه. وفي هذا تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من حزنه على مسارعتهم في الكفر.
قوله تعالى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ قال السدّي: يعني المنافقين واليهود، لم يُرِدْ أن يطهر قلوبهم من دَنَسِ الكُفر، ووسَخ الشِّرك بطهارة الإِيمان والإِسلام.
قوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أما خزي المنافقين، فبهتك ستره وإِطلاع النبي على كفرهم، وخزي اليهود بفضيحتهم في إِظهار كذبهم إِذ كتموا الرجم، وبأخذ الجزية منهم. قال مقاتل: وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي النّضير بإجلائهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذبُ عندهم في دعواه، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود يسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب، وليس بنبي، وليس في التوراة رجم، وهم يعلمون كذبهم. قوله تعالى:
أخرجه الطبري ١١٩٤١ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورجاله ثقات لكنه منقطع بينهما، ومع ذلك هو يتأيد بحديث البراء.
ضعيف. أخرجه الطبري ١١٩٤٤ عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر «السُّحُتُ» مضمومة الحاء مثقَّلة.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «السُّحْتُ» ساكنة الحاء خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع «أكّالون للسَّحْت» بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو علي: السُّحْت والسُّحُتُ لغتان، وهما اسمان للشيء المسحوت، وليسا بالمصدر، فأما من فتح السين، فهو مصدر سحتٍ، فأوقع اسم المصدر على المسحوت، كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال: أحدها: الرشوة في الحكم. والثاني: الرشوة في الدين، والقولان عن ابن مسعود. والثالث: أنه كل كسب لا يحل، قاله الأخفش.
قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فيمن أُريد بهذا الكلام قولان:
أحدهما: اليهوديان اللذان زنيا، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: رجلان من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان حيي بن أخطب قد جعل للنضيريّ ديتين، والقرظي دية، لأنه كان من النضير، فقالت قريظة: لا نرضى بحكم حُيي، ونتحاكم إِلى محمد، فقال الله تعالى لنبيّه: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ الآية.
فصل: اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة، وذلك أن أهل الكتاب كانوا إِذا ترافعوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان مخيَّراً، إِن شاء حكم بينهم، وإِن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فلزمه الحكم، وزال التخيير، وهذا مروي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، والسدي. والثاني: أنها محكمة، وأن الإِمام ونوابه في الحكم مخيّرون إِذا ترافعوا إِليهم، إِن شاؤوا حكموا بينهم، وإِن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا مروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو الصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، لأن إِحداهما: خيَّرت بين الحكم وتركه. والثانية: بينت كيفية الحكم إِذا كان.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٣]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
قوله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ قال المفسّرون: هذا تعجيب من الله عزّ وجلّ لنبيه من تحكيم اليهود إِياهُ بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إِليه فيه، وتقريع لليهود إِذ يتحاكمون إِلى مَن يجحدون نبوته، ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها.
قوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: حكم الله بالرجم، وفيه تحاكموا، قاله الحسن. والثاني: حكمه بالقود، وفيه تحاكموا، قاله قتادة.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: من بعد حكم الله في التوراة.
والثاني: من بعد تحكيمك. وفي قوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قولان: أحدهما: ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة. والثاني: ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند الله لجحدهم نبوّتك.

[سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر الزانيين، وقد سبق «١». و «الهدى» : البيان. فالتّوراة مبيّنة صحة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومبينة ما تحاكموا فيه إِليه. و «النور» : الضياء الكاشف للشبهات، والموضح للمشكلات.
وفي «النبيين الذين أسلموا» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الأنبياء من لَدُنْ موسى إِلى عيسى، قاله الأكثرون. فعلى هذا القول في معنى «أسلموا» أربعة أقوال: أحدها: سلموا لحكم الله، ورضوا بقضائه. والثاني: انقادوا لحكم الله، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء. والثالث: أسلموا أنفسهم إِلى الله عزّ وجلّ. والرابع: أسلموا لما في التوراة ودانوا بها، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها كعيسى عليه السلام. قال ابن الأنباري: وفي «المسلم» قولان: أحدهما: أنه سُمّي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه. والثاني: لإِخلاصه لربّه، من قوله تعالى: وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ «٢» أي: خالصاً له.
والثاني: أن المراد بالنبيين نبيّا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الحسن، والسدي. وذلك حين حكم على اليهود بالرّجم، وذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «٣». وفي الذي حكم به منها قولان: أحدهما: الرجم والقود. والثاني: الحكم بسائِرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف.
والثالث: النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله عكرمة.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا قال ابن عباس: تابوا من الكفر. قال الحسن: هم اليهود. قال الزجاج: ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير. على معنى: إِنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا. فأما «الربانيون» فقد سبق ذكرهم في (آل عمران). وأما «الأحبار» فهم العلماء واحدهم حَبر وحِبر، والجمع أحبار وحبور. وقال الفراء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار: حِبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الحَبار وهو الأثر الحسن، قاله الخليل. والثاني: أنه من الحِبر الذي يكتب به، قاله الكسائي. والثالث: أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء.
(٤٣٢) وفي الحديث «يخرج رجل من النار قد ذهَبَ حِبْرُه وسبره» أي: جماله وبهاؤه. فالعالم
لم أره مسندا، وإنما أورده الزمخشري في «الفائق» ١/ ٨٥ وابن الجوزي في «غريب الحديث» ١/ ١٨٦ بدون إسناد، ومن غير عزو، فهذا مما لا أصل له. أي لا إسناد له.
__________
(١) انظر الأحاديث المتقدمة عند الآية: ٤١.
(٢) سورة الزمر: ٢٩.
(٣) سورة النساء: ٥٤.
551
بَهِيٌ بجمال العلم، وهذا قول قطرب.
وهل بين الرّبانيين والأحبار فَرْق أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا فرق، والكل العلماء، هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة، والزجاج. وقد روي عن مجاهد أنه قال: الرّبانيون: الفُقهاء العُلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار القُرّاء. وقال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والأحبار: العُلماء، وقيل: الربانيون: علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود.
قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: بما استودعوا من كتاب الله وهو التوراة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: يحكمون بحكم ما استحفظوا. والثاني: العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير: «الباء» في قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا من صلة الأحبار.
وفي قوله تعالى: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ قولان:
أحدهما: وكانوا على ما في التوراة من الرَّجم شهداء، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قال أنه حق. رواه العوفي عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي «واخشون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل، وبغير ياء في الوقف، وكلاهما حسنٌ. وقد أشرنا إِلى هذا في سورة آل عمران «١». ثم في المخاطبين بهذا قولان.
أحدهما: أنهم رؤساء اليهود، قيل لهم: فلا تخشوا الناس في إِظهار صفة محمد، والعمل بالرّجم، واخشوني في كتمان ذلك، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة، قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرّجم، ونعت محمد، واخشوني في كتمانه.
والثاني: أنهم المسلمون، قيل لهم: لا تخشوا الناس، كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا في المراد بالآيات قولان: أحدهما: أنها صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. والثاني: الأحكام والفرائِض. والثمن القليل مذكور في البقرة.
فأمّا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. وقوله تعالى بعدها:
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال «٢» :
أحدها: أنها نزلت في اليهود خاصة، رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: أنها نزلت في المسلمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث: أنها عامّة في
(١) سورة آل عمران: ١٧٣.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٤/ ٥٩٧: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى قلت: ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن فعل من هذه الأمة مثل أفعال اليهود ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال المشركين ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال النصارى ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، فإن هذا القرآن ما نزل لمجرد التلاوة والتبرك به، بل ليهتدى به، وليعتبر به. والله ولي التوفيق.
552
اليهود، وفي هذه الأمَّة، قاله ابن مسعود، والحسن، والنخعي، والسدي. والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، قاله أبو مجلز. والخامس: أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، قاله الشعبي.
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان: أحدهما: أنه الكفر بالله تعالى. والثاني: أنه الكفر بذلك الحكم، وليس بكفر ينقل عن الملّة.
وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله، كما فعلت اليهود، فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إِلى الهوى من غير جحود، فهو ظالم وفاسِق. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومَن أقرَّ به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
قوله تعالى: وَكَتَبْنا أي: فرضنا عَلَيْهِمْ أي: على اليهود فِيها أي: في التوراة. قال ابن عباس: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، فما بالهم يخالفون، فيقتلون النفسين بالنفس، ويفقئون العينينِ بالعين؟ وكان على بني إِسرائيل القصاص أو العفو، وليس بينهم دية في نفس ولا جُرح، فخفف الله عن أُمة محمد بالدية. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: النَّفسَ بالنفسِ، والعينَ بالعينِ، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنَ بالسنِ، ينصبون ذلك كلَّه، ويرفعون «والجروحُ». وكان نافع، وعاصم، وحمزة ينصبون ذلك كلَّه، وكان الكسائي يقرأ: «أن النفس بالنفس» نصباً، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو علي: وحجّته أن الواو لعطف الجُمل، لا للاشتراك في العامل، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، لأن معنى: وكتبنا عليهم: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل العين على هذا، وهذه حجّة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفاً، لا أنه ممّا كُتب على القوم، وإِنما هو ابتداء ايجاب. قال القاضي أبو يعلى: وقوله تعالى: العين بالعين، ليس المراد قلع العين بالعين، لتَعذّر استيفاء المماثلة، لأنا لا نقف على الحدِّ الذي يجب قلعه، وإِنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمةٌ، وصفة ذلك أن تُشدَّ عين القالع، وتُحمى مرآة، فتقدّم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فإذا قطع المارن، وهو ما لان منه، وتركت قصبته، ففيه القصاص، وأما إِذا قطع من أصله، فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن استيفاء القصاص، كما لو قطع يده من نصف الساعد. وقال أبو يوسف، ومحمد: فيه القصاص إِذا استوعب. وأما الأُذن، فيجب القصاص إذا استُوعِبَت، وعرف المقدار. وليس في عظمٍ قصاص إِلا في السن، فان قلعت قلع مثلها، وإِن كُسِرَ بعضُها، برد بمقدار ذلك. وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يقتضي إِيجاب القصاص في سائِر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها.
قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يشير إِلى القصاص. فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ في هاء «له» قولان:
أحدهما: أنها إِشارة إِلى المجروح، فاذا تصدّق بالقصاص كفّر من ذنوبه، وهو قول ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، والشعبي. والثاني: إِشارة إِلى الجارح إِذا عفا عنه المجروح، كفر عنه ما جنى، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه إِذا كان مُصرّاً فعقوبة الإِصرار باقية.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٦]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)
قوله تعالى: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: وأتبعنا على آثار النبيّين الذين أسلموا بِعِيسَى فجعلناه يقفو آثارهم مُصَدِّقاً أي: بعثناه مُصدّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً ليس هذا تكرار للأول، لأن الأول لعيسى، والثاني للإنجيل، لأن عيسى كان يدعو إِلى التصديق بالتوراة، والإِنجيل أنزل وفيه ذكر التّصديق بالتّوراة.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٧]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر، تقديره: وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. وقرأ الأعمش، وحمزة بكسر اللام، وفتح الميم على معنى «كي»، فكأنه قال: وآتيناه الإِنجيل لكي يحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي: بالصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: يريد كلَّ كتاب أنزله الله تعالى.
وفي «المهيمن» أربعة أقوال: أحدها: أنه المؤيمن، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. وعكرمة، وعطاء، والضحاك. وقال المبرّد: «مهيمن» في معنى: «مؤيمن» إِلا أن الهاء بدل من الهمزة، كما قالوا: أرقت الماء، وهرقت، وإِيّاك وهِيّاك. وأرباب هذا القول يقولون: المعنى:
أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتاب. إِلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد: ومُهيمَناً عليه. قال:
محمد مؤتمن على القرآن. فعلى قوله، في الكلام محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه، فتكون هاء «عليه» راجعة إِلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتاب المتقدّمة. والثاني: أنه الشاهد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل. والثالث: أنه المصدِّق على ما أخبر عن الكتاب، وهذا قول ابن زيد، وهو قريبٌ من القول الأول. والرابع: أنه الرقيب الحافظ، قاله الخليل.
554
قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ يشير إِلى اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِليك في القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. قاله أبو سليمان: المعنى: فترجع عما جاءك. قال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائِهم في جَلد المُحصَن.
قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال مجاهد: الشرعة: السُّنة، والمنهاج: الطريق.
وقال ابن قتيبة: الشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. فان قيل: كيف نسق «المنهاج» على «الشرعة» وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن بينهما فرقاً من وجهين: أحدهما: أن «الشرعة» ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر، قاله المبرّد. والثاني: أن «الشرعة» الطريق الذي ربما كان واضحاً، وربما كان غير واضح، والمنهاج: الطريق الذي لا يكون إِلا واضحاً، ذكره ابن الأنباري. فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج، حَسُنَ نسق أحدهما على الآخر. والثاني: أن الشِّرعة والمنهاج بمعنى واحد، وإِنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين. قال الحطيئة:
ألا حَبَّذّا هندٌ وأرضٌ بها هِندُ وهندٌ أتى من دُونها النَّأْي والبُعْدُ
فنسق البُعد على النأي لما خالفه في اللفظ، وإِن كان موافقاً له في المعنى، ذكره ابن الأنباري.
وأجاب عنه أربابُ القول الأول، فقالوا: «النأي» كل ما قلّ بعده أو كثُر كأنه المفارقة، والبعد إِنما يُستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته.
وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعةً ومنهاجاً، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإِنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمةِ موسى، وعيسى، وأمة محمد، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللفرقان شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء بلاءً، ليعلمَ من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يُقبل غيره، التوحيدُ والإِخلاصُ لله الذي جاءت به الرسل. والثاني: أن المعنى: لكل مَن دخل في دين محمّد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا، هذا قول مجاهد.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فيه قولان: أحدهما: لجمعكم على الحق.
والثاني: لجعلكم على ملةٍ واحدةٍ وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم فِي ما آتاكُمْ من الكتاب، وبيّن لكم من الملل. فإن قيل: إِذا كان المعنى بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً: نبينا محمداً مع سائر الأنبياء قبله، فمن المخاطب بقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ؟ فالجواب: أنه خطاب لنبينا، والمراد به سائِر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير: والعرب من شأنها إِذا خاطبت غائباً، فأرادت الخبر عنه أن تغلِّب المخاطَب، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب.
قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قال ابن عباس، والضحاك: هو خطابٌ لأمة محمد عليه السلام. قال مقاتل: و «الخيرات» : الأعمال الصالحة: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِن الدِّين. قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالأدلّة والحجج، وغدا بيبّنه بالمجازاة.
555

[سورة المائدة (٥) : آية ٤٩]

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ سبب نزولها:
(٤٣٣) أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسد «١»، وعبد الله بن صُوريا، وشأس بن قيس، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إِلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فأتَوه، فقالوا: يا محمد، قد عرفتَ أنَّا أحبارُ اليهود وأشرافُهم، وأنَّا إِن تبعناك، اتبعك اليهود، وإِن بيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إِليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل: أن جماعة من بني النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء، كما كنا عليه من قبلُ، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكراراً لما تقدّم، وإِنما نزلتا في شيئين مختلفين:
أحدهما: في شأن الرّجم. والآخر: في التسوية في الديات حتى تحاكموا إِليه في الأمرين.
قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي: يصرفوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وفيه قولان:
أحدهما: أنه الرّجم، قاله ابن عباس. والثاني: شأن القصاص والدماء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه قولان: أحدهما: عن حكمك. والثاني: عن الإِيمان، فاعلم أن إِعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم. وفي ذكر البعض قولان: أحدهما: أنه على حقيقته، وإِنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه. والثاني: أن المراد به الكل، كما يُذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «٢» والمراد: جميع المسلمين. وقال الحسن: أراد ما عجَّله من إِجلاء بني النضير وقتل بني قريظة.
قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ قال المفسّرون: أراد اليهود. وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: الكذب، قاله ابن زيد. والثالث: المعاصي، قاله مقاتل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ الجمهور «يبغون» بالياء، لأن قبله غَيبة، وهي قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء، على معنى: قل لهم.
(٤٣٤) وسبب نزولها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما حكم بالرّجم على اليهوديّين تعلّق بنو قريظة ببني النّضير،
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢١٥٦ من حديث ابن عباس بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس.
وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه النسائي ٨/ ١٨- ١٩ والدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدّى مائة وسق من تمر، فلما بعث صلّى الله عليه وسلّم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأتوه فنزلت وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وهو حديث حسن. رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة وليس فيه اللفظ المرفوع.
وكرره النسائي ومن وجه آخر عن داود بن حصين، عن عكرمة عن ابن عباس، وداود ضعّف في روايته عن عكرمة، وورد من وجه آخر، أخرجه أحمد ٢٢١٢ والطبراني ١٠٧٣٢ وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد، لكن هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.
__________
(١) وقع في الأصل «أسيد»
، والتصويب من كتب التفسير، والحديث.
(٢) سورة الطلاق: ١. [.....]
وقالوا: يا محمد هؤلاء إِخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، إِذا قتلوا منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر، وإِن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا أربعين ومائة وسْق، وإِن قتلنا منهم رجلاً قتلوا به رجلين، وإِن قتلنا امرأةً قتلوا بها رجلاً، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم» فقال بنو النضير: والله لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بأمرنا الأوّل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكماً لم يأمر الله به، وهم أهل كتاب الله، كما تفعل الجاهلية؟! قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً قال ابن عباس: ومن أعدل؟! وفي قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قولان: أحدهما: يوقنون بالقرآن، قاله ابن عباس. والثاني:
يوقنون بالله، قاله مقاتل. وقال الزجاج: من أيقن تبيّن عدلَ الله في حكمه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٤٣٥) أحدها: أنها نزلت في أبي لُبابة حين قال لبني قريظة إِذ رضوا بحكم سعد: إِنه الذّبح، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول عكرمة.
(٤٣٦) والثاني: أن عُبادة بن الصّامت قال: يا رسول الله إِن لي موالي من اليهود، وإِني أبرأ إِلى الله مِن ولاية يهود، فقال عبد الله بن أُبيّ: إِنّي رجلٌ أخاف الدوائر، ولا أبرأ إِلى الله مِن ولاية يهود، فنزلت هذه الآية، قاله عطية العوفي.
أخرجه الطبري ١٢١٦٦ عن عكرمة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
- وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما تقدّم مرارا.
أخرجه الطبري ١٢١٦٢ عن عطية العوفي مرسلا، ومع إرساله، عطية واه. وورد من مرسل الزهري، أخرجه الطبري ١٢١٦٣، ومراسيل الزهري واهية. وله شاهد موصول، أخرجه الطبري ١٢١٦٤ عن عبادة بن الوليد، وهذا مرسل حسن، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٧٢٩ بتخريجنا.
(٤٣٧) والثالث: أنه لما كانت وقعة أُحد خافت طائفةٌ من الناس أن يُدال عليهم الكُفَّارُ، فقال رجل لصاحبه: أمّا أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أماناً، أو أتهوّد معه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي، ومقاتل.
قال الزجاج: لا تتولوهم في الدين. وقال غيره: لا تستنصروا بهم، ولا تستعينوا، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة.
قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: من يتولهم في الدين، فانه منهم في الكفر. والثاني: من يتولهم في العهد فانه منهم في مخالفة الأمر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٢]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
قوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ قال المفسّرون: نزلت في المنافقين، ثم لهم في ذلك قولان:
(٤٣٨) أحدهما: أن اليهود والنصارى كانوا يميرون «١» المنافقين ويقرضونهم فيُوادُّونهم، فلما نزلت لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قال المنافقون: كيف نقطع مودّة قوم إِن أصابتنا سنة وسَّعوا علينا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممن قال: نزلت في المنافقين، ولم يعين:
مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ، قاله عطيّة العوفي «٢».
وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله مقاتل. والثاني: النّفاق، قاله الزجّاج.
وفي قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: في رضاهم، قاله ابن قتيبة. والثالث: في معاونتهم على المسلمين، قاله الزجاج. وفي المراد «بالدائرة» قولان: أحدهما: الجدب والمجاعة، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة:
نخشى أن يدور علينا الدّهر بمكروه، يعنون الجدب، فلا يبايعوننا، ونمتار فيهم فلا يميروننا. والثاني:
انقلاب الدولة لليهود على المسلمين، قاله مقاتل. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال: أحدها: فتح مكة، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: فتح قرى اليهود، قاله الضحاك. والثالث: نصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على مَن خالفه، قاله قتادة، والزجاج. والرابع: الفَرَج، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال: أحدها: إجلاء
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢١٦٥ عن السدي، مرسلا، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا.
__________
(١) في «اللسان» : الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، وفي التهذيب: جلب الطعام للبيع وهم يمتارون لأنفسهم ويميرون غيرهم ميرا.
(٢) عطية هو ابن سعد العوفي، وهو ضعيف، لا يحتج به، إلا أن ابن أبي هو المراد في أكثر الآيات التي تذكر المنافقين، فإنه رأس النفاق.
بني النضير وأخذ أموالهم، وقتل قريظة، وسبي ذراريهم، قاله ابن السائِب، ومقاتل. والثاني: الجزية، قاله السدي. والثالث: الخصب، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن يؤمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باظهار أمر المنافقين وقتلهم، قاله الزجاج. وفيما أسرُّوا قولان: أحدهما: موالاتهم. والثاني: قولهم: لعل محمّدا لا ينصر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ أبو عمرو، بنصب اللام على معنى: وعسى أن يقول.
ورفعه الباقون، فجعلوا الكلام مستأنفاً. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «يقول»، بغير واو، مع رفع اللام، وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة.
قال المفسرون: لما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير، اشتد ذلك على المنافقين، وجعلوا يتأسفون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إِذا رآه جادّاً في معاداة اليهود: أهذا جزاؤهم منك، طال والله ما أشبعوا بطنك؟ فلما قُتلت قريظة، لم يُطق أحدٌ من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمائة حُصِدوا في ليلةٍ، فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين، قالوا: أَهؤُلاءِ يعنون المنافقين الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال ابن عباس: أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ القسم بالله. وقال الزجاج: اجتهدوا في المبالغة في اليمين إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ على عدوّكم حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بنفاقهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
قوله تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
يرتدَّ، بإدغام الدال الأولى في الأخرى، وقرأ نافع، وابن عامر: يرتدد، بدَّالين. قال الزجاج: «يرتدد» هو الأصل، لأن الثاني إِذا سُكِّن مِن المضاعف، ظهر التضعيف. فأما «يرتد» فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وحرِّكت الثانية بالفتح، لالتقاء الساكنين. قال الحسن: علم الله أن قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيهم عليه السلام، فأخبرهم أنه سيأتي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال «١» : أحدها: أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرّدَّة، قاله علي بن أبي طالب، والحسن عليهما السلام، وقتادة، والضحاك، وابن جريج. قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانِعي الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلَّد ابو بكر سيفه، وخرج وحده، فلم يجدوا بُداً من الخروج على أثره.
والثاني: أبو بكر، وعمر، روي عن الحسن، أيضاً. والثالث: أنهم قومُ أبي موسى الأشعريّ.
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٤/ ٦٢٦: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما روي به الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنهم أهل اليمن، قومُ أبي موسى الأشعري.
(٤٣٩) روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم قوم هذا» يعني:
أبا موسى.
والرابع: أنهم أهل اليمن، رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والخامس: أنهم الأنصار، قاله السدي. والسادس: المهاجرون والأنصار، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير:
وقد أنجز الله ما وَعَد فأتى بقومٍ في زمن عمر كانوا أحسن موقعاً في الإِسلام ممّن ارتد.
قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أهل رِقَّة على أهل دينهم، أهل غِلظةٍ على من خالفهم في دينهم. وقال الزجاج: معنى «أذلة» : جانبهم ليّن على المؤمنين، لا أنهم أذلاّءُ. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لأن المنافقين يراقبون الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن الصحيحَ الإِيمان لا يخاف في الله لومة لائم، ثم أعلمك أن ذلك لا يكون إِلا بتوفيقه، فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني: محبتهم لله، ولين جانبهم للمسلمين، وشدّتهم على الكافرين.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(٤٤٠) أحدها: أن عبد الله بن سلام وأصحابه جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إِن قوماً قد أظهروا لنا العداوة، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبُعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقالوا: رضينا
حسن. أخرجه الحاكم ٢/ ٣١٣ والطبري ١٢١٩٣ والطبراني ١٧/ ٣٧١ وابن سعد ٤/ ٨٠ من حديث عياض الأشعري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٧٦: رجال الطبراني رجال الصحيح. ويشهد له ما أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥/ ٣٥٢ من حديث أبي موسى، وما أخرجه الطبراني في «الأوسط» ١٤١٤ من حديث جابر وقال الهيثمي ١٩٧٧: إسناده حسن اه.
إسناده ضعيف جدا. بل موضوع. أخرجه الواحدي ٣٩٧ بهذا اللفظ، وأتم، عن محمد بن مروان عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا إسناد ساقط ليس بشيء. محمد بن مروان هو السدي الصغير متروك متهم بالكذب، وابن السائب هو الكلبي أقر على نفسه بالكذب، راجع الميزان، وأبو صالح اسمه باذام غير ثقة في ابن عباس، والمتن باطل. وهذه السلسلة تعرف عند علماء الحديث بسلسلة الكذب.
وأخرجه عبد الرزاق كما في «تفسير ابن كثير» ٢/ ٩٢- ٩٣ عن ابن عباس بنحوه. باطل، قال ابن كثير: فيه عبد الوهاب بن مجاهد، لا يحتج به اه. وقال الذهبي في «الميزان» ٢/ ٦٨٢: قال يحيى: ليس يكتب حديثه وقال أحمد: ليس بشيء. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال البخاري: يقولون: لم يسمع من أبيه اه. والظاهر أن هذا المتن سرقه من الكلبي فركبه على هذا الإسناد. وأخرجه الطبري ١٢٢١٩ عن مجاهد مرسلا، وفيه غالب بن عبيد الله متروك. وكرره ١٢٢١٦ عن أبي جعفر بلاغا، ومع ذلك هو معضل. وورد من حديث علي أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢/ ٩٣ وورد من حديث عمار بن ياسر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١٠٩٧٨. وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم اه. وزاد ابن كثير نسبته لابن مردويه عن أبي رافع وقال ابن كثير: وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها، وجهالة رجالها وانظر «تفسير الشوكاني» ٨١٥ و ٨١٦ بتخريجنا.
بالله وبرسوله وبالمؤمنين، وأذَّن بلال بالصلاة، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا مساكين يسأل الناس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل أعطاك أحدٌ شيئاً» ؟ قال: نعم. قال: «ماذا» ؟ قال: خاتم فضة. قال: «من أعطاكه» ؟ قال: ذاك القائِم، فاذا هو علي بن أبي طالب، أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال مجاهد: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع «١».
والثاني: أن عبادة بن الصّامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه «٢»، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، قاله عكرمة. والرابع: أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ فيه قولان: أحدهما: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم، وهو تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه. والثاني: أن من شأنهم إِيتاء الزكاة وفعل الركوع. وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نفس الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: إِن الآية نزلت وهُم في الركوع. والثاني: أنه صلاة التطوّع بالليل والنهار، وإنما أُفرد الركوع بالذكر تشريفاً له، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: أنه الخضوع والخشوع، وأنشدوا «٣» :
لا تُذِلَّ الفقيرَ عَلََّك أنْ تركع يَوْماً والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
ذكره الماوردي. فأما حِزْبَ اللَّهِ فقال الحسن: هم جند الله. وقال أبو عبيدة: أنصار الله. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم المهاجرون والأنصار، قاله ابن عباس. والثاني: الأنصار، ذكره أبو سليمان.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً سبب نزولها:
(٤٤١) أن رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٢١ عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.
__________
(١) انظر الحديث المتقدم. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٧٣- ٧٤ ما ملخصه: وأما قوله تعالى وَهُمْ راكِعُونَ فقد توهم بعض الناس أن الجملة في موضع حال من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي في حال ركوعهم، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة حال الركوع أفضل من غيره، ولم يقل به أحد من أئمة الفتوى اه. وذكره ابن تيمية رحمه الله في «المقدمة في أصول التفسير»، وقال: إنه من وضع الرافضة اه والظاهر أنه من وضع الكلبي، وسرقه منه بعض الضعفاء.
(٢) تقدم.
(٣) الشاعر هو: الأضبط بن قريع. وقوله لا تذلّ الفقير: لا تعادي ولا تهين.
فأما اتخاذهم الدّين هزُواً ولعباً، فهو إِظهارهم الإِسلام وإِخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين. والذين أُوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والكفار: عبدة الأوثان. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة:
وَالْكُفَّارَ بالنّصب على معنى: لا تتخذوا الكفار أولياء. وقرأ أبو عمرو والكسائي: «والكفارِ» خفضاً، لقرب الكلام من العامل الجارِّ، وأمال أبو عمرو الألف. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تولّوهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٨]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ في سبب نزولها قولان:
(٤٤٢) أحدهما: أن منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا نادى إِلى الصلاة، وقام المسلمون إِليها، قالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلّوا، على سبيل الاستهزاء والضحك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
(٤٤٣) والثاني: أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على ذلك، وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فان كنت تدَّعي النبوّة، فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك، فما أقبح هذا الصوت، وأسمج هذا الأمر، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسّرين.
(٤٤٤) وقال السُدّي: كان رجل من النصارى بالمدينة إِذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: حُرِق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنارٍ وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
والمناداة: هي الأذان، واتخاذهم إِيّاها هزواً: تضاحكهم وتغامزهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما لهم في إِجابة الصلاة، وما عليهم في استهزائهم بها.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا.
(٤٤٥) سبب نزولها: أن نفراً من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألوه عمّن يؤمن به من الرُّسل، فذكر جميع الأنبياء، فلما ذكر عيسى، جحدوا نبوّته، وقالوا: والله ما نعلم ديناً شراً من دينكم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله ابن عباس.
وقرأ الحسن، والأعمش: «تَنْقَمون» بفتح القاف. قال الزجاج: يقال: نَقَمْتُ على الرجل أنقم،
عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وتقدم مرارا أنه يضع الحديث.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٠٠ م، بدون إسناد، ومن غير عزو لقائل، فهو لا شيء.
ضعيف أخرجه الطبري ١٢٢٢٣ عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٢٤ عن ابن عباس من طريق ابن إسحاق به، ومداره على محمد بن أبي محمد، وهو مجهول كما في «التقريب»، و «الميزان». وانظر «تفسير الشوكاني» ٨١٨ بتخريجنا.
ونَقِمْت عليه أنقَمُ، والأول أجود. ومعنى «نقمت» : بالغت في كراهة الشيء، والمعنى: هل تكرهون منا إِلا إِيماننا، وفسقكم، لأنكم علمتم أننا على حقّ، وأنكم فسقتم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٠]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قال المفسرون: سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين: والله ما علمنا أهل دينٍ أقلّ حظّاً منكم في الدنيا والآخرة، ولا ديناً شرّاً من دينكم. وفي قوله تعالى: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قولان: أحدهما: بشرٍّ من المؤمنين، قاله ابن عباس. والثاني: بشرٍّ مما نقمتم مِن إِيماننا، قاله الزجاج. فأما «المثوبة» فهي الثواب.
قال الزجاج: وموضع «مَنْ» في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ إِن شئت كان رفعاً، وإِن شئت كان خفضاً، فمن خفض جعله بدلاً مِن «شرٍّ» فيكون المعنى: أُنبئكم بمن لعنه الله؟ ومن رفع فباضمار «هو» كأنَّ قائلاً قال: مَن ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله. قال أبو صالح عن ابن عباس: من لعنه الله بالجزية، وغضب عليه بعبادة العجل، فهم شر مثوبة عند الله.
وروي عن ابن عباس أن المسخَين من أصحاب السبت: مسخ شبابهم قردة، ومشايخهم خنازير.
وقال غيره: القردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى. وكان ابن قتيبة يقول: أنا أظنُّ أن هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. قال: واستدللت بقوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فدخول الألف واللام يدل على المعرفة، وعلى أنها القردة التي تعاين، ولو كان أراد شيئاً انقرض ومضى، لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إِلا أن يصحّ حديث أم حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليه السلام. قلت أنا:
(٤٤٦) وحديث أم حبيبة في «الصحيح» انفرد بإخراجه مسلم، وهو أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، القردة والخنازير هي ممّا مُسِخ؟ فقال النبي عليه السلام: «إن الله لم يمسخ قوماً أو يهلك قوماً، فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة، وإِن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك» وقد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك، فلا يُلتفت إِلى ظن ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع، والكسائي: «وعبد» بفتح العين والباء والدال، ونصب تاء «الطاغوت». وفيها وجهان:
أحدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. والثاني: أن المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت. وقرأ حمزة: «وعَبُدَ الطاغوتِ» بفتح العين والدال، وضم الباء، وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إِلا أن يجمع فَعْل على فَعُل. وقال الزجاج: وجهها أن الاسم بني على «فَعُل» كما تقول: عَلُم زيد، ورجل حَذُر، أي: مبالغ في الحذر. فالمعنى: جعل منهم خَدَمة
صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٦٣ والحميدي ١٢٥ وأحمد ١/ ٣٩٥- ٣٩٦- ٣٩٧- ٤٢٢ وأبو يعلى ٥٣١٣ من حديث ابن مسعود عن أم حبيبة.
الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية. وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، «وعَبَدُوا»، بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع «الطاغوتَ» بالنصب. وقرأ ابن عباس، وابن أبي عبلة: «وعَبَدَ» بفتح العين والباء والدال، إِلا أنهما كسرا تاء «الطاغوت». قال الفراء: أرادا «عبدة» فحذفا الهاء. وقرأ أنس بن مالك: «وعَبيدَ» بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء «الطاغوت». وقرأ أيوب، والأعمش:
«وعُبَّدَ»، برفع العين ونصب الباء والدال مع تشديد الباء، وكسر تاء «الطاغوت». وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وابن السميفع، «وعابد» بألف، مكسورة الباء مفتوحة الدال، مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ أبو العالية، ويحيى بن وثَّاب: «وعُبُدَ» برفع العين والباء وفتح الدال، مع كسر تاء الطاغوت. قال الزجاج:
هو جمع عبيد، وعُبُد مثل رغيف، ورغُف، وسرير، وسُرُر، والمعنى: وجعل منهم عبيد الطاغوت.
وقرأ أبو عمران الجوني، ومورّق العجلي، والنخعي: «وعُبِدَ» برفع العين وكسر الباء مخففة، وفتح الدال مع ضم تاء «الطاغوت». وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: «وعَبَّد» بفتح العين والدال وتشديد الباء، مع نصب تاء الطاغوت. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو نهيك: «وعَبْدَ» بفتح العين والدال، وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ قتادة، وهذيل بن شرحبيل: «وعَبَدَة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال «الطواغيت» بالف وواو وياء بعد الغين على الجمع. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: «وعُبَدَ» برفع العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء، وكسر تاء «الطاغوت». وقرأ سعيد بن جبير، والشعبي: «وعَبْدَة» مثل حمزة، إِلا أنهما رفعا تاء «الطاغوت».
وقرأ يحيى بن يعمر، والجحدري: «وعَبُدُ» بفتح العين ورفع الباء مع كسر تاء «الطاغوت». وقرأ أبو الأشهب العطاردي: «وعُبْدَ» برفع العين وتسكين الباء، ونصب الدال، مع كسر تاء «الطاغوت». وقرأ أبو السّمّال: «وعبدة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء «الطّاغوت». وقرأ معاذ القارئ: «وعابد» مثل قراءة أبي هريرة إِلا أنه ضم الدال. وقرأ أبو حياة:
«وعُبّادَ» بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين، وفتح الدال. وقرأ ابن حَذْلَمْ، وعمرو بن فائد:
«وعبّاد» مثل أبي حياة إِلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة. وقد سبق ذكر «الطاغوت» في سورة البقرة. وفي المراد به هاهنا قولان: أحدهما: الأصنام. والثاني: الشيطان.
قوله تعالى: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: هؤلاء الذين وصفناهم شر مكاناً من المؤمنين، ولا شرّ في مكان المؤمنين، ولكن الكلام مبني على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شراً منكم، فقيل: من كان بهذه الصّفة، فهو شرّ منهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦١]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا.
(٤٤٧) قال قتادة: هؤلاء ناسٌ من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به، وهم متمسّكون بضلالتهم.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٣٤ عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.
قوله تعالى: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين، فالكفر معهم في حالتيهم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر والنّفاق.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٢]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)
قوله تعالى: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني: اليهود يُسارِعُونَ، أي: يبادرون فِي الْإِثْمِ وفيه قولان: أحدهما: أنه المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: الكفر، قاله السدي.
فأما العدوان فهو الظلم. وفي «السحت» ثلاثة أقوال: أحدها: الرّشوة في الحكم. والثاني:
الرشوة في الدين. والثالث: الربا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٣]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
قوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ «لولا» بمعنى: «هلاّ»، و «الربّانيون» مذكورون في آل عمران، ووَ الْأَحْبارُ قد تقدم ذكرهم في هذه السورة. وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإِنكار في الذم. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخاً من هذه الآية.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه، قالوا: يد الله مغلولة. وقال مقاتل: فنحاص وابن صلوبا «١»، وعازر بن أبي عازر. وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى كان قد بسط لهم الرزق، فلما عصوا الله تعالى في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وكفروا به كفَّ عنهم بعض ما كان بسط لهم، فقالوا: يد الله مغلولة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثاني: أن الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة، فقالوا:
إِن الله بخيل، ويده مغلولة فهو يستقرضنا، قاله قتادة. والثالث: أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس، قالت اليهود: لو كان الله صحيحاً لمنعنا منه، فيده مغلولة، ذكره قتادة أيضاً.
والمغلولة: الممسَكة المنقبضة. وعن ماذا عَنوا أنها ممسكة، فيه قولان:
أحدهما: عن العطاء، قاله ابن عباس، وقتادة، والفرّاء، وابن قتيبة، والزجّاج.
والثاني: ممسكة من عذابنا، فلا يعذبنا إِلا تحلّة القسم بقدر عبادتنا العجل، قاله الحسن.
وفي قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: غلت في جهنم، قاله الحسن. والثاني:
أُمسكت عن الخير، قاله مقاتل. والثالث: جُعِلوا بُخلاء، فهم أبخل قوم، قاله الزجّاج. قال ابن
(١) كذا في الأصل، وفي بعض كتب التفسير «صوريا».
565
الأنباري: وهذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم، وموضعه نصب على معنى الحال.
تقديره: قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغل أيديهم، ولعنته إِياهم، ويجوز أن يكون المعنى: فغلت أيديهم، ويجوز أن يكون دعاء، معناه: تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم، كقوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «١» وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «٢».
وفي قوله تعالى: وَلُعِنُوا بِما قالُوا ثلاثة أقوال: أحدها: أُبعدوا من رحمة الله. والثاني: عذّبوا قردة بالجزية، وفي الآخرة بالنّار. الثالث: مُسخوا قردة وخنازير.
(٤٤٨) وروى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من لعن شيئاً لم يكن للعنه أهلاً رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إِياهم».
قال الزجاج: وقد ذهب قومٌ إِلى أن معنى «يد الله» : نعمته، وهذا خطأ ينقضه بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فيكون المعنى على قولهم: نعمتاه، ونعم الله أكثر من أن تحصى. والمراد بقوله: بل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ:
أنه جواد ينفق كيف يشاء، وإِلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري. قال ابن عباس: إِن شاء وسَّع في الرزق، وإِن شاء قتَّر.
قوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً قال الزجاج: كلما أُنزل عليك شيء كفروا به، فيزيد كفرهم. و «الطّغيان» هاهنا: الغلو في الكفر. وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أُنزل إِليك من ربك من أمر الرجم والدّماء طغياناً وكفراً.
قوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فيمن عني بهذا قولان: أحدهما: اليهود والنصارى، قاله ابن عباس: ومجاهد، ومقاتل. فإن قيل: فأين ذكر النصارى؟ فالجواب: أنه قد تقدم في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة.
قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ذِكْر إِيقاد النار مَثَلٌ ضُربَ لاجتهادهم في المحاربة، وقيل: إِن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إِذا أرادت حرب أُخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال، والمواضع المرتفعة، ليعلم استعدادهم للحرب، فيتأهب من يريد إِعانتهم. وقيل: كانوا إِذا تحالفوا على الجدِّ في حربهم، أوقدوا ناراً، وتحالفوا. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: كلما جمعوا لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فرّقهم الله. والثاني: كلما مكروا مكراً رده الله. قوله
لا أصل له في المرفوع، وقد صح ما يعارضه، وهو ما أخرجه أبو داود ٤٩٠٨ والترمذي ١٩٧٨ وابن حبان ٥٧٤٥ والطبراني ١٢٧٥٧ عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، وليس أحد يلعن شيئا ليس له بأهل إلا رجعت عليه اللعنة». رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن فيه عنعنة قتادة. وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد ١/ ٤٠٨ وجوده المنذري في «الترغيب» ٤١٠٨.
وله شاهد من حديث أبي الدرداء، أخرجه أبو داود ٤٩٠٥ بإسناد ضعيف لكن يصلح شاهدا لما قبله. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فهو خبر صحيح. وهو يعارض حديث المصنف، لأن في هذه الأحاديث عود اللعنة على صاحبها إن لم يكن الآخر أهلا لها، في حين سياق المصنف ابن الجوزي فيه عودها على اليهود في جميع الأحوال.
__________
(١) سورة المسد: ١.
(٢) سورة الفتح: ٢٧.
566
تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً فيه أربعة أقوال: أحدها: بالمعاصي، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: بمحو ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من كتبهم، ودفع الإِسلام، قاله الزجاج. والثالث: بالكفر. والرابع:
بالظّلم، ذكرهما الماورديّ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٥]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود والنصارى آمَنُوا بالله وبرسله وَاتَّقَوْا الشرك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي سلفت.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٦]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قال ابن عباس: عملوا بما فيها. وفيما أُنزل إِليهم من ربهم قولان: أحدهما: كتب أنبياء بني إِسرائيل. والثاني: القرآن، لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلاً إِليهم. قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فيه قولان:
أحدهما: لأكلوا بقطر السماء، ونبات الأرض، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أن المعنى: لوسِّع عليهم، كما يقال: فلان في خير من قرنه إِلى قدمه، ذكره الفراء، والزجاج. وقد أعلم الله تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «١» وقال: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «٢».
قوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني: من أهل الكتاب، وهم الذين أسلموا منهم، قاله ابن عباس، ومجاهد. وقال القرظي: هم الذين قالوا: المسيح عبد الله ورسوله. و «الاقتصاد» الاعتدال في القول والعمل من غير غلوّ ولا تقصير.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت على أسباب: روى الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
(٤٤٩) «لما بعثني الله برسالته، ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من الناس من يكذِّبني»، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يهابُ قريشاً واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه الآية.
ضعيف. أخرجه أبو الشيخ كما في «أسباب النزول» للسيوطي ٤٣٨. وهو مرسل. ومراسيل الحسن واهية كما هو مقرر في كتب المصطلح. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٢٥ بتخريجنا.
__________
(١) سورة الأعراف: ٩٦.
(٢) سورة الطلاق: ٣.
567
(٤٥٠) وقال مجاهد: لما نزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قال: «يا رب كيف أصنع؟
إِنما أنا وحدي يجتمع عليَّ الناس»
، فأنزل الله وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
(٤٥١) وقال مقاتل: لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا يستهزئون به، فسكت عنهم، فحُرِّض بهذه الآية.
(٤٥٢) وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُحرَسُ فيرسل معه أبو طالب كلَّ يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية، فقال: «يا عمّاه إِن الله قد عصمني من الجن والإِنس».
(٤٥٣) وقال أبو هريرة: نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجلٌ فأخذه، فقال: يا محمد من يمنعني منك؟ فقال: «الله»، فنزل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
(٤٥٤) وقالت عائشة: سهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فقلت: ما شأنك؟ قال: ألا رجلٌ صالح يحرسني الليلة، فبينما نحن في ذلك إِذ سمعت صوت السّلاح، فقال: «من هذا» ؟ فقال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعت غطيطه «١»، فنزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من قبة أدم «٢» وقال «انصرفوا أيها النّاس، فقد عصمني الله تعالى».
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٧٥ عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إذا أطلق، وخبره معضل، وهو متروك متهم إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟!
باطل. أخرجه الطبراني ١٦٦٣ وابن عدي ٧/ ٢٢/ ١٩٦٠ من حديث ابن عباس، وأعلّه ابن عدي بالنضر بن عبد الرحمن الخزّاز ونقل عن البخاري قوله: منكر الحديث. وقال النسائي متروك. وكذا ضعفه الهيثمي به في «المجمع» ١٠٩٨١ وله علة ثانية عبد الحميد بن عبد الرحمن الحمّاني وثقه ابن معين وفي رواية: ضعفه. وكذا ضعفه أحمد وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي. والآية مدنية كما ذكر المصنف فالمتن منكر جدا، بل هو باطل. وانظر «تفسير القرطبي» ٢٧٥١ و «ابن كثير» ٢/ ١٠٢ بتخريجنا.
أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٠٣ من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده حسن، رجاله ثقات سوى محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث.
أخرجه الترمذي ٣٠٤٦ والحاكم ٢/ ٣١٣ والطبري ١٢٢٧٩ والواحدي ٤٠٤ من حديث عائشة. صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث غريب ورواه بعضهم مرسلا بدون ذكر عائشة اه. والمرسل أخرجه الطبري ١٢٢٧٧، وإسناده أصح من الموصول. وورد بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» ٤١٨ والأوسط كما في «المجمع» ١٠٩٨٠ وأعله الهيثمي بعطية العوفي، وقال ضعيف.
وأصله عند البخاري ٢٨٨٥ ومسلم ٢٤١٠ دون ذكر الآية وسبب النزول فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم سهر، فلما قدم المدينة قال: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة» إذ سمعنا صوت السلاح، فقال «من هذا؟» فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. «فنام النبي صلّى الله عليه وسلّم» لفظ البخاري.
وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٢٩ بتخريجنا.
__________
(١) في «اللسان» : الغطيط: هو صوت النائم المرتفع.
(٢) الأدم: الأديم: الجلد ما كان، وقيل: الأحمر وقيل: هو المدبوغ- والجمع الأدم.
568
قال الزجّاج: قوله تعالى: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ معناه: بلغ جميع ما أُنزل إِليك، ولا تراقبن أحداً، ولا تتركنَّ شيئاً منه مخافة أن ينالك مكروه، فان تركت منه شيئاً، فما بلَّغت. قال ابن قتيبة:
يدل على هذا المحذوف قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ. وقال ابن عباس: إِن كتمت آية فما بلَّغت رسالتي. وقال غيره: المعنى: بلِّغ جميع ما أُنزل إِليك جهراً، فان أخفيت شيئاً منه لخوف أذىً يلحقك، فكأنك ما بلَّغت شيئاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «رسالته» على التوحيد. وقرأ نافع «رسالاته» على الجمع.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ قال ابن قتيبة: أي يمنعك منهم. وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي، ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع. فان قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه، وكسِرت رَباعيته، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه عصمه من القتل والأسرِ وتلفِ الجملة، فأمّا عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة الجملة. والثاني: أن هذه الآية نزلت بعد ما جرى عليه ذلك، لأن «المائدة» من أواخر ما نزل.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فيه قولان: أحدهما: لا يهديهم إِلى الجنة.
والثاني: لا يعينهم على بلوغ غرضهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ سبب نزولها:
(٤٥٥) أن اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال:
بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريء من إِحداثكم. فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن بك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنّصارى. وقوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإِنجيل، وإِقامتهما: العمل بما فيهما، ومن ذلك الإِيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وفي الذي أُنزل إِليهم من ربهم قولان قد سبقا، وكذلك باقي الآية.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ قد ذكرنا تفسيرها في البقرة. وكذلك اختلفوا في إِحكامها ونسخها كما بينا هناك. فأما رفع «الصابئين» فذكر الزجاج عن البصريين، منهم الخليل، وسيبويه أن قوله: «والصابئون» محمول على التأخير، ومرفوع بالابتداء. والمعنى: إِن الذين آمنوا والذين هادوا من آمَن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إسناده ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٢٨٧ من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد به، ومحمد هذا مجهول كما تقدم مرارا. وانظر «تفسير الشوكاني» بتخريجنا.
والصابئون والنصارى كذلك أيضاً، وأنشدوا:
وإِلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتم بُغاةٌ ما بقينا في شقاق «١»
المعنى: فاعلموا أنا بُغاة ما بقينا في شقاق، وأنتم أيضا كذلك.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٠]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال مقاتل: أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها. قال ابن عباس: كان فيمن كُذِّبُوا. محمد وعيسى، وفيمن قتلوا: زكريا ويحيى. قال الزجاج:
فأما التكذيب، فاليهود والنصارى يشتركون فيه. وأمّا القتل فيختصّ اليهود.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧١]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
قوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: تَكُونَ بالنصب، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «تكون» بالرفع، ولم يختلفوا في رفع «فتنة». قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل «أن» مخفّفة من الثقيلة، وأضمر معها «الهاء»، وجعل «حسبوا» بمعنى: أيقنوا، لأن «أن» للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إِلا مع اليقين. والتقدير: أنه لا تكون فتنة. ومن نصب جعل «أن» هي الناصبة للفعل، وجعل «حسبوا» بمعنى: ظنوا. ولو كان قبل «أن» فعلٌ لا يصلح للشك، لم يجز أن تكون إِلا مخففة من الثقيلة، ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «٢» وعَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ «٣». وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعلٌ يدلُ على ثبات الشيء واستقراره، نحو العلم والتيقّن، وفعلٌ يدلُ على خلاف الثبات والاستقرار، وفعلٌ يجذب إِلى هذا مرة، وإِلى هذا أُخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده «أن» الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره، كقوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «٤» أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «٥»، وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده «أن» الخفيفة، كقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «٦» تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ «٧» فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما «٨» أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي «٩»، وما كان متردداً بين الحالين مثل حسبتُ وظننت، فإنه يُجعلُ تارةً بمنزلة العلم، وتارةً بمنزلة أرجو وأطمع، وكلتا القراءتين في وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قد جاء بها التنزيل. فمثل مذهب من نصب: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
«١٠» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا «١١»
(١) البيت لبشر بن أبي خازم كما في «شواهد المعيني» ٢/ ٢٧١. [.....]
(٢) سورة طه: ٨٩.
(٣) سورة المزمل: ٢٠.
(٤) سورة النور: ٢٥.
(٥) سورة العلق: ١٤.
(٦) سورة البقرة: ٢٢٩.
(٧) سورة الأنفال: ٢٦.
(٨) سورة الكهف: ٨٠.
(٩) سورة الشعراء: ٨٢.
(١٠) سورة الجاثية: ٢١.
(١١) سورة العنكبوت: ٤.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا «١»، ومثلُ مذهب مَنْ رفع: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ «٢» أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ «٣». قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذّبهم، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء، وتكذيبهم الرسل.
قوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا قال الزجاج: هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصمّ.
قوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما: رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل. وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء، وذلك مذكور في قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. والثاني: أن معنى «تاب عليهم» : أرسل إِليهم محمداً يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إِن آمنوا وصدقوا، قاله الزجاج.
وفي قوله تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا قولان: أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل. والثاني:
لم يؤمنوا بعد بعثة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي: عمي وصم كثيرٌ منهم، كما تقول: جاءني قومُك أكثرُهم. قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً، وقدَّروا أن هذا الفعل لا يكون مُوبقاً لهم، وجانياً عليهم، فقال الله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإِصرار على الكفر، فعموا وصموا بمجانبة الحق. ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: عرّضهم للتّوبة بأن أرسل محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وإِن لم يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد، كثيرٌ منهم، فخصّ بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران، قالوا ذلك. قوله تعالى: وَقالَ الْمَسِيحُ أي: وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم: إِنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٣]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ قال مجاهد: هم النصارى. قال وهب بن منبّه: لما وُلد عيسى لم يبق صنم إِلا خرَّ لوجهه، فاجتمعت الشياطين إِلى إِبليس، فأخبروه، فذهب فطاف أقطار الأرض، ثم رجع، فقال: هذا المولود الذي ولد من غير ذكر، أردت أن أنظر إِليه، فوجدت الملائكة قد حفّت بأمِّه، فليتخلف عندي اثنان من مردتكم، فلما أصبح. خرج بهما في
(١) سورة العنكبوت: ٢.
(٢) سورة المؤمنون: ٩٥.
(٣) سورة الزخرف: ٨٠.
صورة الرجال، فأتوا مسجد بني إِسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى، ويقولون: مولود من غير أب.
فقال إِبليس: ما هذا ببشر، ولكن الله أحبَّ أن يتمثّل في امرأةٍ ليختبر العباد، فقال أحد صاحبيه: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أحب أن يتخذ ولداً. وقال الثالث: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أراد أن يجعل إِلها في الأرض، فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس، ثم تفرَّقوا، فتكلم به الناس. وقال محمد بن كعب: لمّا رفع عيسى اجتمع مائة من علماء بني إِسرائيل، وانتخبوا منهم أربعة، فقال أحدهم:
عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له، ثم صعِد إِلى السماء، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إِلا الله. وقال الثاني: ليس كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أُمه، ولكنّه ابن الله. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما، ولكن جاءت به أُمه من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحاً، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته، فخرجوا، فاتبع كلَّ رجل منهم عُنُقٌ «١» من الناس. قال المفسّرون:
ومعنى الآية: أن النصارى قالت: الإِلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم، وكل واحد منهم إِلهٌ. وفي الآية إِضمار، فالمعنى: ثالث ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، لأنه لا يكفر من قال: هو ثالث ثلاثة، ولم يرد الآلهة، لأنه ما من اثنين إِلا وهو ثالثهما، وقد دل على المحذوف قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. قال الزجاج: ومعنى ثالث ثلاثة: أنه أحد ثلاثة. ودخلت «من» في قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ للتوكيد. والذين كفروا منهم، هم المقيمون على هذا القول. وقال ابن جرير: المعنى: ليَمسّن الذين يقولون: المسيح هو الله، والذين يقولون: إِن الله ثالث ثلاثة، وكلّ كافر يسلك سبيلهم، عذاب أليم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٤]
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ قال الفراء: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٥]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ فيه ردٌ على اليهود في تكذيبهم رسالته، وعلى النصارى في ادّعائهم إِلهيَّته. والمعنى: أنه ليس بالهٍ، وإِنما حكمُه حكم من سبقه من الرسل. وفي قوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ردٌ على من نسبها من اليهود إِلى الفاحشة. قال الزجاج: والصدّيقة: المبالغة في الصدق، وصدِّيق «فعِّيل» من أبنية المبالغة، كما تقول: فلانٌ سكّيت، أي: مبالغ في السكوت. وفي قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ قولان: أحدهما: أنه بيّن أنهما يعيشان بالغذاء، ومن لا يُقيمه إِلا أكل الطعام فليس باله، قاله الزجاج. والثاني: أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته، وهو الحدث، إِذ لا بد لآكل الطعام من الحدث، قاله ابن قتيبة. قال: وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ من ألطف ما يكون من الكناية. و «يؤفكون» : يُصرفون عن الحق ويُعدَلون، يقال: أفِك الرجل عن كذا:
(١) في «اللسان» العنق: الجماعة الكثيرة من الناس. [.....]
إِذا عدل عنه، وأرض مأفوكة: محرومة المطر والنّبات، كأنّ ذلك صرف عنها وعدل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٦]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
قوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال مقاتل: قل لنصارى نجران: أتعبدون من دون الله، يعني عيسى ما لا يملك لكم ضراً في الدنيا، ولا نفعاً في الآخرة. والله هو السميع لقولهم: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، العليم بمقالتهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٧]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ قال مقاتل: هم نصارى نجران. والمعنى: لا تغلوا في دينكم، فتقولوا غير الحق في عيسى. وقد بيّنا معنى «الغلو» في آخر سورة (النساء). قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ قال أبو سليمان: من قبل أن تَضِلُّوا. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم رؤساء الضَّلالَةِ من اليهود. والثاني: رؤساء اليهود والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم نُهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٨]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ في لعنهم قولان:
أحدهما: أنه نفس اللعن، ومعناه المباعدة من الرحمة. قال ابن عباس: لُعنوا على لسان داود، فصاروا قردة، ولعنوا على لسان عيسى في الإِنجيل. قال الزجاج: وجائز أن يكون داود وعيسى أُعْلِمَا أن محمداً نبيّ، ولعنا من كفر به. والثاني: أنه المسخ، قاله مجاهد، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى، فصاروا خنازير. وقال الحسن، وقتادة: لعن أصحاب السبت على لسان داود، فانهم لما اعتدوا، قال داود: اللهم العنهم، واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى، فانهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فجُعلوا خنازير.
قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا أي: ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه، وباعتدائِهم في مجاوزة ما حدّه لهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٩]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر. وذكر المفسّرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال: أحدها: صيدُ السّمك يوم السبت. والثاني: أخذ الرشوة في الحكم. والثالث: أكل الربا، وأثمان الشحوم. وذِكْر المنكر منكَّراً يدل على الإِطلاق، ويمنع هذا الحصر، ويدلُ على ما قلنا:
(٤٥٦) ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الرجل من بني إِسرائيل كان إِذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم».
قوله تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال الزجاج: اللاّم دخلت للقسم والتوكيد، والمعنى:
لبئس شيئاً فعلهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المنافِقُون، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: أنهم اليهود، قاله مقاتل في آخرين، فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر، وعلى الأول يرجع الكلام إلى قوله تعالى فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ. وفي الذين كفروا قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: أنهم مشركو العرب، قاله أرباب هذا القول الثاني.
قوله تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: بئسما قدموا لمعادهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: يجوز أن تكون «أن» في موضع رفع على إِضمار هو، كأنه قيل: هو أن سخط الله عليهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ قال المفسّرون: نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه. قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي قوما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، وسنذكر قصّتهم فيما بعد. قال الزجاج: واللام في «لتجدن» لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال، و «عداوة» منصوب على التمييز، واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيّ عليه السّلام.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: عبدة الأوثان. فأما الذين قالوا إِنا نصارى، فهل هذا عام
أخرجه أبو داود ٤٣٣٦ و ٤٣٣٧ والترمذي ٣٠٥٠ وابن ماجة ٤٠٠٦ وأحمد ١/ ٣٩١ من حديث أبي عبيدة عن أبيه عن ابن مسعود، وفيه إرسال بينهما. وله شاهد من حديث أبي موسى، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١٢١٥٣ وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اه. وفي الباب أحاديث يحسن بها، وقد وهم من حكم بضعفه.
574
في كل النصارى أم خاص؟ فيه قولان: أحدهما: أنه خاص، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا متمسّكين بشريعة عيسى، فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا، قاله قتادة. والقول الثاني: أنه عام. قال الزجاج:
يجوز أن يراد به النصارى لأنهم كانوا أقلَّ مظاهرةً للمشركين من اليهود.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً قال الزجاج: «القس» و «القسيس» من رؤساء النصارى. وقال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم، فأما الرهبان: فهم العباد أرباب الصوامع. قال ابن فارس: الترهّب: التعبّد، فان قيل: كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمرِ شريعتنا؟ فالجواب: أنه مدحهم بالتمسّك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم. والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قال القاضي أبو يعلى: وربما ظن جاهلٌ أن في هذه الآية مدح النصارى، وليس كذلك، لأنه إِنما مدح مَن آمن منهم، ويدل عليه ما بعد ذلك، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود.
قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، أي: لا يتكبرون عن إتباع الحق.
قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.
(٤٥٧) قال ابن عباس: لمّا حضر أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين يدي النّجاشيّ، وقرءوا القرآن، سمع ذلك القسيسون والرهبان، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فقال الله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ إلى قوله تعالى: الشَّاهِدِينَ.
(٤٥٨) وقال سعيد بن جبير: بعث النجاشي من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم القرآن، فبكوا ورقُّوا، وقالوا: نعرف والله، وأسلموا، وذهبوا إِلى النجاشي فأخبروه فأسلم، فأنزل الله فيهم وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ... الآية.
(٤٥٩) وقال السدي: كانوا اثني عشر رجلاً سبعة من القسيسين، وخمسة من الرّهبان، فلمّا قرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن، بكوا وآمنوا، فنزلت هذه الآية فيهم «١».
حسن. أخرجه الطبري ١٢٣٢٠ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بأتم منه، ورجاله ثقات، لكن فيه إرسال بين علي وابن عباس. وله شاهد عن عبد الله بن الزبير، أخرجه النسائي في «التفسير» ١٦٨ والطبري ١٢٣٣٠، وله شاهد من مرسل عطاء، أخرجه الطبري ١٢٣٢٢.
مرسل. أخرجه الطبري ١٢٣١٨ عن خصيف الجزري عن سعيد بن جبير مرسلا.
- وكرره برقم ١٢٣٢٨ عن سالم الأفطس عن سعيد به.
مرسل. أخرجه الطبري ١٢٣٢١ بأتم منه عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وله شاهد عن أبي صالح، أخرجه الطبري ١٢٣٢٦ وهو مرسل، وفيه راو لم يسمّ. الخلاصة: هذه الروايات جميعا تتأيد بمجموعها، فيكون النجاشي وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من هؤلاء، ويدخل في ذلك كل من اتصف بذلك من أهل الكتاب، وأصح ما في الباب حديث ابن الزبير وابن عباس. وانظر التعليق الآتي.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» ٥/ ٥: والصواب في ذلك من القول عندي: أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إِنَّا نَصارى، أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم، وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكونوا قوما كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه.
575
قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ، أي: مع من يشهد بالحق. وللمفسرين في المراد بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال: أحدها: محمد وأُمته، رواه علي بن أبي طلحة، وعكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: الذين يشهدون بالإِيمان، قاله الحسن. والرابع: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجّاج.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
قوله تعالى: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال ابن عباس: لامهم قومهم على الإِيمان، فقالوا هذا، وفي القوم الصالحين ثلاثة أقوال: أحدها: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قاله ابن زيد. والثالث: المهاجرون الأولون، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: ثواب المؤمنين.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٤٦٠) أحدها: أن رجالاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، منهم عثمان بن مظعون، حرّموا اللحم والنساء على أنفسهم، وأرادوا جبّ أنفسهم ليتفرّغوا للعبادة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أُومر بذلك»، ونزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس.
حسن. أخرجه الطبري ١٢٣٥٠ وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس وكرره ١٢٣٥١ من وجه آخر عنه، وفيه عطية العوفي واه، وورد مرسلا عن عكرمة أخرجه الطبري وهذا ضعيف لإرساله ومن مرسل قتادة أخرجه الطبري ١٢٣٤٨ مطولا، ومن مرسل السدي أخرجه ١٢٣٤٩ وكرره ١٢٣٤٠ من مرسل أبي مالك و ١٢٣٤٥ من مرسل أبي قلابة. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٤١١ بقوله: قال المفسرون اه. رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى متحد، وهذه الروايات المرسلة والموصولة تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن.
- وفي الصحيح أن عثمان بن مظعون نهاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التبتل دون ذكر الآية وهو عند البخاري ٥٠٧٣ و ٥٠٧٤، ومسلم ١٤٠٢ والترمذي ١٠٨٣ والنسائي ٦/ ٥٨ وابن ماجة ١٨٤٨ وأحمد ١/ ١٧٥- ١٨٣ والدارمي ٢/ ١٣٣ وابن حبان ٤٠٢٧ والبغوي ٢٢٣٧ والبيهقي ٧/ ٩٧ من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا. وانظر «أحكام القرآن» ٧٣٧.
576
(٤٦١) وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: كانوا عشرة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، فتواثقوا على ذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من رغب عن سنَّتي فليس مني» ونزلت هذه الآية.
(٤٦٢) قال السدي: كان سبب عزمهم على ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوماً، فلم يزدهم على التخويف، فرقَّ الناس، وبكوا، فعزم هؤلاء على ذلك، وحلفوا على ما عزموا عليه.
(٤٦٣) وقال عكرمة: إِن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد، وسالماً مولى أبي حُذيفة في أصحابه، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح «١»، وحرموا طيبات الطعام واللباس، إِلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إِسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية.
(٤٦٤) والثاني: أن رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إِني إِذا أكلت من هذا اللحم، أقبلت على النساء، وإِني حرَّمته عليّ، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(٤٦٥) والثالث: أن ضيفاً نزل بعبد الله بن رواحة، ولم يكن حاضراً، فلما جاء، قال لزوجته: هل أكل الضيف؟ فقالت: انتظرتك. فقال: حبست ضيفي من أجلي؟! طعامك عليّ حرام. فقالت: وهو عليَّ حرام إِن لم تأكله، فقال الضيف: وهو عليَّ حرام إِن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال:
قرّبي طعامك، كلوا بسم الله، ثم غدا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بذلك فقال: أحسنت، ونزلت هذه الآية، وقرأ حتى بلغ لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
فأما «الطيبات» فهي اللذيذات التي تشتهيها النّفوس ممّا أبيح، وفي قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا خمسة أقوال: أحدها: لا تجبّوا أنفسكم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإِبراهيم. والثاني: لا
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، وذكر أبي بكر وعمر في هذا الحديث غريب جدا.
أخرجه الطبري ١٢٣٤٩ عن السدي مرسلا مطولا، وهذا المتن أصله محفوظ بشواهده المرسلة والموصولة.
هو مرسل، وانظر ما تقدم.
ضعيف. أخرجه الترمذي ٣٠٥٤ والطبري ٢٣٥٤ وابن عدي ٥/ ١٠٧٠ والواحدي ٤١٠ من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف عثمان بن سعد الكاتب، وبه أعله ابن عدي. وأما الترمذي فقال: حسن غريب، ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا اه. قلت: هو خبر ضعيف، والصواب ما ذكره أئمة التفسير ومنهم ابن عباس، انظر الحديث المتقدم. انظر «أحكام القرآن» ٧٤٠ بتخريجنا.
ضعيف جدا، أخرجه الطبري ١٢٣٥٣ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا، ومع إرساله عبد الرحمن متروك الحديث. والصحيح في سبب النزول ما قبله. وحديث ابن رواحة في الصحيح، وليس فيه ذكر نزول الآية راجع البخاري ٣٥٨١ وصحيح مسلم ٢٠٥٧. وانظر «أحكام القرآن» ٧٣٨ بتخريجنا.
__________
(١) في «اللسان» : المسوح: جمع مسح: وهو كساء من شعر يلبسه الرهبان.
577
تأتوا ما نهى الله عنه، قاله الحسن. والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين مِن ترك النساء، وإِدامة الصيام، والقيام، قاله عكرمة. والرابع: لا تحرّموا الحلال، قاله مقاتل. والخامس: لا تغصبوا الأموال المحرّمة، ذكره الماورديّ.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ سبب نزولها:
(٤٦٦) أنه لما نزل قوله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ قال القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم: يا رسول الله كيف نصنع بأيْماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. وقد سبق ذكر «اللغو» في سورة البقرة.
قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
«عقدتم» بغير ألف، مشددة القاف. قال أبو عمرو: معناها: وكدّتم، وقرأ أبو بكر، والمفضّل عن عاصم: «عقَدْتُم» خفيفة بغير ألف، واختارها أبو عبيد. قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على أنفسكم «١». وقرأ ابن عامر: «عاقدتم» بألف، مثل «عاهدتم». قال القاضي أبو يعلى: وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إِلا عقد قول. فأما المخففة، فتحتمل عقد القلب، وعقد القول. وذكر المفسّرون في
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٣٦٠ عن عطية بن سعد العوفي عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف عطية.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٤٦٩- ٤٧١ ما ملخصه: فصل: فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت، أو شهدت لأفعلنّ، ولم يذكر بالله. فعن أحمد روايتان، إحداهما: أنها يمين، سواء نوى اليمين أو أطلق، وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وعن أحمد: إن نوى اليمين بالله كان يمينا، وإلا فلا، وهو قول مالك وإسحاق وابن المنذر، لأنه يحتمل القسم بالله تعالى وبغيره، فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة، وقال الشافعي: ليس بيمين وإن نوى، وروي نحو ذلك عن عطاء والحسن والزهري وقتادة وأبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله تعالى وصفته فلم تكن يمينا. ولنا أنه ثبت لها عرف الشرع والاستعمال فإن أبا بكر قال: أقسمت عليك يا رسول الله، لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تقسم يا أبا بكر» رواه أبو داود. وقال العباس للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنّه، فبايعه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أبررت قسم عمي، ولا هجرة». وفي كتاب الله إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إلى اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فسماها يمينا.
- فصل: وإن قال: أعزم، أو عزمت لم يكن قسما، نوى به القسم أو لم ينو، لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عرف في شرع ولا استعمال، ولا هو موضوع للقسم، ولا فيه دلالة عليه.
- مسألة: أو بأمانة الله قال القاضي: لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا تنعقد اليمين بها إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى.
- فصل: فإن قال: والأمانة لا فعلت. ونوى الحلف بأمانة الله فهي يمين مكفّرة. وإن أطلق فعلى روايتين:
إحداهما: يكون يمينا، والثانية: لا يكون يمينا، لأنه لم يضفها إلى الله تعالى.
578
معنى الكلام قولين: أحدهما: ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين، قاله مجاهد.
والثاني: بما عقَّدتم عليه قلوبكم أنه كذب، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ «١» قال ابن جرير: الهاء عائدةٌ على «ما» في قوله: «بما عقَّدتم».
فصل: فأما إِطعام المساكين «٢»، فروي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن في آخرين: أنّ لكلّ مساكين مدّ برّ، وبه قال مالك، والشافعي. وروي عن عمر، وعليّ، وعائشة في آخرين: لكلّ مساكين نصف صاع من بُرّ، قال عمر، وعائشة: أو صاعاً من تمر، وبه قال أبو حنيفة.
ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إِطعام، مثل كفارة اليمين، والظهار، وفدية الأذى، والمفرّطة في قضاء رمضان، مُدّ بُرٍّ، أو نصف صاع تمر أو شعير. ومِنْ شرط صحة الكفارة، تمليك الطعام للفقراء، فإن غدَّاهم وعشَّاهم، لم يجزئه، وبه قال سعيد بن جبير، والحكم، والشافعي. وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، ومالك «٣». ولا يجوز صرف مدّين إلى مساكين واحد «٤»، ولا إخراج القيامة في الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. قال الزجاج: وإِنما وقع لفظ التّذكير في المساكين، ولو كانوا إِناثاً لأجزأ، لأن المغلَّب في كلام العرب التذكير. وفي قوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد.
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٤٨١- ٤٨٢: كفارة سائر الأيمان تجوز قبل الحنث وبعده، صوما كانت أو غيره، في قول أكثر أهل العلم، وبه قال مالك، وممن روي عنه جواز تقديم التكفير عمر وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد، وبه قال الحسن وابن سيرين وربيعة والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو عبيد وأبو خيثمة وسليمان بن داود، وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، لأنه تكفير قبل وجود سببه، وقال الشافعي كقولنا، في الإعتاق والإطعام والكسوة. وكقولهم في الصيام من أجل أنه عبادة بدنية.
قلت: ويخطئ أكثر العامة حيث يظنون أن المتعين هو صيام ثلاثة أيام. ولا يعرفون غير ذلك؟!!
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٥١١: لا يجزئ في الكفارة إخراج قيمة الطعام، ولا الكسوة، في قول إمامنا ومالك والشافعي وابن المنذر، وهو الظاهر من قول عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي. وأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي اه ملخصا. وانظر القرطبي ٦/ ٢٨٠.
(٣) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» ٦/ ٢٧٧: قال مالك: إن غدّى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مساكين مدا. وروي عن علي: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة. يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء حتى يغدّيهم ويعشيهم. قال أبو عمر: وهو قول أئمة أهل الفتوى بالأمصار. وانظر ما ذكره ٦/ ٢٧٦.
(٤) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٥١٣: المكفّر لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم، أو لا يجدهم، فإن وجدهم لم يجزئه إطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين، ولا أقل من ستين في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في رمضان وبهذا قال الشافعي وأبو ثور. وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد. وقال أبو عبيد: إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز. وقال أصحاب الرأي: يجوز أن يرددها على مساكين واحد في عشرة أيام إن كانت كفارة يمين، أو في ستين إن كان الواجب إطعام ستين مسكينا. ولا يجوز دفعها إليه في يوم واحد. وحكاه أبو الخطاب عن أحمد اه ملخصا. وانظر القرطبي ٦/ ٢٧٨.
579
والثاني: مِن أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعَبيدة، والحسن، وابن سيرين.
وروي عن ابن عباس قال: كان أهل المدينة يقرون للحُرِّ مِن القوت أكثر ما للمملوك، وللكبير أكثر ما للصغير، فنزلت مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ليس بأفضله ولا بأخسِّه.
وفي كسوتهم خمسة أقوال: أحدها: أنها ثوبٌ واحدٌ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، والشافعي. والثاني: ثوبان، قاله أبو موسى الأشعري، وابن المسيّب، والحسن، وابن سيرين، والضحاك. والثالث: إِزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر. والرابع: ثوب جامع كالملحفة، قاله إِبراهيم النخعي. والخامس: كسوة تجزئ فيها الصلاة، قاله مالك. ومذهب أصحابنا: أنه إِن كسا الرجل، كساه ثوباً، والمرأة ثوبين، درعاً وخماراً، وهو أدنى ما تُجزئ فيه الصلاة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو الجوزاء ويحيى بن يعمر: «أو كُسوتهم» بضم الكاف. وقد قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القارئ: «أو كاسوتهم» بهمزة مكسورة مفتوحة الكاف مكسورة التاء والهاء. وقرأ ابن السميفع وأبو عمران الجوني مثله، إِلا إنهما فتحا الهمزة. قال المصنف:
ولا أرى هذه القراءة جائزة لأنها تسقط أصلاً من أصول الكفارة.
قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تحريرها: عتقها، والمراد بالرقبة: جملة الشخص. واتفقوا على اشتراط إِيمان الرقبة في كفارة القتل لموضع النص. واختلفوا في إِيمان الرقبة المذكورة في هذه الكفارة على قولين: أحدهما: أنه شرط، وبه قال الشافعي، لأن الله تعالى قيد بذكر الإِيمان في كفارة القتل، فوجب حمل المطلق على المقيّد. والثاني: ليس بشرط، وبه قال أبو حنيفة، وعن أحمد رضي الله عنه في إِيمان الرقبة المعتقة في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع، والمنذورة، روايتان. قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ اختلفوا فيما إِذا لم يجده، صام، على خمسة أقوال: أحدها: أنه إِذا لم يجد درهمين صام، قاله الحسن. والثاني: ثلاثة دراهم، قاله سعيد بن جبير. والثالث: إِذا لم يجد إِلا قَدْرَ ما يكفِّر به، صام، قاله قتادة. والرابع: مائتي درهم، قاله أبو حنيفة. والخامس: إِذا لم يكن له إِلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته «١»، قاله أحمد، والشافعي. وفي تتابع الثّلاثة أيام «٢»، قولان: أحدهما: أنه
(١) قال الإمام الموفق في «المغني» ١٣/ ٥٣٣: ويكفّر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، مقدار ما يكفر به وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا، فيتخير بين الخصال الثلاث، ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته قدرا يكفّر به، وهذا قول إسحاق، وأبو عبيد وقال الشافعي من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره، أجزأه الصيام، لأنه فقير. وقال سعيد بن جبير، إذا لم يملك إلا ثلاثة دراهم، كفّر بها. وقال الحسن: درهمين. وهذان القولان نحو قولنا، ووجه ذلك أن الله اشترط للصيام، أن لا يجد. فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله، يومه وليلته، كصدقة الفطر.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٥٢٨: ظاهر المذهب اشتراط التتابع في الصوم كذلك قال النخعي، والثوري، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء ومجاهد، وعكرمة.
وعن أحمد رواية أخرى، أنه يجوز تفريقها. وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه لأن الأمر بالصوم مطلق، فلا يجوز تقييده إلا بدليل. وفي قراءة ابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» كذلك ذكره أحمد: إن كان قرآنا فهو حجة، وإن لم يكن قرآنا، فهو رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيضا هو حجة فوجب التتابع.
580
شرط، وكان أُبيّ، وابن مسعود يقرآن: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبه قال ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، وقتادة، وأبو حنيفة، وهو قول أصحابنا. والثاني: ليس بشرط، ويجوز التفريق، وبه قال الحسن، ومالك. وللشافعي فيه قولان.
قوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ فيه إِضمار تقديره: إذا حلفتم وحنثتم.
وفي قوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أقلّوا منها، ويشهد له قوله تعالى:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، وأنشدوا:
قليل الألايا حافظ ليمينه «١»
والثاني: احفظوا أنفسكم من الحنث فيها. والثالث: راعوها لكي تؤدّوا الكفّارة عند الحنث فيها.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(٤٦٧) أحدها: أن سعد بن أبي وقاص أتى نفراً من المهاجرين والأنصار، فأكل عندهم، وشرب الخمر قبل أن تحرم، فقال: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجلٌ لَحْي جمل فضربه، فجدع أنفه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه.
(٤٦٨) وقال سعيد بن جبير: صنع رجل من الأنصار صنيعاً، فدعا سعد بن أبي وقاص، فلما أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبُّوا، فقام الأنصاري إِلى لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فإذا الدم على وجهه، فذهب سعد يشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزل تحريم الخمر في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى: تُفْلِحُونَ.
(٤٦٩) والثاني: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في «البقرة» فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في النساء لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية، رواه أبو ميسرة عن عمر.
(٤٧٠) والثالث: أن أُناساً من المسلمين شربوها، فقاتل بعضهم بعضاً، وتكلموا بما لا يرضاه الله من القول، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
صحيح. أخرجه مسلم ٤/ ١٨٧٧ ح ١٧٤٨ والواحدي ٤١٢ وأحمد ١/ ١٨١- ١٨٥ والبيهقي ٨/ ٢٨٥ والطبري ١٢٥٢٢ و ١٢٥٢٣ من حديث سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» ٨٥١ بتخريجنا.
هو مرسل، لكن يشهد له ما قبله.
مضى في سورة البقرة، وهو حديث حسن.
فيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، لكن يشهد له ما تقدم.
__________
(١) هو صدر بيت لكثير عزة وتمامه: وإن سبقت منه الألية برّت.
(٤٧١) والرابع: أن قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثَمِلوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحَوْا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان!! والله لو كان بي رؤوفاً ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، وكانوا إِخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة «١» وذكرنا في «النصب» في أوّل هذه السورة «٢» قولين، وهما اللذان ذكرهما المفسرون في الأنصاب. وذكرنا هناك «الأزلام». فأما الرجس، فقال الزجاج: هو اسمٌ لكل ما اسْتُقْذِرَ من عمل، يقال: رَجُس الرَّجل يرجُس، ورَجِسَ يَرْجَسُ: إِذا عمل عملاً قبيحاً، والرَّجس بفتح الراء: شدّة الصوت، فكأن الرِّجسَ، العملُ الذي يقبح ذكره، ويرتفع في القبح، ويقال:
رعدٌ رجّاس: إِذا كان شديد الصوت.
قوله تعالى: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ قال ابن عباس: من تزيين الشيطان. فإن قيل: كيف نُسِبَ إِليه، وليس من فعله؟ فالجواب: أن نسبته إِليه مجاز، وإِنما نسب إِليه، لأنه هو الداعي إِليه، المزيّن له، ألا ترى أن رجلاً لو أغرى رجلاً بضرب رجل، لجاز أن يقال له: هذا من عملك.
قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ قال الزجاج: اتركوه. واشتقاقه في اللغة: كونوا جانباً منه. فإن قيل:
كيف ذكر في هذه الآية أشياء، ثم قال: فاجتنبوه؟ فالجواب: أن الهاء عائدةٌ على الرجس، والرجس واقعٌ على الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقعٌ عليه، ومنبئ عنه، ذكره ابن الأنباريّ.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أما «الخمر» فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة. وأما الميسر، فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيُقمَرُ ويبقى حزيناً سليباً، فينظر إِلى ماله في يد غيره، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.
قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه لفظ استفهام، ومعناه الأمر. تقديره:
انتهوا. قال الفراء: ردّد علي أعرابيٌ: هل أنت ساكتٌ، هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت، اسكت.
والثاني: أنه استفهام، لا بمعنى الأمر. ذكر شيخنا علي بن عبيد الله أن جماعة كانوا يشربون الخمر بعد
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ١٧١ والطبري ١٢٥٢٦ والحاكم ٤/ ١٤١ والبيهقي ٨/ ٢٨٥ والطبراني ١٢٤٥٩، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وسكت عنه الحاكم، وصححه الذهبي على شرط مسلم، وهو كما قال، ويشهد له ما قبله، بل ربما تعددت الأسباب فنزلت الآيات في جميع ذلك.
__________
(١) سورة البقرة: ٢١٩.
(٢) سورة المائدة: ٣.
هذه الآية، ويقولون: لم يحرّمها، إِنما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فقال بعضنا: انتهينا، وقال بعضنا: لم ننته، فلما نزلت قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ حُرّمت، لأن «الإِثم» اسمٌ للخمر.
وهذا القول ليس بشيء، والأوّل أصح.
قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمَرَاكم، واحذروا خلافهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي:
أعرضتم، فاعلموا أنما على رسولنا محمد البلاغ المبين وهذا وعيدٌ لهم، كأنه قال فاعلموا أنّكم قد استحققتم العقاب لتولّيكم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا سبب نزولها:
(٤٧٢) أن ناسا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ماتوا وهم يشربون الخمر، إِذ كانت مباحة، فلما حرِّمت قال ناس: كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟! فنزلت هذه الآية، قاله البراء بن عازب.
و «الجناح» : الإِثم. وفيما طعموا ثلاثة أقوال: أحدها: ما شربوا من الخمر قبل تحريمها، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة: يقال: لم أطعم خُبْزاً وأدماً ولا ماءً ولا نوماً. قال الشاعر:
فَإنْ شئتِ حرَّمتُ النِّساء سِواكُم وإِن شئتِ لم أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْدَا «١»
النقاخ: الماء البارد الذي ينقخ الفؤاد ببرده، والبرد: النوم.
والثاني: ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر. والثالث: ما طعموا من المباحات.
وفي قوله تعالى: إِذا مَا اتَّقَوْا ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوا بعد التحريم، قاله ابن عباس.
والثاني: اتقوا المعاصي والشرك. والثالث: اتقوا مخالفة الله في أمره. وفي قوله تعالى: وَآمَنُوا قولان: أحدهما: آمنوا بالله ورسوله. والثاني: آمنوا بتحريمها.
قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال مقاتل: أقاموا على الفرائض.
صحيح. أخرجه الترمذي ٣٠٥٠ و ٣٠٥١ والطيالسي ٧١٥ وأبو يعلى ١٧١٩ و ١٧٢٠ وابن حبان ٥٣٥٠ والطبري ١٢٥٣٣ من حديث البراء، وإسناده صحيح على شرطهما، لكن فيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلس، وجاء في رواية أبي يعلى: قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: أسمعته من البراء، قال: لا اه.
ومع ذلك يعتضد بحديث أنس: قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت قال: فخرجت، قال: فجرت في سكك المدينة قال:
وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم قال: فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا. أخرجه البخاري ٤٦٢٠ ومسلم ١٩٨٠ والحميدي ١٢١٠ وأحمد ٣/ ١٨٣ والنسائي ٨/ ٢٨٧ وابن حبان ٥٣٥٢ و ٥٣٦٣ و ٥٣٦٤ والبيهقي ٨/ ٢٨٦ والبغوي ٢٠٤٣ من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، واللفظ للبخاري.
__________
(١) البيت للعرجي وهو في ديوانه: ١٠٩ و «اللسان» مادة: نقخ.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا في هذه التقوى المعادة أربعة أقوال: أحدها: أن المراد خوف الله عزّ وجلّ. والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم. والثالث: أنها الدوام على التقوى. والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم.
قوله تعالى: وَآمَنُوا في هذا الإِيمان المُعاد قولان: أحدهما: صدّقوا بجميع ما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى الثالثة أربعة أقوال: أحدها: اجتنبوا العودَ إِلى الخمر بعد تحريمها، قاله ابن عباس: والثاني: اتقوا ظلم العباد. والثالث: توقوا الشبهات. والرابع:
اتقوا جميع المحرّمات. وفي الإِحسان قولان: أحدهما: أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: أحسنوا العمل بعد تحريمها، قاله مقاتل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ.
(٤٧٣) قال المفسّرون: لما كان عام الحديبية، وأقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالتنعيم، كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم، وهم مُحرِمون، فنزلت هذه الآية، ونهوا عنها ابتلاء.
قال الزجاج: اللام في «ليبلونَّكم» لام القسم، ومعناه: لنختبرن طاعتكم من معصيتكم. وفي «من» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه عنى صيد البرِّ دون صيد البحر.
والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإِحرام كأنَّ ذلك بعض الصيد. والثاني: أنها لبيان الجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ.
قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد: الذي تناله اليد: الفراخ والبيض، وصغار الصيد، والذي تناله الرماح: كبار الصيد.
قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ قال مقاتل: ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يَره، فلا يتناول الصيد وهو مُحرم فَمَنِ اعْتَدى فأخذ الصيد عمداً بعد النهي للمُحرِم عن قتل الصيد فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا، وتسلب ثيابه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
ورد ذلك عن مقاتل بن حيان، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٢/ ٥٧٦، وهذا معضل، ومقاتل له مناكير كثيرة، وتفرده بهذا يدل على وهنه بل وبطلانه أيضا، حيث لم أجده عن غيره، والله أعلم.
وانظر «أحكام القرآن» ٢/ ١٧٠ بتخريجنا.
584
قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بيّن الله عزّ وجلّ بهذه الآية من أيِّ وجهٍ تقع البلوى، وفي أيِّ زمانٍ، وما على من قتله بعد النهي؟. وفي قوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ثلاثة أقوال:
أحدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، قاله الأكثرون. والثاني: وأنتم في الحرم، يقال: أحرم:
إِذا دخل في الحرم، وأنجد: إِذا أتى نجداً. والثالث: الجمع بين القولين.
قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فيه قولان: أحدهما: أن يتعمّد قتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أن يتعمد قتله ناسياً لإِحرامه، قاله مجاهد. فأما قتله خطأً، ففيه قولان:
أحدهما: أنه كالعمد، قاله عمر، وعثمان، والجمهور. قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنّة في الخطأ، يعني: ألحقت المخطئ بالمتعمّد في وجوب الجزاء.
(٤٧٤) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الضبع صيد وفيه كبش إِذا قتله المحرم».
وهذا عامّ في العامد والمخطئ. قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد، وإِنما يختصّ ذلك بالعامد. والثاني: أنه لا شيء فيه، قاله ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم والقاسم وداود. وعن أحمد روايتان، أصحهما الوجوب.
قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فجزاء مثل» مضافة وبخفض «مثل». وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «فجزاءٌ» منون «مثلُ» مرفوع. قال أبو علي: من أضاف، فقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ يكون صفة للجزاء، وإِنما قال: مثل ما قتل، وإِنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، لأنهم يقولون: أنا أُكرِمُ مثلك، يريدون: أنا أُكرِمُك، فالمعنى: جزاء ما قتل. ومَن رفع «المثل»، فالمعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول، والتقدير: فعليه جزاء. قال ابن قتيبة: النعم: الإِبل، وقد يكون البقر والغنم، والأغلب عليها الإِبل. وقال الزجاج: النعم في اللغة:
الإِبل والبقر والغنم، فان انفردت الابل، قيل لها: نعم، وإِن انفردت البقر والغنم، لم تسم نعماً.
فصل: قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما كان مأكول اللحم، كالغزال، وحمار الوحش، والنعامة، ونحو ذلك، أو كان متولداً من حيوان يؤكل لحمه، كالسِّمع، فإنه متولد من الضبع، والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها، فلا جزاء على قاتلها سواء ابتدأ قتلها، أو عدت عليه فقتلها دفعاً عن نفسه، لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية.
(٤٧٥) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمحرم قتل الحيّة، والعقرب، والفويسقة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والسَّبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثلٌ من الأنعام مثله، وفيما لا مثل
صحيح. أخرجه أبو داود ٣٨٠١ وابن ماجة ٣٠٨٥ والدارمي ٢/ ٧٤ والحاكم ١/ ٤٥٢، والدارقطني ٢/ ٢٤٦ وابن حبان ٣٩٦٤ من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرطهما وجاء في «تلخيص الحبير» ٢/ ٢٧٨. قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق، وجوّده البيهقي، وأعلّه بعضهم بالوقف.
وانظر «تفسير القرطبي» ٢٨٠٩ بتخريجنا.
يشير المصنف للحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور». أخرجه البخاري ١٨٢٩ ومسلم ١١٩٨ وأحمد ٦/ ٢٥٩ وابن حبان ٥٦٣٢ وأبو يعلى ٤٥٠٣ والطحاوي ٢/ ١٦٦. والدارقطني ٢/ ٢٣١ من طرق عن عائشة، رووه بألفاظ متقاربة. وفي رواية مسلم برقم ١١٩٨ ح ٦٨. «الحية والكلب العقور». وفيه «السبع العادي». أخرجه أبو داود ١٨٤٨ والترمذي ٨٣٨ وابن ماجة ٣٠٨٩ والطحاوي ١/ ٣٨٥ وأحمد ٣/ ٣- ٣٢- ٧٩ والبيهقي ٥/ ٢١٠ من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد في أثناء حديث، وإسناده غير قوي لأجل يزيد بن أبي زياد، فقد ضعفه غير واحد. والألفاظ الواردة في الصحيحين ليس فيها ذكر «السبع العادي». والفويسقة: هي الفأرة.
585
له قيمته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيامة، وحمل المثل على القيامة، وظاهرُ الآية يردُّ ما قال، ولأن الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصورة، فقال ابن عباس:
المثل: النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير.
قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني بالجزاء، وإِنما ذكر اثنين، لأن الصيد يختلف في نفسه، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين. وقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني: من أهل ملتكم.
قوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، والمعنى: يحكمان به مقدّراً أن يهدى «١». ولفظ قوله «بالغ الكعبة» لفظ معرفة، ومعناه: النكرة. والمعنى: بالغاً الكعبة، إِلا أن التنوين حُذف استخفافاً. قال ابن عباس: إِذا أتى مكّة ذبحه، وتصدّق به.
قوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَوْ كَفَّارَةٌ منوناً طَعامُ رفعاً. وقرأ نافع، وابن عامر: «أو كفّارة» رفعا غير منوّن «طعام مساكين» على الاضافة.
قال أبو علي: من رفع ولم يضف، جعله عطفاً على الكفارة عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إِلى الطعام، لأن الكفارة لقتل الصيد، لا للطعام، ومن أضاف الكفارة إِلى الطعام، فلأنه لما خيّر المكفِّر بين الهدي، والطعام، والصيام، جازت الإِضافة لذلك، فكأنه قال: كفارةُ طعامٍ، لا كفارة هدي، ولا صيام. والمعنى: أو عليه بدل الجزاء والكفارة، وهي طعامُ مساكين «٢». وهل يعتبر في إِخراج الطعام قيمة النظير، أو قيمة الصيد؟ فيه قولان: أحدهما: قيمة النظير، وبه قال عطاء، والشافعي، وأحمد. والثاني: قيمة الصيد، وبه قال قتادة، وأبو حنيفة، ومالك. وفي قدر الإطعام لكلّ
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٥/ ٤٥٠- ٤٥١ ما ملخصه: أما فدية الأذى، فتجوز في الموضع الذي حلق فيه، نص عليه أحمد، وقال الشافعي: لا تجوز إلا في الحرم لقوله تعالى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ولنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية، ولم يأمر ببعثه إلى الحرم.
- وأما جزاء الصيد، فهو لمساكين الحرم لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ.
فصل: وما وجب نحره بالحرم، وجب تفرقة لحمه به، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا ذبحها في الحرم، جاز تفرقة لحمها في الحل. وانظر «تفسير القرطبي» ٦/ ٤١٣. [.....]
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله ٥/ ٤٥١: فصل: والطعام كالهدي، يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي به، وقال عطاء والنخعي: ما كان من هدي فبمكة، وما كان من طعام وصيام. فحيث شاء، وهذا يقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة، ولنا قول ابن عباس: الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء.
- فصل: ومساكين الحرم من كان فيه من أهل، أو وارد إليه من الحاجّ وغيرهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ولو دفع إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا خرّج فيه وجهان كالزكاة، وللشافعي فيه قولان، وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وجوزه أصحاب الرأي، ولنا أنه كافر، فلم يجز الدفع إليه، كالحربي.
586
مساكين قولان: أحدهما: مدّان من بُرٍّ، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة. والثاني: مُدُّ بُرٍّ، وبه قال الشافعي، وعن أحمد روايتان، كالقولين.
قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قرأ أبو رزين، والضحاك، وقتادة، والجحدري، وطلحة: «أو عِدل ذلك»، بكسر العين. وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة. قال أصحابنا: يصوم عن كل مُدّ بُرٍّ، أو نصف صاع تمر، أو شعير يوماً. وقال أبو حنيفة: يصوم يوماً عن نصف صاع في الجميع. وقال مالك، والشافعي: يصوم يوماً عن كلِّ مدٍّ من الجميع.

فصل: وهل هذا الجزاء على الترتيب، أم على التخيير؟ فيه قولان:


أحدهما: أنه على التخيير بين إِخراج النظير، وبين الصيام، وبين الإِطعام.
والثاني: أنه على الترتيب، إِن لم يجد الهدي، اشترى طعاماً، فإن كان معسراً صام، قاله ابن سيرين. والقولان مرويّان عن ابن عباس، وبالأول قال جمهور الفقهاء.
قوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي: جزاء ذنبه. قال الزجاج: «الوبال» : ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعامٌ وبيل، وماءُ وبيل: إذا كانا ثقيلين. قال الله عزّ وجلّ: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي: ثقيلاً شديداً.
قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فيه قولان: أحدهما: ما سلف في الجاهلية، من قتلهم الصيد، وهم محرمون، قاله عطاء. والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أوّل مرّة، حكاه ابن جرير، والأول أصح. فعلى القول الأول يكون معنى قوله: وَمَنْ عادَ في الإِسلام، وعلى الثاني: وَمَنْ عادَ ثانية بعد أولى. قال أبو عبيدة: «عاد» في موضع يعود، وأنشد:
إِن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً وإِن ذكِرْتُ بسوءٍ عندهم أذِنُوا «١»
قوله تعالى: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «الانتقام» : المبالغة في العقوبة، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إِيجاب جزاء ثانٍ إِذا عاد، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد. وقد روي عن ابن عباس، والنخعي، وداود: أنه لا جزاء عليه في الثاني، إنّما وعد بالانتقام.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ قال أحمد: يؤكل كلُّ ما في البحر إِلا الضِّفدِع والتِّمساح، لأن التمساح يأكل الناس يعني: أنه يَفْرِسُ. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يباح منه إِلا السمك. وقال ابن أبي ليلى، ومالك: يباح كلُّ ما فيه من ضفدع وغيره.
(١) البيت لقعنب ابن أم صاحب، وهو في «اللسان» مادة- أذن- ملفق من بيتين هما:
فأما طعامه، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما نبذه البحر ميّتاً، قاله أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وأبو أيوب، وقتادة. والثاني: أنه مليحه، قاله سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير والسدّي، وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة كالقولين. واختلفت الرواية عن النخعي. فروي عنه كالقولين، وروي عنه أنه جمع بينهما، فقال: طعامه المليح «١»، وما لفظه. والثالث: أنه ما نبت بمائة من زروع البرّ، وإِنما قيل لهذا: طعام البحر، لأنه ينبت بمائه، حكاه الزجاج.
وفي المتاع قولان: أحدهما: أنه المنفعة، قاله ابن عباس، والحسن وقتادة. والثاني: أنه الحلّ قاله النخعي. قال مقاتل: متاعاً لكم يعني المقيمين، وللسيارة، يعني المسافرين.
قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أما الاصطياد فمحرّم على المحرم «٢»، فإن صيد لأجله، حَرُم عليه أكله خلافاً لأبي حنيفة، فإن أكل فعليه الضمان خلافاً لأحد قولي الشافعي. فإن ذبح المُحرم صيداً، فهو ميتة، خلافاً لأحد قولي الشافعي أيضاً. فإن ذبح الحلال صيداً في الحرم، فهو ميتة أيضاً، خلافا لأكثر الحنفيّة.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ جعل بمعنى: صيّر. وفي تسمية الكعبة كعبة قولان:
أحدهما: لأنها مربعة، قاله عكرمة، ومجاهد.
والثاني: لعُلوها ونتوئها، يقال: كعبت المرأة كعابة، وهي كاعب، إِذا نتأ ثديها.
ومعنى تسمية البيت بأنه حرام: أنه حَرُم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يُعضَدَ شجرُه، وعظمت حرمته. والمراد بتحريم البيت سائِر الحرم، كما قال: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «٣» وأراد: الحرم. والقيام: بمعنى القوام. وقرأ ابن عامر: قيما بغير ألف. قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين، إِما أن يكون جعله مصدراً، كالشبع. أو حذف الألف وهو يريدها، كما يُقصر الممدود. وفي معنى الكلام ستة أقوال: أحدها: قياماً للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: قياماً لأمرِ مَن توجه إِليها، رواه العوفي عن ابن عباس. قال قتادة: كان الرجل لو جرّ كلّ
(١) في «اللسان» الملح والمليح: خلاف العذب من الماء.
(٢) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٦/ ٣٢١- ٣٢٢: اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله لحديث جابر. وقال أبو حنيفة وأصحابه أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أم لا. واحتجوا بحديث أبي قتادة، وهو قول عمر وعثمان في رواية. وروي عن علي وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد، وبه قال إسحاق، وروي عن الثوري، واحتجوا بحديث الصعب بن جثّامة اه ملخصا، وانظر «المغني» ٥/ ١٣٥- ١٣٦.
(٣) سورة المائدة: ٩٥.
جريرة، ثم لجأ إليها، لم يتناول. والثالث: قياماً لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حُجَّت واستُقْبِلت، قاله الحسن. والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله أبو عبيدة. والخامس: قياماً للناس، أي:
مما أُمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج. والسادس: قياماً لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره بعض المفسرين.
فأما الشهر الحرام، فالمراد به الأشهر الحرم، كانوا يأمن بعضهم بعضاً فيها، فكان ذلك قواماً لهم، وكذلك إِذا أهدى الرجل هدياً أو قلد بعيره أمِنَ كيف تصرّف، فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها.
قوله تعالى: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ذكر ابن الأنباري في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين، فقال: ذلك لتعلموا، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ولا تخفى عليه خافية.
والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها، وتأخذ الأموال بغير حقها، ويقتل أحدهم غير القاتل، فاذا دخلوا البلد الحرام، أو دخل الشهر الحرام، كفُّوا عن القتل. والمعنى: جعل اللهِ الكعبة أمناً، والشهر الحرام أمناً، إِذ لو لم يجعل للجاهلية وقتاً يزول فيه الخوف لهلكوا، فذلك يدل على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
والثالث: أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إِلى مكة في الشهور المعلومة، فاذا وصلوا إِليها عاش أهلها معهم، ولولا ذلك ماتوا جوعاً، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم، وليستدلوا بذلك على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
والرابع: أن الله تعالى جعل مكة أمناً، وكذلك الشهر الحرام، فإذا دخل الظبي الوحشي الحرم، أنس بالناس، ولم ينفر من الكلب، ولم يطلبه الكلب، فإذا خرجا عن حدود الحرم، طلبه الكلبُ، وذُعِر هو منه، والطائِر يأنس بالناس في الحرم، ولا يزالُ يطير حتى يقرب من البيت، فإذا قرب منه عدل عنه، ولمْ يطرْ فوقه إِجلالاً له، فإذا لحقه وجعٌ طرح نفسه على سقف البيت استشفاءً به، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان، وفي ذلك الشهر قد دللن على أن الله تعالى يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٩]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩)
قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ في هذه الآية تهديدٌ شديد. وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها، في أمر شُريح بن ضُبيعة وأصحابه، وهم حجاج اليمامة حين همّ المسلمون بالغارة عليهم، وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة. وهل هذه الآية محكمةٌ، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها محكمة، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ، وليس عليه الهُدى.
والثاني: أنها كانت قبل الأمر بالقتال، ثم نسخت بآية السّيف.

[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٠]

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
(٤٧٦) روى جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله إِن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إِن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِن الله لا يقبل إِلاّ الطيِّب» فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال: أحدها: الحلال والحرام، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني:
المؤمِن والكافر، قاله السدي. والثالث: المطيع والعاصي. والرابع: الرديء والجيِّد، ذكرهما الماوردي. ومعنى الإعجاب هاهنا: السّرور بما يتعجّب منه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)
قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ في سبب نزولها ستة أقوال:
(٤٧٧) أحدها: أن الناس سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً، فقال:
«سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم»، فقام رجل من قريش، يقال له: عبد الله بن حُذافة كان إِذا لاحى «١» يُدعى إِلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله مَن أبي؟ قال: أبوك حُذافة، فقام آخر، فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إِماماً، إِنَّا حديثو عهدٍ بجاهلية، والله أعلم مَن أباؤنا، فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن أبي هريرة، وقتادة عن أنس.
(٤٧٨) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، فقال: «إِن الله كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة
باطل. أخرجه الواحدي ٤١٧ والأصبهاني في «الترغيب» ١٢٣٥ عن جابر بن عبد الله، وإسناده ساقط. فيه محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي وضّاع، انظر ضعفاء ابن الجوزي ٣٢٥٤ و «الميزان» ٤/ ٧٢.
حديث صحيح. أما حديث أبي هريرة، فأخرجه الطبري ١٢٨٠٦، وفيه قيس بن الربيع، وهو غير قوي، لكن للحديث شواهد كثيرة منها الآتي. وأما حديث أنس. فأخرجه البخاري ٤٦٢١ و ٤٣٦٢ و ٧٢٩٥ ومسلم ٢٣٥٩ والنسائي في «التفسير» ١٧٤ والترمذي ٣٠٥٦ وابن حبان ٦٤٢٩ والبغوي في «التفسير» ٨٣٩ من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، وطوله بعضهم. انظر «أحكام القرآن» ٨٠١ بتخريجنا.
صحيح. أخرجه مسلم ١٣٣٧ والنسائي ٥/ ١١٠- ١١١ وأحمد ٢/ ٥٠٨ وابن حبان ٣٧٠٤ و ٣٧٠٥ والبيهقي ٤/ ٣٢٦ والدارقطني ٢/ ٢٨١ والطبري ١٢٨٠٩. وأخرجه الطبري ١٢٨٠٨ من طريق عبد الرحيم بن سليمان والدارقطني ٢/ ٢٨٢ عن محمد بن فضيل، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم الهجري- وهو ضعيف- عن أبي عياض عن أبي هريرة.
__________
(١) لاحى: أي خاصم.
ابن مُحصن، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إِني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكتُّ عنكم، فإنما هلكَ من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالِهم، واختلافهم على أنبيائهم» فنزلت هذه الآية، رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة. وقيل: إِن السائل عن ذلك الأقرع بن حابس.
(٤٧٩) والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء، فيقول الرجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجويرية «١» عن ابن عباس.
(٤٨٠) والرابع: أن قوماً سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فنزلت هذه الآية، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والخامس: أن قوماً كانوا يسألون الآيات والمعجزات، فنزلت هذه الآية، روي هذا المعنى عن عكرمة.
والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض، وقولهم: وددنا أن الله تعالى أذِنَ لنا في قتال المشركين، وسؤالهم عن أحبِّ الأعمال إِلى الله، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قال الزجاج: أَشْياءَ في موضع خفض إِلا أنها فتحت، لأنها لا تنصرف. وتُبْدَ لَكُمْ: تظهر لكم. فأعلم الله تعالى أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، لأنه يسوء الجواب عنه. وقال ابن عباس: إِن تبد لكم، أي: إِن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك.
قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي: حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إِيجاب، أو نهي أو حكم، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إِليه حاجة، فإذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم. وفي قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْها قولان: أحدهما: أنها إِشارة إِلى الأشياء. والثاني: إِلى المسألة. فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير. والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، عفا الله عنها. ويكون معنى: عفا الله عنها: أمسك عن ذكرها، فلم يوجب فيها حكماً. وعلى القول الثاني، الآية على نظمها، ومعنى: عفا الله عنها: لم يؤاخذ بها.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٢]
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
قوله تعالى: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ في هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنهم قوم صالح حين سألوا النّاقة، هذا
صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٢٢ والطبري ١٢٧٩٨ والطبراني ١٢٦٩٥ والواحدي ٤١٨ والبغوي ٨٤٢ كلهم عن ابن عباس به. وانظر «أحكام القرآن» ٨٠٢ بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٢٨١٥ عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه خصيف الجزري، وهو صدوق لكنه سيء الحفظ كثير الخطأ، وكرره الطبري ١٢٨١٦ عن عكرمة مرسلا، وهو أصح، والمتقدم عن ابن عباس أصح، وكذا المتقدم عن أنس وأبي هريرة، والظاهر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد سئل مسائل كثيرة، فنزلت هذه الآية في ذلك جميعا، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٨٠٤ بتخريجنا.
__________
(١) وقع في الأصل «الجورية» والمثبت عن كتب الحديث.
على قول السدي. وهذان القولان يخرجان على أنهما سألوا الآيات. والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرةً لأجزأت، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم، قاله ابن زيد. وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج، إِذ لو أراد الله أن يشدِّد عليهم بالزيادة في الفرض لشدّد. والرابع:
أنهم الذين قالوا لنبيٍ لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وهذا عن ابن زيد أيضاً، وهو يخرج على من قال: إِنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنياً لذلك. قال مقاتل: كان بنو إِسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٣]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ أي: ما أوجب ذلك، ولا أمر به. وفي «البحيرة» أربعة أقوال: أحدها: أنها الناقة إِذا نُتِجَتْ خمسة أبطن نظروا إِلى الخامس، فإن كان ذكراً نحروه، فأكله الرجال والنساء، وإِن كان أنثى شقوا أُذنها، وكانت حراماً على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت، إشترك فيها الرجال والنساء، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أنها الناقة تلد خمس إِناث ليس فيهن ذكر، فيَعْمِدون إِلى الخامسة، فيَبْتِكُون أُذنها، قاله عطاء. والثالث: أنها ابنة السائِبة، قاله ابن إِسحاق، والفراء. قال ابن إِسحاق: كانت الناقة إِذا تابعت بين عشر إِناث، ليس فيهن ذكر، سُيِّبت، فإذا نُتِجَتْ بعد ذلك أُنثى، شقّت أُذنها، وسمّيت بحيرة، وخليت مع أُمها. والرابع أنها الناقة كانت إِذا نُتِجَت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً بحروا أُذنها، أي:
شقُّوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، وإِذا لقيها لم يركبها، قاله الزجاج.
فأما «السائبة»، فهي فاعلة بمعنى: مفعولة، وهي المسيّبة، كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ: أي مرضيّة. وفي السائِبة خمسة أقوال: أحدها: أنها التي تُسيّب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزُّون منها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يُسيّب من ماله ما شاء، فيأتي به خزنة الآلهة، فيطعمون ابن السبيل من ألبانِه ولحومه إِلا النساء، فلا يطعمونهن شيئاً منه إِلا أن يموت، فيشترك فيه الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال الشّعبيّ: كانوا يهدون آلهتهم الإِبل والغنم، ويتركونها عند الآلهة، فلا يشرب منها إِلا رجلٌ، فان مات منها شيءٌ أكله الرجال والنساء. والثالث: أنها الناقة إِذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إِناث، سيّبت، فلم تركب، ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إِلا ضيف أو ولدُها حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء، ذكره الفراء. والرابع: أنها البعير يُسيّب بنذر يكون على الرجل إِن سلمه الله تعالى من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك، قاله ابن قتيبة. قال الزجاج: كان الرجل إِذا نذر لشيء من هذا، قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى. والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة، فيُسيّب، ولا يستعمل شكراً لنجحها، حكاه الماوردي عن الشافعي.
وفي «الوصيلة» خمسة أقوال: أحدها: أنها الشاة إِذا نُتِجَت سبعة أبطن، نظروا إِلى السابع، فإن كان أُنثى، لم ينتفع النساء منها بشيء إِلا أن تموت، فيأكلها الرجال والنساء، وإِن كان ذكراً، ذبحوه، فأكلوه جميعاً، وإِن كان ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذهب إِلى نحوه ابن قتيبة، فقال: إِن كان السابع ذكراً، ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإِن كان أُنثى، تركت في النعم، وإِن كان ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم تذبح، لمكانها، وكانت لحومها حراماً على النساء، ولبن الأُنثى حراماً على النساء إِلا أن يموت منها شيء فيأكله الرجال والنساء. والثاني: أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإِبل بالأُنثى، ثم تثنّي بالأنثى، فكانوا يستبقونها لطواغيتهم، ويَدْعونها الوصيلة، أي: وصلت إِحداهما بالأُخرى، ليس بينهما ذكر، رواه الزهري عن ابن المسيّب. والثالث: أنها الشاة تنتج عشر إِناثٍ متتابعاتٍ في خمسة أبطن، فيدعونها الوصيلة، وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإِناث، قاله ابن إِسحاق. والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن، عناقين عناقين «١»، فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً، قيل: وصلت أخاها، فجَرت مجرى السائبة، قاله الفراء. والخامس: أن الشاة كانت إِذا ولدت أُنثى، فهي لهم، وإِذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، قاله الزجاج.
وفي «الحام» ستة أقوال: أحدها: أنه الفحل، ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم، ولا يحملُ عليه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الفحل يولد لولده، فيقولون: قد حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه، ولا يجزُّون وبره، ولا يمنعونه ماءً، ولا مرعى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إِناثٍ من بناته، وبنات بناته، قاله عطاء. والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إِناث متواليات، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الذي لصُلبه عشرة كلها تضرِب في الإِبل، قاله أبو روق. والسادس: أنه الفحل يضرب في إِبل الرجل عشر سنين، فيخلَّى ويقال: قد حمى ظهره، ذكره الماوردي عن الشافعي.
قال الزجاج: والذي ذكرناه في البحيرة، والسائِبة، والوصيلة، والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة. وقد أعلم الله عزّ وجلّ في هذه الآية أنه لم يحرّم من هذه الأشياء شيئاً، وأن الذين كفروا افتروا على الله عزّ وجلّ. قال مقاتل: وافتراؤهم: قولهم: إِن الله حرَّمه، وأمرنا به.
وفي قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ قولان: أحدهما: وأكثرهم، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من الرؤساء الذين حرموا، قاله الشعبي. والثاني: لا يعقلون أن هذا التحريم من الشّيطان، قاله قتادة.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
(١) في «اللسان» : العناق: الأنثى من ولد المعز.
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: إِذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرَّموا على أنفسهم هذه الأنعام: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من تحليل ما حرّمتم على أنفسكم، قالوا: حَسْبُنا أي:
يكفينا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والمنهاج أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الدين وَلا يَهْتَدُونَ له، أيتّبعونهم في خطئهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ في سبب نزولها قولان:
(٤٨١) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إِلى هَجَر، وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إِلى الإسلام، فإن أبوا فليُؤدُّوا الجزية، فلما أتاه الكتاب، عرضه على مَن عنده من العرب واليهود والنصارى والمجوس، فأقرُّوا بالجزية، وكرهوا الإسلام، فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما العرب فلا تقبل منهم إِلا الإسلام أو السّيف، وأما أهل الكتاب والمجوس، فاقبل منهم الجزية» فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية، فقال منافقو مكة: عجباً لمحمدٍ يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هَجر، وأهل الكتاب الجزية، فهلاّ أكرههم على الإسلام، وقد ردَّها على إِخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٤٨٢) وقال مقاتل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقبل الجزية إِلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعاً وكرهاً، قبلها من مجوس هَجَر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن الرجل كان إِذا أسلم، قالوا له: سفهت آباءك وضللتهم، وكان ينبغي لك أن تنصرهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد «١».
قال الزجاج: ومعنى الآية: إِنما ألزمكم الله أمر أنفسكم، ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف، لأن المؤمن إِذا تركه وهو مستطيع له، فهو ضالّ، وليس بمهتدٍ.
وقال عثمان بن عفان: لم يأت تأويلُها بعد. وقال ابن مسعود: تأويلُها في آخر الزّمان: قولوا ما قبل منكم، فإذا غلبتم، فعليكم أنفسكم. وفي قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قولان:
لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس. وكذا عزاه الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٠ للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، الكلبي يضع الحديث، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وقد رويا تفسيرا مصنوعا ونسباه لابن عباس، راجع ترجمتهما في «الميزان» وهذا المتن أمارة الوضع لائحة عليه.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
__________
(١) عزاه المصنف لابن زيد، واسمه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو واه إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! فهذا خبر لا شيء.
أحدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إِذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قاله حُذيفة بن اليمان، وابن المسيّب. والثاني: لا يضرُّكم من ضل من أهل الكتاب إِذا أدُّوا الجزية، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تنبيهٌ على الجزاء.
فصل: فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية، هي محكمة، وقد ذهب قومٌ من المفسرين إِلى أنها منسوخة، ولهم في ناسخها قولان: أحدهما: أنه آية السيف. والثاني: أن آخرها نسخ أولها.
روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه، وموضع المنسوخ منها إلى قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ والناسخ: قوله: إِذا اهتديتم. والهُدى هاهنا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.
(٤٨٣) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان تميم الدّاري، وعدي بن بداء يختلفان إِلى مكة، فصحبهما رجلٌ من قريش من بني سهم، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فأوصى إِليهما بتركته، فلما قدما، دفعاها إِلى أهله، وكتما جاماً كان معه من فضة، وكان مخوَّصاً بالذهب، فقالا: لم نره، فأُتي بهما إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما بالله: ما كتما، وخلى سبيلهما، ثم إِن الجام وُجدَ عند قومٍ من أهل مكة، فقالوا: ابتعناه من تميم الدّاري، وعدي بن بداء، فقام أولياء السهمي، فأخذوا الجام، وحلف رجلان منهم بالله: إِن هذا الجام جام صاحبنا، وشهادتنا أحق مِن شهادتهما، وما اعتدينا، فنزلت هذه الآية، والتى بعدها.
قال مقاتل: واسم الميِّت: بُزيلُ بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، وكان تميم، وعدي نصرانيين، فأسلم تميم، ومات عديٌ نصرانياً.
فأما التفسير: فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم اثنان إِذا حضر أحدكم الموت. قال الزجاج:
المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف «شهادة» ويقوم «اثنان» مقامهما. وقال ابن الأنباري:
معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إِذا حضركم الموت، وأردتم الوصيّة اثنان. وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الشهادة على الوصيّة التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود، وأبي موسى، وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والجمهور. والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا
صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٨٠ وأبو داود ٣٦٠٦ والترمذي ٣٠٦٠ والدارقطني ٤/ ١٦٦ والطبري ١٢٦٧٠ والجصاص في «الأحكام» ٤/ ١٦٠ والطبراني ١٢/ ٧١ والواحدي ٤٢١ والبيهقي ١٠/ ١٦٥ كلهم من حديث ابن عباس به، فهو من مسند ابن عباس، وهو مختصر كما ترى، وانظر «أحكام ابن العربي» ٨٢٦ و «تفسير الشوكاني» ٨٧٢ بتخريجي ولله الحمد والمنة.
595
ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد. والثالث: أنها شهادة الوصيّة، أي: حضورها، كقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ «١»، جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيداً، واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ قالوا: والشاهد لا يلزمه يمينٌ. فأما «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدماته. وقوله تعالى: حِينَ الْوَصِيَّةِ، أي: وقت الوصية. وفي قوله: «منكم» قولان: أحدهما:
من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وهو قول أصحابنا. والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله الحسن وعكرمة، والزّهريّ، والسّدّيّ. قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم.
وفي قوله تعالى: مِنْ غَيْرِكُمْ قولان: أحدهما: من غير ملتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله أرباب القول الثاني. وفي «أوْ» قولان:
أحدهما: أنها ليست للتخيير، وإِنما المعنى: أو آخران من غيركم إِن لم تجدوا منكم، وبه قال ابن عباس، وابن جبير. والثاني: أنها للتّخيير، ذكره الماورديّ.
فصل: والقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو من غير القبيلة لا يشك في إِحْكَامِ هذه الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أهل الكتاب إِذا شهدوا على الوصيّة في السفر، فلهم فيها قولان: أحدهما: أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس. وابن المسيب، وابن جبير، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري، وأحمد في آخرين. والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «٢» وهو قول زيد بن أسلم، وإليه يميل أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول. والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال.
قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ هذا الشرط متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إِن أنتم ضربتم في الأرض، أي: سافرتم. فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فيه محذوفٌ، تقديره: وقد أسندتم الوصية إِليهما، ودفعتم إِليهما مالكم تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ خطابٌ للورثة إِذا ارتابوا. وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله: «أو آخران من غيركم» أي: من الكفار، فأما إِذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما. وفي هذه الصلاة قولان «٣» : أحدهما: صلاة العصر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال شريح، وابن جبير، وإِبراهيم، وقتادة، والشعبي. والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه السدي عن ابن عباس «٤». وقال به. وقال الزجاج: كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وقال ابن قتيبة: لأنه وقت يعظمه أهل الأديان.
قوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي: فيحلفان إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: شككتم يا أولياء الميّت. ومعنى
(١) سورة البقرة: ١٣٣.
(٢) سورة الطلاق: ٦٥.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله ٥/ ١١١: وأولى القولين بالصواب عندنا، قول من قال: «تحبسونهما من بعد صلاة العصر». وهي الصلاة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، لقربه من غروب الشمس.
(٤) السدي لم يسمع من ابن عباس، وهذا قول منكر، ليس بشيء.
596
الآية: إِذا قدم الموصى إِليهما بتركة المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: «إِن ارتبتم» متعلق بتحبسونهما، كأنه قال: إِن إِرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما، فيحلفان بالله: لا نَشْتَرِي بِهِ أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف شهادتنا، فالهاء عائدة على المعنى. ثَمَناً أي: عرضاً من الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي: ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، وخصّ ذا القرابة، لميل القريب إِلى قريبه. والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحداً، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنما أُضيفت إِليه، لأمره بإقامتها، ونهيه عن كتمانها، وقرأ سعيد بن جبير: «ولا نكتم شهادةً» بالتنوين «الله» بقطع الهمزة وقصرها، وكسر الهاء، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة «شهادة» بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء، وقرأ الشعبي وابن السميفع «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة، ومدّها، وكسر الهاء. وقرأ أبو العالية، وعمرو بن دينار مثله، إِلاّ أنهما نصبا الهاء.
واختلف العلماء لأي معنىً وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على ثلاثة أقوال: أحدها:
لكونهما من غير أهل الإسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري. والثاني: لوصيّةٍ وقعت بخط الميِّت وفَقَدَ ورثتُهُ بعضَ ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون:
كان مال ميِّتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن، ومجاهد.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٧]
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)
قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً. قال المفسرون:
(٤٨٤) لما نزلت الآية الأولى، دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عديًّا وتميماً، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إِليهما فحلفا، وخلَّى سبيلهما، ثم ظهر الإِناء الذي كتماه، فرفعهما أولياء الميّت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً.
ومعنى «عثر» : اطّلع أي: إِن عثر أهل الميت، أو مَن يلي أمره، على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا اسْتَحَقَّا إِثْماً لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي:
مقام هذين الخائنين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «استُحِق» بضم التاء، الْأَوْلَيانِ على التثنية. وفي قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان: أحدهما: أنهما الذمّيان. والثاني: الوليّان.
فعلى الأول في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أربعة أقوال: أحدها: استحق عليهم الإِيصاء، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم الإِيصاء، استحقه الأوليان بالميت، وكذلك قال
عزاه المصنف للمفسرين، وأصله محفوظ بما تقدم سوى لفظ «عند المنبر» فهذا لم يرد في شيء من الروايات الصحيحة الموصولة بل ولا المرسلة، فهو واه.
597
الزجاج: المعنى: من الذين استحقت الوصية أو الإِيصاء عليهم. والثاني: أنه الظلم، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأولَيان فحذف الظلم، وأقام الأوليين مقامه، ذكره ابن القاسم أيضاً.
والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة، لظهور خيانتهما. والرابع: أنه الإثم، والمعنى: استحق منهم الإثم، ونابت «على» عن «مِن» كقوله تعالى: عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ «١» أي: منهم. وقال الفراء:
«على» بمعنى «في» كقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «٢» أي: في ملكه، ذكر القولين أبو علي الفارسي.
وعلى هذه الأقوال مفعول «استُحق» محذوف مُقدّر.
وعلى القول الثاني في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان: أحدهما: استحق منهم الأوليان، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: جني عليهم الإثم، ذكره الزجاج.
فأما «الأوليان» فقال الأخفش: الأوليان: اثنان، واحدهما: الأولى، والجمع: الأولون: ثم للمفسرين فيهما قولان: أحدهما: أنهما أولياء الميت، قاله الجمهور، قال الزجاج: «الأوليان» في قول أكثر البصريين يرتفعان على البَدَلِ مما في «يقومان» والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في «يقومان» والتقدير: فيقوم الأوليان. والقول الثاني: أن الأوليان: هما الذّميان، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة، ذكرهما ابن الأنباريّ، فعلى هذا يكون المعنى: يقومان، إِلا من الذين استحق عليهم. قال الشاعر:
إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً مِنَّي وما سمعوا من صالح دفنوا
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم لبئست الخلتان الجهل والجبن
فليتَ لنا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً مُبَرَّدَةً باتَتْ على طهيان «٣»
أي بدلاً من ماء زمزم.
وروى قرّة عن ابن كثير، وحفص عن «٤» عاصم: «استحق» بفتح التاء والحاء «الأوليان» على التثنية، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها، فحذف المفعول. وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «استحق» برفع التاء، وكسر الحاء، «الأولين» بكسر اللام، وفتح النون على الجمع، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإِثم، أي: جني عليهم، لأنهم كانوا أولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ على قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وروى الحلبي عن عبد الوارث «الأوَّلَين» بفتح الواو وتشديدها، وفتح اللام، وسكون الياء، وكسر النون، وهو تثنية:
أوَّل. وقرأ الحسن البصري: «استحق» بفتح التاء والحاء، «الأوّلان» تثنية «أوَّل» على البدل من قوله:
«فآخران».
وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن الله تعالى أراد أن يعرِّفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت فقال: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: عدلان من المسلمين، وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت، فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من غير أهل دينكم، فالذّمّيّان في السّفر
(١) سورة المطففين: ٢. [.....]
(٢) سورة البقرة: ١٠٢.
(٣) في «اللسان» الطهيان: كأنه اسم قلّة جبل، والطهيان: خشبة يبرد عليها الماء. ونسب البيت للأحول الكندي.
(٤) وقع في الأصل «و» بدل «عن» والمثبت هو الصواب.
598
خاصّة إذا لم يوجد غيرهما، تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إِن ارتبتم في شهادتهما، وخشيتم أن يكونا قد خانا، أو بدَّلا فإذا حلفا، مضت شهادتهما، فإن عثر أي: ظهر على أنهما استحقا إِثماً، أي: حنثا في اليمين بكذب أو خيانة، فآخران، أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليان يقال:
هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام «بفلان» فيقال: هذا الأولى، وهذان الأوليان، و «عليهم» بمعنى: «منهم» فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذميين، وكذبهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أصح، لكفرهما وإِيماننا، فيرجع على الذّميين بما اختانا، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك.
وقال غيره: لشهادتنا، أي: ليميننا أحق، وسميت اليمين شهادة، لأنها كالشهادة على ما يحلفُ عليه أنه كذلك. قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطّلب بن أبي وَداعة السهميان، فحلفا بالله، ودُفِعَ الإناء إِليهما وإلى أولياء الميّت.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٨]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أي: ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين، أَقرب إِلى إِتيان أهل الذّمّة بالشهادة على وجهها، أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن تردَّ أيمان أولياء الميت بعد أيْمانهم، فيحلفون على خيانتهم، فيفتضحوا، ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إِذا خافوا ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تحلفوا كاذبين، أو تخونوا أمانة، واسمعوا الموعظة.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجّاج: نصب «يوم» محمول على قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ: واتقوا يوم جمعة للرسل. ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أُرسلوا إِليهم. فأما قول الرسل:
لا عِلْمَ لَنا ففيه ستة أقوال «١» : أحدها: أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنم، فقالوا: لا عِلْمَ لَنا ثم تُرَدُّ إِليهم عقولُهم، فينطلقون بحجتهم، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: أن المعنى لا عِلْمَ لَنا إِلاّ علمٌ أنت أعلم به منا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنّ المراد بقوله تعالى: ماذا أُجِبْتُمْ: ماذا عملوا بعدكم، وأحدثوا، فيقولون:
لا عِلْمَ لَنا، قاله ابن جريج، وفيه بُعْد. والرابع: أن المعنى: لا عِلْمَ لَنا مع علمك، لأنك تعلم الغيب، ذكره الزجاج. والخامس: أن المعنى: لا عِلْمَ لَنا كعلمك، إِذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا، هذا اختيار ابن الأنباري. والسادس: لا عِلْمَ لَنا بجميع أفعالهم إِذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإِنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة، حكاه ابن الأنباريّ. قال المفسّرون: إذا ردّ الأنبياء
(١) صوب الإمام الطبري رحمه الله ٥/ ١٢٦، القول الثاني.
العلم إِلى الله أُبْلِسَتِ الأممُ، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته.
قوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ قال الخطابي: العلاَّم: بمنزلة العليم، وبناء «فعَّال» بناء التكثير، فأما «الغيوب» فجمع غيب، وهو ما غاب عنك.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٠]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى قال ابن عباس: معناه: وإِذ يقول.
قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ في تذكيره النعم فائدتان: إِحداهما: إِسماع الأمم ما خصه به من الكرامة. والثانية: توكيد حجَّته على جاحده. ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهرها، وأتاها برزقها من غير سبب. وقال الحسن: المراد بذكر النعمة: الشكر. فأما النعمة، فلفظها لفظ الواحد، ومعناها الجمع. فإن قيل: لم قال هاهنا: فَتَنْفُخُ فِيها وفي آل عمران (فيه) «١» ؟
فالجواب: أنه جائِز أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع، وأنَّث على معنى الجماعة، وجاز أن يكون «فيه» للطّير، «وفيها» للهيئة ذكره أبو علي الفارسي.
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قرأ ابن كثير، وعاصم هاهنا، وفي «هود» و «الصف» :
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وقرأ في «يونس» : لَسِحْرٌ مُبِينٌ بألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، الأربعة «سحرٌ مبين» بغير ألف، فمن قرأ «سحر» أشار إِلى ما جاء به، ومن قرأ «ساحر»، أشار إلى الشّخص.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١١]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
وفي الوحي إلى الحواريين قولان: أحدهما: أنه بمعنى الإِلهام، قاله الفراء. وقال السدي: قذف في قلوبهم. والثاني: أنه بمعنى الأمر، فتقديره: أمرت الحواريين، و «إلى» صلة، قاله أبو عبيدة.
وفي قوله تعالى: وَاشْهَدْ قولان: أحدهما: أنهم يعنون الله تعالى. والثاني: عيسى عليه السّلام. وقوله تعالى: بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أي: مخلصون للعبادة والتوحيد. وقد سبق شرح ما أهمل هاهنا فيما تقدم.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٢]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)
(١) سورة آل عمران: ٤٩.
قوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قال الزجاج: أي: هل يقدر. وقرأ الكسائي: «هل تستطيع» بالتاء، ونصْب الرب. قال الفراء: معناه: هل تقدر أن تسأل ربك. قال ابن الأنباري: ولا يجوز لأحدٍ أن يتوهم أن الحواريين شكُّوا في قدرة الله، وإِنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي، وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنّه يريد: هل يسهل عليك. وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إِيّاه. وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إِيمانهم ومعرفتهم، فردَّ عليهم عيسى بقوله:
اتقوا الله، أن تنسبوه إِلى عجز، والأول أصح.
فأما «المائدة» فقال اللغويون: المائدة: كل ما كان عليه من الأخونة «١» طعام، فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، والكأس: كل إِناء فيه شراب فإذا لم يكن فيه شراب، فليس بكأس، ذكره الزجاج.
قال الفراء: وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهدية: هُوَ المُهْدَى، مقصور، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان فارغاً رجع إِلى اسمه إِن كان طبقاً أو خواناً أو غير ذلك. وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها فاعلة، وهي في المعنى مفعولة، مثل عِيشَةٍ راضِيَةٍ. قال أبو عبيدة: وهي من العطاء، والممتاد: المفتعل المطلوب منه العطاء، قال الشاعر:
إِلى أمير المؤمنين الممتادِ «٢»
وَمَادَ زيدٌ عَمْراً: إِذا أعطاه. قال الزجاج: والأصل عندي في «مائدة» أنها فاعلةٌ من: ماد يميد: إِذا تحرّك، فكأنها تميد بما عليها. وقال ابن قتيبة: المائدة: الطعام، من: مادني يميدني، كأنها تميد الآكلين، أي: تعطيهم، أو تكون فاعلة بمعنى: مفعول بها، أي: ميد بها الآكلون.
قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوه أن تسألوه البلاء، لأنها إِن نزلت وكذّبتم، عُذبتم، قاله مقاتل. والثاني: أن تسألوه ما لم تسأله الأُمم قبلكم، ذكره أبو عبيد.
والثالث: أن تشكُّوا في قدرته.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٣]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
قوله تعالى: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها هذا اعتذار منهم بيّنوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه.
وفي إِرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا ذلك للحاجة، وشدة الجوع، قاله ابن عباس.
والثاني: ليزدادوا إِيماناً، ذكره ابن الأنباري. والثالث: للتبرك بها، ذكره الماورديّ. وفي قوله تعالى:
وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ثلاثة أقوال: أحدها: تطمئن إِلى أن الله تعالى قد بعثك إِلينا نبياً. والثاني: إِلى أن الله تعالى قد إختارنا أعواناً لك. والثالث: إِلى أن الله تعالى قد أجابك. وقال ابن عباس: قال لهم عيسى:
هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم لا تسألونه شيئاً إِلا أعطاكم؟ فصاموا، ثم سألوا المائدة.
فمعنى: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في أنّا إِذا صمنا ثلاثين يوماً لم نسأل الله شيئاً إِلا أعطانا. وفي هذا العلم قولان: أحدهما: أنه علمٌ يحدث لهم لم يكن، وهو قول مَن قال: كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم. والثاني: أنه زيادة علم إِلى علم، ويقين إِلى يقين، وهو قول من قال: كان سؤالهم بعد
(١) في «اللسان» أخاوين جمع خوان: وهو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل.
(٢) هذا الرجز لرؤبة كما في اللسان (ميد). والممتاد: المطلوب منه العطاء.
معرفتهم. وقرأ الأعمش: «وتعلم» بالتاء، والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله تعالى:
مِنَ الشَّاهِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: من الشاهدين لله بالقدرة، ولك بالنبّوة. والثاني: عند بني إِسرائيل إِذا رجعنا إِليهم، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرِيّة عند هذا السؤال. والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي. والرابع: من الشاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٤]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)
قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وقرأ ابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري:
«لأولانا وأخرانا» برفع الهمزة، وتخفيف الواو، والمعنى: يكون اليوم الذي نزلت فيه عيداً لنا، نعظِّمه نحن ومن بعدنا، قاله قتادة، والسدي. وقال كعب: أُنزلت عليهم يوم الأحد، فاتخذوه عيداً. وقال ابن قتيبة: عيداً، أي: مجمعاً. قال الخليل بن أحمد: العيد: كل يوم يجمع، كأنهم عادوا إِليه. وقال ابن الأنباري: سُمِّيَ عيداً للعودِ من الترح إِلى الفرح.
قوله تعالى: وَآيَةً مِنْكَ أي علامة منك تدل على توحيدك، وصحة نبوة نبيك. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، والضحاك «وأنه منك» بفتح الهمزة، وبنون مشدّدة.
وفي قوله تعالى: وَارْزُقْنا قولان: أحدهما: ارزقنا ذلك من عندك. والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٥]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
قوله تعالى: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قرأ نافع وعاصم وابن عامر «منزِّلها» بالتشديد، وقرأ الباقون خفيفة. وهذا وعدٌ بإجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء: هل نزلت أم لا؟ على قولين «١» :
أحدهما: أنها نزلت، قاله الجمهور، فروى وهب بن منبِّه عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدّوا في طلبها لبس جُبَّة من شعر، ثم توضأ، واغتسل، وصفَّ قدميه في محرابه حتى استويا، وألصق الكعب بالكعب، وحاذى الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وطأطأ رأسه خضوعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت تسيل دموعه على خده، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه، ثم رفع رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، فبينما عيسى كذلك، هبطت عليهم مائدةٌ من السماء، سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من تحتها، وغمامة من فوقها، وعيسى يبكي ويتضرَّع، ويقول: إِلهي اجعلها سلامةً، لا تجعلها عذاباً، حتى استقرَّت بين يديه، والحواريون من حوله، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها، وإِذا عليها منديلٌ مغطَّى، فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاءً عند ربه فليأخذ
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٥/ ١٣٥: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى ذلك.
602
هذا المنديل، وليكشف لنا عن هذه الآية. قالوا: يا روح الله أنت أولانا بذلك، فاكشف عنها، فاستأنف وضوا جديداً، وصلى ركعتين، وسأل ربه أن يأذن له بالكشف عنها، ثم قعد إِليها، وتناول المنديل، فإذا عليها سمكة مشوية، ليس فيها شوك، وحولها من كل البقل ما خلا الكرَّاث، وعند رأسها الخل، وعند ذنبها الملح، وحولها خمسة أرغفةٍ، على رغيف تمر، وعلى رغيف زيتون، وعلى رغيف خمس رمانات. فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمِن طعام الدنيا هذا، أمِّن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم. قال شمعون: لا وإِله بني إِسرائيل ما أردت بهذا سوءاً. قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إِنما هو شيءٌ ابتدعه الله، فقال له: «كن» فكان أسرع من طرفة عين. فقال الحواريون: يا روح الله إِنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية، فقال: سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال: عودي بإذن الله حيةً طريةً، فعادت تضطرب على المائدة، ثم قال: عودي كما كنت، فعادت مشوية، فقال: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها، فقال: معاذ الله بل يأكل منها مَن سألها، فلما رأوا امتناعه، خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزَّمنى واليتامى، فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، ليكون مهنؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، فأكل منها ألف وسبعمائة إِنسان، يصدرون عنها شباعاً وهي كهيئتها حين نزلت، فصحَّ كل مريض، واستغنى كل فقير أكل منها، ثم نزلت بعد ذلك عليهم، فازدحموا عليها، فجعلها عيسى نوباً بينهم، فكانت تنزل عليهم أربعين يوماً، تنزل يوماً وتغبُّ «١» يوماً، وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى، فيأكلون منها حتى إِذا قالوا، ارتفعت إِلى السماء وهم ينظرون إِلى ظلها في الأرض «٢». وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرةً وعشية، حيث كانوا. وقال غيره:
نزلت يوم الأحد مرتين. وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد، فلذلك جعلوه عيداً. وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال: أحدها: أنه خبز ولحم، روي عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٤٨٥) «نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما».
ضعيف جدا، شبه موضوع، والصواب وقفه. أخرجه الترمذي ٣٠٦١ والطبري ١٣٠١٦ من حديث عمار مرفوعا، وقال الترمذي: رواه غير واحد عن سعيد به موقوفا، وهو أصح من المرفوع، ولا نعلم للمرفوع أصلا اه. قلت: إسناده واه، وله علل ثلاث: الأولى: رواه غير واحد موقوفا. الثانية: قتادة مدلس، وقد عنعن. الثالثة: خلاس كثير الإرسال والرواية عمن لم يلقه. وقد أخرجه الطبري ١٣٠١٨ عن قتادة عن خلاس عن عمار به موقوفا، ورجاله رجال الشيخين سوى خلاس روى له البخاري متابعة. وأخرجه الطبري ١٣٠١٥ من وجه آخر عن عمار، وفيه راو لم يسم. وأخرجه الطبري ١٣٠١٩ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال ذكر لنا... فذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة، فلو كان هذا الحديث مرفوعا عند قتادة لما رواه بصيغة التمريض، ومن غير عزو لأحد. فالأشبه في هذا كونه موقوفا، والموقوف ضعيف جدا، شبه موضوع.
__________
(١) في «اللسان» : النّوب: جمع نوبة: وهي الفرصة والدّولة. والغبّ: ورد يوم، وظمأ آخر.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ١٥٤: هذا أثر غريب جدا، قطّعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى- أعلم.
وكل هذه الآثار تدل على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر السياق في القرآن العظيم.
603
والثاني: أنها سمكة مشوية، وخمس أرغفة، وتمر، وزيتون، ورمان. وقد ذكرناه عن سلمان.
والثالث: ثمرٌ من ثمار الجنة، قاله عمار بن ياسر، وقال قتادة: ثمرٌ من ثمار الجنة، وطعامٌ من طعامها.
والرابع: خبزٌ، وسمكٌ، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبو عبد الرحمن السلمي.
والخامس: قطعةٌ من ثريد، رواه الضحاك عن ابن عباس. والسادس: أنه أنزل عليها كل شيء إِلا اللحم، قاله سعيد بن جبير. والسابع: سمكةٌ فيها طعم كلِّ شيءٍ من الطعام، قاله عطية العوفي.
والثامن: خبز أرز وبقل، قاله ابن السائِب.
والقول الثاني: أنها لم تنزل، روى قتادة عن الحسن أن المائِدة لم تنزل، لأنه لما قال الله تعالى:
فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قالوا: لا حاجة لنا فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: أُنزلت مائدة عليها ألوانٌ من الطعام، فعرضها عليهم، وأخبرهم أنه العذاب إِن كفروا، فأبوها فلم تنزل. وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لخلقه، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، ولم ينزل عليهم شيء، والأول أصح.
قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي: بعد إِنزال المائدة. وفي العذاب المذكور قولان:
أحدهما: أنه المسخ. والثاني: جنسٌ من العذاب لم يعذَّب به أحد سواهم. قال الزجاج: ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون في الآخرة.
وفي «العالمين» قولان: أحدهما: أنه عام. والثاني: عالمو زمانهم.
وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا. وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال:
(٤٨٦) أحدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا، ولا يدَّخِروا، فخانوا وادخروا، فمسخوا قردةً وخنازير، رواه عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أن عيسى خصَّ بالمائدة الفقراء، فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول، وشكَّكوا الناس فيها، وارتابوا، فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم، مسخهم الله خنازير، قاله سلمان الفارسي.
والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة، ورجعوا إِلى قومهم، فأخبروهم، فضحك بهم من لم يشهد، وقالوا: إِنما سحر أعينكم، وأخذ بقلوبكم، فمن أراد الله به خيراً، ثبت على بصيرته، ومن أراد به فتنة، رجع إِلى كفره. فلعنهم عيسى، فأصبحوا خنازير، فمكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا، قاله ابن عباس.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٦]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ في زمان هذا القول قولان:
أحدهما: أنه يقوله له يوم القيامة، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج.
هو الحديث المتقدم، المرفوع ضعيف جدا.
والثاني: أنه قاله له حين رفعه إِليه، قاله السدي، والأول أصح.
وفي «إِذْ» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائِدة، والمعنى: وقال الله، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها على أصلها، والمعنى: وإذ يقول الله له، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها بمعنى: «إذا»، كقوله تعالى:
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا «١» والمعنى: إِذا. قال أبو النجم:
ثم جزاكَ الله عنِّي إِِذ جزى جنَّاتِ عَدْنٍ في السّماوات العلا
ولفظ الآية لفظ الاستفهام، ومعناها التوبيخ لِمن ادّعى ذلك على عيسى.
قال أبو عبيدة: وإِنما قال: «إِلهين»، لأنهم إِذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى ذكَّروهما. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهاً، فكيف قال الله تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب: أنهم لما قالوا: لم تلد بشراً، وإِنما ولدت إِلهاً، لزمهم أن يقولوا: إِنها من حيث البعضية بمثابة مَن ولدته، فصاروا بمثابة من قاله.
قوله تعالى: قالَ سُبْحانَكَ أي: براءة لك من السوء ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي:
لست أستحق العبادة فأدعو الناس إِليها. وروى عطاء بن السائب عن ميسرة قال: لما قال الله تعالى لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ رُعِد كل مَفْصِل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله، وما قال: إِني لم أقل، ولكنه قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. فإن قيل: ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب: أنه تثبيت للحجة على قومه، وإِكذاب لهم في ادّعائهم عليه أنه أمرهم بذلك، ولإِنه إِقرارٌ من عيسى بالعجز في قوله: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ وبالعبودية في قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي قال الزجاج: تعلم ما أُضمره، ولا أعلم ما عندك علمُه، والتأويل: تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٧]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ قال مقاتل: وحِّدوه.
قوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي: على ما يفعلون ما كنت مقيماً فيهم، وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي فيه قولان: أحدهما: بالرفع إِلى السماء. والثاني: بالموت عند انتهاء الأجل. و «الرقيب» مشروحٌ في سورة (النساء)، و «الشّهيد» في (آل عمران).
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٨]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ قال الحسن، وأبو العالية: إِن تعذبهم، فبإقامتهم على كفرهم، وإِن تغفر لهم، فبتوبة كانت منهم. وقال الزجاج: علم عيسى أن منهم من آمن، ومنهم من أقام
(١) سورة سبأ: ٥١.
على الكفر، فقال في جملتهم: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ أي: إِن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك، وأنت العادل فيهم، لأنك قد أوضحت لهم الحق، فكفروا، وإِن تغفر لهم، أي: وإِن تغفر لمن أقلع منهم، وآمَن، فذلك تفضّل منك، لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم، وأنت في مغفرتك لهم عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا ينبغي لأحدٍ أن يعترض عليك، فإن عذبتهم، فلا اعتراض عليك، وإِن غفرت لهم- ولست فاعلاً إِذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك. وقال غيره: العفو لا ينقص عزّك، ولا يخرج عن حكمك.
(٤٨٧) وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيام ليلةٍ بآيةٍ يردِّدها: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٩ الى ١٢٠]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
قوله تعالى: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قرأ الجمهور برفع «اليوم»، وقرأ نافع بنصبه على الظرف. قال الزجاج: المعنى: قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن يكون على معنى: قال الله هذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم. والمراد باليوم: يوم القيامة. وإِنما خصّ نفع الصدق به لأنه يوم الجزاء. وفي هذا الصدق قولان: أحدهما: أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة. والثاني: صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك. وفي هذه الآية تصديقٌ لعيسى فيما قال.
قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي: بطاعتهم، وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وفي قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تنبيهٌ على عبودية عيسى، وتحريضٌ على تعليق الآمال بالله وحده.
ضعيف. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١١٦١ وأحمد ٥/ ١٤٩ من حديث أبي ذر، وفي إسناده جسرة بنت دجاجة، وثقها ابن حبان والعجلي، وهما ممن يوثق المجاهيل، في حين قال البخاري وهو إمام هذا الفن:
عند جسرة عجائب، راجع «تهذيب التهذيب» ١٢/ ٤٣٥.
606
الجزء الثاني
فهرس الموضوعات
الموضوع: الصفحة ٦- تفسير سورة الأنعام: ٧ ٧- تفسير سورة الأعراف: ١٠٠ ٨- تفسير سورة الأنفال: ١٨٦ ٩- تفسير سورة التوبة: ٢٣٠ ١٠- تفسير سورة يونس: ٣١٤ ١١- تفسير سورة هود: ٣٥٥ ١٢- تفسير سورة يوسف: ٤١١ ١٣- تفسير سورة الرعد: ٤٧٩ ١٤- تفسير سورة إبراهيم: ٥٠٣ ١٥- تفسير سورة الحجر: ٥٢٢ ١٦- تفسير سورة النحل: ٥٤٨.
5
سورة الانعام
(فصل في نزولها:) روى مجاهد عن ابن عباس: أنّ سورة الأنعام مما نزل بمكّة. وهذا قول الحسن، وقتادة، وجابر بن زيد.
(٤٨٨) وروى يوسف بن مهران عن ابن عبّاس، قال: نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكّة.
وحولها سبعون ألف ملك.
(٤٨٩) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكيّة، نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم، غير ست آيات منها مدنيّات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الثّلاث آيات «١»، وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «٢» الآية. وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ «٣» إلى آخر الآيتين. وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين: قوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «٤»، وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ «٥».
وروي عن ابن عباس، وقتادة قالا: هي مكّيّة، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ «٦». وذكر أبو الفتح بن شيطاء: أنّها
روي موقوفا ومرفوعا، والمرفوع لا يصح، والصحيح موقوف.
- أما الموقوف، فأخرجه الطبراني ١٢/ ١٢٩٣٠ من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس موقوفا، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وورد من وجوه أخر موقوفا، وهو الراجح.
- وورد مرفوعا بنحوه عن جماعة من الصحابة فقد أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٤٤٣ وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٥٩ من حديث أنس. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩٢: رواه الطبراني عن شيخه عمر بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد السالمي ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات ا. هـ.
قلت: ابن عرس توبع عند ابن مردويه، فانحصر الإسناد في أحمد السالمي، وقد تفرد به.
- وفي الباب من حديث ابن عمر عند الطبراني في «الصغير» ٢٢٠ وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩١: وفيه يوسف بن عطية الصفّار، وهو ضعيف اهـ. بل متروك. ومن حديث جابر عند الحاكم ٢/ ٣١٥، وصححه، ورده الذهبي بقوله: لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا اه.
موقوف، صدره له شواهد منها ما تقدم، وعجزه واه بمرة. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وروايته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، ولفظ «غير ست آيات... » واه ليس بشيء.
__________
(١) سورة الأنعام: ١٥١- ١٥٣.
(٢) سورة الأنعام: ٩١.
(٣) سورة الأنعام: ٩٢. [.....]
(٤) سورة الأنعام: ١١٤.
(٥) سورة الأنعام: ٢١.
(٦) سورة الأنعام: ١٤١.
7
Icon