قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر وحكى الماوردي عكسه وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وقال الجلال في الإتقان فيها قولان والأكثر على أنها مكية ويستدل لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر ونزلت أنا أنزلناه في ليلة القدر الحديث وهو كما قال المزني حديث منكر انتهى وقدر أخرج الجلال هذا الحديث في الدر المنثور عن ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضا من رواية يوسف بن سعد وذكر فيه أن الترمذي أخرجه وضعفه وأن الخطيب أخرج عن ابن عباس نحوه وكذا عن ابن المسيب بلفظ قال نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر ففي قول المزني هو منكر تردد عندي وأيا ما كان فقد استشكل وجه دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك لقوله فيه على منبره والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلا في المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا أنها تعدل ربع القرآن وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء وقال بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها لما قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل اقرأ القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم وقال الخطابي المراد بالكتابة في قوله تعالى فيها أنا أنزلناه إلى قوله تعالى ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب في ذاك لأقرأ الخ على ما ستسمعه أن شاء الله تعالى أراد أنه للمقروء من قرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل.
ﰡ
قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الجلال في الإتقان: فيها قولان والأكثر على أنها مكية، ويستدل لكونها مدنية بما
أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك. فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: ١] ونزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: ١] الحديث
وهو كما قال المزني حديث منكر انتهى. وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدر المنثور عن ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضا من رواية يوسف بن سعد، وذكر فيه أن الترمذي أخرجه وضعفه، وأن الخطيب أخرج عن ابن عباس نحوه وكذا
عن ابن المسيب بلفظ قال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «أريت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك عليّ» فأنزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
ففي قول المزني هو منكر تردد عندي وأيّا ما كان فقد استشكل وجه دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك لقوله فيه على منبره.
والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلّا في المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما.
وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا «أنها تعدل ربع القرآن»
وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء. وقال بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل: اقرأ القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم. وقال الخطابي: المراد بالكتابة في قوله تعالى فيها إِنَّا أَنْزَلْناهُ الإشارة إلى قوله تعالى اقْرَأْ [العلق: ١] ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال: هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب. في ذاك لاقرأ إلخ على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى. وكونه أراد أنه للمقروء المفهوم من اقرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير عند الجمهور للقرآن وادعى الإمام فيه
نعم في البحر روى أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان، فإن صح وكان المراد كان ليلا فذاك وإلّا فظاهر كلام الشعبي غير مستقيم اللهم إلّا أن يقال إنه أراد ابتداء إنزاله إلى السماء الدنيا فيها ولا يلزم أن يتحد ذلك، وابتداء إنزاله عليه صلّى الله عليه وسلم في الزمان ثم إن في أَنْزَلْناهُ على ما ذكر تجوزا في الإسناد لأنه أسند فيه ما للجزء إلى الكل أو مجازا الطرف أو تضمينا. وقيل: المراد إنزاله من اللوح إلى السماء الدنيا مفرقا في ليالي قدر على أن المراد بليلة الجنس فقد قيل إن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، وكان ينزل في كل ليلة ما يقدر الله تعالى إنزاله في كل السنة ثم ينزله سبحانه منجما في جميع السنة. وهذا القول ذكره الإمام احتمالا ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعول عليه، والصحيح المعتمد عليه كما قال ابن حجر في شرح البخاري أنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا بل حكى بعضهم الإجماع عليه. نعم لا يبعد القول بأن السفرة هناك نجموه لجبريل عليه السلام في الليالي المذكورة. وأجاب السيد عيسى الصفوي بأنه محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلم مخبرا به عن التكلم بقولك أتكلم، وفي ذلك اختلاف بين الدواني وغيره ذكره في رسالته التي ألفها في الجواب عن مسألة الحذر الأصم، أو يقال يرجع الضمير للقرآن باعتبار جملته وقطع النظر عن أجزائه فيخبر عن الجملة بإنّا أنزلناه وإن كان من جملته إِنَّا أَنْزَلْناهُ المندرج في جملته من غير
واختلفوا في تلك الليلة فقيل إنها لخبر في ذلك وهو كما قال الكرماني غلط لأن آخر الخبر يرده والمراد برفع تعيينها فيه. وعن عكرمة أنها ليلة النصف من شعبان وهو قول شاذ غريب كما في تحفة المحتاج. وظاهر ما هنا مع ظاهر قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: ١٨٥] يرده وعن ابن مسعود أنها تنتقل في ليالي السنة فتكون في كل سنة في ليلة، ونسبه النووي إلى أبي حنيفة وصاحبيه والأكثرون على أنها في شهر رمضان. فعن ابن رزين أنها الليلة الأولى منه. وعن الحسن البصري السابعة عشرة لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها. وحكي عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا
وعن أنس مرفوعا التاسعة عشرة.
وحكي موقوفا على ابن مسعود أيضا وعن محمد بن إسحاق الحادية والعشرون لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال: «قد رأيت هذه الليلة- يعني ليلة القدر- ثم نسيتها، وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين»
. قال أبو سعيد: فمطرت السماء من تلك الليلة فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله على جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. وفي مسلم من صبيحة ثلاث وعشرين، ومنه مع ما قبله مال الشافعي عليه الرحمة إلى أنها الليلة الحادية أو الثالثة والعشرون.
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أنيس أنه سئل عن ليلة القدر فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «التمسوها الليلة» وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين.
وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن بلال قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين». وفي الإتقان وغيره أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر أنه سئل عن ليلة القدر فقال: كان عمر وحذيفة وناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين.
وأخرج ابن نصر وابن جرير في تهذيبه عن معاوية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «التمسوا ليلة القدر في آخر ليلة من رمضان».
وفي رواية أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أنه آخر ليلة.
وقيل: هي في العشر الأوسط تنتقل فيه قيل في أوتاره وقيل في أشفاعه.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان».
وفي حديث أخرجه أحمد وجماعة عن عبادة ابن الصامت مرفوعا وحديثين أخرجهما ابن جرير وغيره
وصح من رواية الإمام أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم أن زر بن حبيش سأل أبيّ بن كعب عنها فحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين فقال له: بم تقول ذلك يا أبا المنذر؟
فقال: بالآية والعلامة التي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس ليس لها شعاع»
وبعض الأخبار عن ابن عباس ظاهرة في ذلك، وفي بعض الاستئناس له بما يدل على جلالة شأن السبعة التي قالوا فيها إنها عدد تام من كون السماوات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والجمار سبعا والطواف بالبيت سبعا والسجود على سبع إلى غير ذلك مما ذكره لما علمت من الأخبار الصحيحة المتضافرة وهو زمان ضعف البدن وفيه يزيد أجر العمل ووقت قوة الاستعداد للتجليات لمزيد التصفية وأنها في الأوتار أرجى للأحاديث أيضا مع أن الله تعالى وتر يحب الوتر. وقال ابن حجر الهيتمي: اختار جمع أنها لا تلزم ليلة بعينها من العشر الأواخر بل تنتقل في لياليه فعاما أو أعواما تكون وترا إحدى أو ثلاثا أو غيرهما، وعاما أو أعواما تكون شفعا اثنتين أو أربعا أو غيرهما قالوا: ولا تجتمع الأحاديث المتعارضة فيها إلّا بذلك. وكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى. ولا يخفى أن الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها مطلقا مما لا يتسنى وإنما يتسنى الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها بالنظر إلى العشر، وقيل في الجمع مطلقا أنها تنتقل وما صح من التعيين في الجملة أو على التحقيق محمول على ليلة قدر في شهر رمضان مخصوص بأن يكون قد علم صلّى الله عليه وسلم أنها في أول شهر رمضان فرض ليلة كذا.
فقال عليه الصلاة والسلام: «هي ليلة كذا».
أي في هذا الشهر رمضان المخصوص، وعلم عليه الصلاة والسلام أنها في شهر رمضان بعده ليلة كذا غير تلك الليلة التي ذكرها قبل
فقال صلّى الله عليه وسلم: «هي ليلة كذا»
وعلم صلّى الله عليه وسلم أنها في آخره في العشر الأخير منه
فقال: «هي في العشر الأخير»
أي من هذا الشهر المخصوص وهكذا وهو كما ترى. وعلى القول بانتقالها ادعى بعضهم أنه إذا كان أول الشهر ليلة كذا فهي الليلة السابعة والعشرون، وإن كانت ليلة كذا فهي الليلة الحادية والعشرون إلى آخر ما قال. وقد ذكرناه مع نظمه في الطراز المذهب وليس في ذلك ما يقوم حجة على الغير.
وفي بعض الأخبار ذكر علامات لها ففي حديث الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت من أماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا، لا يرمى فيها بنجم حتى الصباح. وأخرج نحوا منه ابن جرير في تهذيبه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعا وحمل ذلك إن صح على ليلة قدر من شهر رمضان مخصوص كالمتعين لعدم اطراده ولا أغلبيته فيما يظهر والحكمة في إخفائها أن يجتهد من يطلبها في العبادة في غيرها ليصادفها كأن يحيي ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب السلف، وللإمام في هذا المقام كلام يجلّ مثله عن التكلم بمثله ولعمري لقد سها فيه سهوا بينا وأتى فيه بما يوشك أن يدل على جهله ومعنى ليلة القدر ليلة التقدير وسميت بذلك لما روي عن ابن عباس وغيره أنه يقدر فيها ويقضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، والمراد إظهار تقديره تعالى ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية وإلّا فتقديره تعالى جميع الأشياء أزلي قبل خلق السماوات والأرض لكن قال بعض الأجلّة كون التقدير في هذه الليلة يشكل عليه قول كثير أنه ليلة النصف من شعبان
لخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «أجرك على قدر نصبك»
لأنها أغلبية على ما قال غير واحد، ولا شك أن العمل القليل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية الأداء كصلاة واحدة أديت بجماعة فإنها تعدل خمسا وعشرين مرة صلاة مثلها أديت على الانفراد إلى غير ذلك. نعم هذه الأفضلية قد تعقل في بعض وقد لا كما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عز وجل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلّا هو جل شأنه. وتخصيص الألف بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة: ٩٦] وكثيرا ما يراد بالأعداد ذلك. وفي البحر حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر كله، أو لما
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد أن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأنزل الله تعالى السورة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك. فقرأ عليه إِنَّا أَنْزَلْناهُ إلخ ثم قال: هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسرّ بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم
. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. وقال أبو بكر الوراق: كان ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما، وفي هذا نظر لأنه إن أريد بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير، وإن أريد به الثاني أعني قاتل دارا فهو قد ملك أقل من ذلك بكثير. وقيل: أري صلّى الله عليه وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه
وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار. وطعن القاضي عبد الجبار في كون الآية إشارة لما ذكر بأن أيام بني أمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنها خير من ألف شهر مذمومة:
ألم تر أن السيف ينقص قدره | إذا قيل إن السيف خير من العصا |
فقد صح: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». وفي رواية «وما تأخر»
ونهي عليه الصلاة والسلام أن يخص ليلة الجمعة بقيام ويومها بصيام ولأنه سبحانه وتعالى أخفاها ولم يعينها كما أخفى سبحانه أعظم أسمائه عز وجل، وكما أخفى جل شأنه أفضل الصلوات وهي الصلاة الوسطى إلى غير ذلك. وذهب أكثر الحنابلة كأبي الحسن الجزري وعبد الله بن بطة وأبي حفص البرمكي وغيرهم إلى أن ليلة الجمعة أفضل لما
أخرج مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يغفر الله تعالى ليلة الجمعة لأهل الإسلام أجمعين، وهذه فضيلة لم تجىء لغيرها»
. ونحوه ما
روي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ليلة جمعة إلّا وينظر الله تعالى إلى خلقه ثلاث مرات فيغفر لمن لا يشرك بالله تعالى شيئا
ولأنه
روى ابن بشكوال في كتابه القربة إلى رب العالمين بسنده إلى عمر رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أكثروا الصلاة عليّ في الليلة الغرّاء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة»
والغرة من الشيء خياره ولأنه قد روى كثيرون منهم الإمام أحمد أن يومها سيد الأيام وأعظمها وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى،
وصحح ابن حبان خبر: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة»
. فهي لذلك سيدة الليالي وأعظمها وأفضلها ولأنها معينة
بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: «بل هي باقية»
. ثم ذكر أن عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدمناه في سبب النزول من رؤيته صلّى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم وتعقبه بقوله: هذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر في فتح الباري انتهى. والحق الأول والصراحة في حيّز المنع.
وقد أخرج الديلمي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم»
. فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المديدة فضمير فيها لليلة وزعم بعضهم أن الجملة صفة لألف شهر والضمير لها وليس بشيء، وجوّز بعضهم كون الضمير للملائكة على أن الرُّوحُ مبتدأ لا معطوف على الْمَلائِكَةُ وفِيها خبره لا متعلق ب تَنَزَّلُ والجملة حال من الْمَلائِكَةُ وهو خلاف الظاهر. والروح عند الجمهور هو جبريل عليه السلام، وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل بالذكر. وقيل ملك عظيم لو التقم السماوات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة، وذكر في التيسير من وصفه ما يبهر العقول والله تعالى أعلم بصحة الخبر. وقال كعب ومقاتل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة كالزهاد الذين لا نراهم إلّا يوم العيد أو الجمعة. وقيل:
حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة علينا. وقيل: خلق من خلق الله تعالى يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ويخلق ما لا تعلمون وما يعلم جنود ربك إلا هو ولعلهم على ما قيل خدم أهل الجنة.
وفي الغنية للقطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان ليلة القدر يأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان سدرة المنتهى سبعون ألف ملك، ومعهم ألوية من نور فإذا هبطوا إلى الأرض ركّز جبريل عليه السلام لواءه والملائكة عليهم السلام ألويتهم في أربعة مواطن عند الكعبة وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء، ثم يقول جبريل عليه السلام: تفرقوا فيتفرقون ولا يبقى دار ولا حجر ولا بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلّا دخلته الملائكة عليهم السلام إلّا بيتا فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو صورة تماثيل فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم حتى إذا كان وقت الفجر ثم يصعدون إلى السماء فيستقبلهم سكان سماء الدنيا فيقولون لهم: من أين أقبلتم؟ فيقولون: كنا في الدنيا لأن الليلة ليلة القدر لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، فيقول سكان السماء الدنيا: ما فعل الله تعالى بحوائج أمة محمد صلّى الله عليه وسلم؟ فيقول جبريل عليه السلام: إن الله تعالى غفر لصالحهم وشفعهم في طالحهم. فترفع ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى الله تعالى هذه الأمة من المغفرة والرضوان، ثم تشيعهم ملائكة السماء الدنيا إلى الثانية كذلك وهكذا إلى السابعة، ثم يقول جبريل عليه السلام: يا سكان السماوات ارجعوا. فيرجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم فإذا وصلوا إلى سدرة المنتهى يقول لهم سكانها: أين كنتم؟ فيجيبونهم مثل ما أجابوا أهل السماوات، فيرفع سكان سدرة المنتهى أصواتهم بالتسبيح والتهليل والثناء فتسمع جنة المأوى ثم جنة النعيم وجنة عدن والفردوس، ويسمع عرش الرحمن فيرفع العرش صوته بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى هذه الأمة. ويقول: إلهي بلغني عنك أنك غفرت البارحة لصالحي أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وشفعت
وفي رواية عن كعب: نزول جميع ملائكة سدرة المنتهى مع جبريل عليهم السلام ولا يعلم عددهم إلّا الله تعالى وأن جبريل عليه السلام لا يدع أحدا من الناس إلّا صافحه.
وفي رواية لا يدع مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلم عليه إلّا مدمن الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران، وإن علامة مصافحته عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين.
وروي في نزوله مع الملائكة عليهم السلام وعروجه معهم غير ذلك، وقد ذكر بعضا من ذلك الإمام وغيره ونسأل الله تعالى صحة الأخبار.
وذكر بعضهم أن جبريل عليه السلام يقسم تلك الليلة ما ينزل من رحمة الله تعالى يستغرق أحياء المؤمنين فيقول: يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به؟ فيقول الله عز وجل: قسم على أموات أمة محمد صلّى الله عليه وسلم. فيقسم حتى يستغرقهم فيقول: يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به؟ فيقول سبحانه وتعالى قسمه على الكفار فيقسمه عليهم فمن أصابه منهم شيء من تلك الرحمة مات على الإيمان.
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال من فاعله أي ملتبسين بإذن ربهم أي بأمره عز وجل، والتقييد بذلك لتعظيم أمر تنزلهم. وقيل الإشارة إلى أنهم يرغبون في أهل الأرض من المؤمنين ويشتاقون إليهم فيستأذنون فيؤذن لهم وفيه نوع ترغيب في الاجتهاد في الطاعة. واستشكل أمر هذه الرغبة مع كثرة المعاصي، وأجيب بأنهم غير واقفين على تفاصيلها أو لم يعتبروها مانعة من ذلك لأنهم يرون من أنواع الطاعات ما لا يرونه في السماء، أو ليسمعوا أنين العصاة التائبين.
ففي الحديث القدسي: «لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين».
أو ليجتمعوا مع من بينه وبينهم مناسبة من الصديقين أداء لمراسم المحبة فإن أرواح الصديقين المتجردة عن جلابيب الأبدان لم تزل تزور الملائكة عليهم السلام في مواضعهم بعروجها إليهم، فناسب أن تزورهم ولملائكة عليهم السلام في زواياهم وإن اقتضى ذلك الاجتماع مع غيرهم ممن ليسوا كذلك فإنه أمر تبعي.
ولأجل عين ألف عين تكرم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي من أجل كل أمر تعلق به التقدير في تلك السنة إلى قابل، وأظهره سبحانه وتعالى لهم قاله غير واحد فمن بمعنى اللام التعليلية متعلقة بتنزل. قال عصام الدين: فإن قلت المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في تمام السنة فلماذا تنزل الملائكة عليهم السلام فيها لأجل تلك الأمور؟ قلت: لعل تنزلهم لتعيين إنفاذ تلك الأمور لهم وتنزلهم لأجل كل أمر ليس على معنى تنزل كل واحد لأجل كل أمر، ولا تنزل كل واحد لأمر بل على معنى تنزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات، انتهى. وأقول: يمكن أن يكون تنزلهم لإعداد القوابل لقبول ما أمروا به، وأشار بما ذكره من التقسيم إلى أنه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدة أمور وقولهم من أجل كل أمر تعلق إلخ قد تقدم ما فيه من البحث فتذكر. وقال أبو حاتم: مِنْ بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشر. وجعلت الباء عليه للسببية فيرجع المعنى إلى نحو ما مرّ. ومنهم من جعلها للملابسة والمراد بملابستهم له ملابستهم للأمر به فكأنه قيل: تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة، وكونهم يتنزلون وهم كذلك لا يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك الليلة والظاهر على ما قالوا أن المراد بالملائكة المدبرات إذ غيرهم لا تعلق له في الأمور التي تعلق بها التقدير ليتنزلوا لأجلها على المعنى السابق
هو متعلق بمحذوف مقدم يفسره المذكور من وقف على كلام العلامة التفتازاني في أوائل شرح التلخيص في مثل ذلك استغن عما ذكر. وقيل مِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلق ب تَنَزَّلُ لكن على معنى تنزل إلى الأرض منفصلة من كل أمر لها في السماء وتاركة له. وفيه إشارة إلى مزيد الاهتمام بالتنزل إلى الأرض. وفيه من البعد ما فيه.
وتقديم الخبر للحصر كما في تميمي أنا والأخبار بالمصدر للمبالغة أي ما هي إلّا سالمة جدا حتى كأنه عين السلامة قال الضحاك في معنى ذلك إنه تعالى لا يقدّر ولا يقضي فيها إلّا السلامة، قيل: أي لا ينفذ تقديره تعالى ويتعلق قضاؤه إلّا بذلك. وحاصله لا يوجد إلّا ذلك. وقال مجاهد: إنها سالمة من الشيطان وأذاه. وروي أن الشيطان لا يخرج في ليلة القدر حتى يضيء فجرها ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ولا ينفذ فيها سحر ساحر. ولعل ما يصدر من المعاصي على هذا من النفس الأمّارة بالسوء لا بواسطة الشيطان. واستشكل كلام الضحاك بناء على ما قيل فيه بأنه لا تخلو ليلة من الشر والأمر المخوف ولا موجد إلّا الله عز وجل، فلعله أراد ما تقدم نقله غير بعيد من أن الله تعالى إنما يقدر في هذه الليلة السلامة والخير أي لا يظهر سبحانه للملائكة عليهم السلام إلّا تقديره عز وجل وقيل ما هي إلّا سلامة على نحو: ما رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا رحمة والمراد أنها سبب تام للسلامة والنجاة من المهالك يوم القيامة حيث إن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وقيل السلام مصدر بمعنى التسليم أي ما هي إلّا تسليم لكثرة التسليم والمسلمين من الملائكة على المؤمنين فيها. وروي ذلك عن الشعبي ومنصور وجعلها عين التسليم للمبالغة أيضا.
وقوله تعالى حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ غاية تبين تعميم السلامة أو التسليم كل الليلة فالجار متعلق ب سَلامٌ ومَطْلَعِ اسم زمان وقد صرحوا أنه من يفعل، ويفعل بفتح العين وضمها على مفعل مفتوح العين وجوز كونه مصدرا ميميا بمعنى الطلوع ويحتاج إلى تقدير مضاف قبله هو وقت أو ما في معناه لتتحد الغاية والمغيا فيكونان من جنس واحد. وصح تعلق الجار بذلك مع الفصل لأنه ليس بمصدر نظرا للحقيقة. وأفاد الطبرسي وغيره أنه لا بد من تأويله بسالمة أو مسلمة ليصح التعلق أما لو أبقى على مصدريته فلا يصح للزوم الفصل بين الصلة والموصول. وذهب بعضهم إلى أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر، وجوز أن تتعلق الغاية بتنزل على معنى أنه لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى وقت طلوع الفجر، وتعقب بأنه تعسف لأن سَلامٌ هي أجنبي وليس باعتراض فلا يحسن الفصل به وجعله حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى فِيها أي ذات سلامة أو سلام لا يخفى حاله. وقيل يجوز أن يكون الوقف على سَلامٌ وهو خبر لمحذوف ومِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلق به وهِيَ مبتدأ وحَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ خبره. ولم يجوز ذلك الطيبي والطبرسي وغيرهما قالوا: لعدم الفائدة بالأخبار عنها بأنها حتى مطلع الفجر إذ كل ليلة بهذه الصفة. وأجيب بأنه لما أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر وفهم أنها مخالفة لسائر الليالي في الصفة وكان ذلك مظنة توهم أن ذاتها في المقدار مغايرة لذوات الليالي فيه أيضا دفع ذلك بقوله تعالى هي حتى مطلع الفجر، أي لم تخالف سائر الليالي في ذلك وإن خالفتها في الفضل والخيرية.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»
. ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها. وقال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحبّ من الصلاة، ثم أفاد أنه إذا قرأ ودعا كان حسنا وكان صلّى الله عليه وسلم يجتهد في ليالي شهر رمضان ويقرأ فيها قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلّا سأل ولا بآية عذاب إلّا تعوذ. وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما قال البعض بصلاة التراويح.
وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر»
وأخرج مالك وابن شيبة وابن زنجويه والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال: «من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها.
وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة يسن لرائيها كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها انتهى. والظاهر أنه عنى برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها مما خصت به من الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحوا من الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلّا أهله وهو كالنص في أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده. وقال أبو حفص بن شاهين على ما حكاه ابن رجب: إن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلّا نبينا صلّى الله عليه وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه عليه الصلاة والسلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون فأصبح عالما بها، وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين يديه رجلان فأنسيها صلّى الله عليه وسلم وأمر بطلبها في ليالي العشر الأواخر لأنهم لا يرونها مكاشفة أبدا ولا يراها أحد بعده صلّى الله عليه وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي المسماة انتهى. وحديث أنه صلّى الله عليه وسلم رآها ونسيها قد رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما لا تردد في صحته، لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمته صلّى الله عليه وسلم أبدا ترددا، ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذا ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلّى الله عليه وسلم
ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»
وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط. ففي شرح الصحيح للنووي:
بقي في الكلام على هذه الليلة بحث مهم وهو أنه على قول المعتبرين لاختلاف المطالع يلزم القول بتعددها في رمضان وكونها وترا من لياليه عند قوم وشفعا عند آخرين فلا يصح إطلاق القول بأحدهما وكذا لا يصح إطلاق القول بأنها ليلة كذا كليلة السابع والعشرين أو الحادي والعشرين مثلا من الشهر على ذلك أيضا.
بل لا يصح إطلاق القول بأن وقت التقدير وتنزل الملائكة ليلة فالليلة عند قوم نهار في الجهة المسامتة لأقدامهم وهي قد تكون مسكونة ولو بواسطة سفينة تمر فيها، وربما يكون زمان الليل عند قوم بعضه ليلا وبعضه نهارا عند آخرين كأهل بعض العروض البعيدة عن خط الاستواء، بل قد تنقضي أشهر بليل ونهار على قوم ولم ينقض يوم واحد في بعض العروض بل لا يصح أيضا إطلاق القول بأنها في رمضان وأنها الليلة الأولى أو الأخيرة منه إذ الشهر دخولا وخروجا مختلف بالنسبة إلى سكان البسيطة وأجاب بعض بالتزام أن ما أطلق من القول فيها ليس على إطلاقه فيكون القول بوتريتها بالنسبة إلى قوم وبشفعيتها بالنسبة إلى آخرين وهكذا القول بأنها ليلة كذا من الشهر وبالتزام أنها ليلة بالنسبة إلى قوم نهار بالنسبة إلى آخرين، وإن التعبير بالليلة لرعاية مكان المنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام وغالب المؤمنين به كأن ما هو سمت أقدامهم مما ليلهم نهاره لم يعمر بالمسلمين بل لا يكاد يعمر بهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وقال: إنها حيث كانت نهارا عند قوم لا يبعد أن يعطي الله تعالى أجرها من اجتهد من غيرهم في ليلة ذلك النهار وأن يعطي سبحانه ذلك أيضا من اجتهد منهم ليلا وهي عندهم نهار وعلى نحو هذا يقال في الصور التي ذكرت في البحث.
وادعى أن هذا نوع من الجمع بين الأحاديث المتعارضة وأن في قولهم يسن الاجتهاد في يومها رمز إما لشيء من ذلك وهو كما ترى. وأجاب آخر بما يستحي القلم من ذكره ويرى تركه هو الحري بقدره. وسمعت من بعض أحبابي أن الشيخ إسماعيل العجلوني عليه الرحمة تعرض فيما شرح من صحيح البخاري لشيء من هذا البحث والجواب عنه ولم أقف عليه، وعندي أن البحث قوي والأمر مما لا مجال لعقلي فيه ومثل ليل القدر فيما ذكر وقت نزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار وكذا ساعة الإجابة من يوم الجمعة إلى أمثال أخر. وللشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام طويل في الأول لم يحضرني منه الآن ما يروي الغليل، ولغيره كابن حجر كلام مختصر في الثاني وهو مشهور وربما يقال إنها لكل قوم ليلتهم وإن اختلفت دخولا وخروجا بالنسبة إلى آفاقهم كسائر لياليهم فتدخل الليلة مطلقا في بغداد مثلا عند غروب الشمس فيها وبعد نصف ساعة منه تدخل في إستامبول مثلا وذلك أول وقت الغروب فيها وهكذا، والخروج على عكس ذلك فكأن الليلة راكب يسير إلى جهة فيصل إلى كل منزل في وقت ويلتزم أن تنزل الملائكة حسب سيرها ولا يبعد أن يتنزل عند كل قوم ما شاء الله تعالى منهم عند أول دخولها عندهم ويعرجون عند مطلع فجرها عندهم أيضا أو يبقى المتنزل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع المعمورة فيعرجون معا عند انقضائها ويلتزم القول بتعدد التقدير حسب السير أيضا بأن يقدر الله تعالى في أي جزء شاء سبحانه منها بالنسبة إلى من هي عندهم أمورا تتعلق بهم، ومناط الفضل لكل قوم تحققها بالنسبة إليهم وقيامهم فيها ومثل هذه الليلة فيما ذكر سائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرهما وهذا غاية ما يخطر بالبال فيما يتعلق
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت | كما كل أيام اللقا يوم جمعة |