تفسير سورة المائدة

تفسير العز بن عبد السلام
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تفسير العز بن عبد السلام المعروف بـتفسير العز بن عبد السلام .
لمؤلفه عز الدين بن عبد السلام . المتوفي سنة 660 هـ
سورة المائدة مدنية

١ - ﴿بِالْعُقُودِ﴾ عهود الله التي أخذ بها الإيمان على عباده فيما أحلّ وحرّم، أو ما أخذ على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة والإنجيل من [تصديق] صفة محمد ﷺ أو العهد والحلف الذي كان في الجاهلية أو عهود الدِّين كلها، أو عقود الناس كالبيع والإجارة وما يعقده على نفسه من نذر أو يمين. {بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ
367
الإبل والبقر والغنم، أو أجنة الأنعام إذا ذكيت فوجد الجنين ميتاً، أو بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه مأخوذ من نَعمة الوطء.
368
٢ - ﴿شَعَآئِرَ اللَّهِ﴾ معالم الله من الإشعار وهو الإعلام: مناسك الحج، أو محرمات الإحرام، أو حَرَم الله، أو حدوده في الحلال والحرام والمباح، أو دينه كله ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله﴾ [الحج: ٣٢] أي دين الله. ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ لا تقاتلوا فيه وهو رجب أو ذو القعدة أو الأشهر الحرم. ﴿الْهَدْىَ﴾ كل ما يهدى إلى البيت من شيء، أو ما لم يقلد من النعم وقد / جعل على نفسه أن يهديه ويقلده. ﴿الْقلآئِدَ﴾ قلائد الهدى، أو كانوا إذا حجوا تقلّدوا من لحاء الشجر ليأمنوا في ذهابهم وإيابهم، أو كانوا يأخذون لحاء شجر الحرم إذا خرجوا منه فيتقلدون ليأمنوا فنهوا عن نزع شجر الحرم. ﴿امين﴾ : قاصدين أممت كذا قصدته. ﴿فَضْلاً﴾ أجراً، أو ربح تجارة ﴿رضوانا﴾ من الله تعالى عنهم بنسكهم. ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ : يحملنكم، جرمني فلان على بغضك حملني، أو يكسبنكم، جرمت على أهلي: كسبت لهم. ﴿شنآن﴾ : بغض، أو عداوة.
أتى الحُطم بن هند الرسول ﷺ فقال: إلامَ تدعو؟ فأخبره، فخرج فمرّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه، ثم أقبل من العام المقبل حاجّاْ مقلداً الهدى فأراد الرسول ﷺ أن يبعث إليه فنزلت فقال ناس من الصحابة - يا رسول الله خَلِّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا فنزلت. ثم نسخ جميعها، أو نسخ منها ولا الشهر
368
الحرام، ولا آمين البيت الحرام، أو نسخ التقلد بلحاء الشجر فاتفقوا على نسخ بعضها. ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (٣) ﴾
369
٣ - ﴿الميت﴾ كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره، أوكل ما فارقته الحياة من دواب البرّ وطيره. ﴿والدم﴾ محرم إذا كان مسفوحاً، فلا يحرم دم السمك، [أو] المسفوح وغيره حرام إلا ما خصّته السنّة من الكبد
369
والطحال فحرم دم السمك. ﴿لحم الْخِنزِيرِ﴾ يخصّه التحريم عند داود ويعم باقي أجزائه عند الجمهور، ولا فرق بين الأهلي والوحشي. ﴿وَمَآ أُهِلَّ﴾ ذبح لغير الله من صنم أو وثن، استهل الصبي صاح، ومنه إهلال الحج. ﴿المنخنقة﴾ بحبل الصائد وغيره حتى تموت، أو التي توثق فيقتلها خناقها. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ المضروبة بالخشب حتى تموت. وقذه وقذاً: ضربه حتى أشفى على الهلاك. ﴿المتردية﴾ من رأس جبل أو بئر. ﴿النطيحة﴾ التي تنطحها أخرى فتموت. ﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ من المنخنقة، وما بعدها عند الجمهور أو مما أكل السبع خاصة، والأكيلة التي تحلها الذكاة هي التي فيها حياة قوية لا كحركة المذبوح، أو يكون لها عين تطرف وذنب يتحرك. ﴿تَسْتَقْسِمُواْ﴾ تطلبوا علم ما قسم لكم من رزق أو حاجة. ﴿بِالأَزْلامِ﴾ قداح مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والآخر غُفل، كانوا إذا أرادوا أمراً ضربوا بها، فإن خرج أمرني ربي فعلوه، وإن خرج نهاني تركوه، وإن خرج الغفل أعادوه، سمي ذلك استقساماً لطلبهم علم ما قسم لهم، أخذ من قسم اليمين لأنهم التزموا بالقداح ما يلتزمونه باليمين. ﴿ذَلِكُمْ﴾ الذي نهيتم عنه فسق وخروج عن الطاعة. ﴿يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ من دينكم أن ترتدوا عنه، أو أن يبطلوه أو يقدحوا في صحته، وكان ذلك يوم عرفة في حجة الوداع بعد دخول العرب في الإسلام حين لم ير الرسول ﷺ مشركاً ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ أن يظهروا عليكم واخشوا مخالفتي ﴿الْيَوْمَ اكْمَلْتُ﴾ يوم عرفة في حجة الوداع، ولم يعش بعد ذلك إلا أحدى وثمانين ليلة، أو زمن الرسول ﷺ كله إلى أن نزل ذلك يوم عرفة وأكماله بإكمال فرائضه وحلاله وحرامه فلم ينزل على الرسول ﷺ بعدها شيء من الفرائض من تحليل ولا تحريم، أو بإكمال الحج فلا يحج معكم مشرك. ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ بإكمال الدين ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ﴾ الاستسلام لأمري ﴿دِيناً﴾ أي طاعة. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أصابه ضر من الجوع. ﴿مَخْمَصَةٍ﴾ مفعلة كمبخلة ومجبنة ومجهلة ومحزنة، من الخمص وهو اضطمار البطن من الجوع ﴿مُتَجَانِفٍ﴾ متعمد أو مائل. جنف القوم مالوا، وكل أعوج فهو أجنف. نزلت
370
هذه السورة والرسول ﷺ واقف بعرفة، أو في مسير له من حجة الوداع، أو يوم الإثنين بالمدينة. ﴿يسئلونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (٤) ﴾
371
٤ - ﴿الطَّيِّبَاتُ﴾ : الحلال وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بالمستلذ، قلت وهو بعيد إذ لا جواب فيه. ﴿وَمَا عَلَّمْتُم﴾ وصيد ما عَلَّمتم ﴿الْجَوَارِحِ﴾ الكواسب، فلان جارحة أهله أي كاسبهم ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ بالكلاب وحدها فلا يحل إلا صيد الكلب، أو بالكلاب وغيرها أي مُضَرِّين على الصيد كما تُضَرَّى الكلاب، أو التكليب من صفة الجارح المعلَّم ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾ من طلب الصيد ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ من تأديبه فإن أَكَلَ الجارحة من الصيد فيحل، أو لا يحل، أو يحل في جوارح الطير دون السباع. لما أمر الرسول ﷺ بقتل الكلاب قالوا
371
يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت فنزلت، أو سأله زيد الخير فقال يا رسول الله فينا رجلان يقال لأحدهما ذَريح والآخر يكنى أبا دجانة لهما أكلب خمسة تصيد الظباء فما ترى في صيدها؟ فنزلت. ﴿اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذآ ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (٥) ﴾
372
٥ - ﴿طعام الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ ذبائحهم وطعامهم. ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ حرائر الفريقين عفيفات أو فاجرات، أو العفائف من الحرائر والإماء، ومحصنات أهل الكتاب المعاهدات دون الحربيات، أو المعاهدات والحربيات عند الجمهور. ﴿مُحْصِنِينَ﴾ أعفّاء ﴿مُسَافِحِينَ﴾ زناة ﴿مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ﴾ : ذات خليل تقيم معه على السفاح. ﴿يآ أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (٦) ﴾
٦ - ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾ إذا أردتم القيام إلى الصلاة مُحدِثين، أو يجب على كل قائم إلى الصلاة أن يتوضأ ولا يجوز أن يجمع فريضتين بوضوء واحد يروى عن عمر وعلي رضي الله - تعالى - عنهما، أو كان واجباً على كل قائم إلى الصلاة فنسخ إلاَّ عن المحدث " وكان الرسول ﷺ يتوضأ لكل صلاة ثم جمع الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ". وكان قد أُمر بالوضوء لكل صلاة فلما شق عليه
373
أمر بالسواك ورفع الوضوء. ﴿واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (٧) يآ أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (٨) وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (٩) والذين كفروا وكذبوا بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم (١٠) يآ أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (١١) ﴾
374
٨ - ﴿بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل شهداء لحقوق الناس / أو بما يكون من معاصيهم، أو شهداء لأمر الله بأنه حق.
﴿ إذ هم قوم ﴾ بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله -تعالى- على ذلك فنزلت هاتان الآيتان أو خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية فهمّوا بقتله فنزلت تذكرهم نعمته عليهم بخلاص نبيهم صلى الله عليه وسلم.
١١ - ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول ﷺ فأطلعه الله - تعالى - على ذلك فنزلت هاتان الآيتان أو خرج الرسول ﷺ إلى بني النضير
374
يستعين بهم في دية فهمّوا بقتله فنزلت تذكرهم نعمته عليهم بخلاص نبيهم صلى الله عليه وسلم. {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وءاتيتم الزكاة وءامنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سوآء السبيل (١٢) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خآئنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (١٣) ومن الذين قالوآ إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا
375
حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (١٤) }
376
١٢ - ﴿ميثاق بني إسرائيل﴾ : بإخلاص العبادة ولزوم الطاعة ﴿نَقِيباً﴾ أخذ من كل سبط منهم نقيب وهو الضمين، أو الأمين، أو الشهيد على قومه، والنقب في اللغة الواسع. فنقيب القوم هو الذي ينقب عن أحوالهم، بُعثوا ضمناء لقومهم بما أخذ به ميثاقهم، أو بُعثوا إلى الجبارين ليقفوا على أحوالهم، فرجعوا ينهون عن قتالهم لما رأوا من شدّة بأسهم وعظم خلقهم إلا اثنين منهم. ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ نصرتموهم، أو عظمتموهم، مأخوذ من المنع عزرته عزراً رددته عن الظلم.
١٣ - ﴿قاسية﴾ من القسوة وهو الصلابة و ﴿قَسِيَّة﴾ أبلغ من قاسية، او بمعنى فاسدة ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ بالتغيير والتبديل وسوء التأويل ﴿حَظّاً﴾ نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم. ﴿خَآئِنَةٍ﴾ خيانة، أو فرقة خائنة ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) {نسختها﴾ (قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [التوبة: ٢٩] أو ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ [الأنفال: ٥٨] أو هي محكمة في العفو والصفح إذا رآه. {يآ أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين (١٥) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
376
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (١٦) }
377
١٥ - ﴿تخفون﴾ من نبوة - محمد ﷺ ورجم الزانيين. ﴿نور﴾ محمد ﷺ أو القرآن العزيز.
١٦ - ﴿السَّلامِ﴾ : هو الله، أو السلامة من المخاوف ﴿الظُّلُمَاتِ) {الكفر و﴾ (النُّورِ) ﴿الإيمان﴾ (صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق الحق ودين الحق، أو طريق الجنة في الآخرة. ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شيء قدير (١٧) وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (١٨) يآ أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جآءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (١٩) ﴾
١٨ - ﴿أبناء الله﴾ خوف الرسول ﷺ جماعة من اليهود فقالوا: لا تخوفنا نحن أبناء الله وأحباؤه " أو قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد، أو
377
زعمت اليهود أنّ الله - تعالى - أوحى إلى إسرائيل [أنّ ولدك بِكْري من الولد] فقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. وقالته النصارى لما رأوا في الإنجيل من قوله: " أذهب إلى أبي وأبيكم " أو لأجل قولهم: " المسيح ابن الله " وهم يرجعون إليه فجعلوا أنفسهم أبناء الله وأحباءه، فردّ عليهم بقوله ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ لأن الأب المشفق لا يعذب ولده ولا المحب حبيبه. ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكاً وءاتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين (٢٠) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (٢١) قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون (٢٢) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوآ إن كنتم مؤمنين (٢٣) قالوا يا موسى إنا لن ندخلهآ أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلآ إنا هاهنا قاعدون (٢٤) قال رب إني لآ أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (٢٥) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (٢٦) ﴾
378
٢٠ - ﴿أنبياء﴾ الذين جاءوا بعد موسى ﷺ أو السبعون الذين اختارهم
378
موسى صلى الله عليه وسلم. ﴿ملوكا﴾ لأنفسكم بالتخليص من استعباد القبط، أو كل واحد ملك لنفسه وأهله وماله، أو كانوا أول من ملك الخَدم من بني آدم، أو جُعلوا ملوكاً بالمنّ والسلوى والحجر، أو كل من ملك داراً وزوجة وخادماً فهو ملك من سائر الناس. ﴿مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً﴾ / المنّ والسلوى والغمام والحجر، أو كثرة الأنبياء والآيات التي جاءتهم.
379
٢١ - ﴿الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ بيت المقدس، أو الشام، أو دمشق وفلسطين وبعض الأردن. المقدسة: المطهرة. ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ هبة منه ثم حَرَّمها عليهم بعصيانهم ﴿وَلا تَرْتَدُّواْ﴾ عن طاعة الله - تعالى - أو عن الأرض التي أُمِرتم بدخولها.
٢٢ - ﴿جَبَّارِينَ﴾ الجبار الذي يجبر الناس على ما يريد، وجبر العظم لأنه كالإكراه له على الصلاح، نخلة جبارة: فاتت اليد طُولاً لامتناعها كامتناع الجبار من الناس.
٢٣ - ﴿الذين يخافون﴾ الله، أو يخافون الجبارين فلم يمنعهم خوفهم من قول الحق. ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ بالإسلام، أو بالتوفيق للطاعة، كانا من الجبارين فأسلما قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو كانا في مدينة الجبارين على دين موسى صلى الله عليه وسلم، أو كانا من النقباء يُوشع بن نون وكلاب بن يوقنا. ﴿فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ قالوا ذلك لعلمهم أنّ الله - تعالى - كتبها لهم، أو لعلمهم أنّ الله - تعالى - ينصرهم على أعدائه. {واتل عليهم نبأ ابنىءادم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (٢٧) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (٢٨) إني أريد أن تبوأ
379
بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (٢٩) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (٣٠) فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (٣١) }
380
٢٧ - ﴿ابني آدم﴾ رجلان من بني إسرائيل قاله الحسن، أو قابيل وهابيل ابنا آدم - عليه الصلاة والسلام - لصلبه. ﴿قُرْبَاناً﴾ بِراً يقصد به التقرب من رحمة الله - تعالى - قرباه لغير سبب، أو لسبب على الأشهر، كانت حواء تضع في كل عام غلاماً وجارية فيتزوج الغلام بالجارية من البطن الآخر، ولم يزل بنو آدم في نكاح الأخوات حتى مضت أربعة آباء فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات، فلما أراد هابيل أن يتزج بتوأمة قابيل منعه لأنه وتوأمته أحسن من هابيل وتوأمته، أو لأنهما من ولادة الجنة وهابيل وتوأمته من ولادة الأرض، فكان هابيل راعياً فقرب سخلة سمينة من خيار ماله، وكان قابيل حراثاً فقرب جُرْزَة سنبل من شر ماله فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل علامة لقبوله وتركت قربان قابيل ولم يكن
لهم مسكين يتصدّق عليه وتقبل قربان هابيل لتقربه بخيار ماله قاله الأكثرون، أو لأنه أتْقَى من قابيل ولذلك قال ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ والتقوى ها هنا الصلاة وكانت السخلة المذكورة ترعى في الجنة حتى فدي بها إسحق أو إسماعيل، وقربا ذلك بأمر آدم - عليه الصلاة والسلام - لما اختصما إليه، أو من قبل أنفسهما، وكان آدم - عليه الصلاة والسلام - قد توجه إلى مكة - بإذن ربه - زائراً، فلما رجع وَجَده قد
380
قتله، وكان عند قتله كافراً، أو فاسقاً.
381
٢٨ - ﴿مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ﴾ كان قادراً على دفعه مع إباحته له، أو لم يكن له الامتناع ممن أراد قتله.
٢٩ - ﴿تبوء﴾ ترجع ﴿بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ﴾ بإثم قتلي، وإثم ذنوبك التي عليك، أو بإثمي بخطاياي وإثمك قتلك لي.
٣٠ - ﴿فَطَوَّعَتْ﴾ فعلت من الطاعة فزينت، أو فشجعت، أو فساعدت، ولم يدرِ كيف يقتله فظهر له / إبليس فعلمه فقتله غيلة، فألقى عليه وهو نائم صخرة فشدخه بها، فكان أول قتيل في الأرض.
٣١ - ﴿غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأَرْضِ﴾ على غراب آخر، أو مَلَكاً على صورة غراب يبحث على سوأة أخيه ليعرف كيف يدفنه. ﴿سوأة أَخِيهِ﴾ عورته أو جيفته لأنه تركه حتى أنتن ﴿ويلتى﴾ الويل: الهلكة ﴿النَّادِمِينَ﴾ قيل: لو ندم على الوجه المعتبر لقبلت توبته لكنه ندم على غير الوجه. ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني إسرآءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (٣٢) ﴾
﴿مِنْ أَجْلِ﴾ قتله أخاه كتبنا ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ بغير قَوَد ﴿أَوْ فَسَادٍ﴾ كحرب لله ورسوله وأخافة للسبيل. ﴿قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾ من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس، ومن شدّ على يد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، أو كأنما قتل الناس عند المقتول. ومن استنقذها من
381
هلكة فكأنما أحيا الناس عند المستنقذ، أو يصلَى النار بقتل الواحد كما يصلاها بقتل الكل، وإن سَلِم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً، أو يجب بقتل الواحد من القصاص ما يجب بقتل الكل. ومن أحيا القاتل بالعفو عنه فله مثل أجر من أحيا الناس جميعاً، أو على الناس ذم القاتل كما لو قتلهم جميعاً ومن أحياها بإنجائها من سبب مهلك فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً، أو عظم الله - تعالى - أجرها ووزرها فأحْيِها بمالك أو بعفوك. ﴿إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوآ أو يصلبوآ أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (٣٣) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموآ أن الله غفور رحيم (٣٤) يآ أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوآ إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (٣٥) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (٣٦) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (٣٧) ﴾
382
﴿ من أجل ﴾ قتله أخاه كتبنا ﴿ بغير نفس ﴾ بغير قَوَد ﴿ أو فساد ﴾ كحرب لله ورسوله وإخافة للسبيل. ﴿ قتل الناس جميعا ﴾ من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس، ومن شدّ على يد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس قاله ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -، أو كأنما قتل الناس عند المقتول. ومن استنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس عند المستنقذ، أو يصلى النار بقتل الواحد كما يصلاها بقتل الكل، وإن سَلِم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً، أو يجب بقتل الواحد من القصاص ما يجب بقتل الكل. ومن أحيا القاتل بالعفو عنه فله مثل أجر من أحيا الناس جميعاً، أو على الناس ذم القاتل كما لو قتلهم جميعاً ومن أحياها بإنجائها من سبب مهلك فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً، أو عظم الله -تعالى- أجرها ووزرها فأحْيِها بمالك أو بعفوك.
٣٣ - ﴿الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾ نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهداً كان بينهم وبين الرسول ﷺ فأفسدوا في الأرض، أو في العرنيين المرتدّين، أو فيمن حارب وسعى بالفساد. والمحاربة: الزنا والقتل والسرقة،
382
أو المجاهرة بقطع الطريق. والمكابرة باللصوصية في المصر وغيره، أو المجاهرة بقطع الطريق دون المكابر في المصر فيتخير الإمام فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي، أو يعاقبهم على قدر جناياتهم، فيقتل إن قتلوا، أو يصلب إن
383
قتلوا وأخذوا المال، ويقطع من خلاف إذا اقتصروا على أخذ المال قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وعن الرسول ﷺ " إنه سأل جبريل - عليه السلام - عن قصاص المحارب فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه " ﴿أَوْ يُنفَوْاْ﴾ من بلاد الإسلام إلى أرض الشرك أو من مدينة إلى مدينة، أو بالحبس، أو بطلبهم لإقامة الحد حتى يبعدوا.
384
٣٤ - ﴿تَابُواْ﴾ من الشرك والفساد بإسلامهم، ولا يسقط حد المسلم بالتوبة قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - أو التائب من المسلمين من المحاربين بأمان الإمام دون التائب بغير أمان، أو من لحق بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه / أو من كان في دار الإسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها قبلت توبته قبل القدرة وإن لم يكن له فئة فلا تضع توبته شيئاً من عقوبته، أو تسقط عنه حدود الله - تعالى - دون حقوق العباد، أو تسقط عنه سائر الحدود والحقوق سوى الدماء. {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم (٣٨) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (٣٩) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشآء ويغفر لمن
384
يشآء والله على كل شيء قدير (٤٠)
385
٣٨ - ﴿وَالسَّارِقُ﴾ قدم السارق على السارقة والزانية على الزاني لان الرجل أحرص على المال من المرأة والمرأة أحرص على الاستمتاع منه، وقطعت يد السارق لوقوع السرقة بها، ولم يقطع الذكر وإن وقعت الخيانة به لأن في قطعه فوات النسل، أو لأن الزجر لا يحصل به لخفائه بخلاف اليد فإنها ظاهرة، أو لأن السارق إذ اانزجر بقي له مثل يده بخلاف الزاني إذا انزجر فإنه لا يبقى له ذكر آخر. قيل نزلت في طعمة بن أبيرق وفي وجوب الغرم مع القطع مذهبان
٣٩ - ﴿فَمَن تَابَ﴾ التوبة الشرعية أو بقطع اليد
٤٠ - ﴿يُعَذِّبُ﴾ من مات كافراً ﴿وَيَغْفِرُ﴾ لمن تاب من كفره، أو يعذب في الدنيا على الذنوب بالقتل والآلام والخسف وغير ذلك من العذاب، ويغفر لمن شاء في الدنيا بالتوبة. {يآ أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوآ ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (٤١) سماعون للكذب أكالون للسحت فإن
385
جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (٤٢) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك ومآ أولئك بالمؤمنين (٤٣) }
386
٤١ - ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ) {المنافقون﴾ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} يسمعون كلامك ليكذبوا عليك ﴿سماعون لقوم آخرين﴾ ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا بعدهم، أو قابلون الكذب عليك ﴿سماعون لقوم آخرين﴾ في قصة الزاني المحصن من اليهود، حكم الرسول ﷺ برجمه فأنكروه. ﴿يحرفون﴾ كلام محمد ﷺ إذا سمعوه غيَّروه أو تغيير حكم الزاني وإسقاط القَوَد عند وجوبه. ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ أي الجلد، أرسلت اليهود إلى الرسول ﷺ بزانيين منهم، وقالوا: إن حكم بالجلد فاقبلوه، وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه. فسأل الرسول ﷺ ابن صوريا هل في التوراة الرجم؟ فأمسك فلم يزل به حتى اعترف، فرجمهما الرسول ﷺ ثم أنكر ابن صوريا بعد ذلك فنزلت فيه هذه الآية، أو إن أوتيتم
386
الدية، قتلت بنو النضير رجلاً من قريظة وكانوا يمتنعون من القَوَد بالدية إذا جنى النضيري، وإذا جنى القرظي لم يقنع النضيري إلاَّ بالقود، فقالت النضير: إن أفتاكم الرسول بالدية فاقبلوها وإن أفتى بالقود فردوه ﴿فِتْنَتَهُ﴾ عذابه، أو ضلاله، أو فضيحته. ﴿يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ من الكفر، أو من الضيق والحرج عقوبة لهم.
387
٤٢ - ﴿لِلسُّحْتِ﴾ الرشوة، أو رشوة الحكم، أو الاستعجال على المعاصي، أو ما فيه العار من الأثمان المحرمة كثمن الكلب والخنزير والخمر وعَسْب الفحل وحلوان الكاهن. والسحت من الاستئصال /، لأنه
387
يستأصل الدين والمروءة. ﴿فإن جاءوك﴾ اليهوديان الزانيان، خير الرسول ﷺ بين أن يحكم بينهما بالرجم، أو يدع، أو قرظي ونضيري قتل أحدهما الآخر فخير في الحكم بينهما بالقود والتخيير محكم، أو منسوخ بقوله - تعالى -: ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أنزل الله﴾ [٤٩] قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما.
388
٤٣ - ﴿فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ بالرجم، أو بالقَوَد. ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ بعد حكم التوراة، أو بعد حكمك. ﴿وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ في تحكيمك أنه من عند الله - تعالى - مع جحدهم نبوتك، أو في توليهم عن حكم الله غير راضين به. ﴿إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بئاياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون (٤٤) وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون (٤٥) وقفينا علىءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (٤٦) وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (٤٧) ﴾
٤٤ - ﴿هُدىً﴾ دليل}. ﴿وَنُورٌ) {بيان﴾ (النَّبِيُّونَ} جماعة أنبياء منهم محمد، أو محمد وحده ﷺ وإن ذكر بلفظ الجمع، والذي حكم به رجم الزاني، أو القود، أو الحكم بكل ما فيها ما لم يرد نسخ، أو تخصيص.
388
﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ اللام بمعنى " على "، وفي الحكم بها على غير اليهود خلاف. ﴿الأحبار﴾ العلماء واحدهم، " حبر " بالكسر والفتح من التحبير وهو التحسين، لأن العالم يحسن الحسن، ويقبح القبيح، أو يحسن العلم. ﴿اسْتُحْفِظُواْ﴾ استودعوا، أو حفظوا. ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ﴾ على حكم النبيّ ﷺ في التوراة. فلا تخشوهم في كتمان ما أُنزلت أو في الحكم به. ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أجراً على كتمانها، أو أجراً على تعليمها. ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم﴾ نزلت والآيتان التي بعدها في اليهود دون المسلمين، أو نزلت في أهل الكتاب، وهي عامة في سائر الناس، أو أراد بالكافرين المسلمين، وبالظالمين: اليهود، وبالفاسقين: النصارى، أو من لم يحكم به جاحداً كفر، وإن كان غير جاحد ظلم وفسق.
389
٤٥ - ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ نزلت في القرظي والنضيري قتل أحدهما الآخر. ﴿كفارة﴾ للمجروح، قال الرسول ﷺ " من جرح في جسده جراحة فتصدّق بها كفّر عنه من ذنوبه بمثل ما تصدّق به " أو للجارح لقيامه مقام أخذ الحق، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.
389
﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (٤٨﴾ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (٤٩) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (٥٠) }
390
٤٨ - ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن. ﴿مُصَدِّقاً﴾ بما قبله من الكتب، أو موافقاً لها. ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ أميناً، أو شاهداً، أو حفيظاً. ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أنزل الله﴾ فيه دليل على وجوب الحكم بالقرآن دون التوراة والإنجيل. ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ﴾ يا أمة محمد، أو جميع الأمم ﴿شِرْعَةً﴾ طريقة ظاهرة، ومنه شريعة الماء، لأنها أظهر طرقه إليه وأشرعت الأسنة أظهرت، والمنهاج الطريق الواضح فمعنى قوله - تعالى - ﴿شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ سنّةً وسبيلاً. ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ جمعكم على ملة واحدة، أو على حق. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه
390
منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (٥١) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (٥٢) ويقول الذين آمنوا أهاؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}
391
٥١ - ﴿لا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ﴾ لما ظهرت عداوة اليهود تبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله، وقال عبد الله بن أُبي: لا أتبرأ من حلفهم / أخاف الدوائر، وأنزلت في أبي لبابة [بن] عبد المنذر لما أرسله النبي ﷺ إلى بني قريظة، وقد نزلوا على حكم سعد
391
فنصح لهم، وأشار إلى أنه الذبح، أو في أنصاريين خافا من وقعة أحدٍ فأراد أحدهما التهود، والآخر التنصر ليكون لهما أماناً، حذراً من إدالة الكفار. ﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ مثلهم في الكفر، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما.
392
٥٢ - ﴿مَّرَضٌ﴾ شك، أو نفاق، نزلت في ابن أُبي، وعبادة، أو في قوم منافقين. ﴿فِيهِمْ﴾ في موالاتهم. ﴿دَآئِرَةٌ﴾ هي الدولة ترجع عمّن انتقلت إليه إلى من كانت له سميت بذلك، لأنها تدور إليه إلى بعد زوالها عنه. ﴿بِالْفَتْحِ﴾ فتح مكة، او فتح بلاد المشركين، أو الحكم والقضاء. ﴿أَوْ أمْرٍ﴾ دون الفتح الأعظم، أو موت من تقدّم ذكره من المنافقين أو إظهار نفاقهم، والأمر بقتلهم، أو الجزية. {يآ أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم (٥٤) إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (٥٥) ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون (٥٦) يآ أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أوليآء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (٥٧) وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً
392
ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (٥٨) }
393
٥٤ - ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ أبو بكر وأصحابه، الذين قاتلوا أهل الردة، أو قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن فكان لهم في نصرة الإسلام أثر حسن، ولما نزلت ((أومأ الرسول ﷺ بشيء في يده إلى أبي موسى، وقال: هم قوم هذا))، أو هم الأنصار. ﴿أَذِلَّةٍ﴾ ذوي رقة. {أَعِزَّةٍ) ذوي غلظة.
٥٥ - ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ﴾ نزلت في عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أو في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه شكوا إلى الرسول ﷺ ما أظهرته اليهود من عداوتهم. ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ نزلت في علي - رضي الله تعالى عنه - تصدق،
393
وهو راكع، أو عامة في المؤمنين ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ نزلت فيهم، وهم ركوع، أو فعلوا ذلك في ركوعهم، أو أراد بالركوع النافلة / وبإقامة الصلاة الفريضة. {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم
394
فاسقون (٥٩) قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سوآء السبيل (٦٠) وإذا جآءوكم قالوآ ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (٦١) وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (٦٢) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون (٦٣) }
395
٦٢ - ﴿فِى الإثْمِ﴾ معصية الله. ﴿وَالْعُدْوَانِ) {ظلم الناس﴾ (السُّحْتَ} الرشا، أو الربا.
٦٣ - ﴿لَوْلا﴾ هلاَّ ﴿الرَّبَّانِيُّونَ﴾ علماء الإنجيل ﴿وَالأَحْبَارُ﴾ علماء التوراة ﴿لَبِئْسَ﴾ ما كان العلماء يصنعون من ترك النكير، ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية. ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيراً منهم مآ انزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة كلمآ أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين (٦٤) ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (٦٥) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم سآء ما يعملون (٦٦) ﴾
٦٤ - ﴿مَغْلُولَةٌ﴾ عن عذابهم، أو مقبوضة عن العطاء على جهة البخل. ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ الزموا البخل ليتطابق الكلام، أو ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ في النار حقيقة. ﴿ولعنوا﴾ بتعذيبهم بالجزية قاله الكلبي. ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ نعمة الدنيا ونعمة الدِّين، لفلان عندي يد أي نعمة، أو قوتاه بالثواب والعقاب، واليد القوة ﴿أُوْلِى الأيدى والأبصار﴾ [ص: ٤٥] أو ملك الدنيا والآخرة، واليد الملك، من قولهم عنده ملك يمينه، أو التثنية للمبالغة في صفة النعمة، كلبيك وسعديك، قال:
(يداك يدا مجد وكف مفيدة............)
﴿طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ بحسدهم وعنادهم. ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾ يريد ما بين اليهود من الخلاف، أو ما بين اليهود والنصارى /، لتباين قولهم في المسيح.
٦٦ - ﴿أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ بالعمل بما فيهما من غير تحريف ولا تبديل، أو أقاموهما نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من حكم الله - تعالى - لم يزلوا. ﴿مِن فَوْقِهِمْ﴾ بالمطر، ومن تحتهم بإنبات الثمر، أو عَبَّر به عن التوسعة كما يقال: فلان في الخير من قَرنه إلى قدمه. ﴿مُّقْتَصِدَةٌ﴾ على أمر الله - تعالى - أو عادلة. {يآ أيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله
396
يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (٦٧) قل يآ أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم مآ أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين (٦٨) إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (٦٩) }
397
٦٧ - ﴿بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ﴾ ألزمه أن يبلغ ما أنزل من القرآن أحكامه وجدله، وقصصه، ولا يلزمه تبليغ غيره من الوحي إلا ما تعلق بالأحكام. ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ﴾ إن كتمت أية ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾. ﴿يَعْصِمُكَ﴾ أستظلّ الرسول ﷺ بشجرة في سفره، فأتاه أعرابي، فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني، فقال: الله، فرعدت يده وسقط السيف وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فنزلت، أو " كان يهاب قريشاً فنزلت، وكان يُحرس فلما نزلت أخرج رأسه من القبة، وقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله - تعالى " {لا يَهْدِى
397
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} إلى بلوغ غرضهم، أو إلى الجنة. ﴿لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون (٧٠) وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون (٧١) ﴾
398
٧٠ - ﴿ميثاق﴾ أيمان أخذها عليهم أنبياؤهم أن يعملوا بها، وأُمروا بتصديق الرسل، أو آيات ظاهرة تقرّر بها علم ذلك عندهم. ﴿وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ﴾ بعد أخذ الميثاق ﴿رُسُلاً﴾. ﴿تَهْوَى﴾ أخذ الهوى من هواء الجو لاستمتاع النفس بكل واحد منهما. ﴿فريقاً كذبوا﴾ اقتصروا على تكذيبه. ﴿وفريقاً﴾ كذبوه وقتلوه.
٧١ - ﴿فِتْنَةٌ﴾ عقوبة من السماء، أو ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم، أو ما ابتلوا به ممن تغلب عليهم من الكفار. ﴿فَعَمُواْ﴾ عن الرشد ﴿وَصَمُّواْ﴾ عن الوعظ حتى قتلوا الأنبياء ظناً أن لا تكون فتنة. ﴿ثُمَّ تَابَ اللَّهُ﴾ - تعالى - عليهم بعد معاينة الفتنة. ﴿ثُمَّ عَمُواْ﴾ عادوا إلى ما كانوا عليه قبل التوبة وكان العود من أكثرهم. {لقد كفر الذين قالوآ إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني
398
إسرآءيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (٧٢) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (٧٣) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (٧٤) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (٧٥) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً والله هو السميع العليم (٧٦) قل يآ أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل (٧٧) لعن الذين كفروا من بني إسرآءيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا ووكانوا يعتدون (٧٨) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (٧٩) ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (٨٠) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي ومآ أنزل إليه ما اتخذوهم أوليآء ولكن كثيراً منهم فاسقون (٨١) }
399
٧٥ - ﴿إلا رسول﴾ رد على اليهود قولهم إنه لغير رشدة وتكذيبهم إياه،
399
وعلى النصارى قولهم إنه ابن الله. ﴿وأمه صديقة﴾ رد على اليهود نسبتها إلى الفاحشة ﴿صديقة﴾ مبالغة في صدقها ونفي الفاحشة عنها، أو مصدقة بآيات ربها. ﴿يأكلان الطعام﴾ لحاجتهما إليه، والإله غير محتاج، أو كنى بذلك عن الغائط فإنه لا يليق بالإله. ﴿الآيات﴾ الحجج والبراهين. ﴿يؤفكون﴾ يصرفون، أفكت الأرض صرف عنها المطر، أو يقلبون المؤتفكات: المنقلبات، أو يكذبون من الإفك. ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون (٨٢) وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ ءامنا فاكتبنا مع الشاهدين (٨٣) وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (٨٤) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين (٨٥) والذين كفروا وكذبوا بئاياتنآ أولئك أصحاب الجحيم (٨٦) ﴾
400
٨٢ - ﴿الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى﴾ خاص بالنجاشي وأصحابه الذين أسلموا، أو بقوم كانوا على دين عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلما بعث محمد ﷺ آمنوا به.
٨٣ - ﴿الشَّاهِدِينَ﴾ الذين يشهدون بالإيمان، أو أمة محمد ﷺ ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ [البقرة: ١٤٣]. {يا أيها الذين آمنوا لا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)، وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيباً واتقوا الله الذي أنتم به
400
مؤمنون (٨٨) }.
401
٨٧ - ﴿لا تحرموا﴾ الأموال بالغصب فتصير حراماً، أو نزلت.
401
﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوآ أيمانكم كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تشكرون (٨٩) ﴾
402
٨٩ - قوله عزّ وجلّ ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ﴾ قد ذكرنا خلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين ﴿وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأيمان﴾ اختلف في سبب نزولها على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في عثمان بن مظعون حين حرّم على نفسه الطعام والنساء بيمين حلفها فأمره النبي ﷺ بالحنث فيها قاله السدي،
والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة وكان عنده ضيف فأخرت زوجته قِراه فحلف لا يأكل من الطعام شيئاً، وحلفت الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل، وحلف الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا، فأكل عبد الله وأكلا معه فأخبر النبي ﷺ بذلك فقال: أحسنت ونزلت فيه هذه الآية قاله ابن زيد.
402
....................
قوله ﴿وَلكِن يؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ﴾ وعقدها هو لفظ باللسان وقصد بالقلب لأن ما لم يقصده من أيمانه فهو لغو لا يؤاخذ به ثم في عقدها قولان:
أحدهما: أن / تكون على فعل مستقبل ولا تكون على خبر ماض، والفعل المستقبل نوعان: نفي وإثبات، فالنفي أن يقول: " والله لا فعلت كذا " والإثبات أن يقول: " والله لأفعلن " أما الخبر الماضي فهو أن يقول: " والله ما فعلت " وقد فعل ويقول: " والله لقد فعلت كذا " وما فعل فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه. وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان أحدهما: أنها لا تنعقد بالخبر الماضي قاله أبو حنيفة وأهل العراق،
والقول الثاني: أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماضٍ يتعلق الحنث بهما قاله الشافعي وأهل الحجاز.
ثم قال ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان قالته عائشة والحسن والشعبي وقتادة،
والثاني: أنها كفارة الحنث فيما عقدوه منها وهذا أشبه أن يكون قول ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم. والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون عقدها طاعة وحَلها معصية كقوله: " والله لا قتلت نفساً ولا شربت خمراً " فإذا حنث بقتل النفس وشرب الخمر كانت الكفارة لتكفير مأثم الحنث دون عقد اليمين،
الحال الثاني: أن يكون عقدها معصية وحلها طاعة كقوله " والله لا صليت ولا صمت " فإذا حنث بالصلاة والصوم كانت الكفارة لتكفير مأثم العقد دون الحنث
والحال الثالث: أن يكون عقدها مباحاً وحلها مباحاً كقوله: " والله لا لبست هذا الثوب " فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص.
ثم قال ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ﴾ فيه قولان، أحدهما: من أوسط أجناس الطعام قاله ابن عمر والحسن وابن سيرين...........
403
...................... (والأسود / وعبيدة السلماني، والثاني / من أوسطه في القدر قاله علي وعمر وابن عباس) ومجاهد، وقرأ سعيد بن جبير (من وسط ما تطعمون أهليكم) ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل: أحدها: أنه نصف صاع من سائر الأجناس قاله ((علي وعمر وهو مذهب أبي حنيفة، والثاني: مد واحد من سائر الأجناس قاله)) ابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء وقتادة وهو مذهب الشافعي، والثالث: أنه غداء وعشاء قاله
404
...................... علي في رواية الحارث عنه وقول محمد بن كعب القرظي والحسن البصري، والرابع: أنه على ما جرت به عادة المكفر في عياله إن كان يشبعهم أشبع المساكين، وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والخامس: أنه أحد الأمرين من غداء وعشاء قاله بعض البصريين. ثم قال ﴿أَو كِسْوَتُهُمْ﴾ وفيها خمسة أقاويل: أحدها: كسوة ثوب واحد قاله ابن عباس ومجاهد وطاووس وعطاء [الخراساني] والشافعي. والثاني: كسوة ثوبين قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب والحسن وابن سيرين، والثالث: كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء قاله إبراهيم، والرابع: كسوة إزار ورداء وقميص قاله ابن عمر ((والخامس)) : كسوة ما تجزئ فيه الصلاة قاله بعض البصريين. ثم قال ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ يعني او فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير
405
...................... والفك: العتق، قال الفرزدق:
(أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال)
وتجزىء صغيرها وكبيرها وذكرها وأنثاها وفي استحقاق إيمانها قولان:
أحدهما: أنه مستحق ولا تجزىء الكافرة قاله الشافعي،
والثاني: أنه غير مستحق قاله أبو حينفة. ثم قال ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ﴾ فجعل الله الصوم [له] بدلاً من المال عند العجز عنه وجعله مع اليسار / مخيراً بين التكفير بالإطعام والكسوة والعتق، وفيها قولان:
أحدهما: أنّ الواجب منها أحدها لا بعينه عند جمهور الفقهاء
والثاني: أن جميعها واجب وله الاقتصار على أحدها قاله بعض المتكلمين وشاذ من الفقهاء وهذا إذا حُقّق خلف في العبارة دون المعنى واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل:
أحدها: إذا لم يجد قوته وقوت من يقوت [صام] قاله الشافعي،
والثاني: إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام قاله سعيد بن جبير،
والثالث: إذا لم يجد درهمين صام قاله الحسن،
والرابع: إذا لم يجد مائتي درهم صام قاله أبو حنيفة،
والخامس: إذا لم يجد ذلك فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف به لمعاشه صام. وفي تتابع صيامه قولان:
أحدهما: يلزمه قاله مجاهد وإبراهيم وكان أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود
406
...................... يقرءان فصيام ثلاثة أيام متتابعات،
والثاني: إن صامها متفرقاً جاز. قاله مالك وأحد قولي الشافعي ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ يعني وحنثتم، فإن قيل: فلم لم يذكر مع الكفارة التوبة؟ قيل: لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم وترك العزم [على المعاودة] ﴿وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: يعني احفظوها أن تحلفوا
والثاني: احفظوها أن تحنثوا. ﴿يآ أيها الذين ءامنوآ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (٩٠) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (٩١) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين (٩٢) ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (٩٣) ﴾
407
٩٠ - قوله عز وجل ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ الآية اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما روى ابن إسحق عن أبي ميسرة قال: قال عمر بن الخطاب: اللهمّ بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في البقرة ﴿يسألونك عن الخمر والميسر﴾ [٢١٩] فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة النساء ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وأنتم سكارى﴾ [٤٣] وكان منادي رسول الله ﷺ إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربنّ الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في المائدة {إِنَّمَا
407
...................... الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية إلى قوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ فقال عمر: انتهينا انتهينا والثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقّاص وقد لاحى رجلاً على شراب فضربه الرجل بلحي جمل ففزر أنفه قاله مصعب بن سعد والثالث: أنها نزلت في قبيلتين
408
...................... من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض فأنزل الله فيهم هذه الآية قاله ابن عباس فلما حرمت الخمر قال المسلمون ((يا رسول الله كيف بأخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها فأنزل الله - تعالى - ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طمعوا﴾ [٩٣] يعني من الخمر قبل التحريم ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ يعني في أداء
409
...................... الفرائض ﴿وآمنوا﴾ يعني بالله ورسوله، ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ يعني البرّ والمعروف، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ وَأَحْسَنُواْ﴾ يعني بعمل النوافل فالتقوى الأول عمل الفرائض، والتقوى الثاني عمل النوافل، فأما الميسر: فهو القمار، وأما الأنصاب ففيها وجهان:
أحدهما: أنها الأصنام تعبد قاله الجمهور،
والثاني: أنها أحجار [حول] الكعبة يذبحون لها قاله مقاتل وأما الأزلام فهي قداح من خشب يستقسم بها على ما قدّمناه وقوله ﴿رِجْسٌ﴾ يعني حراماً، وأصل الرجس: المستقذر الممنوع منه فعبّر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه ثم قال ﴿مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ أي مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به لأنه [لا] يأمر إلا بالمعاصي ولا ينهي إلا عن الطاعات. {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (٩٤) يا ايها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام
410
......................
411
﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طَعِموا ﴾ [ ٩٣ ] يعني من الخمر قبل التحريم ﴿ إذا ما اتقوا ﴾ يعني في أداء الفرائض ﴿ وآمنوا ﴾ يعني بالله ورسوله، ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ يعني البر والمعروف، ﴿ ثم اتقوا وأحسنوا ﴾ يعني بعمل النوافل فالتقوى الأول عمل الفرائض، والتقوى الثاني عمل النوافل، فأما الميسر : فهو القمار، وأما الأنصاب ففيها وجهان : أحدهما : أنها الأصنام تعبد قاله الجمهور، والثاني : أنها أحجار [ حول ] الكعبة يذبحون لها قاله مقاتل وأما الأزلام فهي قداح من خشب يستقسم بها على ما قدمناه وقوله ﴿ رجس ﴾ يعني حراماً، وأصل الرجس : المستقذر الممنوع منه فعبّر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه ثم قال ﴿ من عمل الشيطان ﴾ أي مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به لأنه [ لا ] يأمر إلا بالمعاصي ولا ينهى إلا عن الطاعات.
٩٤ - قوله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ﴾ في قوله ليبلونكم تأويلان:
أحدهما: معناه ليكلفنكم،
والثاني: ليختبرنكم قاله قطرب والكلبي. وقي قوله ﴿مِّنَ الصَّيْدِ﴾ قولان:
أحدهما: أن " من " للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم يتعلق بصيد / البر دون البحر، وبصيد الحرم والإحرام دون الحل والإحلال،
والثاني: أن " من " في هذا الموضع داخلة للتجنيس نحو قوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] قاله الزجاج. ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ فيه تأويلان،
أحدهما: ما تناله [أيدينا] البيض، ورماحنا الصيد قاله مجاهد،
والثاني: ما تناله أيدينا الصغار ورماحنا الكبار قاله ابن عباس. ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ فيه أربعة تأويلات
أحدها: أنّ معنى ليعلم ليرى فعبّر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه قاله الكلبي،
والثاني: معناه ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب، " والثالث: معناه ليعلموا أنّ الله يعلم من يخافه بالغيب "
والرابع: معناه ليخافوا الله بالغيب والعلم مجاز.
وقوله ﴿بالغيب﴾ يعني في السر كما يخافونه في العلانية، ﴿فمن اعتدى بعد ذلك﴾ يعنى فمن اعتدى في قتل الصيد بعد ورود النهي ﴿فله عذاب أليم﴾ أي مؤلم قال الكلبي نزلت يوم الحديبية وقد غشى الصيد الناس وهم محرمون بعمرة.
٩٥ - قوله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ فيه ثلاثة أقاويل
أحدها: يعني الإحرام بحج أو عمرة قاله الأكثرون،
والثاني: بالمحرم الداخل إلى
411
الحرم، يقال أحرم إذا دخل الحرم، (وأتهم إذا دخل تهامة، وأنجد إذا دخل نجدا، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم قاله بعض أهل البصرة،
والثالث: أنّ اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم وحكم قتل الصيد فيهما على [حد] سواء بظاهر الآية قاله أبو علي بن أبي هريرة ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً﴾ فيه قولان: أحدهما: متعمدا لقتله ناسياً لإحرامه قال مجاهد وإبراهيم وابن جريج، والثاني: متعمداً لقتله ذاكراً لإحرامه قاله ابن عباس وعطاء
والزهري واختلفوا في الخاطىء في قتله / الناسي لإحرامه على قولين:
أحدهما: لا جزاء عليه قاله داود،
والثاني: عليه الجزاء قاله [مالك و] أبو حنيفة والشافعي. ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ يعني أنّ جزاء القتل في الحرم أو الإحرام مثل ما قتل من النعم، وفي مثله قولان:
أحدهما: أنّ قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم قاله أبو حنيفة
والثاني: أنّ عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي. ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ يعني بالمثل من النعم لا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما ﴿هَدْيَاً بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ يريد أي مثل الصيد من النعم يلزمه إيصاله إلى الكعبة وعني بالكعبة جميع الحرم لأنها في الحرم، واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الجزاء ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين:
أحدهما: لا يجوز قاله أبو حنيفة،
والثاني: يجوز قاله الشافعي.
﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه يُقَوَّمُ المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً قاله عطاء والشافعي،
والثاني: يُقَوَّم الصيد ويشتري بقيمة الصيد طعاماً قاله قتادة وأبو حنيفة. ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً﴾ يعني عدل الطعام صياماً، وفيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه يصوم عن كل مد يوماً قاله عطاء والشافعي،
والثاني: يصوم عن كل مد ثلاثة أيام [إلى عشرة
412
...................... أيام] قاله سعيد بن جبير
والثالث: يصوم عن كل صاع يومين قاله ابن عباس. واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين:
أحدهما: أنه على الترتيب إن لم يجد المثل فالإطعام فإن لم يجد الطعام فالصيام قاله ابن عباس ومجاهد وعامر وإبراهيم والسدي،
والثاني: أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء قاله عطاء وأحد قولي ابن عباس وهو مذهب الشافعي. ﴿لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ يعني في التزام الكفارة / ووجوب التوبة ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ﴾ يعني قبل نزول التحريم.
﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ فيه قولان:
أحدهما: يعني ومن عاد بعد التحريم فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً وعقوبة [المعصية] آجلاً،
والثاني: ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله. ﴿فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ " فيه على هذا التأويل قولان، أحدهما: فينتقم الله منه " بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء قاله ابن عباس وداود، والثاني بالجزاء مع العقوبة قاله الشافعي والجمهور. ﴿أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً واتقوا الله الذي إليه تحشرون (٩٦) ﴾
413
٩٦ - قوله عزّ وجلّ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل. ﴿وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ في طعامه قولان:
أحدهما: طافيه وما لفظه البحر قاله أبو بكر وقتادة،
والثاني: مملوحه قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقوله {مَتَاعاً لكم
413
...................... وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني منفعة المسافر والمقيم وحكى الكلبي: أنّ هذه الآية نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون بأسياف البحر سألوا عمّا نضب عنه الماء من السمك فنزلت هذه الآية فيهم. ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ والشهر الحرام والهدي والقلآئد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم (٩٧) اعلموآ أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (٩٨) ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (٩٩) ﴾
414
٩٧ - قوله عزّ وجلّ ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ﴾ في تسميتها كعبة قولان:
أحدهما: سميت بذلك لتربيعها قاله مجاهد،
والثاني: سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم قد كعب ثدي المرأة إذا علا ونتأ وهو قول الجمهور، وسميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم قد كعب ثدي المرآة إذا علا ونتأ وهو قول الجمهور، وسميت الكعبة حراماً لتحريم الله - تعالى - لها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها. وفي قوله ﴿قِيَاماً لِّلنَّاسِ﴾ ثلاثة تأويلات،
أحدها: يعني صلاحاً لهم قاله سعيد بن جبير
والثاني: تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم،
والثالث: قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم. ﴿قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يآ أولي الألباب لعلكم تفلحون (١٠٠) ﴾
١٠٠ - قوله عزّ وجلّ ﴿قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالْطَّيِّبُ﴾ / فيه ثلاثة تأويلات
أحدها: يعني الحلال والحرام قاله الحسن،
والثاني: المؤمن والكافر قاله السدي،
والثالث: الرديء والجيد
414
أو المؤمن والكافر...
415
١٠٠ - ﴿وَلَوْ أعْجَبَكَ﴾ الحلال والجيد مع القلّة خير من الحرام والرديء مع الكثرة قيل لما هم المسلمون بأخذ حجاج اليمامة نزلت. ﴿يآ أيها الذين ءامنوا لا تسئلوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرءان تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (١٠١) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (١٠٢) ﴾
415
١٠١ - ﴿لا تسألوا عن أشياء﴾ لما أحفوا الرسول ﷺ بالمسألة صعد المنبر يوماً فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته فلف كل أنسان منهم ثوبه في رأسه يبكي، فقال رجل كان يدعى إذا لاحى لغير أبيه: يا رسول الله من أبي قال: أبوك حذافة فأنزل الله ﴿لا تسألوا﴾، أو لما قال: كتب الله
415
عليكم الحج فقيل له أفي كل عام؟ فقال: لو قلت نعم لوجبت، اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، أو في قوم سألوا الرسول ﷺ عن البحيرة والسائبة، والوصيلة والحامي. ﴿وإن تسألوا﴾ نزول القرآن عند السؤال موجب لتعجيل الجواب
416
﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ المسألة، أو الأشياء التي سألوا عنها.
417
١٠٢ - ﴿قوم من قبلكم﴾ قوم عيسى - عليه الصلاة والسلام - سألوا المائدة ثم كفروا بها، أو قوم صالح - عليه الصلاة والسلام - سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها، أو قريش سألوا الرسول ﷺ أن يُحَوِّل لهم الصفا ذهباً، أو الذين سألوا الرسول ﷺ مَنْ أَبِي ونحوه فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به.
417
﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (١٠٣) وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءابآءنا أولو كان ءابآؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون (١٠٤) يآ أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون (١٠٥) ﴾
418
١٠٣ - ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ﴾ ما بحر، ولا سيَّب ولا وصل، ولا حمى حامياً. ﴿بَحِيرَةٍ﴾ الناقة تلد خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كان رُبَعة بتكوا أذنيها فلم يشرب لبنها ولم يوقر ظهرها، أو إذا ولدت خمسة أبطن، وكان أخرها ذكراً شقوا إذن الناقة وخلوها فلا تُحلب ولا تُركب، أو البحيرة: بنت السائبة. ﴿سَآئِبَةٍ﴾ مسيبة، كعيشة راضية أي مرضية، كانت تفعله العرب ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها تقرباً إلى الله - تعالى -، وكان بعض أهل الإسلام يعتق العبد سائبة لا ينتفع به ولا بولائه، كان أبو العالية سائبة فمات فلم يأخذ مولاه ميراثه، وقال: هو سائبة، فإذا تابعت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب، ولم يُجَز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى بُحرت أذنها وسميت بحيرة وسيبت مع أمها، أو كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب البعير فلا يركب ولا يجلأ عن ماء. ﴿وَصِيلَةٍ﴾ الوصيلة من الغنم اتفاقاً إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً ذبحوه وأحلوه للرجال دون النساء، وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فسميت وصيلة، او كانت الشاة إذا
418
أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن لا ذكر فيهن جعلت وصيلة / وكان ما تلده بعد ذلك للذكور دون الإناث. أو كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه لآلهتهم قرباناً، وإن ولدت أنثى قالوا: هذه لنا، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لأجلها. ﴿وَلا حَامٍ﴾ إذا نتج البعير من ظهره عشرة أبطن قالوا: حمى ظهره ويخلى، أجمعوا على هذا. ﴿يآ ايها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو ءاخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذاً لمن الأثمين (١٠٦) فإن عثر على أنهما استحقآ إثماً فئاخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينآ إنآ إذاً لمن الظالمين (١٠٧) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوآ أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين (١٠٨) ﴾
419
١٠٦ - ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ الشهادة بالحقوق عند الحكام، أو شهادة الحضور للوصية، أوأيمان عبر عنها بلفظ الشهادة كما في اللعان ﴿عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ أيها المسلمون، أو من حي الموصي، وهما وصيان أو شاهدان يشهدان على وصيته. ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ من غير أهل ملتكم من أهل الكتاب، أو من غير قبيلتكم. ﴿أو آخران﴾ " أو " هنا للتخيير في المسلم والكتابي، أو الكتابي مرتب على [عدم]
419
المسلم، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -. ﴿تحبسونهما﴾ توقفونها للأيمان، خطاب للورثة. ﴿فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ تقديره فأصابتكم مصيبة وقد أوصيتم إليهما. ﴿الصَّلاةِ﴾ العصر، أو الظهر، والعصر، أو صلاة أهل دينهما من أهل الذمّة قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ بالوصيين في الخيانة، أحلفهما الورثة، أو إن ارتبتم بعدالة الشاهدين أحلفهما الحاكم لتزول ريبته، وهذا إنما يجوز في السفر دون الحضر. ﴿ثَمَناً﴾ رشوة أو لا نعتاض عليه بحقير.
420
١٠٧ - ﴿عُثِرَ﴾ اطلع على أنهما كذبا وخانا، عبّر عنهما بالإثم لحدوثه عنهما. ﴿اسْتَحَقَّآ﴾ الشاهدان، أو الوصيان. ﴿فَآخَرَانِ﴾ من الورثة. ﴿يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ في اليمين. ﴿الأَوْلَيَانِ﴾ بالميت من الورثة، أو الأوليان بالشهادة من المسلمين. نزلت بسبب خروج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدَّاء فمات السهمي بأرض لا مسلم بها فلما قدما تركته فقدوا جام فضة مخوص بالذهب، فأحلفهما الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم وُجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت الآيتان، وهما منسوختان عند ابن
420
عباس - رضي الله تعالى عنهما -، قال ابن زيد: لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب واليوم طبق الإسلام الأرض، أو محكمة عند الحسن. ﴿يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم قالوا لا علم لنآ إنك أنت علام الغيوب (١٠٩) ﴾
421
١٠٩ - ﴿لا عِلْمَ لَنَآ﴾ ذهلوا عن الجواب للهول ثم أجابوا لما ثابت عقولهم، أو لا علم لنا إلا ما علمتنا، أو لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، أو لا علم لنا ببواطن أُممنا فإن الجزاء على ذلك يقع قاله الحسن، أو ﴿ماذا أجبتم﴾ بمعنى ماذا عملوا بعدكم. ﴿عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ للمبالغة، أو لتكثير المعلوم، وسؤاله بذلك مع علمه إنما كان ليعلمهم ما لم يعلموه من كفر أممهم، ونفاقهم، وكذبهم / عليهم من بعدهم أو ليفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد ﴿إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهل وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طير بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذآ إلا سحر مبين (١١٠) وإذ أوحيت إلى الحوارين أن ءامنوا بي وبرسولي قالوا ءامنا واشهد بأننا مسلمون (١١١) ﴾
١١٠ - ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِى﴾ ذكره بها وإن كان لها ذاكراً ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامات والمعجزات، أو ليؤكد حجته، ويرد به جاحده. ﴿أَيَّدتُّكَ﴾ قويتك من الأيد، ليدفع عنه ظلم اليهود والكافرين به، أو قوّاه على أمر دينه. ﴿روح الْقُدُسِ﴾ جبريل - عليه السلام - والقدس هو الله - تعالى - ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ﴾ تعرفهم بنبوتك، ولم يتكلم في المهد من الأنبياء غيره، وبعث إليهم لما ولد وكان كلامه معجزة له، وكلمهم كهلاً بالدعاء إلى الله - تعالى - وإلى الصلاة، والزكاة، وذلك لما صار ابن ثلاثين سنة ثم رفع. ﴿الْكِتَابَ﴾ الخط، أو جنس الكتب. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ العلم بما في تلك الكتب، أو جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه ﴿تَخْلُقُ﴾ تصور. ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ الروح، والروح: جسم تولى نفخها في الجسم المسيح، أو جبريل - عليهما السلام - ﴿فَتَكُونُ طَيْراً﴾ تصير بعد النفخ لحماً ودماً، ويحيا بإذن الله لا بفعل المسيح. ﴿وتبرؤء الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ﴾ تدعو بإبرائهما، وبإحياء الموتى فأُجيب دعاءك، نسبه إليه لحصوله بدعائه، ويجوز أن يكون إخراجهم من قبورهم فعلاً للمسيح - عليه الصلاة والسلام - بعد إحياء الله - تعالى - لهم، قال ابن الكلبي: والذين أحياهم رجلان وامرأة.
١١١ - ﴿أوحيت إلى الحواريين﴾ ألهمتهم كالوحي إلى النحل، أو ألقيت إليهم بما أريتهم من آياتي أن يؤمنوا بي وبك فكان إيمانهم إنعاماً عليهم وعليه لكونهم أنصاره. {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (١١٢) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن
422
قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (١١٣) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيداً لأولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (١١٤) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لآ أعذبه أحداً من العالمين (١١٥) }
423
١١٢ - ﴿يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله أو هل تستطيع سؤال ربك ﴿يَسْتَطِيعُ﴾ يقدر، أو يفعل، أو يجيبك ويطيعك. المائدة: ما عليها طعام فإن لم يكن فهي خوان سميت مائدة، لأنها تميد ما عليها أي تعطيه. ﴿اتَّقُواْ اللَّهَ﴾ معاصيه، أو أن تسألوا الأنبياء الآيات عنتاً، أو طلباً لاستزادتها. ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي مصدقين بهم أغناكم دلائل صدقهم عن آيات أُخر.
١١٣ - ﴿نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا﴾ لعلهم طلبوا ذلك لحاجة بهم، أو لأجل البركة. ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ تحتمل بإرسالك، أو بأنه قد جعلنا من أعوانك. ﴿وَنَعْلَمَ﴾ علماً لم يكن لنا بناء على أنّ سؤالهم كان قبل استحكام معرفتهم، أو نزداد علماً ويقيناً إلى علمنا ويقيننا.
١١٤ - ﴿الَّلهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ﴾ سأل ذلك لإظهار صدقه عند من جعله قبل استحكام المعرفة، أو تفضل بالسؤال بعد معرفتهم. ﴿عِيداً﴾ نتخذ يوم أنزالها عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا، أو عائدة من الله - تعالى - علينا وبرهاناً لنا ولمن بعدنا، أو نأكل منها أوَّلنا وآخرنا / ﴿وآية مِّنكَ﴾ على صدق أنبيائك، أو على توحيدك. ﴿وَارْزُقْنَا﴾ ذلك من عندك، أو الشكر على إجابة دعوتنا.
١١٥ - ﴿إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ لما شرط عليهم العذاب إن كفروا بها
423
استعفوا منها فلم تنزل، قاله الحسن - أو نزلت تحقيقاً للوعد، وكان عليها ثمار الجنة، أو خبز ولحم، أو سبعة أرغفة، وسبع جفان، أو سمكة فيها طعم كل طعام، أو كل طعام إلاّ اللحم، أُمروا أن يأكلوا ولا يخونوا ولا يدخروا فخانوا وادهروا فرُفعت، قال مجاهد: ضُربت مثلاً للناس لئلا يقترحوا الآيات على الأنبياء. ﴿عَذَاباً﴾ بالمسخ، أو عذاباً لا يعذب به غيرهم، لأنهم رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم، وذلك العذاب في الدنيا، أو في الآخرة. ﴿الْعَالَمِينَ﴾ عالمي زمانهم، أو جميع الخلق، فيعذبون بجنس لا يعذب به غيرهم. ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلاهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولآ أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (١١٦) ما قلت لهم إلا مآ أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (١١٧) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (١١٨) قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار حالدين فيهآ أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (١١٩) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير (١٢٠) ﴾
424
١١٦ - ﴿وإذ قال الله يا عيسى﴾ قاله لما رفعه إلى السماء في الدنيا، أو يقوله يوم القيامة فيكون ﴿إذ﴾ بمعنى ﴿إذا﴾ وهذا أصح لقوله: ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صدقهم﴾ [١١٩] ﴿أأنت قُلْتَ﴾ سؤال توبيخ لقومه، أو ليعرف المسيح - عليه الصلاة والسلام - أنهم غيروا وقالوا عليه ما لم يقل. ﴿إِلهَيْنِ﴾ لما قالوا إنها ولدت الإله لزمهم أن يقولوا بإلاهيتها للبعضية فصاروا بمثابة القائل بإلاهيتها.
425
(سورة الأنعام)
مكية إلا ثلاث آيات ﴿قل تعالوا﴾ [١٥١] إلى آخر الثلاث، أو مكية إلا آيتين ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ [٩١] نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف والأخرى ﴿وهو الذي أنشأ جنات﴾ [١٤١] نزلت في معاذ بن جبل، أو ثابت بن قيس، قاله ابن عباس - رضي الله - تعالى عنهما - أو
426
كلها مكية نزلت جملة واحدة معها سبعون ألف ملك، قال
427
وهب: " فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود ".
(بسم الله الرحمن الرحيم) ﴿﴾ (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (١) هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (٢) وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (٣) وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (٤) فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنبآء ما كانوا به يستهزءون (٥) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين (٦) }
428
Icon