ﰡ
أي وما أكل منه السّبع وهو الباقي، إذ ما أكله السّبع عُدم وتعذر أكله، فلا يحسن تحريمه.
قوله تعالى :﴿ فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم... ﴾ الآية [ المائدة : ٣ ].
حذفت الياء فيه، وفي قوله تعالى :﴿ واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] لفظا وخطّا.
أما لفظا : ففي هذه لالتقاء الساكنين، وفي تلك فتبعا لهذه.
وأما خطّا : فتبعا لحذفها لفظا، وأُثبتت فيما عدا ذلك عملا بالأصل.
قوله تعالى :﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا... ﴾ الآية [ المائدة : ٣ ].
جملة مستأنفة، لا معطوفة على أكملت في قوله «اليوم أكملت لكم دينكم » وإلا كان مفهوم ذلك، أنه لم يرض لهم الإسلام دينا، قبل ذلك اليوم، وليس كذلك.
إن قلتَ : ما فائدة ذكره بعد قوله «وما علمتم من الجوارح » والمكلِّب هو معلِّم الكلاب للصيد وفيه تكرار ؟
قلتُ : قد فُسِّر " المكلّب " بأنه المغري للجارح فلا تكرار، وفي الآية إضمار بقرينة قوله ﴿ فكلوا ممّا ذُكر اسم الله عليه ﴾ [ الأنعام : ١١٨ ] أي ومصيد ما علّمتم من الجوارح، وإلا فالجوارح لا تحلّ وإن كانت معلًَّمة.
قياس قوله :﴿ ومن يؤمن بالله ﴾ [ التغابن : ٩ ] أن يقال : ومن يكفر بالله، فالمراد بالكفر هنا الارتداد، والباء بمعنى " عن " كما في قوله ﴿ سأل سائل بعذاب واقع ﴾ [ المعارج : ١ ] أي ومن ارتدّ عن الإيمان.
وقيل : المراد بالإيمان المؤمَن به، تسمية للمفعول بالمصدر، كما في قوله تعالى :﴿ أُحلّ لكم صيد البحر ﴾ [ المائدة : ٩٦ ] أي مصيدُه.
ثم قال تعالى :﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾( ١ ) [ المائدة : ٨ ].
غاير بينهما، لأن الأول وقع في النية، المأخوذة من آية التيمّم والوضوء، والنيّة محلّها ذات الصّدور، والثاني في العمل.
رفع ( أَجْرَ ) هنا، ونصبه في الفتح، في قوله :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] موافقة للفواصل.
ومفعول " وَعَدَ " هنا محذوف تقديره خيراً.
فإن قلتَ : كيف قال : وعملوا الصالحات، ولم يقل : وعملوا السّيئات، مع أن المغفرة إنما هي لفاعل السّيئات ؟ !
قلتُ : كلّ أحد ممن ليس بمعصوم، لا يخلو عن سيّئة، وإن كان ممن يعمل الصالحات، فالمعنى أنّ من آمن وعمل حسنات، غُفرت له سيئاته، كما قال تعالى :﴿ إنّ الحسنات يذهبن السّيئات ﴾ [ هود : ١١٤ ].
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنّ من كفر قبل ذلك، فهو كذلك ؟
قلتُ : نعم لكنّ الكفر بعدما ذُكر من النِّعم أقبحُ ممّا قبله.
وقال بعده ﴿ يحرّفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ [ المائدة : ١٤ ] لأن الأول في أوائل اليهود، والثاني فيمن كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أي حرّفوها بعد أن وضعها الله مواضعها، وعرفوها وعملوا بها زمانا.
إن قلتَ : لم قال ذلك ولم يقل : من النّصارى.
قلتُ : إنما قاله توبيخا لهم، لأنهم كانوا كاذبين في دعواهم أنهم نصارى، ادّعاء منهم لنصرة الله، بعدما اختلفوا إلى " نسطورية " و " يعقوبية " و " ملكانيّة " أنصار الشياطين( ١ ).
إن قلتَ : لما عفا، أي ترك كثيرا مما أخفوه من كتابهم، مع أنه مأمور ببيانه ؟
قلتُ : إنما لم يبيّنه لأنه لم يؤمر ببيانه، أو لأن المأمور ببيانه، ما يكون فيه إظهار حكم شرعيّ، كصفته، وبعثته، والبشارة به، وآية الرجم( ١ )، دون ما لم يكن فيه ذلك مما فيه افتضاحهم، وهتك أستاره، فيعفو عنه.
قوله تعالى :﴿ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه ﴾ [ المائدة : ١٥، ١٦ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن العبد ما لم يهده الله لا يتّبع رضوانه فيلزم الدّور ؟
قلتُ : فيه إضمار تقديره : يهدي به الله من علم أنه يريد أن يتّبع رضوانه، كما قال :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ﴾( ٢ ) [ العنكبوت : ٦٩ ] الذين أرادوا سبيل المجاهدة لنهدينهم سبيل مجاهدتنا.
٢ - سورة العنكبوت آية (٦٩) وتتمة الآية: ﴿وإن الله لمع المحسنين﴾..
إن قلتَ : لما عفا، أي ترك كثيرا مما أخفوه من كتابهم، مع أنه مأمور ببيانه ؟
قلتُ : إنما لم يبيّنه لأنه لم يؤمر ببيانه، أو لأن المأمور ببيانه، ما يكون فيه إظهار حكم شرعيّ، كصفته، وبعثته، والبشارة به، وآية الرجم( ١ )، دون ما لم يكن فيه ذلك مما فيه افتضاحهم، وهتك أستاره، فيعفو عنه.
قوله تعالى :﴿ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه ﴾ [ المائدة : ١٥، ١٦ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن العبد ما لم يهده الله لا يتّبع رضوانه فيلزم الدّور ؟
قلتُ : فيه إضمار تقديره : يهدي به الله من علم أنه يريد أن يتّبع رضوانه، كما قال :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ﴾( ٢ ) [ العنكبوت : ٦٩ ] الذين أرادوا سبيل المجاهدة لنهدينهم سبيل مجاهدتنا.
٢ - سورة العنكبوت آية (٦٩) وتتمة الآية: ﴿وإن الله لمع المحسنين﴾..
فإن قلتَ : لم كرّرها وختم الأولى بقوله :﴿ والله على كل شيء قدير ﴾( ١ ) [ البقرة : ٢٨٤ ] والثانية بقوله ﴿ وإليه المصير ﴾ ؟
قلتُ : لأن الأولى نزلت في النصارى، حين قالوا :﴿ إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾ [ المائدة : ١٧ ] فردّ الله عليهم بقوله :﴿ ولله ملك السماوات والأرض ﴾ [ آل عمران : ١٨٩ ] تنبيها على أنه مالك لعيسى وغيره، وأنه قادر على إهلاكه وإهلاك غيره.
والثانية : في اليهود والنّصارى، حين قالوا :﴿ نحن أبناء الله وأحبّاؤه ﴾ [ المائدة : ١٨ ] فردّ الله تعالى بقوله :﴿ ولله ملك السماوات والأرض ﴾ تنبيها على أن الجميع مملوكون له، ومصيرهم إليه، يعذّب من يشاء ويغفر لمن يشاء، ولو كان " عيسى " ابنه لم يملكه ولم يعذّبه، إذ الأب لا يملك ابنه ولا يعذّبه.
قوله تعالى :﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه... ﴾ الآية [ المائدة : ١٨ ].
فإن قلتَ : كيف أخبر الله عنهم أنهم قالوا : نحن أبناء الله، مع أنه لم يُعرف أنهم قالوه ؟ !
قلتُ : المراد ب " أبناء الله " خاصّته( ٢ )، كما يقال : أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة.
وقيل : فيه إضمار تقديره : نحن أبناء أنبياء الله.
قوله تعالى :﴿ قل فلم يعذّبكم بذنوبكم... ﴾ الآية [ المائدة : ١٨ ].
إن قلتَ : كيف يصحّ الاحتجاج عليهم به، مع أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم، مدّعين أن ما يذنبون بالنّهار يغفر بالليل، وبالعكس ؟
قلتُ : هم مقرّون بأنهم يعذّبون أربعين يوما، مدة عبادتهم العجل، في غيبة " موسى " عليه الصلاة والسلام لميقات ربه، كما قال تعالى :﴿ وقالوا لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة ﴾ [ البقرة : ٨٠ ].
٢ - جمع تعالى بين قول اليهود والنصارى، ومعنى الآية: قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى مثل ذلك، ومرادهم أنهم بمنزلة الأبناء إلى الله، وحبّ الله لهم كحبّ الوالد لولده، وهذا كذب وافتراء على الله، ولهذا كذّبهم تعالى بقوله: ﴿قل فلم يعذّبكم بذنوبكم﴾..
قال ذلك هنا، وقال في إبراهيم :﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا ﴾ [ إبراهيم : ٦ ] لموافقة ما قبله وما بعده من النّداء، أو لأن التصريح باسم المخاطب مع حرف الخطاب، يدلّ على تعظيم المخاطَب به، وقد ذُكر هنا نِعَمٌ جسام، وهو قوله :«جعل فيكم أنبياء » فناسب ذكر " يا قوم " بخلاف ذلك في إبراهيم.
هو من مقول الداخلين.
فإن قلتَ : من أين علما أنهم غالبون حتى قالا ذلك ؟ !
قلتُ : من جهة وثوقهم بإخبار موسى عليه السلام بقوله :﴿ ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم ﴾ [ المائدة : ٢١ ].
وقيل : علما ذلك بغلبة الظن، وما عهداه من صنع الله تعالى بموسى عليه السلام من قهر أعدائه.
إن قلتَ : هذا ينافي قوله قبلُ ﴿ ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم ﴾ ؟
قلتُ : لا منافاة لأن المعنى : كتبها لكم، بشرط أن تُجاهدوا أهلها، فلمّا أبَوْا حُرِّمت عليهم.
أو كلّ منهما " عامّ " أُريد به " خاصّ " فالكتابة للبعض، وهم المطيعون، والتحريم على البعض، وهم العاصون.
هو للجنس، والمراد إذ قرّبا قربانين.
قوله تعالى :﴿ قال إنما يتقبّل الله من المتّقين ﴾ [ المائدة : ٢٧ ].
إن قلتَ : كيف يصحّ جوابا لقوله : " لأقتلنّك " ؟
قلتُ : لمّا كان الحسد لأخيه على تقبّل قربانه، هو الحامل له على توعّده بالقتل، قال : إنما أُتيتَ من قبلِ نفسك، لانسلاخها من لباس التّقوى، فلم يُتقبّل قُربانك( ١ ).
أي بإثم قتلي، وإثمك الذي ارتكبته من قبَلي، وهو توعّدك بقتلي.
فإن قلتَ : كيف قال " هابيل " لقابيل ذلك، مع أنّ إرادة الشخص السّوءَ، والوقوعَ في المعصية ليغره حرام ؟ !
قلتُ : في ذلك إضمار( ١ ) " لا " تقديره : إني لا أريد أن تبوء بإثمي، كما في قوله تعالى :﴿ تاالله تفتؤ تذكر يوسف ﴾ [ يوسف : ٨٥ ] أي لا تفتأ، أو إضمار مضاف تقديره : إني أريد انتفاء أن تبوء كما قوله تعالى :﴿ وأُشربوا في قلوبهم العجل ﴾ [ البقرة : ٩٣ ] أي حبّه.
إن قلتَ : هذا يقتضي أن " قابيل " كان تائبا، والنّدم توبة لخبر " النّدم توبة " فلا يستحقّ النار ؟ !
قلتُ : لم يكن ندمه على قتل أخيه، بل على حمله على عنقه، أو على عدم اهتدائه للدّفن الذي تعلَّمه من الغراب( ١ )، أو على فقده أخاه، أو على قتل أخيه، لكن مجرد النّدم ليس بتوبة، إذ التوبة إنما تتحقق بالإقلاع، وعزمه على( ٢ ) ألا يعود، وتدارك ما يمكن تداركه.
٢ - في المطبوع: وعدم ألا يعود وهو خطأ..
إن قلتَ : كيف يكون قتل الواحد كقتل الكلّ، مع أن الجناية إذا تعدّدت كانت أقبح ؟ !
قلتُ : تشبيه أحد الشيئين بالآخر، لا يقتضي تساويهما من كلّ وجه، ولأن المقصود من ذلك المبالغة، في تعظيم أمر ( القتل العمد ) وأنه غاية العدوان.
أو لأن المعنى : من قتل نفسا بغير حقّ، كان جميع الناس خصومه في الآخرة مطلقا، وفي الدنيا إن لم يكن له وليّ.
أو المعنى : من قتل نبيّا، أو إماما عادلا، كان كمن قتل الناس جميعا، من حيث إبطالُ المنفعة عن الكلّ( ١ ).
كرّره ثلاث مرات، وختم الأولى بقوله : " الكافرون " والثانية بقوله : " الظالمون " والثالثة بقوله : " الفاسقون " ! !
قيل : لأن الأولى في حكّام المسلمين، والثانية في حكّام اليهود، والثالثة في حكّام النصارى.
وقيل : كلّها بمعنى واحد وهو " الكفر " عبّر عنه بألفاظ مختلفة، لزيادة الفائدة، واجتناب التكرار.
وقيل :«من لم يحكم بما أنزل الله » إنكاراً له فهو كافر، ومن لم يحكم بالحقّ، مع اعتقاده للحقّ، وحكم بضدّه فهو ظالم، ومن لم يحكم بالحقّ جهلا وحكم بضدّه فهو فاسق.
وقيل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله، ظالم في حكمه، فاسق في فعله( ١ ).
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الإنجيل منسوخ بالقرآن ؟ !
قلتُ : معناه «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، بما لم ينسخ بالقرآن ».
أو المعنى : لما أنزلنا الإنجيل قلنا : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه( ١ ).
قلتُ : أراد به عقوبتهم في الدنيا، على تولّيهم عن الإيمان، بالسّبي، والجزية وغيرهما، وهذه العقوبة منقطعة، بخلاف عقوبة الآخرة، فإنها على جميع الذنوب، من تولّيهم عن الإيمان، وعن جميع فروعه، ودائمة لا تنقطع.
إن قلتَ : لم خصّ " الموقنين " بالذّكر، مع أن أحسنيّة حكم الله لا يختصّ بهم ؟
قلتُ : لأنهم أكثر انتفاعا بذلك من غيرهم، كنظيره في قوله تعالى :﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾ [ النازعات : ٤٥ ].
إن قلتَ : هذا يقتضي أن من وادّ أهل الكتاب يكون كافراً، وليس كذلك ؟ !
قلتُ : إنم قال ذلك مبالغة في اجتناب المخالِف في الدِّين.
أو لأن الآية نزلت في " المنافقين " وهم كفّار، وقوله تعالى :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي ما داموا على ظلمهم، والمعنى : لا يهدي من سبق في علمه أنه يموت ظالما.
" على " بمعنى اللام( ١ )، أو ضمَّن الذلّة معنى " العطف " فعدّاها تعديته، كأنه قال : عاطفين على المؤمنين.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن المثوبة مختصّة بالإحسان ؟
قلتُ : لا نُسلِّم اختصاصها بذلك لغة، بل هي الجزاء مطلقان بدليل قوله تعالى :﴿ فأثابكم غمّا بغمّ ﴾ [ آل عمران : ١٥٣ ] وقوله :﴿ هل ثُوِّب الكفار ما كانوا يفعلون ﴾ ؟ [ المطففين : ٣٦ ] أي هل جوزوا ؟ غايتُه أن الثواب قد يكون خيرا، وقد يكون شرا، يُقصد به " التهكّم والاستهزاء " كلفظ البشارة، لا اختصاص له لغة بالخير، بل هو شامل للشرّ، قال تعالى :﴿ فبشّرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ].
فإن قلتَ : ليس الأمر كذلك، لأنا نجد كثيرا من المؤمنين، ضيِّقي المعيشة في الدنيا ؟
قلتُ : القضيّة خاصة بأهل الكتاب، لأنهم شكوا ضيق الرزق، حتى قالوا ﴿ يد الله مغلولة ﴾ [ المائدة : ٦٤ ] فأخبرهم الله، أن ذلك التضييق عقوبة لهم، بعصيانهم وكفرهم، والله تعالى يجعل ضيق الرزق وسعته، نعمة في بعض عباده، ونقمة على الآخرين، فلا يلزم من توسيع الرزق : الإكرام، ولا من تضييقه : الإهانة.
إن قلتَ : ما فائدته مع أنه معلوم أنه إذا لم يبلّغ ما أُنزل إليه، لم يكن قد بلّغ الرسالة ؟
قلتُ : فائدته الحثّ على تبليغ معايب اليهود، حتى لو فُرض كتمان حرف واحد، كان في الإثم ككتمان الجميع.
أو الأمر بتعجيل التبليغ، لأنه كان عازما على تبليغ جميع ما أُنزل إليه، إلا أنه أخّر البعض خوفا على نفسه، مع بقاء العزم، ويؤيده قوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] أي من القتل، لا من جميع أنواع الأذى، كشجّ الوجه، وكسر الرباعية( ١ )( ٢ ).
أو لعلّ الآية نزلت بعد أُحد، لأن المائدة من أواخر ما نزل من القرآن ! !
٢ - أشار المؤلف إلى ما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في "غزوة أحد" فقد شُجّ وجهه الشريف، وكسرت رباعيته –أي مقدمة أسنانه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يفلح قوم شجّوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ؟ ! فأنزل الله: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ أخرجه مسلم..
لأن " اليعقوبية " من النصارى، زعموا أن الله تجلّى في زمن، على شخص " عيسى "، فظهرت منه المعجزات، فصار إلها.
و " الملكانية " ( ١ ) منهم زعموا أن الله اسم يجمع " أمّا، وابنا، وروح القدس " فصار كل منهم إلها واحدا، أخذا من قوله تعالى :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] فكرّر الآية لذلك، وأخبر تعالى عنهم أنهم كلَّهم كفار.
قوله تعالى :﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ [ المائدة : ٧٢ ].
المراد بالظالمين هنا المشركون، بقرينة ما قبله، إذ الظالمون من المسلمين لهم ناصر، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم لشفاعته لهم يوم القيامة.
فائدة ذكره بعد قوله ﴿ قد ضلّوا من قبل ﴾ [ المائدة : ٧٧ ] أن المراد بالضّلال الأول ضلالُهم عن الإنجيل، وبالثاني : ضلالُهم عن القرآن.
إن قلتَ : النّهي عن المنكر بعد فعله لا معنى له ؟ !
قلتُ : فيه حذف مضاف، أي كانوا لا يتناهو عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثله، أو عن منكر أرادوا فعله( ١ )، أي لا يمتنعون، أو المعنى كانوا لا ينتهون عن منكر فعلوه، بل يصرّون عليه.
إن قلتَ : كلّهم فاسقون، لا كثيرٌ منهم فقط ؟ !
قلتُ : المراد بالفسق، فسقُهم بموالاة المشركين، ودسّ الأخبار إليهم، لا مطلق الفسق، وذلك مخصوص بكثير منهم، وهم المذكورون في قوله تعالى قبل :﴿ ترى كثيرا منهم يتولّون الذين كفروا ﴾ [ المائدة : ٨٠ ].
إن قلتَ : هذه المذكورات من عمل العبد، لا من عمل الشيطان ؟ !
قلتُ : في الكلام إضمار، أي تعاطي هذه الأشياء من عمل الشيطان.
فإن قلتَ : مع هذا الإضمار كيف قال :﴿ من عمل الشيطان ﴾، وتعاطي هذه الأشياء من عمل الإنسان، لا من عمل الشيطان ؟ !
قلتُ : لما كان تعاطي هذه الأشياء، بوسوسة الشيطان وتزيينه ذلك للفُسّاق، صار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر فضربه، فإنه يجوز أن يقال للمُغْري هذا من عملك.
فإن قلتَ : لم خصّ من الأشياء المذكورة " الخمر " و " الميسر " بالذّكر، في قوله :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ﴾ ؟ [ المائدة : ٩١ ].
قلتُ : خصّهما بالذكر تعظيما لأمرهما، ولأن ما ذكر من العداوة والبغضاء بين الناس، يقع كثيرا بسببهما، دون الباقي.
وقيل : إنما خصّهما بالذكر بيانا للواقع، لأن الخطاب للمؤمنين، بدليل قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ [ المائدة : ٩٥ ] وهم إنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر فقط.
قيل : العمد ليس بشرط لوجوب الجزاء، كما بيّنته السّنة، وذكره في الآية بيان للواقع، لأن الواقعة التي كانت سبب نزول الآية، كانت عمدا فلا مفهوم له.
قوله تعالى :﴿ هديا بالغ الكعبة... ﴾ الآية [ المائدة : ٩٥ ] قيّد بها تعظيما له، وإلا فالشرط بلوغه الحرم.
فإن قلتَ : ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ؟
قلتُ : لا نسلّم ذلك، فإنها إنما تقتضي أن المطيعَ، لا يؤاخذ بذنوب المُضلّ، أو لأن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان، عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على نفسه، أو عرضه، أو ماله( ١ ).
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنهم عالمون بماذا أُجيبوا ؟
قلتُ : هذا جواب دهشة وحيرة، حين تطيش عقولهم من زفرة جهنّم.
أو المعنى : لا علم لنا بحقيقة ما أجابوا به، لأنا لا نعلم إلا ظاهره، وأنت تعلم ظاهره وباطنه، بدليل آخر الآية.
وقيل : المراد منه المبالغة في تحقيق نصيحتهم، كمن يقول لغيره : ما تقول في فلان ؟ ! فيقول : أنت أعلم به مني، كأنه قيل : لا يحتاج فيه إلى شهادة لظهوره( ١ ).
فإن قلتَ : كيف قال الحواريّون ذلك – وهم خُلَّصُ أتباع عيسى – وهو كفر، لأنه شكّ في قدرة الله تعالى( ١ ) وذلك كفر ؟ !
قلتُ : الاستفهام المذكور، استفهام من الفعل، لا من القدرة، كما يقول الفقير للغني القادر : هل تقدر أن تعطيني شيئا ؟ وهذه تسمى استطاعة المطاوعة، لا استطاعة القدرة.
والمعنى : هل يسهل عليك أن تسأل ربك ؟ كقولك لآخر : هل تستطيع أن تقوم معي ؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك.
فإن قلت : لو كان ما ذكر مرادا، لما أنكر عليهم عيسى بآخر الآية ؟
قلتُ : إنكاره عليهم إنما كان لإتيانهم بلفظ، لا يليق بالمؤمن المخلص ذكره.
إن قلتَ : كيف قال عيسى ذلك، مع أن كل ذي نفس، فهو ذو جسم، لأن النّفس جوهر قائم بذاته، متعلّق بالجسم تعلّق التدبير، والله منزّه عن ذلك ؟
قلتُ : النّفس كما تُطلق على ذلك، تُطلق على ذات الشيء وحقيقته، كما يقال : نفس الذهب والفضة محبوبة أي ذاتُهما، والمراد به هنا الثاني( ١ ).
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنه قال لهم أيضا غير ما ذُكر ؟
قلتُ : معناه «ما قلت لهم فيما يتعلّق بالإله ».
فإن قلتَ : عيسى حيّ في السماء، فكيف قال «فلمّا توفّيتني » ؟
قلتُ : المراد بالتوفّي النوم كما مرّ، مع زيادة في قوله في آل عمران :﴿ إني متوفّيك ورافعك إليّ ﴾( ١ ) [ آل عمران : ٥٥ ]. مع أن السؤال إنما يتوجّه، على قول من قال : أن السؤال والجواب، وُجدا يوم رفعه إلى السماء، وأما من قال : إنهما يكونان يوم القيامة –وعليه الجمهور- فلا إشكال.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنّ الصّدق نافع في الدنيا أيضا ؟
قلتُ : نفعه بالنسبة إلى نفع يوم القيامة، الذي هو الفوز بالجنّة، والنّجاة من النار، كالعَدَم( ١ ).
فإن قلتَ : إن أراد بالصّدق صدقُهم في الآخرة، فالآخرة ليست بدار عمل، أو في الدنيا، فليس مطابقا لما ورد فيه، وهو الشهادة لعيسى بالصّدق، بما يُجيب به يوم القيامة ؟
قلتُ : أراد به الصّدق المستمرّ بالصادقين، في دنياهم وآخرتهم( ٢ ).
٢ - يقول الله تعالى يوم القيامة، مشيرا إلى صدق عيسى بن مريم: هذا اليوم يوم (العدل الإلهي) ويوم الجزاء الأخروي، الذي ينتفع فيه الإنسان بصقه، وعمله الصالح، ختم تعالى السورة بهذه الآية الكريمة، وقد رُوي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ﴿إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ فبكى وقال: اللهم أمتي، أمتي !! فأرسل الله إليه جبريل عليه السلام، وقال له اذهب إلى محمد فقل له: (إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك) رواه مسلم..