تفسير سورة المائدة

تفسير المنار
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تفسير المنار .
لمؤلفه رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ
سورة المائدة
وهي السورة الخامسة، وآياتها مئة وعشرون عند القراء الكوفيين وعليه فلوجل، ومئة وثنتان وعشرون عند الحجازيين والشاميين، ومئة وثلاث وعشرون عند البصريين فالخلاف فيها على فاصلتين فقط.
هي مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو في مكة، وإلا فقد روي في الصحيح عن عمر أن قوله تعالى :( اليوم أكملت لكم دينكم ) الخ نزل عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع. وما رواه ابن مردويه عن أبي سعيد أنها نزلت يوم غدير خم، وعن أبي هريرة أنها نزلت في ثامن عشر ذي الحجة مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع كلاهما لا يصح. وروى البيهقي في شعب الإيمان أن أول المائدة نزل بمنى أي عام حجة الوداع. وروي عن عبيد عن محمد ابن كعب أنها نزلت كلها في حجة الوداع بين مكة والمدينة.
أما التناسب بينها وبين سورة النساء فقد قال الكوشي أنه لما ختم سورة النساء آمرا بالتوحيد والعدل بين العباد أكد ذلك الأمر بالوفاء بالعقود. ونقل الآلوسي عن الجلال السيوطي في بيان ذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان. والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ [ النساء : ٥٨ ] فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود. فكأنه قال : يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت وإن كان في السورة أيضا عقود.
قال : ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك ( يا أيها الناس ) وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي. وأول هذه ( يا أيها الذين آمنوا ) وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام ( أي الخطاب الناس كافة ) وشبهِ المكي بأنسب.
قال : ثم إن هاتين السورتين في التلازم والإتحاد نظير البقرة وآل عمران فتانك اتحدتا في تقديم الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما. وهاتان في تقرير الفروع الحكمية، وقد ختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنهما سورة واحدة وقد اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى اه.
أقول : هذا الجمع ما اطلعنا عليه ولم يأت الرازي ولا البقاعي بشيء جديد. وأنت ترى أن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع شيء من ذكر المنافقين والمشركين وهو ما تكرر في سورة النساء وأطيل به في آخرها، فهو أقوى المناسبات بين السورتين وأظهر وجود الاتصال، كأن ما جاء منه في سورة متمم ومكمل لما فيها قبلها. وفي كل من السورتين طائفة من الأحكام العملية في العبادات والحلال والحرام. ومن المشترك فيها من السورتين آيتا التيمم والوضوء، وحكم حل المحصنات من المؤمنات، وزاد في المائدة حل المحصنات من أهل الكتاب، فكان متمما لأحكام النكاح في النساء. ومن المشترك في الوصايا العامة الأمر بالقيام بالقسط والشهادة بالعدل من غير محبة لأحد، وكذا الوصية بالتقوى.
ومن لطائف التناسب فيها أن سورة النساء مهدت السبيل لتحريم الخمر وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء فيما قبلها. وانفردت سورة المائدة بأحكام قليلة في الطعام والصيد والإحرام وحكم البغاة المفسدين وحد السارق وكفارة اليمين، وأمثال هذه الأحكام من كماليات الشريعة المؤذنة بتمامها، كما انفردت النساء بأحكامهن وأحكام الإرث والقتال وهي مما كان يحتاج إليه عند نزولها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الوفاء والإيفاء هو الإتيان بالشيء وافيا تاما لا نقص فيه ﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم ﴾ [ الإسراء : ٣٥ ] و﴿ أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾ [ النحل : ٩١ ] ويقال لمن لم يوف الكيل أخسر الكيل – وكذا الميزان – ولمن لم يوف العهد غدر ونقض، ولكل كلمة موضع. ( والعقود ) جمع عقد بالفتح عقد بالفتح وهو مصدر استعمل اسما فجمع، ومعناه في الأصل ضد الحلّ، وقال الراغب : العقد الجمع بين أطراف الشيء ( أي وربط بعضها ببعض ) ويستعمل في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما اه، ومنه عقدة النكاح. وفسروه في الآية بالعهد إليك لأجل حفظه، ويطلب منك القيام به، يقال عقد اليمين وعقد النكاح : أبرمه ﴿ والذين عقدت أيمانكم ﴾ [ النساء : ٤٤ ] عقد البيع، وعقدوا الشركة. ويقال عاقدته وعاهدته، وتعاقدنا وتعاهدنا. وعهد الله كل ما عهد إلى عباده حفظه والقيام به أو التلبس به اعتقاد وأمر ونهي. وما يتعاقد الناس عليه من العهود هو أوثقها وآكدها، فالعقد أخص من العهد. ( البهيمة ) ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الإبهام، لكن خص في التعاون بما عدا السباع والطير، قاله الراغب. وروي عن الزجاج أن البهيمة من الحيوان ما عقل له مطلقا. وفي القاموس : البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء أو كل حي لا يميز. جمعه بهائم اه.
و( الأنعام ) هي الإبل والبقر : العراب والجواميس، والغنم : والضأن والمعز. وإضافة بهيمة إلى الأنعام للبيان عند الجمهور ( كشجر الأراك ) أي أحلت لكم المشابِهة للأنعام، قيل في الاجترار وعدم الأنياب، والأولى : أن يقال إن وجه الشبه المقتضي للحل هو كونها من الطيبات التي هل الأصل في الحل. ( والحرم ) بضمتين جمع حرام وهو المحرم بالحج أو العمرة. و( شعائر الله ) معالم دينه ومظاهره وغلب في مناسك الحج، واحدها شعيرة اشتقاقه من الشعور. ( والهدي ) جمع هدية كجدي جمع جدية لحشية السرج والرحل، وهو ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ليذبح هنالك، وهو من النسك. ( والقلائد ) جمع قلادة وهي ما يعلق في العنق. وكانوا يقلدون الإبل من الهدي بنعل أو حبل أو لحاء شجر أو غير ذلك ليعرف فلا يتعرض له أحد، كما كانوا يتقلدون إذا أرادوا الحج أو عادوا منه ليأمنوا على أنفسهم. ( ويجرمنكم ) من جرمه الشيء أي حمله عليه وجعله يجرمه أي يكسبه ويفعله، فهو ككسب يتعدى إلى مفعول وإلى المفعولين.
وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة. ( والشنآن ) البغض مطلقا أو الذي يصحبه التقزز من المبغوض، يقال شنأه ( بوزن منع وسمع ) شنأ ( بتثليث الشين ) وشنآنا ( بفتح النون وسكونها ) ومشنأ ومشنأة أبغضه، وشنئ بالضم فهو منشوء أي مبغض وإن كان جميلا، وضده المشنأ ( كمقعد ) وهو القبيح وإن كان محببا، والشنؤة المتقزز والتقزز، وقال الراغب شنئته تقززته بغضا له.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ روي عن ابن عباس أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد إلى عباده ( ما أحل وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا ) وعن قتادة هي عقود الجاهلية أي ما كان من الحلف فيها وعن عبد الله بن عبيدة العقود خمس : عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة البيع وعقدة العهد وعقدة الحلف. والظاهر المتبادر أن الله تعالى أمرنا بالوفاء بجميع العقود الصحيحة التي عقدها علينا والتي نتعاقد عليها فيما بيننا. وفي روح المعاني عن الراغب قال : العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب : عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر : وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان : ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه وإما ببديهة العقل وإما بأدنى نظر، دل عليه قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فذلك ستة أضرب. وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه. والثاني : أربعة أضرب : فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول : علي أن أصوم إن عافاني الله تعالى، والثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث : يستحب ترك الوفاء به وهو ما قال صلى الله عليه وآله وسلم ( إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه ) ١ والرابع : واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول : علي أن أقتل فلانا المسلم٢. فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا، وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل اه.
هذا أجمع كلام رأيته للمفسرين في العقود. وقد تَجدَّدَ لأهل هذا العصر أنواع من المعاملات تبعها أنواع من العقود يذكرونها في كتب القوانين المستحدثة منها ما يجيزه فقهاء المذاهب الإسلامية المدونة ومنها ما لا يجيزونه لمخالفته شروطهم التي يشترطونها، كاشتراط بعضهم الإيجاب والقبول قولا حتى لو كتب اثنان عقدا بينهما على شيء قولا أو كتابة نحو ( تعاقد فلان وفلان على أن يقوم الأول بكذا والثاني بكذا ) من غير ذكر إيجاب وقبول بالقول وأمضيا ما كتباه بتوقيعه أو ختمه، لا يعدونه عقدا صحيحا نافذا وقد يصبغونه بصبغة الدين فيجعلون التزام المتعاقدين لمباح وإيفاءهما به محرما ومعصية لله تعالى لعدم صحة العقد. ويشترطون في بعض العقود شروطا منها ما يستند على حديث صحيح أو غير صحيح، صريح الدلالة أو خفيها، ومنها ما لا يستند إلا على اجتهاد مشترطه ورأيه، ويجيزون بعض الشروط التي يتعاقد عليها الناس ويمنعون بعضا حتى بالرأي.
وأساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة والمختصرة المفيدة ( أوفوا العقود ) وهي تفيد على أن يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقد وارتبط به، وليس على أحد أن يقيد ما أطلقه الشارع إلا ببينة منه. فالتراضي من المتعاقدين شرط في صحة العقد لقوله تعالى :( عن تراض منكم ) وأما الإيجاب والقبول فلا نص فيه وإنما هو عبارة عن العقد نفسه إذ الغالب فيه أن يكون بالصيغة اللفظية قولا أو كتابة، والإشارة تقوم مقام العبارة عند الحاجة كإشارة الأخرس. والفعل أبلغ من القول في حصول المقصد من العقد كبيع المعاطاة الذي منعه بعضهم تعبدا بصيغة الإيحاب والقبول اللفظية، ومثل بيع المعاطاة إعطاء الثوب للغسال أو الصباغ أو الكواء فمتى أخذه منك كان ذلك عقد إجارة بينكما بأجرة المثل. ومن هذا القبيل إعطاء المال لمن بيده تذاكر السفر في سكك الحديد أو البواخر وأخذ التذكرة منه، ومثله دخول الحمام وركوب سفن الملاحين ومراكب الحوذية الذين يأخذون الأجرة بعد إيصال الراكب إلى المكان الذي يقصده.
فكل قول أو فعل يعده الناس عقدا فهو عقدا يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما ثبت في الشرع كالعقد بالإكراه أو على إحراق دار أحد أو قطع شجر بستانه أو على الفاحشة أو أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر ( القمار ) والرشوة فهذا الثلاثة منصوصة في كتاب والسنة. ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر٣ كما في صحيح مسلم وغيره، لأنه من قبيل الميسر في كونه مجهول العاقبة وهو من الغش المحرم أيضا، وقد توسع بعض الفقهاء في تفسير الألفاظ القليلة التي وردت في كتاب والسنة فأدخلوا في معنى الربا والغرر ما لا تطيقه النصوص من التشدد ودعموا تشديداتهم بروايات لا تصح، وأشدهم تضييقا في العقود الشافعية والحنفية، وأكثرهم تسامحا وسعة : المالكية والحنابلة.
ومن الأصول التي بنوا عليها معظم تشديداتهم في ذلك ذهاب بعضهم إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على صحته، وأن كل شرط يخالف مقتضى العقد باطل، وعدوا من هذا ما يمكن أن يقال إنه ليس منه. وإطلاق الوفاء بالعقود والشروط في أمور الدنيا، والحظر لا يثبت إلا بدليل، ويؤيد إطلاق الآية حديث ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم )٤ رواه أبو داود والدارقطني من طريق كثير بن زيد، والترمذي والبزار بزيادة ( إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما )٥ وقال الترمذي حسن صحيح والصواب أنه ضعيف يعتضد كما قيل بحديث ( الناس على شروطهم ما وافقت الحق ) رواه البزار من حديث ابن عمر وهو أشد ضعفا من حديث الصلح الذي ذكره السيوطي في الجامع الصغير بدون زيادة الشروط وعلم عليه بالصحة.
وقد يعترض على هذا بحديث عائشة في قصة بريرة وهو ( ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق )٦ رواه الشيخان وغيرهما. ويجاب بأن المراد بالشرط هنا حاصل المصدر أعني المشروط لا المصدر الذي هو الاشتراط، ولذلك قال لو كان مئة شرط، وأذن باشتراط الولاء لمكاتبي بريرة وهو موضع الإنكار كما يأتي قريبا في بيان سبب هذا الحديث. والمراد بما ليس في كتاب الله ما خالفه كما من سبب الحديث. وإلا كان جميع المسلمين مخالفين لهذا الحديث حتى الظاهرية لأنهم يجيزون في العقود شروطا لا ذكر لها في كتاب الله تعالى. وليس في كتاب الله تعالى شروط لأنواع العقود فيكتفى بها ويقتصر عليها، وإنما الواجب أن لا يشترط أحد شرطا يحل ما حرمه كتاب الله أو يحرم ما أحله، فذلك هو الذي يصدق عليه أنه ليس في كتاب الله إذ في كتاب الله ما يخالفه. وأما اشتراط ما أباحه كتاب الله تعالى بالنص أو الاقتضاء فهو في كتاب الله تعالى.
وفي هذا الحديث بحث آخر، وهو أنه ورد في مسألة دينية من العبادات وهي المكاتبة والولاء، وسبب الحديث بينته رواية عائشة في الصحيحين قالت :( جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت ) فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس فقالت : إني قد عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ) ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :( أما بعد فما بال رجال يشترطون ) الخ فالواقعة في أمر ديني اشترط فيه شرط مخالف لحكم الله فكان لغوا والأمور الدينية موقوفة على النص. وأما الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات وغيرها من المعاملات الدنيوية فالأصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع في تحليل حرام أو تحريم حلال كما تقدم، ومن أدلة هذا الأصل بعد الآية التي نفسرها وما أيدناها به حديث ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) ٧ رواه مسلم من حديث أنس وعائشة، وحديث ( ما كان أمر دينكم فإلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به )٨ رواه أحمد. لهذا تجد الإمام أحمد أكثر أئمة الفقه تصحيحا للعقود والشروط على أنه أوسعهم رواية للحديث وأشدهم استمساكا به،
١ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١١-١٣، ١٦، والترمذي في النذور باب ٦، والنسائي في الإيمان باب ١٥، ١٦، وابن ماجة في الكفارات باب ٧، والترمذي في النذور باب ٩، ومالك في النذور حديث ١١، وأحمد في المسند ٤/٢٥٦، ٣٧٨، ٤٢٨..
٢ ما يجب الوفاء به لا يعد عقدا شرعا إذ ليس للإنسان أن يلتزم الحرام، وأما ما أذن لنا الشارع بعدم الوفاء به في مقابلة كفارة فهو كالمستثنى من الأمر بالوفاء بالعقود، والكفارة لاحترام صورة العقد (المؤلف)..
٣ أخرجه مسلم في البيوع، حديث ٤، وأبو داود في البيوع باب ٢٤، ٢٥، والترمذي في البيوع باب ١٧، والنسائي في البيوع باب ٢٧، وابن ماجة في التجارات باب ٢٣، والدارمي في البيوع باب ٢٠، ٢٩، ومالك في البيوع حديث ٧٥، وأحمد في المسند ١/١١٦، ٣٠٢، ٢/١٥٤، ١٥٥، ٢٥٠، ٣٧٦، ٤٣٦، ٤٣٩، ٤٩٦..
٤ أخرجه الترمذي في الأحكام باب ١٧، وأبو داود في الأقضية باب ١٢، وابن ماجة في الأحكام باب ٢٣، وأحمد في المسند ٢/٣٦٦..
٥ أخرجه الترمذي في الأحكام باب ١٧..
٦ أخرجه االبخاري في البيوع باب ٦٧، والمكاتب باب ١، ٢، والشروط باب ١٣، ومسلم في العتق حديث ٦، ٧، وأبو داود في العتاق باب ٢، والنسائي في البيوع باب ٨٥، ٨٦، ومالك في العتق حديث ١٧، وأحمد في المسند ٦/٨٢، ٢١٣، ٢٧٢..
٧ أخرجه مسلم في الفضائل حديث ١٤١..
٨ أخرجه أحمد في المسند ٥/٢٩٨..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ﴾ أي لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا تتصرفون بها كما تشاءون، وهي معالمه التي جعلها أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال، كمناسك الحج وسائر فرائضه وحدوده وحلاله وحرامه، بل اعملوا فيها بما بينه لكم، ﴿ ولا الشهر الحرام ﴾ : ولا تحلوا الشهر الحرام باستئنافكم قتال المشركين فيه، قيل المراد به هنا ذو القعدة وقيل رجب، والمتبادر أن المراد به جنس الشهر الحرام فيدخل فيه بقية الأربعة الحرم وهي ذو الحجة والمحرم.. وراجع تفسير قوله تعالى ؛ ﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ] في الجزء الثاني من التفسير لتقف على تتمة هذه المسألة.
﴿ ولا الهدى ولا القلائد ﴾ ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إليه تعالى. وإحلاله يكون بمنع بلوغه إلى محله من بيت الله كأخذه لذبحه غضبا أو سرقة أو حبسه عند من أخذه، ولا تحلوا القلائد التي يقلد بها هذا الهدي بنزع القلادة من عنق البعير لئلا يتعرض لها أحد بجهله. وقيل المراد بالقلائد ذوات القلائد من الهدي كأنه قال لا تحلوا الهدي مقلدا ولا غير مقلد، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدي وأشرفه، ويؤخذ من الكشاف أنهم ما كانوا يقلدون إلا البدن ( الإبل ) وقيل الهدي هو ما يقلد، وهذا كما قالوا في ﴿ ولا يبدين زينتهن ﴾ [ النور : ٣١ ] لا يبدين مواضع زينتهن، وقد يدخل في عمومه من يتقلد من الناس ليعرف أنه محرم، وكان من يريد الحج في الجاهلية من يرجع منه يتقلد من لحاء شجره ليأمن على نفسه فلا يعرض له أحد، فأقر الله تأمين المقلد لتعلم العرب أن المتقلد لأجل النسك كان في جوار المسلمين وحمايتهم وبهذا فسر بعضهم الآية.
وقيل إن المراد هنا المنع من أخذ شيء من شجر الحرم لأجل التقلد به عند العودة من أرض الحرم لأن هذا من استحلال قطع شجر الحرم أو التحائه أي أخذ قشر شجره، والظاهر أن المراد بالنهي تحريم التعرض للقلائد نفسها بإزالتها والتعرض للمقلد بها من الهدي لأن كل ذلك يعد من إحلال القلائد حقيقة، فلا حاجة إلى القول بأن النهي عن إحلال القلائد يدل على النهي عن إحلال ذوات القلائد بالأولى، وهذا هو المتبادر عندي، وأما من يقصد الحرم للنسك أو غير النسك فقد حرم التعرض لهم بقوله :﴿ ولا آمين البيت الحرام ﴾ أي ولا تحلوا، قال آمين البيت الحرام أي قاصديه المتوجهين إليه، يقال أمه ويممه وتيممه إذا توجه إليه وعمده وقصد إليه مستقيما لا يلوي إلى غيره. والبيت الحرام هو بيت الله المعروف بمكة المكرمة الذي حرمه وما حوله أي منع أن يصاد صيده وأن يقطع شجره وأن يختلى خلاه – أي يؤخذ نباته وحشيشه – وجعله آمنا لا يروع من دخله ( راجع ﴿ من دخله كان آمنا ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] في أول الجزء الرابع ).
﴿ ويبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ﴾ أي يطلبون بأمهم البيت وقصده التجارة والحج معا. أو ربحا في التجارة ورضاء من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا فلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم، وبهذا فسره ابن جرير ورواه عن أهل الأثر بناء على أن المراد بالكلام هنا المشركون. فروي عن قتادة أنه قال هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم. وفي رواية أخرى عنه : والفضل والرضوان الذي يبتغون : أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها. وروي عن مجاهد أنه قال : يبتغون الأجر والتجارة. وعن ابن عمر أنه قال في الرجل يحج ويحمل معه متاعا ( لا بأس به ) وتلا الآية. ولم يرو فيها عن ابن عباس إلا أنه قال :( يترضون ربهم بحجهم ) وروى عبد بن حميد عن الربيع بن أنس أنه فسر الفضل من ربهم بالتجارة والرضوان بالحج نفسه. ولهذا قال قتادة ومجاهد وغيرهما أن هذه العبارة من الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة براءة :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وقال بعضهم إنها نسخت بقوله تعالى في المشركين ﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] وقال أبو مسلم المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر اه أي لم ينسخ الحكم ولكن زال الوصف الذي نيط به، وقال بعض المفسرين : إن الآية في المسلمين، فهي محكمة وحكمها باق فلم تنسخ ولم ينته حكمها. ومن فسر القلائد بمن كان يتقلد من المشركين قال إن النهي عن إحلالها منسوخ أيضا. وقد روي أن هذه السورة من آخر القرآن نزولا وإنه ليس فيها شيء منسوخ.
أما ما رواه أهل المأثور في سبب نزول الآية وكونها في المشركين فهو- كما روى جرير عن السد – أن الحطم بن هند البكري أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وخلف خيله خارجة من المدينة فدعاه فقال إلى من تدعو ؟ فأخبره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ( يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال انظر ولعلي أسلم ولي من أشاوره. فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ) فمر بسرح من سرح المدينة فساقه... ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد وأهدى فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه فنزلت الآية حتى بلغ ( لا آمين البيت الحرام ) فقال له ناس من أصحابه يا رسول الله خل بيننا وبينه فإنه صاحبنا. قال ( إنه قد قلد ) قالوا : إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأبي عليهم فنزلت هذه الآية.
وروي عن ابن جريج عن عكرمة أن الحطم قدم المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم. فلما ولى خارجا نظر إليه فقال لمن عنده ( لقد دخل علي بوجه فاجر وولى بقفا غادر ) فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه في عيره فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) فانتهى القوم.
( ثم قال ابن جرير ) قال ابن جريج : قوله ( لا آمين البيت الحرام ) قال ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم ( قال ) وذلك أن الحطم قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر فقال إني داعية قوم فاعرض علي ما تقول. قال له ( أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشكرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت ) قال الحطم : إن في أمرك هذا غلظة، فأرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت فإن قبلوا أقبلت معهم وإن أدبروا كنت معهم. قال له ( ارجع ) فلما خرج قال ( لقد دخل علي بوجه كافر، وخرج من عندي بعقبى غادر، وما الرجل بمسلم ) ففاتهم وقدم اليمامة وحضر الحج فجهز خارجا وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه. فأنزل الله عز وجل ( لا تحلوا شعائر الله ) الخ وأنت ترى هذه الروايات متعارضة وسواء صحت أو لم تصح فالآية على إطلاقها وعمومها، والمفيد من مثل هذه الروايات معرفة أحوال أهل ذلك العصر، فإنها تعين على الفهم.
﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة ومن أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم فإنما حرم عليكم الصيد في أرض الحرم وفي حال الإحرام فقط، فهذا تصريح بمفهوم قوله في الآية السابقة ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) والأصل في الأمر بالشيء يجيء بعد حظره أن يكون للإباحة أي رفع ذلك الحظر كقوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾ [ الجمعة : ١٠ ] – أي بالبيع والكسب – الذي جاء بقوله :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾ [ الجمعة : ٩ ] ومنه حديث ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ) ١ رواه ابن ماجه، وله شاهد في صحيح مسلم من غير تعليل. وما كان الأصل فيه الإباحة قد يجب أو يندب أو يحظر لعارض يقتضي ذلك.
﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر بن عاصم وإسماعيل عن نافع شنآن بسكون الأولى والباقون بفتحها وهما لغتان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( إن صدوكم ) بكسر إن على أنها شرطية والباقون بفتحها على أنها للتعليل. وهذه القراءة تشير إلى صد المشركين المؤمنين عن العمرة عام الحديبية وتنهاهم أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع الذي نزلت فيه السورة لأجل اعتدائهم السابق، والمعنى عليه ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام. ومعنى القراءة الأخرى أنه لا يباح للمسلمين أن يعتدوا على أعدائهم إن صدوكم عن المسجد الحرام أي النسك فيه وزيارته ولو للتجارة. واستشكل بأن هذا قد نزل بعد فتح مكة ولم يكن يتوقع صد أحد وبأنه معارض لقوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] وأجيب بأن الشرط على معنى الماضي بتقدير الكون أي إن كانوا صدوكم عن المسجد الحرام، ويمكن أن يقال إن ورود هذا بعد فتح مكة وظهور الإسلام على الشرك وأهله لا إشكال فيه لأن الأحكام قد تبنى على الفرض، ولأن هذا الصد قد يقع من المسلمين بعضهم لبعض كما يفعله بعض أمراء مكة في عصرنا من منع بعض العرب – كأهل نجد – من الحج لأسباب دنيوية – كأخذ بعض أمراء نجد الزكاة من بعض القبائل الذين يعدهم أمراء مكة تابعين لهم.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ( فاصطادوا ) داخلة في حيز شرطه ويكون المعنى : أن الصيد الذي كان محرما عليكم حال كونكم حرما يحل لكم إذا حللتم وأما الاعتداء على من تبغضونهم فلا يباح لكم وأنتم حل، كما أنه لا يباح لكم وأنتم حرم، وإن كانوا صدوكم عن المسجد الحرام من قبل. وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل لأنه نهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عنه حدود العدل، ولم أر من نبه على هذا ولا من حرر هذا المبحث، ولكن أجاز بعضهم أن يكون هذا من توجيه النهي إلى المسبب وإرادة السبب، كقوله ( لا أرينك ها هنا ) فالمراد النهي عن البغض والعداوة وجعلها حاكمة على النفس، حاملة لها على الاعتداء والبغي، ولا ينفي هذا أن يكون لكل نوع من أنواع الاعتداء كالصد عن المسجد الحرام جزاء خاص يعرف بدليله.
ولما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفى على النهي عن الاعتداء بقوله ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ ( البر ) التوسع في فعل الخير، قاله الراغب، وسيأتي تحقيقه ( والتقوى ) اتقاء كل ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه فعلا أو تركا، ( والإثم ) فسره الراغب بأنه كالآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ( العدوان ) تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة والخروج عن العدل فيها. وفي الحديث ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس )٢ رواه مسلم وأصحاب السنن عن النواس بن سمعان ( رض ) أنه قال أتيت رسول الله صلى عليه وسلم فقال ( جئت تسأل عن البر ) وفي رواية ( جئت تسأل عن البر والإثم ) قلت نعم – وكان قد جاء لأجل ذلك فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما في
١ أخرجه مسلم في الجنائز حديث ١٠٦، وابن ماجة في الجنائز باب ٤٧، ومالك في الضحايا حديث ٨، وأحمد في مسند ٣/٣٨..
٢ أخرجه مسلم في البر حديث ١٤، ١٥، والترمذي في الزهد باب ٥٢، والدارمي في الرقاق باب ٧٣، وأحمد في المسند ٤/١٨٢..
قال الله تعالى في أول الآية الأولى من هذه السورة أحلت لكم بهيمة الإنعام إلا ما يتلى عليكم } ثم بين هذا الاستثناء بقوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ﴾ الآية. وهذه المحرمات الثلاثة قد ذكرت بصيغة الحصر في سورة الأنعام بقوله تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ] وفي سورة النحل بقوله عز وجل :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ﴾ [ النحل : ١١٥ ] وختم كلا من هاتين الآيتين بقوله :﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ﴾ وقد نزلت آية المائدة التي نحن بصدد تفسيرها بعد هاتين الآيتين وليست ناسخة للحصر فيهما بزيادة المحرمات في قوله :﴿ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ بل هذا شرح وتفصيل للميتة وما أهل به لغير الله كما سنبينه. فمحرمات الطعام أربعة بالإجمال وعشرة بالتفصيل وهاك بيانها وحكمة تحريمها.
الأول : الميتة : يراد بالميت عند الإطلاق ما مات حتف أنفه أي بدون فعل فاعل، والتأنيث هنا وفي قوله والمنخنقة الخ لأنه وصف للشاة كما قالوا وهي تطلق على الذكر والأنثى من الغنم وإن كانت موضوعة في الأصل للأنثى. والمراد الشاة وغيرها من الحيوان المأكول. ولك أن تقدر البهيمة بدل الشاة ولفظها أعم وهو الذي ورد في قوله ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ). فلما كانت هذه الآية مبينة لما استثنى من حل بهيمة الأنعام صار المناسب أن نقول : إن الميتة هنا صفة للبهيمة أي حرمت عليكم البهيمة الميتة. والمراد من الميتة في عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله تذكية جائزة، فيدخل في عمومه جميع ما يأتي مع اعتبار قاعدة : إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما وراء الخاص. وحكمة تحريم ما مات حتف أنفه أنه يكون في الغالب ضارا لأنه لا بد أن يكون قد مات بمرض أو ضعف أو نسمة خفية مما يسمى الآن بالميكروب انحلت به قواه أو ولد فيه سموما، وقد يعيش ميكروب المرض في جثة الميت زمنا، ولأنه مما تعافه الطباع السليمة وتستقذره وتعده خبيثا، المشهور عند علمائنا أن سبب ضرر الميتة احتباس الرطوبات فيها. وفيه بحث سيأتي في الكلام على التذكية.
الثاني : الدم : والمراد به المسفوح أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلكم، بخلاف المتجمد في الطبيعة كالطحال والكبد، وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يعد مسفوحا، وحكمة تحريم الدم والضرر والاستقذار أيضا كما قيل في الميتة، إما كونه خبثا مستقذرا عند الناس فظاهر، وإما كونه ضارا فلأنه عسر الهضم جدا ويحمل كثيرا من المواد العفنة الميتة التي تنحل من الجسم، وهي فضلات لفظتها الطبيعة كما تلفظ البراز واستعاضت عنها بمواد حية جديدة من الدم، فالعود إلى التغذي بها يشبه التغذي بالرجيع، وقد يكون في الدم جراثيم بعض الأمراض المعدية وهي تكون فيه أكثر مما تكون في اللحم، وكذا اللبن الذي أعده الخالق الحكيم في أصل الطبيعة للتغذي به، ومع هذا ترى الأطباء متفقين على وجوب غلي اللبن لأجل قتل ما عساه يوجد فيه من جراثيم الأمراض المعدية. والدم لا يغلى كما يغلى اللبن بل يجمد بقليل من الحرارة، وحينئذ تبقى جراثيم المرض فيها حية تؤثر في الجسم الذي تدخله.
فإن قيل إن المشهور عن الأطباء أن الدم مادة الحياة الحيوانية الفعالة في الصحة فإذا أمكن للإنسان أن يضيف دم غيره من الأحياء إلى دمه فالقياس أنه لا يزيده ذلك إلا صحة وقوة. والجواب أن هذا لا يؤخذ على إطلاقه ولم يثبت عند الأطباء أن شرب الدم المسفوح أو أكله بعد أن يجمد بنفسه أو بالطبخ مفيد للصحة والقوة ولا أنه يزيد الدم ولذلك لا يفعلونه ولا يأمرون الناس به، ولا يقولون إن معدة الناس تقوى على هضمه والتغذي به بسهولة، وإنما يتولد الدم مما يهضم من الطعام، نعم يمكن أن يحقن ضعيف الدم بدم حيوان سليم فيزيده ذلك قوة، وهذا غير محرم ولا مما نحن فيه.
الثالث : لحم الخنزير : وحكمة تحريمه ما فيه من الضرر وكونه ما يستقذر أيضا، وإن كان استقذاره ليس لذاته كالميتة والدم، بل هو خاص بمن يتذكر ملازمته للقاذورات ورغبته فيها، ولهذا المعنى ورد النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها وهي التي تأكل العذرة والجلة أي البعر ( والجلالة صيغة مبالغة وهي كالجلة بفتح الجيم وتشديد اللام ) فروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة- وصححه الترمذي منهم كما صححه البيهقي – عن ابن عباس ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلالة )١ وروي بلفظ ( عن أكل الجلالة وشرب ألبانها ) وصححه ابن دقيق العيد. وروى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ابن ماجة عن ابن عمر مثله قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلال وألبانها )٢ وقد اختلف في وصله وإرساله. واختلف العلماء في النهي عن الجلالة من الأنعام وغيرها كالدجاج والإوز هل العبرة بعلفها قلة وكثرة أم العبرة برائحة لحمها ؟ وهل النهي للتحريم أم للكراهة ؟ وقال بعض أئمة الفقه لا تؤكل حتى تحبس عن أكل القذر أياما، واختلفوا في مدة الحبس، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا ولم ير بأكلها بأسا. والغرض من هذا أن الإسلام طيب أحل الطيبات وحرم الخبائث وبالغ في أمر النظافة فلا غرو إذا عد أكل الخنازير للقاذورات علة أو حكمة من علل تحريم لحمه أو حكمها وإن لم يترتب عليه ضرر فكيف إذا ترتب عليه ضرر عظيم.
وأما كون لحم الخنزير ضارا فهو مما يثبته الطب الحديث. وجل ضرره ناشيء من أكله للقاذورات، فمنه أنه يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة نعوذ بالله منها، وسبب سريان ذلك إليه أكل العذرة، ومنه أنه يولد دودة أخرى يسميها الأطباء الشعرة الحلزونية وهي تسري إلى الخنازير من أكل الفيران الميتة، ومنه أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم في أليافه العضلية، وقد تحول الأنسجة الدهنية التي فيه دون عصير المعدة فيعسر هضم المواد الزلالية للعضلات فتتعب معدة آكله ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة وإلا تهيجت الأمعاء وأصيب بالإسهال. ولولا العادة التي تسهل على كثير من الناس تناول السموم أكلا وشربا وتدخينا، ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره، لما أمكن الناس أن يأكلوه ولاسيما أهل البلاد الحارة. ومن أراد أن يعرف كنه الضرر الذي ذكرناه مفصلا بعض التفصيل فليراجع المجلد السادس من المنار ( ص ٣٠٢ – ٣٠٨ ).
فإن قلت إن آية الأنعام عللت تحريم أكل لحم الخنزير بكونه رجسا فهل معنى ذلك أكله للقذر، أم ما فيه من ضرر ؟ فاعلم أن لفظ الرجس يطلق على كل ضار مستقبح حسا أو معنى، فيسمى النجس رجسا ويسمى الضار رجسا، ومن الأخير قوله تعالى :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] فتعليل آية الأنعام يشمل الأمرين اللذين ذكرناهما معا، فهي من إيجاز القرآن الذي لا يصل الناس إلى شرحه وتفصيله إلا باتساع دائرة علومهم وتجاربهم.
الرابع : ما أهل لغير الله به : وهذا هو الذي حرم لسبب ديني محض لا لأجل الصحة والنظافة كالثلاثة الماضية، والمراد به ما ذبح أو نحر على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح. والإهلال رفع الصوت. يقال أهل فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية له، ومنه استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة. وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون صوتهم بقولهم : باسم اللات أو باسم والعزى. وحكمة تحريم أكل هذا أنه من عبادة غير الله تعالى فالأكل منه مشاركة لأهله فيه ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره، ورفع الصوت ليس هو علة التحريم ولا شرطا له بل هو البيان الواقع، وإنما سبب التحريم ما ذكرناه من كونه من عبادة غير الله تعالى، ويدخل فيما أهل به لغير الله ما ذكر عند ذبحه اسم نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء، كما يفعله بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
الخامس : المنخنقة : قال صاحب القاموس :( خنقه خنقا ( ككتف ) وخنقا فهو خنق أيضا ( أي ككتف ) وخنق ومخنوق كخنقه فاختنق، وانخنقت الشاة بنفسها ) وقد روى ابن جرير في تفسير المنخنقة أقوالا عن مفسري السلف في هذا المعنى، فعن السدي أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك : التي تختنق فتموت، وعن قتادة التي تموت في خناقها. وفي رواية الضحاك : الشاة توثق فيقتلها خناقها. وفي رواية أخرى عن قتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها. قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال هي التي تختنق إما في وثاقها أو بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص حتى تموت. وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب في التأويل من غيره لأن المنخنقة هي الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها. ولو كان معنيا بذلك أنها مفعول بها لقيل والمخنوقة حتى يكون معنى الكلام ما قالوا اه وهو المختار عندنا لأنه هو المعنى اللغوي المنطبق على حكمة الشارع.
ويغلط من يقول إن فعل الانخناق هنا مما يسمونه فعل المطاوعة كما قال الصرفيون في مثل كسرته فانكسر. ويتوهم من لا ذوق له في اللغة أن هذه الصيغة لا تجيء إلا لما كان أثر لفعل فاعل مختار ككسوته فانكسر. والصواب أن هذه فلسفة باطلة، وأن العربي القح إنما يقول انكسر الشيء إذا كان يعلم أنه انكسر بنفسه أو يجهل من يكسره. إلا إذا كان المقام مقام تعبير عن شيء تعاصى كسره على الكاسرين ثم انكسر بفعل أحدهم، وهذا لا يتأتى إلا في بعض المواد. وأرى ذوقي يوافق في مادة الخنق ما يفهم منه إلا ما كان بفعل الحيوان بنفسه كما قال ابن جرير.
ويؤيد هذا الفهم الذي جزم ابن جرير بأنه هو الصواب الجمع به بين هذه الزوائد في سورة المائدة بين حصر المحرمات في الأربعة الأولى منها. فالمنخنقة بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله، فهي داخلة في عموم الميتة بالمعنى الشرعي الذي بيناه في تفسيرها، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب في الجاهلية كانوا يأكلونها ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا، وإنما العبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها. ولو أراد تعالى بالمنخنقة المخنوقة بفعل الإنسان لعبر بلفظ المخنوقة أو الخنيقة لأنه حينئذ يفيد أن الخنق وإن ضربا من التذكية بفعل الفاعل لا يحل، ويفهم منه تحريم المنخنقة بالأولى، بل يفهم هذا من لفظ الميتة أيضا كما تقدم، فالعدول إلى صيغة المنخنقة لا تعقل له حكمة إلا الإشعار بكون المنخنقة في معنى الميتة.
السادس : الموقوذة : وهي التي ضربت بغير محدد حتى انحلت قواها وماتت. قال في القاموس : الوقذ شدة الضرب. قال شارحه : وفي البصائر للمصنف : الموقوذة هي التي تقتل بعصا أو بحجارة لا حد لها
١ أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٤، والترمذي في الأطعمة باب ٢٤، والنسائي في الضحايا باب ٤٤..
٢ أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٤، والترمذي في الأطعمة باب ٢٤، وابن ماجة في الذبائح باب ١١..
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ الخ أي يسألك المؤمنون أيها الرسول : ماذا أحل لهم من الطعام أو اللحوم خاصة ؟ والسؤال يتضمن معنى القول فهو حكاية لقولهم، وإنما قال ( لهم ) لا ( لنا ) مراعاة لضمير الغائب في ( يسألونك ) ويجوز في مثله مراعاة اللفظ كما هنا ومراعاة المعنى، يقولون : أقسم زيد ليفعلن كذا. وقد ذكر أهل التفسير المأثور عدة روايات في هذه السؤال منها حديث أبي رافع عند الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه البيهقي في سننه وملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب في المدينة جاء الناس فقالوا يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل الله الآية فقرأها، وذكر مسألة صيد الكلاب وأكل ما أمسكن منه كأنه تفسير لها.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عامر أن عدي بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول حتى أنزل الله هذه الآية في المائدة لم تنزل دفعة واحدة كما هو ظاهر روايات أخرى، وإلا فهي مروية بالمعنى وهو المختار عندنا.
﴿ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله ﴾ الطيب ضد الخبيث والمقابلة بينهما في القرآن كثيرة كقوله تعالى ﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] وقد استعملا في الأناسي والأشياء والأفعال والأقوال ومنه مثل الكلمة الخبيثة والكلمة الطيبة في سورة الرعد، ومنه ( بلدة طيبة ). قال الراغب : المخبث والخبيث ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أو معقولا، وأصله الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد. اه وقال في الحرف الآخر : وأصل الطيب ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس اه فجعل الطيب أخص من مقابله في بابه، والصواب ما قلناه، والطيبات من الطعام هي ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة المعتدلة المعيشة بمقتضى طبعها فتأكله باشتهاء، وما أكله باشتهاء هو الذي يسيغه ويهضمه بسهولة فيتغذى به غذاء صالحا. وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ولا ينال منه غذاء صالحا، بل يضره غالبا.
فما حرمه الله في الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة لفطرته التي فطر الناس عليها، فما زال السواد الأعظم من أصحاب الطباع السليمة والفطرة المعتدلة يعافون أكل الميتة حتف أنفها وما ماثلها من فرائس السباع والمرديات والنطائح ونحوها، وكذلك الدم المسفوح، وأما لحم الخنزير فإنما يعافه من يعرف ضرره وانهماكه في أكل الأقذار. قال المفسرون سميت الصوائد جوارح من الجرح بمعنى الكسب فهي كالكاسب من الناس قال تعالى :﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] أي كسبتم، وقيل من الجرح بمعنى الخدش أي أن من شأنها أن تجرح ما تصيده، و( مكلبين ) اسم فاعل من التكليب وهو تعليم الجوارح وتأديبها وإضراؤها بالصيد، وأصله تعليم الكلاب، غلب لأنه الأكثر، وقيل إنه من الكلب. ( بالتحريك ) بمعنى الضراوة يقال : هو كلب ( ككتف ) بكذا، إذا كان ضاربا به، وموضع ( مكلبين ) النصب على الحال، وكذلك جملة ( تعلمونهم مما علمكم الله ) أو هي استئناف، أي أنتم تعلمونهن مما علمكم الله، أي مما ألهمكم الله إياه وهداكم إليه من ترويضها والانتفاع بتعليهما، وما ألهمكم ذلك الانتفاع إلا وهو يبيحه لكم. ونكتة هذه الجملة على القول بأنها حالية مراعاة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت فتصطاد لنفسها ولا تمسك على صاحبها، وإمساكها عليه شرط لحل صيدها نص عليه في الجملة التي بعد هذه. وهذا التعليل الذي ألهمنيه الله تعالى أظهر مما قالوه من أنه المبالغة في اشتراط التعليم. وإذا كانت الجملة استئنافا فنكتتها تذكير الناس بفضل الله عليهم بهدايتهم إلى مثل هذا التعليم، على سنة القرآن في مزج الأحكام بما يغذي التوحيد وينمي الاعتراف بفضل الله وشكر نعمه. وغاية الجارح أن يتبع الصيد بإغراء معلمه أو الصائد به ويجيب دعوته وينزجر بزجره ويمسك الصيد عليه.
والمعنى أحل لكم أكل الطيبات كلها وصيد ما علمتم من الجوارح بشرطه أما الطيبات فظاهر الحصر في آيتي الأنعام والنحل أن كل ما عدا المنصوص من المحرمات طيب فهو حلال، ولولاه لكان الظاهر أن يقال إن من الطعام ما هو خبيث محرم بنص الكتاب وهو ما ذكر في الآية السابقة، ومنه ما هو طيب حل بنص الكتاب كبيهمة الأنعام وصيد البر والبحر أي ما شأنه أن يصاد منهما. فأما البحر فكل حيوانه يصاد، وأما البر فإنما يصاد منه للأكل في العادة والعرف الغالب ما عدا سباع الوحش والطير، فتكون هذه السباع حراما، وهو ظاهر حديث ابن عباس ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ) ١ وحديث أبي ثعلبة الخنشي ( كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ) ٢ رواهما أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا الترمذي في الأول وأبا داود في الثاني.
ومن أخذ بالحصر في الآيتين جعل النهي عما ذكر نهي الكراهة وهو المشهور من مذهب مالك كما قال ابن العربي، وقال ابن رسلان : مشهور مذهبه على إباحة ذلك وهو لا ينافي كراهة التنزيه، وكأنه يرى أن حديث أبي ثعلبة مروي بالمعنى إن كان قد بلغه، والسبع عند الشافعي ما يعدو على الناس والحيوان فيخرج الضبع والثعلب لأنهما لا يعدوان على الناس، وعند أبي حنيفة كل ما أكل اللحم، قالوا : فيدخل فيه الضبع والضب والنهر، واليربوع والفيل( ؟ ). على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز أكل الضب كما في حديث خالد بن الوليد وحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما، وأحاديث أخرى، وصرح بأنه يعافه لأنه لم يكن في الأرض قومه، وأجاز أكل الضبع، رواه أحمد والشافعي وأصحاب السنن وغيرهم وصححه الترمذي وغيره، وهو يدل لما ذكرناه من أخذ تحريم السباع من مفهوم الصيد، ونصه عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن أبي عمارة قال : قلت لجابر : الضبع أصيد هي ؟ قال نعم، قلت آكلها ؟ قال نعم، قلت آكلها ؟ قال نعم، قلت أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم.
ويمكن أن يقال أيضا – لولا ما ذكر من الحصر - : إن ما نص في االكتاب على حله أو حرمته قسمان طيب حلال وخبيث حرام، وهل العبرة في التمييز بينهما ذوق أصحاب الطباع السليمة أو يعمل كل أناس بحسب ذوقهم ؟ كل من الوجهين محتمل، والموافق لحكمة التحريم الثاني وهو أنه يحرم على كل أحد أن يأكل ما تستخبثه نفسه وتعافه لأنه يضره ولا يصلح لتغذيته، ولذلك قال بعض الحكماء : ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك. ويروي الشافعي أن العبرة ذوق أصحاب الطباع السليمة من العرب الذين خوطبوا بهذا أولا، ويرد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم عاف أكل الضب وعلله بأنه ليس في أرض قومه وأذن لغيره بأكله وصرح بأنه لا يحرمه، فلا يحكم بذوق قوم على ذوق غيرهم، وليس هذا الأمر يتعلق باللغة حتى يقال إنهم هم الذين خوطبوا بهذا االنص أولا فالعبرة بما يفهمونه منه، والناس لهم فيه تبع، بل هو أمر متعلق بالأذواق والطباع، ومعناه أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى دون ما يستخبث ويعاف، وحينئذ تكون العبرة بالسواد الأعظم من سليمي الطباع غير ذوي الضرورات والمعيشة الشاذة، أو يختلف الطباع بين الأقوام. واختلف الفقهاء فيما ينتن أيحرم أم يكره ؟ وهو خبيث لغة وعرفا، ولا يرد على الحصر المار لأن خبثه عارض وكل حلال يعرض له وصف يصير به ضارا يحرم كاختمار العصير فإن زال حل كتخلل الخمر.
وأما صيد الجوارح فقد قيد النص حله بأن يكون الجارح الذي صاده مما أدبه الناس وعلموه الصيد حتى يصح أن ينسب الصيد إليهم ويكون قتل الجارح له كتذكية مرسله إياه، فيخرج بذلك عن أن يكون من الفرائس ويمسك الصيد على الصائد، وذلك أن قوله ﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ أي كلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم، أي تصيده لأجلكم فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه فإن أكلت منه لا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور لأنه مثل فريسة السبع المحرمة في الآية السابقة، بل هي منها، لأن الكلاب ونحوها من السباع، وكذلك تسمى السباع كلابا، ومنه حديث ( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) روى أحمد والشيخان عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه٣، وفي رواية ( إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله، فإن امسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة ) الحديث متفق عليه، والحكم مجمع عليه.
روي عن بعض السلف الأخذ بظاهر عموم ( مما أمسكن ) فقالوا كل ما جاء به الكلب أو غيره أكل منه أو لم يأكل فهو قد أمسكه على صاحبه، فله أكله. روى ابن جرير وغيره نحو هذا عن ابن عمر وسعد، وعن أبي هريرة وسلمان أنهما قالا ( وإن أكل ثلثيه وبقي الثلث فكل ) وعليه مالك. وفرق آخرون بين الكلاب ونحوها من السباع وبين الطير كالبازي فأباحوا ما أكل منه الطير دون الكلب. روى ابن جرير هذا عن ابن عباس وعطاء والشعبي وإبراهيم النخعي.
ومن أسباب الخلاف في المسألة الخلاف في حد التعليم الذي اشترطه الكتاب في حل صيد الجوارح وأكد اشتراطه حتى لا يتساهل المسلم الضعيف النفس في أكل فضلات الكلاب والسباع. وقد اكتفى بعض العلماء في حد التعليم بطاعة الكلب ونحوه لمعلمه ثلاث مرات. هذا عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة مرتين. وعند الشافعية العبرة بالعرف. وحقيقة التعليم عند الجمهور أن يطلب الكلب أو البازي أو غيرهما الصيد إذا أغرب به ويجيب إذا دعي – ويسمى ذلك إشلاء واستشلاء – ولا ينفر من صاحبه وأن يمسك الصيد عليه. وموضع الخلاف في هذا الإمساك المنصوص هل يشترط فيه أن لا يأكل الجارحة منه شيئا قط ؟ أم يعد كل ما جاء إمساكا على صاحبه وإن أكل بعضه ؟ الجمهور على الأول وهو الذي قدمناه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي المتفق عليه ( فإني أخاف أن أكون إنما أمسك على نفسه ) وهذا الحديث معارض بحديث أبي ثعلبة الخشني قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب :( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك ) رواه أبو داود٤ وفي إسناد داود بن عمرو الأودي الدمشقي عامل واسط وثقه يحيى بن معين وقال أحمد حديثه مقارب وقال أبو زرعة : لا بأس به، وقال ابن عدي : ولا أرى برواياته بأسا، وقال العجلي : ليس بالقوي، وقال أبو زرعة : فالرازي هو شيخ. ومعنى قوله ( ما ردت يدك ) ما صدته بيدك مباشرة.
قال الحافظ ابن كثير : وقد طعن في حديث ثعلب وأجيب بأنه صحيح لا شك فيه. وفي رواية أخرى له عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل ما ردت عليك قوسك وكلبك )٥ زاد ابن حرب ( المعلم ويدك فكل ذكيا وغير ذكي ) قال الخطابي في تفسير ذكي وغير ذكي : يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد بالذكي ما أمسك علي
١ أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٨، ٢٩، ومسلم في الصيد حديث ١٢-١٥، والترمذي في الصيد باب ١١، والأطعمة باب ٦، وأبو داود ففي الأطعمة باب ٢٥، ٣٢، والنسائي في البيوع باب ٧٩، والصيد باب ٢٨، ٣٠، ٣١، ٣٣، واابن ماجه في الصيد باب ١٣، والدارلامي في الأضاحي باب ١٨، ومالك غفي الصيد حديث ١٣، ١٤، وأحمد في المسند ١/٢٤٤، ٢٨٩، ٣٠٢، ٣٢٦، ٣٢٧، ٣٣٢، ٣٣٩، ٣٧٣، ٢/٢٣٦، ٤١٨، ٣/٣٢٣، ٤/٨٩، ٩٠، ١٣١، ١٣٢، ٦/٣٣٥..
٢ تقدم الحديث مع تخرجه، راجع الحاشية ما قبل السابقة..
٣ أخرجه أحمد في المسند ١/١٣١. والبخاري في الذبائح باب ٨ ومسلم في الصيد حديث ٣..
٤ كتاب الأضاحي باب ٢٢..
٥ أخرجه أبو داود في الأضحي باب ٢٢، والترمذي في الصيد باب ١، والنسائي في الصيد باب ١٦، وابن ماجه في الصيد باب ٥، وأحمد في المسند ٤/١٥٦، ٥/٣٨٨..
ثم قال عز وجل ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ ﴾ للاتصال بين الآية وما قبلها مناسبة غير سرد أحكام الطعام، وبيان أحكام الحلال والحرام، وهي أن سبب مشروعية التذكية التفصي من أكل المشركين للميتة، وسبب التشديد في التسمية على الطعام من صيد وذبيحة هو إبعاد المسلمين عما كان عليه المشركون من الذبح لغير الله تعالى بالإهلال به لأصنامهم أو وضعها على النصب، واستبدال اسم الله وحده بتلك الأسماء التي سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، ليطهرهم من أكل ما كانوا عليه من أدران الشرك. ولما كان أهل الكتاب في الأصل أهل توحيد ثم سرت إليهم نزغات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين ولم يشددوا في الفصل بينهم وبين ماضيهم، وكان هذا مظنة التشديد في مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم، كما شدد في أكل ذبائح مشركي العرب ونكاح نسائهم، بين الله لنا في هذه الآية أن لا نعامل أهل الكتاب معاملة المشركين في ذلك، فأحل لنا مؤاكلتهم ونكاح نسائهم. وقد يستشكل إحلال الطيبات في ذلك اليوم على القول بأن المراد به يوم عرفة سنة حجة الوداع فإن حلها ذكر في بعض السور المكية كالأعراف. ويجاب بأن المراد أنها كانت حلالا بالإجمال فلما حرم الله يوم إنزال هذه السورة أنواع الخبائث التي تدخل في عموم الميتة كما تقدم في الآية السابقة وكانت العرب تستحلها، ونفي تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من طيبات الأنعام وكانت العرب تحرمها، وصار حل الطيبات مفصلا تمام التفصيل وحكمه مستقرا دائما، فهذا هو المراد بالنص، وقيل إنه تمهيد لما بعده.
وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح أو اللحوم لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل ولم تحرم من المشركين، وإلا فالظاهر أنه عام يشملها. ومذهب الشيعة أن المراد بالطعام الحبوب أو البر لأنه الغالب فيه، وقد سئلت عن هذا في مجلس كان أكثره منهم وذكرت الآية، فقلت ليس هذا هو الغالب في القرآن فقد قال الله تعالى في هذه السورة أي المائدة ﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ﴾ [ المائدة : ٩٦ ] ولا يقول أحد إن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب. وقال ﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] ولم يقل أحد أن المراد بالطعام هنا البر أو الحب مطلقا إذ لم يحرم شيء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها. فالطعام في الأصل كل ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت ﴿ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ] وقال ﴿ فإذا طعمتم فانتشروا ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] أي أكلتم. وليس الحب مظنة التحليل والتحريم وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك بوصف حسي كموت الحيوان حتف أنفه وما في معناه، أو معنوي كالتقرب به إلى غير الله عليه، ولذلك قال تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] الآية، وكله يتعلق بالحيوان، وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص.
وقد شدد الله فيما كان عليه مشركو العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح لغير الأصنام لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة. وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح لغير الله، ولأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم، حتى أن ابن جرير روى عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله قال ابن زيد : أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا، وأما أبو الدرداء فقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجس أهدوه لها أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء للسائل : اللهم عفوا إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم، وأمره بأكله.
وروى ابن جرير أيضا وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله ( وطعام الذي أوتوا الكتاب حل لكم ) قال ذبائحهم، وروى مثله عبد بن حميد عن مجاهد، وعبد الرزاق عن إبراهيم النخعي. وقد أجمع الصحابة والتابعون على هذا، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية، ووضعت له السم في ذراعها. وكان الصحابة يأكلون من الطعام النصارى في الشام بغير نكير ولم ينقل عن أحد منهم خلاف إلا في بني تغلب وهم بطن من العرب انتسبوا إلى النصارى ولم يعرفوا من دينهم شيئا فنقل عن علي كرم الله وجهه أنه لم يجز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم معللا ذلك بأنهم لم يأخذوا من النصارى إلا شرب الخمر، يعني أنهم على شركهم لم يصيروا أهل كتاب، واكتفى جمهور الصحابة بانتمائهم إلى النصرانية. روى ابن جرير عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب فقرأ هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ [ المائدة : ٥١ ] وفي رواية له أنه قال : كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال – وقرأ الآية – فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم، أي يكفي في كونهم منهم نصرهم لهم وتوليهم إياهم في الحرب.
ولما كان من شأن كثير من الناس التعمق في الأشياء وحب التشديد مع المخالفين استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد، وهي : هل العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب ( كالتوراة والإنجيل ) كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل، وبأهله الأصليين كالإسرائيليين من اليهود ؟ المتبادر من نص القرآن ومن السنة وعمل الصحابة أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل، فالله تعالى قد أحل أكل طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن وكان أهل الكتاب من شعوب شتى وقد وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم ونسوا حظا مما ذكروا في هذه السورة نفسها كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها. ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ١٥٦ ] أن سبب نزولها محاولة بعض الأنصار إكراه أولاد لهم كانوا تهودوا على الرجوع إلى الإسلام، فلما نزلت أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتخييرهم، ولا شك أنه كان في يهود المدينة وغيرهم كثير من العرب الخلص، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون بينهم في حكم من الأحكام.
واستنبط بعضهم علة أخرى لتحريم طعام أهل الكتاب والتزوج منهم وهي إسناد الشرك إليهم في سورة التوبة بقوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ [ التوبة : ٣١ ] مع قوله في سورة ﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ] وهذا هو عمدة الشيعة في المسألة، وأجيب عنه ( أولا ) : بأن الشرك المطلق في القرآن إذا كان وصفا أو عد أهله صنفا من أصناف الناس لا يدخل فيه أهل الكتاب بل يعدون صنفا آخر مغايرا لهذا الصنف كما قال تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ﴾ [ البينة : ١ ] وقال ﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا الصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ﴾ [ الحج : ١٧ ] الآية.
و( ثانيا ) : بأننا إذا فرضنا أن المشركين في آية البقرة عام فلا مندوحة لنا عن القول بأن هذه الآية قد خصصته أو نسخته لتأخرها بالاتفاق ولجريان العمل عليها، ومنه أن حذيفة بن اليمان من أكبر علماء الصحابة قد تزوج يهودية ولم ينكر أحد من الصحابة.
فقوله تعالى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ معناه أنهن حل لكم مطلقا لأنه معطوف على قوله ( طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) وهل المحصنات هنا الحرائر أو العفيفات أي غير الزواني فلا فرق بين المسلمة والكتابية ؟ خلاف سيأتي تحقيقه. وخص بعضهم الكتابية بالذمية وقال بعضهم إنه عام فلا فرق بين الذمية والحربية، ومن قال المراد بالمحصنات الحرائر منع نكاح الكتابية المملوكة، وبه قال الشافعي. وقووه بقوله تعالى في سورة النساء ﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ [ النساء : ٢٥ ] وقد يقال إن هذا علق هنالك على العجز عن المحصنات المؤمنات فقط لأن الله تعالى لم يكن أحل المحصات الكتابيات وقد أحلهن هنا فصارت حرائرهن كحرائر المسلمات وإماؤهن كإمائهن، وقول الشافعي اجتمع في الأمة الكتابية نقصان الكفر والرق، لا يقتضي التحريم، وإنما المقتضى له نص الشارع، ككون المراد بالمحصنات الحرائر وهو محل النظر والخلاف، وأيده ابن جرير بأمر عمر بتزويج من زنت وكادت تبخع نفسها فانقذت وبعد البرء استشير وروى عدة روايات في هذا المعنى، كأنه يريد أن العفة لا تشترط في النكاح وأن عمر كان يجيز نكاح الزانية، وليس هذا هو مراده وإنما أراد أنها خرجت بالتوبة عن كونها زانية.
والروايات صريحة في ذلك. ففي بعضها : أليس قد تابت ؟ قال السائل بلى. وفي رواية المرأة الهمدانية التي شرعت في ذبح نفسها فأدركوها فداووها فبرئت، قال لهم : وانكحوها نكاح العفيفة المسلمة، وفي رواية له : أن رجلا من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة فأمرت الشفرة على أوداجها فأدركت فدوى جرحها حتى برئت، ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة فقرأت القرآن ونسكت حتى كانت من أنسك نسائهم، فخطبت إلى عمها وكان يكره أن يدلسها ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر فذكر ذلك، فقال عمر : لو فشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه. وفي رواية أخرى : أتى رجل عمر فقال إن ابنة لي كانت وئدت في الجاهلية فاستخرجتها قبل أن تموت فأدركت الإسلام فلما أسلمت أصابت حدا من حدود الله فعمدت إلى الشفرة لتذبح بها نفسها فأدركتها وقد قطعت ببعض أوداجها فداويتها حتى برئت، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة فهي تخطب إلي يا أمير المؤمنين فأخبر من شأنها بالذي كان ؟ فقال عمر أتخبر بشأنها تعمد إلى ما ستره الله فتبديه ؟ والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار، بل انكحها بنكاح العفيفة المسلمة.
وروى ابن جرير أيضا عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. ؟ قال له أبي بن كعب : يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد يقبل منه إذا تاب اه.
والإباضية يشددون في النكاح بعد الزنا لا فرق عندهم بين من تاب ومن لم يتب، ولما كنت في مسقط في العام الماضي ( ١٣٣٠ ) كانت قد عرضت واقعة في ذلك على السلطان السيد فيصل فسألني عنها فقلت : إن الأصل في هذه المسألة قوله تعالى :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ﴾ [ النور : ٣ ] ولما كانت التوبة من الشرك تبيح نكاح الت
قال الرازي في وجه اتصال آية الوضوء بما قبلها :" اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية فقوله ( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) طلب من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل إلى هنا : إن العهد نوعان عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذّات المطعم ولذّات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام البيان، كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية. ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ الله تعالى بذكر شرائط الوضوء " ( لعل الأصل فرائض الوضوء ).
أقول : لو جعل هذا الوجه في الاتصال لهذه الآية وما بعدها معا – وقد جمعناهما- لكان أظهر فإنه في الثانية يذكرنا بعهده وميثاقه. والذي أراه أن وجه المناسبة بين آية الوضوء وما قبلها هو أن الحدثين اللذين هما سبب الطهارتين هما أثر الطعام والنكاح، فلولا الطعام لما كان الغائط الموجب للوضوء، ولولا النكاح لما كانت ملامسة النساء الموجبة للغسل، وأما المناسبة بين آية الميثاق وما قبلها فهي أن الله تعالى بعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعبادات والعادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة لله ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم بها مخلصين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ﴾ قال المفسرون إن المراد بالقيام هنا إرادته أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، على حد قوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ] أي إذا أردت قراءته. على أن الغالب أن مريد الصلاة يقوم إليها من قعود أو نوم، وقد يطلق لفظ القيام إلى الشيء على الانصراف إليه عن غيره، ومن فسر القيام بإرادته حاول أن يدخل في عموم منطوقه صلاة من يصلي قاعدا أو نائما لعذر.
وظاهر العبارة أن المراد بالقيام إلى الصلاة عمومه في جميع الأحوال وأن هذه الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثا فهم يقيدون القيام الذي خوطب أهله بالطهارة بالتلبس بالحدث، فالمعنى عندهم إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا وجوهكم الخ. والعمدة في مثل هذا التقييد السنة العملية في الصدر الأول، روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال ( عمدا فعلته يا عمر )١ وروي بألفاظ كثيرة متفقة في المعنى.
وروى أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث )٢ وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا ( لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )٣ وروى أبو داود وصححه والدارقطني – قال الحافظ في بلوغ المرام وأصله في مسلم – عن أنس بن مالك قال ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون )٤ ورواه الشافعي في الأم أيضا، والترمذي بلفظ ( لقد رأيت أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى أني لأسمع لأحدهم غطيطا ثم يقومون فيصلون ولا يتوضؤون ) ٥. ورو أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعا ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك )٦ وفي البخاري نحوه تعليقا، وروى نحوه النسائي وابن خزيمة. وكذا ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة.
فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتوضؤون لكل صلاة وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة غالبا، وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان الجواز. وقيل كان ذلك واجبا فنسخ يومئذ، ولو صح هذا القول لنقل أن الصحابة كلهم كانوا يتوضؤون لكل صلاة والمنقول خلافه، فعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وهو الأفضل، وإنما تجب على من أحدث، وآخر الآية يدل على ذلك، فإنه ذكر الحدثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما، فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما، ولو كان الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى. وقد نقل النووي عن القاضي عياض أن أهل الفتوى أجمعوا على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث وإنما يستحب تجديده لكل صلاة.
﴿ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾ الغسل بالفتح إرساله الماء على الشيء، والغرض منه إزالة ما على الشيء من وسخ وغيره مما يراد تنظيفه منه. والوجوه جمع وجه، وحده من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا والأيدي جمع يد وهي الجارحة التي تبطش وتعمل بها، وحدها في الوضوء من رؤوس الأصابع إلى المرفق وهو ( بفتح الميم والفاء بالعكس ) أعلى الذارع وأسفل العضد.
فالفرض الأول : من أعمال الوضوء غسل الوجه، وهل يعد باطن الفم والأنف منه فيجب غسلهما بالمضمضة والاستنشاق والاستنثار أم ليسا منه فيحمل ما ورد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها والتزامه إياها على الندب ؟ ذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن ذلك سنة، وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وبعض فقهاء أهل البيت إلى أنه واجب واستدلوا بأنها من الوجه بالأحاديث المتفق عليها في الأمر بذلك والتزامه وهو سبب التزام المسلمين ذلك من الصدر الأول إلى الآن. والمضمضة إدارة الماء وتحريكه في الفم، والاستنشاق إدخال الماء في الأنف والاستنثار إخراجه منه بالنفس. وليس للقائلين بعدم الوجوب مما ذكر دليل يعتد به في معارضة أدلة الوجوب.
قال في ( نيل الأوطار ) قال الحافظ ( ابن حجر ) في الفتح : وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا بكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل فقهي فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين إلا عن عطاء. وهكذا ذكر ابن حزم في المحلى اه أقول : إن الذين يصح جعل تركهم حجة في الباب هم الصحابة ولم ينقل عنهم ترك المضمضة والاستنشاق حتى في إعادتهم، وحديث ( المضمضة والاستنشاق سنة ) الخ الذي رواه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا ضعيف على أن السنة في كلامهم هي الطريقة المتبعة وهو المعنى اللغوي فلو صح لكان جعله من أدلة الوجوب أظهر.
والفرض الثاني : من أعمال الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين. وهل المرفقان مما يجب غسله أم هو مندوب ؟ الجمهور على أنه يجب غسلهما واختار ابن جرير الطبري عدم الوجوب ونقله عن زفر بن الهذيل. وقال في نيل الأوطار : اتفق العلماء على وجوب غسلهما ولم يخالف في ذلك إلا زفر وأبو بكر بن داود الظاهري، فمن قال بالوجوب جعل ( إلى ) في الآية بمعنى مع، ومن لم يقل به جعلها لانتهاء الغاية اه وقد استدل ابن جرير على ذلك بأن كل غاية حدت بإلي فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحد وخروجها منه. قال : وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بيَّنَ وحكم، ولا حكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه )اه.
ولكن بعض علماء اللغة ومنهم سيبويه حققوا أن ما بعد ( إلى ) إن كان من نوع ما قبلها دخل في الحد وإلا فلا يدخل، فعلى هذا تدخل المرافق فيما يجب غسله لأنها من اليد، ولا يدخل الليل فيما يجب صومه بقوله تعالى :﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] لأن الليل ليس من نوع النهار الذي يجب صومه. واستدل بعضهم على الوجوب بفعل النبي صلى الله عليه وسلم من حيث إنه بيان لما في الآية من الإجمال، ونازع آخرون في هذا الاستدلال، ولكن لا نزاع في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل المرفقين فقد ورد صريحا ولم يرد أنه ترك غسلهما، والالتزام المضطرد آية الوجوب. وإنما المستحب إطالة الغرة والتحجيل فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ. وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنتم الغر المحجلون من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله ) ٧ والمراد بإطالة الغرة ما ذكر، وقيل غسل جزء من الرأس مع الوجه وجزء من العضدين مع اليدين وجزء من الساقين مع الرجلين، شبه ذلك بغرة الفرس وتحجيله وهو البياض في جبهته وقوائمه، أو التشبيه للنور الذي يكون في هذه المواضع يوم القيامة، وقال ابن القيم إن هذا اجتهاد من أبي هريرة ولم يزد صلى الله عليه وسلم على غسل المرفقين والكعبين.
الفرض الثالث : المسح بالرأس في قوله ﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ الرأس معروف ويمسح ما عدا الوجه منه لأن الوجه شرع غسله لسهولته، وكيفية المسح المبينة في السنة أن يمسحه كله بيديه إذا كان مكشوفا وإذا كان عليه عمامة ونحوها يمسح ما ظهر منه ويتم المسح على العمامة. روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه )٨ وروى مسلم والترمذي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين )٩ وروى أحمد والبخاري وابن ماجه عن عمرو بن أمية الضمري قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه١٠. وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا أبا داود عن بلال قال : مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين والخمار١١. والخمار الثوب الذي يوضع على الرأس وهو النصيف وكل ما ستر شيئا فهو خماره، وفسره النووي هنا بالعمامة أي للرجال لأنها تستر الرأس. وخمر النساء معروفة. وروي المسح على العمامة أو الخمار او العصابة عن كثير من الصحابة يعرفونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم سلمان الفارسي وثوبان وأبو أمامة وأبو موسى وأبو خزيمة. وظاهر الروايات أن المسح كان يكون على العمامة وما في معناها من ساتر وحده. والأخذ به مروي عن بعض الصحابة والتابعين منهم أبو بكر وعمر وأنس وأبو أمامة وسعد بن مالك وعمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة وقال بجوازه جماعة من علماء الأمصار منهم الاوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود، وقال الشافعي إن صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبه أقول. وقد صح كما علمت، ولكن الشافعية لا يقولون به. ولم يشترط أحد من هؤلاء للمسح عليها لبسها على طهر ولا التوقيت إذ لم يرو فيه شيء يحتج به إلا أن أبا ثور قاس المسح عليها على المسح على الخف فاشترط الطهارة والوقت. والجمهور الذين لم يجيزوا المسح على العمامة وحدها قال من بلغته الأحبار منهم إن المراد المسح عليها مع جزء من الرأس كالرواية التي فيها ذكر الناصية.
ومن مانعي الاقتصار عليها سفيان وأبو حنيفة ومالك والشافعي ولكنه قال إذا صح الحديث بها قال به كما تقدم آنفا. وظاهر الروايات الإطلاق. وقد ورد في كثير من تلك الأخبار ذكر المسح على العمامة مع المسح على الخف، وقد كان نزع كل منهما حرجا وعسرا ففي مسحه نفي الحرج المنصوص عليه في الآية مع عدم منافاته لحكمة الوضوء وعلته المنصوصة أيضا وهي الطهارة والنظافة فإن العضو المستور يبقى نظيفا، ولا حرج الآن في رفع العمائم في الحجاز ومصر والشام وبلاد الترك عن الرأس لأجل مسحه من تحتها في الجملة لأنها توضع على قلانس ترفع معها بسهولة ولكن يعسر مسحه كله باليدين كلتيهما على الوجه الذي رواه الجماعة.
وأما أهل الهند وأهل المغرب الذين يحتنكون بالعمامة كما كان يفعل السلف فيعسر عليهم رفع عمائمهم عند الوضوء. والاحتياط أن يظهروا ناصيتهم كلها أو بعضها فيمسحوا بها ويتمموا المسح على العمامة ليكون وضوءهم صحيحا على جميع الروايات. ومن مسح شيئا أو بشيء عليه ساتر قد يقال إنه مسح ذلك الشيء أو به كما إذا قلت وضعت يدي على رأسي أو على صدري، لا يشترط في كون ذلك حقيقة أن لا يكون عليه سائر، وإنما نقول هنا إن الأصح المسح بالرأس بدون ساتر لأن الغرض من فرضيته تنظيفه من نحو الغبار وهو المتيسر فإذا كان عليه ساتر لا يصيبه الغبار.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس فقال الشافعي في الأم : إذا مسح الرجل بأي رأسه شاء إن كان لا شعر عليه، وبأي
١ أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٨٦، وأبو داود في الطهارة باب ٦٥، والترمذي في الطهارة باب ٤٥، والنسائي في الطهارة باب ١٠٠، وأحمد في المسند ٥/٣٥٠، ٣٥١، ٣٥٨..
٢ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٤٦، وأبو داود في الصلاة باب ١٦٦، والنسائي في السهو باب ٢٠، والكسوف باب ١٦، وأحمد في المسند ١/٣٧٧، ٤٠٩، ٤١٥، ٤٣٥، ٤٦٣..
٣ أخرجه البخاري في الحيل باب ٢، والوضوء باب ٢، ومسلم في الطهارة حديث ٢، وأبو داود في الطهارة باب ٣١، والترمذي في الطهارة باب ٥٦، وأحمد في المسند ٢/٣٠٨، ٣١٨..
٤ أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٨٩، وأحمد في المسند ٣/٢٣٩..
٥ أخرجه الترمذي في الطهارة باب ٥٧..
٦ أخرجه أحمد في المسند ٢/٢٥٩..
٧ أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٣٤..
٨ أخرجه البخاري في الوضوء باب ٣٨، ومسلم في الطهارة حديث ١٨، وأبو داود في الطهارة باب ٥١، والترمذي في الطهارة باب ٢٤، والنسائي في الطهارة باب ٧٩، ٨٠، وابن ماجه في الطهارة باب ٥١، ومالك في الطهارة حديث ١، وأحمد في المسند ٤/٣٨، ٣٩..
٩ أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٨١، ٨٣..
١٠ أخرجه البخاري في الوضوء باب ٤٨، وابن ماجه في الطهارة باب ٨٩..
١١ أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٨٤، والترمذي في الطهارة باب ٧٥، والنسائي في الطهارة باب ٨٥، وابن ماجه في الطهارة باب ٨٩، وأحمد في المسند ٤/١٣٥، ٥/٢٨١، ٢٨٨، ٤٣٩، ٤٤٠، ٦/١٢، ١٣، ١٤، ١٥..
قال الرازي في وجه اتصال آية الوضوء بما قبلها :" اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية فقوله ( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) طلب من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل إلى هنا : إن العهد نوعان عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذّات المطعم ولذّات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام البيان، كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية. ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ الله تعالى بذكر شرائط الوضوء " ( لعل الأصل فرائض الوضوء ).
أقول : لو جعل هذا الوجه في الاتصال لهذه الآية وما بعدها معا – وقد جمعناهما- لكان أظهر فإنه في الثانية يذكرنا بعهده وميثاقه. والذي أراه أن وجه المناسبة بين آية الوضوء وما قبلها هو أن الحدثين اللذين هما سبب الطهارتين هما أثر الطعام والنكاح، فلولا الطعام لما كان الغائط الموجب للوضوء، ولولا النكاح لما كانت ملامسة النساء الموجبة للغسل، وأما المناسبة بين آية الميثاق وما قبلها فهي أن الله تعالى بعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعبادات والعادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة لله ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم بها مخلصين.
﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي تذكروا يا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين متعادين فأصبحتم بنعمته عليكم بالهداية إلى الإسلام إخوانا في الإيمان والإحسان. واذكروا ميثاقه الذي واثقكم به، أي عهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر، وإذ قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه وأطعناك فيه، فلا نعصيك في معروف، وكل ما جئتنا فهو معروف. أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد على الرجال والنساء بالسمع والطاعة فذكر الله تعالى عهد النساء في سورة الممتحنة ولم يذكر عهد الرجال وهو في معناه إلا أنه يتضمن معنى القتال لحماية الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن أهلها. وكمل نبي بعث في قوم أخذ عليهم الله ميثاق الله تعالى بالسمع والطاعة كما ترى مثال ذلك في الآيات الآتية. ومجرد قبول الدعوة والدخول في الدين يعد عهدا وميثاقا بالسمع والطاعة. وعهد الله وميثاقه الذي أخذه نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أول هذه الأمة يدخل فيه كل من قبل الإسلام ومن نشأ فيه من بعدهم إلى يوم القيامة. فيجب أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما كان سلفنا الصالح من الصحابة ( رض ) يعدونه خطابا لهم.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾ أيها المؤمنون أن تنقضوا عهده بمخالفة ما أمركم به ونهاكم عنه في هذه الآيات أو غيرها، أو أن تزيدوا فيما بلغكم رسولكم من أمر ربكم أو تنقصوا منه، أو أن تقصروا في حفظه، أو تحرفوا كلمه عن مواضعه، فتكونوا كالذين أخذ الله ميثاقهم من أهل الكتاب فنسوا حظا مما ذكروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وزادوا في دينهم برأيهم ونقصوا منه، كما ترون في هذه السورة – وكذا في غيرها – كثيرا من أخبارهم، وما كان غضب الله عليهم وعقابهم ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ لا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليهم الميثاق من الوفاء أو عدم الوفاء، وما تنطوي عليه سريرة كل أحد من الإخلاص أو الرياء، وسيرون ما يترتب على ذلك الجزاء.
نادى الله المؤمنين في الآية الأولى من هذه السورة وأمرهم بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتن عليهم بإباحة بهيمة الأنعام لهم إلا ما استثنى وما حرم من الصيد في حال الإحرام. وناداهم في الآية الثانية بل الثالثة فنهاهم عن أشياء وأمرهم بأشياء، وحرم عليهم ما يضرهم من الطعام، إلا في حال الضرورة التي يرجح فيها أخف الضررين على أشدهما، وأحل لهم الطيبات، وصيد الجوارح المعلمات، وطعام أهل الكتاب ونساءهم إذا كن محصنات، وذلك في أربع آيات، وناداهم ثالثا فأمرهم بالطهارة، وامتن عليهم برفع الحرج، وذكرهم بنعمه عليهم، وميثاقه الذي واثقهم به، ثم ناداهم بعد في الآية الأولى والأخيرة من هذه الآيات بما ترى. وإذا راجعت سائر السورة تجد النداء فيها كثيرا منه نداء بني إسرائيل في سياق الكلام عنهم، ونداء النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، ونداء المؤمنين مرارا أيضا. هذا أسلوب في الخطاب يجوز أن يكون كل نداء منه مبدأ موضوع مستقل لا يناسب ما قبله، على أن المناسبة بين هذه الآيات ظاهرة، فإنه تعالى بعد أن ذكرنا بميثاقه أمرنا بأن نكون قوامين له شهداء بالقسط وذكرنا وعده ووعيده لأننا بذلك يرجى أن نفي بميثاقه ولا ننقضه كما نقضه الذين من قبلنا كما حكى عنهم بعد هذه الآيات. ويظهر لك هذا الاتصال والتناسب مما يلي.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ ﴾ القوام هو المبالغ في القيام بالشيء وهو الإتيان به مقوما تاما لا نقص فيه ولا عوج. وقد حذف هنا ما أمرنا بالمبالغة في القيام به فكان عاما شاملا لجميع ما أخذ علينا الميثاق به من التكاليف حتى المباحات، أي كونوا من أصحاب الهمم العالية وأهل الإتقان والإخلاص لله تعالى في كل عمل تعملونه من أمر دينكم أو أمر دنياكم. ومعنى الإخلاص لله في أعمال الدنيا أن تكون بينة صالحة بأن يريد العامل بعمله الخير والتزام الحق من غير شائبة اعتداء على حق أحد أو إيقاع ضرر به. والشهادة بالقسط معروفة وهي أن تكون بالعدل بدون محاباة مشهود له ولا مشهود عليه، لا لقرابته وولائه، ولا لماله وجاهه، ولا لفقره ومسكنته. فالشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو إظهاره هو إياه بالحكم به، أو الإقرار به لصاحبه. والقسط هو ميزان الحقوق متى وقعت فيه المحاباة والجور لأي سبب أو علة من العلل زالت الثقة من الناس، وانتشرت المفاسد وضروب العدوان بينهم، وتقطعت روابطهم الاجتماعية، وصار بأسهم بينهم شديدا، فلا يلبثون أن يسلط الله تعالى عليهم بعض عباده الذين هم أقرب إلى إقامة العدل والشهادة بالقسط منهم فيزيلون استقلالهم، ويذيقونهم بالهم، وتلك سنة الله التي شهدناها في الأمم الحاضرة، وشهد بها تاريخ الأمم الغابرة، ولكن الجاهلين الغافلين لا يسمعون ولا يبصرون، فأنى يعتبرون ويتعظون ؟
﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ ﴾ أي ولا يكسبنكم ويحملنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو بغضكم وعداوتكم لهم، على عدم العدل في أمرهم، بالشهادة لهم بحقهم، إذا كانوا أصحاب الحق، ومثلها هنا الحكم لهم به، فلا عذر لمؤمن في ترك العدل وإيثاره على الجور والمحاباة، وجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس، وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما. فلا يتوهمن متوهم أنه يجوز ترك العدل في الشهادة للكافر، أو الحكم له بحقه للمؤمن.
ولم يكتف بالتحذير من عدم العدل مهما كان سببه والنية فيه، بل أكد أمره بقوله :﴿ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ أي قد فرضت عليكم العدل فرضا لا هوادة فيه اعدلوا هو – أي العدل المفهوم من اعدلوا – أقرب لتقوى الله أي لاتقاء عقابه وسخطه باتقاء معصيته وهي الجور الذي هو من أكبر المعاصي لما يتولد منه من المفاسد ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ الخبرة العلم الدقيق الذي يؤيده الاختبار، أي لا يخفى عليه تعالى شيء من أعمالكم ظاهرها وباطنها، ولا من نياتكم وحيلكم فيها، وهو الحكم العدل القائم بالقسط، فاحذروا أن يجزيكم بالعدل على ترككم العدل، فقد مضت سنته العادلة في خلقه بأن جزاء ترك العدل وعدم إقامة القسط في الدنيا هو ذل الأمة وهوانها، واعتداء غيرها من الأمم على استقلالها، ولجزاء الآخرة أذل وأخزى، وأشد وأبقى. قال نبينا صلى الله عليه وسلم ( إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو ) رواه الطبراني عن جابر.
وقد تقدم في سورة النساء :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] – فراجع تفسيرها في جزء التفسير الخامس – وما أطلنا به هناك يغنينا عن الإطالة هنا، على أن ما هنا أبلغ وإن كان أخصر، لأن حذف متعلق قوامين يدخل فيه القسط وغيره، وتأكيد الأمر بالعدل والشهادة لهم به يفيد وجوبه مع غيرهم بالأولى. ولما كان الأمر بالتقوى مما حتم على الإطلاق بعد بيان أن العدل هو أقرب ما يتقى به عقاب الله في الدنيا والآخرة لأنه قوام الصلاح للأفراد والإصلاح في الأقوام – ولما علل هذا الأمر المطلق بأن الله خبير بدقائق الأعمال وخفاياها، وكان هذا التعليل يشير إلى جزاء العاملين المتقين وغير المتقين – قال عز وجل في بيان الجزاء العام :﴿ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾.
﴿ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ أي الأعمال الصالحات التي يصلح بها أمر العباد في أنفسهم وفي روابطهم ومرافقهم الاجتماعية، ومن أسسها العدل العام والتام، والتقوى في جميع الأحوال، وماذا وعدهم ؟ أو ماذا قال في وعده لهم – والوعد من جملة القول - ؟ قال تعالى مبينا هذا ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ وهذا التعبير أبلغ من تعلق الوعد بالموعود نفسه كقوله تعالى في آخر سورة الفتح :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] لأن ما هنالك خبر واحد لا تأكيد فيه ولا زيادة عناية بتقريره وما هنا خبر بعد خبر، فيه زيادة تأكيد أو تقرير للوعد، فقد وعد وعدا مجملا من شأنه أن تتوجه النفس للسؤال عن بيانه، فهذا خبر مستقل، ثم بين ذلك الإجمال بخبر آخر أثبت فيه أن لهم مغفرة وأجرا عظيما، فكأنه قال إنه وعدهم وعدا حسنا أو جزاء حسنا، ثم بين أن وعده مفعول وأن لهؤلاء الموعودين عنده كذا وكذا.
هذا إذا جعلت الجملة استئنافا بيانيا، وهو التقدير المقدم المختار، وكذلك إذا جعلت الجملة الثانية من باب مقول القول تتضمن زيادة التقرير للموعود به والتأكيد لوقوعه. ومعنى المغفرة أن إيمانهم وعملهم الصالح يستر أو يمحو من نفوسهم ما كان فيها من سوء تأثير الأعمال السابقة فيغلب فيها حب الحق والخير وتكون صالحة لجوار الله تعالى، والأجر العظيم هو الجزاء على الإيمان والعمل المضاعف بفضل الله ورحمته أضعافا كثيرة.
ولما بين الوعد اقتضى أن يبين الوعيد كما هي سنة القرآن في مثل هذا المقام فقال :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ المراد بالكفر هنا الكفر بالله وبرسله ولا فرق بين الكفر بجميع الرسل، والكفر ببعض والإيمان ببعض كما تقدم في سورة النساء الآية ١٥٠ لأن الكفر بأي رسول منهم لا يكون ممن يعقل معنى الرسالة إلا عنادا واستكبارا عن طاعته تعالى كما بيناه في تفسير تلك الآية. وآيات الله قسمان : آياته التي أقامها في الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته كماله وتنزيهه، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه. فهؤلاء الكفار المكذبون هم أصحاب الجحيم أي دار العذاب، والجحيم النار العظيمة كما يؤخذ من قوله حكاية عن قوم إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ﴾ [ الصافات : ٩٧ ] ومعلوم من الآيات الأخرى أنهم جعلوا في ذلك البنيان نارا عظيمة. وهذا هو الجزاء على الكفر والتكذيب بصرف النظر عن أعمال الكافرين المكذبين، ولا ينفع مع مثل هذا الكفر والتكذيب عمل، فإن إفساده للأرواح وتدسيته للنفوس لا يمحوها عمل آخر من أعمال الخير، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر ؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾ روى غير واحد أن الآية نزلت في رجل هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. أرسله قومه لذلك، وكان بيده السيف وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم سلاح وكان منفردا، وأقوى هذه الروايات ما صححه الحاكم من حديث جابر وهي أن الرجل من محارب واسمه غورث بن الحارث قال : قام على رأس رسول صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال :( الله ) فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :( من يمنعك ؟ ) قال : كن خير آخذ. قال :( تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ) قال : أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله. فجاء إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس.
وفي غير هذه الرواية أن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف النبي صلى الله عليه وسلم علقه في شجرة وقت الراحة فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فيكبته الله تعالى. وروى آخرون أنها نزلت في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع بني النضير إذ ذهب إليهم ومعه أبو بكر وعمر وعلي ( رض ) يطلبون منهم الإعانة على قتل الرجلين الكلابين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري منصرفه من بئر معونة وكان معهما أمان من النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، وقومهما محاربون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد بني النضير على أن لا يحاربوه وأن يعينوه على الديات. فلما طلب منهم ذلك، وهو بينهم، اظهروا له القبول وقالوا اقعد حتى نجمع لك، وفي رواية قالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. فلما جلس بجانب جدار دار لهم وجدوا أن الفرصة سنحت للغدر به، وقال لهم حيى بن أخطب : لا ترونه أقرب منه الآن اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ولا ترون شرا أبدا. فهموا أن يطرحوا عليه صخرة وفي رواية رحى عظيمة. وإنما اعتلوا بصنع الطعام ليكون لهم فيه وقت ينقلون الصخرة أو الرحى إلى سطح الدار. ولا شك في أنهم كانوا يريدون قتل من معه أيضا. وقيل كان معهم عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف أيضا. وقد أعلم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فانطلق وتركهم، ونزلت الآية في ذلك.
وليس المراد أنها نزلت يومئذ وإنما المراد أنها نزلت مذكرة بهذه القصة، فإن السورة نزلت عام حجة الوداع وذلك بعد غزوة بني النضير التي كانت في أوئل السنة الرابعة، وقيل قبل ذلك. وعلى هذا يجوز أن يكون الآية مذكرة بهذه الحادثة وبحادثة المحاربي وأمثالهما من وقائع الاعتداء التي كانت كثيرة حتى بعد قوة الإسلام بكثرة المسلمين، دع ما كان يقع في أول الإسلام من إيذاء المشركين وعدوانهم، فهو سبحانه يذكر المؤمنين بذلك كله. والمنة له جل جلاله في ذلك ليست قاصرة على من وقعت لهم تلك الوقائع من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بل هي منة عامة يجب أن يشكرها له عز وجل كل مؤمن إلى يوم القيامة، لأن حفظه لأولئك السلف الصالحين هو عين حفظه لهذا الدين القويم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه بالقبول وأدوها لمن بعدهم بالقول والعمل.
ومن فوائد هذا التذكير للمتأخرين ترغيبهم في التأسي بسلفهم في القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر والإحسان، واحتمال الجهد والصبر على المشاق في هذه السبيل وهي سبيل الله، وهذا هو المعنى العام للجهاد في سبيل الله.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ عطف على ما قبله، أي اذكروا نعمة الله تعالى عليكم بعنايته بكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أي شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل فكف أيديهم عنكم فلم يستطيعوا تنفيذ ما هموا به وكادوا يفعلونه من الإيقاع بكم، واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم، وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وسوء عاقبته، وعلى الله فليتوكل المؤمنون بقدرته وعنايته وفضله ورحمته، لا على أنفسهم، ولا على أوليائهم وحلفائهم، لأن هؤلاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم. ولأن أنفسهم قد يكثر عليها الأعداء، وتتقطع بها الأسباب، فتقع بين أمواج الحيرة والاضطراب، حتى تفقد البأس، وتجيب داعي اليأس، ولا يقع هذا للمؤمن المتوكل على الله تعالى، لأنه إذا هم أن ييئس من نفسه بتقطع الأسباب، وتغلب الأعداء، وتقلب الأولياء، يتذكر أن الله تعالى وليه ووكيله وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو الذي يجير ولا يجار عليه، فتتجدد قوته، وتنفتق حيلته، فيفر منه اليأس، ويتجدد عنده ما اخلولق من اليأس، فينصره الله تعالى بما يستفيد من الإيمان والذكرى والتوكل، وما يخذل به عدوه ويلقي في قلبه من الرعب، وبغير ذلك من ضروب عنايته عز وجل، التي رآها كل متوكل من المؤمنين الكملة مع سيد المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم، وتألب الناس كلهم عليهم.
وجملة القول إن الله تعالى أمرنا بالتقوى ثم بالتوكل، وإنما التقوى بذل الجهد في الوقاية من كل سوء وكل شر ومن مبادئ ذلك وأسبابه، ولا تحصل حقيقة التوكل إلا بالسير على سنة الله تعالى في نظام الأسباب والمسببات لأن من يوكل الأمر إليه يجب أن يطاع. ومن تنكب سنن الله تعالى في العالم وخالف شرعه فيما أمر به من عمل نافع، ونهى عنه من عمل ضار، لا يصح أن يسمى متوكلا واثقا به. وقد حققنا مسألة التوكل والأسباب في تفسير آل عمران ( راجع ص ٢٠٥-٢١٤ من جزء التفسير الرابع ).
إن وجه الاتصال والمناسبة بين هذه الآيات وما قبلها يعلم مما تقدم من أخذ الله الميثاق على هذه الأمة، وهذا من المقاصد التي لا تختلف باختلاف الأزمنة فكان عاما في جميع الأمم التي بعث الله فيها الرسل، كما قلناه في تفسير تلك الآية. فلما ذكرنا الله تعالى بميثاقه الذي واثقنا به، على السمع والطاعة لخاتم رسله، ذكر لنا أخذه مثل هذا الميثاق على أقرب الأمم إلينا وطنا وتاريخا وهم اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم ميثاقه، ومن عقابه لهم على ذلك في الدنيا، وما ينتظرون من عقاب الآخرة وهو أشد وأبقى – لنعتبر بحالهم، ونتقي حذو مثالهم، وليبين لنا علة كفرهم بنبينا وتصديهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم بذلك الحجة عليهم فيما تراه بعد هذه الآيات. فهذا مبدأ سياق طويل في محاجة أهل الكتاب وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.
قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ﴾ يقسم عز وجل أنه قد أخذ العهد الموثق على بني إسرائيل ليعملن بالتوراة التي شرعها لهم، لإفادة تأكيد هذا الأمر وتحقيقه والاهتمام بما رتب عليه، لأن الرسول قد علمه بالوحي الإلهي وإن لم يطلع على توراتهم ولا على شيء من تاريخيهم. ولا يزال هذا الميثاق في آخر الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه الصلاة والسلام ( راجع تفسير ( ﴿ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ﴾ [ النساء : ١٥٤ ] من هذا الجزاء من التفسير ).
﴿ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ﴾ النقيب في القوم من ينقب عن أحوالهم ويبحث عن شؤونهم، من نقب عن الشيء إذا بحث أو فحص عنه فحصا بليغا، وأصله الخرق في الجدار ونحوه كالنقب في الخشب وما شابهه. ويقال نقب عليهم ( من باب ضرب وعلم ) نقابة، أي صار نقيبا عليهم. عدي باللام لما فيه من معنى التولية والرياسة. ونقباء بني إسرائيل هم زعماء أسباطهم الاثني عشر. والمراد ببعثهم إرسالهم لمقاتلة الجبارين الذين يجيء خبرهم في هذه السورة، قاله مجاهد والكلبي والسدي. فإن صح هذا أخذ به وإلا فالظاهر أن بعثهم منهم هو جعلهم رؤساء فيهم.
﴿ وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ﴾ أي إني معكم بالمعونة والنصر ما دمتم محافظين على ميثاقي، قال الله هذا لموسى عليه السلام وهو بلغه عنه وكان يذكرهم به أنبياؤهم ويجدده رسلهم، ويتوعدونهم نحو ما توعدهم به موسى عند أخذه عليهم إذا هم نقضوه ﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ﴾ أي أقسم الله لهم على لسان موسى بما مضمونه لئن أديتم الصلاة على وجهها وأعطيتم ما فرض عليكم في أموالكم من الصدقة التي تتزكى بها نفوسكم وتتطهر من رذيلة البخل ﴿ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾ أي برسلي الذي أرسلهم إليكم بعد موسى كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) وهذه هي نكتة تأخير الإيمان بالرسل، وهو من أصول العقائد، على الصلاة والزكاة، وهما من فروع الأعمال، فإن الخطاب لقوم مؤمنين بالله ورسوله الذي بلغهم ذلك. والتعزير النصرة مع التعظيم كما قال الراغب، وسمي ما دون الحد من التأديب الشرعي تعزيرا لأنه نصره من حيث إنه قمع للمعزر عما يضر ومنع له أن يقارفه. فالتعزيز قسمان : أن ترد عن المرء ما يضره، أو ترده هو عما يضره مطلقا، والأول هو تعزير الناس للرسل.
﴿ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ أي وبذلتم من المال والمعروف فوق ما أوجبه الله وفرضه عليكم فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغني ملي وفيّ فهو لا يضيع عليه ولكنه يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه. وإذا أردت أن تعرف ما في هذا التعبير من البلاغة والتأثير، فارجع إلى تفسير قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] من جزء التفسير الثاني. ﴿ لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ هذا جواب القسم، أي لأزيلن بتلك الحسنات الخمس – الصلاة والزكاة والإيمان بالرسل وتعزيرهم والإقراض الحسن – تأثير سيئاتكم الماضية من نفوسكم، فلا يبقى فيها خبث يقتضي العقاب. وذلك بحسب ما مضت به سنة الله تعالى من إذهاب الحسنات للسيئات، كما يغسل الماء القاذورات، ﴿ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ لا يدخلها إلا من كان طاهر النفس من الشرك وما يتبعه من مفسدات الفطرة، وقدم تقدم بيان هذا وتفسير هذه العبارة مرارا.
ولما بين الله تعالى العمل الصالح والوعد بالجزاء الحسن عليه، أعقبه ببيان حال من كان على ضده فقال :﴿ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ أي ضل الصراط المستقيم والسبيل السوي الذي يوصل سالكه إلى إصلاح قبله وتزكية نفسه، ويجعله أهلا لجوار الله تعالى في تلك الجنات، وانحرف عن وسطه فخرج عنه بسلوك إحدى سبل الباطل المفسدة للفطرة والمدسية للنفس التي ينتهي سالكها إلى دار الجحيم، والخزي المقيم.
إن وجه الاتصال والمناسبة بين هذه الآيات وما قبلها يعلم مما تقدم من أخذ الله الميثاق على هذه الأمة، وهذا من المقاصد التي لا تختلف باختلاف الأزمنة فكان عاما في جميع الأمم التي بعث الله فيها الرسل، كما قلناه في تفسير تلك الآية. فلما ذكرنا الله تعالى بميثاقه الذي واثقنا به، على السمع والطاعة لخاتم رسله، ذكر لنا أخذه مثل هذا الميثاق على أقرب الأمم إلينا وطنا وتاريخا وهم اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم ميثاقه، ومن عقابه لهم على ذلك في الدنيا، وما ينتظرون من عقاب الآخرة وهو أشد وأبقى – لنعتبر بحالهم، ونتقي حذو مثالهم، وليبين لنا علة كفرهم بنبينا وتصديهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم بذلك الحجة عليهم فيما تراه بعد هذه الآيات. فهذا مبدأ سياق طويل في محاجة أهل الكتاب وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ أي فبسب نقضهم ميثاقنا الذي أخذناه عليهم وواثقناهم به – ومنه الإيمان بمن نرسله إليهم من الرسل ونصرتهم وتعزيرهم – استحقوا لعنتنا والبعد من رحمتنا، لأن نقض الميثاق قد دنس نفوسهم وأفسد فطرتهم، وقسى قلوبهم، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق، وافتروا على مريم وبهتوها وأهانوا ولدها الذي أرسله الله تعالى لهدايتهم وإصلاح ما فسد من أمرهم وحاولوا قتله، وافتخروا بذلك بمجرد الشبهة، فمعنى لعنهم وجعل قلوبهم قاسية أن نقض الميثاق وما ترتب عليه من المعاصي والكفر كان بحسب سنة الله تعالى في تأثير الأعمال في النفوس مبعدا لهم عن كل ما يستحقون به رحمه الله وفضله، ومقسيا لقلوبهم حتى لم تعد تؤثر فيها حجة ولا موعظة، فهذا معنى إسناد اللعنة وتقسية القلوب إليه تعالى، وليس معناه ما يزعمه الجبرية من أنه شيء خلقه لله ابتداء وعاقبهم به ولم يكن مسببا عن أعمالهم الاختيارية التي هي علة لذلك، ولا كما يفهمه بعض الجاهلين لسنن الله تعالى في الجزاء الإلهي، إذ يظنون أنه من قبيل الجزاء الوضعي المرتب على مخالفة الشرائع والقوانين في الدنيا. وقد بينا مرارا أنه ليس كذلك، وإنما هو من قبيل الأمراض والآلام المرتبة على مخالفة قوانين الطب، وهذا أمر معقول في نفسه مطابق للواقع ولحكمة التكليف، وجامع بين النصوص.
ولو خلق الله القسوة في قلوبهم ابتداء فلم تكن أثرا لأعمالهم الاختيارية السيئة لاستحال أن يذمهم بها ويعاقبهم عليها. قرأ حمزة والكسائي ( قسية ) بتشديد الياء على وزن فعلية، وهو أبلغ في الوصف من ( قاسية ) وهي قراءة الباقين. ولأجل موافقة القراءتين كتب الكلمة في المصحف الإمام بغير ألف. وقيل إن قسية بمعنى رديئة فاسدة من قولهم : درهم قسي، على وزن شقي أي فاسد مغشوش. وقد رد الزمخشري هذا المعنى إلى القسوة بمعنى الصلابة لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين فإذا غشا بإدخال بعض المعادن فيهما كالنحاس أفادهما ذلك قسوة وصلابة.
﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾ التحريف إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من جوانب ذلك الموضع، مأخوذ من الحرف وهو الطرف والجانب. والكلم جمع كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وهو ما اقتصر عليه النحاة، وعلى الجملة المركبة ذات المعنى التام المفيد، كقولك كلمة التوحيد. تحريف الكلم عن مواضعه يصدق بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والحذف والزيادة والنقصان، وبتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت به. وقد اختار كثير من علمائنا الأعلام هذا المعنى في تفسير الآية وعللوه بأن التصرف في ألفاظ كتاب متواتر متعسر أو متعذر، وسبب هذا الاختيار والتعليل عدم وقوف أولئك العلماء على تاريخ أهل الكتاب وعدم اطلاعهم على كتبهم وقياس تواترها على القرآن.
والتحقيق الذي عليه العلماء الذين عرفوا تاريخ القوم واطلعوا على كتبهم التي يسمونها التوراة وغيرها ( وكذا كتب النصارى ) هو أن التحريف اللفظي والمعنوي كلاهما واقع في تلك الكتب ما له من دافع. وأنها كتب غير متواترة. فالتوراة التي كتبها موسى عليه السلام وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل بحفظها – كما هو مسطور في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع – قد فقدت قطعا باتفاق مؤرخي اليهود والنصارى ولم يكن عندهم نسخة سواها ولم يكن أحد يحفظها عن ظهر قلب كما حفظ المسلمون القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الأسفار الخمسة التي ينسبونها إلى موسى فيها خبر كتابته التوراة وأخذه العهد عليهم بحفظها، وهذا ليس منها قطعا، وفيها خبر موته وكونه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت أي الذي كتب فيه ما ذكر من سفر التثنية. وهذا نص قاطع في كون الكاتب كان بعد موسى بزمن يظهر أنه طويل، وكون ما ذكر ليس من التوراة في شيء، ومن المشهور عندهم أنها فقدت عند سبي البابليين لهم.
وفي هذه الأسفار ما لا يحصى من الكلم البابلي الدال على أنها كتبت بعد السبي، فأين التواتر الذي يشترط فيه نقل الجم الغفير الذي يؤمن تواطؤهم على التبديل والتغيير في كل الطبقات بحيث لا ينقطع الإسناد في طبقة ما ؟ والمرجح عند محققي المؤرخين من الإفرنج أن هذه التوراة الموجودة كتبت بعد موسى ببضعة قرون، والمشهور أن أول من كتب الأسفار المقدسة بعد السبي عزرا الكاهن في زمن ملك أرتحششتا الذي أذن له بذلك إذ أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم. وقد أوضحنا هذه المسألة في تفسير سورة آل عمران وسورة النساء، وسنزيدها بيانا.
﴿ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال :( نسوا الكتاب ) – وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال : نسوا كتاب الله إذ أنزل عليهم، ومرادهما الحظ منه أي نسوا طائفة من أصل الكتاب، وروى ابن مبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود أنه قال في تفسير الآية : إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. يعلل بذلك ما أفادته الآية من نسيانهم لبعض ما ذكرهم الله به من كتابه. وفسر النسيان بعض العلماء بترك العمل، كأن هؤلاء استبعدوا نسيان شيء من أصل كتاب القوم وإضاعته، لتوهمهم أنه كان متوترا. والحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عندما أحرق البابليون هيكلهم وخربوا عاصمتهم، وسبوا من أبقى عليه السيف منهم، فلما عادت إليهم الحرية في الجملة جمعوا ما كانوا حفظوه من التوراة ووعوه بالعمل به، أو ذكره في بعض مكتوباتهم لنحو الاستشهاد به، ونسوا الباقي.
وقد حققنا هذا المعنى في تفسير الآية الثانية من آل عمران، وكذا ﴿ ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ] و[ النساء : ٤٤و ٥١ ]. ولعمري إن هذه الجملة ( فنسوا حظا ممن ذكروا به ) وتلك الجملة ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) لمن أعظم معجزات القرآن التي أثبتها التاريخ لنا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة قرون، ولم يكن يخطر على بال أحد من العرب في زمن البعثة وهم أميون أن اليهود فقدوا كتابهم الذي هو أصل دينهم ثم كتبه لهم كاتب منهم نشأ في السبي والأسر بين الوثنيين بعد عدة قرون، فنقص منه وزاد فيه، ولم تعرف المصادر التي جمع منها ما كتبه معرفة صحيحة. بل كان هذا مما خفي عن علماء المسلمين عدة قرون بعد انتشار العلم فيهم.
أثبت الله تعالى في هذه الآية أن اليهود يحرفون كلم كتابهم عن مواضعه، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وفي سورتي آل عمران والنساء ﴿ أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ] [ والنساء : ٤٤ و٥١ ] وفي ﴿ أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ [ النساء : ٤٨ ]. ومفهوم قوله :( أوتوا نصيبا ) أنهم نسوا نصيبا آخر وهو ما صرح به هنا. وذهب بعض المفسرين إلى أن المنسي هو البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان صفاته، وهو لا يصح لأنهم لو نسوها كلها لما صح قوله في علمائهم أنهم ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) وهو ما صرح به وأقسم عليه من آمن منهم. وحمله بعضهم على ترك العمل به، وهو مجاز من إطلاق اللفظ وإرادة لازمه، والأصل في الكلام الحقيقة وإنما يصار إلى المجاز عند امتناع إرادتها، ولا امتناع هنا.
ومن دلائل إرادة الحقيقة آية ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) فمعنى ما هنالك وما هنا أن أهل الكتاب الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم – ومثلهم من قبلهم فصاعدا إلى زمن السبي وخراب بيت المقدس الذي فقدت فيه التوراة ومن بعدهم إلى اليوم وإلى ما شاء الله – أوتوا نصيبا ونسوا نصيبا منه بسبب فقد الكتاب وعدم حفظهم له كله في الصدور. ثم إن الذي أوتوه منه وبقي لهم، ما كانوا يعملون به كما يجب ولا يقيمون ما يعملون به منه كما ينبغي، بل كانوا يحرفونه عن مواضعه باللي والتأويل، على أنه وصل إليهم محرفا لفظه لأنه نقل من قراطيس وصحف متفرقة لا ثقة بأهلها ولا بضبط ما فيها. وسنذكر تتمة هذا البحث في الكلام على نسيان النصارى حظا مما ذكروا به.
﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ الخائنة هنا الخيانة كما روي عن قتادة. والعرب تعبر بصيغة الفاعل عن المصدر أحيانا كما تعكس، فاستعملت القائلة بمعنى القيلولة، والخاطئة بمعنى الخطيئة. أو هي وصف لمحذوف إما مذكر والهاء للمبالغة كما قالوا راوية لكثير الرواية، وداعية لمن تجرد للدعوة إلى الشيء، وإما مؤنث بتقدير نفس أو فعلة أو فرقة خائبة، والمعنى أنك أيها الرسول لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود المجاورين لك على خيانة بعد خيانة ما داموا مجاورين أو معاملين لك في الحجاز، فلا تحسبن أنك قد أمنت مكرهم وكيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم، فإنهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان، وقد نقضوا عهد الله وميثاقه من قبل، فكيف يرجى منهم الوفاء لك بعد ذلك النقض وما ترتب عليه من قساوة قلوبهم وقتلهم لأنبيائهم ؟
﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ﴾ كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين أسلموا فهؤلاء صادقون في إسلامهم لا يقصدون خيانة ولا خداعا ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ فاعف عما سلف من هؤلاء القليل واصفح عن مسيئهم وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى، وأنت الرسول أحق الناس بتحري ما يحبه الله، وهذا رأي أبي مسلم. أو فاعف عما سلف من جميعهم واضرب عنه صفحا، وإيثارا للإحسان والفضل، على ما يقتضيه العدل، قيل كان هذا أمرا مطلقا ثم نسخ بآية التوبة ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية. وروي هذا عن قتادة. ويرده قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود قبل نزول التوبة، وكون آية التوبة نزلت بقبول الجزية وهو يتفق مع العفو والصفح، فإنهم بخيانتهم صاروا حربيين واستحقوا أن يقتلوا، وقبول الجزية منهم يعد عفوا وصفحا عن قتلهم، وإحسانا إليهم. وثم وجه آخر وهو أن الأمر بالعفو والصفح إنما هو عن الخيانات الشخصية لا عن نقض العهد الذي يصيرون به محاربين لا يؤمن جوارهم. وهذا أظهر من جعل الأمر بالعفو مقيدا بشرط محذوف تقديره إن تابوا وآمنوا وعاهدوا أو التزموا الجزية، هذا ملخص ما يقال في رأي الجمهور.
ولولا أن نزول هذه السورة متأخر عما كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود من القتال وعن نزول سورة التوبة لقلت يحتمل أن يكون المراد هنا يهود بني النضير ( ومثلهم بنو قريظة ) بقرينة ما جاء قبل هذا السياق من خبر محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم غدرا منهم وخيانة، ويكون المراد بالعفو والصفح عندهم ترك قتلهم والرضاء منهم بما دون القتل بعد القدرة عليه وهذا هو الذي وقع.
ثبت في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب عند ما آوى إلى المدينة في مصالحة اليهود وموادعتهم، فعقد العهد معهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه، ولا يوالوا عليه عدوا له، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم في دينهم. وكان حول المدينة منهم ثلاث طوائف : بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. فكان بنو قينقاع أول من غدر وتصدى لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهرا، لأنهم كانوا أشدهم بأسا، فلما ظفر بهم وسأله عبد الله بن أبي رئيس ال
إن وجه الاتصال والمناسبة بين هذه الآيات وما قبلها يعلم مما تقدم من أخذ الله الميثاق على هذه الأمة، وهذا من المقاصد التي لا تختلف باختلاف الأزمنة فكان عاما في جميع الأمم التي بعث الله فيها الرسل، كما قلناه في تفسير تلك الآية. فلما ذكرنا الله تعالى بميثاقه الذي واثقنا به، على السمع والطاعة لخاتم رسله، ذكر لنا أخذه مثل هذا الميثاق على أقرب الأمم إلينا وطنا وتاريخا وهم اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم ميثاقه، ومن عقابه لهم على ذلك في الدنيا، وما ينتظرون من عقاب الآخرة وهو أشد وأبقى – لنعتبر بحالهم، ونتقي حذو مثالهم، وليبين لنا علة كفرهم بنبينا وتصديهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم بذلك الحجة عليهم فيما تراه بعد هذه الآيات. فهذا مبدأ سياق طويل في محاجة أهل الكتاب وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.
﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ أي وكذلك أخذنا ميثاق الذين سموا أنفسهم نصارى من أهل الكتاب الأول، وهم الذين قالوا إنهم اتبعوا المسيح ونصروه، وقد صاروا طائفة مستقلة مؤلفة من الإسرائيليين وغيرهم فنقضوا ميثاقهم ونسوا حظا ونصيبا مما ذكروا به على لسان المسيح عيسى ابن مريم كما فعل الذين من قبلهم ﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ الفاء للسببية أي فكان نسيان حظ عظيم من كتابهم سببا لوقوعهم في الأهواء والتفرق في الدين والموجب بمقتضى سنتنا في البشر للعداوة والبغضاء. والإغراء التحريش وإسناده إلى الله تعالى مع كونه من أعمالهم الاختيارية سببا ومسببا لأنه من مقتضى سننه في خلقه. فهذا جزاؤهم في الدنيا ﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون ﴾ عند ما يحاسبهم في الآخرة، ينبئهم بحقيقة ضلالهم ويجازيهم عليه بعد ذلك ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة.
بين الله لنا أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود. وسبب ذلك أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتمجيده والإرشاد لعبادته، وكان من اتبعوه من العوام، وأمثلهم حواريوه وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في عداوتهم ومطاردتهم، فلم تكن لهم هيأة اجتماعية ذات قوة وعلم تدون ما حفظوه من إنجيل المسيح وتحفظه. ويظهر من تاريخهم وكتبهم المقدسة أن كثيرا من الناس كانوا يبثون بين الناس في عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب في ذلك، حتى أن الذين كتبوا كتبا سموها الأناجيل كثيرون جدا كما صرحوا به في كتبهم المقدسة وتواريخ الكنيسة. وما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عندما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية، وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية، وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، وهي متعارضة متناقضة بل وقع الخلاف بينهم في مؤلفيها واللغات التي ألفوها بها. وقد بينا في تفسير أول سورة آل عمران حقيقة إنجيل المسيح وكون هذه الكتب لم تحو إلا قليلا منه كما تحتوي السيرة النبوية عندنا على القليل من القرآن والحديث. وهذا القليل من الإنجيل قد دخله التناقض والتحريف.
وقد أورد الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه ( إظهار الحق ) المشهور مئة شاهد من الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى على التحريف اللفظي والمعنوي فيها، نقلت بعضها على سبيل النموذج في تفسير آية النساء ( ٤ : ٤٨ ) ومنها ما عجز مفسرو التوراة عن تمحل الجواب عنه وجزموا بأنه ليس مما كتبه موسى عليه السلام. فراجعه من التفسير الخامس. والظاهر أن التنكير في قوله :( نصيبا وحظا ) للتعظيم أي أن ما نسوه وأضاعوه منه كثير، وما أتوه وحفظوه كثير أيضا، فلو كانوا يعلمون به ما فسدت حالهم، ولا عظم خزيهم ونكالهم. وهذا هو المعقول في حال عدم حفظ الأصل بنصه في الصدور والسطور، ونحن نجزم بأننا نسينا وأضعنا من حديث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم حظا عظيما لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه، ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين، فإن جميع أمور الدين مودعة في القرآن ومبينة في السنة العملية، وما دون من الحديث مزيد هداية وبيان. هذا وإن العرب كانت أمة حفظ ودونوا الحديث في العصر الأول، وعنوا بحفظه وضبط متونه وأسانيده عناية شاركهم فيها كل من دخل في الإسلام، ولم يتفق مثل ذلك لغير المسلمين من المتقدمين والمتأخرين.
لسنا في حاجة إلى تفصيل القول في ضياع حظ عظيم من كتب اليهود، وفي وقوع التحريف اللفظي والمعنوي فيما عندهم منها، وفي إيراد الشواهد من هذه الكتب ومن التاريخ الديني عند أهل الكتاب على ذلك، لأنه ليس بيننا وبين اليهود مناظرات دينية تقتضي ذلك. ولولا أن النصارى أقاموا بناء دينهم وكتبهم التي يسمونها ( العهد الجديد ) على أساس كتب اليهود التي يسمونها ( العهد العتيق ) لما زدنا في الكلام عن كتب اليهود على ما نثبت به ما وصفها به القرآن العزيز بالإجمال، وإنما الحاجة تدفعنا إلى بعض التفصيل في إثبات نسيان النصارى وإضاعتهم حظا عظيما مما جاء به المسيح عليه السلام، وتحريف الكتب التي في أيديهم، لأنهم أسرفوا في التعدي على الإسلام والطعن فيه، فكان مثلهم كمثل من بنى بيتا من الزجاج على شفا جرف من الرمل وحاول أن ينصب فيه المدافع ليهدم حصنا مبنيا على جبل راسخ ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ التوبة : ١٠٩ ]. وقد قامت مجلتنا المنار بما يجب من هذا البيان، ودفع ما بدأ به دعاة النصرانية من الظلم والعدوان، وسبق في التفسير قليل من كثير ما نشر في المنار. ونذكر هنا بعض المسائل في ذلك بالإيجاز.

فصل في ضياع كثير من الإنجيل وتحريف كتب النصارى المقدسة


١ – إن الكتب التي يسمونها الأناجيل الأربعة تاريخ مختصر للمسيح عليه السلام ولم يذكر فيها إلا شيء قليل من أقواله وأفعاله في أيام معدودة بدليل قول يوحنا في آخر إنجيله :( هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا وتعلم أن شهادته حق. وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة، أمين ).
هذه العبارة يراد بها المبالغة في بيان أن الذي كتب عن المسيح لا يبلغ عشر معشار تاريخه. ومن البديهي أن تلك الأعمال الكثيرة التي لم تكتب وقعت في أزمنة كثيرة. وأنه تكلم في تلك الأزمنة وعند تلك الأعمال كثيرا. فهذا كله قد ضاع ونسي. وحسبنا هذا حجة عليهم في إثبات قول الله تعالى :﴿ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ وحجة على بعض علمائنا الذين ظنوا أن كتبهم حفظت وتواترت. قال صاحب ذخيرة الألباب ( إن الإنجيل لا يستغرق كل أعمال المسيح ولا يتضمن كل أقواله، كما شهد به القديس يوحنا ).
٢ – الإنجيل في الحقيقة واحد وهو ما جاء به المسيح عليه السلام من الهدي والبشارة بخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما كان يدور ذكره على ألسنة كتاب تلك التواريخ الأربعة وغيرهم حكاية عن المسيح وعن ألسنتهم أنفسهم. قال متى حكاية عنه ٢٦ : ١٣ ( الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها ) أي ما فعلته المرأة التي سكبت قارورة الطيب على رأسه. أوجب عليهم أن يخبروا كل من يبلغونهم الإنجيل في عالم اليهودية كلها بما فعلته تلك المرأة، فخبر تلك المرأة ليس من الإنجيل الذي جاء في كلام المسيح، وقد ذكر في تلك التواريخ امتثالا لأمره. وسميت تلك التواريخ أناجيل لأنها تتكلم عن إنجيل المسيح وتجيء بشيء منه. ولذلك بدأ مرقس تاريخه بقوله ( بدأ إنجيل يسوع المسيح ) ثم قال حكاية عن المسيح ١ : ١٥ ( فتوبوا وآمنوا بالإنجيل ) فالإنجيل الذي أمر الناس أن يؤمنوا به ليس هو أحد هذه التواريخ الأربعة ولا مجموعها. وهو الذي سماه بولس في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي الإنجيل المطلق ( ٢ : ٤ ) وإنجيل الله ( ٢ : ٨ : ٩ ) وإنجيل المسيح ( ٢ : ٣ ) والكتاب الإلهي يضاف إلى الله بمعنى أنه أوحاه، وإلى النبي بمعنى أنه أوحي إليه أو جاء به، كما يقال توراة موسى.
٣- كانت الأناجيل في القرون الأولى للمسيح كثيرة جدا قيل إنها بلغت زهاء سبعين إنجيلا. وقال بعض مؤرخي الكنيسة إن الأناجيل الكاذبة كانت ٣٥ إنجيلا. وقد رد صاحب كتاب ( ذخيرة الألباب ) الماروني القول بكثرتها وقال إن سبب ذلك تسمية الواحد بعدة أسماء. وقال إن الخمسة والثلاثين لا تكاد تبلغ العشرين. وعدها كلها وذكر أن بعضها مكرر الاسم، وذكر منها إنجيل القديس برنابا. وذكر أن جاحدي الوحي طعنوا في الأناجيل ثلاثة مطاعن :
١- أن الآباء الذين سبقوا القديس يوستينوس الشهيد لم يذكروا إلا أناجيل كاذبة ومدخولة.
٢- لا سبيل إلى إظهار أسفار العهد الجديد التي خطها مؤلفوها.
٣- قد فات الجميع معرفة الموضع والعهد اللذين كتبت فيهما.
٤ – أن كورنتس وكربوكراتوس قد نبذا ظهريا منذ أوائل الكنيسة إنجيل القديس لوقا، والألوغبين إنجيل القديس يوحنا. ولم يستطيع أن يرد هذه الاعترضات ردا مقبولا عند مستقلي الفكر.
وقال الدكتور بوست البروتستاني في قاموس الكتاب المقدس : إن نقض الأناجيل غير القانونية ظاهر لأنها مضادة لروح المخلص وحياته. ونحن نقول إننا قد اطلعنا على واحد منها وهو إنجيل برنابا فوجدناه أكمل من مجموع الأربعة في تقديس الله وتوحيده وفي الحث على الآداب والفضائل. فإذا كان هذا برهانهم على رد تلك الأناجيل الكثيرة وإثبات هذه الأربعة فهو برهان يثبت صحة إنجيل برنابا قبل غيره أو دون غيره.
٤- بدئ تحريف الإنجيل من القرن الأول. قال بولس في رسالته إلى أهل غلاطية ١ : ٦ ( إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، لا ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح ) فالمسيح كان له إنجيل واحد، وبين بولس أنه كان في عصره من القرن الأول أناس يدعون المسيحيين إلى إنجيل غيره بالتحويل أي التحريف كما في الترجمة القديمة، وفي ترجمة الجزويت ( يقلبوا ) بدل يحولوا، وهي أبلغ في التحريف والتبديل، وبيت بولس أن الناس كانوا ينتقلون سريعا إلى دعاة هذا الإنجيل المحرك المحول عن أصله الذي جاء به المسيح.
وقد بين بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثيوس ( ١١ : ١٣- ١٥ ) أن هؤلاء القوم الذين يحرفون إنجيل المسيح ( رسل كذبة فعله ماكرون مغيرون شكلهم إلى رسل المسيح ) وتتمة العبارة تدل أنهم كانوا كرسل المسيح ويشتبهون بهم كما يشتبه الشيطان بالملائكة، إذ ( يغير إلى ملاك نور ) وفي الفصل الخامس عشر من سفر الأعمال ما يوضح هذه المسألة وهو أن اليهود كانوا ينبثون بين المسيح ويعلمونهم غير ما يعلمهم رسل المسيح، وأن المشايخ والرسل أرسلوا برنابا وبولس إلى أنطاكية ليحذروا أهلها من هؤلاء المعلمين الكاذبين، وأن بولس وبرنابا تشاجرا وافترقا هنالك. وهما ما تشاجرا وافترقا إلا لاختلافهما في حقيقة تعليم المسيح، فبرنابا يذكر في مقدمة إنجيله أن بولس كان من الذين خالفوا المسيح في تعليمه. ولا شك أن برنابا أجدر بالتقديم والتصديق من بولس لأنه تلقى عن المسيح مباشرة، وكان بولس عدوا للمسيح والمسيحيين ولولا أن قدمه برنابا للرسل لما وثقوا بدعواه التوبة والإيمان بالمسيح. ولكن النصارى رفضوا إنجيل برنابا المملوء بتوحيد الله وتنزيهه وبالحكمة والفضيلة، وآثروا عليه بولس وأناجيل تلاميذه لوقا ومرقس – وكذا يوحنا كما حققه بعض علماء أوروبا- لأن تعاليم بولس كانت أقرب إلى عقائد الرومانيين الوثنية، فكانوا هم الذين رجحوها ورفضوا ما عداها، إذ كانوا هم أصحاب السلطة الأولى في النصرانية. وهم الذين كونوها بهذا الشكل.
٥- اختلف علماء الكنيسة وعلماء التاريخ في الأناجيل الأربعة التي اعتمدوها في القرن الرابع : من هم الذين كتبوها
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( ١٥ ) يهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٦ ) ﴾
بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين أنه أخذ الميثاق على أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل، كما أخذه على هذه الأمة الآن، وأنهم نقضوا ميثاقه، وأضاعوا حظا عظيما مما أوحاه تعالى إليهم، ولم يقيموا ما حفظوا منه. وهذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم التي هي من معجزات القرآن الكثيرة. ثم ناداهم بعد ذلك ووجه إليهم الخطاب في إقامة الحجة عليهم بقوله عز وجل :
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ قيل إن هذا الآية نزلت في قصة إخفاء اليهود حكم رجم الزاني حين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وستأتي القصة في السورة. والصواب أن الآية على إطلاقها فكان رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم قد بين لأهل الكتاب كثيرا من الأحكام والمسائل التي كانوا يخفونها مما أنزل الله عليهم، منها حكم رجم الزاني هو مما حفظوه من أحكام التوراة ( كما تراه في ٢٢ : ٢٠ – ٢٤ من سفر التثنية ) ولم يلتزموا العمل به، وأنكروه أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقسم على عالمهم ابن صوريا وناشده الله حتى اعترف به. فهذا مما كانوا يخفونه عند وجوب العمل به أو الفتوى. وكذلك أخفوا صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات به وحرفوه بالحمل على معان أخرى. اليهود والنصارى في هذا سواء. وهذا النوع غير ما أضاعوه من كتبهم ونسوه البتة، كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من خبر الحساب والجزاء في الآخرة. وما أظهره لهم الرسول مما كانوا يخفونه عنه وعن المسلمين كانت الحجة عليهم فيه أقوى، لأنهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يطلع على شيء من كتبهم، ولهذا آمن من آمن من علماء اليهود المصنفين واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ مما كنتم تخفونه فلا يفضحكم ببيانه. وهذا النص حجة عليهم أيضا لأنهم يعلمون أنهم يخفون عن المسلمين وعن عامتهم كثيرا من المسائل لئلا يكون حجة عليهم إذ هم لا يعلمون أنهم يخفون عن المسلمين وعن عامتهم كثيرا من المسائل لئلا يكون حجة عليهم إذ هم لا يعلمون به، كدأب علماء السوء في كل أمة : يكتمون من العلم ما يكون حجة عليهم، كاشفا عن سوء حالهم، أو يحرفونه تحريفا معنويا بحمله على غير معناه المراد.
﴿ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ في المراد بالنور هنا ثلاثة أقوال : أحدهما أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثانيها أنه الإسلام، ثالثها أنه القرآن، ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نورا هو أنها للبصيرة كالنور للبصر، فلولا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات، ولولا ما جاء به النبي من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة دين الله، وحقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها ونسيانه، وعبث رؤساء الدين بالبعض الآخر بإخفاء بعضه وتحريف البعض الآخر، ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون. والكتاب المبين هو القرآن، وهو بين في نفسه مبين لما يحتاج إليه الناس لهديتهم، ولولا عطفه على النور لما فسروا النور إلا به، فإن الأصل في العطف أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، ولكن العطف قد يرد للتفسير، وهو الذي أختاره هنا لتوافق هذه الآية وما بعدها قوله تعالى في أواخر سورة النساء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴾ [ النساء : ٧٢ ] وقد قال هنا بعد ذكر هذا النور : يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ فبين مزية النور والكتاب المبين بضمير المفرد فقال :﴿ يَهْدِي بِهِ ﴾ ولم يقل بهما، فكان هذا مرجحا لكون المراد بهما واحدا وهو القرآن. وثم شواهد أخرى تؤيد ما اخترناه غير آيتي النساء، كقوله تعالى في المهتدين من أهل الكتاب في سورة الأعراف بعد ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] وكقوله تعالى في سورة التغابن ﴿ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ﴾ [ التغابن : ٨ ] على أن هذا المعنى لا يتغير إذا قلنا إن النور هنا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه هو المظهر الأكمل للقرآن ببيانه له وتخلقه به كما قالت عائشة ( رض ) : كان خلقه القرآن١. ولا نعدم لذلك شاهدا من آياته فقد وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب بقوله :﴿ وسراجا منيرا ﴾.
وليرجع القارئ إلى تفسيرنا لآيتي النساء اللتين ذكرناهما آنفا فقد بينا في تفسيرهما معنى كون القرآن نورا مبينا بما ينفعه في فهم ما هنا.
وقد ذكر الله هنا لهذا النور ثلاث فوائد :
الأولى : أنه يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام، أي أن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور يهديه – هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة – الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس. فيكون متمتعا بالطيبات مجتنبا للخبائث، تقيا مخلصا مصلحا، ويكون في الآخرة سعيدا منعما، جامعا بين النعيم الحسي الجسدي، والنعيم الروحي العقلي. وخلاصة هذه الفائدة أنه يتبع دينا يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة، لأنه دين السلام والإخلاص لله ولعباده، دين المساواة والعدل، والإحسان والفضل.
الفائدة الثانية : الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والأوهام التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها – إلى نور التوحيد الخالص الذي يحرر صاحبه من رق رؤساء الدين والدنيا، فيكون بين الخلق حرا كريما، وبين يدي الخالق وحده عبدا خاضعا. وقوله :﴿ بإذنه ﴾ فسروه بمشيئته وبتوفيقه. والإذن العلم. يقال أذن بالشيء إذا علم به، وآذنته به أعلمته فأذن، ويقال أذن بالتشديد وتأذن بمعنى أعلم غيره، ويقال أذن له بالشيء إذا أباحه له، وأذن له أذنا استمع. والظاهر أن الإذن هنا بمعنى العلم أي يخرجهم من الظلمات إلى النور بعلمه الذي جعل به هذا القرآن سببا لانقشاع ظلمات الشرك والضلال من نفس من يهتدي به، واستبدال نور الحق بها، بنسخه وإزالته لها، فهو إخراج يجري على سنن الله تعالى في تأثير العقائد الصحيحة والأخلاق والأعمال الصالحة في النفوس وإصلاحها إياها، لا إنه يحصل بمحض الخلق واستئناف التكوين من غير أن يكون القرآن هو المؤثر فيه.
الفائدة الثالثة : الهداية إلى الصراط المستقيم. وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت، لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف فيبطئ سالكه أو يضل في سيره، وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله، كما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الخلاف والتأويل، بأن تكون عقائده وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال، وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الله الإنسان.
١ أخرجه مسلم في المسافرين حديث ١٣٩..
أقام الله الحجة على أهل الكتاب كافة، ثم بين ما كفر به النصارى خاصة، فقال :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ قال البيضاوي :( هم الذين قالوا بالإتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا وقالوا : لا إله إلا واحد – لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحا لجهلهم، وتفضيحا لمعتقدهم ) وذكر الفخر الرازي في تفسيره أن هذا القول مبني على عقيدة الحلول والاتحاد، وأنه لازم مذهب النصارى وإن كانوا لا يقولونه أو يقول أحد منهم. وصرح بعض المفسرين بأن هذا المذهب مذهب اليعقوبية منهم خاصة. وذلك أن السابقين من المفسرين والمؤرخين ذكروا أن النصارى ثلاثة فرق : اليعقوبية والملكانية والنسطورية. واعلم أن أمثال الزمخشري والبيضاوي والرازي لا يعتد بما يعرفون عن النصارى، فإنهم لم يقرؤوا كتبهم ولم يناظروهم فيها وفي عقائدهم إلا قليلا، وإنما يأخذون ما في كتب المسلمين عنهم قضايا مسلمة. ومنها ما هو مشهور فيها من تفسير الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة، فالقول بها ينافي وحدانية الخالق. وكان يقول مثل هذا بعض علماء النصارى لعلماء المسلمين، والظاهر أن بعض المتقدمين كان يعتقد هذا، كما أنه يوجد الآن في نصارى أوروبا وغيرهم كثير من الموحدين الذين يعتقدون أن المسيح نبي رسول لا إله. ولعله لم يبق في النصارى من يقول بتلك الفلسفة، لأنهم في كل عصر يغيرون في دينهم ما شاءوا أن يغيروا في فلسفته وغير فلسفته.
وكان أكبر تغيير حدث بعد هؤلاء المفسرين مذهب ( البروتستانت ) أي إصلاح النصرانية، حدث منذ أربع قرون وصار هو السائد في أعظم الأمم وارتقاء كالولايات المتحدة وانكلترة وألمانية. نسف هذا المذهب أكثر التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله، ثم استبدل بها تقاليد أخرى فصار عدة مذاهب في الحقيقة، مع هذا ترى المصلحين الذين زعموا أنهم أعادوا النصرانية إلى أصلها لم يستطيعوا أن يرجعوها إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح وسائر أنبياء بني إسرائيل ورسل الله أجمعين، فهم لا يزالون يقولون بألوهية المسيح وبالتثليث ويعدون الموحد غير مسيحي، كما يقول ذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان من فرق النصرانية في هذا العصر – وهم الكاثوليك والأرثوذكس – فجميع فرق نصارى هذا العصر تقول إن الله هو المسيح ابن مريم، وأن المسيح ابن مريم هو الله. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والظاهر أن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة كما قال مفسرونا.
قال ( الدكتور بوست ) في تاريخ الكتاب المقدس عند الكلام على لفظ الجلالة ما نصه :
( طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفدى، وإلى الروح القدس التطهير. غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد. وقد أشير إلى هذا في ( تلك ص ١ ) حيث ذكر ( الله ) و( روح الله ) الخ ( قابل مز ٣٣ : يو ١٦ : ١ و٣ ) والحكمة الإلهية المشخصة في ( أم ص ٨ ) تقابل الكلمة في ( يو ص ١ ) وربما تشير إلى الأقنوم الثاني. وتطبق نعوت القديم على كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة على حدته )اه، بحروفه.
والحق أن العهد القديم – أي كتب الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح – ليس فيها شيء ظاهر ولا خفي في عقيدة التثليث لأنها عقيدة وثنية محضة. ومن أغرب التكلف تفسير الحكمة في أمثال سليمان بالكلمة بالمعنى الذي يريدونه وهو وهم لم يخطر في بال سليمان، ولا المسيح عليهما السلام، وسترى أنهم قالوا : إن استعمال الكلمة بهذه المعنى لم يرد إلا في كلام يوحنا ! ! وقد كان جميع أنبياء الله تعالى موحدين، أعداء للوثنية والوثنيين. وإنما يصح أن يقال إن التوحيد ظاهر جلي في العهد الجديد أيضا، والتثليث فيه هو الخفي. فإن العقيدة التي يدعو إليها دعاة النصرانية، والعبارة التي يذكرونها في ألوهية المسيح والتثليث لا تفهم كلها من العهد الجديد، بل هنالك عبارات يتحكمون في تفسيرها وشرحها كما يهوون، على خلاف شهير فيها بين متقدميهم ومتأخريهم.
والعمدة عندهم في العقيدة أول عبارة من إنجيل يوحنا وهي ( في البدء كانت الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة ) وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح، فصار معنى الفقرة الثالثة من عبارة إنجيل يوحنا : والله هو المسيح ابن مريم. وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم، فكيف يقول البيضاوي والرازي أنه أسند إليهم لازم مذهبهم ؟.
قال بوست في قاموسه :( يقصد بالكلمة السيد المسيح ولم ترد هذه اللفظة بهذا المعنى إلا في مؤلفات يوحنا ( ١ : ١- ١٤ وأيو ١ : ١ ورؤ ١٩ : ١٣ ) وقد استعمل الفيلسوف ( فيو ) لفظ ( الكلمة ) غير أنه يقصد بها غير ما قصد يوحنا )اه.
أقول : قد بينا في تفسير ( فنسوا حظا مما ذكروه به ) أنهم قالوا إن يوحنا ما كتب إنجيله في آخر عمره إلا إجابة لاقتراح من ألحوا عليه بذلك للعلة التي ذكروها. فلولا هذا الاقتراح والإلحاح لما كتب، ولو لم يكتب لم تعرف هذه العقيدة – فثبت أن هذه العقيدة لم يذكرها المسيح نفسه في كلامه ولا دعا إليها أحد من تلاميذه الذين انتشروا في البلاد للدعوة إلى إنجيله، ولم يعرفها أحد في العشر العاشر من القرن الأول الذي كتب فيه يوحنا إنجيله هذا، إن صح أن يوحنا الحواري هو الذي كتبه – ولن يصح – ولا يعقل أن يسكت المسيح وجميع تلاميذه عن هذه العقيدة إذا كانت هي أصل الدين كما تزعم النصارى، بل الذي تتوفر عليه الدواعي أن يقررها المسيح نفسه في كلامه، ويجعلها تلاميذه أول ما يدعون إليه ويكررونه في أقوالهم ورسائلهم.
ولا يغرنك ما أشار إليه ( بوست ) من الشواهد عن رسالة يوحنا ورؤياه فتظن أن هنالك نصا أو نصوصا في إثبات هذه العقيدة، كلا ! إن الشاهد الذي عزاه إلى أول رسالته الأولى هو :( الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة ) فكلمة الحياة لا تفيد هذه العقيدة إلا بتحكمهم. وأما الشاهد الذي عزاه إلى الرؤيا فهو :( ١١ ثم رأيت السماء مفتوحة إذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا بالعدل يحكم ويحارب ١٢ وعيناه كلهيب من نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو ١٣ وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله ١٤ والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض نقيا ١٥ ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد ) فأنت ترى أن هذه الأوصاف لا تنطبق على المسيح وإنما تنطبق على أخيه محمد عليهما الصلاة والسلام، فمن أسمائه الصادق والأمين، وبالعدل كان يحكم ويحارب الخ ولم يكن للمسيح شيء من هذه الصفات، لأنه لم يحكم ولم يحارب ولم يرع الأمم. ولفظ ( كلمة الله ) هنا لا يفيد معنى تلك العقيدة ولا يشير إليها لأن كل شيء وجد بكلمة الله وهي كلمة التكوين ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ [ يس : ٨٢ ].
وأما الدليل على كون هذه العقيدة وثنية فهو يظهر لك جليا فيما كتبناه في تفسير قوله تعالى من هذا الجزء :﴿ يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ﴾ – إلى قوله – ﴿ ولا تقولا ثلاثة ﴾ [ النساء : ١٦٩ ] وذلك أن زعمهم ( أن الله هو المسيح ابن مريم ) جزء من عقيدة التثليث المأخوذة عن قدماء المصريين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثني الشرق والغرب. وقد أوردنا هنالك من شواهد كتب التاريخ وآثار الأولين ما علم به قطعا أن النصارى أخذوا هذه العقيدة عنهم. وسنعود إلى ذكرها عند تفسير قوله تعالى في هذه السورة :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ﴾ [ المائدة : ٧٣ ] – قال تعالى في تبكيت هؤلاء الناس ورد زعمهم :
﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى المتجرئين على مقام الألوهية بهذا الزعم الباطل : من يملك من أمر الله وإرادته شيئا يدفع به الهلاك والإعدام عن المسيح وأمه وعن سائر أهل الأرض إن أراد عز وجل أن يهلكهم ويبيدهم ؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتجهيل، أي أن المسيح وأمه من المخلوقات التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا لا يوجد أحد يستطيع أن يرد إرادته، لأنه هو مالك لأمر الوجود كله، ولا يملك أحد من أمره شيئا يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده، أو يحمله على أمر لا يريده، أو يستقل بعمل دونه. تقول العرب : ملك فلان على فلان أمره. إذا استولى عليه فصار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئا إلا به أو بإذنه. قال ابن دريد في وصف الخمر التي لم يكسر المزج حدتها، ولم تبطل النار تأثيرها :
لم يملك الماء عليها أمرها ولم يدنسها الضرام المحتضى
وقوله تعالى :﴿ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا ﴾ أبلغ من مثل هذا القول لأنه نفى أن يملك أحد بعض أمره تعالى فضلا عن ملك أمره كله. فصار المعنى أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يرد أمره أو يحوله عن إرادته بوجه ما ولو الدعاء والشفاعة، إذ لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه لمن ارتضاه، فالأمر في ذلك كله له وحده عز وجل. ويدخل في عموم ذلك المسيح نفسه وغيره من الأنبياء، وكذا الملائكة عليهم السلام. فإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الهلاك أو عن والدته كما أنه لا يستطيع غيره أن يدفعه عنه إذا أراد الله تعالى إنزاله به، فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء ؟
ومن غريب تهافت هؤلاء الناس أنهم قالوا إن شر نوع من أنواع الإهلاك وهو الصلب نزل بالمسيح – الذي هو الكلمة، والله هو الكلمة بزعمهم – ولم يستطع أن يدفعه من نفسه، وأنه استغاث بربه خائفا وجلا ضارعا خاضعا ليصرف عنه ذلك الكأس فلم يجبه إلى ما طلب ! ! وهم يكابرون أنفسهم في دفع هذا التهافت بمثل قولهم : أنه كان له طبيعتان ومشيئتان، ثنتان منهما إلهيتان وثنتان بشريتان، وليت شعري إذا كان هذا ممكنا فهل يمكن معه أن يجهل المسيح بطبيعته البشرية طبيعته الإلهية فيعترض عليها بمثل قولهم عنه في إنجيل متى ٣٧ : ٤٦ ( الهي الهي لماذا تركتني ) ويستنجد غير عالم بما يمكن وما لا يمكن لها بمثل ما قالوه عنه في إنجيل متى ٢٦ : ٣٩ ( ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي قائلا : يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس – إلى أن قال – ٤٢ فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا : إن يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ) وهذا أعظم حجة عليهم مصدقة لحجة القرآن، فإن مشيئة الله لا يردها شيء.
ثم إن الطبيعة البشرية هي التي خاطبت البشر فإذا كان هذا شأنها لا يقبل قولها ولا يوثق بتعليمها، فكيف تجعل مع الطبيعة الأخرى شيئا واحدا، يسمى ربا وإلها يعبد ؟ والناس ما رأوا إلا الطبيعة البشرية، ولا عرفوا غيرها ولا سمعوا إلا كلامها ولا رأوا إلا أفعالها ؟ والنكتة في عطف " من في الأرض جميعا " على المسيح وأمه التذكير بأنهما من جنس البشر الذين في الأرض، وما جاز ع
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي وبحري بن عمرو وشاي بن عدي فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى. فأنزل الله فيهم ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ إلى آخر الآية. ومن قرأ كتب اليهود والنصارى رأى فيها لقب ( ابن الله ) قد أطلق على آدم. ( انظر إنجيل لوقا ٣ : ٣٨ ) وعلى يعقوب وداود مع لقب البكر ( انظر سفر الخروج ٤ : ٢٢ و٢٣ والمزمور ٩٨ : ٢٦ و٢٧ ) وكذا على إفرام ( انظر نبوة ارمياء ٣١ : ٩ ) وعلى المسيح عليهم السلام ولكن مع لقب الحبيب فهو تفسير لكلمة ابن. وأطلق مجموعا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين. وهذا الاستعمال كثير في العهد.
ومنه ما حكاه متى في وعظ المسيح على الجبل ( طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون ) وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية ٨ : ١٤ ( لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ) وجاء في سياق المناظرة بين المسيح واليهود من إنجيل يوحنا ما نصه ٨ : ٤١ ( أنتم تعلمون أعمال أبيكم، فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني – إلى أن قال –٤٤ أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ) وفي هذا المعنى ما جاء في الرسالة الأولى من رسالتي يوحنا ٣ : ٩ ( كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيئة لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس ).
فعلم من هذه النصوص وأشباهها أن لفظ ( ابن الله ) يستعمل في كتب القوم بمعنى حبيب الله الذي يعامله الله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم. فعطف أحباء الله على أبناء الله للتفسير والإيضاح، وإنما تحكم النصارى بهذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وبالمعنى المجازي بالنسبة إلى غيره من الصالحين. ومعنى الابن الحقيقي محال على الله تعالى لأنه عبارة عن الولد الذي ينشأ من تلقيح الرجل بمائه لبعض ما في رحم المرأة من البيض. فالمعنى المجازي متعين كما ترى وسنوضحه في تفسير ﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] ولما كان ما ذكرناه مؤيدا بالشواهد هو المعنى المراد لأولئك المتبجحين من اليهود والنصارى حسن رد الله تعالى عليهم بقوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء ﴾ أي قل لهم أيها الرسول : إذا كان الأمر كما زعمتم فلم يعذبكم الله تعالى بذنوبكم في الدنيا كما تعلمون من تاريخكم الماضي وكما ترون في تاريخكم الحاضر. ومن هذا العذاب لليهود ما كان من تخريب الوثنيين لمسجدهم الأكبر ولبلدهم المرة بعد المرة، ومن إزالة ملكهم من الأرض، وللنصارى ما اضطهدهم به الأمم وما نكل به بعضهم ببعض. وهو شر من تنكيلهم وتنكيل الوثنيين باليهود. أن الأب لا يعذب ابنه والمحب لا يعذب حبيبه، فلستم إذا أبناء لله ولا أحباءه، بل أنتم بشر من جملة ما خلق الله تعالى، وهو عز وجل الحكم العدل لا يحابي أحدا، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب، فهو يجزيكم بأعمالكم، كما يجزي سائر البشر أمثالكم، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فإنما العبرة بالإيمان الصحيح والأعمال الصالحات، لا بما سلف من الآباء والأمهات.
﴿ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ أثبت الله تعالى في هذه الآية مثل ما أثبت في التي قبلها من أن له ملك السماوات والأرض وما بين أجرامهما وأجزائهما من المخلوقات، إلا أنه ختم تلك بكونه على كل شيء قديرا، لأن المقام مقام الغرابة في الخلق، وامتياز بعضه على بعض. وختم هذه ببيان كون المرجع والمصير إليه، لأن المقام مقام الجزاء على الأعمال. وذلك أن السماوات والأرض ومن فيهما وبين عالميهما نسبتها إليه تعالى واحدة، وهي أنه الخالق المالك الرب ذو التصرف المطلق في كل شيء بمقتضى العلم والحكمة، والعدل والفضل، وهي المخلوقات المملوكة، وجميع من يعقل فيها من الإنس والجن والملائكة عبيد له لا أبناء ولا بنات ﴿ إن كل ما في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا ﴾ [ مريم : ٩٣ ] وفي ختمها بقوله ( وإليه المصير ) إشعار بأنه سيعذبهم في الآخرة على هذا الكفر والغرور والدعاوى الباطلة، فيعلمون عند ما يصيرون إليه أنهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء ولا أحباء يحابون.
وقد استشكل بعضهم كون تعذيبهم دليلا على بطلان دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، لأنه إن أريد به عذاب الآخرة لا تقوم به الحجة عليهم لإنكارهم إياه، وإن أريد به عذاب الدنيا أورد عليه أنه غير قادح في ادعائهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته لم يسلموا من محن الدنيا كالذي حصل في وقعة أحد وقتل الحسن والحسين عليهما السلام، ونحن نعتقد أن الذين ابتلوا بهذه المحن من أحباء الله تعالى. وأجاب الرازي عن هذا الإشكال بثلاثة أجوبة حاصل الأول : أننا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم وخيار أمته من أحباء الله تعالى ولا ندعي أنهم أبناء الله تعالى. وحاصل الثاني : أن المراد عذاب الآخرة وقد اعترف به اليهود إذا قال ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾ [ البقرة : ٨٠ ]. وحاصل الثالث : أن المراد به المسخ الذي وقع ببعض اليهود قبل الإسلام أضيف إلى المخاطبين لأنهم من جنسهم. قال الرازي بعد شرح الأجوبة بعبارة أخرى : وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسول عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود، فإنهم يقولون لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد حتى يكون الاستدلال قويا متينا اه.
ونحن نقول إن هذا الأخير أضعفها وإنهم لا يعترفون به أيضا، وإنه لا حجة فيه ولا في الثاني على النصارى، فيكون تسليما لهم أو إقرارا على دعوى أنهم أبناء الله، وهم الذين يكثرون هذه الدعوى، ويتبجحون بها، ثم إن التعبير بالمضارع ( يعذبكم ) ينفي أن يكون المراد تعذيبا خاصا بطائفة وقع في الزمن الماضي. وأقوى أجوبته الأول ولكن لم يفطن لما فيه من القوة ولم يبينه بيانا تاما، على أنه لم يحرر أصل الدعوى فيهتدي إلى تحرير الجواب. والصواب أن هذا الإشكال لا يرد على الإسلام والقرآن، وإليك البيان الصحيح الذي يتضاءل به حتى يدخل في خبر كان :
كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ميزهم لذاتهم على جميع البشر فلا يمكن أن يساويهم شعب آخر عنده وإن كان أصح منهم إيمانا أصلح عملا، وإنهم لا يكونون تابعين لغيرهم في الدين، فلا يصح أن يتبعوا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه عربي لا إسرائيلي. والفاضل لا يتبع المفضول بزعمهم. ولا يمكن أن يؤاخذهم الله على الكفر به لأنهم شعبه الخاص المحبوب، فهو لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء والمحب لمحبوبه الخاص. وأما النصارى فقد أربوا عليهم في الغرور، وإن كان النبي الذي يدعون اتباعه قد جاهد غرور اليهود جهادا عظيما. فهم يدعون أن المسيح قد أفداهم بنفسه وأنهم أبناء الله بولادة الروح، والمسيح ابنه الحقيقي، يخاطبون الله تعالى دائما بلقب الأب. وقد كانت جميع فرقهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشد من اليهود فسادا وإفسادا وفجورا وظلما وعدوانا بشهادة مؤرخي الأمم كلها منهم ومن غيرهم، ومع هذا كله كانوا يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم غير محتاجين إلى إصلاح في دينهم ولا دنياهم، ولهذا رفضوا ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص والفضائل الصحيحة والأعمال الصالحة، وردوا ما جاءهم به من كون مرضاة الله تعالى ومثوبته لا تنالان إلا بتزكية النفس وإصلاحها بالتوحيد والعمل.
هذا حاصل ما كان عليه اليهود والنصارى من الغرور بدينهم وبأنفسهم وبأنبيائهم الذين تركوا هديهم وضلوا طريقهم، وقد عبر الكتاب الحكيم عن ذلك هنا بأوجز لفظ وأخصره وهو قولهم ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) وحاصل رده عليهم : أنكم من نوع البشر الذي هو من جنس مخلوقات الله تعالى، وأنه ليس لكم ولا لغيركم من طوائف البشر امتياز ذاتي خاص ولا نسبة إليه تعالى، لأن جميع خلقه بالنسبة إليه سواء، وقد مضت سنته في البشر بأن يعذبهم في الدنيا بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير من أعمالهم ويغفرها فلا يعجل لهم العذاب عليها. وذلك بحسب مشيئته المطابقة لعلمه وعدله وحكمته، فإذا كان لكم امتياز ذاتي على جميع البشر فلم يعذبكم بذنوبكم في هذه الدنيا كما يعذب غيركم بذنوبهم ؟ وأنتم تعلمون هذا علم اليقين من أنفسكم ومن تاريخكم. والمضارع ( يعذبكم ) هنا لبيان الشأن المستمر في معاملتهم، فهو يدل على أن هذا التعذيب ثابت في كل زمان متى وقع سببه، ووجدت علته. والكلام في سنة الله في الأمم والشعوب، وتاريخهم فيه كتاريخ غيرهم قبل البعثة وفي زمنها وبعدها : ما عذبت أمة من الأمم بشيء إلا وعذبوا بمثله، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه ولو مجازا بحسب ما بيناه بالشواهد من كتبهم، لما حل بهم ما حل بغيرهم، أو لم تكن لهم ذنوبهم يعذبون بها كما قال يوحنا ( ١ يو ٣ : ٩ ).
إذا فقهت هذه ظهر لك أن إشكال الرازي غير وارد أصلا، فإن الكلام في الأمم والشعوب. وإبطال دعوى أن يكون شعب منها ممتازا عند الله بذاته، لا تجري عليه سننه في سائر خلقه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أن أمته لها مثل هذا الامتياز، وأن كل من انتمى إليها كان من أبناء الله ولا أحبائه مهما عملوا من الأعمال، فيقال : لم غلبوا إذا في غزوة أحد كيف وقد كان فيهم بأحد المنافقون وضعفاء الإيمان ؟ يثبت لك هذا ما أنزله الله تعالى في شأن غزوة أحد من الآيات، فقد بين فيها أن ما أصاب المسلمين إنما أصابهم بذنوب بعضهم، إذ خالف الرماة أمر نبيهم وقائدهم، وتنازعوا واختلفوا في أمرهم، وإن الأيام دول، والعاقبة للمتقين، فهم الذين يتعظون بالحوادث فلا يعودون إلى مثل ما عوقبوا به.
وقد قال تعالى في فاتحة سياق هذه القصة ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٧- ١٤١ ] ثم قال ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ﴾ [ آل عمران : ١٥٢ ] الخ آية ١٥٥ ثم قال { أ
أقام الله الحجة على أهل الكتاب ودحض شبهتهم التي غرتهم في دينهم، فحسن بعد هذا أن يذكر بحجته عليهم يوم القيامة إذا هم أصروا على غرورهم وضلالهم، فقال :
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ ﴾ أي قد جاءكم رسولنا المبشر به في كتبكم، المنتظر في اعتقادكم، فإن الله أخبركم على لسان موسى أنه سيقيم نبيا من بني إسماعيل إخوتكم، وعلى لسان عيسى ابن مريم بأنه سيجيء بعده البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شيء، ولا تزال هذه البشارات في كتبكم، وإن حرفتموها بسوء فهم أو بسوء قصد منكم، وهو النبي الكامل المعهود الذي سأل أجدادكم عنه يحيى ( يوحنا ) عليه السلام، ففي أوائل الإنجيل الرابع أن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين فسألوا يوحنا : أأنت المسيح ؟ قال لا. أأنت أيليا ؟ قال لا. أأنت النبي ؟ قال لا. وهذا هو الرسول محمد النبي العربي الأمي الذي لم يتعلم شيئا، وهو يبين لكم على فترة أي انقطاع من الرسل، وطول عهد على الوحي، جميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، وما يصلح به أمر دنياكم، من العقائد الحق التي أفسدتها عليكم نزعات الوثنية، والأخلاق والآداب الصحيحة التي أفسدها عليكم الإفراط والتفريط في الأمور المادية والروحية، والعبادات والأحكام التي تصلح بها أموركم الشخصية والاجتماعية – فترك التصريح بمفعول ( يبين لكم ) إفادة العموم – ويدخل فيه ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإقامة الحجة عليكم. ولو لم يكن رسولا من عند الله تعالى لما عرف هذا ولا ذاك مما تقاصرت عنه علوم أحباركم ورهبانكم، وحكمائكم وساستكم. جاء رسولنا محمد يبين لكم كل هذا ليقطع معذرتكم ويمنعكم يوم القيامة ﴿ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ﴾ يبشرنا عاقبة المؤمنين الصالحين المتقين، وينذرنا ويخوفنا سوء عاقبة المفسدين الضالين المغرورين.
﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ يبين لكم أن أمر النجاة والخلاص، والسعادة الأبدية في دار القرار، ليس منوطا بأمانيكم التي تتمنونها، وأوهامكم التي تغترون بها، بل هو منوط بالإيمان والأعمال، وأن الله تعالى لا يحابي أحدا من الناس، قال تعالى :﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [ النساء : ١٢٣ – ١٢٤ ] ﴿ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فلا يعجزه أن يريكم صدق نبيه بنصر دعوته وإعلاء كلمته في الدنيا، لتقيسوا على ذلك إن عقلتم ما يكون من الأمر في الدار الأخرى.
روى أبناء إسحاق وجرير والمنذر وأبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه. فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذا : إنا ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده. فانزل الله الآية. أي أنزلها في هذا السياق متضمنة للرد عليهم.
ومن مباحث اللفظ في اٍلآية أن الفترة من فتر الشيء إذا سكن أو زالت حدته. وقال الراغب : الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، وذكر الآية. والمراد بها هنا انقطاع الوحي وظهور الرسل عدة قرون. وقوله ( أن تقولوا ) تقدم مثله، ومنه ﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] في آخر سورة النساء. وتقدم وجه إعرابه، وأن بعضهم يقدر له : كراهية أن تقولوا، ومثله اتقاء أن تقولوا، بل هذا أحسن وبعضهم يقدر النفي فيقول : لئلا تقولوا. والمعنى على كل وجه ما ذكرناه آنفا من منعهم من هذا الاحتياج وقطع طريقه عليهم.
أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشىء غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
قال عز وجل :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ﴾ أي واذكر أيها الرسول لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوة القرآن إذ قال موسى لقومه بعد أن أنقدهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من أرض العبودية : اذكروا نعمة الله عليكم بالشكر له والطاعة لأن ذلك يوجب المزيد، وتركه يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد : ولفظ نعمة يفيد العموم بإضافته إلى اسم الله تعالى، وقد بين لهم موسى مراده بهذا العموم بذكر ثلاثة أشياء كانت بالفعل، بعد نعمة إنقاذهم من المصريين التي هي بمعنى النفي والسلب، وهذه الأشياء الحاصلة المشهودة هي أعظم أركان النعم ومجامعها التي يندرج فيها ما لا يحصى من الجزئيات الدينية والدنيوية، وهاك بيانها :
الأول :- وهو أشرفها – جعل كثير من الأنبياء فيهم. وهذا يصدق بوجود المبلغ لذلك ووجود أخيه هارون ومن كان قبلهما عليهم السلام، وتشعر العبارة مع ذلك بأن النعمة أوسع، وأن عدد هؤلاء الأنبياء كثير أو سيكون كثيرا، بناء على أن المراد بالجعل بيان الشأن، لا مجرد الحصول بالفعل في الزمنين الماضي والحال، وقيل : كان عدد الأنبياء فيهم كثيرا في عهد موسى، حتى حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل إذ يصعده لمناجاة الله تعالى صاروا كلهم أنبياء.
والمشهور من معنى النبوة عند أهل الكتاب الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل. وكان جميع أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى مؤيدين للتوراة عاملين وحاكمين بها حتى المسيح عليهم السلام. وللنصارى تحكم في إثبات النبوة ونفيها عمن شاءوا من أنبياء بني إسرائيل حتى أنهم لا يعدون سليمان بن داود نبيا ! ! بل حكيما أي فيلسوفا، على أن كتبه هي أعلى كتبهم المقدسة علما وحكمة، فهي أعلى من حكم الأناجيل التي عندهم، وقد كان هذا مما ينتقده عامتهم على رؤساء كنيستهم، حتى قال أحد الأذكياء اللبنانيين : إن الكنيسة لم تعترف بنبوة سليمان ليكون منتهى مبالغة المعجبين بحكمه وأمثاله من أهل الفهم أن يرفعوه إلى مرتبة النبوة فيبقى دون المسيح، وإن رؤساء الكنيسة كانوا يخشون أن يقول الناس : إنه أحق من المسيح بالألوهية، إذا هم اعترفوا له بالنبوة. أما علماء المسلمين الذين تكلموا في المفاضلة بين الأنبياء فقد فضلوا المسيح على سليمان فهو عندهم في المرتبة الرابعة بعد محمد وإبراهيم وموسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد تقدم القول في المفاضلة في أواخر تفسير سورة النساء.
الثاني : جعلهم ملوكا. لولا ما ورد في التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لكانت هذه النعمة موضع اشتباه عند المتأخرين الضعفاء في فهم العربية، لأن بني إسرائيل لم يكن فيهم ملوك على عهد موسى وإنما كان أول ملوكهم – بالمعنى العرفي لكلمة ملك وملوك – شاول بن قيس ثم داود الذي جمع بين النبوة الملك. وإن من يفهم العربية حق الفهم يجزم بأنه ليس المراد أنه جعل أولئك المخاطبين رؤساء للأمم والشعوب ويسوسونها ويحكمون بينها، ولا أنه جعل بعضهم ملوكا لأنه قال ( وجعلكم ملوكا ) ولم يقل : وجعل فيكم ملوكا. كما قال : جعل فيكم أنبياء، فظاهر هذه العبارة أنهم كلهم صاروا ملوكا بعد أن كانوا كلهم عبيدا للقبط. بل معنى الملك هنا الحر المالك لأمر نفسه، وتدبير أمر أهله، فهو تعظيم لنعمة الحرية والاستقلال، بعد ذلك الرق والاستعباد. يدل على ذلك التفسير المأثور، ففي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا عند ابن أبي حاتم ( كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا ) وفي حديث زيد بن أسلم ( من كان له بيت وخادم فهو ملك ) رواه أبو داود في مراسيله تفسيرا الآية بلفظ ( زوجة ومسكن وخادم ) وروى ابن جرير مثله عن ابن عباس وعن مجاهد. وعن ابن عباس رواية أخرى سنأتي بنصها وقد صححوا سندها. والمرفوع ضعيف السند. والمعنى الجامع لهذه الأقوال، أن المراد بالملك هنا الاستقلال الذاتي والتمتع بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف وسياسة البيوت، وهو مجاز تستعمله العرب إلى اليوم في جميع ما عرفنا من بلادهم. يقولون لمن كان مهنئا في معيشته، مالكا لمسكنه، مخدوما مع أهله : فلان ملك، أو ملك زمانه، أي يعيش عيشة الملوك. وترى مثل هذا الاستعمال المجازي في رؤيا يوحنا قال ١ : ٦ ( وجعلنا ملوكا وكنهة ).
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى أنه جعلهم ملوكا بالقوة والاستعداد، بما آتاهم من الحرية والاستقلال، وشريعة التوراة العادلة التي يرتقون بها في مراقي الاجتماع وهو بشارة بأنه سيكون منهم ملوك بالفعل، لأن ما استعدت له الأمة من ذلك في مجموعها، لا بد أن يظهر أثره بعد ذلك في بعض أفرادها. وهذا المعنى لا يعارض ما قبله، بل يجامعه ويتفق معه، فإن تلك المعيشة المنزلية الراضية، هي الأصل في الاستعداد لهذه العيشة الثانية، - عيشة الملك والسلطة -. فإن الشعوب التي يفسد فيها نظام المعيشة المنزلية، لا تكون أمما عزيزة قوية، فهي إذا كان لها ملك تضيعه فكيف تكون أهلا لتأسيس ملك جديد ؟ فليعتبر المسلمون بهذا، ولينظروا أين هم من المعيشة الأهلية لتي وصفناها !
الأمر الثالث : إيتاؤهم ما لم يؤت أحد من العالمين، أي عالمي زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للملوك العتاة الطغاة كالقبط والبابليين. روى الفريابي وابنا جرير والمنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله ( إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) قال : المرأة والخادم ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) قال : الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. وروى ابن جرير من طريق مجاهد عنه في الأخير أنه المن والسلوى. وروى هو وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد هذا المعنى مع زيادة الغمام الذي ظللهم في التيه. وزاد بعضهم الحجر الذي انبجست منه العيون بعدد أسباطهم، رواه ابن جرير. وقد تقدم تفسير هذه الخصائص في سورة البقرة فيرجع في الجزء الأول من التفسير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة من فصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد، وذكرنا شيئا منها. وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع والكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهم الشعب برجمهما، وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( ١١ قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ١٢ ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، قبل الرب شفاعته ثم قال :( ٢٢ إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية جربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي ٢٣ لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) استثنى الرب كالب فقط. ثم قال لموسى وهارون :( ٢٧ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونه علي ٢٨ قال لهم :" حي أنا " يقول الرب : لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني ٢٩ في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا علي ٣٠ لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ماعدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ٣١ وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ٣٢ فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ٣٣ وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر ٣٤ كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ٣٥ أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون ).
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها، لا من حيث التكرار، ولا من حيث الاختلاف والتعارض، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى، ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل. وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي :
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال :( مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها )١ رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.

أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشىء غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ﴾ المقدسة المطهرة من الوثنية لما بعث الله من الأنبياء دعاة التوحيد وفسر مجاهد المقدسة بالمباركة. ويصدق بالبركة الحسية والمعنوية، وروى ابن عساكر عن معاذ بن جبل : أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات. وروى عبد الرازق وعبد بن حميد عن قتادة أنها الشام. والمعنى واحد فالمراد بالقولين القطر السوري في عرفنا. وهذا يدل على أن هذا التحديد لسورية قديم، وحسبنا أنه من عرف سلفنا الصالح وقالوا إنه هو مراد الله تعالى، ولا أحق وأعدل من قسمة الله تعالى وتحديده. وفي اصطلاح بعض المتأخرين أن سورية هي القسم الشمالي الشرقي من القطر والباقي يسمونه فلسطين، أو بلاد القدس، والمشهور عند الناس أنها هي الأرض المقدسة. القول الأول هو الصحيح فإن بني إسرائيل ملكوا سورية، فسورية وفلسطين شيء واحد في هذا المقام. ويسمون البلاد المقدسة أرض الميعاد فإن الله تعالى وعد بها ذرية إبراهيم. ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب، وقد خرج موسى ببني إسرائيل من مصر ليسكنهم الأرض المقدسة التي وعدوا بها من عهد أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وإنما كان يريد موسى عليه السلام بأرض الموعد البلاد المقدسة ما عدا بلاد الحجاز التي هي أرض أولاد عمهم العرب.
قال الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس : اختصر اسم فلسطين أولا بأرض الفلسطينيين، ثم أطلق على كل الإسرائيليين غربي الأردن فكان يطلق عليها في الأصل ام كنعان. وكانت فلسطين معروفة أيضا بالأرض المقدسة وأرض إسرائيل وارض الموعد واليهودية. وهي واقعة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط بين سهول النهرين ( دجلة والفرات ) والبحر المذكور، وبين ملتقى قارتي آسية وإفريقية، وهي متوسطة بين آشور ومصر وبلاد اليونان والفرس.. إلى أن قال : ويعسر علينا معرفة حدود فلسطين، فإنه مع دقة الشرح عن التخوم التي تفصل بين سبط وآخر لم يشرح لنا في الكتاب المقدس شرحا مستوفى تتميز به تخوم فلسطين عن تخوم الأمم المجاورة لها. ويظهر أن هذه التخوم كانت تتغير من جبل إلى جبل. أما الأرض الموعود بها لإبراهيم والموصوفة في كتابات موسى فكانت تمتد من جبل هور إلى مدخل حماه ومن نهر مصر العريش ( إلى النهر الكبير نهر الفرات ) ( تلك ١٥ ) ١٨ وعد ٣٤ : ٢ – ١٢ وتث ١ : ١٧ ) وأكثر هذه الأراضي كانت تحت سلطة سليمان. فكان التخم الشمالي حينئذ سورية، والشرقي الفرات والبرية السورية، والجنوبي برية التيه وأدوم، والغربي البحر المتوسط. اه بنصه مع اختصار حذف به أكثر الشواهد. ولا حاجة لنا بغير الأخيرة منها وهي التي ذكرناها.
فقوله تعالى :( كتب الله لكم ( يريد به موسى ما وعد الله به إبراهيم، يعني كتب لهم الحق في سكنى تلك البلاد المقدسة بحسب ذلك الوعد، أو في علمه. وليس معناه إنها كلها تكون ملكا لهم دائما، أو لا يزاحمهم فيها أحد. لأن هذا مخالف للواقع ولن يخلف الله عده. فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم الملك في البلاد المقدسة غير صحيح. ويحسن هنا أن نذكر نص التوراة العربية الموجودة الآن في هذا الوعد : جاء في سفر التكوين أنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب ١٢ : ٧ ( وقال لنسلك أعطي هذه الأرض ) وجاء فيه أيضا ما نصه ١٥ : ١٨ ( في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ) وهذا الوعد ذكر في سفر التكوين قبل ذكر ولادة إسماعيل. وجاء فيه بعد ذكر ولادة إسماعيل له ووعد الله بتكثير نسله وبكونهم يسكنون أمام جميع إخوتهم ١٧ : ٨ ( أعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم ) فهذا وذاك يدلان على أن العرب أولى أولاد إبراهيم بأن يكونوا أول من تناولهم العهد والميثاق، والوفاء الأبدي لا يتحقق إلا به.
والأمر كذلك فقد أصبحت تلكم البلاد كلها عربية محضة. وليس فيه بعد ذكر ولادة إسحاق وعد لإبراهيم مثل هذا ببلاد ولا بأرض. ولكن فيه أنه يقيم معه عهدا أبديا لنسله، وأن هذا العهد لإسحاق دون إسماعيل فما هذا العهد ؟ إن كان عهد النبوة فالواقع إنها ليست أبدية في نسل إسحاق لأنها انقطعت بالفعل منهم من زهاء ألفي سنة. وكان خاتم النبيين من ولد إسماعيل. وإن كان عهد امتلاك الأرض المقدسة فهو لم يكن أبديا فيهم لأنها نزعت منهم قبل العرب ثم أخذها العرب وصارت لهم بالامتلاك السياسي ثم بالامتلاك الطبيعي، إذ غلبوا على سائر العناصر التي كانت فيها وأدغموها في عنصرهم المبارك الذي وعد الله إبراهيم بأن يباركه ويثمره ويكثره جدا جدا ويجعله أمة كبيرة ( راجع ١٧ : ١٨ من سفر التكوين ) نعم إن الفصل الرابع والثلاثين من سفر العدد صريح في أمر نبي إسرائيل بدخول أرض كنعان واقتسامها بين أسباط بني إسرائيل. وهذا حق قد وقع فلا مراء فيه، وهو يوافق ما قلناه قبل من أن بني إسرائيل يكون لهم حظ في تلك البلاد في وقت ما، وأن وعد الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم يشمل ذلك، ولكنه ليس خاصا بهم، ولا هم اولى به من أولاد عمهم العرب، بل هؤلاء هم الأولى كما حصل بالفعل وكان وعد الله مفعولا.
يوضح هذا ما نقله كاتب سفر تثنية الاشتراع عن موسى صلى الله عليه وسلم وهو ١ : ٦ ( الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا : كفاكم قعودا في هذا الجبل ٧ تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من الغربة ( وفي الترجمة اليسوعية القفر ) والجبل السهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر بالفرات ٨ انظروا قد جعلت أمامكم الأرض. ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم ) وأعاد التذكير بهذا الوعد في الفصل الثالث من هذا السفر، وهذا النص هو المراد من الآية التي نفسرها، ليس في العبارة شيء يدل على الاختصاص ولا التأبيد. ويدخل في عموم نسل إبراهيم نسل ولده إسماعيل.
وأما ذكر إسحاق ويعقوب هنا فلأن الرب ذكرهما بوعده لإبراهيم أبيهما وأكده لهما ولنسلهما. ولكن ليس فيه ذكر التأبيد ( تك ٢٦ و٢٨ ) كما سبق في وعده لإبراهيم، فالوعد المؤكد المؤبد إنما كان لإبراهيم، ولم يصدق إلا بمجموع نسله وهم العرب والإسرائيليون.
ومما يجب التنبيه إليه أن ذكر الرب لإسحاق ما وعد به أباه إبراهيم من إعطاء نسله تلك البلاد معلل بحفظ أوامره وفرائضه وشرائعه ( تك ٢٦ : ٥ وخر ١٣ ) وهو عين الوعد الذي ذكره ليعقوب في المنام في الفصل ال ٢٨ وإن لم يذكر هنالك التعليل. وهو يدل على انتفاء المعلول بانتفاء علته. وتحرير هذا المعنى هو الذي أوحاه الله تعالى إلى خاتم رسله محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بقوله في سورة الإسراء التي تسمى أيضا سورة بني إسرائيل وملخصه أنهم يفسدون في الأرض مرتين قبل الإسلام، فيسلط عليهم كل مرة من يذلهم ويستولي على مدينتهم ومسجدهم ويتبروا ما استولوا عليه منهما تتبيرا، وقد كان ذلك. ثم قال " عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا " –الإسراء ٨- قال المفسرون وقد عادوا وعاد انتقام العدل الإلهي منهم. فسلط الله عليهم الروم قبل المسيحية وبعدها ثم المسلمين، ومزقوا في الأرض كل ممزق.
وتدل بعض الآيات على أن الملك لا يعود لهم، ولولا ذلك لكانت آية :" عسى ربكم " أرجى الآيات لهم. لأنها تدل على أن الأمر يدور مع العلة وجودا وعدما، وإنهم إن عادوا إلى الإيمان الصحيح والإصلاح يعود إليهم ما فقد منهم. ولا يتحقق هذا إلا بالإسلام، فإن أسلموا واتحدوا ببني عمهم العرب يملكون كل هذه البلاد وغيرها، ولكن الرجاء في هذا بعيد في هذا العصر، لأن الإسرائيليين شديدو التقليد والجمود في جنسيتهم النسبية والدينية، وهذا العصر عصر العصبية الجنسية للأقوام، حتى أن كثيرا من شعوب المسلمين يحلون رابطتهم الدينية، لأجل شد عروة الرابطة اللغوية، وإن لم تكن لهم لغات ذات أثر يحرص عليها، بل منهم من تكلف تدوين لغاتهم وتأسيسها لأنها لم تكن لغات علم وكتاب. ثم إن أمر الدنيا غالب فيه على أمر الدين. واليهود يريدون أن يعيدوا ملكهم لهذه البلاد بتكوين وتأسيس جديد، ويستعينون عليه بالمال وطرق العمران الحديثة :
فيا دارها بالخيف إن مزارها قريب، ولكن دون ذلك أهوال
فإن الشعوب النصرانية ودولها القوية تعارضهم في التغلب على بيت المقدس. والعرب أصحاب الأرض كلها لا يتركونها لهم غنيمة باردة، ولا تغني عنهم الوسائل الرسمية والمكايدة. وإنما الذي يغني ويقني، هو الاتفاق مع العرب على العمران، فإن البلاد تسع من السكان أضعاف من فيها الآن.
ويؤيد التعليل الذي بيناه أخيرا هذا النهي الذي عطف على الأمر بدخول الأرض المقدسة وهو " ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " على أحد الوجهين في تفسيره، وهو : لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى، إلى الوثنية أو الفساد في الأرض بالظلم والبغي واتباع الهوى، فيكون هذا الرجوع إلى الوراء انقلابَ خسرانٍ تخسرون فيه هذه النعم، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء على شكر النعم التي تقدمتها، فتعود الدولة فيها لأعدائكم، وذلك أن شكر النعم مدعاة المزيد منها، وكفرها مدعاة سلبها وزوالها، والوجه الآخر في الارتداد على الأدبار : النكوص عن دخولها والجبن عن قتال من فيها من الوثنيين، وقد فرض الله عليهم قتالهم، والخسران على هذا قيل هو خسران ثواب الجهاد، وخيبة الأمل في امتلاك البلاد، والذي أجزم به أن المراد بالخسران : تحريم الأرض المقدسة على المخاطبين وحرمانهم من خيراتها وبركتها التي ورد بعض أوصافها أنها " تفيض لبنا وعسلا "، فإن هذا الخسران هو الذي وقع بالفعل وبينه الله في الكتاب، فلا معدل عنه.
ولا يعارضه كون الله تعالى كتبها لهم، فإن هذه المكاتبة ليست لأولئك الأفراد بأعيانهم وإنما هي لشعبهم وأمتهم. ومثل هذا الخطاب الذي يوجه إلى الأمم والأقوام معهود في عرف الناس ولغاتهم : يسند إلى بعض الحاضرين المخاطبين، ما كان من أعمال سلفهم الغابرين، ويبشرون أو يوعدون بما لا يكون إلا لخلفهم الآتين، كبشارة النبي، صلى الله عليه وسلم لقومه بأنهم سيفتحون القسطنطينية قبيل قيام الساعة. على أن الله حرمها على جمهور الذين خالفوا وعصوا أمر موسى بدخولها، ولما دخلوها بعد التيه كان قد بقي من الذين خوطبوا بأنها كتبت لهم بقية، فقال بعض المفسرين إن كونها كتبت لأولئك المخاطبين بأعيانهم يصدق بهؤلاء، من باب إطلاق العام وإرادة الخاص. ولكن الأسلوب الفصيح يأبى هذا التوجه اللفظي كل الإباء. وقال السدي إن المراد بالكتابة هنا الأمر فمعنى " كتب الله لكم " أمركم بدخولها. وهو بعيد أيضا. والمتبادر أنه كتب لهم ذلك في الكتاب وما أوحاه إلى آبائهم، ويؤيده الواقع، ولولاه لكان المعنى كتب لكم ذلك في علمه، أي أثبته بقضائه وقدره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة من فصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد، وذكرنا شيئا منها. وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع والكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهم الشعب برجمهما، وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( ١١ قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ١٢ ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، قبل الرب شفاعته ثم قال :( ٢٢ إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية جربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي ٢٣ لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) استثنى الرب كالب فقط. ثم قال لموسى وهارون :( ٢٧ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونه علي ٢٨ قال لهم :" حي أنا " يقول الرب : لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني ٢٩ في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا علي ٣٠ لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ماعدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ٣١ وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ٣٢ فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ٣٣ وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر ٣٤ كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ٣٥ أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون ).
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها، لا من حيث التكرار، ولا من حيث الاختلاف والتعارض، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى، ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل. وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي :
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال :( مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها )١ رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.

أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشىء غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
﴿ قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ﴾ كان استعباد المصريين لبني إسرائيل قد أذلهم وأفسد عليهم بأسهم، وكان بنو عناق الذين يسكنون أمامهم في أدنى الأرض المقدسة وأولي قوة وأولي بأس شديد، وكانوا كبار الأجسام، طوال القامات، وهو المراد من كلمة جبارين.
فالجبار يطلق في اللغة على الطويل القوي والمتكبر والقتال بغير حق والعاتي المتمرد والذي يجبر غيره على ما يريد والقاهر المتسلط والملك العاتي. وكله مأخوذ من المجاز في أساسه، لأن الصيغة من صيغ المبالغة لاسم الفاعل من جبره على الشيء كأجبره. والصواب أن الأصل في الألفاظ أن تكون موضوعة للأجسام ولما يدرك بالحواس، ويتفرع عنها ما وضع للمعاني وما يدرك بالعقل والاستنباط. وقد رجعت بعد جزمي بما ذكرت إلى لسان العرب فإذا هو ينقل مثله وما يؤيده. ذكر الآية وقال : قال اللحياني أراد الطول والقوة والعظم، قال الأزهري كأنه ذهب به إلى الجبار من النخيل، وهو الطويل الذي فات يد التناول. ويقال جبار إذا كان طويلا عظيما قويا، تشبيها بالجبار. اه. وقال الراغب : أصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر، يقال جبرته فانجبر واجتبر وقد جبرته فجبر كقول الشاعر :
***قد جبر الدينَ الإلهُ فجبر١***
هذا قول أكثر أهل اللغة – إلى أن قال – والجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بشيء من التعالى لا يستحقها، وهذا لا يقال إلا على طريقة الذم. وذكر عدة آيات فيها الآية التي نفسرها، ثم قال : ولتصوير القهر بالعلو على الأقران قيل نخلة جبارة وناقة جبارة اه وكأنه أراد أن يجمع بين المعنيين لمادة الجبر – معنى العلو والقوة ومعنى جبر الكسر وجبر الجرح وتجبيره، وما أخذ منه كجبر المصيبة بالتعويض عما فقد، وجبر الفقير بإغنائه – وكل هذه المعاني تدخل في معنى جبار النخل الذي هو القوة والنماء والطول.
والجبار من أسماء الله تعالى فيه معنى العظمة والقوة والعلو على خلقه وكونه لا يمكن أن يناله أحد بتأثير ما، ومعنى جبر القلب الكسير، وإغناء البائس الفقير، ومعنى جبر الخلق بما وضعه من السنن الحكيمة أو المقادير المنتظمة على ما أراده من التدبير، وهو العليم الخبير. وهو مثل اسم المتكبر مدح للخالق وذم للمخلوق، إذ ليس لمخلوق أن يبالغ في معنى الجبر وهو العظمة والعلو والامتناع، كما أنه ليس له أن يتكبر بأن يظهر للناس المرة بعد المرة أنه كبير الشأن، ولو بالحق، فكيف إذا كان ذلك يتكبر وإنما يتعمد ذلك ويتوخاه من يشعر بصغار نفسه في باطن سره، فيحمله حب العلو على تكلف إخفاء هذا الصغار بما يتكلفه من إظهار كبره، فيكون من خلقه أن لا يخضع للحق ولا يقدر الناس قدرهم، لأن جعله نفسه أكبر من الحق ومن الناس فلا يرضى أن يكونا فوقه. ولذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بهذا المعنى الذي هو موضع النقص وسبب المؤاخذة فقال :( الكبر من بطر الحق وغمط الناس )٢ رواه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة بسند صحيح. وأما تكبير الخالق عز وجل وهو إظهار كبريائه وعظمته لعباده المرة بعد المرة فهو – على كونه لا يكون إلا حقا لأنه تعالى أكبر من كل شيء وأعظم – تربية لهم وتغذية لإيمانهم، يوجه قلوبهم إلى الكمال الأعلى فيقوى استعدادهم لتكميل أنفسهم وعرفانهم بها، فيكونون أحقاء بألا يرفعوها عن مكانها بالباطل، ولا يسفهوها فيرضوا لها بالخسائس. وإنما أطلنا في تفسير كلمة جبارين واستطردنا إلى اسم الجبار والمتكبر من أسماء الله تعالى لما نعلمه من ضلال بعض الناس في فهم الاسمين الكريمتين.
أما ما روي في التفسير المأثور من وصف هؤلاء الجبارين فأكثره من الإسرائيليات الخرافية التي كان يبثها اليهود في المسلمين، فرووها من غير عزو إليهم، كقولهم إن العيون الاثني عشر الذين بعثهم موسى إلى ما وراء الأردن ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه، رآهم أحد الجبارين فوضعهم كلهم في كسائه أو حجرته، وفي رواية كان أحدهم يجني الفاكهة فكان كلما أصاب واحدا من هؤلاء العيون وضحه في كمه مع الفاكهة. وفي رواية أن سبعين رجلا من قوم موسى استظلوا في ظل خف رجل من هؤلاء العماليق. وأمثل ما روي في ذلك وأصدقه قول قتادة عند عبد الرازق وعبد بن حميد في قوله تعالى :( إن فيها قوما جبارين ) قال : هم أطول منا أجسامنا وأشد قوة. وأفرطوا في وصف فاكهتهم كما فرطوا في وصفهم، فروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى :( اثنى عشر نقيا ) الذي مر تفسيره : أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منكم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة.
وهذه القصة مبسوطة في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد الذي هو السفر الرابع من أسفار التوراة. وفي أولهما أن الجواسيس تجسسوا أرض كنعان كما أمروا، وأنهم قطعوا في عودتهم زرجونة فيها عنقود عنب واحد حملوا بعتلة بين اثنين منهم مع شيء من الرمان والتين، وقالوا لموسى وهو في ملأ بني إسرائيل : ١٢ : ٢٩ قد صرنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها فإذا هي بالحقيقة تدر لبنا وعسلا٣ ( وهذا ثمرها ٢٩ غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء والمدن حصينة عظيمة جدا. ورأينا ثم أيضا بني عناق – إلى أن قال الكاتب – ٣١ وكان كالب يسكت الشعب عن موسى قائلا : نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها ٣٢ وأما القوم الذين صعدوا معه ( أي للتجسس ) فقالوا : لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا، وشنعوا عند بني إسرائيل على الأرض التي تجسسوها وقالوا.... هي أرض تأكل أهلها وجميع الشعب الذين رأيناهم فيها طوال القامات ٣٤ وقد رأينا ثم من الجبابرة جبابرة بني عناق فصرنا في عيوننا كالجراد وكذلك كنا في عيونهم ) هذا آخر الفصل. وذكر في الفصل الذي بعده تذمر بني إسرائيل من أمر موسى لهم بدخول تلك الأرض وإنهم بكوا وتمنوا لو أنهم ماتوا في أرض مصر أو في البرية وقالوا ١٤ : ٣ ( لماذا أتى الرب بنا إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة ؟ أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر ) الخ.
فأنت ترى أنه ليس في الرواية المعتمدة عند بني إسرائيل تلك الخرافات التي بثوها بين المسلمين في العصر الأول وإنما فيها من المبالغة أنهم لخوفهم ورعبهم من الجبارين احتقروا أنفسهم حتى رأوها كالجراد واعتقدوا أن الجبارين رأوهم كذلك، وأما حمل زرجون العنب والفاكهة بين رجلين فلا يدل على مبالغة كبيرة في عظمها وقد يكون سبب ذلك حفظها لطول المسافة.
والعبرة في هذه الروايات الإسرائيلية التي راجت عند كثير من علماء التفسير والتاريخ وقل من صرح ببطلانها، أو الرجوع إلى كتب اليهود المعتمدة ليقفوا على المعتمد عليه عندهم فيها، إذا لم يقفوا عندما بينه القرآن، من أخبار الأنبياء والأقوام، هي أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ما جاء به عن بعض أهل الكتاب – كما يزعم بعضهم وبعض الملاحدة – لكان ما جاء به نحو ما يذكره هؤلاء الرواة الذين غشهم اليهود، مع أنه كان يسهل عليهم من الاطلاع على كتبهم، والتمييز بين حكايتهم عن اعتقادهم وبين كذبهم، ما لا يسهل على الرجل الأمي في مثل مكة التي لم يكن فيها يهود ولا كتب، وأكثر أخبار الأنبياء والأمم في السور المكية.
وملخص معنى الآية أن موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها، مستعدين لقتال من يقاتلهم من أهلها، وأنهم لما غلب عليهم من الضعف والذل باضطهاد المصريين لهم وظلمهم إياهم، أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم وقوة أهل تلك البلاد، وحاولوا الرجوع إلى مصر، ( كما كان بعض العبيد يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم في أمريكة بعد تحريرهم كلهم ومنع الاسترقاق بقوة الحكومة، لأنهم ألفوا تلك الخدمة والعبودية وصارت العيشة الاستقلالية شاقة عليهم ) وقالوا لموسى إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارين فيها، كأنهم يريدون أن يخرجهم منها بقوة الخوارق والآيات لتكون غنيمة باردة لهم، وجهلوا أن هذا يستلزم أن يبقوا دائما على ضعفهم وجبنهم، وأن يعيشوا بالخوارق والعجائب ما داموا في الدنيا، لا يستعملون قواهم البدنية ولا العقلية في دفع الشر عن أنفسهم، ولا في جلب الخير لها، وحينئذ يكونون أكفر الخلق بنعم الله، فكيف يؤيدهم بآياته طول الحياة ! والحكمة في مثل هذا التأييد أن يكون لبعض أصفياء الله تعالى مؤقتا بقدر الضرورة والسنة العامة فهو كالدواء بالنسبة إلى الغذاء. وقولهم :( فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) تأكيد لمفهوم ما قبله مؤذن بأنه لا علة لامتناعهم إلا ما ذكروه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة من فصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد، وذكرنا شيئا منها. وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع والكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهم الشعب برجمهما، وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( ١١ قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ١٢ ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، قبل الرب شفاعته ثم قال :( ٢٢ إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية جربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي ٢٣ لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) استثنى الرب كالب فقط. ثم قال لموسى وهارون :( ٢٧ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونه علي ٢٨ قال لهم :" حي أنا " يقول الرب : لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني ٢٩ في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا علي ٣٠ لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ماعدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ٣١ وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ٣٢ فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ٣٣ وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر ٣٤ كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ٣٥ أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون ).
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها، لا من حيث التكرار، ولا من حيث الاختلاف والتعارض، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى، ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل. وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي :
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال :( مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها )١ رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.


١ الرجز للعجاج في ديوانه١/٢ن ولسان العرب- جبر-، -وصل- نو أساس البلاغة – جبر-، وتاج العروس- جبر-، - وصل-، وتهذيب اللغة١١/٦٠، وكتاب العين٦/١١٦، بلا نسبة في لسان العرب –وجه- وجمهرة اللغة ص ٢٦٥، ومقياس اللغة١/٥٠١، ٤/١٨٦، وديوان الدب٢/١٠٧.
٢ أخرجه بلفظ: (وغمص الناس): الترمذي في البر باب ٦١، وأحمد في المسند ٤/١٣٤، ١٥١، وأخرجه بلفظ: (وعمط الناس)، أبو داود في اللباس باب ٢٦، وأحمد في المسند ١/٣٨٥، ٤٢٧..
٣ يشير بهذا إلى ما في (٣: ٨) من سفر الخروج وهو وعد الله لموسى بأن ينقذ قومه من ظلم المصريين إلى أرض تفيض لبنا وعسلا..
أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشىء غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
﴿ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ﴾ اتفق رواة التفسير على أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يفنه، وفاقا لرواية التوراة عند أهل الكتاب. فهما اللذان كانا يحثان القوم على الطاعة ودخول أول بلد للجبارين ثقة بوعد الله وتأييده. والظاهر أن قوله :( يخافون ) معناه يخافون الله تعالى، وقيل يخافون الجبارين، ومعنى النعمة هنا نعمة الطاعة والتوفيق حتى في حال الخوف على القول بأنهما كانا من جملة الخائفين طبعا. ﴿ ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ ﴾ أي باب المدينة ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ﴾ بنصر الله وتأييده لكم إذا أطعتم أمره، وصدقتم وعده، ﴿ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي وعليكم بعد أن تعلموا ما يدخل في طاقتكم من طاعة ربكم، أن تكلوا أمركم إليه وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم، فإن التوكل إنما يكون بعد بذل الوسع، في مراعاة السنة وامتثال الأمر، إن كنتم مؤمنين بأن ما وعدكم ربكم على لسان نبيكم حق، وأنه قادر على الوفاء لكم بوعده، إذا أنتم قمتم بما يجب عليكم من طاعته وشكره، والوفاء بميثاقه وعهده.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة من فصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد، وذكرنا شيئا منها. وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع والكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهم الشعب برجمهما، وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( ١١ قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ١٢ ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، قبل الرب شفاعته ثم قال :( ٢٢ إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية جربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي ٢٣ لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) استثنى الرب كالب فقط. ثم قال لموسى وهارون :( ٢٧ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونه علي ٢٨ قال لهم :" حي أنا " يقول الرب : لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني ٢٩ في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا علي ٣٠ لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ماعدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ٣١ وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ٣٢ فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ٣٣ وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر ٣٤ كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ٣٥ أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون ).
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها، لا من حيث التكرار، ولا من حيث الاختلاف والتعارض، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى، ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل. وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي :
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال :( مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها )١ رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.

أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشىء غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
﴿ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ أي لم تنفع بني إسرائيل موعظة الرجلين بل أصروا على التمرد والعصيان، وأكدوا لموسى بالقول بأنهم لا يدخلون تلك الأرض التي فيها الجبارون أبدا أي مدة الزمن المستقبل ما داموا فيها، لأن دخولها يستلزم القتال والحرب، وليسوا لذلك بأهل، وقالوا لموسى ما معناه : إن كنت أخرجتنا من أرض مصر بأمر ربك لنسكن هذه الأرض التي وعد بها آباءنا وقد علمت أن هذا يتوقف على القتال وإننا لا نقاتل – فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين واستأصلا شأفتهم أو اهزماهم وأخرجاهم منها، إنا هاهنا قاعدون منتظرون ومتوقعون أو قاعدون عن القتال أو غير مقاتلين، فقد استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى كقوله تعالى :﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ [ التوبة : ٤٦ ] وقوله :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ﴾ [ النساء : ٩٥ ] الآية.
وقد حاول بعض المفسرين حمل هذا القول السمج الخارج من حدود الآداب، على معنى مجازي يليق بأهل الإيمان، ككون المراد بذهاب الرب إعانته ونصره، وقال بعضهم لا حاجة إلى مثل هذا مع أمثال هؤلاء القوم الذي عبدوا العجل، وكان من فساد فطرتهم وجفاء طباعهم ما بينه الله تعالى في كتابه، والتوراة التي في أيديهم تؤيد ذلك أشد التأييد، تارة بالإجمال وتارة بأوسع التفصيل. والقرآن يبين صفوة الوقائع ومحل العبرة فيها، لا ترجمة جميع الأقوال بحروفها، وشرح الأعمال ببيان جزئياتها، فما يقصه من أمور بني إسرائيل هو الواقع وروح ما صح من كتبهم أو تصحيح ما حرف منها، وهذه العبارة منه تدل على منتهى التمرد والمبالغة في العصيان والإصرار عليه، والجفاء والبعد عن الأدب، فلا وجه لتأويلها بما ينافي ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة من فصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد، وذكرنا شيئا منها. وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع والكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهم الشعب برجمهما، وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( ١١ قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ١٢ ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، قبل الرب شفاعته ثم قال :( ٢٢ إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية جربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي ٢٣ لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) استثنى الرب كالب فقط. ثم قال لموسى وهارون :( ٢٧ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونه علي ٢٨ قال لهم :" حي أنا " يقول الرب : لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني ٢٩ في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا علي ٣٠ لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ماعدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ٣١ وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ٣٢ فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ٣٣ وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر ٣٤ كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ٣٥ أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون ).
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها، لا من حيث التكرار، ولا من حيث الاختلاف والتعارض، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى، ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل. وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي :
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال :( مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها )١ رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.

أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشىء غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي ﴾ هذا القول من موسى عليه السلام، صورته خبر ومعناه إنشاء، فهو من بث الحزن والشكوى إلى الله، والاعتذار إليه والتنصل من فسق قومه عن أمره، الذي يبلغه عن ربه، ومعنى العبارة إنني لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسي وأمر أخي، ولا أثق بغيرنا أن يطيعك في اليسر والعسر والمنشط والمكره. وهذا يدل على أنه لم يكن يوقن بثبات يوشع وكالب على ما كانا عليه من الرغبة والترغيب في الطاعة، إذا أمر الله موسى أن يدخل أرض الجبارين ويتصدى لقتالهم هو ومن يتبعه، فإن الذي يجرأ على القتال مع الجيش الكثير، يجوز ألا يجرؤ عليه من النفر القليل، وأما ثقته بأخيه فلعلمه اليقيني بأن الله تعالى أيده بمثل ما أيده به، ولو لم يعلم هذا بإعلام لله ووحيه، وما يجده من الوجدان الضروري في نفسه، لكان بلاؤه معه في مقاومة فرعون وقومه، ثم في سياسة بني إسرائيل معه وفي حال انصرافه لمناجاة ربه، ما يكفي للثقة التامة. فلفظ ( أخي ) معطوف على ( نفسي ) وجعله بعضهم معطوفا على الضمير في ( إني ) أي وأخي كذلك لا يملك إلا نفسه.
﴿ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ الفرق الفلق والفصل بين الشيئين أو الأشياء، ومنه فرق الشعر، ويطلق على القضاء وفصل الخصومات، وذلك قسمان حسي ومعنوي، ومعنى الجملة هنا : فافصل بيننا – يعني نفسه وأخاه – وبين القوم الفاسقين عن الطاعة وهم جماعة بني إسرائيل، بقضاء تقضيه بيننا، إذ صرنا خصما لهم وصاروا خصما عن الطاعة وهم جماعة بني إسرائيل، بقضاء تقضيه بيننا، إذ صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا. وقيل معناها : إذا أخذتهم بالعقاب على فسوقهم فلا تعاقبنا معهم في الدنيا، وقيل الآخرة. والأول هو المختار الموافق لقوله :﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة من فصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد، وذكرنا شيئا منها. وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع والكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهم الشعب برجمهما، وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( ١١ قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ١٢ ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، قبل الرب شفاعته ثم قال :( ٢٢ إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية جربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي ٢٣ لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) استثنى الرب كالب فقط. ثم قال لموسى وهارون :( ٢٧ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونه علي ٢٨ قال لهم :" حي أنا " يقول الرب : لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني ٢٩ في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا علي ٣٠ لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ماعدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ٣١ وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ٣٢ فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ٣٣ وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر ٣٤ كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ٣٥ أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون ).
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها، لا من حيث التكرار، ولا من حيث الاختلاف والتعارض، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى، ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل. وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي :
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال :( مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها )١ رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.

أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه، وكون ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم وبيان مناشىء غرورهم، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا – بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم، إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم، ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري. وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ووجه اتصال لاحقه بسابقه.
﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ أي قال الله لموسى مجيبا لدعائه، إجابة متصلة به : فإنها أي الأرض المقدسة محرمة على بني إسرائيل تحريما فعليا لا تكليفا شرعيا مدة أربعين سنة يتيهون في الأرض، أي يسيرون في برية من الأرض تائهين متحيرين لا يدرون أين ينتهون في سيرهم. فالتيه الحيرة، يقال تاه يتيه – ويتوه لغة – ويقال مفازة تيهاء إذا كان سالكوها يتحيرون فيها لعدم الأعلام التي يهتدى بها. والتحريم المنع ﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ أي فلا تحزن عليهم فإنهم فاسقون مستحقون لهذا التأديب الإلهي، وسنبين هذا وحكمة الله تعالى فيه. وقال الراغب : الأسى الحزن. وحقيقته إتباع الفائت الغم، يقال أسيت عليه أسى وآسيت له.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة من فصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد، وذكرنا شيئا منها. وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى وهارون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع والكالب مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهم الشعب برجمهما، وظهر مجد الرب لموسى في خيمة الاجتماع ( ١١ قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ١٢ ؟ إني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، قبل الرب شفاعته ثم قال :( ٢٢ إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية جربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولي ٢٣ لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) استثنى الرب كالب فقط. ثم قال لموسى وهارون :( ٢٧ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل الذي يتذمرونه علي ٢٨ قال لهم :" حي أنا " يقول الرب : لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني ٢٩ في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا علي ٣٠ لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ماعدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون ٣١ وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم فيعرفون الأرض التي احتقرتموها ٣٢ فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ٣٣ وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر ٣٤ كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما للسنة يوم تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ٣٥ أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي في هذا القفر يفنون، وفيه يموتون ).
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها، لا من حيث التكرار، ولا من حيث الاختلاف والتعارض، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى، ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل. وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي :
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال :( مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها )١ رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.

جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة.
فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر.
وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل.
فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدات الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام.
وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١ ] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.
قال تعالى ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾ الأصل لمعنى مادة ( ت ل و ) التبع. فالتلو ( بالكسر ) ولد الناقة والشاة إذا فطم وصار يتبعها، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال هو تلوه. ويقال : ما زلت أتلوه حتى أتليته. أي غلبته فسبقته وجعلته تلوي. وتلا فلان. اشترى تلوا. أي بغلا صغيرا أو جحشا. والتلاوة ( بالضم ) والتلية ( بالفتح ) بقية الشيء لأنه يتلو ما قبله. يقال ذهبت تلية الشباب. والتلاوة بالكسر القراءة، ولم تكد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى. وذكر في لسان العرب تلاوة القرآن، وقال إن بعضهم عم به كل كلام. ولعل قراءة القرآن سميت تلاوة لأنه مثاني كلما قرئ منه شيء يتبع بقراءة غيره أو لأن شأنه أن يقرأ ليتبع بالاهتداء والعمل به. وعبر القرآن بالتلاوة عن قراءة كتاب الله وآياته للأنبياء السابقين لهذا المعنى أيضا. وفسروا قوله تعالى ﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ [ البقرة : ١٢١ ] بيتبعونه حق اتباعه. والنبأ : الخبر الصحيح الذي له شأن من الفائدة والجدارة بالاهتمام.
ومعنى الجملة : واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وسائر الناس ذلك النبأ العظيم – نبأ ابني آدم – تلاوة متلبسة بالحق مظهرة له، بأن تذكره كما وقع، مبينا ما فيه من الحكمة والكشف عن غريزة البشر. وهو ما جلبوا عليه من التباين والاختلاف الذي يفضي إلى التحاسد والبغي والقتل، ليعلموا حكمة الله فيما شرعه في الدنيا من عقاب الباغين من الأفراد والجماعات والشعوب والقبائل، وكون هذا البغي من اليهود على رسول الله والمؤمنين ليس من أمر دينهم، وإنما هو من حسدهم وبغيهم، وهم في هذا كابني آدم إذ حسد شرهما خيرهما فبغى عليه فقتله، وكانت عاقبة ذلك ما بينته هذه الآيات.
والجمهور على أن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه، وعن الحسن أنهما من بني إسرائيل. وفي سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم، اسم أحدهما قاين أو قايين وهو البكر، ويقول علماء التفسير والتاريخ منا : قابيل. وهو القاتل. واسم الثاني هابيل باتفاق. وقد ذكروا في ذلك روايات غريبة لا يمكن أن يعرف مثلها إلا بوحي من الله، وهي لم ترو عن أحد من رسل الله. ومنها أن آدم رثى هابيل بشعر عربي١. فنعرض عن هذه الروايات التي لا تصح ولا تفيد. ووصف ما قصه الله تعالى بالحق بشعر بأن ما يلوكه الناس في ذلك مما سواه باطل.
﴿ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ﴾ أي اتل عليهم نبأهما أي وقت تقريبهما القربان، وما تبعه من البغي والعدوان. والقربان ما تقرب به إلى الله تعالى من ذبائح وغيرها. وغلب عندنا في ذبائح النسك كالأضاحي. وكانت القرابين عند اليهود أنواعا ( منها ) المحرقات للتكفير عن الخطايا وهي ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب. والذبائح عن الخطايا : عن الخطايا العامة والخطايا الخاصة. ( ومنها ) ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى ( ومنها ) التقدمات من الدقيق والزيت واللبان. و( منها ) تقدمة الترديد من باكورة والأرض. وأما القربان عند النصارى فهو ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر ويتحول في اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة لا مجازا ! والقربان في الأصل مصدر قرب منه وإليه قربا وقربانا، فلهذا يستوي فيه المفرد وغيره. والأقرب أن كل واحد منهما قرب قربانا، ويجوز أن يكونا قد قربا قربانا واحدا كانا شريكين فيه.
﴿ فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ﴾ أي فتقبل الله من أحدهما قربانه أو تقريبه القربان لتقواه وإخلاصه فيه وطيب نفسه به، ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص. والتقبل أخص من القبول لأنه ترق فيه إلى العناية بالمقبول والإثابة عليه.
ولم يبين لنا الله تعالى كيف علما أنه تقبل من أحدهما دون الآخر، ويحتمل أن يكون ذلك بوحي من الله لأبيهما آدم عليه السلام، بناء على قول الجمهور أنهما ابنا آدم لصلبه وفاقا لسفر التكوين، أو لنبي زمانهما على قول الحسن إنهما كانا من بني إسرائيل، وهو قول ضعيف خلاف الظاهر المتبادر. وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث وزرع، والآخر صاحب غنم، وإن هذا أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة به نفسه، وصاحب الزرع قرب شر ما عنده وأردأه غير طيبة به نفسه. وروي عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار فتأكله، ولا تأكل غير المقبول، وهذه أخبار إسرائيلية اختلفت الروايات فيها عن مفسري السلف، بعضها يوافق ما عند اليهود في سفر التكوين وبعضها يخالفه، وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعول عليه.
﴿ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ﴾ أي إن من لم يتقبل منه توعد أخاه وأقسم ليقتلنه فأجابه أحسن جواب وأنفعه :﴿ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال القبول المقرون بالرضا والإثابة إلا من المتصفين بالتقوى، فهذا الجواب يتضمن بيان سبب القبول وعدمه مع الاعتذار، كأنه قال إنني لم أذنب إليك ذنبا تقتلني به، فإن كان الله تعالى لم يتقبل منك، فارجع إلى نفسك فحاسبها على السبب، فإنما يتقبل الله من المتقين، أي الذين يتقون الشرك الأكبر والأصغر وهو الرياء والشح واتباع الأهواء، فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ] فليتعظ بهذا أهل الغرور بأعمالهم، ولاسيما النفقات التي يراءون بها الناس، ويبتغون بها الصيت والثناء.
١ الأبيات التي قالها آدم عليه السلام في رثاء ابنه، رواها ابن جرير الطبري في تفسيره، ٤/٥٣٠ وفيه: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة – عن غياث ابن إبراهيم، عن ابن إسحاق الهمداني قال: عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: لما قتل غبن آدم أخاه بكى آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها*** فلوث الأرض مغبر قبيح
جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة.
فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر.
وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل.
فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدات الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام.
وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١ ] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.
ثم إنه بعد بيان هذه الحقيقة والتقرب إليه، بين له حقيقة أخرى وهي ما يجب للناس ولاسيما الإخوة بعضهم على بعض من احترام الدماء وحفظ الأنفس فقال :﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾. أي بين له حاله وما تقتضيه من عدم مقابلته على جنايته بمثلها، مؤكدا ذلك بالقسم وبجملة النفي الاسمية والمقرون خبرها بالباء، وهو أنه إن بسط يده ليقتله بها، لا يجزيه بالسيئة سيئة مثلها، وإن هذه الجناية لا تأتي منه ولا تتفق مع صفاته وشمائله، ذلك بأنه لم يعبر عن نفسه بصيغة الفعل المضارع المنفي كما عبر بالماضي المثبت عن عمل أخيه، - وهو المتبادر في مقابلة الشيء بضده- بل قال ( ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) أي لست بالذي يتصف بهذه الصفة المنكرة المنافية لتقوى الله تعالى، ولا شك أن نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل، الذي هو عبارة عن الوعد بالترك، لأنه عبارة عن وعد مؤكد ببيان سببه.
ثم أكده تأكيدا آخر ببيان علته وهو قوله ﴿ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ أن يراني باسطا يدي إلى الإجرام وسفك الدم بغير حق، فإن ذلك يسخطه ويكون سبب عقابه، لأنه رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه، ويربيهم بفضله وإحسانه، فالاعتداء على أرواحهم أعظم مفسدة لهذه التربية ومعارض لها في بلوغ غاية استعدادها، ومن يخاف الله لا يعتدي هذا الاعتداء. وهذا الجواب من الأخ التقي يتضمن أبلغ الموعظة وألطف الاستعطاف لأخيه العازم على الجناية، ولا يقال : إنه كان يجوز له الدفاع عن نفسه ولو بقتل الصائل عليه- حتى يحتاج إلى الجواب بأن شرع آدم لم يكن يبيح ذلك، فإن هذا من الرجم بالغيب، والدفاع قد يكون بما دون القتل، وليس في الكلام تصريح بعدم الدفاع البتة، وإنما فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار. قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه١ رواه أحمد والشيخان وغيرهم.
١ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٢، والفتن باب ١٠، والديانات باب ٢، ومسلم في الفتن حديث ١٤، ١٥، وأبو داود في الفتن باب ٥، والنسائي في التحريم باب ٢٩، وابن ماجه في الفتن باب ١١، وأحمد في المسند ٤/٤٠١، ٤٠٣، ٤١°، ٤١٨..
جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة.
فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر.
وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل.
فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدات الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام.
وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١ ] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.
ولما كان مثل هذا التأمين والوعظ البليغ لا يؤثر في كل نفس، قفى عليه هذا الأخ البار بالتذكير بعذاب الآخرة، فقال ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾. أي إني أريد بما ذكرت من اتقاء مقابلة الجناية بمثلها أن ترجع أنت إن فعلتها متلبسا بإثمي وإثمك، أي إثم قتلك إياي، وإثمك الخاص بك الذي كان من شؤمه عدم قبول قربانك، وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس ( رض ) وفيه وجه آخر، وهو أنه مبني على كون القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام، لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق للعباد لا يغفر الله تعالى منها شيئا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه، وإنما القصاص في الآخرة بالحسنات والسيئات، فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقه إن كان له حسنات توازي ذلك، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إن كان له آثام وأوزار، وما نقص من هذا أو ذاك، يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء أو النار.
وفي ذكر المتكلم إثمه وإثم أخيه تواضع وهضم لنفسه بإضافة الإثم إليها على الوجه الثاني، وتذكير للمخاطب بأنه ليس له حسنات توازي هذا الظلم الذي عزم عليه، ولذلك رتب عليه قوله :
﴿ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ﴾ أي تكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة لأنك تكون ظالما، والنار جزاء كل ظالم، فتكون من أهلها حتما.
ترقى في صرفه عن عزمه من التبرؤ إليه من سبب حرمانه من قبول قربانه ببيان سبب التقبل عند الله تعالى وهو التقوى – إلى تنزيه نفسه من جزائه على جنايته بمثلها – إلى تذكيره بما يجب من خوف الله تعالى رب العالمين الذي لا يرضيه ممن وهبهم العقل والاختيار إلا أن يتحروا إقامة سننه في تربية العالم وإبلاغ كل حي يقبل الكمال إلى كماله – إلى تذكيره بان المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه بعدل الله تعالى في القصاص والجزاء – إلى تذكيره بعذاب النار، وكونها مثوى الظالمين الفخار.
جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة.
فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر.
وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل.
فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدات الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام.
وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١ ] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.
فماذا كان من تأثير هذه المواعظ، في نفس ذلك الحاسد الظالم ؟ بين الله ذلك بقوله :﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ﴾.
فسروا طوعت بشجعت وهو مأثور عن ابن عباس ومجاهد، وبوسعت وسهلت وزينت، ونحو ذلك من الألفاظ التي رويت عن مفسري السلف وعلماء اللغة، وكل منها يشير إلى حاصل المعنى في الجملة، ولم أر أحدا شرح بلاغة هذه الكلمة في هذا الموضع ببعض ما أجد لها من تأثير في نفسي. وإنها لبمكان من البلاغة يحيط القلب ويضغط عليه من كل جانب. ﴿ ق، والقرآن المجيد ﴾ [ ق : ١ ] إنني أكتب الآن، وقلبي يشغلني عن الكتابة بما أجد لها من الأثر والانفعال. إن هذه الكلمة تدل على تدريج وتكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام، يفكر في كل في كلمة من كلمات أخيه الحكيمة، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، يدعم ويؤيد ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة والهيبة، فيكر الحسد من نفسه الأمارة، على كل منها ويجذبه إلى الطاعة، فإطاعة صوارف الفطرة وصوارف الموعظة، لداعي الحسد هو التطويع الذي عناه الله تعالى، فلما تم كل ذلك قتله.
وهذا المعنى يدل عليه اللفظ، ويؤيده ما يعرف من حال البشر في كل عصر، بمقتضٍ، فنحن نرى من أحوال الناس واختبار القضاة للجناة، أن كل من تحدثه نفسه بقتل أخ له من أبيه القريب أو البعيد ( آدم ) يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن ذلك، فيتعارض المانع والمقتضى في نفسه زمنا طويلا أو قصيرا حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح المقتضي عنده على الموانع، فعند ذلك يقتل إن قدر. فالتطويع لا بد فيه من التكرار كتذليل الحيوان الصعب، وتعليم الصناعة أو العلم. وقد يكون التكرار لأجل إطاعة مانع أو صارف واحد، وقد يكون لإطاعة عدة صوارف وموانع. وأقرب الألفاظ التي قيلت إلى هذا المعنى كلمة التشجيع المأثورة، فهي تدل على أنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه، فما زالت نفسه الأمارة بالسوء تشجعه عليه حتى تجزأ وقتل عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر للعاقبة ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ أي من جنس الذين خسروا أنفسهم بإفساد فطرتها، وخسروا أقرب الناس إليهم وأبرهم بهم في الدنيا، وهو الأخ الصالح التقي، وخسروا نعيم الآخرة إذا لم يعودوا أهلا لها لأنها دار المتقين.
جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة.
فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر.
وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل.
فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدات الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام.
وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١ ] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.
﴿ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ ﴾ لما كان هذا القتل أول قتل وقع من بني آدم، ولما كان هذا النوع من الخلق ( أي الإنسان ) موكولا إلى كسبه واختياره في عامة أعماله، لم يعرف القاتل الأول كيف يواري جثة أخيه المقتول التي يسوءه أن يراها بارزة – فالسوءة ما يسوء ظهوره، ورؤية جسد الميت ولاسيما المقتول يسوء كل من ينظر إليه ويوحشه – وأما سائر أنواع الحيوان فتلهم عمل ما تحتاج إليه إلهاما في الأكثر، وقلما يتعلم بعضها من بعض شيئا. وقد علمنا الله تعالى أن القاتل الأول كان في منتهى السذاجة، وأنه لاستعداده الذي يفضل به سائر أنواع الحيوان كان يستفيد من كل شيء علما واختبارا ويرتقي بالتدريج.
ذلك بأن الله تعالى بعث غرابا إلى المكان الذي هو فيه فبحث في الأرض، أي حفر برجليه فيها يفتش عن شيء، والمعهود أن الطير تفعل ذلك لطلب الطعام. والمتبادر من العبارة أن الغراب أطال البحث في الأرض، لأنه قال ( يبحث ) ولم يقل بحث. والمضارع يفيد الاستمرار. فلما أطال البحث أحدث حفرة في الأرض، فلما رأى القاتل الحفرة – وهو متحير في أمر مواراة سوءة أخيه – زالت الحيرة واهتدى إلى ما يطلب. وهو دفن أخيه في حفرة في الأرض. هذا هو المتبادر في الآية. قال أبو مسلم : إن من عادة الغراب دفن الأشياء، فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم منه ذلك. وهذا قريب أيضا. ولكن جمهور المفسرين قال إن الله بعث غرابين لا واحد، وإنهما اقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر بمنقاره ورجليه حفرة فألقاه فيها، وما جاء هذا إلا من الروايات، التي مصدرها الإسرائيليات، على أن مسألة الغراب والدفن لا ذكر لها في التوراة. وفي هذه الروايات زيادات كثيرة لا فائدة لها ولا صحة. واللام في قوله تعالى ( ليريه ) للتعليل إذا كان الضمير راجعا إلى الله تعالى، أي أنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن. وللصيرورة والعاقبة إذا كان الضمير عائدا إلى الغراب. أي لتكون عاقبة بحثه ما ذكر.
ولما رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض، وتعلم منه سنة الدفن، وظهر له من ضعفه وجهله ما كان غافلا عنه، ﴿ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ قال جمهور المفسرين : إن ( يا ويلتا ) كلمة تحسر وتلهف، وإنها تقال عند حلول الدواهي والعظائم. قال في لسان العرب : الويل حلول الشر، والويلة الفضيحة والبلية. وقيل هو تفجع. وإذا قال القائل : يا ويلتاه ! فإنما يعني يا فضيحتهاه ! وكذلك تفسير ﴿ يا ويتنا ما لهذا الكتاب ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] اه وهذا هو المعنى الصحيح. والألف في الكلمة بدل ياء المتكلم إذ الأصل : يا ويلتى. والنداء للويلة لإفادة حلول سببها الذي تحل لأجله حتى كأنه دعاها إليه وقال : أقبلي فقد آن أوان مجيئك، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا ؟ والاستفهام للإقرار والتحسر. وأما الندم الذي ندمه فهو كما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعل فعله ظهر له أن فعله كان شرا له لا خيرا. وقد يكون الندم توبة، إذا كان سببه الخوف من الله تعالى والتألم من تعدي حدوده، وقصد به الرجوع إليه. وهذا هو المراد بحديث ( الندم توبة )١ رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة. وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد توبة، والتوبة من إحداث البدعة لا تنجي مبتدعها من سوء أثرها. وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا ( لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل ( نصيب ) من دمها لأنه أول من سن القتل )٢.
١ أخرجه ابن ماجه في الزهد باب ٣٠، وحمد في المسند ١/٣٧٦، ٤٢٣، ٤٣٣..
٢ أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٣، والأنبياء باب ١، والديانات باب ٢، والاعتصام باب ١٥، ومسلم في القسامة باب ٢٧، والترمذي في العلم باب ١٤، والنسائي في التحريم باب ١، وابن ماجة في الديانات باب ١، وأحمد في المسند ١/٣٨٣، ٣٣٠، ٤٣٣..
جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب، وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل، ويهددون الأمن، ويفسدون في الأرض، وما يتلوه من عقاب السرقة.
فمناسبة هذه الآية للسياق في جملته، أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين وأثر من آثار من سلفهم، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام، على وضوح برهانه، وكثرة آياته. وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود، على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس. ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم، وقتل الحكومات للأفراد، أو تعذبيهم بقطع الأطراف – كل ذلك قبيحا في نفسه، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر.
وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك، فجاءت هذه القصة في هذا المقام تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض حتى بالقتل هو أصيل فيهم، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم، لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال، وكون الحاسد يبغي إن قدر، وما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع، وأنوه بقدره وأرفع، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس، إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شؤون المعاش والمعاد، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه. فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل.
فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال، بذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل، لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع. وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح. ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدات الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] – فهذا الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها، وما بعدها من الأخبار والأحكام.
وقال ابن جرير وتبعه بعض المفسرين أن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١ ] الآية. وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ ﴾ [ المائدة : ١٨ ] الآية. وما قلناه أكمل، وأعم وأشمل.
﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ قال في اللسان – وقد ذكر الآية : وقول العرب فعلت ذلك من أجل كذا، وأجل كذا ( بفتح اللام ) من أجلاك ( وتكسر الهمزة فيها ) – قال الأزهري :( والأصل في قولهم فعلته من أجلك : أجل عليهم أجلا، أي جنى وجر ) ثم قال : وأجل عليهم شرا بأجله ( بضم الجيم وكسرها ) أجلا، أي جررت جريرة، قال أبو عمر ويقال : جلبت عليهم وجررت وأجلت بمعنى واحد، أي جنيت : وأجل لأهله يأجل، كسب وجمع واحتال اه وزاد الراغب في مفرداته قيدا في تعريف الأجل فقال : الأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية وليس كل جناية أجلا، يقال : فعلت كذا من أجله. قال تعالى ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ) أي من جرائه. اه.
وأقول : لا حاجة إلى القيد لأن من شأن كل جنابة أن يخاف آجلها وتحذر عاقبتها. ومن تتبع الشواهد والأقوال يرجح معي أن الأجل هو جلب الشيء الذي له عاقبة أو ثمرة وكسبه أو تهييجه. ويعدى باللام. وقد تكون العاقبة حسنة كقولهم : أجل لأهله. وغلب الفعل في الرديء والشر وإن عدي باللام، كقول توبة بن مضرَّس العبسي :
تغير كل دي لون وطعم وقـلَّ بشاشة وجه مليح.
فإن تك أم ابني زميلة أثكلت فيا رب أخرى قد أجلت لها ثكلا١
ثم استعمل في التعليل مطلقا كما قال عدي بن زيد :
*أجل أن الله قد فضلكم٢*
البيت وهو بغير من.
ومعنى العبارة : إنه بسبب ذلك الجرم والقتل الذي أجله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا لا بسبب آخر كتبنا : يفيد أن هذا التشديد في تشنيع القتل كان بسبب هذه الجنابة الدالة على أن البشر عرضة للبغي الشديد الذي يفضي إلى القتل بغير حق، إذا لم يردعهم الوعد الشديد، أو خوف العقاب العتيد. ولعل تخصيص بني إسرائيل بالذكر هو الذي أخذ منه الحسن قوله : إن ولدي آدم هذين كانا من بني إسرائيل. والجمهور يقولون : إن هذا التخصيص للتعريض بما كان من شدة حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب لأنه بعث فيهم، كما بين الله ذلك في كتابه من قبل.
وأما هذا الذي عليهم فهو ﴿ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ أي بغير سبب القصاص الذي شرعه الله تعالى في قوله الآتي في هذه السورة ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] أي من قتل نفسا يقتل بها جزاء وفاقا ﴿ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ﴾ أو غير سبب فساد في الأرض، بسلب الأمن، والخروج على أئمة العدل، وإهلاك الحرث والنسل، كما تفعله العصابات المسلحة لقتل الأنفس ونهب الأموال، أو إفساد الأمر على ذي السلطان المقيم لحدود الله. وهو مكان سيأتي حكمه قريبا في قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ﴾ [ المائدة : ٣٣ ] الآية ﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ لأن الواحد يمثل النوع من جملته، فمن استحل دمه بغير حق، يستحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله، فتكون نفسه ضارية بالبغي، لا وازع لها من ذاتها ولا من الدين.
﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ أي ومن كان سببا لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه، فكأنما أحيا الناس جميعا، لأن الباعث له على إنقاذ الواحد – وهو الرحمة والشفقة، ومعرفة قيمة الحياة الإنسانية واحترامها، والوقوف عند حدود الشريعة في حقوقها، - تندغم فيه جميع حقوق الناس عليه، فهو دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من هلكة يراهم مشرفين على الوقوع فيها لا يني في ذلك ولا يدخر وسعا. ومن كان جميع الناس أو أكثرهم مثل ذلك الذي قتل نفسا واحدة بغير حق، لكانوا عرضة للهلاك بالقتل في كل وقت، ولو كانوا مثل ذلك الذي أحيا نفسا واحدة احتراما لها، وقياما بحقوقها، لامتنع القتل بغير الحق من الأرض، وعاش الناس متعاونين، بل إخوانا متحابين متوادين. فالآية تعلمنا ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع، واتقائه ضرر كل فرد، لأن انتهاك حرمة الفرد، انتهاك لحرمة الجميع، والقيام بحق الفرد من حيث إنه عضو من النوع، وما قرر له من حقوق المساواة في الشرع، قيام لحق الجميع. وقد غفل عن هذا المعنى العالي مَن جعل التشبيه في الآية مشكلا يحتاج إلى التخريج والتأويل.
وقد بينا من قبل أن القرآن كثيرا ما يهدينا إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها بمثل إسناد عمل المتقدمين منها إلى المتأخرين، ووضع اسم الأمة أو ضميرها، في مقام الحكاية أو الخطاب لبعض أفرادها. ومن ذلك ما تقدم في تفسير ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ فقد قلنا هنالك – بعد إيراد عدة آيات في هذا المعنى بمثل هذا التعبير، وبيان كونه يدل على وحدة الأمة وتكافلها- ما نصه : بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جنابة على البشر كلهم، لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية فقط بقوله عز وجل ﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ الآية.
وروي أن وجه التشبيه هو القصاص، فمن قتل نفسا واحدة كمن قتل كل الناس في كونه يقتل قصاصا بالواحدة وبالكثير، إذ لا عقوبة فوق القتل. رواه ابن جرير عن ابن زيد عن أبيه. ولا يظهر مثل هذا المعنى في الإحياء. والمروي عن ابن زيد فيه أن ولي الدم إذا عفا عن القاتل كان له من الأجر مثل أجر من أحيا الناس جميعا. وقيل مثل هذا في القتل، وهو أن إثم قتل النفس الواحدة مثل إثم قتل جميع الناس وجزاؤهما واحد. وقد بين في سورة النساء ( ج ٥ ) عن ابن عباس أن المراد بالنفس في الموضعين نفس النبي أو الإمام العادل، وإحياؤها نصره وشد عضده. وهو صحيح المعنى لأن قتل المصلح أو إنقاذه ونصره يؤثر في الأمة كلها. ولكن اللفظ يأباه وما أراه يصح عن ابن عباس. وروي عنه غيره، ومنه أن من حرم قتل نفس بدون حق حيي الناس جميعا منه. وقيل إن المعنى أن من قتل نفسا كان قتلها كقتل الناس جميعا عند المقتول بالنسبة إليه، ومن أنقدها من القتل كان عند المنقذ كإحياء الناس جميعا. روى هذه الأقوال ابن جرير واختار منها أن وجه التشبيه في القتل هو عقاب الآخرة، وفي الإحياء انه سلامة الناس ممن يحرم على نفسه قتل النفس التي حرمها الله. وما قلناه أولا أوضح وأجمع للمعاني.
ومن الغرائب أن هذه الحكمة العالية من جملة ما نسي بنو إسرائيل من أحكام دينهم، إذ فقدت التوراة ثم كتبوا ما بقي في حفظهم من أحكامها. فأما قصة ابني آدم فهي في الفصل الرابع من سفر التكوين، وملخصها أن قايين لما قدم قربانا للرب من ثمرات الأرض، وقدم هابيل قربانا من أبكار غنمه، ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه، اغتاظ قايين وقتل هابيل، فسأله الرب عنه : أين هو ؟ فأجاب : لا أعلم وهل أنا حارس لأخي ؟ فلعنه الرب ؟ وطرده عن وجه الأرض ! فندم واسترحم الرب وخاف أن يقتله كل من وجده ! ! ( ١٥ – فقال له الرب لذلك كل من قتل قايين فسبعة ضعاف ينتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة لك لا يقتله كل من وجده ( ! ! ) فخرج قايين من لدن الرب وسكن في أرض نود شرقي عدن ! ! ) وفي الفصل التاسع منه أن نوحا قال لبنيه ( ٧ سافك دم الإنسان يسفك دمه، لأن الله على صورته عمل الإنسان ) وفي الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج أن من قتل إنسانا عمدا يقتل، ومن بغى على صاحبه ليقتله بغدر ( فمن عند مذبحي تأخذه للموت ) ومن ضرب أباه وأمه أو شتمهما أو سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل. فأسباب القتل عندهم كثيرة، ولم تكن هذه الشدة رادعة لهم عن القتل بغير حق حتى قتل الأنبياء، فهل يكثر عليهم ما كانوا عزموا عليه من قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصطفى غدرا ؟ لا، لا. ولهذا قال تعالى فيهم :
﴿ وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ أي لم تغن عنهم بينات الرسل ولا هذبت نفوسهم، بل كان كثير منهم بعد ذلك الذي ذكر من التشديد عليهم في أمر القتل ومن مجيء الرسل بالبينات يسرفون في الأرض بالقتل وسائر ضروب البغي. أكد إثبات وصف الإسراف لكثير منهم تأكيدا بعد تأكيد، لأن تشديد الشريعة وتكرار بينات الرسل كانت تقتضي عدم ذلك أو ندوره. والحكم على الكثير دون جميع الأمة من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحقائق، وهذا الرسوخ في الإسراف لا يمكن أن يعم أفراد الأمة، والناس يطلقون وصف الكثير على الجميع في الغالب. والإسراف مجاوزة الحد في العمل، أي حد الحق والمصلحة، ويعرف ذلك بالشرع في الأمور الشرعية، وبالعقل والعرف في غير ذلك وفي القوم الذين ليس لهم شرع. وكل ما يتجاوز فيه الحد يفسد.
والأصل في معنى الإسراف الإفساد، فهو من السرفة وهي ( بالضم ) الدودة التي تأكل الشجرة والخشب. وإذا كان الإسراف في فعل الخير يجعله شرا، كالنفقة الواجبة والمستحبة التي تذهب بالمال كله، فتفسد على صاحبه أمر معاشه. فما بالك بالإسراف في الشر، وهو المبالغة وتجاوز ما اعتاده الأشرار فيه ؟ وأما قوله تعالى في سورة بن إسرائيل ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] فهو نهى لولي المقتول أن يتجاوز حد القصاص إلى قتل غير القاتل، أو تعذيب القاتل والتمثيل به.
وأكبر العبر في الآية أن قصة ابني آدم أقدم قصة تدلنا على أن الحسد كان مثار أول جناية في البشر، ولا يزال هو الذي يفسد على الناس أمر اجتماعهم – من اجتماع العشيرة في الدار – إلى اجتماع القبيلة، إلى اجتماع الدولة. فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه في النسب أو الجنس أو الدين وهو لم يتعرض لمثلها لينالها، فيبغي على أخيه ولو بما فيه شقاؤه هو. وأكبر الموانع لارتقاء المسلمين الآن هو الحسد والعياذ بالله تعالى من أهله لعنة الله عليهم، لأن الأمم لا ترتقي إلا بنهوض المصلحين بها، وكلما قام فينا مصلح تصدى الحاسدون لإحباط عمله.
ومن قرأ الآية وفهم ما فيها من تعليل تحريم القتل بغير حق، وكون هذا الحق لا يعدو القصاص ومنع الإفساد في الأرض، يتوجه ذهنه لاستبانة العقاب الذي يؤخذ به المفسدون حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، فبين الله ذلك العقاب بقوله :﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٣٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٤ ) ﴾.
١ البيت من الطويل، وهو في لسان العرب (أجل)..
٢ عجزه: فوق ما حكى بصلب وإزار
والبيت من الرمل، وهو لعدي بن زيد في ديوانه ص ٩٤، وتهذيب اللغة ١١/١٩٤، وديوان الأدب ١/ ١٤٩، وتاج العروس (حكى)..

اختلف نقلة التفسير المأثور فيمن نزل فيهم هاتان الآيتان، على ما هو ظاهر من اتصالهما بما قبلهما أتم الاتصال. روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا١ المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود٢وراع، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها. فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم٣ وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم٤. زاد البخاري : أن قتادة الراوي للحديث عن أنس قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود قال قتادة فحدثني ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود ( أي في الآية التي نحن بصدد تفسيرها ) وروى أبو داود والنسائي عن أبي الزناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله في ذلك فأنزل ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ﴾ الآية. وفي القصة روايات أخرى مفصلة. ومنها أنه أباح لهم إبل الصدقة كلها في غدوها ورواحها.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في المشركين منهم، من تاب قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه، ولم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. ( ومثله عند ابن جرير عن الحسن ) وروى ابن جرير والطبراني في الكبير عن ابن عباس أيضا أنه قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيدهم وأرجلهم من خلاف، وفي بعض الروايات زيادة إلا من أسلم قبل أن يؤخذ. وروى ابن جرير أيضا ما تقدم من كون الآية نزلت عتابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على سمل أعين العرنيين وقطع أيديهم وتركها بدون حسم فكانت الآية تحريما للمثلة عند هؤلاء. على أنه ثبت أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن المثلة قبل نزول المائدة. وروي عن آخرين أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أمر بسمل أعينهم وقطعهم كما فعلوا بالراعي المسلم – وفي بعض الروايات الرعاة بالجمع – فنزلت الآية فترك ذلك ولم يفعله.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم إنه خاص بمثل من نزلت فيهم من الكفار مطلقا ؟ أو الذين غدوا من اليهود، أو الذين خدعوا النبي والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم. وذهب أكثر الفقهاء إلى أنها خاصة بمن يفعلون هذه الأفعال من المسلمين، وكأنهم اعتدّوا بما أظهره العرنيون من الإسلام. ورووا عدة روايات في تطبيق الآية على الخوارج، بل قالوا إنها نزلت فيهم.
والظاهر المتبادر بصرف النظر عن الروايات المتعارضة أنها عامة لكل من يفعل هذه الأفعال في دار الإسلام إذا قدرنا عليهم وهم متلبسون بها بالفعل أو الاستعداد. وقد قال الذين جعلوها خاصة بالمسلمين : إن أحكام الكفار في الحرب معروفة بالنصوص والعمل، وليس فيها هذه الدرجات في العقاب. وجوابه أن هذا العقاب خاص بمن فعل مثل أفعال العرنيين، فلا يقتضي ذلك أن يتبع في حرب كل من حاربنا من الكفار. وقال بعضهم : إن استثناء من تابوا قبل القدرة عليهم دليل على إرادة المسلمين، لأن الكفار لا يشترط في توبتهم أن تكون قبل القدرة عليهم. ويجاب عن هذا بأن التوبة من هذا الإفساد هي التي يشترط فيها أن تكون قبل القدرة عليهم، لا التوبة من الكفر.
ومجموع الروايات في قصة العرنيين تفيد أنهم جعلوا الإسلام خديعة للسلب والنهب، وأنهم سملوا أعين الرعاة ثم قتلوهم ومثلوا بهم، وفي بعضها أنهم اعتدوا على الأعراض أيضا وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاقبهم بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] وقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] إن صح أن الآية نزلت بعد عقابهم. ولم يعف عنهم كعادته لئلا يتجرأ على مثل فعلتهم أمثالهم من أعراب المشركين وغيرهم، فأراد بذلك القصاص وسد الذريعة، وأن الله تعالى أنزل الآية بهذا التشديد في العقاب على مثل هذا الإفساد، لهذه الحكمة، وهي سد ذريعة هذه المفسدة، ولكنه حرم مع ذلك كله المثلة، وهي تشويه الأعضاء. ولا مفسدة أشد وأقبح من سلب الأمن على الأنفس والأعراض والأموال الناطقة والصامتة. فرب عصبة من المفسدين تسلب الأمان والاطمئنان من أهل ولاية كبيرة. ورب عصبة مفسدة تعاقب بهذه العقوبات المنصوصة في الآية فتطهر الأرض من أمثالها زمنا طويلا.
والتشديد في سد الذرائع ركن من أركان السياسة لا تزال جميع الدول تحافظ عليه، حتى أن بعضهم يحكم الوهم فيه. ومن الأمر الإدّ، ما اجترحته إنكلترة في مصر بهذا القصد، إذ مر بقرية ( دنشواي ) منذ سنين قليلة أفراد من جند الإنكليز كانوا يصيدون الحمام عند بيدرها فتخاصموا مع أصحاب الحمام وتضاربوا، فعظم على الإنكليز تجرؤ الفلاح المصري، على ضرب الجندي الإنكليزي، فعقدوا المحكمة العرفية لمحاكمة أولئك الفلاحين برياسة بطرس باشا غالي، فحكمت على بعض أولئك الفلاحين بأن يصلبوا ويعذبوا بالضرب بالسياط ( الكرابيج ) ذات العقد حتى تتأثر لحومهم، وأن يبقوا مصلوبين بعد موتهم مدة طويلة، وأن يكون ذلك على أعين أهليهم وأعين الناس، ونفذ الحكم. وقد أنكر هذه القسوة واستفظعها الناس حتى بعض أحرار الإنكليز في بلادهم، وشنعوا عليها في الجرائد وفي مجلس النواب. ومثل هذه الحادثة لا تعد من الخروج على ذي السلطان، ولا من الفساد في الأرض. ولكن قصد الإنكليز بالقسوة فيها أن لا يتجرأ أحد على مقاومة جندي إنكليزي وإن اعتدى فأين هذا من عدل الإسلام الذي ساوى خليفته عمر بن الخطاب بين ابن فاتح مصر وقائد جيشها وحاكمها العام ( عمرو بن العاص ) وبين غلام قبطي، إذ تسابقا فسبق القبطي ابن الحاكم فصفعه هذا وقال : أتسبقني وأنا ابن الأكرمين ؟ فلما رفع الأمر إلى عمر رضي الله عنه لم يرض إلا أن يصفع القبطي ابن الفاتح الحاكم كما صفعه. وقال لعمرو كلمته الذهبية المشهورة : يا عمرو ! منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ولكن المسلمين لما تركوا حكم الإسلام صاروا يطلبون من الإنكليز ومن دون الإنكليز أن يعلموهم العدل وقوانينه ! !
أما تفسير الآية فهو ما ترى :
﴿ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ﴾ أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر محصور فيما يذكر بعده من العقوبات على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم، لكل منها ما يليق بها من العقوبة. والمحاربة مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم. والسلم السلام أي السلامة من الأذى والضرر والآفات، والأمن على النفس والمال. والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال. لسان العرب : الحرب بالتحريك أن يسلب الرجل ماله، حربه يحربه ( بوزن طلب. وكذا بوزن تعب ) إذا أخذ ماله، فهو محروب وحريب، من قوم حربى وحرباء. ثم قال حريبة الرجل ماله الذي يعيش به، اه فأنت ترى أن الحرب والمحاربة، ليس مرادفا للقتل والمقاتلة. وإنما الأصل فيها الاعتداء والسلب وإزالة الأمن. وقد يكون ذلك بقتل وقتال وبدونهما. وقد ذكر القتل والقتال في القرآن في أكثر من مئة آية. وأما المحاربة فلم تذكر إلا في هذه وفي قوله تعالى في بيان علة بناء المنافقين لمسجد الضرار ﴿ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ]. قال رواة التفسير المأثور : أي وترقبا وانتظارا للذي حارب الله ورسوله من قبل بناء هذا المسجد، وهو أبو عامر الراهب، فإنه كان شديد العداوة للإسلام ووعد المنافقين بأن يذهب ويأتيهم بجنود من عند قيصر للإيقاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. فمحاربة هذا الراهب من قبل كانت باثارة الفتن لا بالقتال والنزال. وأما لفظ ( الحرب ) فقد ذكر في أربعة مواضع من أربع سور. منها إعلام المصرين على الربا بأنهم في حرب لله ورسوله بأكلهم أموال الناس بالباطل. والباقي بالمعنى المشهور، وهو ضد السلم وكان أهل البوادي – ولا يزالون – يغزو بعضهم بعضا لأجل السلب والنهب. وقد جعل الفقهاء كتاب المحاربة – ويقولون الحرابة أيضا – غير كتاب الجهاد والقتال. وجعلوا الأصل فيها هاتين الآتين. وعرفوها بأنها إشهار السلاح وقطع السبيل، واشترط بعضهم كالشافعي أن يكون ذلك من أهل الشوكة. ( كالذين يؤلفون العصابات المسلحة للسلب والنهب وقتل من يعارضهم، أو لمقاومة السلطة ابتغاء الفتنة والفساد ) واشترطوا فيها شروطا سنشير إلى المهم منها.
أما كون هذا النوع من العدوان محاربة لله ورسوله فلأنه اعتداء على شريعة السلام والأمان، والحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله، فمحاربة الله ورسوله هي عدم الإذعان لدينه وشرعه في حفظ الحقوق، كما قال تعالى في المصرين على أكل الربا ﴿ فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ [ البقرة : ٢٧٩ ] وليس معناه محاربة المسلمين، كما قال بعض المفسرين. فمن لم يذعنوا للشرع فيما يخاطبهم به في دار الإسلام ٥ يعدون محاربين الله ورسوله عليه السلام، فيجب على الإمام، الذي يقيم العدل ويحفظ النظام، أن يقتلهم على ذلك ( كما فعل الصديق رضي الله عنه بمانعي الزكاة ) حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله، ومن رجع منهم في أي وقت يقبل منه ويكف عنه. ولكن إذا امتنعوا على إمام العدل المقيم للشريعة، وعثوا إفسادا في الأرض، كان جزاؤهم ما بينه الله في هذه الآية. فقوله تعالى :﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ﴾ متمم لما قبله، أي يسعون فيها سعي فساد، أو مفسدين في سعيهم لما صلح من أمور الناس، في نظام الاجتماع وأسباب المعاش.
والفساد ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به الصالح نافعا يقال إنه قد فسد. ومن عمل عملا كان سببا لفساد شيء من الأشياء يقال إنه أفسده، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض، ومعارضة تنفيذ الشريعة العادلة وإقامتها – كل ذلك إفساد في الأرض. روى عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا الزنا والسرقة وقتل الناس وإهلاك الحرث والنسل. وكل هذه الأعمال من الفساد في الأرض، واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبة في الشريعة غير ما في الآية، فللزنا والسرقة والقتل حدود، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ويضمنه الفاعل، ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده. وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين، الذين يكاثرون أولي الأمر، ولا يذعنون لحكم الشرع، وتلك الحدود إنما هي للسارقين الزناة أفرادا، الخاضعين لحكم الشرع فعلا، وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز بصيغة اسم فاعل مفرد كقوله :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ [ المائدة : ٣٨ ] ﴿ والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ [ النور : ٢ ] وهم يستخفون بأفعالهم، ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم، ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة. فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربون الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفين معا. وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين. لأن الوصفين متلازمان.
ولا تتحقق محاربة الله ورسوله، بمحاربة الشرع ومقاومة تنفيذه، وإفساد النظام على أهله، إلا في دار الإسلام، وللكفار في دار الحرب أحكام أخرى كما قال الفقهاء، وأحكامهم تذكر في كتاب المحاربة أو الحرابة كما تقدم. وقد فطن لهذا المعنى بعضهم ولم يتضح له تمام الاتضاح، فاشترط أن يكون إفسادهم في دار الإسلام، ولا فصل حينئذ فيهم بين أن يكونوا مسلمين أو ذميين أو معاهدين أو حربيين كل من قدرنا عليه منهم نحكم بينهم بهذه الآية.
وقد اختلف الفقهاء في تعريف المحاربين فروى ابن جرير وغيره عن مالك بن أنس أنه قال : المحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء، فكان ذلك منه على غير ثائرة كانت بينهم ولا دخل ولا عداوة، قاطعا للسبيل والطريق والديار، مختفيا لهم بسلاحه. وذكر أن من قتل منهم قتله الإمام، ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود.
وقال ابن المنذر : اختلفت الرواية في مسألة إثبات المحاربة في المصر عن مالك فأثبتها مرة ونفاها أخرى. نقول : والصواب الإثبات لأنه المعروف في كتب مذهبه، وإنما اشترط انتفاء العداوة وغيرها من الأسباب ليتحقق كون ذلك محاربة للشرع، ومقاومة للسلطة التي تنفذه. وفي حاشية المقنع من كتب الحنابلة تلخيص لمذاهب الفقهاء في ذلك هذا نصه :
( يشترط في المحاربين ثلاثة شروط :
١- أن يكون معهم سلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا محاربين لأنهم لا يمنعون من يقصدهم. ولا نعلم في هذا خلافا. فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون، وهو المذهب، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين.
٢- أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين في قول الخرقي، وجزم به في الوجيز، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق، لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولأن في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين. والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه. وقال أبو بكر : حكمهم في المصر والصحراء واحد. وهو المذهب. وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور : لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولأنه في المصر أعظم ضررا فكان أولى.
٣- أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا، فأما إن أخذوا مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا، لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة. وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق )اه.
قال بعض المفسرين المستقلين بالفهم : إن أكثر الشروط التي اشترطها الفقهاء في هذا الباب لا يوجد لها أصل في الكتاب ولا في السنة. ونحن نقول : إن الآية تدل دلالة صريحة على أن هذا العقاب خاص بمن يفسدون الأرض، بالسلب والنهب أو القتل، أو إهلاك الحرث والنسل، ومثل ذلك أو منه الاعتداء على الأعراض، إذا كانوا محاربين لله ورسوله، بقوة يمتنعون بها من الإذعان والخضوع لشرعه، ولا يتأتي ذلك إلا حيث يقام شرعه العادل من دار الإسلام. فمن اشترط حملهم السلاح أخذ شرطه من كون القوة السلاح. وهو لو قيل له أنه يوجد أو سيوجد مواد تفعل في الإفساد والإعدام وتخريب الدور، وكذا في الحماية والمقاومة أشد مما يفعل السلاح ( كالدينامت المعروف الآن ) ألا تراه في حكم السلاح ؟ يقول : بلى. ومن اشترط خارج المصر، راعى الأغلب، أو أخذ من حال زمنه أن المصر لا يكون فيه ذلك. وما اشترط أحد شرطا غير صحيح أو غير مطرد إلا وله وجه انتزعه منه.
أما ذلك الجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين بالقوة فهو ﴿ أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ﴾ التقتيل هو التكثير أو التكرير أو المبالغة في القتل، فأما معنى التكرار أو التكثير فلا يظهر إلا باعتبار الأفراد، كأنه يقول : كلما ظفرتم بمن يستحق القتل منهم فاقتلوه. وأما المبالغة فتظهر بكون القتل حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم، وقد صرح بعض الفقهاء بأن المحاربين المفسدين إذا قدرنا على القاتل منهم نقتله إن عفا ولي الدم أو رضي بالدية. والتصليب التكرار أو المبالغة في الصلب، فيقال فيه ما قيل في التقتيل. ويمكن تكرار صلب الواحد على قول من قال : إن الصلب يكون بعد القتل لأجل العبرة، فيصلب المجرم في النهار وتحتفظ جثته ليلا، ثم يصلب في النهار قال الشافعي يصلب بعد القتل ثلاثة أيام. والظاهر أنهم يصلبون أحياء ليموتوا بالصلب كما قال الجمهور، وإلا لم يكن الصلب عقوبة ثانية. وأصل معنى الصلب ( بالتحريك ) والصليب في اللغة الودك ( الدهن ) أو ودك العظام التي يعد صلب الظهر جذع شجرتها، والصديد الذي يخرج من بدن الميت. قال في اللسان : والصلب مصدر يصلبه ( بكسر اللام ) صلبا، وأصله من الصليب وهو الودك أو الصديد..... والصلب هذه القتلة المعروفة مشتق من ذلك، وقد صلبه يصلبه صلبا، شدد للتكثير... والصليب المصلوب اه ويعني بالقتلة المعروفة أن يربط الشخص على خشبة أو نحوها منتصب القامة ممدود اليدين حتى يموت. وكانوا يطعنون المصلوب ليعجلوا موته. والشكل الذي يشبه المصلوب يسمى صليبا.
وأما تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، فمعناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى. وفي هذا نوع من التكرار فصيغة التفعيل فيه أظهر مما قبله. وما قطع من يد أو رجل يحسم في الحال كما جرى عليه العمل. والحسم كي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت وهو يغلي ليكيلا يستنزف الدم ويموت صاحبه. وفي معنى الحسم كل علاج يحصل به المراد، وربما كان الأفضل ما كان أسرع تأثيرا وأقل إيلاما وأسلم عاقبة، عملا بحديث ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته )٦ رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن شداد بن أوس.
وأما النفي من الأرض فيحتمل لفظ الآية فيه أن يكون عقوبة معطوفة على ما قبلها. وأن يكون ( أو ) بمعنى ( إلا أن ) أي جزاؤهم ما ذكر قبل إلا أن ينفوا من الأرض بالمطاردة ويخرجوا من دار الإسلام إلى الحرب التي لا حكم ولا سلطان للإ
٥ الشرع يخاطب المسلم بحقوق الله والناس معا، ويخاطب الذمي والمعاهد بحقوق الناس فقط..
٦ أخرجه مسلم في الصيد حديث ٥٧، وأبو داود في الأضاحي باب ١١، والترمذي في الديات باب ١٤، والنسائي في الضحايا باب ٢٢، ٢٦، ٢٧، وابن ماجه في الذبائح باب ٣، والدارمي في الأضاحي باب ١٠، وأحمد في المسند ٤/١٢٣، ١٢٤، ١٢٥..
اختلف نقلة التفسير المأثور فيمن نزل فيهم هاتان الآيتان، على ما هو ظاهر من اتصالهما بما قبلهما أتم الاتصال. روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا١ المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود٢وراع، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها. فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم٣ وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم٤. زاد البخاري : أن قتادة الراوي للحديث عن أنس قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود قال قتادة فحدثني ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود ( أي في الآية التي نحن بصدد تفسيرها ) وروى أبو داود والنسائي عن أبي الزناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله في ذلك فأنزل ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ﴾ الآية. وفي القصة روايات أخرى مفصلة. ومنها أنه أباح لهم إبل الصدقة كلها في غدوها ورواحها.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في المشركين منهم، من تاب قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه، ولم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. ( ومثله عند ابن جرير عن الحسن ) وروى ابن جرير والطبراني في الكبير عن ابن عباس أيضا أنه قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيدهم وأرجلهم من خلاف، وفي بعض الروايات زيادة إلا من أسلم قبل أن يؤخذ. وروى ابن جرير أيضا ما تقدم من كون الآية نزلت عتابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على سمل أعين العرنيين وقطع أيديهم وتركها بدون حسم فكانت الآية تحريما للمثلة عند هؤلاء. على أنه ثبت أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن المثلة قبل نزول المائدة. وروي عن آخرين أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أمر بسمل أعينهم وقطعهم كما فعلوا بالراعي المسلم – وفي بعض الروايات الرعاة بالجمع – فنزلت الآية فترك ذلك ولم يفعله.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم إنه خاص بمثل من نزلت فيهم من الكفار مطلقا ؟ أو الذين غدوا من اليهود، أو الذين خدعوا النبي والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم. وذهب أكثر الفقهاء إلى أنها خاصة بمن يفعلون هذه الأفعال من المسلمين، وكأنهم اعتدّوا بما أظهره العرنيون من الإسلام. ورووا عدة روايات في تطبيق الآية على الخوارج، بل قالوا إنها نزلت فيهم.
والظاهر المتبادر بصرف النظر عن الروايات المتعارضة أنها عامة لكل من يفعل هذه الأفعال في دار الإسلام إذا قدرنا عليهم وهم متلبسون بها بالفعل أو الاستعداد. وقد قال الذين جعلوها خاصة بالمسلمين : إن أحكام الكفار في الحرب معروفة بالنصوص والعمل، وليس فيها هذه الدرجات في العقاب. وجوابه أن هذا العقاب خاص بمن فعل مثل أفعال العرنيين، فلا يقتضي ذلك أن يتبع في حرب كل من حاربنا من الكفار. وقال بعضهم : إن استثناء من تابوا قبل القدرة عليهم دليل على إرادة المسلمين، لأن الكفار لا يشترط في توبتهم أن تكون قبل القدرة عليهم. ويجاب عن هذا بأن التوبة من هذا الإفساد هي التي يشترط فيها أن تكون قبل القدرة عليهم، لا التوبة من الكفر.
ومجموع الروايات في قصة العرنيين تفيد أنهم جعلوا الإسلام خديعة للسلب والنهب، وأنهم سملوا أعين الرعاة ثم قتلوهم ومثلوا بهم، وفي بعضها أنهم اعتدوا على الأعراض أيضا وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاقبهم بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] وقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] إن صح أن الآية نزلت بعد عقابهم. ولم يعف عنهم كعادته لئلا يتجرأ على مثل فعلتهم أمثالهم من أعراب المشركين وغيرهم، فأراد بذلك القصاص وسد الذريعة، وأن الله تعالى أنزل الآية بهذا التشديد في العقاب على مثل هذا الإفساد، لهذه الحكمة، وهي سد ذريعة هذه المفسدة، ولكنه حرم مع ذلك كله المثلة، وهي تشويه الأعضاء. ولا مفسدة أشد وأقبح من سلب الأمن على الأنفس والأعراض والأموال الناطقة والصامتة. فرب عصبة من المفسدين تسلب الأمان والاطمئنان من أهل ولاية كبيرة. ورب عصبة مفسدة تعاقب بهذه العقوبات المنصوصة في الآية فتطهر الأرض من أمثالها زمنا طويلا.
والتشديد في سد الذرائع ركن من أركان السياسة لا تزال جميع الدول تحافظ عليه، حتى أن بعضهم يحكم الوهم فيه. ومن الأمر الإدّ، ما اجترحته إنكلترة في مصر بهذا القصد، إذ مر بقرية ( دنشواي ) منذ سنين قليلة أفراد من جند الإنكليز كانوا يصيدون الحمام عند بيدرها فتخاصموا مع أصحاب الحمام وتضاربوا، فعظم على الإنكليز تجرؤ الفلاح المصري، على ضرب الجندي الإنكليزي، فعقدوا المحكمة العرفية لمحاكمة أولئك الفلاحين برياسة بطرس باشا غالي، فحكمت على بعض أولئك الفلاحين بأن يصلبوا ويعذبوا بالضرب بالسياط ( الكرابيج ) ذات العقد حتى تتأثر لحومهم، وأن يبقوا مصلوبين بعد موتهم مدة طويلة، وأن يكون ذلك على أعين أهليهم وأعين الناس، ونفذ الحكم. وقد أنكر هذه القسوة واستفظعها الناس حتى بعض أحرار الإنكليز في بلادهم، وشنعوا عليها في الجرائد وفي مجلس النواب. ومثل هذه الحادثة لا تعد من الخروج على ذي السلطان، ولا من الفساد في الأرض. ولكن قصد الإنكليز بالقسوة فيها أن لا يتجرأ أحد على مقاومة جندي إنكليزي وإن اعتدى فأين هذا من عدل الإسلام الذي ساوى خليفته عمر بن الخطاب بين ابن فاتح مصر وقائد جيشها وحاكمها العام ( عمرو بن العاص ) وبين غلام قبطي، إذ تسابقا فسبق القبطي ابن الحاكم فصفعه هذا وقال : أتسبقني وأنا ابن الأكرمين ؟ فلما رفع الأمر إلى عمر رضي الله عنه لم يرض إلا أن يصفع القبطي ابن الفاتح الحاكم كما صفعه. وقال لعمرو كلمته الذهبية المشهورة : يا عمرو ! منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ولكن المسلمين لما تركوا حكم الإسلام صاروا يطلبون من الإنكليز ومن دون الإنكليز أن يعلموهم العدل وقوانينه ! !
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ استثنى الله تعالى من المحاربين المفسدين في الأرض – الذين حكم عليهم بأشد الجزاء في الدنيا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة – من يتوبون منهم قبل القدرة عليهم، وتمكن أولي الأمر من عقابهم، فإن توبتهم وهم في قوتهم ومنعتهم، جديرة بأن تكون توبة نصوحا منشؤها العلم بقبح عملهم والعزم على عدم العودة إليه، لا الخوف من عقاب الدنيا. وهب أنه الخوف من عقاب الدنيا : أليسوا قد تركوا الإفساد ومحاربة شرع الله ورسوله، وصاروا كسائر الناس ؟ بلى ! وإذاً لا يجمع لهم بين أشد عقاب الشرع في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.
لذلك بين الله تعالى أنهم يصيرون بهذه التوبة أهلا لمغفرته ورحمته فقال :﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فاعلموا أنه تعالى يغفر لهم ما سلف، ويرحمهم برفع العقاب عنهم. وهل الذي يرتفع عنهم عقاب الآخرة فقط كما قالوا في توبة السارق ؟ ( وسيأتي حده وحكمه بعد ثلاث آيات ) أم يرتفع عنهم حق الله كله من عقاب الدنيا والآخرة ولا يبقى عليهم إلا حقوق العباد ؟ وإذاً يكون لمن سلب التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها، ولمن قتل منهم أحد أن يطالبوه بدمه، ولهم الخيار كغيرهم بين القصاص والدية والعفو، أم تسقط عنهم حقوق الله كلها وحقوق العباد كلها أيضا ؟ احتمالات آخرها أضعفها، وأوسطها أقواها، وقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب ولكن لم يرد أن أحدا تقاضى التائب حقا ولم يسمع له الإمام. إذا جاز إسقاط الحد مطلقا عن التائب فلا يجوز إسقاط المال عنه مطلقا. بل يتجه أن يقال : إن توبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها. فإذا رأى أولو الأمر إسقاط حق مالي عن المفسدين للمصلحة العامة وجب أن يضمنوه من بيت المال.
وقد اختلف علماء السلف في هؤلاء التائبين. فقيل إنهم المحاربون المفسدون من الكفار، إذا تابوا عن الكفر والحرب والفساد ودخلوا في الإسلام قبل القدرة عليهم. فهم الذين يسقط عنهم كل حق كان قبل الإسلام، لأنه يجب ما قبله مطلقا. رواه ابن جرير وابن عباس وعكرمة والحسن والبصري ومجاهد وقتادة.
وقيل إنها في المحاربين من المسلمين. وروى ابن جرير أن حارثة بن بدر كان محاربا في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه فطلب من الحسن بن علي ثم من ابن جعفر ( عليهم الرضوان ) أن يستأمن له عليا فأبيا عليه. فأتى سعيد بن قيس فقبله قال الراوي : فلما صلى علي الغداة أتاه ابن قيس فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ؟ فقرأ علي الآيتين، فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ؟ قال : وإن كان حارثة بن بدر. قال فهذا حارثة بن بدر جاء تائبا فهو آمن ؟ قال نعم. قال فجاء به فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له أمانا. ولكن ليس في الرواية ما يدل على إسقاط حقوق الناس. وقد اشترط بعضهم في التائب أن يستأمن الإمام فيؤمنه، كما فعل حارثة. وقال بعضهم لا يشترط ذلك بل يجب على الإمام أن يقبل كل تائب. ورووا في ذلك واقعة محارب جاء أبا موسى تائبا، وكان عامل عثمان على الكوفة فقبل منه – ووقعة علي الأسدي الذي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم ثم سمع رجلا يقرأ ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ [ الزمر : ٥٣ ]. فاستعادها فأعادها القارئ، فغمد سيفه وجاء المدينة تائبا بعد أن عجزت الحكومة والناس عنه، فأخذ بيده أبو هريرة وجاء به والي المدينة مروان بن الحكم وقال له : لا سبيل لكم عليه ولا قتل. فترك من ذلك كله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:خلاصة الآيتين وقتال البغاة وطاعة الأئمة
قد علم من التفصيل السابق أن هاتين الآيتين خاصتان بعقاب المحاربين المفسدين في الأرض، أي الذين يعملون في بلاد الإسلام أعمالا مخلة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض، معتصمين في ذلك بقوتهم، غير مذعنين للشريعة باختيارهم. فيجب على الأئمة ( الحكام ) أن يطاردوكم ويتتبعوهم، فإذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات، بعد تقدير كل مفسدة بقدرها، ومراعاة المصلحة العامة وسد ذريعة الفساد. ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما في هذه الآية وإنما حكمه حكم سائر الناس.
وقد قلنا إن بعض العلماء قال : إن الآية نزلت في الخوارج. وأوردوا في هذا المقام ما ورد من الأحاديث المنبئة بصفات الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في عهد خلافته، ولا يصح ذلك القول بحال من الأحوال، وقد قاتل أمير المؤمنين الخوارج برأي من معه من علماء الصحابة، ولم يعاملهم بعقوبات آية المحاربين المفسدين، إذ لم يكن غرضهم الإفساد في الأرض، ولا تخريب العمران وإزالة الأمن. وإنما هم قوم خرجوا على الإمام العادل بعد البيعة متأولين، زاعمين أنه زل عن صراط الحق، وتجاوز تحكيم الشرع إلى الرأي.
وقد اختلف علماء المسلمين في مسألة الخروج على أئمة الجور وحكم من يخرج، لاختلاف ظواهر النصوص التي وردت في الطاعة والجماعة والصبر وتغيير المنكر ومقاومة الظلم والبغي. ولم أر قولا لأحد جمع به بين كل ما ورد من الآيات والأحاديث في هذا الباب ووضع كلا منها في الموضع الذي يقتضيه سبب وروده مراعيا اختلاف الحالات في ذلك، مبينا مفهومات الألفاظ بحسب ما كانت تستعمل به في زمان التنزيل دون ما بعده. مثال هذا : لفظ ( الجماعة ) إنما كان يريد به جماعة المسلمين التي تقيم أمر الإسلام بإقامة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن صارت كل دولة أو إمارة من دول المسلمين تحمل كلمة الجماعة على نفسها، وإن هدمت السنة، وأقامت البدعة، وعطلت الحدود، وأباحت الفجور. ومثال اختلاف الأحوال : تعدد الدول، فأيها تجب طاعته والوفاء ببيعته ؟ وإذا قتل أحدها الأخر فأيها يعد الباغي الذي يجب على سائر المسلمين قتله حتى يفيء إلى أمر الله ؟ كل قوم يطبقون النصوص على أهوائهم مهما كانت ظاهرة.
ومن المسائل المجمع عليها قولا واعتقادا : أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق :( وإنما الطاعة في المعروف ). وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن الإسلام واجب. وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة. وأنه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، وحكومة جائرة تعطله وجب على كل مسلم نصر الأول ما استطاع. وأنه إذا بغت طائفة من المسلمين على أخرى وجردت عليها السيف وتعذر الصلح بينهما فالواجب على المسلمين قتال الباغية المعتدية حتى تفيء إلى أمر الله. وما ورد في الصبر على أئمة الجور إلا إذا كفروا معارض بنصوص أخرى، والمراد به اتقاء الفتنة، وتفريق الكلمة المجتمعة، وأقواها حديث ( وأن لا تنزع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا )١. قال النووي المراد بالكفر هنا المعصية – ومثله كثير – وظاهر الحديث أن منازعة الإمام الحق في إمامته لنزعها منه لا يجب إلا إذا كفر كفرا ظاهرا وكذا عماله وولاته. وأما الظلم والمعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء إمامته وطاعته في المعروف دون المنكر، وإلا خلع ونصب غيره. ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إمام الجور البغي، الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمكر، يزيد بن معاوية خذله الله وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب. الذين لا يزالون يستحبون عبادة الملوك الظالمين، على مجاهدتهم لإقامة العدل والدين. وقد صار رأي الأمم الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدين المفسدين. وقد خرجت الأمة العثمانية على سلطانها عبد الحميد خان فسلبت السلطة منه وخلعته بفتوى من شيخ الإسلام. وتحرير هذه المسائل لا يمكن إلا بمصنف خاص. والسلام على من اتبع الهدى ورجح الحق على الهوى.

ذكر الرازي أن وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآية وما قبلها يرجع إلى سياق الكلام على أهل الكتاب لأن ما بعده جاء على سبيل الاستطراد، وقد جاء في ذلك السياق أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول وبعض المؤمنين بالسوء وقصد الاغتيال، لما كانوا عليه من العتو على الأنبياء وشدة الإيذاء لهم، وانهم كانوا هم والنصارى مغرورين بدينهم، يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، فأرشد الله المؤمنين وأمرهم بأن يتقوه ويبتغوا إليه وحده الوسيلة بالعمل الصالح، ولا يكونوا كأهل الكتاب في افتتانهم وغرورهم. هذا معنى ما قاله.
والوجه في التناسب عندي أن يبنى على أسلوب القرآن الذي امتاز به على سائر الكلام، من حيث كونه مثاني للهداية والموعظة والعبرة، لا تبلى جدته، ولا تمل قراءته، والركن الأول لهذا الأسلوب أن يكون الكلام في كل موضوع مختصرا مفيدا تتخلله أسماء الله وصفاته والتذكير بوحدانيته، ووجوب تقواه والإخلاص له والتوجه إليه وحده، وبالدار الآخرة والجزاء فيها على الأعمال. فبناء على هذا الأسلوب قفى الله تعالى على قصة ابني آدم وما ناسبها من بيان حدود الذين يبغون على الناس ويفسدون في الأرض- بالأمر بالتقوى ومنها اتقاء الحد والبغي والفساد الذي هو سبب الخزي والعذاب في الدنيا ولآخرة – وبابتغاء الوسيلة إليه تعالى والجهاد في سبيله، رجاء الفلاح والفوز بالسعادة- ووعيد الكفار الذين لا يتقون الله ولا يتوسلون إليه لما يرضيه فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ ﴾ اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه، وسخطه وعقابه أثر لازم لمخالفة سننه في الأنفس والأفاق، ومخالفة دينه وشرعه الذي يعرج بالأرواح إلى سماء الكمال، والوسيلة إليه هي ما يتوسل به إليه، أي ما يرجى أن يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه، واستحقاق المثوبة في دار الكرامة، ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلا بتعريفه تعالى، وقد تفضل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الراغب : والوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوسيلة، يتضمنها معنى الرغبة... وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة. اه وروي تفسير الوسيلة بالقربة عن حذيفة وصححه الحاكم عنه. ورواه ابن جرير عن عطاء ومجاهد والحسن وعبد الله بن كثير، وروى هو وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية أنه قال : تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وروي عن ابنه زيد تفسيرها بالمحبة قال : أي تحببوا إلى الله، وقرأ ﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ] وعن السدي أنها المسألة والقربة. وروى ابن الأنباري أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الوسيلة فقال الحاجة. قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم أما سمعت عنترة وهو يقول :
إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي ١
ولم يرو ابن جرير هذا، واستدل بالبيت على تفسير الوسيلة بالقربة. وإرادة القربة من البيت أظهر من إرادة الحاجة. على أنه لا ينافيه كما لا ينافي تفسيرها بالمحبة. فإن طلب الحاجة من الله ومحبة الله مما يتقرب به إليه. وتفسير الوسيلة بما فسرناها به أعم، وهو المطابق للغة. قال في لسان العرب : الوسيلة في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به إليه، وذلك بعد أن نفسر الوسيلة بالمنزلة عند الملك وبالقربة. وقال : وسل فلان إلى الله وسيلة، إذا عمل عملا نقرب به إليه. والواسل الراغب، قال لبيد :
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى، كل ذي رأي إلى لله واسل٢
ثم ذكر من معانيها الوصلة والقربى وإنما يؤخذ عن أهل اللغة أصل المعنى ويرجح به بعض التفسير المأثور على بعض. وللوسيلة معنى في الحديث غير معناها هنا.
روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من قال حين يسمع النداء أي الإذن : اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته : حلت له شفاعتي يوم القيامة ) ٣ وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة )٤ وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوسيلة يؤيده قول نقلة اللغة إن من معانيها المنزلة عند الملك. فيظهر أن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنة. فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشفاعة وهي دعاء أيضا. والجزاء من جنس العمل. فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معينة، وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من علم وعمل.
﴿ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ﴾ أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء، وحملها على التزام الحق في جميع الأحوال، وجاهدوا أعداء الإسلام، الذين يقاومون دعوته وهدايته للناس. فالجهاد من الجهد وهو المشقة والتعب، وسبيل الله هي طريق الحق والخير والفضيلة، فكل جهد يحمله الإنسان في الدفاع عن الحق والخير والفضيلة، أو في تقديرها وحمل الناس عليها، فهو في سبيل الله :﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي اتقوا ما يجب تركه، وابتغوا ما يجب فعله. من أسباب مرضاة الله وقربه، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيله، رجاء الفوز والفلاح، والسعادة في المعاش والمعاد.

فصل في التوسل والوسيلة عند عامة المتأخرين


بينا معنى الوسيلة في الآية وما قاله رواة التفسير المأثور عن السلف فيها. ولم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أو عامتهم أن الوسيلة إلى الله تعالى تبتغى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل ومنه الدعاء. إلا كلمة رويت عن الإمام مالك لم تصح عنه بل صح عنه ما ينافيها. وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين والمتقين، أي تسميتهم وسائل إلى الله تعالى، والإقسام على الله بهم، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم وحال البعد عنها. وشاع هذا وكثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم مع الله تعالى، أو يدعونهم من دون الله تعالى. و( الدعاء هو العبادة )٥ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن النعمان بن بشير، والله تعالى يقول :﴿ فلا تدعوا مع الله أحد ﴾ [ الجن : ١٨ ] ويقول :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ﴾ [ الأعراف : ١٩٤ ] ويقول :﴿ والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير. إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم. ولا ينبئك مثل خبير ﴾ [ فاطر : ١٣، ١٤ ] لكن بعض المصنفين زعم أنهم يسمعون، ويستجيبون للداعي، والعوام يأخذون بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى لعموم الجهل، ومن المشتغلين بالعلم من يتأول لهم بأن هذا من التوسل بهم. وقد حقق شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الموضوع بجميع فروعه، فكان ما كتبه في ذلك مصنفا حافلا أطلق عليه اسم ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) وقد طبعناه مرتين، ومما جاء فيه قوله بعد بيان معنى الوسيلة في القرآن والحديث بنحو ما تقدم :
" وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. " وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة : فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني : دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذا قول عمر بن الخطاب : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. أي بدعائه وشفاعته، وقوله تعالى :﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾ أي القربة إليك بطاعته. وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ [ النساء : ٨٠ ] فهذا التوسل الأول هو أصل الدين. وهذا لا ينكره أحد من المسلمين، وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر، فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان والطاعة له فإنه مشروع دائما.
" فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان : أحدها : التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثاني : التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث : التوسل به بمعنى الاقسام على الله بذاته فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عن من ليس قوله حجة، كم سنذكر ذلك إن شاء تعالى.
" وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا : لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة : وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة، قال بشر بن الوليد : حدثنا أبو يوسف قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف : بمعقد العز من عرشه، هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري : المسألة بحقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا.
" وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان : أحدهما : هو موافق لسائر الأئمة الذي يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقا، والصافات صفا. فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوقات فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( من حلف بغير الله فقد أشرك )٦ وقد صححه الترمذي وغيره، وفي لفظ ( فقد كفر ) وقد صححه الحاكم. وقد ثبت عنه في
١ البيت من الكامل، وهو لعنترة بن شداد في ديوانه ص ٢٧٣، والخزز بن لودان السدوسي في لسان العرب (نعم)، وتاج العروس (عتق)، ولعنترة أو الخزز في لسان العرب (عتق)، تاج العروس (نعم)..
٢ البيت من الطويل، وهو للبيد ص ٢٥٦، ولسان العرب(وسل)، وتهذيب اللغة ١٣/٦٧، ومقايس اللغة ٦/١١٠، وأساس البلاغة (وسل)، ومجمل اللغة ٤/٥٢٥، تاج العروس (وسل)..
٣ أخرجه البخاري في الأذان باب ٨، وتفسير سورة ١٧، باب ١١، وأبو داود في الصلاة باب ٣٧، والترمذي في الصلاة باب ٤٣، والنسائي في الأذان باب ٣٨، وابن ماجه في الأذن باب ٤..
٤ أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١١، وأبو داود في الصلاة باب ٣٦، والترمذي في المنافق باب ١، والنسائي في الأذان باب ٣٧، وأحمد في المسند ٢/١٦٨..
٥ أخرجه الترمذي في تفسير، تفسير سورة ٢، باب ١٦، وسورة ٤٠، وابن ماجه في الدعاء باب ١، وأحمد في المسند ٤/٢٦٧، ٢٨١، ٢٧٦..
٦ أخرجه الترمذي في النذور باب ٩، والنسائي في الإيمان باب ٤، وابن ماجة في الكفارات باب ٢، والدارمي في النذور باب ٦، وأحمد في المسند ١/٤٧، ٢/٣٤، ٦٧، ٦٩، ٨٧، ٩٨، ١٢٥، ١٤٢..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ هذا كلام مستأنف يؤكد مضمون ما قبله من كون مدار الفوز والفلاح في الآخرة على تقوى الله والتوسل إليه بالإيمان والعلم الصحيح، وتزكية النفس والعمل الصالح في سبيله، وهو شان المؤمنين الصادقين. فهو يقول إن مدار النجاة والفلاح على ما في نفس الإنسان لا على ما هو خارج عنها كما يتوهم في أمر الفدية. فلو أن للذين كفروا جميع ما في الأرض ومثله معه، وبذلوا ذلك كله دفعة واحدة ليكون الفداء لهم يفتدون به من العذاب الذي يصيبهم يوم القيامة، لا يتقبله الله تعالى منهم ولا ينقذهم به من العذاب لأن سنته تصيبهم يوم القيامة، لا يتقبله الله تعالى منهم ولا ينقذهم به من العذاب، لأن سنته الحكيمة قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من الأشياء التي تكون خارجها ﴿ قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها ﴾ ( الشمس : ٩، ١٠ ) ولهم عذاب شديد الألم قد استحقوه بكفرهم، وما استتبعه من سيئات أعمالهم، اتكالا منهم على الفدية والشفعاء. وهذا فرق جوهري واضح بين الإسلام وغيره من الأديان، فالإسلام دين فطرة، وسنة الله تعالى فيها أن سعادة الإنسان البدنية والنفسية في الدنيا والآخرة من نفسه لا من غيره، فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم ونجاتهم وسعادتهم بكون المسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم، فأكثرهم يضمون إلى المسيح الرسل والقديسين، ويرون أن الله يحل ما يحلونه ويعقد ما يعقدونه، وأنهم شفعاء لهم عنده. وأما المسلمون فيعتقدون أن العمدة في النجاة والفلاح تزكية النفس بالإيمان والفضائل والأعمال الصالحة، فبذلك تصلح نفوسهم وتكون أهلا لرضوان الله تعالى. وأن من دس نفسه في الشرك والفسق. والفساد في الأرض. لا يكون أهلا لمرضاة الله ودار كرامته، فلا يقبل منه فداء ولا تنفعه شفاعة الشافعين.
﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ يريد الذين كفروا أن يخرجوا من النار دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها وما هم بخارجين منها البتة، كما يدل عليه تأكيد النفي بالباء. ثم أكد مضمون ذلك بإثبات العذاب المقيم لهم، والمقيم هو الثابت الذي لا يظعن. والآية استئناف بياني، إذ من شأن من سمع الآية التي قبلها أن تستشرف نفسه بالسؤال عن حال أولئك الكفار الذين لا يتقبل منه فداء مهما جل وعظم، فجاءت هذه الآية بالجواب.
ثم قال تعالى :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٣٨ ) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٩ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٠ ) ﴾
المحاربون المفسدون في الأرض يأكلون أموال الناس بالباطل جهرة، وينتزعونها منهم عنوة، واللصوص يأكلونها كذلك ولكنهم يأخذونها خفية، فلما بين الله تعالى عقاب أولئك، وأمر بالتقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيل الله – وهي الأعمال التي يكمل بها الإيمان، وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام، - بين عقاب هؤلاء أيضا، جمعا بين الوازع النفسي وهو الإيمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال، فقال عز من قائل :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ أي والسارق والسارقة مما يتلى عليكم حكمهما، ويبين لكم حدهما، كما بين لكم حد المفسدين في الأرض مثلهما، فاقطعوا أيديهما، أو التقدير : وكل من السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، كما تقطعون أيدي المحاربين إذا سلبا المال مثلهما. والمراد قطع يد كل منهما، أي إذا سرق الذكر تقطع يده، وإذا سرقت الأنثى تقطع يدها، وإنما جمع اليد ولم يقل يديهما لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية، أي الجمع بين تثنيتين. ومثله قوله تعالى :﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ﴾ ( التحريم : ٤ ) والوصف هنا متضمن لمعنى الشرط فقرن خبره بالفاء على الأظهر.
وقد صرح بأن هذا الحد على الرجال والنساء كما صرح بذلك في حد الزنا لأن كلا من الذنبين يقع من كل منهما، فأراد الله زجر كل منهما بتلاوة القرآن، وإن كانت الأحكام الشرعية مشتركة بينهما عند الإطلاق، وتغليب وصف الذكورة وضمائرها في الكلام، إلا ما خص الشرع الرجال، كالإمامة والقتال. والمتبادر من إطلاق اليد أنها الكف إلى الرسغ، ولهذا قال في آية الوضوء ﴿ وأيديكم إلى المرافق ﴾ [ المائدة : ٦ ] وإنما تقع السرقة بالكف مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملها معها البدن، فيقال إن اليد لا تعمل إلا بهما. ولهذا المعنى- وهو إيقاع العذاب على العضو المباشر للجريمة – قالوا إن اليمنى هي التي تقطع، لأن التناول يكون بها إلا ما شذ.
﴿ جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ ﴾ هذا تعليل للحد، أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيئ، ونكالا وعبرة لغيرهما. فالنكال مأخوذ من النكل وهو ( بالكسر ) قيد الدابة. ؟ ونكل عن الشيء عجز أو امتنع لمانع صرفه عنه. فالنكال هنا ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا. ولعمر الحق أن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم الذل والعار هو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم، لأن الأرواح كثيرا ما تتبع الأموال، إذا قاوم أهلها السرقة عند العلم بهم ﴿ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ فهو غالب على أمره، حكيم في صنعه وفي شرعه، فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة.
وقد اختلف العلماء في القدر الذي يوجب الحد من السرقة، فروي عن الحسن البصري وداود الظاهري أنه يثبت القطع بالقليل والكثير عملا بإطلاق الآية وحديث ( لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده )١ رواه الشيخان من طريق الأعمش عن أبي هريرة، وعليه الخوارج. وذهب جمهور السلف والخلف – ومنهم الخلفاء الأربعة – إلى أن القطع لا يكون إلا في سرقة ربيع دينار ( أي ربع مثقال من الذهب ) أو ثلاثة دراهم من الفضة. والشافعي جعل ربع الدينار هو الأصل في تقديم الأشياء المسروقة لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، وروي عن مالك أن كلا من الذهب والفضة أصل معتبر في نفسه، وفي رواية أخرى – قيل إنها المشهورة عنه – أن التقويم بدراهم الفضة لا ربع الدينار. وقال بعض العلماء : إن العروض تقوّم بما كان غالبا في نقود أهل البلد، فيختلف باختلاف البلاد. والأصل في هذا المذهب وفي هذا الخلاف في التقدير حديث عائشة ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا )٢ رواه الشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه وفي رواية مرفوعا ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا )٣ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. وفي رواية أخرى للنسائي مرفوعا ( لا تقطع اليد فيما دون ثمن المجن )قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قال : ربع دينار٤. ويؤيده حديث ابن عمر في الصحيحين والسنن الثلاث ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم )٥ وفي رواية قيمته ثلاثة دراهم. وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأن الأعمش راويه فسر البيضة ببيضة الحديد التي تلبس للحرب وهي كالمجن ( الترس ) وقد يكون ثمنها أكثر من ثمنه. ومذهب الحنفية أن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم فأكثر ولا قطع في أقل منها. واحتجوا برواية عند البيهقي والطحاوي والنسائي عن ابن عباس وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم. ورجحوها على حديث الصحيحين والسنن بإدخالها في عموم درء الحدود بالشبهات. ولكن في إسنادها محمد بن إسحاق وقد عنعن ولا يحتج بحديثه معنعنا، فكيف يعارض حديث الصحيحين بل الجماعة كلهم ؟ وهنالك مذاهب أخرى كثيرة في قدر النصاب لا نذكرها لضعف أدلتها بل بعضها لا يعرف له دليل.
ووردت أحاديث في أن الثمر المعلق والكثر ( وهو بتحريك جمار النخل ) لا قطع فيها، وأما الثمر بعد إحرازه فكغيره من المال. وقيل لا قطع فيه. واشترط الجمهور في القطع أن يسرق الشيء من حرز مثله فإن لم يكن محرزا محفوظا فلا قطع. وتفصيل ذلك في كتب الحديث وشروحها.
وتثبت السرقة بالإقرار وبالبينة. ويسقط الحد بالعفو عن السرقة قبل رفع أمره إلى الإمام ( الحاكم ). وكذا بعده عند بعض العلماء، وهو مخالف للأحاديث الصريحة. وورد النهي عن إقامة الحد في الغزو. وتفصيل ذلك في محله.
١ أخرجه البخاري فغي الحدود باب ٧، ١٣، ومسلم في الحدود حديث ٧،/ والنسائي في السارق باب ١، وابن ماجه في الحدود باب ٢٢، ، وأحمد في المسند ٢/٢٥٣..
٢ أخرجه البخاري في الحدود باب ١٣، ومسلم في الحدود حديث ١- ٤، وأبو داود في الحدود باب ٣٣، ٣٤، والترمذي في الحدود باب ١٦، والنسائي في قطع السارق باب ٩، ١٠، وابن ماجه في الحدود باب ٢٢، والدارمي في الحدود باب ٤، ومالك في الحدود حديث ٢٤، ٢٥، ٢٧، وأحمد في المسند ٦/ ٣٦، ٨٠، ٨١، ١٠٤، ١٦٤، ٢٤٩، ٢٥٢..
٣ أخرجه مسلم في الحدود حديث ٢ -٥، والنسائي في السارق باب ١٠، وابن ماجه في الحدود باب ٢٢، وأحمد في المسند ٦/١٠٤، ٢٤٩، ٢٥٢..
٤ أخرجه النسائي في السارق باب ٩، ١٠..
٥ أخرجه مسلم في الحدود حديث ٦، وأبو داود في الحدود بال ١٢، والترمذي في الحدود باب ١٦، والنسائي في السارق باب ٨، ١٠، وابن ماجه في الحدود باب ٢٣..
وأما التوبة فقد بين الله تعالى حكمها في قوله ﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فمن تاب من السرقة ورجع عن السرقة وغيرها من المعاصي رجوع ندم وعزم على الاستقامة، من بعد ظلمه لنفسه بامتهانها وسفهها، وللناس بالاعتداء على أموالهم، وأصلح نفسه وزكاها بالصدقة المضادة للسرقة، وبغير ذلك من أعمال البر، فإن الله تعالى يقبل توبته ويرجع إليه بالرضاء والإثابة، ويغفر له ويرحمه، فإن ذلك من مقتضى اسمه الرحيم.
وهل يسقط الحد عن التائب ؟ قال الجمهور : لا يسقط عنه مطلقا. وقال بعض السلف : بل يسقط عنه. وإذا قيست السرقة على الحرابة والإفساد فالقول بسقوط الحد ظاهر، إن تاب قبل رفع أمره إلى الحاكم، ولكن لا يسقط حق المسروق منه، بل لا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق إليه بعينه إن بقي، وإلا دفع قيمته إن قدر. بل لا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق إليه بعينه إن بقي، وإلا دفع قيمته إن قدر. ولا يظهر لنا وجه لما قاله بعض الفقهاء من عدم الجمع بين الحد وغرامة المال المسروق. فإن الحد حق الله تعالى لمصلحة عباده عامة، والمال حق من سرق منه خاصة.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ جعل الله تعالى هذه الآية ذيلا لهذه السياق، بين فيه ما ينبغي أن يحضر القلوب بعض تلك العبر والأحكام، فقال ما حاصل المراد منه : ألم تعلم أيها السامع لهذه الخطاب أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض، يدبر الأمر فيهما بالحكمة والعدل، والرحمة والفضل، فكان من متعلقات اسمه العزيز الحكيم أن وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا من ذكر أو أنثى، كما وضع ذلك العقاب للمحاربين المفسدين، ومن مقتضى اسمه الغفور الرحيم أن يغفر لمن تاب من هؤلاء وهؤلاء ويرحمه، إذا صدق في توبته وأصلح عمله، فهو بمقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، يعذب من يشاء تعذيبه من الجناة تربية له، وتأمينا لعباده من شره، ويرحم من يشاء من التائبين والمصلحين برحمته وفضله، ترغيبا لعبادة في تزكية أنفسهم، وإصلاح ذات بينهم، وهو على كل شيء من التعذيب والرحمة قدير، لا يعجزه شيء في تدبير ملكه.
يجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن أو يقرؤه. ويجوز أن يكون موجها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستفهام فيه للتقدير، إي أنك تعلم هذا فتذكره وذكر به. وجعله ابن جرير لأهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وجوارها ومن على شاكلتهم، الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه، لأن السياق الذي انتهى ببيان حد السرقة كان محاجتهم، ومنها إبطال دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه بأنهم بشر من جملة خلقه، وأنه هو رب العباد ومالكهم المتصرف بأمرهم بالعدل والحكمة، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء كما تقدم، فكأن ابن جرير يرى أن ما ذكر من وضع الله الحدود والعقوبات في الدنيا، وبيان ما أعده من الخزي والعذاب للعصاة في الآخرة، ينتظم في سلك الدلائل على إبطال دعوى قولهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وإثبات أنهم بشر من جملة خلقه يعذب من يشاء منهم بالشرع والفعل كما يعذب غيرهم، كما يرحم من يشاء. وتشهد بذلك شريعتهم ذات العقوبات القاسية، وما وقع عليهم أفرادا وجميعا من عذاب الدنيا بالحرب والسبي والأمراض.
وقد تقدم هنا ذكر العذاب على ذكر الرحمة خلافا لما تكرر في القرآن حتى في مثل هذا التركيب من تقديم الرحمة أو المغفرة على العذاب، ومنه الآية التي رد الله فيها على أهل الكتاب زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، إذ قال ﴿ بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ [ المائدة : ١٨ ]. وحكمة هذا التقديم ترتيب الآية على ما قبلها من بيان عقاب السارق أولا وذكر توبته ثانيا، فهي لا تنفي كون الرحمة المطلقة سابقة ومقدمة على العذاب المطلق.
واستدل الرازي وأمثاله بالآية على مذهب الأشاعرة القائلين بأنه يحسن من الله تعالى أن يعذب التائبين المصلحين، والنبيين والصديقين، ولو بتخليدهم في النار، ويرحم المفسدين والظالمين، ولو بتخليدهم في الجنة. ووجه الدلالة عندهم أنه تعالى ناط التعذيب والرحمة بالمشيئة ورتبه على كونه مالك الملك، والمالك يتصرف في ملكه كما يشاء. وما حسَّنَ لهم هذا القولَ واستنباطَ مثل هذا الدليل له إلا توجهُ ذكائهم وفهمهم إلى الرد على من نقلوا عنهم من المعتزلة أنه يجب عليه تعالى أن يفعل ما هو الأصلح لعباده. فإن كان قد قال هذا القول بنصه أحد فهو مخطئ وقليل الأدب، لأنه يوهم أن هنالك سلطانا فوق سلطان الله سبحانه يوجب عليه، وإن كان لا يريد ذلك. ولكن الأشاعرة لا يستطيعون أن ينكروا وأن يتأولوا ما ثبت في الكتاب والسنة من الله تعالى يوجب على نفسه ما يشاء، فلا يكون ذلك نافيا لكونه صاحب الملك والتدبير، ولا لتقييد مشيئته بسلطة سواه. ولا هم ينكرون أن مشيئته لا تكون إلا على حسب علمه وحكمته، وأنه لا يمكن أن تكون معطلة لصفة من صفاته. فإذاً لا وجه للقول بأن مقتضى الملك أن يكون كل عمل يعمله المالك حسنا من حيث إنه المالك، إذ الأمر في الشرع والعقل والعرف ليس كذلك، فالذي يملك عدة عبيد فيظلم المحسن منهم بالضرب والإهانة بغير ذنب منه، ويحسن إلى الفاسق المسيء المفسد في داره وملكه، يعد ظالما مذموما شرعا وعقلا ولغة وعرفا. وأما كون كل ما يفعله الله تعالى فهو حق وحسن فليس سببه أنه المالك وكون المالك يحسن منه كل تصرف في ملكه من حيث إنه المالك، بل لأنه تعالى منزه عن الظلم والنقص، متصف بالحكمة والعدل، والرحمة والفضل، فتقديسه وتنزيهه وكماله يتجلى في أسمائه الحسنى كلها لا في اسم الملك والمالك والمريد فحسب.
وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم من وضع أسماء الله تعالى في الآيات بحسب المناسبة ما لا يفهمه أمثال الرازي على إمامته في العلوم والفنون العربية، واطلاعه على ما نقل عنهم في هذا الباب. ومن ذلك ما نقله عن الأصمعي في تفسير آية السرقة قال ( قال الأصمعي : كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي فقرأت هذه الآية فقلت ( والله غفور رحيم ) سهوا. فقال الأعرابي : كلام من هذا ؟ فقلت كلام الله. قال : أعد. فأعدت ( والله غفور رحيم ) ثم تنبهت فقلت ( والله عزيز حكيم ) فقال : الآن أصبت. فقلت : كيف عرفت ؟ قال : يا هذا ( عزيز حكيم ) فأمر بالقطع. فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ) اه. فقد فهم الأعرابي الأمي أن مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة، وأن الله تعالى يضع موضعه من كتابه، ليدل على متعلقه في خلقه. ولم يتأمل الرازي في كلام الأعرابي من هذا الوجه، بل من بلاغه المناسبات فقط. وسبحان من لا يغفل ويذهل، ولا يضل وينسى.
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٤١ ) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٤٢ ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٣ ) ﴾.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا : تسخم وجوههم ويخزيان، قال : كذبتم إن فيها الرجم ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم – وفي رواية أحمد زيادة : أعور يقال له ابن صوريا – فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له : ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح ( أي آية الرجم ). فقال : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما. فلقد رأيته يجنأ عليها ( أي ينحني ) يقيها الحجارة بنفسه١ ولفظ مسلم٢ : نسود وجوههما ( وهو بمعنى التسخيم هنا والتحميم في رواية أخرى، فالأول من السخام وهو سواد القدر، والثاني من الحمة وهي ( الفحمة ) ونحملهما ونخالف بين وجوههما، أي نركبهما ونجعل وجوههما إلى مؤخر الدابة – وهو المراد من الخزي أي الفضيحة. وفيها أن الذي أمر القارئ أن يرفع يده هو عبد الله بن سلام.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وأبي حاتم وغيرهم عن البراء بن عازب. قال : مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم ؟ قالوا : نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : اللهم لا. ولولا إنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا الحد، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( اللهم أني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) وأمر به فرجم، فأنزل الله ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ﴾ - إلى قوله – ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ ﴾٣ يقول : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروه. فأنزل الله عز وجل ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] - ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] – ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] قال هي في الكفار كلها.
هذا أصح ما ورد في سبب نزول الآيات. وهاك تفسيرها :
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ الخطاب بوصف الرسول تشريفا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد إلا في هذا الموضع وفي موضع آخر من هذه السورة وسيأتي. ومثله ( يا أيها النبي ) وورد في بضع سور. وفي التشريف والتكريم تعليم وتأديب للمؤمنين، يتضمن النهي عن مخاطبته باسمه، والأمر بأن يخاطبوه بوصفه، وكذلك كان يدعوه أصحابه : يا رسول الله. وجهل هذا الأدب بعض الأعراب لما كانوا عليه من سذاجة البادية وخشونتها، فكانوا ينادونه باسمه ( يا محمد ) حتى أنزل الله تعالى :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ [ النور : ٦٣ ] فلم يعد إلى دعائه باسمه أحد. ولكن المفسرين يغفلون عن هذا فيكرر كثير منهم ( يا محمد ) عند تفسيرهم لخطاب الله لرسوله بمثل ﴿ إنا أعطيناك الكوثر ﴾ [ الكوثر : ١ ] وما أشبهه من الخطاب، وأخذه عنهم قراء التفسير فيكادون يقولونه في تفسير كل خطاب، وإن لم يذكر النداء في الكتاب.
والحزن ضد السرور وهو ضرب من آلام النفس يجده الإنسان عند فوت ما يحب ويستعمل الفعل الثلاثي منه متعديا كحزن فلان على ولده، ومتعديا بنفسه كحزنه الأمر وهذه لغة قريش. وتميم تعديه بالهمزة فتقول أحزنه موت ولده. والحزن مذموم طبعا مهما كان سببه، ولهذا نهى الله تعالى عنه في هذه الآية وفي آيات أخرى، وجعل التجرد منه ومن مقابله وهو فرح البطر والخفة بالأشياء المحبوبة غاية لكمال الإيمان في قوله ﴿ لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ [ الحديد : ٢٣ ] وأما الفرح والسرور بالحق والفضل دون أعراض الدنيا لذاتها فهو محمود ﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ﴾ [ يونس : ٥٨ ] كما أن حزن الرحمة والرأفة عند موت الولد وغيره سن الصفات الفطرية الشريفة لا ما تكلفه المرء من لوازمه.
فإن قيل : إن الحزن ألم طبيعي يعرض للإنسان عند فوت ما يحبه وليس أمرا اختياريا فكيف نهى الله تعالى عنه ؟ قلنا : إن النهي عن الحزن يراد به النهي عن لوازمه التي يفعلها كثير من الناس مختارين فتكون محركة لذلك الألم ومجددة له ومبعدة أمد السلوى. والأمر بضدها من تكلف الأعمال التي تشغل النفس وتصرفها عن التذكر والتفكر فيما حزنت لأجله احتسابا ورضاء من الله تعالى، وهذه الأفعال تكون بدنية نفسية وتكون نفسية فقط أو بدنية فقط. وفسروه هنا بقولهم أي لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون في الكفر أي في إظهاره بالتحيز إلى أعداء المؤمنين من أهله، عند ما تسنح لهم الفرصة، ويجدون قوة يعتصمون بها من التبعة. فإن الله يكيفك شرهم، وينصرك عليهم وعلى من يتشيعون لهم. وللناس في المصائب عادات رديئة، وأعمال سخيفة ضارة، تدل على ضعف البشر، والسخط على القدر، ومعظم العقلاء والحكماء يذمونه وينهون عنه كما نهى عند الدين، وقد قلت في مرثية نظمتها في أيام طلب العلم، ناهيا ذاما ما اعتيد من شعائر الحزن :
أطبيعة ذا الحزن ليس يشذ عن ناموسه فرد من الأفراد
أم ذاك مما أودعته شرائع ال أديان من هدي لنا ورشاد
أم ذلك العقل السليم قضى على كل الشعوب بهذه الأصفاد
كلا، فليس الأمر ضربة لازب لكنه ضرب من المعتاد
فاخلع جلابيب العوائد إن تكن ***ليست بحكم العقل ذات سداد
يقال سارع إلى الشيء ﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ] وسارع في شيء ﴿ أولئك يسارعون في الخيرات ﴾ [ المؤمنون : ٩٠ ] فالمسارع إلى الشيء هو الذي يسرع إليه من خارجه لأجل أن يصل إليه والمسارع في الشيء هو الذي يسرع في أعماله وهو داخل فيه. وهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية لم يكونوا مؤمنين فيكون ما عملوا من أعمال الكفار انتقالا بسرعة من الإيمان إلى الكفر، بل كانوا داخلين في ظرف الكفر محيطا بهم سرادقه، وإنما انتقلوا سراعا من حيز الإخفاء له والكتمان، إلى حيز المصارحة والإعلان، كالذي ينتقل في البيت من مكان إلى مكان.
وقد بين الله حقيقة حالهم هذه بقوله ﴿ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ اختلف القراء والمفسرون في الوقف هنا : هل يتم عند قوله تعالى ( قلوبهم ) أم قوله ( هادوا ) ؟ أما تقدير الكلام على الأول فهو : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين الذي ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم. وما بعده جمله مستقلة تقديرها : ومن الذين هادوا ( أي اليهود ) قوم سماعون للكذب الخ. وأما التقدير على الثاني فهو : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود. وقوله تعالى :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ جملة مستأنفة حذف منها المبتدأ. أي هم سماعون للكذب الخ والأول أظهر. وقد قال بعض المفسرين : إن المراد بالمنافقين هنا منافقو اليهود، فيكون الكلام هنا في أولئك اليهود عامة – الذين أظهروا الإسلام نفاقا والذين ظلوا على دينهم، ويدخل في عموم الأول المنافقون من غير اليهود على قاعدة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. واختلف في قوله ( سماعون للكذب ) هل هو وصف للفريقين أم لأحدهما ؟ أي بناء على أن قوله : سماعون الخ جملة مستأنفة.
واللام في قوله ( للكذب ) فيها وجهان أحدهما : أنها للتقوية والمعنى أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول أو يقبلونه. والمراد بالكذاب ما يقوله رؤساؤهم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي أحكام الدين التي يتلاعبون فيها بأهوائهم وثانيا : أنها للتعليل. والمعنى أنهم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات، فهم عيون وجواسيس بين المسلمين يبلغون رؤساءهم وسائر أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه. لأجل أن يكون ما يفترون عليه من الكذب مقبولا، لأنه مبني على وقائع ومسائل واقعة يزيدون في روايتها وينقصون، ويحرفون منها ما يحرفون، ومن يكذب عليك وهو لا يعرف من أمرك شيئا لا يستطيع أن يجعل كذبه مرجو القبول كمن يعرف، بل يظهر اختلافه لأول وهلة. ولهذا نرى الذين يفترون على الإسلام في هذا الزمان يقرأون بعض كتب المسلمين ليبنوا أكاذيبهم على مسائل معروفة يحرفون الكلم فيها عن مواضعه كما سيأتي في وصف هؤلاء، كالذي افتروه في قصة زيد وزينب وفي غيرها من الوقائع والأخبار. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى :﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ أي لأجل قوم آخرين من رؤسائهم وذوي الكيد فيهم – أومن أعدائك مطلقا – لم يأتوك ليسمعوا منك بآذانهم إما كبرا وتمردا وإما خوفا على أنفسهم لأنهم معلنون للعداوة.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله :﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ قال يهود المدينة ( سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) قال يهود فدك ( يحرفون الكلم ) قال يهود فدك، يقولون ليهود المدينة ( إن أوتيتم هذا ) الجلد ( فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروه ) الرجم.
وأما قوله تعالى :﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ فمعناه يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه في مواضعه، وإما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو الزيادة فيه والنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له ﴿ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ﴾ أي يقولون لمن أرسلهم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما : إن أعطيتم من قبل محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوه وارضوا به، وإن لم تعطوه بأن حكم بأنهما يرجمان فاحذروا قبول ذلك والرضا به. وقد تقدم أنهم جاءوه فسألهم عن حد الزناة في التوراة ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم. فاعترفوا بصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر كذبهم وعبثهم بكتاب شريعتهم. والإيتاء والإعطاء يستعمل في المعاني كغيرها.
قال الله تعالى في بيان حال هؤلاء العابثين بدينهم وفي أمثاله ﴿ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا ﴾ أي ومن تعلقت إرادة الله تعالى بأن يختبر في دينه فيظهر الاختبار كغيره وضلاله، كما يفتن الذهب بالنار فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل، فلن تملك أيها الرسول له من شيئا من الهداية والرشد، كما أنك لا تستطيع أن تحول النحاس إل الذهب. لأن سنة الله تعالى لا تتبدل في معادن الناس ولا في معادن الأرض فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم درجة فسادهم، وعملت أنهم يقبلون الكذب دون الحق، وأن إظهار بعضهم للإيمان ورؤيتهم لحسن حال المؤمنين وصلاحهم لم تؤثر في أنفسهم، ورأيت كيف طوعت للآخرين أنفسهم التحريف والكتمان لأحكام كتابهم، اتباعا لأهوائهم، ومرضاة لأغنيائهم، فلا تحزنك بعد هذا مسارعتهم في الكفر، ولا تطمع في جذبهم إلى الإيمان فإنك لا تملك لأحد هداية ولا نفعا وإنما عليك البلاغ والبيان، ( راجع تفسير ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ [ آل عمران : ١٢٨ ] ولا تخف عاقبة المتقيين من أهل الإيمان، ولهم الخزي والهوان. ولذلك قال :
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ أي أولئك الذين بلغت منهم الفتنة هذا الحد الذين هم الذين لم تتعلق إرادة الله تعالى بتطهير قلوبهم من الكفر والنفاق، لأن إرادة تعالى إنما تتعلق بما اقتضته حكمته البالغة، وسننه العادلة، ومن سننه في قلوب البشر وأنفسهم أنها إذا جرت على الباطل والشر، ونشأت على الكيد والمكر، واعتادت اتخاذ دينها، شبكة لشهواتها وأهوائها، ومردت على الكذب والنفاق، وألفت عصبية الخلاف والشقاق، وصار ذلك من ملكاتها الثابتة، وأخلاقها الموروثة الثابتة، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها، حتى لا يبقى لنور الحق منفذ ينفذ منه إليها. فتفقد قابلية الاستدلال والاستبصار، والاستعداد للنظر والاعتبار، التي جعلها الله من أسباب الاتعاظ والاهتداء، بحسب سنته الحكيمة في توفيق الأقدار للأقدار، وهؤلاء الزعماء وأعوانهم من اليهود قد صبوا في قوالب تلك الصفات الرديئة صبا، فلا تقبل طبائعهم سواها قطعا. فهذا سبب عدم تعلق إرادة الله تعالى بأن يطهر قلوبهم مما طبع عليها، لأن إرادته تطهير قلوبهم وهم متصفون بما ذكرنا إبطال للقدر، وتبديل لما اقتضته الحكمة من السنن، وكان أمر الله قدرا مقدورا، لا أمر أنفا، ولن تجد لسننه تبديلا.
ثم بين تعالى عاقبة هؤلاء المخذولين وجزاءهم فقال :﴿ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ فأما العذاب في الآخرة فأمره معلوم، وكنهه مجهول. وأما خزي الدنيا فهو ما يلحقهم من الذل والفضيحة وهوان الخيبة، عند ما ينكشف نفاقهم، ويظهر للناس كذبهم، ويعلو الحق على باطلهم. وقد صدق وعيد الله تعالى بهذا الخزي على يهود الحجاز كلهم، كما يصدق في كل زمان على من يفسد
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٤١ ) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٤٢ ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٣ ) ﴾.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا : تسخم وجوههم ويخزيان، قال : كذبتم إن فيها الرجم ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم – وفي رواية أحمد زيادة : أعور يقال له ابن صوريا – فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له : ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح ( أي آية الرجم ). فقال : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما. فلقد رأيته يجنأ عليها ( أي ينحني ) يقيها الحجارة بنفسه١ ولفظ مسلم٢ : نسود وجوههما ( وهو بمعنى التسخيم هنا والتحميم في رواية أخرى، فالأول من السخام وهو سواد القدر، والثاني من الحمة وهي ( الفحمة ) ونحملهما ونخالف بين وجوههما، أي نركبهما ونجعل وجوههما إلى مؤخر الدابة – وهو المراد من الخزي أي الفضيحة. وفيها أن الذي أمر القارئ أن يرفع يده هو عبد الله بن سلام.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وأبي حاتم وغيرهم عن البراء بن عازب. قال : مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم ؟ قالوا : نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : اللهم لا. ولولا إنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا الحد، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( اللهم أني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) وأمر به فرجم، فأنزل الله ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ﴾ - إلى قوله – ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ ﴾٣ يقول : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروه. فأنزل الله عز وجل ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] - ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] – ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] قال هي في الكفار كلها.
هذا أصح ما ورد في سبب نزول الآيات. وهاك تفسيرها :
ثم قال في وصفهم ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ أعاد وصفهم بكثرة سماع الكذب لتأكيد ما قبله، والتمهيد لما بعده – كما قالوا- : والإعادة للتأكيد وتقرير المعنى، وإفادة اهتمام المتكلم به، مما ينبعث عن الغريزة، ويعرف التأثير والتأثر به من الطبيعة، ولعله عام في جميع لغات البشر. وإذا قلنا إن اللام في الآية الأولى للتعليل، وفي هذه الآية للتقوية، ينتفي التكرار، إذ المعنى هناك : يسمعون كلام الرسول والمؤمنين لأجل أن يجدوا مجالا للكذب ينفرون الناس به من الإسلام، والمعنى هنا أنهم يسمع بعضهم الكذب من بعض سماع قبول، فهم يكذب بعضهم على بعض كما يكذبون على غيرهم، ويقبل بعضهم الكذب من بعض. فأمرهم كله مبني على الكذب، الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد. وهكذا شأن الأمم الذليلة المهينة، تلوذ بالكذب في كل أمر، وترى أنها تدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر.
وكذلك يفشو فيها أكل السحت، لأنها تعيش بالمحاباة، وتألف الدناءة وتؤثر الباطل على الحق. فسر ابن مسعود السحت بالرشوة في الدين، وابن عباس بالرشوة في الحكم، وعلي بالرشوة مطلقا، قيل له : الرشوة في الحكم ؟ قال : ذلك الكفر. وقال عمر : بابان من السحت يأكلهما الناس – الرشا في الحكم ومهر الزانية. فأفاد أن السحت أعم من الرشوة ومن فسره بالرشوة المطلقة أو المقيدة فقد أراد به أنه المراد من الآية باعتبار نزولها في أحبار اليهود ورؤسائهم لا المعنى اللغوي العام. وقيل : السحت الحرام مطلقا، أو الربا، أو الحرام الذي فيه عار ودناءة كالرشوة. واختلف علماء العربية في معناه الأصلي الذي اختير هذا اللفظ لأجله. فقال الزجاج هو من سحته وأسحته بمعنى استأصله بالهلاك، ومنه قوله تعالى :﴿ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ﴾ [ طه : ٦١ ] فعلى هذا يكون المراد بالسحت ما يسحت الدين والشرف لقبحه وضرره، أو لسوء عاقبته وأثره. وقال الفراء : أصل السحت شدة الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يكاد يرى إلا جائعا. وعلى هذا يكون المراد به الحرام أو الكسب الدنيء الذي يحمل عليه الشره.
قرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة السحت بضم السين وفتح الحاء والباقون بضمهما معا. السحت والسحت كل حرام قبيح الذكر، وقيل ما خبث من المكاسب وحرم فلزم عنه العار وقبيح الذكر، كثمن الكلب والخمر والخنزير. وسحت الشيء يسحته ( كفتح يفتح ) قشره قليلا، وسحت الشحم عن اللحم قشرته عنه مثل سخفته... وقال اللحياني سحت رأسه سحتا وأسحته استأصله حلقا. وأسحت ماله استأصله وأفسده. – إلى أن قال – والسحت ( بالفتح ) شدة الأكل والشرب، ورجل سحت ( بالضم ) وسحيت ومسحوت : رغيب واسع الجوف لا يشبع. اه المراد من اللسان. فعلم منه أن أصل معنى السحت إزالة القشر عن العود بالتدريج وما في معناه كحلق الشعر، ومن العرب من لا يقول : اسحت الشيء. إلا إذا استأصله بالقشر. ويمكن إرجاع معنى عدم الشبع إلى هذا المعنى كأن المعدة لسرعة هضمها تستأصل الطعام. وسمي الكسب الخسيس والحرام سحتا لأنه يستأصل المروءة أو الدين، والرشوة تستأصل الثروة، وتفسد أم المعاملة، وتستبدل الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم في عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من الرشوة وغيرها من الخسائس، كدأب سائر الأمم في عهد فسادها وانحطاطها، وقد صارت حالهم الآن أحسن من حال كثير من الذين يعيبونهم بما كان من سلفهم.
ومن عجائب غفلة البشر عن أنفسهم أن يعيبك أحدهم بنقيصة ينسبها إلى أحد أجدادك الغابرين، على علم منه بأنك عار عنها، أو متصف بالمحمدة التي هي ضدها، وهو متصف بنقيصة جدك التي يعيبك بها ! فإن كثيرا ممن يعدهم المسلمون من أحبارهم ورؤساء الدين فيهم، وكثيرا من حكامهم الشرعيين والسياسيين يكذبون كثيرا ويقبلون الكذب ويأكلون السحت، حتى أنهم يأخذون الرشوة من طلبة العلم ليشهدوا لهم زورا بأنهم صاروا من العلماء الأعلام، ويعطونهم ما يسمونه ( شهادة العلمية ) كما يمنحهم حكامهم الرتب العلمية. وقد تجرأ بعض طلبة الأزهر مرة على شيخنا الأستاذ الإمام فعرض عليه ثلاثين جنيها ليساعده في امتحان شهادة العالمية لعلمه بأنه غير مستعد للامتحان ولا أهل للشهادة، فلم يملك الأستاذ نفسه من الانفعال أن ضربه ضربا موجعا، وقال : أتطلب في هذه السن أن أغش المسلمين بك لتفسد عليهم دينهم بجهلك، بهذه الجنيهات الحقيرة في نظري العظيمة في نظرك، وأنا الذي لم أتدنس في عمري حتى ولا بقبول الهدية ممن أنقذتهم من الموت ؟. ولو كنت ممن يتساهل في هذا لكنت من أوسع الناس ثروة. أو ما هذا مؤداه.
﴿ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم. وقد اختلف العلماء في هذا التخيير : أهو خاص بتلك الواقعة التي نزلت فيها الآية، وهي حد الزنا هل هو الجلد أو الرجم، أو دية القتيل، إذ كان بنو النضير يأخذون دية كاملة على قتلاهم لقوتهم وشرفهم، وبنو قريظة يأخذون نصف الدية لضعفهم، وقد تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل الدية سواء أم هوة خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة وغيرهم، إذ كان أولئك اليهود معاهدين، أم الآية عامة في جميع القضايا من جميع الكفار، عملا بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ المرجح المختار من الأقوال في الآية أن التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة. وعلى هذا لا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم في بلادهم وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون، يرجحون في كل وقت ما يرون فيه مصلحة. وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا. وليس في الآية نسخ كما قال بعض من زعم أنها عامة في جميع الكفار، وقد نسخ من عمومها التخيير في الحكم بين الذميين. قال بعضهم إن التخيير منسوخ بقوله تعالى في هذا السياق ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ ﴾ [ المائدة : ٤٩ ] ونقول لا يعقل أن تنزل آيات في سياق واحد كما هو ظاهر في هذه الآيات فيكون بعضها ناسخا لبعض. وإنما تلك الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله من القسط. وسيأتي بيان ذلك.
﴿ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ﴾ أي وإن اخترت الإعراض عنهم، فأعرضت ولم تحكم بينهم، فلن يستطيعوا أن يضروك شيئا من الضر، وإن ساءتهم الخيبة، وفاتهم ما يرجون من خفة الحكم وسهولته. ولعل هذا تعليل للتخيير. ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ أي وإن اخترت الحكم فاحكم بينهم بالقسط أي العدل لا بما يبغون. وقد شرحنا معناه اللغوي وبينا ما عظم الله من أمره في القيام به والشهادة به في تفسير الآية ١٣٤ من سورة النساء ج٥ تفسير ) والآية التاسعة من هذه السورة. والمقسطون هم المقيمون للقسط بالحكم به أو الشهادة أو غير ذلك. وفصلنا القول في الحكم بالعدل في تفسير ﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ [ النساء : ٥٨ ] فيراجع في المنار أو ( ص ١٧٤-١٧٥ من ج ٥ تفسير ).
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٤١ ) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٤٢ ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٣ ) ﴾.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا : تسخم وجوههم ويخزيان، قال : كذبتم إن فيها الرجم ( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم – وفي رواية أحمد زيادة : أعور يقال له ابن صوريا – فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له : ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح ( أي آية الرجم ). فقال : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما. فلقد رأيته يجنأ عليها ( أي ينحني ) يقيها الحجارة بنفسه١ ولفظ مسلم٢ : نسود وجوههما ( وهو بمعنى التسخيم هنا والتحميم في رواية أخرى، فالأول من السخام وهو سواد القدر، والثاني من الحمة وهي ( الفحمة ) ونحملهما ونخالف بين وجوههما، أي نركبهما ونجعل وجوههما إلى مؤخر الدابة – وهو المراد من الخزي أي الفضيحة. وفيها أن الذي أمر القارئ أن يرفع يده هو عبد الله بن سلام.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وأبي حاتم وغيرهم عن البراء بن عازب. قال : مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم ؟ قالوا : نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : اللهم لا. ولولا إنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا الحد، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( اللهم أني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) وأمر به فرجم، فأنزل الله ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ﴾ - إلى قوله – ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ ﴾٣ يقول : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروه. فأنزل الله عز وجل ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] - ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] – ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] قال هي في الكفار كلها.
هذا أصح ما ورد في سبب نزول الآيات. وهاك تفسيرها :
﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ هذا تعجيب من الله لنبيه ببيان حال من أغرب أحوال هؤلاء القوم. وهو أنهم أصحاب شريعة يرغبون عنها ويتحاكمون إلى نبي جاء بشريعة أخرى وهم لم يؤمنوا به. أي وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين أو قضية الدية والحال أن عندهم التوراة التي هي شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته لها ؟ أي إذا فكرت في هذا رأيته من عجيب أمرهم، وسببه أنهم ليسوا بالمؤمنين إيمانا صحيحا بالتوراة ولا بك، وإنما هم ممن جاء فيهم ﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] فإن المؤمن الصادق بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك باختلاف أحوال عباده. وهؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها واتباعها لأنه لم يوافق هواهم. وجاءوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق هواهم، ثم يتولون ويعرضون عنه إذا لم يوافق هواهم. فما هم بالمؤمنين بالتوراة ولا بك، ولا بمن أنزل على موسى التوراة وأنزل عليك القرآن، وقد يقولون إنهم مؤمنون وقد يظنون أيضا أنهم مؤمنون، غافلين عن كون الإيمان يقينا في القلب، يتبعه الإذعان بالفعل، ويترجم عنه اللسان بالقول. ولكن اللسان قد يكذب عن علم وعن جهل، فمن أيقن أذعن، ومن أذعن عمل، لأن الإيمان الإذعاني هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة، والإرادة هي المصرفة للجوارح في الأعمال.
أما حكم الرجم في التوراة التي بين أيدينا فهو خاص ببعض الزناة. قال في الفصل ٢٢ سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها :( ٢٢ إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة، فتنزع الشر من إسرائيل ٢٣ إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا – الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فتنزع الشر من وسطك ) ثم ذكر أحكاما أخرى في الزنا، منها قتل أحد الزانيين ومنها دفع غرامة والتزوج بالمزني بها.
ومما يجب التنبيه له هنا أن دعاة النصرانية يحتجون بهذه الآية وما في معناها على كون التوراة التي في أيديهم وأيدي اليهود هي ما أنزله تعالى على موسى لم يعرض لها تغيير ولا تحريف. وذلك أنهم كأولئك اليهود الذين يأخذون من القرآن ما يوافق أهواءهم ويردون ما يخالفها جدلا. والمؤمنون يؤمنون بالكتاب كله، فالكتاب بين لنا أن عندهم التوراة أي الشريعة، وأن فيها حكم الله في القضية التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صدق الله تعالى وهو أصدق القائلين. وبين لنا أيضا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ومن بعد مواضعه وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به وإنما أوتوا نصيبا من الكتاب إذ نسوا نصيبا آخر وأضاعوه. وقد صدق الله تعالى في ذلك أيضا. ولما خرجت أمة القرآن من الأمية وعرفوا تاريخ أهل الكتاب وغيرهم كالبابليين ظهر لهم أن إخبار القرآن بذلك كان من معجزاته الدالة على أنه من عند الله، إذ ظهر لهم أن اليهود قد فقدوا التوراة التي كتبها موسى ثم لم يجدوها، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ممزوجا بما ليس منها، والتوراة التي في أيديهم تثبت ذلك، كما بيناه في غير هذا الموضع. ومنه تفسير أول سورة آل عمران وتفسير الآية ١٤ و١٥ من هذه السورة.
هذه الآيات من سياق التي قبلها والتي بعدها، والغرض منها بيان كون التوراة كانت هداية لبني إسرائيل فأعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد، وبيان مثل ذلك في الإنجيل وأهله، ثم الانتقال من ذلك إلى ما سيأتي من ذكر القرآن ومزيته وحكمة ذلك. ومنه يعلم أن العبرة بالاهتداء بالدين وأنه لا ينفع أهل الانتماء إليه إذا لم يقيموه، إذ لا يستفيدون من هدايته ونوره، بإقامته والعمل به. وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هداية دينهم، هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
قال تعالى :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ أي إنا نحن أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى في العقائد والأحكام خرج به بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم، وعلى نور أبصروا به طريق الاستقلال في أمر دينهم ودنياهم ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ أنزلناها قانونا للأحكام يحكم بها النبيون – موسى ومن بعده من أنبياء بني إسرائيل – طائفة من الزمان انتهت ببعثه عيسى ابن مريم عليه السلام. وهم الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين على ملة إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فالإسلام دين الجميع، وكل ما استحدثه اليهود والنصارى من أسباب التفرق في الدين، فهو باطل وضلال مبين. وإنما يحكمون للذين هادوا أي اليهود خاصة، لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة، ولذلك قال آخرهم عيسى : لم أرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة. ولم يكن لداود وسليمان وعيسى من دونها شريعة.
﴿ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ﴾ أي ويحكم بها الربانيون والأحبار في الأزمنة أو الأمكنة التي لم يكن فيها أنبياء أو معهم بإذنهم. والربانيون هم المنسوبون إلى الرب، إما بمعنى الخالق المدبر لأمر الملك، لأنهم يعنون بالعلم الإلهي والتهذيب والروحاني، وإما بمعنى مصدر ربه يربه أي رباه، لأنهم يربون أنفسهم ثم غيرهم بالعلم والعرفان وأحاسن الآداب والأخلاق وهم كبار كهنتهم من اللاويين الصالحين. يروى عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه قال : أنا رباني هذه الأمة. وقد سبق بيان معنى الكلمة في تفسير آل عمران.
والأحبار جمع حبر ( بفتح الحاء كسرها ) وهو العالم. ومادة حبر في اللغة تدل على الجمال والزينة التي تسر الناس، وشعر محبر مزين بنكت البلاغة والفصاحة. ثوب محبر : مزين بالنقوش أو الوشي الجميل. ومنه برد حبر ( بالكسر ) وحبير، وهو ثوب ذو خطوط بيض وسود أو حمر. فيحتمل أن يكون إطلاق لفظ الحبر على العالم مأخوذا من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون من الحبر الذي يكتب به. وقال الراغب الحبر ( بالكسر ) الأثر المستحسن. ثم قال والحبر العالم وجمعه أحبار، لما يبقى من آثر علومهم. اه.
وأطلق لقب حبر الأمة في الإسلام ابن عباس رضي الله عنهما، كما أطلق لفظ الرباني على المرتضى عليه الرضوان. والذي يسبق إلى فهمي عند ذكر الربانيين والأحبار، أن الربانيين عند بني إسرائيل كالأولياء العارفين عندنا، والأحبار عندهم كعلماء الظاهر عندنا. وقال ابن جرير الربانيون جمع رباني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم. وأما الأحبار فإنهم جمع حبر وهو العالم المحكم للشيء. وما قلناه أظهر، وهو إلى اللغة أقرب. والتوراة مؤنثة اللفظ ومعناها الشريعة.
وأما قوله تعالى :﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ ﴾ فمعناه أنهم يحكمون بها بسبب ما أودعوه من الكتاب وائتمنوا عليه وطلب منهم حفظه. أي طلب منهم الأنبياء موسى ومن بعده أي يحفظوه ولا يضيعوا منه شيئا. وناهيك بالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخ بني إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يتحولوا عنها. وقد تقدم في تفسير الميثاق من أواخر سورة النساء وأوائل هذه السورة، وأنهم نقضوا ميثاق الله ولم يوفوا به، وقد قال الله فيهم أنهم استحفظوا، ولم يقل أنهم حفظوا، ولكنه قال :﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ﴾ أي كان سلفهم الصالحون رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به، كما فعل عبد الله بن سلام في مسألة الرجم، أو شهداء على أنه هو شرع الله تعالى، لا كما فعل خلفهم من كتمان بعض أحكامه اتباعا للهوى، أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده، وطمعا في برهم إذا حابوها فيها. وأعظم من ذلك كتمانهم صفة خاتم المرسلين والبشارة به، وروي عن ابن عباس أن المراد : وكانوا على حكم النبي الموافق لحكم التوراة في حد الزنا شهداء. ولعله أراد – إن صحت الرواية عنه – أن هذا مما يدخل في عموم صفات أحبار اليهود الصالحين. تعريضا بجمهور الخلف الصالحين. ولذلك شهد عبد الله بن سلام وهو من بقية خيارهم وكذا غيره بأن حكم التوراة فيها رجم الزاني تصديقا وتأييدا لما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم قال تعالى تعقيبا على ما قصه من سيرة سلف بني إسرائيل الصالح، بعد بيان سوء سيرة الخلف الذين خلفوا بعدهم، مخاطبا رؤساء اليهود الذين كانوا في زمن التنزيل، لا يخافون الله في الكتمان والتبديل :﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ أي إذا كان الأمر كما ذكر – وهو ما لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله من سيرة سلفكم – فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خوفا من بعضهم ورجاء في بعض، واخشوني وحدي، وأوفوا بعهدي، فإن الأمر كله لي ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ أي لا تتركوا بيانها والعمل والإفتاء والحكم بها في مقابلة منفعة دنيوية لا يمكن أن تكون إلا قليلة بالنسبة إلى المنافع العاجلة والآجلة المترتبة على الاهتداء بآيات الله تعالى. وتقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة البقرة. أو المراد من النهي إقامة الحجة عليهم، ويؤيده قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ أي كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله من أحكام الحق والعدل، فلم يحكم بها لمخالفتها لهواه أو لمنفعته الدنيوية، فأولئك هم الكافرون بهذه الآيات، لأن الإيمان الصحيح يستلزم الإذعان، والإذعان يستلزم العمل، وينافي الاستقباح والترك. وهذه الجملة مقررة لما قبلها، ومؤيدة لقوله تعالى في هذا السياق ﴿ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة : ٤٣ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:بحث في عدم الحكم بما أنزل الله وكونه كفرا وظلما وفسقا
الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة، وترد بمعاني مختلفة، كما بيناه في تفسير ﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] من سورة البقرة. وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة وما ينافي دين الله الحق، دون لفظي الظلم والفسق. ولا يسع أحدا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرا في عرفهم، ولكنهم يقولون ( كفر دون كفر ) ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرا عندهم. بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلما أو فسقا. لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن.
وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أقوالا منها قوله : كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، ومنها أن الآيات الثلاث في اليهود خاصة ليس في أهل الإسلام منها شيء. وروي عن الشعبي أن الأولى والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وهذا هو الظاهر، ولكن هذا لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله. وقد ذكرت هذه الآيات عند حذيفة بن اليمان فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل قال حذيفة : نِعْم الاخوة لكم بنو إسرائيل أن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة. كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك ( أي سير النعل ) عزاه في الدار المنثور إلى عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. قال : وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : نعم القوم أنتم إن كان ما كان من حلو فهو لكم وما كان من مر فهو لأهل الكتاب. كأنه يرى أن ذلك في المسلمين. وأخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير أنه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى :﴿ ومن لم يحكم..... ومن لم يحكم..... ومن لم يحكم... ﴾ قال فقلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا. قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها، قال : لا، بل نزلت علينا. ثم لقيت مقسما مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة، قلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا، قال : إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم. ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته ـ وذكر أنه ذكر له ما قاله سعيد ومقسم ـ قال : قالُ صدق، ولكنه كفر ليس ككفر الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال : فقال سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته ؟ قال : لقد وجدت له فضلا عظيما عليك وعلى مقسم. والمراد أن عدم الحكم بما أنزل الله أو تركه إلى غيره – وهو المراد – لا يعد كفرا بمعنى الخروج من الدين، بل بمعنى أكبر المعاصي.
وأقول : إن قول من قال إن هذه الآيات أو خواتم الآيات نزلت على بني إسرائيل. يراد به أنها نزلت في شأنهم لا أنها من كتابهم، إذ لا شيء يدل على أنها محكية، وإلا فهو خطأ. والأوليان منها في سياق الكلام على اليهود والثالثة في سياق الكلام على النصارى لا يجوز فيها غير ذلك. وعبارتها عامة لا دليل فيها على الخصوصية. ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى – وكذا الأخريان – إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل الله ناشئا عن استقباحه وعدم الإذعان له وتفضيل غيره عليه، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعونة سبب النزول كما رأيت في تصويرنا المعنى.
وإذا تأملت الآيات أدنى تأمل تظهر لك نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية وبوصف الفسوق الثالثة، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان به، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثرا لغيره عليه، فهو الكافر به، وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله، وهذا هو العاصي بترك الحكم الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل.
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر. وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة. ؟
وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم. وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله عليهم. فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله. ؟ فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعا. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ولا عكس. وحكم الله العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل، فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله – كما قال أحد الأعلام-.
ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه كنص رفع الحرج في باب الضروريات، وقد كان مولوي نور الدين مفتحي بنجاب من الهند سأل شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن أسئلة منها مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية فحولها إلي الأستاذ لأجيب عنها كما كان يفعل في أمثالها أحيانا. وهذا نص جوابي عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند، وهو الفتوى ال ٧٧ من فتاوى المجلد السابع من المنار.
الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند
س ٧٧ : ومنه : أيجوز للمسلم المستخدم عند الإنكليز الحكم بالقوانين الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله.
ج : إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر كحكم المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم وحكم الحاكمين بها والفرق بين الدار الحرب ودار الإسلام فيها. وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذا بظاهر قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ويستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين، فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها ويقول الحاكم من هؤلاء : أحكم باسم الأمير فلان، لأنني نائب عنه بإذنه، ويطلقون على الأمير لفظ ( الشارع ).
أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين بل لم يقل به أحد قط فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقا سواء حكم بغير ما أنزل الله تعالى أم لا. وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون الفساق بالمعاصي ومنها الحكم بغير ما أنزل الله. واختلف أهل السنة في الآية فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما أنزل الله ﴿ ومن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... الظَّالِمُونَ... الْفَاسِقُونَ ﴾ في اليهود خاصة. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة ( ومن لم يحكم بما أنزل ) الخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار. وذهب بعضهم إلى أن الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين والثانية التي فيها الحكم لليهود والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى وهو ظاهر السياق. وذهب آخرون إلى العموم فيها كلها ويؤيده قول حذيفة لمن قال إنها كلها في بني إسرائيل : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن سبيلهم قد الشراك : رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه. وأول هذا الفريق الآية بتأويلين.
فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي الذي هو الخروج من الملة واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه البيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى الآيات الثلاث : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، كفر دون كفر.
وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة وهو أن من لم يحكم بم أنزل الله منكرا له أو راغبا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان. ولعمري أن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وأن العقل ليعسر أن يتصور أن مؤمنا مذعنا لدين الله يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكما ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكما آخر بإرادته إعراضا عنه وتفضيلا لغيره عليه ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه. والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بابطال ما وضعه مخالفا لحكم الله ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه فإن لم يقدروا فالدار تعتبر دار إسلام فيما يظهر – وللأحكام فيها حكم آخر، وها هنا يجيء سؤال السائل : وقبل الجواب عنه لابد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من المسلمين وهي :
إذا غلب العدو على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة فهل الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام ولا يتولوا له عملا أم لا ؟ يظن بعض الناس أن العمل للكافر لا يحل بحال. والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن يحكم المسلم إلا المسلم، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من هذه الأحكام، وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بالمسلمين بقدر الإمكان. وبهذا القصد يجوز له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصورا في غيرهم، ومعينا للمتغلب على الإجهاز عليهم. وإذا هو تولى لهم العمل وكلف الحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور بأن يحكم بما أنزل الله ؟
أقول : إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام العبادات وما في معناها كالنكاح والطلاق وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية، والم

هذه الآيات من سياق التي قبلها والتي بعدها، والغرض منها بيان كون التوراة كانت هداية لبني إسرائيل فأعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد، وبيان مثل ذلك في الإنجيل وأهله، ثم الانتقال من ذلك إلى ما سيأتي من ذكر القرآن ومزيته وحكمة ذلك. ومنه يعلم أن العبرة بالاهتداء بالدين وأنه لا ينفع أهل الانتماء إليه إذا لم يقيموه، إذ لا يستفيدون من هدايته ونوره، بإقامته والعمل به. وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هداية دينهم، هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
ثم جاء بمثال من هذه الأحكام فقال :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ﴾ أي وفرضنا على بني إسرائيل من العقوبات في التوراة أن النفس تؤخذ أو تقتل بالنفس إذا قتلت عمدا بغير حق، وقدر الجمهور مقتولة أو مقتصة بها، والعين تفقأ بالعين، والأنف يجدع بالأنف، والأذن تصلم بالأذن، والسن تقلع بالسن، أي أن هذه الأعضاء والجوارح المتماثلة هي كالنفس في كون جزاء المتعدي على شيء منها مثل ما فعل، لأنه هو العدل. وقد قرأ الكسائي العين والأنف والأذن والسن بالرفع. أي وكذلك العين بالعين الخ – ولهم في إعرابها عدة وجوه وقرأ الجمهور بالنصب، عطفا على النفس.
﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ قرأ الكسائي الجروح بالرفع أيضا، والجمهور بالنصب، أي ذوات قصاص، تعتبر في جزائها المساواة بقدر الاستطاعة ﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ أي فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص بأن عفا عن الجاني فهذا التصديق كفارة له يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه كما عفا عن أخيه. ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ وكل من كان بصدد الحكم في شيء من هذه الجنايات فأعرض عما أنزل الله من القصاص المبني على قاعدة العدل والمساواة بين الناس، وحكم بهواه أو بحكم غير حكم الله فضله عليه، فهو من الظالمين حتما. إذ الخروج عن القصاص لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر، وهضم حق المفضل عليه وظلمه.
أما مصداق هذا القصاص من التوراة التي في الأيدي فهو في الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج، ففيه بعد عدة ذنوب توجب القتل ما نصه :( ٢٣ وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس ٢٤، وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل ٢٥، وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض ) يوضحه قوله في الفصل٢٤ من سفر اللاويين ( ١٧، وإذا أمات أحد إنسانا فإنه يقتل ١٨، ومن أمات بهيمة يعوض عنها نفسا بنفس، ١٩ وإذا أحدث إنسان في قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به، ٢٠ كسر بكسر وعين بعين وسن بسن، كما أحدث عيبا في الإنسان كذلك يحدث فيه ) فصرح بعموم القصاص بالمثل فدخل فيه الأذن والأنف. وأما العفو فلا أذكر له نقلا عن التوراة، وإنما جاء في وعظ المسيح على الجبل من إنجيل متى أنه ذكر مسألة العين بالعين والسن بالسن، ووصى بأن لا يقاوم الشر بالشر، وهو أمر بالعفو، ولكن الذين يدعون اتباعه في هذا العصر هم أشد أهل الأرض انتقاما ومقاومة للشر بأضعافه إلا قليل من الأفراد، الذين أخفاهم الزمان في زوايا بعض البلاد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:بحث في عدم الحكم بما أنزل الله وكونه كفرا وظلما وفسقا
الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة، وترد بمعاني مختلفة، كما بيناه في تفسير ﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] من سورة البقرة. وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة وما ينافي دين الله الحق، دون لفظي الظلم والفسق. ولا يسع أحدا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرا في عرفهم، ولكنهم يقولون ( كفر دون كفر ) ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرا عندهم. بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلما أو فسقا. لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن.
وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أقوالا منها قوله : كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، ومنها أن الآيات الثلاث في اليهود خاصة ليس في أهل الإسلام منها شيء. وروي عن الشعبي أن الأولى والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وهذا هو الظاهر، ولكن هذا لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله. وقد ذكرت هذه الآيات عند حذيفة بن اليمان فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل قال حذيفة : نِعْم الاخوة لكم بنو إسرائيل أن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة. كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك ( أي سير النعل ) عزاه في الدار المنثور إلى عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. قال : وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : نعم القوم أنتم إن كان ما كان من حلو فهو لكم وما كان من مر فهو لأهل الكتاب. كأنه يرى أن ذلك في المسلمين. وأخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير أنه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى :﴿ ومن لم يحكم..... ومن لم يحكم..... ومن لم يحكم... ﴾ قال فقلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا. قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها، قال : لا، بل نزلت علينا. ثم لقيت مقسما مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة، قلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا، قال : إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم. ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته ـ وذكر أنه ذكر له ما قاله سعيد ومقسم ـ قال : قالُ صدق، ولكنه كفر ليس ككفر الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال : فقال سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته ؟ قال : لقد وجدت له فضلا عظيما عليك وعلى مقسم. والمراد أن عدم الحكم بما أنزل الله أو تركه إلى غيره – وهو المراد – لا يعد كفرا بمعنى الخروج من الدين، بل بمعنى أكبر المعاصي.
وأقول : إن قول من قال إن هذه الآيات أو خواتم الآيات نزلت على بني إسرائيل. يراد به أنها نزلت في شأنهم لا أنها من كتابهم، إذ لا شيء يدل على أنها محكية، وإلا فهو خطأ. والأوليان منها في سياق الكلام على اليهود والثالثة في سياق الكلام على النصارى لا يجوز فيها غير ذلك. وعبارتها عامة لا دليل فيها على الخصوصية. ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى – وكذا الأخريان – إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل الله ناشئا عن استقباحه وعدم الإذعان له وتفضيل غيره عليه، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعونة سبب النزول كما رأيت في تصويرنا المعنى.
وإذا تأملت الآيات أدنى تأمل تظهر لك نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية وبوصف الفسوق الثالثة، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان به، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثرا لغيره عليه، فهو الكافر به، وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله، وهذا هو العاصي بترك الحكم الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل.
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر. وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة. ؟
وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم. وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله عليهم. فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله. ؟ فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعا. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ولا عكس. وحكم الله العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل، فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله – كما قال أحد الأعلام-.
ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه كنص رفع الحرج في باب الضروريات، وقد كان مولوي نور الدين مفتحي بنجاب من الهند سأل شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن أسئلة منها مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية فحولها إلي الأستاذ لأجيب عنها كما كان يفعل في أمثالها أحيانا. وهذا نص جوابي عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند، وهو الفتوى ال ٧٧ من فتاوى المجلد السابع من المنار.
الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند
س ٧٧ : ومنه : أيجوز للمسلم المستخدم عند الإنكليز الحكم بالقوانين الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله.
ج : إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر كحكم المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم وحكم الحاكمين بها والفرق بين الدار الحرب ودار الإسلام فيها. وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذا بظاهر قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ويستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين، فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها ويقول الحاكم من هؤلاء : أحكم باسم الأمير فلان، لأنني نائب عنه بإذنه، ويطلقون على الأمير لفظ ( الشارع ).
أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين بل لم يقل به أحد قط فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقا سواء حكم بغير ما أنزل الله تعالى أم لا. وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون الفساق بالمعاصي ومنها الحكم بغير ما أنزل الله. واختلف أهل السنة في الآية فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما أنزل الله ﴿ ومن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... الظَّالِمُونَ... الْفَاسِقُونَ ﴾ في اليهود خاصة. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة ( ومن لم يحكم بما أنزل ) الخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار. وذهب بعضهم إلى أن الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين والثانية التي فيها الحكم لليهود والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى وهو ظاهر السياق. وذهب آخرون إلى العموم فيها كلها ويؤيده قول حذيفة لمن قال إنها كلها في بني إسرائيل : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن سبيلهم قد الشراك : رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه. وأول هذا الفريق الآية بتأويلين.
فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي الذي هو الخروج من الملة واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه البيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى الآيات الثلاث : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، كفر دون كفر.
وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة وهو أن من لم يحكم بم أنزل الله منكرا له أو راغبا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان. ولعمري أن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وأن العقل ليعسر أن يتصور أن مؤمنا مذعنا لدين الله يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكما ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكما آخر بإرادته إعراضا عنه وتفضيلا لغيره عليه ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه. والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بابطال ما وضعه مخالفا لحكم الله ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه فإن لم يقدروا فالدار تعتبر دار إسلام فيما يظهر – وللأحكام فيها حكم آخر، وها هنا يجيء سؤال السائل : وقبل الجواب عنه لابد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من المسلمين وهي :
إذا غلب العدو على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة فهل الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام ولا يتولوا له عملا أم لا ؟ يظن بعض الناس أن العمل للكافر لا يحل بحال. والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن يحكم المسلم إلا المسلم، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من هذه الأحكام، وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بالمسلمين بقدر الإمكان. وبهذا القصد يجوز له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصورا في غيرهم، ومعينا للمتغلب على الإجهاز عليهم. وإذا هو تولى لهم العمل وكلف الحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور بأن يحكم بما أنزل الله ؟
أقول : إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام العبادات وما في معناها كالنكاح والطلاق وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية، والم

هذه الآيات من سياق التي قبلها والتي بعدها، والغرض منها بيان كون التوراة كانت هداية لبني إسرائيل فأعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد، وبيان مثل ذلك في الإنجيل وأهله، ثم الانتقال من ذلك إلى ما سيأتي من ذكر القرآن ومزيته وحكمة ذلك. ومنه يعلم أن العبرة بالاهتداء بالدين وأنه لا ينفع أهل الانتماء إليه إذا لم يقيموه، إذ لا يستفيدون من هدايته ونوره، بإقامته والعمل به. وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هداية دينهم، هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ أي وبعثنا عيسى بن مريم بعد أولئك النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعا أثرهم جاريا على سننهم، مصدقا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله أو بحاله. ولفظ قفى مأخوذ من القفا وهو مؤخر العنق. يقال : قفاه وقفا إثره يقفوه واقتفاه، إذا اتبعه وسار وراءه حسا أو معنى. وقفاه به تقفية جعله يقفوه أو يقفو أثره، قال تعالى :﴿ وقفينا من بعده بالرسل ﴾ [ البقرة : ٨٧ ] قال في الأساس : وقفيته وقفيته به وقفيت به على أثره إذا اتبعته إياه، وهو قفية آبائه وقفى أشياخه، تلوهم اه أي يتلوهم ويسير على طريقتهم. وعيسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل وشريعته هي التوراة، ولكن النصارى نسخوها وتركوا العمل بها اتباعا لبولس. على أنهم ينقلون عنه في أناجيلهم أنه ما جاء لينقض الناموس ( أي شريعة التوراة ) وإنما جاء ليتمم، أي ليزيد عليها ما شاء الله أن يزيد من الأحكام والآداب والمواعظ الروحية. ولذلك قال تعالى :
﴿ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ أي أعطيناه الإنجيل مشتملا على هدى من الضلال في العقائد والأعمال كالتوحيد النافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل، ونور يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه من الدلائل والأمثال، والفضائل والآداب، ومصدقا للتوراة التي تقدمته، أي مشتملا على النص بتصديق التوراة، وهذا غير تصديق المسيح لها بقوله وعمله أو حاله. وصفه بمثل ما وصف به التوراة، وبكونه مصدقا لها، ثم زاد في وصفه عطفا على تلك الأحوال فجعله نفسه هدى من وجه آخر وموعظة للمتقين، ولعله ما انفرد به من المسائل الروحية والمواعظ الأدبية وزلزلة ذلك الجمود الإسرائيلي المادي، وزعزعة ذلك الغرور الذي كان الكتبة والفريسيون من اليهود مفتونين به. وخص هذا النوع بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون به إذ لا يفوتهم شيء من الكتاب لحرصهم عليه وعنايتهم به. والحكمة في هذا النوع من الهدى والموعظة فقه أسرار الشريعة ومعرفة حكمتها والمقصد منها، والعلم بأن وراء تلك التوراة وهذا الإنجيل هداية أتم وأكمل ودينا أعم وأشمل، وهو الذي يجيء به النبي الأخير ( البارقليط ) الأعظم، ولولا زلزال الإنجيل في جملته لتلك التقاليد وزعزعته لذلك الغرور، وأنس الناس بما حفظ من تعليمه عدة قرون، لما انتشر الإسلام بين أهل الكتاب في سورة سورية ومصر وبين النهرين بتلك السرعة.
هذه الآيات من سياق التي قبلها والتي بعدها، والغرض منها بيان كون التوراة كانت هداية لبني إسرائيل فأعرضوا عن العمل بها لما عرض لهم من الفساد، وبيان مثل ذلك في الإنجيل وأهله، ثم الانتقال من ذلك إلى ما سيأتي من ذكر القرآن ومزيته وحكمة ذلك. ومنه يعلم أن العبرة بالاهتداء بالدين وأنه لا ينفع أهل الانتماء إليه إذا لم يقيموه، إذ لا يستفيدون من هدايته ونوره، بإقامته والعمل به. وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هداية دينهم، هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ ﴾ قرأ الجمهور ( وليحكم ) بصيغة الأمر، وهو حكاية حذف منها لفظ القول – ومثله كثير في القرآن – أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل بما أنزله الله فيه من الأحكام، أي أمرناهم بالعمل به، فهو مثل قوله في أهل التوراة ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] كذا وكذا. قرأ حمزة ( ليحكم ) بكسر اللام، أي ولأجل أن يحكم أهل الإنجيل بما انزل الله فيه. وجوزوا أن يكون قوله ( وهدى وموعظة ) مفعولا لأجله وعطف ( وليحكم ) عليه مع إظهار اللام لاختلاف الفاعل. وكيفما قرأت وفسرت لا تجد الآية تدل على أن الله تعالى يأمر النصارى في القرآن بالحكم بالإنجيل كما يزعم دعاة النصرانية بما يغالطون به عوام المسلمون. ولو فرضنا أنه أمرهم بذلك بعبارة أخرى لتعين أن يكون الأمر للتعجيز وإقامة الحجة عليهم، فإنهم لا يستطيعون العمل بالإنجيل ولن يستطيعوا. وسيأتي لهذا البحث تتمة.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ أي فأولئك هم الخارجون من حظيرة الدين الذين لا يعدون منه في شيء، أو الخارجون من الطاعة له، المتجاوزون لأحكامه وآدابه.
ومن مباحث اللفظ في الآيات أن قوله :( فأولئك هم ) الخ راجع إلى ( من ) بحسب معناها فإنها من صيغ العموم. وأما فعل ( يحكم ) فهو راجع إلى لفظها وهو مفرد. ومثل هذا كثير، يراعى اللفظ في الأول لقربه ويراعي المعنى فيما بعده.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:بحث في عدم الحكم بما أنزل الله وكونه كفرا وظلما وفسقا
الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة، وترد بمعاني مختلفة، كما بيناه في تفسير ﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] من سورة البقرة. وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة وما ينافي دين الله الحق، دون لفظي الظلم والفسق. ولا يسع أحدا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرا في عرفهم، ولكنهم يقولون ( كفر دون كفر ) ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرا عندهم. بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلما أو فسقا. لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن.
وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أقوالا منها قوله : كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، ومنها أن الآيات الثلاث في اليهود خاصة ليس في أهل الإسلام منها شيء. وروي عن الشعبي أن الأولى والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وهذا هو الظاهر، ولكن هذا لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله. وقد ذكرت هذه الآيات عند حذيفة بن اليمان فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل قال حذيفة : نِعْم الاخوة لكم بنو إسرائيل أن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة. كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك ( أي سير النعل ) عزاه في الدار المنثور إلى عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. قال : وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : نعم القوم أنتم إن كان ما كان من حلو فهو لكم وما كان من مر فهو لأهل الكتاب. كأنه يرى أن ذلك في المسلمين. وأخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير أنه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى :﴿ ومن لم يحكم..... ومن لم يحكم..... ومن لم يحكم... ﴾ قال فقلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا. قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها، قال : لا، بل نزلت علينا. ثم لقيت مقسما مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة، قلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا، قال : إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم. ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته ـ وذكر أنه ذكر له ما قاله سعيد ومقسم ـ قال : قالُ صدق، ولكنه كفر ليس ككفر الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال : فقال سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته ؟ قال : لقد وجدت له فضلا عظيما عليك وعلى مقسم. والمراد أن عدم الحكم بما أنزل الله أو تركه إلى غيره – وهو المراد – لا يعد كفرا بمعنى الخروج من الدين، بل بمعنى أكبر المعاصي.
وأقول : إن قول من قال إن هذه الآيات أو خواتم الآيات نزلت على بني إسرائيل. يراد به أنها نزلت في شأنهم لا أنها من كتابهم، إذ لا شيء يدل على أنها محكية، وإلا فهو خطأ. والأوليان منها في سياق الكلام على اليهود والثالثة في سياق الكلام على النصارى لا يجوز فيها غير ذلك. وعبارتها عامة لا دليل فيها على الخصوصية. ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى – وكذا الأخريان – إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل الله ناشئا عن استقباحه وعدم الإذعان له وتفضيل غيره عليه، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعونة سبب النزول كما رأيت في تصويرنا المعنى.
وإذا تأملت الآيات أدنى تأمل تظهر لك نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية وبوصف الفسوق الثالثة، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان به، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثرا لغيره عليه، فهو الكافر به، وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله، وهذا هو العاصي بترك الحكم الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل.
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر. وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة. ؟
وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم. وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله عليهم. فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله. ؟ فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعا. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ولا عكس. وحكم الله العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل، فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله – كما قال أحد الأعلام-.
ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه كنص رفع الحرج في باب الضروريات، وقد كان مولوي نور الدين مفتحي بنجاب من الهند سأل شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن أسئلة منها مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية فحولها إلي الأستاذ لأجيب عنها كما كان يفعل في أمثالها أحيانا. وهذا نص جوابي عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند، وهو الفتوى ال ٧٧ من فتاوى المجلد السابع من المنار.
الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند
س ٧٧ : ومنه : أيجوز للمسلم المستخدم عند الإنكليز الحكم بالقوانين الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله.
ج : إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر كحكم المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم وحكم الحاكمين بها والفرق بين الدار الحرب ودار الإسلام فيها. وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذا بظاهر قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ويستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين، فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها ويقول الحاكم من هؤلاء : أحكم باسم الأمير فلان، لأنني نائب عنه بإذنه، ويطلقون على الأمير لفظ ( الشارع ).
أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين بل لم يقل به أحد قط فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقا سواء حكم بغير ما أنزل الله تعالى أم لا. وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون الفساق بالمعاصي ومنها الحكم بغير ما أنزل الله. واختلف أهل السنة في الآية فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما أنزل الله ﴿ ومن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... الظَّالِمُونَ... الْفَاسِقُونَ ﴾ في اليهود خاصة. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة ( ومن لم يحكم بما أنزل ) الخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار. وذهب بعضهم إلى أن الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين والثانية التي فيها الحكم لليهود والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى وهو ظاهر السياق. وذهب آخرون إلى العموم فيها كلها ويؤيده قول حذيفة لمن قال إنها كلها في بني إسرائيل : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن سبيلهم قد الشراك : رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه. وأول هذا الفريق الآية بتأويلين.
فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي الذي هو الخروج من الملة واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه البيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى الآيات الثلاث : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، كفر دون كفر.
وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة وهو أن من لم يحكم بم أنزل الله منكرا له أو راغبا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان. ولعمري أن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وأن العقل ليعسر أن يتصور أن مؤمنا مذعنا لدين الله يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكما ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكما آخر بإرادته إعراضا عنه وتفضيلا لغيره عليه ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه. والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بابطال ما وضعه مخالفا لحكم الله ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه فإن لم يقدروا فالدار تعتبر دار إسلام فيما يظهر – وللأحكام فيها حكم آخر، وها هنا يجيء سؤال السائل : وقبل الجواب عنه لابد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من المسلمين وهي :
إذا غلب العدو على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة فهل الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام ولا يتولوا له عملا أم لا ؟ يظن بعض الناس أن العمل للكافر لا يحل بحال. والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن يحكم المسلم إلا المسلم، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من هذه الأحكام، وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بالمسلمين بقدر الإمكان. وبهذا القصد يجوز له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصورا في غيرهم، ومعينا للمتغلب على الإجهاز عليهم. وإذا هو تولى لهم العمل وكلف الحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور بأن يحكم بما أنزل الله ؟
أقول : إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام العبادات وما في معناها كالنكاح والطلاق وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية، والم

هذه الآيات تتمة السياق. بين الله تعالى شأنه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بني إسرائيل، وما أودعه فيهما من هدى ونور، وما حتم عليهم من إقامتهما، وما شدد عليهم من إثم ترك الحكم بهما فناسب بعد ذلك أن يذكر إنزاله القرآن على خاتم النبيين والمرسلين، ومكانه من الكتب التي قبله، وكون حكمته تعالى اقتضت تعدد الشرائع ومناهج الهداية – فتلك مقدمات ووسيلة، وهذا هو المقصد والنتيجة.
قال :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ أي أنزلنا إليك الكتاب الكامل الذي أكملنا به الدين، فكان هو الجدير بأن ينصرف إليه معنى الكتاب الإلهي عند الإطلاق، وهو القرآن المجيد – هذه حكمة التعبير بالكتاب بعد التعبير عن كتاب موسى باسمه الخاص ( التوراة ) وعن كتاب عيسى باسمه الخاص ( الإنجيل ) – ومثل هذا إطلاق لفظ النبي حتى في كتبهم – وقوله بالحق الخ معناه أنزلناه متلبسا بالحق مؤيدا به، مشتملا عليه مقررا له، بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، مصدقا لما تقدم من جنس الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، أي ناطقا بتصديق كونها من عند الله، وأن الرسل الذين جاءوا بها لم يفتروها من عند أنفسهم.
وأما قوله : ومهيمنا عليه – أي على جنس الكتاب الإلهي – فمعناه أنه رقيب عليها وشهيد، بما بينه من حقيقة حالها، في أصل إنزالها، وما كان من شأن من خوطبوا بها، من نسيان حظ عظيم منها وإضاعته، وتحريف كثير مما بقي منها وتأويله، والإعراض عن الحكم والعمل بها، فهو يحكم عليها لأنه جاء بعدها. روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال :( ومهيمنا عليه ) يعني أمينا عليه، يحكم على ما كان قبله من كتب. وفي رواية عنه عند الفريابي وسعيد بن منصور والبيهقي ورواة التفسير المأثور قال : مؤتمنا عليه. وفي رواية أخرى قال : شهيدا على كل كتاب قبله.
لسان العرب : وقال ابن الأنباري في قوله :( مهيمنا عليه ) قال المهيمن ( أي من أسماء الله ) القائم على خلقه، وأنشد :
ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر١
قال : معناه : القائم على الناس بعده. وقيل بأمر الخلق. قال : وفي المهيمن خمسة أقوال – قال ابن عباس : المهيمن المؤتمن، وقال الكسائي المهيمن الشهيد. وقال غيره هو الرقيب، يقال هيمن يهيمن هيمنة إذا كان رقيبا على الشيء. وقال أبو معشر :( مهيمنا عليه ) معناه وقبَّانا عليه. وقيل وقائما على الكتب. اه. والظاهر من مجموع الأقوال أن المهيمن على الشيء هو من يقوم بشؤونه ويكون له حق مراقبته والحكم في أمره بحق، كما وصف بذلك أبو بكر ( رض ) في قيامه بأعباء خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والقيام بالأمر يستلزم المراقبة والائتمان والشهادة عليه.
ومن الغرائب أن بعض المفسرين فهم من هيمنة القرآن على الكتب التي قبله أنه يشهد لها بالحفظ من التحريف والتبديل !. واللفظ لا يدل على هذا المعنى، فإذا كان معنى المهيمن الشهيد فهل يصح أن يتحكموا في شهادته كما يشاءون ؟ أم الواجب عليهم الرجوع إلى ما قاله في شأن هذه الكتب وأهلها، لأنه هو نص شهادته لها ولهم، أو عليها وعليهم، والقرآن يفسر بعضه بعضا – وحسبهم أنه قال في هذه السورة نفسها في كل من أهل التوراة والإنجيل أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، كما قال في سورة النساء قبلها أنهم ﴿ أونوا نصيبا من الكتاب ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ]. وقال فيهما جميعا أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه٢. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا :﴿ آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ] الآية رواه البخاري في صحيحه، وذكر أن سببه أنه كان بعض أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها لبعض المسلمين بالعربية، فنهاهم صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستماع إليهم وقبول كلامهم بهذا الحديث. يوضحه ما رواه أحمد والبزار – واللفظ له – من حديث جابر قال : نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يقرأ – ووجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتغير – فقال له رجل من الأنصار : ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل. والله لو كان موسى بين أظهرهم ما حل له إلا اتباعي ) ٣ وورد هذا المعنى أحاديث أخرى ضعيفة.
والمراد من النهي عن سؤالهم النهي عن سؤال الاهتداء، وتلقي ما يرونه بالقبول، لأجل العلم بالشرائع الماضية وأخبار الأنبياء، لزيادة العلم أو لتفصيل بعض ما أجمله القرآن. وسببه ما هو ظاهر من السياق، وهو أنهم لنسيانهم بعض ما أنزل إليهم وتحريفهم لبعضه بطلت الثقة بروايتهم، فالمصدق لها عرضة لتصديق الباطل، والمكذب لها عرضة لتكذيب الحق، إذ لا يتيسر لنا أن نميز فيما عندهم بين المحفوظ السالم من التحريف وغيره، فالاحتياط أن لا نصدقهم ولا نكذبهم. إلا إذا رووا شيئا يصدقه القرآن أو يكذبه، فإنا نصدق ما صدقه، ونكذب ما كذبه، لأنه مهيمن على تلك الكتب وشهيد عليها، وشهادته حق، لأنه نزل بالحق، وحفظه الله من التحريف والتبديل، بتوفيق المسلمين لحفظه في الصدور والسطور، ومن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم، وسيحفظه كذلك إلى آخر الزمان ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ [ الحجر : ٩ ] ولا يعارض هذا قوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ [ النحل : ٤٣ ] لأن ذلك ورد في سؤال عن أمر متواتر قطعي وهو أن الرسل كانوا رجالا يوحى إليهم.
﴿ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ أي إذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله – وهو أنه قائم بأمر الدين بعدها، ورقيب وشهيد عليها، فاحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله إليك من الأحكام والحدود، دون ما أنزل إليهم، لأن شرعك ناسخ لشرائعهم ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ أي ولا تتبع ما يهوون – وهو الحكم بما يسهل عليهم ويخف احتماله – مائلا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب، ولو إلى ما صح من شريعتهم بما نقصه عليك منها. ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ فهذه الجملة استئناف بياني لتعليل الأمر والنهي قبلها. أي لكل رسول أو لكل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها، لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية، تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر. وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان.
والشرعة والشريعة في اللغة الطريق إلى الماء، أو مورد الماء من النهر ونحوه، وهذا هو المستعمل عن العرب حتى الآن. وهي من الشروع في الشيء. قال ابن جرير : وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن ذلك قيل لشريعة الماء شريعة، لأنه يشرع منها إلى الماء، ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع لشروع أهله فيه، ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء : هم شرع، سواء. وأما المنهاج، فإن أصله الطريق البين الواضح. يقال منه : هو طريق نهج ومنهج بين، كما قال الراجز :
من يك في شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج ٤
اه.
وقال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة روي وتطهر، والمراد الري المعنوي وطهارة النفس وتزكيتها، وقد جعل الله الماء سبب الحياة النباتية والحيوانية، وجعل الشريعة سبب الحياة الروحية الإنسانية.
أخرج غير واحد من رواة التفسير المأثور عن قتادة في قوله تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ يقول سبيلا وسنة. والسنن مختلفة، للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، كي يعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل. وفي رواية عنه : الدين واحد والشريعة مختلفة. وروى ابن جرير من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال في تفسير ( شرعة ومنهاجا ) سنة وسبيلا. وظاهر من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له، وإنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها، وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء. وهذا يوافق أو يقارب عرف الأمم حتى اليوم، لا يطلقون اسم الشريعة إلا على الأحكام العملية، بل يخصونها بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام، دون ما يدان الله تعالى به من أحكام الحلال والحرام.
ولا تجد هذا الحرف في القرآن إلا في هذه الآية – وفي قوله تعالى من سورة الشورى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى – أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ [ الشورى : ١٣ ] وقوله منها :﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ ؟ [ الشورى : ٢١ ] – وفي قوله من سورة الجاثية :﴿ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ﴾ [ الجاثية : ١٧ ] فأما شرع الدين فهو وضعه وإنزاله من عند الله تعالى، وليس لغيره أن يشرع. فآيتا الشورى تدلان على أن وضع الله تعالى للدين ومخاطبة الناس به يسمى شرعا بالمعنى المصدري، وليس مما نحن فيه.
وأما آية الجاثية فقد روى ابن جرير عن قتادة أنه قال فيها : الشريعة الفرائض والحدود والأمر والنهي. وهو نص فيما ذكرنا من قصر الشريعة على الأحكام العلمية دون العقائد والحكم والعبر التي يشتملها الدين. والمشهور في عرف فقهائنا وعامتنا أن الدين والشرع أو الشريعة بمعنى واحد. ولكن مع ذلك ترى استعمال : علم الشرع، وعلماء الشريعة – وكتب الشريعة، ألصق بالفقه وكتبه وعلمائه منها بعلم العقائد والأخلاق وعلمائها وكتبها، وتجد الفقهاء يقولون : يجوز هذا ديانة لا قضاء. ونحو ذلك. وتحرير القول أن الشريعة اسم للأحكام العملية وأنه أخص من كلمة ( الدين ) وإنما تدخل في مسمى الدين من حيث إن العامل بها يدين الله تعالى بعمله ويخضع له ويتوجه إليه مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه.
والآية نص في أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا مطلقا، سواء كانت اللام في قوله :﴿ لكل جعلنا ﴾ للاختصار الحصري أم لا، خلافا لمن قال به محتجين بقوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ﴾ [ الشورى : ١٣ ] الآية. وقوله :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] الآية، وما في معناها. فأما الآية الأولى فقد بين ما شرعه تعالى فيها من التوصية وهو قوله تعالى :﴿ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ [ الشورى : ١٣ ] فهذه وصية الله إلى الأمم على ألسنة جميع الرسل، فهي لا تدل على اتحاد شرائعهم بل على حظر الاختلاف في الدين، لأن الدين نزل لإزالة الخلاف الضار وإصلاح الأمة، فالاختلاف فيه يجعل الإصلاح إفسادا، والدواء داء. ولذلك قال تعالى :﴿ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ﴾ [ البينة : ٤ ] وقال :﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ [ آل عمران : ١٠٥ ] ولو كانت الآية عامة في الدين والشريعة لكان معناها أننا مخاطبون بالأحكام العملية التي شرعها الله لقوم نوح والنبيين من بعده، ولم يكن معناها أننا مخاطبون بالأحكام العملية التي شرعها الله لقوم نوح ومن بعده. وكون ما شرعه لنا هو عين ما شرعه لهم مناقض لقوله :( لكل جعلنا منكم شرعة
١ البيت الطويل، وهو بلا نسبة في لسان الرب (همن)، وتهذيب اللغة، ٦/٣٣٤..
٢ أخرجه البخاري في التفسير، وتفسير سورة ٢، باب ١١..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٣/٣٣٨، ٣٨٧..
٤ الرجز بلا نسبة في لسان العرب (روي)، ومعجم ما استعجم ص ١٠٢٧، والمقتضب ٣/ ٣٥٩، وجمهرة اللغة ص ٢٣٥..
هذه الآيات تتمة السياق. بين الله تعالى شأنه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بني إسرائيل، وما أودعه فيهما من هدى ونور، وما حتم عليهم من إقامتهما، وما شدد عليهم من إثم ترك الحكم بهما فناسب بعد ذلك أن يذكر إنزاله القرآن على خاتم النبيين والمرسلين، ومكانه من الكتب التي قبله، وكون حكمته تعالى اقتضت تعدد الشرائع ومناهج الهداية – فتلك مقدمات ووسيلة، وهذا هو المقصد والنتيجة.
﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ﴾ أي أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله فيه، ولا تتبع أهواءهم بالاستماع لبعضهم وقبول كلامه ولو لمصلحة في ذلك وراء الحكم، كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام، فإن الحق لا يتوسل إليه بالباطل. واحذرهم أن يفتنوك أي يستزلوك باختبارهم إياك وينزلوك عن بعض ما أنزل الله إليك لتحكم بغيره، أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس ( من اليهود ) : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا : يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك : وأنزل الله عز وجل فيهم ( وأن أحكم بينهم بما أنزل الله – إلى قوله – لقوم يوقنون )اه.
يعني أن الحكمة في إنزال هذه الآية إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ما فعل من عدم الحكم لهم وأمره بالثبات والدوام على ما جرى عليه من التزام حكم الله وعدم الانخداع لليهود، وتسجيل هذه العبرة في كتاب الله. وروى ابن جرير عن ابن زيد أن فتنتهم أن يقولوا : في التوراة كذا وكذا، فيصدقوا. والأول أظهر.
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ أي فإن تولوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك فاعلم أن حكمة ذلك هي أن الله تعالى يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، فاضطرابهم في دينهم واستثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك رجاء أن تتبع أهواءهم، وإعراضهم عن حكمك بالحق، ومحاولتهم لمخادعتك وفتنتك عن بعض ما أنزل الله إليك – كل هذه مقدمات من فساد الأخلاق وروابط الاجتماع لا بد أن تنتج وقوع عذاب بهم. قيل إن المراد بالعذاب هنا ما حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم، وإنما يصح هذا إذا كان نزول الآية قبل ذلك، وعلى هذا يكون نزول هذا السياق كله قبل نزول السورة في حجة الوداع. ثبت أنه لم يصبهم عذاب في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها فلا يبعد أن يكون المراد بالعذاب إجلاء عمر من أجلاهم منهم في خلافته. وقيل المراد عذاب الآخرة. وإنما ذكر بعض الذنوب لبيان أن بعضها يوبقهم ويهلكهم، فكيف يكون العقاب على جميعها ؟ وهو كما ترى.
ثم قال :﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ أي لا يرعك أيها الرسول ما تراه من فسوقهم من دينهم، وعدم اهتدائهم إلى دينك، فإن كثيرا من الناس قد صار الفسوق والعصيان والتمرد من صفاتهم الثابتة التي لا تنفك عنهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:من العبرة في الآيات ( ٤٨-٤٩-٥٠ ) أنه يوجد بين المسلمين الجغرافيين١ في هذا العصر، من هم أشد فسادا في دينهم وأخلاقهم من أولئك الذين نزلت فيهم هذه الآيات، ومن ذلك أنهم يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره، ويرون أن استقلال البشر بوضع الشرائع خير من شرع الله تعالى، على أنهم لا يعرفون أصول شرع الله ولا قواعده، بل يظنون أنه محصور في هذه الكتب الفقهية – التي أكثر ما فيها من آراء أفراد من المجتهدين والمقلدين، فهم ينتقدون كثيرا منها بعدم موافقتها لمصالح الناس تارة ولأهوائهم تارة أخرى. يحتجون بضرب من الجهل على ضرب آخر.
هذه الآيات تتمة السياق. بين الله تعالى شأنه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بني إسرائيل، وما أودعه فيهما من هدى ونور، وما حتم عليهم من إقامتهما، وما شدد عليهم من إثم ترك الحكم بهما فناسب بعد ذلك أن يذكر إنزاله القرآن على خاتم النبيين والمرسلين، ومكانه من الكتب التي قبله، وكون حكمته تعالى اقتضت تعدد الشرائع ومناهج الهداية – فتلك مقدمات ووسيلة، وهذا هو المقصد والنتيجة.
﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ قرأ الجمهور يبغون بفعل الغيبة لأنه حكاية عن اليهود، وقرأه ابن عامر ( تبغون ) على الالتفات لمخاطبتهم، والاستفهام للإنكار والتعجيب المتضمن للتوبيخ، أي أيتولون عن حكمك بالحق فيبغون حكم الجاهلية المبني على الهوى وترجيح القوي على الضعيف ؟ روي أن هذا نزل في خصومه مما كان بين بني النضير وبني قريظة من جعل دية القريظي ضعفي دية النضيري لمكان القوة والضعف.
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي لا أحد أحسن حكما من حكم الله تعالى لقوم يوقنون بدينه، ويذعنون لشرعه، لأن هذا الحكم يجمع الحسنين : منتهى العدل والتزام الحق من الحاكم، ومنتهى القبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه. وهذا مما تفضل به الشريعة الإلهية القوانين البشرية. وقيل إن اللام هنا بمعنى عند أو للبيان، أي أن حكمه تعالى أحسن الأحكام عند الموقنين وفي نظرهم، وإن جهل ذلك غيرهم. ومضمون الآية أن مما ينبغي التعجيب منه من منكراتهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ويؤثرونه على حكم الله العادل، والحال أن حكمه تعالى أحسن الأحكام لأهل الإيمان والإسلام. لأن حكمه هو العدل الذي يستقيم به أمر الخلق، وأما حكم الجاهلية فهو تفضيل القوي على الضعيف، الذي يمكن الظالمين الأقوياء من استذلال أو استئصال الضعفاء، وهو شر الأحكام المخرب للعمران المفسد للنظام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:من العبرة في الآيات ( ٤٨-٤٩-٥٠ ) أنه يوجد بين المسلمين الجغرافيين١ في هذا العصر، من هم أشد فسادا في دينهم وأخلاقهم من أولئك الذين نزلت فيهم هذه الآيات، ومن ذلك أنهم يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره، ويرون أن استقلال البشر بوضع الشرائع خير من شرع الله تعالى، على أنهم لا يعرفون أصول شرع الله ولا قواعده، بل يظنون أنه محصور في هذه الكتب الفقهية – التي أكثر ما فيها من آراء أفراد من المجتهدين والمقلدين، فهم ينتقدون كثيرا منها بعدم موافقتها لمصالح الناس تارة ولأهوائهم تارة أخرى. يحتجون بضرب من الجهل على ضرب آخر.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٥١ ) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( ٥٢ ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ( ٥٣ ) ﴾.
من المعلوم في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود حين قدم المدينة وأقرهم على دينهم وأموالهم. وأثبت ذلك في الكتاب الذي كتبه في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وحقوق القبائل والبطون. ومما جاء في ذلك الكتاب :( وإنه من تبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ) ومنه في حقوق الحلف والولاء في الحرب :( وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم، وأنفسهم. إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ ( أي يهلك ) إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ) ثم أعطى مثل ما لبني عوف ليهود بني الحارث وساعدة وجشم والأوس وثعلبة – ومنهم جفنة – والشطنة.
قال ابن القيم في الهدي النبوي :( ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ويظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه. وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنه من دخل معهم في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين. وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى. فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن. وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة – بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر، وأظهروا البغي والحسد ).
ثم قال في فصل آخر ( ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر ) وبين كيف تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى من هذه السورة ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ﴾ [ المائدة : ١١ ] إذ ورد أن الآية نزلت في ذلك. ثم بين في فصل آخر أن قريظة كانت أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم نقضوا صلحه لما خرج إلى غزوة الخندق. وبين كيف حارب كل طائفة وأظهره الله عليها. فهذا هو السبب العام في النهي عن موالاة أهل الكتاب في هذه الآيات، وكان نصارى العرب – وكذا الروم بالطبع – حربا له كاليهود.
وأما السبب الخاص الذي ذكروه في سبب النزول فهاك ملخصه : اخرج رواة التفسير المأثور والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قنيقاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبث بأمرهم عبد الله ابن أبي بن سلول ( زعيم المنافقين ) وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم. وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي كان لعبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال :( أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ). قال : وفيه وفي عبد الله نزلت الآيات في المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ﴾ – إلى قوله – ﴿ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٦ ].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله : إن لي موالي من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أبي ( يا أبا الحباب ! أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه ) قال : إذن أقبل. فأنزل الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى...... ﴾ – إلا أن بلغ – ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة – في الآية – إنها نزلت في بني قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونه وقريشا ليدخلوهم حصونهم. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح، وفيها أن بعض المسلمين كانوا يكاتبون النصارى بالشام، وإن بعضهم كان يكاتب يهود المدينة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم يمتون إليهم لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض فنهوا عن ذلك. وروى ابن جرير أن بعضهم قال لما خافوا أن يدال للمشركين يوم أحد أن يلحق بفلان اليهودي فيتهود معه، وقال آخر إنه يلحق بفلان النصراني فيتنصر معه. وإن الآية نزلت في ذلك. وكان هؤلاء من المنافقين.
أقول : الظاهر أن الآيات نزلت بعد تلك الوقائع وغيرها مما ذكروا إن صحت الروايات. وإن معنى جعلها أسبابا لنزولها أنها نزلت في المعنى الذي ينتظمها، وهو النهي عن موالاة النصر والمظاهرة لهؤلاء الناس إذ كانوا حربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين وكانوا هم المعتدين في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل إلا من نصبوا أنفسهم لقتاله. ومعناها عام في كل حال كالحال التي نزلت فيها.
قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ﴾ علم مما سبق أن المراد بالولاية ولاية التناصر والمحالفة وقيده بعضهم بكونها على المؤمنين، وأن النهي لأفراد المسلمين وجماعاتهم دون جملتهم، وأنه يشمل المؤمنين الصادقين وغيرهم، لأنه مقدمة للإنكار على مرضى القلوب الذين يتخذون لهم اليد عندهم لعدم ثقتهم ببقاء الإسلام وثبات أهله. ولولا هذا لجوز أن يكون النهي لجملة المسلمين أيضا، لا لأن من أصول الدين أن لا يحالف أهله من يخالفهم فيه، كيف – وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالف يهود المدينة عقب الهجرة ؟ بل لأن القوم كانوا في حنق شديد على الإسلام، وحسد للعرب على ما آتاهم الله من فضله. فلا يوثق بوفائهم، بعد ما كان من خيانتهم وغدرهم، ولكن هذا غير مراد من الآية، بل السياق يدل على الوجه الأول وهو أن يوالي أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك اليهود والنصارى المعادين للنبي والمؤمنين ويعاهدونهم على التناصر من دون المؤمنين، رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم، إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم. ونكتة التعبير عنهم باليهود والنصارى دون أهل الكتاب هي أن معاداتهم للنبي والمؤمنين إنما كانت بحسب جنسياتهم السياسية لا من حيث إن كتابهم يأمرهم بذلك.
هذا النهي عن ولاية أهل الكتاب مثل النهي عن ولاية المشركين في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ﴾ [ الممتحنة : ١ ] الخ وقد نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى قريش يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حربهم لأن له عندهم مالا وأهلا فأراد أن يتخذ عندهم يدا لأجل حماية أهله. والنهي عن الشيء لسبب من الأسباب لا يتناول من لم يتحقق فيهم، ولا ينافي زوال النهي بزوال سببه. ولذلك قال تعالى بعد هذا النهي في هذه السورة ( الممتحنة ) ﴿ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة. والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ [ الممتحنة : ٧- ٩ ] فهذه الآيات نص صريح في كون النهي عن الولاية لأجل العداوة وكون القوم حربا. لا لأجل الخلاف في الدين لذاته، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حالف اليهود كتب في كتابه ( لليهود دينهم وللمسلمين دينهم )، كما أمره الله أن يقول لجميع المخالفين ﴿ لكم دينكم ولي دين ﴾ [ الكافرون : ٦ ].
وقد جعل المتأخرون من المفسرين – كالزمخشري والبيضاوي ومن تابعهما – الولاية بمعنى المودة وحسن المعاملة واستخدام المخالفين من أهل الكتاب. واستدلوا بحديث ( لا تتراءى ناراهما ) ١ ودعموا ذلك بأمر عمر ( رض ) لأبي موسى الأشعري بعزل كاتبه النصراني. والسياق يأبي ذلك كما تقدم. وقد حاول المتقدمون جعل النهي خاصا بمن نزل فيهم مع جعل الولاية ولاية النصرة. وما أبعد الفرق بين الفريقين.
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري ( والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله. وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وإن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما أراد اللحاق بذلك اليهودي والآخر بنصراني بالشام. ولم يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجته فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل. فإذا كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي علم عندنا بخلافه، غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك ) اه.
وقال البيضاوي في تفسير النهي عن اتخاذهم أولياء : فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. ( بعضهم أولياء بعض ) : إيماء إلى علة النهي، أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين واجتماعهم على مضادتكم ( ومن يتولهم منكم فإن منهم ) أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم. وهذا التشديد في وجوب مجانبتهم كما قال عليه الصلاة والسلام ( تتراءى ناراهما ) ٢ أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين، اه.
هكذا خص البيضاوي الولاية بمعاشرة المحبة والاعتماد على الأشخاص في الأمور. وهو خطأ تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرأ منه سبب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل كما علم مما تقدم. وسبب وقوع البيضاوي في مثل هذا الغلط اعتماده على مثل الكشاف في فهم الآيات دون الرجوع إلى تفاسير السلف. على أن صاحب الكشاف أرسخ منه في اللغة قدما، وأدق فهما وذوقا، ولذلك بدأ تفسير الولاية بقوله ( تنصرونهم وتستنصرونهم ) وهو المعنى الصحيح، وعطف عليه ولاية الإخوة والمودة، فأخذ البيضاوي المعنى الثاني بعبارة تستحق من النقد ما تستحق عبارة الزمخشري.
واخطأ كل منهما في إيراد حديث ( لا تتراءى ناراهما ) في هذا المقام، وكل منهما قليل البضاعة في علم الحديث. فالحديث ورد في وجوب الهجرة من أرض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنصرته، رواه أهل السنن – أما أبو داود فرواه من حديث جرير بن عبد الله وذكر أن جماعة لم يذكروا جريرا أي رووه مرسلا، وهو الذي اقتصر عليه النسائي. وأخرجه الترمذي مرسلا وقال : وهذا أصح. ونقل عن البخاري تصحيح المرسل. ولكنه لم يخرجه في صحيحه ولا هو على شرطه، والاحتجاج بالمرسل فيه الخلاف المشهور في علم الأصول. ولفظ الحديث : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر لهم بنصف العقل ( أي الدية ) وقال ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين – قالوا يا رسول الله لم ؟ قال - تتراءى ناراهما ) فيجعل لهم نصف الدية وهم مسلمون لأنهم أعانوا على أنفسهم وأسقطوا نصف حقهم بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وشدد في مثل هذه الإقامة التي يترتب عليها مثل ذلك من القعود عن نصر الله ورسوله.
والله تعالى يقول في أمثال هؤلاء ﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ ﴿ [ الأنفال : ٧٢ ] فنفى تعالى ولاية المسلمين غير المهاجرين إذا كانت الهجرة واجبة، فلأن ينفي ولاية اليهود والنصارى – وقد كانوا محاربين أيضا – أولى. فذكر هذا الحديث في تفسير هذه الآية لا يصح وضعه في الموضع الذي وضعه فيه الزمخشري والبيضاوي، وإنما يناسبه ما قلنا آنفا. فهو لا يدل – إذا صح الاحتجاج به – على ما ذكر من عدم معاشرة الكتابي والإقامة معه وإن كان ذا ذمة أو عهد. لا خوف من الإقامة معه ولا خطر، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع الصحابة في المدينة. وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامة. حتى أن عليا المرتضى لما تحاكم مع يهودي إلى عمر ( رضي الله عنهما ) وخاطبه عمر أمام خصمه اليهودي بالكنية ( يا أبا الحسن ) غضب وعاتب عمر أنه عظمه أما خصمه. وعمر لم يقصد التمييز على خصمه وإنما جرى لسانه بذلك لتعوده تكريم علي بمخاطبته بالكنية. على أن الحديث ورد في المشركين لا في أهل الكتاب، وقد فرق الشرع فيما بينهما في عدة مسائل. ألم تر أن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب والتزوج بنسائهم دون المشركين، وهو يقول في حكمة الزوجية وسرها { وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ [ الروم : ٢١ ] ؟
وقد جرى الذين يفسرون القرآن من المتأخرين تصنيفا وتدريسا على آثار البيضاوي، إذ هو الذي يدرس الآن في أكثر الأمصار الإسلامية. وقد اتفق أنني لما زرت مدرسة دار الفنون في الأستانة سنة ١٣٢٨ وطفت على حجرات المدرسين ألفيت مدرس التفسير يفسر هذه الآية، فلما قرر ما قاله البيضاوي قام أحد طلاب العلم من الترك وقال إذا كان الأمر كذلك فلماذا جعلت الدولة بعض الوزراء والأعيان والمبعوثين والموظفين من النصارى واليهود.. ؟ فارتج على المدرس وعرق جبينه – وناهيك بعقاب الحكومة العرفية العسكرية هنالك لمن يطعن في دستورها ! – فقلت للمدرس أتأذن لي أن أجيب هذا السائل ؟ قال نعم. فقمت فبينت لهم أن الولاية في الآية النصرة بنحو ما قدمته هنا، وأنها لا تدل على عدم جواز استخدام الدولة لغير المحاربين لنا، ولا هي من هذا السياق في شيء، فاقتنع السائل والسامع. وسر الأستاذ وسري عنه، وكان لهذا الجواب أحسن الوقع عند مدير قسم الإلهيات والأدبيات من المدرسة، وبلغه ناظر المعارف فارتاح إليه وأعجبه، فاقترح المدير عليه أن يقرر تدريس التفسير بالعربية – وكذلك الحديث – رجاء أن يعهد إلي به إن أقمت في الأستانة فأجابه إلى ذلك٣.
أما قوله تعالى :﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ فهو استئناف بياني سيق لتعليل النهي كما قالوا. ومعناه أن اليهود بعضهم أولياء وأنصار بعض، والنصارى بعضهم أولياء وأنصار بعض، لا أن اليهود أولياء وحلفاء النصارى، والنصارى أولياء وحلفاء اليهود، ولم يكن للمؤمنين منهم من ولي ولا نصير، إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد كما تقدمت الإشارة إليه، فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين، من غير أن يبدأهم بعدوان ولا قتال، كما علمت من عبارة ابن القيم السابقة.
وأما قوله :﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ الخ فهو وعيد لمن يخالف النهي، أي ومن ينصرهم ويستنصر بهم من دون المؤمنين وهم إبل واحد عليكم، فإنه في الحقيقة منهم لا منكم، لأنه معهم عليكم ولا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق. فهو إما موافق لم والاهم في عقيدتهم، أو في عداوتهم لمن والاهم عليهم. وعلى كلتا الحالتين يكون حكمه حكمهم. وقال ابن جرير : يقول فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض. وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى من خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه. اه. وبني على ذلك عد أهل العلم من الصحابة والتابعين [ كابن عباس والحسن ] بني تغلب من النصارى لموالاتهم لهم، وأجازوا أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم – وهم مشركون – لعدهم من النصارى. قال ابن عباس ( رض ) بعد أمره بأكل ذبائحهم وزواج نسائهم، وتلاوة الآية ﴿ لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم ﴾ وقد قيد ابن جرير الولاية بكونها لأجل الدين، كما كانت الحال في ذلك العصر، إذ قام المشركون وأهل الكتاب يعادون المسلمين ويقاتل
١ أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٥، والنسائي في القسامة باب ٦٧..
٢ تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل، راجع الحاشية السابقة..
٣ كنت في الاستانة وقتئذ اسعى لتأسيس دار الدعوة والإرشاد فيها كما يعلم القراء وكان مدير الإلهيات والأدبيات في دار الفنون إسماعيل حقي بك الأزميري من أجل علماء الترك وأوسعهم اطلاعا في العلوم العربية الإسلامية ولاسيما الكلام والأصول. وكان ناظر المعارف (امر الله) أفندي (المؤلف)..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٥١ ) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( ٥٢ ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ( ٥٣ ) ﴾.
من المعلوم في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود حين قدم المدينة وأقرهم على دينهم وأموالهم. وأثبت ذلك في الكتاب الذي كتبه في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وحقوق القبائل والبطون. ومما جاء في ذلك الكتاب :( وإنه من تبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ) ومنه في حقوق الحلف والولاء في الحرب :( وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم، وأنفسهم. إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ ( أي يهلك ) إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ) ثم أعطى مثل ما لبني عوف ليهود بني الحارث وساعدة وجشم والأوس وثعلبة – ومنهم جفنة – والشطنة.
قال ابن القيم في الهدي النبوي :( ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ويظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه. وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنه من دخل معهم في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين. وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى. فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن. وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة – بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر، وأظهروا البغي والحسد ).
ثم قال في فصل آخر ( ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر ) وبين كيف تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى من هذه السورة ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ﴾ [ المائدة : ١١ ] إذ ورد أن الآية نزلت في ذلك. ثم بين في فصل آخر أن قريظة كانت أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم نقضوا صلحه لما خرج إلى غزوة الخندق. وبين كيف حارب كل طائفة وأظهره الله عليها. فهذا هو السبب العام في النهي عن موالاة أهل الكتاب في هذه الآيات، وكان نصارى العرب – وكذا الروم بالطبع – حربا له كاليهود.
وأما السبب الخاص الذي ذكروه في سبب النزول فهاك ملخصه : اخرج رواة التفسير المأثور والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قنيقاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبث بأمرهم عبد الله ابن أبي بن سلول ( زعيم المنافقين ) وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم. وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي كان لعبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال :( أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ). قال : وفيه وفي عبد الله نزلت الآيات في المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ﴾ – إلى قوله – ﴿ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٦ ].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله : إن لي موالي من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أبي ( يا أبا الحباب ! أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه ) قال : إذن أقبل. فأنزل الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى...... ﴾ – إلا أن بلغ – ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة – في الآية – إنها نزلت في بني قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونه وقريشا ليدخلوهم حصونهم. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح، وفيها أن بعض المسلمين كانوا يكاتبون النصارى بالشام، وإن بعضهم كان يكاتب يهود المدينة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم يمتون إليهم لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض فنهوا عن ذلك. وروى ابن جرير أن بعضهم قال لما خافوا أن يدال للمشركين يوم أحد أن يلحق بفلان اليهودي فيتهود معه، وقال آخر إنه يلحق بفلان النصراني فيتنصر معه. وإن الآية نزلت في ذلك. وكان هؤلاء من المنافقين.
أقول : الظاهر أن الآيات نزلت بعد تلك الوقائع وغيرها مما ذكروا إن صحت الروايات. وإن معنى جعلها أسبابا لنزولها أنها نزلت في المعنى الذي ينتظمها، وهو النهي عن موالاة النصر والمظاهرة لهؤلاء الناس إذ كانوا حربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين وكانوا هم المعتدين في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل إلا من نصبوا أنفسهم لقتاله. ومعناها عام في كل حال كالحال التي نزلت فيها.
﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ﴾ اتفق رواة التفسير المأثور على نزول الآية في المنافقين، فهم الذين في قلوبهم مرض، أي إيمانهم معتل غير صحيح، إذ لم يصلوا فيه إلى مستقر اليقين، وكان عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ذا ضلع مع يهود بني قينقاع. وكان غيره من المنافقين يمتون إلى اليهود بالولاء والعهود، ويسارعون في هذه السبيل التي سلكوها، كلما سنحت لهم فرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها، فهم يسارعون في أعمال موالاتهم مسارعة الداخل في الشيء الثابت عليه، الراغب في ما يزيده تمكننا وثباتا، ولهذا قال ﴿ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ﴾ ولم يقل :" يسارعون إليهم ". فما عذر هؤلاء الذين يرددونه في أنفسهم، ويقولونه عند الحاجة بألسنتهم ؟
﴿ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾ أي نخشى أن تقع بنا مصيبة كبيرة مما يدور به الزمان، أو من المصائب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها. فنحتاج إلى نصرتهم لنا. فنحن نتخذ لنا يدا عندهم في السراء، ننتفع بها إذا مست الضراء. والمراد أنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين على المؤمنين – وكان اليهود عونا للمشركين على المؤمنين كما ظهر في وقعة بدر والأحزاب – فيحل بهم ما يحل بالمؤمنين من النقمة. ذلك بأنهم غير موقنين بوعد الله بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كله. لأنهم في شك من أمر نبوته، لم يوقنوا بصدقها ولا بكذبها. فهم يريدون أن ينتفعوا منها بإظهارهم الإيمان بها. وأن يتخذوا لهم يدا عليها لأعدائها ليكونوا معهم إذا دالت الدولة لهم.
وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان. وهو الذي جعل كثيرا من وزراء بعض الدول منذ قرن أو قرنين ما بين روسي وإنكليزي وألماني في سياسته، كل منهم يتخذ له يدا عند دولة قوية، يلجأ إليها إذا أصابته دائرة، حتى تغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة. فأضعفن استقلالها في بلادها. ويخشى ما هو أكبر من ذلك من خطر نفوذهن فيها، وحتى صار بعض رجالها الصادقين لها، يرون أنفسهم مضطرين إلى الاستعانة بنفوذ بعض هذه الدول على بعض. وأما الذين استعمر الأجانب بلادهم – بأي صورة من صور الاستعمار وأي اسم من أسمائه – فأمر منافقيهم أظهر، يتقربون إلى الأجانب بما يضر أمتهم فيما لم يكفوهم إياه، ويسمون هذا تأمينا لمستقبلهم. واحتياطا لمعيشتهم، ولو التزموا الصدق في أمرهم كله فلم يلقوا أمتهم بوجه والأجانب بوجه لكان خيرا لهم، وأقرب إلى الجمع بين مصلحة البلاد ومداراة الأجانب. ولكنه النفاق يخدع صاحبه، بما يظن صاحبه أنه يخدع به غيره، ويسلك سبيل الحزم لنفسه. وهو الذي يحمل بعض المنافقين الخائبين على نهب مال أمتهم ودولتهم، وإيداعه في مصارف أوربة لأجل التمتع به إذا دارت الدائرة على دولتهم.
قال الله تعالى ردا على المنافقين عصر التنزيل ﴿ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ أي فالرجاء بفضل الله تعالى وصدقه ما وعد به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بالفتح والفصل بين المؤمنين ومن يعاديهم من اليهود والنصارى، أو يأمر من عنده في هؤلاء المنافقين، كفضيحتهم أو الايقاع بهم، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه في أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين وتوقع الدائرة عليهم. فالفتح في اللغة : القضاء والفصل في الشيء، وهو يصدق بفتح البلاد وبغير ذلك. ومنه قوله تعالى حكاية ﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] وقوله :﴿ ويقولون متى هذا الفتح ﴾ [ السجدة : ٢٨ ] وقيل المراد فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله. ولا يصح هذا القول إلا إذا كانت الآيات نزلت قبل فتح مكة، مع الجزم بأن أوائل السورة نزلت بعد ذلك في حجة الوداع. ويمكن حينئذ أن يكون المراد بالفتح فتح بلاد اليهود في الحجاز كخيبر وغيرها. وفسر بعضهم الأمر من عنده بالجزية تضرب على أهل الكتاب. فينقطع أمل المنافقين منهم، ويندموا على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم.
وفسره بعضهم بالإيقاع باليهود وإجلائهم عن موطنهم. وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم، إما بالقهر، والإيجاف عليهم بالخيل والركاب [ كبني قريظة ] وإما بإلقاء الرعب في قلوبهم، حتى يعطوا بأيديهم [ كبني النضير ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي هاتين الآيتين من خبر الغيب ما هو صريح، وفي ( عسى ) هنا يصح قول المفسرين إن الرجاء من الله تعالى للتحقيق، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده، واعز جنده. وهزم الأحزاب وحده، فخذل الله الكافرين، وفضح المنافقين، وظهر تأويل الآيتين وما في معناهما وفقا لقوله ( والعاقبة للمتقين ) وفي القرآن كثير من أخبار الغيب التي يعبر عنها أهل الكتاب بالنبوات، وهي أصل عندهم في صدق الأنبياء، وهم مع ذلك يكابرون في نبوة خاتم النبيين. ويمارون في [ نبوته ] الظاهرة الصريحة الثابتة بالسند والدليل على تصديقهم ( بنبوات ) رمزية تختلف فيها وجوه التأويل، يرونا السهى فنريهم القمر، بل نريهم ما هو أضوأ من الشمس وأظهر، ﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له نور ﴾ [ النور : ٤٠ ].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٥١ ) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( ٥٢ ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ( ٥٣ ) ﴾.
من المعلوم في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود حين قدم المدينة وأقرهم على دينهم وأموالهم. وأثبت ذلك في الكتاب الذي كتبه في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وحقوق القبائل والبطون. ومما جاء في ذلك الكتاب :( وإنه من تبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ) ومنه في حقوق الحلف والولاء في الحرب :( وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم، وأنفسهم. إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ ( أي يهلك ) إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ) ثم أعطى مثل ما لبني عوف ليهود بني الحارث وساعدة وجشم والأوس وثعلبة – ومنهم جفنة – والشطنة.
قال ابن القيم في الهدي النبوي :( ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ويظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه. وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنه من دخل معهم في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين. وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى. فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن. وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة – بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر، وأظهروا البغي والحسد ).
ثم قال في فصل آخر ( ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر ) وبين كيف تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى من هذه السورة ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ﴾ [ المائدة : ١١ ] إذ ورد أن الآية نزلت في ذلك. ثم بين في فصل آخر أن قريظة كانت أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم نقضوا صلحه لما خرج إلى غزوة الخندق. وبين كيف حارب كل طائفة وأظهره الله عليها. فهذا هو السبب العام في النهي عن موالاة أهل الكتاب في هذه الآيات، وكان نصارى العرب – وكذا الروم بالطبع – حربا له كاليهود.
وأما السبب الخاص الذي ذكروه في سبب النزول فهاك ملخصه : اخرج رواة التفسير المأثور والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قنيقاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبث بأمرهم عبد الله ابن أبي بن سلول ( زعيم المنافقين ) وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم. وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي كان لعبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال :( أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ). قال : وفيه وفي عبد الله نزلت الآيات في المائدة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ﴾ – إلى قوله – ﴿ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٦ ].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله : إن لي موالي من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أبي ( يا أبا الحباب ! أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه ) قال : إذن أقبل. فأنزل الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى...... ﴾ – إلا أن بلغ – ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة – في الآية – إنها نزلت في بني قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونه وقريشا ليدخلوهم حصونهم. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح، وفيها أن بعض المسلمين كانوا يكاتبون النصارى بالشام، وإن بعضهم كان يكاتب يهود المدينة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم يمتون إليهم لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض فنهوا عن ذلك. وروى ابن جرير أن بعضهم قال لما خافوا أن يدال للمشركين يوم أحد أن يلحق بفلان اليهودي فيتهود معه، وقال آخر إنه يلحق بفلان النصراني فيتنصر معه. وإن الآية نزلت في ذلك. وكان هؤلاء من المنافقين.
أقول : الظاهر أن الآيات نزلت بعد تلك الوقائع وغيرها مما ذكروا إن صحت الروايات. وإن معنى جعلها أسبابا لنزولها أنها نزلت في المعنى الذي ينتظمها، وهو النهي عن موالاة النصر والمظاهرة لهؤلاء الناس إذ كانوا حربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين وكانوا هم المعتدين في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل إلا من نصبوا أنفسهم لقتاله. ومعناها عام في كل حال كالحال التي نزلت فيها.
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( يقول ) بالرفع على أنه كلام مبتدأ معطوف على ما قبله عطف الجمل. وقرأه ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعا بغير واو على أنه جواب سؤال تقديره : فماذا يقول المؤمنون حينئذ ؟ وقرأه أبو عمرو ويعقوب بالنصب عطفا على ( يأتي ) أي فعسى أن يأتي بالفتح وأن يقول الذين آمنوا حينئذ ﴿ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ﴾ أي يقول بعضهم لبعض متعجبين من عاقبة المنافقين : أهؤلاء الذين أقسموا بالله أغلظ الإيمان مجتهدين في توكيدها، إنهم منكم أيها المؤمنون وعلى دينكم، ومعكم في حربكم وسلمكم ؟ كما قال تعالى في سورة براءة التي فضحتهم ﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هو منكم ولكنهم قوم يفرقون ﴾ [ التوبة : ٥٧ ] أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقية ﴿ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ﴾ [ التوبة : ٥٨ ] أي يسرعون إسراع الفرس الجموع فرارا من الإسلام وأهله، وتواريا عنهم، واعتصاما منهم أو يقولون ذلك لليهود الذين كانوا يغترون بموالاة المنافقين ومودتهم السرية لهم، ويظنون أنهم إذا نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه يجدون منهم أعوانا وأنصارا بين المسلمين يقاتلون معهم، أو يوقعون الفشل والتخذيل في جيش المسلمين لأجلهم. كما قال تعالى في سورة الحشر ﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولا نطيع فيكم أحد أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ﴾ [ الحشر : ١١ ] الخ.
وقوله :﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ﴾ يحتمل أن يكون من حكاية قول المؤمنين، ويكون معناه بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفون نفاقا ليقنعوكم بأنهم منكم، كالصلاة والصيام والجهاد معكم، فخسروا ما كان يترتب عليها من الأجر والثواب لو صلح حالهم وقوي إيمانهم بها. قال الزمخشري وفيه معنى التعجيب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم وما أخسرها. ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل تعقيبا على قول المؤمنين. فهو شهادة منه تعالى بحبوط أعمالهم الإسلامية. إذ كانت تقية لا تقوى فيها ولا إخلاص، وبخسرانهم في الدنيا بعد الفضيحة، وفي الآخرة يوم الجزاء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي هاتين الآيتين من خبر الغيب ما هو صريح، وفي ( عسى ) هنا يصح قول المفسرين إن الرجاء من الله تعالى للتحقيق، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده، واعز جنده. وهزم الأحزاب وحده، فخذل الله الكافرين، وفضح المنافقين، وظهر تأويل الآيتين وما في معناهما وفقا لقوله ( والعاقبة للمتقين ) وفي القرآن كثير من أخبار الغيب التي يعبر عنها أهل الكتاب بالنبوات، وهي أصل عندهم في صدق الأنبياء، وهم مع ذلك يكابرون في نبوة خاتم النبيين. ويمارون في [ نبوته ] الظاهرة الصريحة الثابتة بالسند والدليل على تصديقهم ( بنبوات ) رمزية تختلف فيها وجوه التأويل، يرونا السهى فنريهم القمر، بل نريهم ما هو أضوأ من الشمس وأظهر، ﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له نور ﴾ [ النور : ٤٠ ].
هذه الآيات من تتمة السياق السابق، فلما كان من يتولى الكافرون من دون المؤمنين يعد منهم. كان أولئك الذين يسارعون فيهم من مرضى القلوب مرتدين بتوليتهم إياهم. فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق. ولما بين الله حالهم، أراد أن يبين حقيقة يدعمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل، وهي أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم، ولا يعتد بهم في نصر الدين وإقامة الحق، وإنما يقيم الله الدين ويؤيده بالمؤمنين الصادقين، الذين يحبهم الله فيزيدهم رسوخا في الحق وقوة على إقامته، ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل. وإتمام حكمته في الأرض، على سائر محبوباتهم، من مال ومتاع وأهل وولد. هذه هي الحقيقة. أما خبر الغيب فهو أنه سيرتد بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا فلا يضره ذلك، لأن الله تعالى يسخر له من ينصره ويجاهد لحفظه، فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ﴾ قرأ ابن عامر ونافع ( يرتدد ) بدالين والباقون يرتد بدال واحدة مشددة وهما لغتان. فلغة إظهار الدالين هي الأصل، ولغة الإدغام تشديد يراد به التخفيف. والمعنى أن من يرتد منكم يا جماعة الذين دخلوا في أهل الإيمان عن دينه لعدم لرسوخه، فسوف يأتي الله مكانهم أو بدلا منهم بقوم راسخين في الإيمان يحبهم ويحبونه الخ ما ذكره من صات المؤمنين الصادقين.
أخرج رواة التفسير المأثور عن قتادة، واللفظ لابن جرير – أنه قال : انزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس. فلما قبض الله نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد – أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من عبد القيس – قالوا ( أي المرتدون ) نصلي ولا نزكي، والله لا تغضب أموالنا. فكلم أبو بكر في ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها. فقال : لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه. ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه. فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة. فقاتلهم حتى أقروا بالماعون – وهي الزكاة – صغرة أقمياء ١ فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطة مخزية، أو حرب مجلية٢، فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يستعدوا أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال.
فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه على هذا هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة. ونقل المفسرون هذا القول عن علي المرتضى والحسن وقتادة والضحاك. ورووا عن السدي أنه قال : إنهم الأنصار لأنهم هم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل هم الفرس لحديث ورد في مناقب سلمان أنهم قومه، ولكنه ضعيف. وقيل نزلت في علي كرم الله وجهه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعد في خيبر بأن يعطي الراية غدا رجلا يحبه الله، ثم أعطاها عليا. وليس هذا بدليل، ولفظ القوم لا يجري على الواحد لأنه نص في الجماعة. وغلاة الرافضة يزعمون أن الذين ارتدوا عن دينهم هم أبو بكر ومن شايعه من الصحابة وهم السواد الأعظم فقلبوا الموضوع. ولكن عليا كان مع أبي بكر لا عليه ولم يقاتله. هذه دسيسة من زنادقة الفرس وساستهم الذين كانوا يريدون الانتقام من أبي بكر وعمر لفتحهما بلادهم. وإزالتهما لملكهم. وخيار مسلمى الفرس نصروا الإسلام فيدخلون في عموم الآية إذا جعلت لعموم من تتحقق فيهم تلك الصفات.
وروى أهل التفسير المأثور حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في القوم الذين يحبهم الله ويحبونه أنهم قوم أبي موسى الأشعري. وروي عن بعضهم أنهم من أهل اليمن على الإطلاق، والأشعريون من أهل اليمن. وفي رواية هم أهل سبأ. وفي حديث أخر ( هؤلاء قوم من أهل اليمن من كندة ثم من السكون ثم التجيب ).
وقد رجح ابن جرير أن الآية نزلت في قوم أبي موسى من أهل اليمن للحديث في ذلك، وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبي بكر. قال إن الله تعالى وعد بأن يأتي بخير من المرتدين بدلا منهم ولم يقل أنهم يقاتلون المرتدين. ورأى أنه يكفي في صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين، وأن مجيء الأشعريين على عهد عمر كان موقعه من الإسلام أحسن موقع. ولقائل أن يقول : إن الآية تصدق في كل من اتصف بمضمونها، ومن أشار إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن قاتلوا المرتدين هم أهلها بالأولى.
أما الذين ارتدوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده فكثيرون وقاتهلم كثيرون فكان كل مفسر يذكر قوما ممن حاربوا المرتدين ويحمل الآية عليهم لمرجح ما. فقد روى أهل السير والتاريخ أنه قد ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ثلاثة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الأولى : بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي. كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله، وأخبر رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقتله ليلة قتل، فسرّ به المسلمون، وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول.
الثانية : بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ابن حبيب. تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك. أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون. فقدم على النبي عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك، فحين قرأ صلى الله تعالى عليه وسلم كتابه قال لهما :( فما تقولان أنتما ) ؟ قالا نقول كما قال : فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ( أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ) ثم كتب إليه ( بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) وكان ذلك في سنة عشر، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشى قاتل حمزة رضي الله عنه وكان يقول : قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس. وقيل اشترك في قتله هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي، وضربه عبد الله بسيفه، وهو القائل في أبيات :
يسائلني الناس عن قتله *** فقلت : ضربت. وهذا طعَنْ
الثالثة : بنو أسد قوم طليحة بن خويلد، تنبأ فبعث أبو بكر رضي الله عنه إليه خالدا بن الوليد، فانهزم بعد القتال إلى الشام فأسلم وحسن إسلامه.
وارتدت سبع فرق في عهد أبي بكر : ١ فزارة قوم عيينه بن حصين. ٢– غطفان قوم قرة بن سلمة القشيري. ٣– بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل. ٤– بنو يربوع قوم مالك بن نويرة. ٥– بعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة. تنبأت وزوجت نفسها مسيلمة في قصة شهيرة وصح أنها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها. ٦– كندة قوم الأشعت بن قيس. ٧– بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد. وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وارتدت فرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم، تنصر ولحق بالشام ومات على ردته وقيل إنه أسلم. ويروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه : إن جبلة ورد إليّ في سراة قومه فأسلم فأكرمته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع عينيه، فاستعدى الفزاري على جبلة إلي فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال اتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقلت شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية. فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا. وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد :
تنصرت بعد الحق عارا للطمةٍ ولم يك فيها لو صبرتُ لها ضرَرْ
فأدركني منها لجاجُ حميَّةٍ فبعْتُ لها العينَ الصحيحةَ بالعورْ
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمرْ
فهؤلاء لم يقاتلهم أحد. وأبو بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من المهاجرين والأنصار، فهم الذين تصدق عليهم صفات الآية أو بالذات.
وصف الله هؤلاء الكملة من المؤمنين بست صفات :
الأولى : أنه تعالى يحبهم. فالحب من الصفات التي أسندت إلى الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فهو تعالى يحب ويبغض كما يليق بشأنه. ولا يشبه حبه حب البشر، لأنه لا يشبه البشر ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : ١١ ] وكذلك علمه لا يشبه علم البشر ولا قدرته تشبه قدرتهم. ولا نتأول حبه بالإثابة وحسن الجزاء كما تأولته المعتزلة وكثير من الأشاعرة، فرارا من التشبيه إلى التنزيه، إذ لا تنافي بين إثبات الصفات وتنزيه الذات، وإلا احتجنا إلا تأويل العلم والقدرة والإرادة، وهم لا يتأولونها، ولا يخرجون معانيها عن ظواهر ألفاظها. فمحبته تعالى لمستحقيها من عباده شأمن من شؤونه اللائقة به، لا نبحث عن كنهها وكيفيتها. وحسن الجزاء من المغفرة والإثابة قد يكون من آثارها، قال تعالى :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ [ آل عمران : ٣١ ] فجعل اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سببا لمحبة الله تعالى للمتبعين وللمغفرة. فكل من المحبة والمغفرة جزاء مستقل إذ العطف يقتضي المغايرة.
الصفة الثانية : أنهم يحبون الله تعالى. وحب المؤمنين الصادقين لله تعالى ثبت في آيات غير هذه من كتاب الله تعالى كقوله :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ] وقوله تعالى :﴿ قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ [ التوبة : ٩٥ ].
وفي حديث أنس المرفوع في الصحيحين ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله – وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار )٣ وحديثه الآخر في الصحيحين أيضا : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة ؟ قال :( ما أعددت لها ) ؟ قال : ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام إ أني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( المرء مع من أحب ) قال أنس ما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك٤.
وقد تأول هذا الحب بعض الناس أيضا فقالوا إن المراد به المواظبة على الطاعة إذ يستحيل أن يحب الإنسان إلا ما يجانسه. ويرد هذا قوله تعالى :{ أح
١ الصغرة، بالتحريك، جمع صاغرة – من الصغار بالفتح – وهو المهين الخاضع لغيره، وأقمياء جمع قميء وهو الذليل الضعيف..
٢ المشهور (بين حرب مخزية) الخ، وفي الأصل مجزية ومجلبة بدل مخزية وجلية. وهو غلط..
٣ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٩، ١٤، والإكراه باب ١، والأدب باب ٤٢، مسالم في الإيمان حديث ٦٦، والنسائي في الإيمان باب ٢ -٤، وابن ماجه في الفتن باب ٢٣، وأحمد في المسند ٣/ ١٠٣، ١١٤، ١٧٢، ٢٣٠، ٢٤٨، ٢٧٥، ٢٨٨..
٤ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب ٩٦، ومسلم في البر حديث ١٦٥، والترمذي في الزهد باب ٥°، والدعوات باب ٩٨، والدارمي في الرقاق باب ٧١، وأحمد في المسند ١/٣٩٢، ٣/ ١٠٤، ١١٠، ١٥٩، ١٦٥، ١٦٧، ١٦٨، ١٧٢، ١٧٣، ١٧٨، ١٩٢، ١٩٨، ٢٠٠، ٢٠٢، ٢٠٧، ٢١٣، ٢٢٢، ٢٢٧، ٢٢٨، ٢٥٥، ٢٥٥، ٢٦٨، ٢٧٦، ٢٨٣، ٢٨٨، ٣٣٦، ٣٩٤، ٤/١٠٧، ١٦٠، ٢٣٩، ٢٤١، ٣٩٢، ٣٩٥، ٣٩٥، ٤٠٥..
ثم بين سبحانه من تجب موالاتهم، بعد النهي عن تولي من تجب معاداتهم، فقال :﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾. أي ليس لكم أيها المؤمنون ناصر ينصركم إلا الله تعالى ورسوله وأنفسكم بعضكم أولياء بعض، فهو نفي لنصر من يسارع من مرضى القلوب في تولي الكفار من دون الله، وإثبات لنصر الله وولايته، ولنصر من يقيم دينه من الرسول والمؤمنين الصادقين. ولما كان لقب ( الذين آمنوا ) يشمل من أسلم في الظاهر وصف هؤلاء الأولياء بقوله :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ أي دون المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، والذين يأتون بصورة الصلاة دون روحها ومعناها، فإذا قاموا إليها قاموا كسالى، يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. فالمؤمنون الذين يقومون بحق الولاية هم الذين يقيمون الصلاة إقامة كاملة، بالآداب الظاهرة والمعاني الباطنة، والذين يعطون الزكاة مستحقيها وهم خاضعون لأمر الله تعالى طيبة نفوسهم بأمره، لا خوفا ولا رياء ولا سمعة. أو يعطونها وهم في ضعف ووهن لا يأمنون الفقر والحاجة. فاستعمل الركوع في المعنى النفسي لا الحسي، وهو التطامن والخشوع لله، أو الضعف وانحطاط القوى. قال في حقيقة الركوع من الأساس : وكانت العرب تسمي من آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعا ويقولون ( ركع إلى الله ) أي اطمأن إليه خالصا. قال النابغة :
سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ إلى ربه رب البرية راكع١
فهذا هو الشاهد على الوجه الأول. وقال في مجاز الركوع : وركع الرجل انحطت حاله وافتقر. قال :
لا تهن الفقير علَّكَ أن تر كع يوما والدهر قد رفعهْ٢
وفسره بعضهم بركوع الصلاة وهو الانحناء فيها، ورووا من عدة طرق أنها نزلت في أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه إذ مر به سائل وهو في المسجد فأعطاه خاتمه. ولكن التعبير عن المفرد بالذين آمنوا وعن إعطاء الخاتم ب( يؤتون الزكاة )، مما لا يقع في كلام الفصحاء من الناس، فهل يقع في المعجز من كلام الله، على عدم ملاءمته للسياق ؟
أما إفراد ( وليكم ) مع إسناد الجمع إليه فهو لبيان أن الوالي الناصر بالذات هو الله تعالى، كما قال :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] وأن ولاية الرسول والمؤمنين تبع لولايته. ولو قال : إن أولياءكم الله ورسوله والذين آمنوا – لما أفاد هذا المعنى، لأن هذا التعبير لا يدل على تفاوت ما بين المعطوف والمعطوف عليه، وهل يستوي الخالق والمخلوق، والرب المالك والعبد المملوك ؟
١ البيت من الطويل، وهو للنابغة الذبياني في ملحق ديوانه ص ٢٣٧، وأساس البغة (ركع)، تاج العروس (ركع)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٢/٣١٢..
٢ البيت من المنسرح، وهو للأضبط بن قريع في الأغاني ١٨/ ٦٨، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٥١، وتاج العروس (ركع)، وب نسبة في الإنصاف ١/، ٢٢١، وشرح ابن عقيل ص ٥٥٠، ولسان العرب (قنس)، (ركع)، (هون)..
﴿ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ أي إذا كان الله هو وليكم وناصركم، وكان الرسول والذين آمنوا أولياء لكم بالتبع لولايته، فهم بذلك حزب الله تعالى، والله ناصر لهم. ومن يتول الله تعالى بالإيمان به والتوكل عليه، ويتول الرسول والمؤمنين بنصرهم وشد أزرهم، بالاستنصار بهم دون أعدائهم، فإنهم هم الغالبون فلا يغلب من يتولاهم، لأنهم حزب الله تعالى. ففيه وضع المظهر موضع الضمير. ونكتته بيان علة كونهم هم الغالبين.
وقد استدلت الشيعة بالآية على ثبوت إمامة علي بالنص بناء على ما روي من نزول الآية فيه. وجعلوا الوالي فيها بمعنى المتصرف في أمور الأمة، وقد بينا ضعف كون المؤمنين في الآية يراد به شخص واحد، وعلمنا من السياق أن الولاية هاهنا ولاية النصر لا ولاية التصرف والحكم، إذ لا مناسبة له في هذا السياق. وقد رد عليهم الرازي وغيره بوجوه. وهذه المجادلات ضارة غير نافعة، فهي التي فرقت الأمة وأضعفتها فلا نخوض فيها. ولو كان في القرآن نص على الإمامة لما اختلف الصحابة فيها، أو لاحتج به بعضهم على بعض. ولم ينقل ذلك.
نهى الله تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين معللا له بأن بعضهم أولياء بعض لا يوالي المؤمنين منهم أحد، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمؤمنين. ثم أعاد النهي عن اتخاذهم أولياء واصفا إياهم بوصف آخر مما كانوا يؤذون به المؤمنين ويقاومون دينهم، وعطف عليهم الكفار والمراد بهم مشركو العرب – فقال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائي ( الكفار ) بالجر عطفا على ( الذين أوتوا الكتاب ) والباقون بالنصب عطفا على ( الذين اتخذوا )، والفرق بينهما أن قراءة الجر تفيد أن الكفار أي المشركين الذين اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا لا تباح ولايتهم. وقراءة النصب تفيد أن جميع المشركين لا يتخذون أولياء بحال من الأحوال. وأما أهل الكتاب فإنما ينهى عن موالاتهم لوصف فيهم ينافي الموالاة. كاتخاذهم دين الإسلام هزؤا ولعبا أي شيئا يمزح به ويسخر منه. فلا تنافي بين القراءتين. ولكن قراءة النصب فيها زيادة معنى. وحكمة قراءة الجر أنه كان يوجد من المشركين من يهزأ بدين الإسلام ويعبث به، فقراءة الجر نص في النهي عن موالاة هؤلاء لوصفهم هذا. وقراءة النصب لإفادة النهي عن موالاة جميع المشركين، لأن موالاة المسلمين لهم بعد أن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا تكون قوة لهم، وإقرارا على شركهم، الذي جاء الإسلام لمحوه من جزيرة العرب.
وأما أهل الكتاب فسياسة الإسلام فيهم غير سياسته في مشركي العرب، ولذلك أجاز في هذه السورة – وهي من آخر ما نزل من القرآن – أكل طعامهم ونكاح نسائهم، وشرع في سورة التوبة قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم، ونهى في سورة العنكبوت عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن. وفي الآية تمييزهم على المشركين في إطلاق اللقب، إذ خصمهم في المقابلة بلقب أهل الكتاب، ولقب المشركين بالكفار. كما يعبر عنهم في آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا. لأنهم لوثنيتهم عريقون في الكفر والشرك وأصلاء فيه. وأما أهل الكتاب فكان قد عرض الشرك والكفر للكثيرين منهم عروضا وليس من أصل دينهم، ثم لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ازداد المعاندون منهم كفرا بجحود نبوته وإيذائه.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي واتقوا الله في أمر الموالاة فلا تضعوها في غير موضعها، فينقلب الغرض إلى ضده، فتكون وهنا لكم لا نصرا – وكذا في سائر الأوامر والنواهي – إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم تحفظون كرامته، وتتجنبون مهانته.
﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ﴾ أي وإذا أذن مؤذنكم بالدعوة إلى الصلاة جعلنا أولئك الذين نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين من الأمور التي يهزؤن ويلعبون بها، ويسخرون من أهلها ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ حقيقة الدين، وما يجب لله تعالى من الثناء والتعظيم. ولو كانوا يعقلون ذلك لخشعت قلوبهم كلما سمعوا مؤذنكم يكبر الله تعالى ويوحده بصوته الندي، ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره. والآية تدل على شرع الأذان فهو ثابت بالكتاب والسنة معا، خلافا لما يوهمه حديث الأذان.
روينا وسمعنا من بعض النصارى المعتدلين في بلادنا كلمات الثناء والاستحسان لشعيرة الأذان من شعائر الإسلام، وتفضيلها على الأجراس والنواقيس المستعملة عندهم، وقد كان جماعة من بيوتات نصارى طرابلس مصطافين في بلدنا ( القلمون ) فكان النساء يجتمعن مع الرجال في النوافذ عند أذان المؤذن – لاسيما أذان الصبح – ليسمعوا أذانه، وكان المؤذن ندي الصوت حسنه. واتفق أن غاب المؤذن يوما فأذن رجل قبيح الصوت. فلقي والدي رب بيت تلك البيوتات فقال له : إن مؤذنكم اليوم يستحق المكافأة ؟ ! قال الوالد بماذا ؟ قال بانه أرجع أهل بيتنا إلى دينهم بعد أن صاروا مسلمين بأذان الأول. وأنا أتذكر أن بعض صبيانهم حفظ الأذان وصار يقلده تقليد استحسان فتغضب والدته منه، وتنهاه عن الأذان، وأما والده فكان يضحك ويسر لأذان ولده، لأنه كان على حرية وسعة صدر، و يدين بالنصرانية. فالأذان ذكر مؤثر لا تخفى محاسنه على من يعقل الدين، ويؤمن بالله العلي الكبير، و على غيرهم من العقلاء.
وقد روي في التفسير المأثور عن السدي أنه قال في تفسير الآية : كان رجل من النصارى في المدينة إذا سمع المنادي ينادي ( أشهد أن محمدا رسول الله ) قال : أحرق الكاذب. [ دعاء عليه بالحريق ] فدخلت خادمته ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله. ووجود النصارى في المدينة كان نادرا وأكثر هذا الاستهزاء كان يكون من اليهود كما يعلم من رد الله تعالى عليهم في هذه الآيات التالية : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ الاستفهام للإنكار والتبكيت أي قل أيها الرسول مخاطبا ومحتجا على أهل الكتاب دون المشركين : هل تنقمون منا شيئا، أي هل عندنا شيء تنكرونه وتعيبونه علينا وتكرهوننا لأجله لمضادتكم إيانا فيه، إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده وتنزيهه وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزله إلينا وبما أنزله من قبل على رسله ؟ أي عندنا سوى ذلك وهو يعاب و ينقم، بل يمدح صاحبه ويكرم، - وألا إن أكثركم فاسقون، أي خارجون من حظيرة هذا الإيمان الصحيح الكامل، وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة ؟ فلذلك تعيبون الحسن من غيركم، وترضون القبيح من أنفسكم.
يقال نقم منه كذا ينقم ( كضرب يضرب ) إذا أنكره عليه بالقول والفعل وعابه به وكرهه لأجله. وهو من مادة النقمة وهي كراهة السخط، والعقاب المرتب عليها. ويقال ( نقم ينقم ) ( بوزن علم يعلم ) والمستعمل في القرآن الأول.
روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال : أتى رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وعاري وزيد وخالد وأزار بن أبي أزار وواسع، فسألوه عمن يؤمن من الرسل فقال :( أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به. فأنل الله فيهم ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ الخ. والمعنى أن الآية تتناول هؤلاء أولا وبالذات، وتعم كل ناقم من المسلمين.
وفي قوله تعالى :( وأكثركم فاسقون ) ما نبهنا على مثله من دقة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب إذ يحكم على الكثير أو الأكثر، وما عم إلا واستثنى. وقد كان ولا يزال في أهل الكتاب أناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل والخير. وهؤلاء هم الذين كانوا يسارعون إلى الإسلام إذا عرفوه بقدر نصيب كل من جوهر الدين ونور البصيرة. وهذا لا ينافي ما كان من طروء التحريف على دينهم، ونسيان حظ ونصيب مما نزل إليهم.
﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ ﴾ ؟ المثوبة كالمقولة من ثاب الشيء يثوب ثاب إليه، إذا رجع، فهي الجزاء والثواب. واستعماله في الجزاء الحسن أكثر، وقيل استعماله في الجزاء السيئ تهكم. والمعنى هل أنبئكم يا معشر المستهزئين بديننا وأذاننا بما شر من عملكم هذا ثوابا وجزاء عند الله تعالى ؟ وهذا السؤال يستلزم سؤالا منهم عن ذلك، وجوابه قوله تعالى :﴿ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾. أي أن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء عند الله هو عمل من لعنه الله. أو جزاء من لعنه الله الخ فهو على حد قوله تعالى :﴿ ولكن البر من اتقى ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] وقوله :﴿ ولكن البر من آمن بالله ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] وفي هذا التعبير وجه آخر وهو : هل أنبئكم بشر من أهل العمل مثوبة عند الله ؟ هم الذين لعنهم الله الخ. كما تقول في تفسير الآية الأخرى : ولكن ذا البر من اتقى.
انتقل بهذه الآية من تبكيت اليهود وإقامة الحجة على هزؤهم ولعبهم بما تقدم إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، بما فيه التذكير بسوء حالهم مع أنبيائهم، وما كان من جزائهم على فسقهم وتمردهم، بأشد ما جازى الله تعالى به الفاسق الظالمين لأنفسهم، وهو اللعن والغضب والمسخ الصوري أو المعنوي وعبادة الطاغوت، وقد عظم هذا المعنى بتقديم الاستفهام عليه، المشوق إلى الأمر العظيم المنبإ عنه.
أما لعن الله لهم فهو مبين مع سببه في عدة آيات من سور البقرة والنساء. وقد تقدم تفسيره. وكذا هذه السورة ( المائدة ) فسيأتي في غير هذه الآية خبر لعنهم. ومنها أنهم لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام. وبعض ذلك اللعن مطلق وبعضه مقيد بأعمال لهم، كنقض الميثاق، والفرية على مريم العذراء، وترك التناهي عن المنكر. ومنه لعن أصحاب السبت أي الذين اعتدوا فيه، وقد ذكر في سورة البقرة مجملا، وسيأتي في سورة الأعراف مفصلا.
والغضب الإلهي يلزم اللعنة وتلزمه، بل اللعنة عبارة عن منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه، وتقدم تفسير كل منهما.
وأما جعله منهم القردة والخنازير فتقدم في سورة البقرة وسيأتي في سورة الأعراف. قال تعالى في الأولى :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ [ البقرة : ٦ ] وقال بعد بيان اعتدائهم في السبت من الثانية :﴿ فلما عتوا عما نهو عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ [ الأعراف : ١٦٥ ] وجمهور المفسرين على أن معنى ذلك على أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير حقيقة، وانقضوا، لأن الممسوخ لا يكون له نسل كما ورد. وفي الدر المنثور ( أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله :( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا ) فالمراد على هذا أنهم صاروا كالقردة في نزواتها، والخنازير في إتباع شهواتها. وتقدم في تفسير آية البقرة وترجيح هذا القول من جهة المعنى بعد نقله عن مجاهد من رواية ابن جرير.
قال :( مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا ) ولا عبرة برد ابن جرير قول مجاهد هذا وترجيحه القول الآخر فذلك اجتهاده، وكثيرا ما يرد به قول ابن عباس والجمهور. وليس قول مجاهد بالبعيد من استعماله اللغة. فمن فصيح اللغة أن تقول : ربي فلان الملك قومه أو جيشه على الشجاعة والغزو، فجعل منهم الأسود الضواري، وكان له منهم الذئاب المفترسة.
وأما قوله تعالى :( وعبد الطاغوت ) ففيه قراءتان سبعيتان متواترتان وعدة قراءات شاذة. قرأ الجمهور ( عبد ) بالتحريك على أنه فعل ماض من العبادة، و ( الطاغوت ) بالنصب مفعوله، والجملة على هذا معطوفة على قوله :( لعنه الله ) أي هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند ذلك ؟ هم من لعنه الله وغضب عليه الخ ومن عبد الطاغوت. وقرأ حمزة ( وعبد ) بفتح العين والدال وضم الباء، وهو لغة في ( عبد ) بوزن ( بحر ) واحد العبيد. وقرأ ( الطاغوت ) بالجر بالإضافة. وهو على هذا معطوف على [ القردة ] أي وجعل منهم عبيد الطاغوت، بناء على أن عبدا يرد به الجنس الواحد. كما تقول : كاتب السلطان يشترط فيه كذا كذا. وقد تقدم أن الطاغوت اسم فيه معنى المبالغة من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد المشروع والمعروف إلى الباطل والمنكر، فهو يشمل كل مصادر طغيانهم، وخصه بعض المفسرين بعبادة العجل، ولا دليل على التخصيص.
﴿ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من المخازي والشنائع شر مكانا إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار – أو المراد بإثبات الشر لمكانهم وإثباته لأنفسهم من باب الكناية، الذي هو كإثبات الشيء بدليله – وأضل عن قصد طريق الحق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. ومن كان هذا شأنه يحمله على الاستهزاء بدين المسلمين وصلاتهم وأذانهم واتخاذهم هزؤا ولعبا إلا الجهل وعمى القلب.
﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا ﴾ الكلام في منافقي اليهود الذين كانوا في المدينة جوارها. أي ذلك شأنهم في حال البعد عنكم، وإذا جاؤوكم قالوا للرسول ولكم إننا آمنا بالرسول وما أنزل عليه ﴿ وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾ أي والحال الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم متلبسين بالكفر، وهم أنفسهم قد خرجوا متلبسين به، فحالهم عند خروجهم هي حالهم عند دخولهم، لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول ما نزل من الحق، ولكنهم يخادعونكم – كما قال تعالى في آية البقرة :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلى بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ﴾ [ البقرة : ٧٥ ].
﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ﴾ عند دخولهم من قصد تسقط الأخبار، والتوسل إليه بالنفاق والخداع، وعند خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء منم قومهم كما تقدم قريبا في تفسير ﴿ سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ﴾ [ المائدة : ٤١ ] ونكتة قوله ( وهم قد خرجوا به ) هي تأكيد كون حالهم في وقت الخروج كحالهم في وقت الدخول، وإنما احتاج هذا التأكيد لمجيئه على خلاف الأصل لأن من كان يجالس الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يسمع من العلم والحكمة ويرى من الفضائل ما يكبر في صدره ويؤثر في قلبه حتى إذا كان سيئ الظن رجع عن سوء ظنه – وأما سيء القصد فلا علاج له – وقد كان يجيئه الرجل يريد قتله، فإذا رآه وسمع كلامه آمن به وأحبه. وهذا هو المعقول الذي أيدته التجربة. وإنما شذ هؤلاء وأمثالهم، لأن سوء نيتهم وفساد طويتهم قد صرفا قلوبهم عن التذكر والاعتبار، ووجها كل قواهم إلى الكيد والخداع، والتجسس وما يراد به، فلم يبق لهم من الاستعداد ما يعقلون به تلك الآيات ويفقهون مغزى الحكم والآداب. ﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ﴾ [ الأحزاب : ٤ ].
﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ﴾ أي ترى أيها الرسول أو أيها السامع كثيرا من هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دين الحق هزؤا ولعبا يسارعون فيما هم فيه من قول الإثم وعمله، وهو كل ما يضر قائله وفاعله في دينه ودنياه. وفي العدوان وهو الظلم وتجاوز الحقوق والحدود الذي يضر الناس. وفي أكل السحت وهو الدنيء من المحرم – كما تقدم – ولم يقل : يسارعون إلى ذلك لأن المسارع إلى الشيء يكون خارجا عنه فيقبل عليه بسرعة، وهؤلاء غاقون في الإثم والعدوان، وإنما يسارعون في جزئيات وقائعهما، كلما قدروا على إثم أو عدوان ابتدروه ولم ينوا فيه ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ تقبيح للعمل الذي كانوا يعملونه في استغراقهم في المعاصي المفسدة لأخلاقهم وللأمة التي يعيشون فيها إن لم تنههم وتزجرهم، على أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلم يكن يقوم به أحد منهم، لا العلماء ولا العباد إذ كان الفساد قد عم الجميع. ولذلك قال :﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾
﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ أي هلا ينهى هؤلاء المسارعين فيما ذكر أئمتهم في التربية والسياسة وعلماء الشرع والفتوى فيهم، عن قول الإثم كالكذب، وأكل السحت كالرشوة ! لبئس ما كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار، من الرضى بهذا الأوزار، وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. روي عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا السوء الذين أضاعوا الدين وأفسدوا الأمة بترك هذه الفريضة ؟ ومن العجائب أننا نقرأ توبيخ القرآن لعلماء اليهود على ذلك، ونعلم أن القرآن أنزل موعظة وعبرة. ثم نعتبر بإهمال علمائنا لأمر ديننا. وعناية علمائهم في هذا العصر بأمر دينهم ودنياهم ! ! وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
ومن مباحث البلاغة في التعبير التفرقة بين يعلمون ويصنعون. قال الراغب : الصنع إجادة الفعل فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعا، ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب الفعل اه، وقال غيره : الصنع أخص من العمل فهو ما صار ملكة منه، والعمل أخص من الفعل، لأنه فعل بقصد. وقال في الكشاف : كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل يسمى صانعا ولا كل عمل يسمى صناعة، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وكان المعنى في ذلك أن موقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره فإذا فرط في الإنكار كان أشد إثما من المواقع اه. والذي أفهمه أن معاصي العوام من قبيل ما يحصل بالطبع، لأنه اندفاع مع الشهوة بلا بصيرة، ومعصية العلماء بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف من قبيل الصناعة المتكلفة لفائدة للصانع فيها يلتمسها ممن يصنع له. وما ترك العلماء النهي عن المنكر وهم يعملون ما أخذهم الله عليهم من الميثاق إلا تكلفا لإرضاء الناس، وتحاميا لتنفيرهم منهم، فهو إيثار لرضاهم على رضوان الله وثوابه. والأقرب أن يكون من الصنع – لا من الصناعة، وهو العمل الذي يقدمه المرء لغيره يرضيه به.
لما أسرفت يهود المدينة ما حولها في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فضلهم على مشركي قومه، وأقرهم على دينهم وما في دينهم وما في أيديهم، بين الله تعالى له مخازيهم التي يشهد بها تاريخهم وكتب دينهم، وما كان من تأثيرها في أخلاق المعاصرين له وأعمالهم. ثم عطف على ما تقدم من ذلك قولا فظيعا قاله بعضهم يدل على الجرأة على الله تعالى فيهم، الذي هو ترك التناهي عن المنكر فيما بينهم، فقال :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ هذا القول الفظيع من شواهد قولهم الإثم الذي أثبته فيما قبل هذه الآية. وقد عزي إليهم – وهو واحد أو آحاد منهم – لأنه أثر ما فشا فيهم من الجرأة على الله وترك إنكار المنكر – كما قلنا آنفا – والمقر للمنكر شريك الفاعل له، وهذا هو وجه وصل هذه الآية بما قبلها.
روى ابن إسحاق والطبراني في الكبير وابن مردويه وعن ابن عباس : قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق. فأنزل الله ( قامت اليهود ) الآية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت في فنحاص رأس يهود بني قنيقاع. وروى ابن جرير مثله عن عكرمة. وروى عن مجاهد أنهم قالوا : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره – أو حتى أن يده إلى نحره. فعلى هذا يكون مرادهم أنه ضيق عليهم الرزق. كأنهم اعتذروا بهذا عن انفاق كان يطلب منهم. أو في حال جدب أصابهم. قيل : كانوا أغني الناس فضاق عليهم الرزق بعد مقاومتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم – وروى عن السدي في قولهم ومرادهم – قالوا : إن الله وضع يده على صدره فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا. وروى عن ابن عباس في معنى عبارتهم أنه قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوا كبير. فجعل العبارة ابن عباس من باب الكناية لا من باب الحقيقة.
وقد جعل أهل الجدل الآية من المشكلات لأن يهود عصره ينكرون صدور هذا القول عنهم، ولأنه يخالف عقائدهم ومقتضى دينهم. ومما قالوه في حل الإشكال : إنهم قالوا ذلك على سبيل الإلزام، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] قالوا : من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين، بل قالوا ما هو أبعد من هذا في تعليل قولهم والخرص في بيان مرادهم منه، وما هذا إلا غفلة عن جرأة أمثالهم في كل عصر، على مثل هذا القول البعيد عن الأدب بعد صاحبه عن حقيقة الإيمان، ممن ليس لهم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد القشرية، فلا إشكال في صدوره عن بعض المجازفين من اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان أكثرهم فاسقين فاسدين.
وطالما سمعنا ممن يعدون من المسلمين في عصرنا مثله في الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق، وفي إبان المصائب. وعبارة الآية لا تدل على أن هذا القول يقوله جميع اليهود في كل عصر، حتى يجعل إنكار بعضهم له في بعض العصور وجها للإشكال في الآية، وإنما عزاه إلى جنسهم لما ذكرناه آنفا، على أن الناس في كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعونه من بعض أفرادهم إذا كان مثله لا ينكر فيهم، والقرآن يسند إلى المتأخرين ما قاله وفعله سلفهم منذ قرون، بناء على قاعدة تكافل الأمة وكونها كالشخص الواحد. ومثل هذا الأسلوب مألوف في كلام الناس أيضا.
واليد تطلق في اللغة على عدة معان : يقول أهل البيان إن بعضها حقيقة وبعضها من المجاز أو الكناية، فتطلق على الجارحة وعلى النعمة والقدرة والملك والتصرف وغير ذلك. رأى أهل التأويل بأن هذه الآية يجب تأويلها لأن اليد بمعنى الجارحة مما يستحل نسبته إلى الله تعالى، ويقول بعض أهل التفويض : بل نثبت له اليد وننزهه عن لوازم هذا الإطلاق من مشابهة الناس، وتفسير ابن عباس- إمام مفسري السلف والخلف – للآية يدل على أنها ليست مما يجري فيه الخلاف بين الخلف والسلف في التأويل والتفويض. لأن استعمال غل اليد في البخل وبسطها في الجود معروف في اللغة مألوف، ومنه قوله تعالى :﴿ و تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و تبسطها كل البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] ولا يقول أحد يفهم اللغة أن هذا من إخراج اللفظ عن ظاهره المسمى عندهم بالتأويل ؟
أما قوله تعالى :﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا ﴾ وهو دعاء عليهم يناسب جرمهم هذا، وجزاء لهم بالطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين. قد جاء على طريقة الاستئناف البياني لأنه مما تستشرف له النفوس وتتساءل عنه بالفعل أو بالقوة. والمشهور من معنى ( غلت أيديهم ) أمسكت أيديهم وانقبضت عن العطاء والإنفاق في سبيل البر والخير. وهو دعاء عليهم بالبخل ؛ وما زالوا أبخل الأمم فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا، إلا إذا كان يرى أنه له من وراءه ربحا. وقد حسنت أحوالهم في هذا الزمان، وارتقت معارفهم وحضارتهم في كثير من البلاد، وتربوا في أمم من الإفرنج صار من تقاليدهم الاجتماعية بذل المال لمعاهد العلم والملاجئ والمستشفيات والجمعيات الخيرية، وهم على كونهم أغنى من هذه الأمم مضطرون لمجاراتها لا يبذلون إلا دون ما يبذل غيرهم من الإعانات الخيرية، بل هم على شدة تكافلهم واستمساكهم بالعصبية الملية فيما بينهم، قلما يساعد أغنيائهم فقراءهم بالصدقة الخالصة لوجه الله تعالى واجبا في الخير، بل يتاجرون ويرابون بالإعانات، فيعطون الفقراء مالا على أن يعملوا به في تجارة أو غيرها، بشرط أن يردوه في مدة معينة مع ربا قليلة في الغالب.
وقيل : إن المراد بغل الأيدي ربطها إلى الأعناق بالإغلال في الدنيا أو في النار أو فيهما. نقل عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذا الغل : يغلون في الدنيا صار وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم. وقال في تفسير اللعنة : عذبوا في في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. حكاه عنه نظام الدين النيسابوري في تفسيره. وأورد واقعة بهذا المعنى حدثت في زمنه قال : ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلالا من اليهود يسمى بسعد الدولة – وهو من أشقى الناس – كان سمع بهذه الآية، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية، ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين. وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله، ثم قال : أين هذه الآية ؟ - يعني قوله :( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) وأروه إياه فمحاها. فلم يمض إلا أسبوع إلا وقد سخط السلطان عليه وبعث في طلبه وأمر بغل يديه، فغلوه وحملوه إليه وأمر بقتله. اه.
والمراد أن السلطان غضب عليه بسبب من أسباب شقاوته التي عرف بها لا بسبب إعتدائه وتشويهه للمصحف، لأن السلطان لم يعلم بذلك، ولأجل هذا عد المصنف الإيقاع به من معجزات القرآن. وإنما عجزنا نحن في هذه الحكاية من تساهل المسلمين في عهد الحكومة العباسية كيف وصل إلى هذا الحد، رجل من أشقياء اليهود أهل النفوذ يجيء بغداد فينزل في مدرسة من أشهر المدارس الإسلامية ويكون له حرية التصرف فيها والعبث بكتبها ما يمكنه من تشويه مصحف أثري كان أحسن المصاحف التي حفظها التاريخ في بغداد ؟ فليعتبر هذا التسامح المعتبرون.
ثم رد عليهم تعالى بقوله :﴿ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ﴾ أي بل هو صاحب الجود الكامل، والعطاء الشامل، عبر عن ذلك ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في عطاء جهد استطاعته يعطيه بكلتا يديه. وصفوه بغاية البخل والإمساك. فأبطل قولهم وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء. ولا غرو فكل ما يتقلب العالم كله من الخير والنعم، هو سجل من ذلك الجود والكرم، والنكتة في قوله :﴿ كيف يشاء ﴾ بيان أن تقتير الرزق على بعض العباد، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع، لا ينافي سعة الجود، وسريانه في كل الوجود ؛ فإنه له – سبحانه – الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق، بحسب السنن التي أقام بها سنن الخلق، والعجب من الإمام الجليل أبي جعفر بن جرير الطبري كيف صور استعمال لفظ اليد هنا أحسن تصوير، ثم خفيت عنه نكتة تثنيته فجعلها حجة المفوضة على أهل التأويل، ونحن معه في إثبات الصفة، ننعي على المؤولين النفاة، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم نكتة تثنية اليد، من استعمال لفظها المفرد، قال ابن جرير بعد تفسير غل اليد بالإمساك وحبس العطاء عن الاتساع ما نصه :" وإنما وصف – تعالى ذكره – اليد بذلك والمعنى العطاء، الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشح وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل :
يداك يدا جود فكف مفيدة كف إذا مما ضن بالزاد تنفق١
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من انفاق وإفادة إلى اليد، ومثل ذلك في كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن تحصى، فخاطبهم الله بما يتعارفونه أو يتحاورونه بينهم في الكلام " اه. ثم لما ذكر قول من قال من أهل الجدل إن يد الله نعمته أو قدرته أو ملكه، وقول من قال إن يد الله صفة من صفاته غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم، رد القول الأول ورجح الثاني بتثنية اليد وعدم إفرادها، وإبطال قول من قال : إن التثنية بمعنى الجمع.
نعم إن التثنية ليست بمعنى الجمع، اليد واليدين لم يقصد بلفظهما النعمة و القوة و الملك، وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم، وليس في هذا القول المروي عن ابن عباس تأويل، ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى، وما سبب ذهول ابن جرير عن نكتة التثنية إلا توجهه إلى الرد على أهل الجدل في المذهب الذي كانوا انتحلوه في تأويل الصفات، ومتى وجه الإنسان همه إلى شيء يكون له منه حجاب ما عن غيره. وتقرير الحقيقة لذاتها، غير الرد على من يعدون من خصومها، ﴿ وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ﴾ [ الأحزاب : ٤ ] ولهذا غلظ كثير من أنصار مذهب السلف في مسائل خالفوا فيها من حيث يريدون تأييده. وهذه آفة من آفات عصبية المذاهب لا تنفك عنها.
﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أن هذا الذي أنزلناه عليك من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك ومن أحوال سلفهم وشؤون كتبهم وحقائق تاريخهم، هو من أعظم الحجج والآيات على نبوتك، فكان ينبغي أن يجذبهم الإيمان بك، لأنك لولا النبوة والوحي لما علمت من ذلك شيئا – لا من ماضيه لأنك أمي لم تقرأ الكتب، وما كل من قرأها يعلم كل ما جئت به عنهم – ولا من حاضره لأنه من خفايا مكرهم وأسرارهم كيدهم – ولكنهم لتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب، والعصبية الجنسية لأنفسهم، لا بجذبهم ذلك إلى الإيمان ولا يقربهم منه إلا قليلا منهم، والله ليزيدن كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك وكفرا بما جئت به. قال قتادة : حملهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعرب على أن كفروا به – وفي رواية : على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه – وهم يجدونه مكتوبا عندهم. فعلم مما شرحناه أن زيادة طغيان الكثيري
١ البيت في ديوان الأعشى ص ٢٧٥ ولسان العرب (كفف).
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ أي لو أنهم آمنوا بخاتم النبيين والمرسلين، واتقوا باتباعه تلك المفاسد التي جروا عليها، لكفرنا عنهم تلك السيئات لأن هذا الإيمان يجب ما قبله، والتقوى التي تتبعه تزكي النفس وتطهرها من تأثير تلك السيئات فيمحى أثرها، ويكون ذلك كفارة لها، فيستحقون جنات النعيم التي لا بؤس فيها.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ إقامة التوراة والإنجيل : العمل بهما على أقوم الوجوه وأحسنها، سواء فيه عمل النفس وهو الإيمان والإذعان، وعمل القوى والجوارح. أي لو أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين من قبل بنور التوحيد والفضائل، المبشرين بالنبي الذي يأتي من أبناء أخيهم إسماعيل كما قال موسى : والبارقليط روح الحق الذي يعلمهم كل شيء كما قال عيسى عليهم السلام وأقاموا بعد ذلك ما نزل إليهم من ربهم على لسان هذا النبي الذي بشرت به كتبهم وهو الفرقان الذي أكمل به الدين – لو أقاموا جميع ذلك ولم يفرقوا بين رسل الله وكتبه- لوسع الله عليهم بالتبع لذلك ما يهمهم من موارد الرزق، فأكلوا من الثمرات والبركات التي تنتج من أمطار السماء ونبات الأرض، وتمتعوا بما وعد الله به هذا النبي وأمته من سعة الملك.
وقيل إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم من أمر الدين وآدابه والبشارة بالنبي الأخير صلى الله عليه وآله وسلم كزبور داود وحكم سليمان وكتب دنيال وأشيعا وغيرهما عليهم السلام، وفي مجلدات المنار بيان لكثير من هذه البشارات. وإقامة هذه الكتب من أسباب الصلاح والإصلاح، فلو أقامها قبل البعثة المحمدية أهل الكتاب، لما غلب عليهم ما عزاه المؤرخون إليهم من الطغيان والفساد، ولما عاندوا النبي المبشرة به ذلك العناد. ذلك بأنهم لم يقيموها ولا تدبروها، وإنما كان الدين عندهم أماني يتمنونها، وبدعا وتقاليد يتوارثونها. فهم بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط. والمراد أن دهماءهم وسوادهم الأعظم كان كذلك كما يعلم من تواريخهم وتواريخ غيرهم. ومن دقة القرآن وعدله، وتمحيص الحقيقة في ذلك بقوله :
﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي منهم جماعة معتدلة في أمر الدين، لا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير. قيل هم العدول في دينهم، وقيل هم الذين أسلموا منهم. والمعتدلون لا تخلو منهم أمة. ولكنهم يكثرون في طور صح الأمة وارتقائها، ويقلون في طور فسادها وانحطاطها – وهل تهلك الأمم إلا بكثرة الذين يعملون السوء من الأشرار، وقلة الذين يعملون الصالحات من الأخيار ؟ - وهؤلاء المعتدلون في الأمم هم الذين يسبقون إلى صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في عصورهم، ولما جاء الإصلاح الإسلامي على لسان خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم قبله المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب، والمحيين للعلوم والفنون والعمران، فهل يعتبر المسلمون بذلك الآن، ويعودون إلى إقامة القرآن، وأخذ الحكمة من حيث يجدونها، وعدد الإصلاح والسيادة من حيث يرونها، أم يفتأون يسلكون بدينهم مع عدم إقامة كتابه، والتبجح بفضائل نبيهم على تركهم لسنته وآدابه ؟
روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يوشك أن يرفع العلم ) قلت : كيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال :( ثكلتك أمك يا ابن نفير ) إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ) ؟ ثم قرأ ﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ﴾ الآية. وأخرج أحمد وابن ماجه من طريق ابن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فقال :( ذلك عند ذهاب العلم ) قلنا يا رسول الله : وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال :( ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل و ينتفعون مما فيهما بشيء ) اه من الدر المنثور.
والشاهد فيه أن العبرة بالعمل بما في الكتب الإلهية والاهتداء بهدايتها. وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له، كما هو شأن المسلمين اليوم، على أن عصبيتهم الجنسية له قد ضعفت أيضا واستبدل كثير منهم جنسية اللغة أو الوطن.
ولا يمنعنا من الاعتبار بهذا الحديث ما علل به من الضعف وانقطاع السند والقلب والاختلاف، لأننا لا نريد أن نثبت به حقيقة ولا حكما شرعيا لا دليل عليهما سواه. وهو لا يدل على سلامة التوراة والإنجيل من التحريف بالزيادة والنقصان، لأنهما على ثبوت ذلك يشملان على التوحيد والهداية إلى البر والتقوى، ولكن أهلهما لا يقيمون ذلك، فالحجة عليهما قائمة على حال. وقد عملت أن هذا الحديث تثبت به العبرة، ولكن لا تقوم به حجة. وقد أشار الحافظ في ترجمة زياد بن لبيد من الإصابة إلى مخرجيه وعلله عندهم، ومنه يعلم قصور ما اكتفى به السيوطي في الدر المنثور.
تنبيه : إن الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال في هذه الآية له نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] وقوله :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] – الآية – وغير ذلك. ولو أن هذا القرآن وحي من الله لما وجدت فيه مثل هذه الشهادة، لأن الإنسان مهما كان عادلا فاضلا لا يرى الفضيلة المستترة في خصومه الذين يناوئونه ويحاربونه فيشهد لهم بها، بل أكثر الناس يعمي عن محاسن عدوه الظاهرة المستفيضة، وإن رأى شيئا منها يظن أنه نفاق وخداع، قال شاعرنا الحكيم :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
من شواهد العبرة على هذه الحقيقة كلمة قالتها امرأة كبيرة العقل والعلم والسن من فضليات النساء في سويسرة لشيخنا الأستاذ الإمام ؛ قالت له ( إنني لم أكن قبل معرفتك أظن أن القداسة توجد في غير المسيحيين ) فإذا كانت هذه المرأة الواسعة العلم بأخلاق البشر التي لها عدة مؤلفات في علوم التربية تظن مثل هذا الظن في هذا العصر الذي عرف البشر فيه من أحوال البعداء عنهم وتاريخهم ما لم يعرف مثله سلفهم في عصر ما، فهل يظن أن رجلا أميا في الحجاز يهتدي بغير وحي من الله إلى تلك الحقيقة في أولئك القوم منذ ثلاثة عشر قرنا ؟ ؟
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ تقدم أن نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلقب الرسول لم يرد إلا في موضعين من هذه السورة، وهذا ثانيهما ؛ وكلاهما جاء في سياق الكلام في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ومحاجتهم في الدين. وقد اختلف مفسرو السلف وفي وقت نزول هذه الآية، فروى ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس، وأبو الشيخ عن الحسين، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد – ما يدل على أنها نزلت في أوائل الإسلام، وبدء العهد بالتبليغ العام. وكأنها على هذا القول وضعت في آخر مدينة للتذكير بأول العهد بالدعوة في آخر العهد بها، وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.
وروت الشيعة عن الإمام محمد الباقر أن المراد بما أنزل إليه من ربه النص على خلافة علي بعده، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف أن يشق ذلك على بعض أصحابه فشجعه الله تعالى بهذه الآية. وفي رواية عن ابن عباس أن الله أمره أن يخبر الناس بولاية علي فتخوفوا أن يقولوا : حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه. فلما نزلت الآية عليه في غدير خم أخذ بيد علي وقال :( من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ) ولهم في ذلك روايات وأقوال في التفسير مختلفة.
ومنها : ما ذكره الثعلبي في تفسيره أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موالاة علي شاع وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته وكان بالأبطح فنزل وعقل ناقته وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؛ فقبلنا منك – ثم ذكر سائر أركان الإسلام وقال – ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا، وقلت ( من كنت مولاه فعلي مولاة ) فهذا منك أم من الله ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم ( والله الذي إله إلا هو، هو أمر الله ) فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره، وأنزل الله تعالى :﴿ سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ﴾ [ المعارج : ١، ٢ ] الخ وهذه الرواية موضوعة. وسورة المعارج هذه مكية. وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ﴾ كان تذكيرا بقول قالوه قبل الهجرة، وهذا التذكير في سورة الأنفال وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد، ولم يعرف في الصحابة، والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرجع من غدير خم إلى مكة ؛ بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة.
أما حديث ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ١ فقد رواه أحمد في المسند من حديث البراء وبريدة، والترمذي والنسائي والضياء في المختار من حديث زيد ابن أرقم، وابن ماجه عن البراء، وحسنه بعضهم وصححه الذهبي بهذا اللفظ، ووثق أيضا سنده من زاد فيه ( اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) الخ وفي رواية أنه خطب الناس فذكر أصول الدين، ووصى بأهل بيته فقال : إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض، الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن ) ثم أخذ بيد علي ثم قال – الحديث. ورواه غير من ذكر بأسانيد ضعيفة ومنها أن عمر لقيه فقال له : هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وذكروا أن سببه تبرئة علي مما كان قاله فيه بعض من كان معه من اليمن واستمالتهم إليه، وذلك أن عليا كرم الله وجهه كان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية إلى اليمن، فقاتل من قاتل وأسلم على يديه من أسلم، ثم أنه تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدرك معه الحج واستخلف على جنده رجلا من أصحابه فكسا ذلك الرجل كل واحد منهم حلة من البز الذي مع علي. فلما دنا جيشه خرج إليهم فوجد عليهم الحلل فأنكر ذلك وانتزعها منهم، فأظهر الجيش شكواه من ذلك.
وروي أيضا عن بريدة الأسلمي أنه كان مع علي في غزوة اليمن وأنه رأى منه جفوة فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المؤمنين يشكو عليا بغير حق، إذ لم يفعل إلا ما يرضي الحق، خطب الناس في غدير خم، وأظهر رضاه عن علي وولايته له وما ينبغي للمؤمنين من موالاته. وغدير خم مكان بين الحرمين قريب من رابغ على بعد ميلين من الجحفة، قالوا وقد نزله النبي صلى الله عليه وسلم وخطب الناس فيه في اليوم الثامن من ذي الحجة. وقد اتخذته الشيعة عيدا على عهد بني بويه في حدود الاربع مئة.
ويقول أهل السنة إن الحديث لا يدل على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة، ولم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى. بل المراد بالولاية فيه ولاية النصرة والمودة التي قال الله فيها في كل من المؤمنين والكافرين ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ [ المائدة : ٥١ ] معناه من كنت ناصرا ومواليا له فعلي ناصره ومواليه، أو من والاني نصرني فليوال عليا وينصره. وحاصل معناه أنه يقفو أثر النبي صلى الله عليه وسلم فينصر من ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من ينصر النبي أن ينصره. وهذه مزية عظيمة. وقد نصر علي كرم الله وجهه أبا بكر وعمر وعثمان ووالاهم. فالحديث ليس حجة على من والاهم مثله، بل حجة له على من يبغضهم ويتبرأ منهم. وإنما يصح أن يكون حجة على من والى معاوية ونصره، فهو لا يدل على الإمامة بل يدل على نصره إماما ومأموما. ولو دل على الإمامة عند الخطاب لكان إماما مع وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشيعة لا تقول بذلك، وللفريقين أقوال في ذلك لا نحب استقصاءها والترجيح بينها، لأنها من الجدل الذي فرق بين المسلمين، وأوقع بينهم العدواة والبغضاء. وما دامت عصبية المذاهب غالبة على الجماهير فلا رجاء في تحريمهم الحق في مسائل الخلاف، ولا في تجنبهم ما يترتب على الخلاف من التفرق والعداء. ولو زالت تلك العصبية ونبذها الجمهور لما ضر المسلمين حينئذ ثبوت هذا القول أو ذاك، لأنهم لا ينظرون فيه حينئذ إلا بمرآة الإنصاف والاعتبار، فيحمون المحقين، ويستغفرون للمخطئين ﴿ ربنا اغفر لنا وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ﴾ { الحشر : ١٠ ].
ثم إننا نجزم بأن مسألة الإمامة لو كان فيها نص من القرآن أو الحديث لتواتر واستفاض، ولم يقع فيها ما وقع من الخلاف، ولتصدى علي للقيام بأمر المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخطبهم وذكرهم بالنص، وبين لهم من يحسن بيانه في ذلك الوقت. وكان هو الواجب عليه لو كان يعتقد أنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله ورسوله. ولكنه لم يقل ذلك ولا احتج بالآية هو ولا أحد من آل بيته وأنصاره الذي يفضلونه على غيره، يوم السقيفة ولا يوم الشورى بعد عمر، ولا قبل ذلك و بعده في زمنه، وهو هو الذي كان تأخذه في الله لومة لائم، ولم يعرف التقية في قول ولا عمل ؛ وإنما وجدت هذه المسائل، ووضعت لها روايات واستنبطت الدلائل، بعد تكون الفرق وعصبية المذاهب. والوصية بالخلافة لا مناسبة لها في سياق محاجة أهل الكتاب، فهي مما لا ترضاه بلاغة القرآن. بل لو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النص على خلفته من بعده وتبليغ ذلك للناس لقاله في خطبته في حجة الوداع. وهي التي استشهد الناس فيها على تبليغه فشهدوا، وأشهد الله على ذلك. دع سياق الآية وما قبلها وما بعدها، فإنها هي نفسها تقبل أن يكون المراد التبليغ فيها تبليغ الناس إمارة علي، فإن جملة ( إن لم تفعل ) الشرطية، التي بعد جملة ( بلغ ) الأمرية، وجملة الأمر بالعصمة، وجملة التذييل التعليلي بنفي هداية الكافرين-لا يناسب شيء منها تبليغ الناس مسألة الإمارة، فتأمل الآية في ذاتها بعين البصيرة لا بعين التقليد.
وأما الحديث فنهتدي به : نوالي عليا المرتضى ونوالي من والاهم، ونعادي من عاداهم، ونعد ذلك كموالاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونؤمن بأن عترته صلى الله عليه وآله وسلم تجمع على مفارقة الكتاب الذي أنزله الله عليه، وأن الكتاب والعترة خليفتا الرسول، فقد صح الحديث بذلك في غير قصة الغدير ؛ فإذا أجمعوا على أمر قبلناه واتبعناه. وإذا تنازعوا في أمر رددناه إلى الله والرسول.
وأما المتبادر من الآية فالظاهر أنه الأمر بالتبليغ العام في أول الإسلام، كما رواه أهل التفسير بالمأثور، ولولاه لاحتمل أن يكون المراد به تبليغ أهل الكتاب ما بعده هذه الآية. كأنه قال : بلغ ما أنزل إليك في شأن أهل الكتاب، واذكر لهم ما يكون فصل الخطاب، فإن سألت عن ذلك الجواب :﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ [ المائدة : ٦٨ ] الخ ما سيأتي. وإذا صح حديث ابن عباس الذي رواه ابن مردويه والضياء لا يبقى للاحتمال مجال. قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية من السماء أنزلت أشد عليك ؟ فقال :( كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم، فنزل علي جبريل فقال :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه ﴾ الآية. – قال – فقمت عند العقبة فقلت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة ؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة – قال صلى الله عليه وآله وسلم فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ويقولون كذاب صابئ : فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ) فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه. وسيأتي لهذا مزيد تأكيد.
قال تعالى :﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ﴾ أي وإن لم تفعل ما أمرت به التبليغ العام لما أنزل إليك كله – وهو ما عليه الجمهور – أو الخاص بأهل الكتاب – على ما سبق من الاحتمال – بأن كتمته ولو مؤقتا خوفا من الأذى بالقول أو الفعل أو بهما جميعا، ﴿ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه ﴾ أي فحسبك جرما أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله، وهو تبليغ الناس ما انزل إليهم من ربهم ﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾ وذهب الجمهور إلى أن معناه : وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك من ربك بأن كتمت بعضه فكأنك لم تبلغ منه شيئا قط، لأن كتمان البعض ككتمان الجميع. فهو من قبيل قوله تعالى :﴿ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [ المائدة : ٣٢ ] ويقويه قراءة نافع وابن عامر وابن أبي بكر ( رسالاته ) بالجمع.
فمعنى هذه القراءة إفادة استغراق
١ أخرجه الترمذي في المناقب باب ١٩، وابن ماجه في المقدمة باب ١١، وأحمد في المسند ١/٨٣، ١١٨، ١١٩، ١٥٢، ٣٣١، ٤/٢٨١، ٣٦٨، ٣٧٠، ٣٧٢، ٥/٣٤٧، ٣٦٦، ٤١٩..
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي ( قل ) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن الله تعالى ( لستم على شيء ) يعتد به من أمر الدين، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين ( حتى تقيموا التوراة والإنجيل ) فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وفيما بشرا من بعثة النبي الذي يجيء من ولد إسماعيل، الذي عبر عنه المسيح بروح الحق وبالبارقليط ( وما أنزل إليكم من ربكم ) على لسانه وهو القرآن المجيد، فإنه هو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين، على حسب سنته في النشوء والارتقاء بالتدريج.
وقيل : إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم ما أنزل على سائر أنبيائهم، كما قيل مثله في آية ﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ﴾ [ المائدة : ٦٦ ] وتقدم توجيهه، ولم يبعد العهد به فنعيده. إلا أن ذاك حكاية ماضية، وهذا بيان للحال الحاضرة، والحجة عليهم في الزمنيين قائمة، فهم لم يكونوا مقيمين لتلك الكتب قبل هذا الخطاب، ولا في وقته، ولا كان في استطاعتهم أن يقيموها في عهده، كما أنهم لا يستطيعون أن يقيموها الآن. فهذا تعجيز لهم، وتفنيد لدعواهم الاستغناء عن اتباع خاتم النبيين، بإتباعهم لأنبيائهم السابقين، ولا يتضمن الشهادة بسلامة تلك الكتب من التحريف.
ومثله أن نقول الآن لدعاة النصرانية من الأمريكان والألمان والإنكليز ؛ يا أيها الداعون لنا إلى إتباع التوراة والإنجيل، نحن لا نعتد بكم، ولا نرى أنكم على إيمان وثقة بدينكم، وصدق إخلاص في دعوتكم، حتى تقيموا أنتم وأهل ملتكم التوراة والإنجيل اللذين في أيديكم، فتحبوا أعداءكم، وتباركوا لاعنيكم، وتعطوا ما لقصير لقيصر، وتخضعوا لكل سلطة لأنها من الله، وإذا اعتدى عليكم أحد فلا تعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، بل أديروا له الخد الأيسر، إذا ضربكم على الخد الأيمن، واتركوا التنافس في إعداد آلات الفتك الجهنمية، ليكون للناس السلام في الأرض، وأخرجوا من هذه الأموال الكثيرة والثروة الواسعة، لأن الغني لا يدخل ملكوت السماوات، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ولا تهتموا برزق الغد، الخ ونحن نراكم على نقيض كل ما جاء في هذه الكتب، فأنتم لا تخضعون لكل حاكم بل ميزتم أنفسكم. واستعليتم على الشرائع والحكام من غيركم، وإذا اعتدي على أحد منكم في بقعة من بقاع الأرض. تجردون سيوف دولتكم وتصوبون مدافعها على بلاد المعتدي ودولته لا عليه وحده، حتى تنتقموا لأنفسكم بأضعاف ما اعتدى به عليكم. ولا هم لأممكم ودولكم إلا امتلاء ثروة العالم وزينته ونعيمه. وتسخير غيركم من الأمم لخدمتكم بالقوة القاهرة. والاستعداد لسحق من ينافسكم في مجد هذا العالم الفاني. لعدم اهتمامكم بمجد الملكوت الباقي، فنحن لا نصدق بأنكم تدينون الله بهذه الكتب التي تدعوننا إليها، حتى تقيموها على وجهها، - فهل يعد دعاة النصرانية مثل هذا الخطاب لهم اعترافا منا بسلامة كتبهم من التحريف والزيادة والنقصان ؟ أم يفهمون أنه حجة مبينة على التسليم الجدلي لأجل الإلزام ؟ نعم يفهمون هذا ولكنهم يقولون لعوام المسلمين، إن هذه الآية شهادة للتوراة والإنجيل بالسلامة من التحريف ! !.
﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ هذه جملة مستأنفة مؤكدة بالقسم الذي تدل عليه اللام في أولها، تثبت أن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل الله به الدين، المنزل على محمد خاتم النبيين، إلا طغيانا في فسادهم، وكفرا على كفرهم – ذلك بأنهم ما كانوا على إيمان صحيح بالله و بالرسل، ولا على عمل صالح مما تهدي إليه تلك بالكتب، وإنما كان أكثرهم على تقاليد وثنية، وعصبية جنسية، وعادات وأعمال ردية، فهم لهذا لم ينظروا في القرآن نظر إنصاف. وليس لهم من حقيقة دينهم الحق ما يقربهم من فهم حقيقة الإسلام، ليعلموا أن دين الله واحد فما سبق بدء وهذا إتمام. بل ينظرون إليه بعين العصبية والعدوان، وهذا سبب زيادة الكفر والطغيان. – الطغيان مجاوزة الحد المعتاد.
وأما غير الكثير، وهم الذين حافظوا على التوحيد، ولم تحجبهم عن نور الحق تلك التقاليد، فهم يرون القرآن بعين البصيرة فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأن من أنزل عليه هو النبي الأخير المبشر به في كتبهم، فيسارعون إلى الإيمان، على حسب حفظهم من العلم وسلامة الوجدان.
والفرق بين نسبة إنزال القرآن إلى الرسول هنا ونسبة إنزاله إليهم في أول الآية ( على القول المشهور بأن المراد بما أنزل إليهم القرآن ) هو أن خطابهم بإنزال القرآن إليهم يراد به أنهم مخاطبون به ومدعون إليه، ومثله ﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ] وأما إسناد إنزاله إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فليس لإفادة أنه أوحي إليه فقط، بل يشعر مع ذلك بأن إنزاله إليه سبب لطغيانهم وكفرهم، وأنهم لم يكفروا لأجل إنكارهم لعقائده وآدابه وشرائعه أو استقباحهم لها، بل لعداوة الرسول الذي أنزل إليه وعداوة قومه العرب. وقيل إنه يفيد براءتهم منه، وأنه لا حظ فيه.
﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ أي فلا تحزن عليهم لأنهم قوم تمكن الكفر منهم، وصار وصفا لازما لهم. – وهذه نكتة وضع الظاهر موضع الضمير – وحسبك الله ومن اتبعك من مؤمني قومك ومنهم، كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم، قال الراغب : الأسى الحزن، وأصله إتباع الفائت بالغم.
والعبرة للمسلم في الآية أن يعلم أن المسلمين لا يكونون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيموا القرآن وما أنزل إليهم من ربهم فيه ويهتدوا بهدايته، فحجة الله على جميع عباده واحدة، فإذا كان الله تعالى لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا، تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي الله تعالى، على ما كان قد طرأ عليه من التحريف بالزيادة والنقصان، فأن لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظه لكتابنا أولى. والناس عن هذا غافلون، بالانتساب إلى المذاهب راضون، وبهدي الأئمتها لا يقتدون، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون، ﴿ ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم الكاذبون ﴾ [ المجادلة : ١٨ ]
ولما كان الانتساب إلى الدين لا يفيد في الآخرة إلا بإقامة كتاب الدين، بين الله تعالى بعد تلك الحجة أصول الدين المقصودة من إقامة الكتب الآلهية كلها التي يترتب عليها الجزاء والثواب فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والصابئون وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
مناسبة وضع هذه الآية هنا لما قبلها وما بعدها بيان أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله، وما كلفهم الله إياه، ولا وسائله و مقاصده، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها، ولا هم تركوا ما عندهم منها ظواهرها ؛ ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر، على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح، ولا هم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون ؛ اللهم إلا قليلا منهم كان مخبوءا في طيات الزمان، أو شعاف الجبال وزوايا البلدان، كانوا يعذبون على توحيد الله، ويرمون بالزندقة أو الهرطقة لرفضهم تقاليد الكنائس. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة فيراجع تفسيرها المفصل، في جزء التفسير الأول.
وفي هذه الآية بحث لفظي ليس في تلك ؛ وهو رفع كلمة الصائبين وتقديمها على كلمة النصارى، فأما الرفع ففي إعرابه وجوه أشهرها مبتدأ خبره محذوف التقدير ( والصابئون كذلك ) أو معطوف على محل اسم إن ؛ وقد أجاز كوفيو النحويين هذا وعدوه من الفصيح إذا كان اسم إن مبنيا كما هو هنا، وكقولك : إنك وزيد صديقان. والبصريون يمنعونه، ومن هذا القبيل قول الشاعر :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق ١
والإعراب صناعة يستعان بها على ضبط كلام العرب وفهمه، والعمدة في إثبات اللغات كلها السماع من أهلها. وقد ثبت بالسماع أن هذا الاستعمال فصيح ولكن ما نكتته ؟ النكتة التي كان بها رفع الصابئين ههنها على مخالفته نسق عطف المنصوب عل المنصوب، هي تنبيه الذهن إلى أن الصابئين كانوا أهل كتاب وإن كان حكمهم كحكم المسلمين واليهود والنصارى في تعليق نفي الخوف والحزن عنهم يوم القيامة بشرط الإيمان الصحيح والعمل الصالح، اللذين تتزكى بهما النفوسّ، وتستعد لإرث الفردوس. ولما كان هذا غير معروف عند المخاطبين بهذه الآية، وكان الصائبون غير مظنة لإشراكهم في الحكم مع أهل الكتب السماوية، حسن في شرع البلاغة أن ينبه إلى ذلك بتغيير نسق الإعراب. فمثل هذا التغيير، لا يعد فصيحا إلا في مثل هذا التعبير. وهو ما كان لما تغير إعرابه أخرج عما يماثله، صفة خاصة تريد التنبيه عليها. فإذا قلت ( إن زيد وعمرا – وكذا بكر – أو بكر كذلك – قادرون على مناظرة خالد ) لم يكن هذا القول بليغا إلا إذا كان بكر في مظنة العجز عن مناظرة خالد ؛ وأردت أن تنبه عن خطإ هذا الظن، وعلى كون بكر، يقدر على ما يقدر عليه من ذلك زيد وعمرو.
وهاهنا قاعدة عامة في البلاغة تدخل في بلاغة النطق والكتابة. وهي أن ما يرد تنبيه السمع أو اللحظ إليه من المفردات أو الجمل يميز على غيره، إما بتغيير نسق الإعراب في مثل الكلام العربي مطلقا، وإما برفع الصوت في الخطابة، وإما بكبر الحروف أو تغيير لون الحبر أو وضع الخطوط عليه في الكتابة. والمسلمون يكتبون القرآن في التفسير والمتون المشروحة بحبر أحمر. وفي الطبع يضعون الخطوط فوق الكلام الذي يميزونه كآيات القرآن في بعض كتب التفسير، ثم صار الكثيرون منهم يقلدون الإفرنج في وضع هذه الخطوط تحت الكلام الذي يريدون التنبيه عليه بتمييزه.
وقد تجرأ بعض أعداء الإسلام، على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ! وعد رفع الصابئين هنا من هذا الغلط ! ! وهذا جمع بين السخف والجهل. وإنما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو مع جهل أو تجاهل أن النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه. وأن قواعده إذا قصرت عن الإحاطة ببعض ما ثبت عن العرب فإنما ذلك لقصور فيها، وأن كل ما ثبت نقله عن العرب فهو عربي صحيح، و ينتسب إلى العرب الغلط في الألفاظ ولكن قد يغلطون في المعاني. ولم توجد لغة من لغات البشر دفعة واحدة. وإنما تترقى اللغات وتتسع بالتدريج، ولم يكن التجديد في مفرداتها ومركباتها. والتصرف في أساليبها ومشتقاتها، بالتشاور والتواطؤ بين جميع أفراد الأمة و بين الجماعة منها، - إلا ما يحصل في بعض المجامع العلمية والأدبية عند بعض الإفرنج في هذا العصر- وإنما كان التصرف والتجديد من عمل الأفراد، ولاسيما من يشتهرون بالفصاحة كالخطباء والشعراء. فلو لم يكن ذلك المعترض ضعيف العقل أو قوى التعصب على الإسلام. لنهاه عن هذا الاعتراض رواية هذا اللفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام. وإن لم يؤمن بأنه منزل عليه من الله عز وجل. فكيف وقد تلقته العرب بالقبول والاستحسان، فكان إجماعا عليه أقوى من إقرار الأندية الأدبية ( الأكاديميات ) الآن ؟ بل يجب أن ينهاه مثل ذلك نقله عن أي بدوي من صعاليك العرب ولو برواية الآحاد. وليت شعري هل يعد ذلك المعتصب الأعمى مبتكرات مثل شكسبير في الإنكليزية وفيكتور هيغو بالفرنسية من اللحن والغلط فيهما ؟ ؟
وأما تقديم الصابئين هنا على النصارى فمن قال إن المراد بالذين آمنوا هنا المنافقون الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، يرى أن نكتته الترتيب بين هذه الأصناف بالترقي من الجدير بقبول توبته إذا صح إيمانه ودعم بالعمل الصالح إلى الأجدر بذلك، ويجعل النصارى أقربها إلى القبول، ويليهم عنده الصابئون، فاليهود فالمنافقون، وأنت تعلم أن العطف بالواو لا يفيد الترتيب بل مطلق الجمع فلا حاجة إلى تكلف النكتة للتقديم والتأخير.
١ البيت من الوافر، وهو لبشير بن أبي خازم في ديوانه ص ١٦٥، والإنصاف ١/١٩٠، وتخليص الشواهد ص ٣٧٣، وخزانة الأدب ١٠/ ٢٩٣، ٢٩٧، وشرح أبيات سيبويه ٢/١٤، وشرح التصريح ١/ ٢٢٨، والكتاب ٢/١٥٦، واللمقاصد النحوية ٢/٢٧١، وب نسبة في أسرار العربية ص ١٥٤، وشرح المفصل ٨/٦٩..
بدأ الله تعالى السياق الطويل في أهل الكتاب بأخذ الميثاق على بني إسرائيل وبعث النقباء فيهم، ثم أعاد التذكير به في أواخره هنا، فذكر وذكر معه إرسال الرسل إليهم ما كان من معاملتهم لهم فقال :﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾ تقدم أن الميثاق هو العهد الموثق المؤكد وأن الله أخذه عليهم في التوراة فراجع الآية ال ١٣ ( ج تفسير ).
وقد نقضوا الميثاق كما تبين في أوائل هذه السورة وأواخر ما قبلها. وأما معاملتهم للرسل فقد بين الله تعالى إجماله بهذه القاعدة الكلية، وهي أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بشيء لا تهواه أنفسهم – وإن كان مقترنا بأشياء يوافق فيها الحق أهوائهم – عاملوه بأحد أمرين : التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان، أو القتل وسفك الدم. والظاهر أن جملة ( كلما جاءهم رسول ) استئناف بياني لا صفة لرسل كما قال الجمهور. وجعل الرسل فريقين في معاملة بعد ذكر لفظ الرسول مفردا في اللفظ جائز، لأن وقوعه مفردا إنما هو بعد ( كلما ) المفيد للتكرار والتعدد، واستحسن بعضهم أن يكون جواب ( كلما ) محذوفا تقديره : استكبروا وأعرضوا، وجعل التفصيل بعد ذلك استئنافا بيانيا مفصلا لما ترتب على الاستكبار وعدم قبول هداية الرسل. وهو حسن لموافقته لقوله تعالى في آية أخرى ﴿ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ﴾ [ البقرة : ٨٧ ] وتقدم تفسيرها.
والتعبير عن القتل بالمضارع مع كونه كالتكذيب وقع في الماضي نكتته تصوير جرم القتل الشنيع واستحضار هيئته المنكرة كأنه واقع في الحال، للمبالغة في النعي عليهم والتوبيخ لهم، فقد أفادت الآية أنهم بلغوا من الفساد واتباع أهوائهم أخشن مركب وأشده تقحما بهم في الضلال، حتى لم يعد يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل وهديهم، بل صار يغريهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة الأحبار.
﴿ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ أي وظنوا ظنا تمكن من نفوسهم فكان كالعلم في قوته أنه لا توجد ولا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد. والفتنة الاختبار بالشدائد كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد، وقيل المراد بها القحط والجوائح ؛ ولس بظاهر هنا. وإنما المتبادر أن المراد بما أجمل هنا هو ما جاء مفصلا في أوائل سورة الإسراء – التي تسمى سورة بني إسرائيل أيضا- من قوله تعالى :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في كتاب : لتفسدن في الأرض مرتين ﴾ – إلى قوله – ﴿ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ] فالفساد مرتين هنالك هو المشار إليه هنا بقوله تعالى :
﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ ﴾ أي فعموا عن آيات الله في كتبه الدالة على عقاب الله للأمم المفسدة الظالمة، وعن سننه في خلقه المصدقة لها، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها الرسل، وأنذروهم بها الرسل، وأنذروهم بها عقاب الله لمن نقض ميثاقه، وخرج عن هداية دينه، فاتبع هواه، وظلم نفسه الناس، فلما عموا وصموا وانهمكوا في الظلم والفساد، سلط الله تعالى عليهم البابليين فجاسوا خلال الديار وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا الأموال، وسبوا الأمة وسلبوا الملك والاستقلال، ثم رحمهم الله تعالى وتاب عليهم، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم، ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض، وقتل الأنبياء بغير حق، فسلط الله تعالى عليهم الفرس ثم الروم ( الرومانيين ) فأزالوا ملكهم واستقلالهم.
أما قوله تعالى :( كثير منهم ) فهو بدل من فاعل عموا وصموا، أو هو الفاعل والواو علامة الجمع على لغة بعض العرب من الأزد التي يعبر النحاة بكلمة واحد من أهلها قال :( أكلوني البراغيث ) والمراد أن عمى البصيرة والختم على السمع لم يكن عاما مستغرقا لكل فرد من أفرادهم، وإنما كان هو الكثير الغالب عليهم. وتقدم قريبا في تفسير ﴿ كثير منهم يعلمون ﴾ [ المائدة : ٦٦ ] بيان حكمة التدقيق في القرآن بنسبة الفساد للكثير أو الأكثر في الأمة. وإنما يعاقب الله الأمم بالذنوب إذا كثرت وشاعت فيها، لأن العبرة بالغالب، والقليل النادر لا تأثير له في الصلاح أو الفساد العام، ولذلك قال تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] وهذا هو الواقع وعلته ظاهرة، وحكمته باهرة.
﴿ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ الآن من الكيد لخاتم الرسل، فإتباع الهوى قد أعماهم وأصمهم مرة أخرى، فتركهم لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى، وما هو عليه من النعوت والصفات التي أشار إليها النبيون في بشارتهم به، ولا يسمعون ما يتلو عليهم من الآيات، وما فيها من الحجج والبينات، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم على ما قبله. وقد غفل عن هذا المعنى جمهور المفسرين فجعلوا ( يعلمون ) بمعنى الماضي. ونكتة التعبير به استحضار صورة أعمالهم في ماضيهم، وتمثيلها لهم ولغيرهم في حاضرهم، كما قلنا في تفسير ﴿ وفريقا يقتلون ﴾ [ المائدة : ٧٠ ] وما قلناه أقوى وأظهر، وإنما تحسن هذه النكتة في العمل المعين المهم الذي يراد التذكير به بعد وقوعه بجعل الزمن الحاضر، مرآة للزمن الغابر، ولا يظهر هذا الحسن في الأعمال المطلقة المبهمة.
ومن مباحث اللفظ أن أبا عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب قرأوا ( أن تكون ) والأصل حينئذ : وحسبوا أنه – أي الحال والشأن – لا تكون فتنة، فخففت أن المشددة وحذف ضمير الشأن المتصل، وأشرب الحسبان معنى العلم كما تقدم.
ثم انتقل من بيان حال اليهود إلى بيان حال النصارى في دينهم فقال عز وجل :﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ أكد تعالى بالقسم كفر قائلي هذا القول من النصارى، وإذ غلوا في إطراء نبيهم المسيح ابن مريم عليه السلام، غلوا ضادوا به غلو اليهود في الكفر به، وقولهم عليه وعلى أمه الصديقة بهتانا عظيما، ثم صار هو العقيدة الشائعة فيهم، ومن عدل عنها إلى التوحيد يعد مارقا من دينهم، ذلك بأنهم يقولون إن الإله مركب من ثلاثة أصول يسمونها ( أقانيم ) وهي الآب والابن وروح القدس، ويقولون إن المسيح هو الابن، والله هو الأب، وأن كل واحد من الثلاثة عين الآخرين، فينتج ذلك أن الله هو المسيح، وأن المسيح هو الله بزعمهم. وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة الآية ال ١٩ من هذه السورة ( من هذا الجزء ).
﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ أي والحال أن المسيح قال لهم ضد ما يقولون : أمرهم بعبادة الله تعالى وحده، معترفا بأنه ربه وربهم، فاعترف بأنه عبد مربوب لله تعالى، ودعا بني إسرائيل الذين أرسل إليهم أن يعبدوا الله الذي يعبده هو. ولا يزال أمره هذا محفوظا عندهم فيما حفظوا من إنجيله، في هذه الكتب التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه، وهي التي يسمونها الأناجيل. في إنجيل يوحنا منها عنه عليه السلام ما نصه :( وهذه ه الحياة الأبدية – أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) فدين المسيح مبني على التوحيد المحض وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله. وسنعود إلى بيان ذلك في تفسير قوله تعالى في آخر هذه السورة حكاية عنه عليه السلام ﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴾ [ المائدة : ١١٧ ].
﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص. وقفى عليه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه، ببيان أن الحال و الشأن الثابت عند الله تعالى هو أن كل من يشرك بالله شيئا ما من ملك أو بشر، أو كوكب أو حجر، أو غير ذلك، بأن يجعله ندا له. أو متحدا به، أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضر، أو يزعم أنه يقربه إلى الله زلفى، فيتخذه شفيعا زاعما أنه يؤثر في إرادة الله تعالى أو علمه، فيحمله على شيء غير ما سبق به علمه وخصصه إرادته في الأزل، - من يشرك هذا الشرك ونحوه فإن الله يحرم عليه الجنة في الآخرة، بَلْ هُوَ قَدْ حَرَّمَهَا عليه في سابق عمله، بمقتضى دينه الذي أوحاه إلى جميع رسله، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلا النار، دار العذاب والهوان، وما لهؤلاء الظالمين لأنفسهم بالشرك من نصير ينصرهم، ولا شفيع ينقذهم ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] – ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] فالنافع رضاه ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ الزمر : ٧ ] وشر أنواعه الشرك. ونكته جمع الأنصار مع كون النكرة المفردة تفيد العموم في سياق النفي. هي التنبيه على كون النصارى كانوا يتكلون على كثير من الرسل والقديسين إذ كانت وثنية الشفاعة قد فشت فيهم، وإن لم تكن من أصل دينهم.
﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ أكد تعالى بالقسم أيضا كفر الذين قالوا إن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما ثالث أقانيم ثلاثة، وهي الأب والابن وروح القدس، قال ابن جرير : وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكانية والنسطورية. كانوا فيما بلغنا يقولون : الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم – أبا والدا غير مولود، وابنا مولودا غير والد، وزوجا متتبعة بينهما. اه فكان هو وكثير من المفسرين والمؤرخين المتقدمين يرون – بحسب معرفتهم بحال نصارى زمنهم وما يروون عمن قبلهم – أن الذين يقولون من النصارى إن إلههم ثالث ثلاثة ؛ هم غير الفرقة التي تقول منهم : إن الله هو المسيح ابن مريم. وأن ثم فرقة ثالثة تقول : إن المسيح هو ابن الله وليس هو الله، ولا ثالث ثلاثة. وأما النصارى المتأخرون فالذي نعرفه منهم وعنهم أنهم يقولون بالثلاثة الأقانيم، بأن كل واحد منها عين الآخر. فالأب عين الابن وعين روح القدس، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الأب وروح القدس أيضا. ومن العجيب أن بعض متأخري المفسرين ينقلون أقوال من قبلهم في أمثال هذه المسائل ويقرونها، ولا يبحثون عن حال أهل زمنهم، ولا يشرحون حقيقة عقيدتهم. وقد سبق لنا بيان عقيدة التثليث، وكون النصارى أخذوها عن قدماء الوثنين، فارجع إلى تفسير ﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ في أواخر سورة النساء ( ج ٦ تفسير ) وبينا قبليها عقيدة الصلب والفداء ( ج٦ تفسير ) ثم بينا عقيدة التثليت في تفسير الآية ال ١٩ من السورة ( ج ٦ تفسير ).
قال تعالى ردا عليهم ﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ أي قالوا قولهم هذا بلا روية ولا بصيرة، والحال أنه ليس في الوجود ثلاثة آلهه ولا اثنان ولا أكثر من ذلك – لا يوجد إله ما إلا إله متصف بالوحدانية. وهو الله الذي لا تركيب في ذاته ولا تعدد.
وهذه العبارة أشد تأكيدا لنفي تعدد الإله من عبارة : لا إله إلا إله واحد. لأن ( من ) بعد ( ما ) تفيد استغراق النفي وشموله لكل نوع من أنواع المتعدد كل فرد من أفراده ؛ فليس ثم تعداد ذوات وأعيان، ولا تعدد الأجناس والأنواع، ولا تعدد جزئيات أو أجزاء. والنصارى قد اقتبسوا عقيدة التثليث عمن قبلهم ولم يفهموها، وعقلاؤهم يتمنون لو يقدرون على التفصي منها، ولكنهم إذا أنكروها بعد هذه الشهرة تبطل ثقة العامة بالنصرانية كلها. كما قال أحد عقلاء القسوس لبعض أهل العلم العصري من الشبان السوريين.
ومن الغريب أنهم يعترفون بأن هذه العقيدة لا تعقل، ولكن بعضهم يحاول تأنيس النفوس بها، بضرب أمثلة لا تصدق عليها، ككون الشمس مركبة من الجرم المشتعل والنور والحرارة، قال الشيخ ناصيف اليازجي.
نحن النصارى آل عيسى المنتمي حب التأنس للبتولة ( ؟ ) مريم
فهو الإله ابن الإله وروحه فثلاثة في واحد لم تقسم
للآب لاهوت ابنه كذا ابنه وكذاهما والروح تحت تقنم
كالشمس يظهر جرمها بشعاعها وبحرها والكل شمس فاعلم
فهو يقول إن ربهم جوهر له أعراض كسائر الجواهر والأجسام. ولكن العرض ليس عين الذات. فحرارة الشمس ليست شمسا، ولا هي عين الجرم ولا عين الضوء. فإذا لا يصح أن يكون الابن وروح القدس عين الآب ! ! وقد أورد صاحب إظهار الحق الحكاية الآتية، في بيان تخبطهم في هذه المسألة. قال :
( نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث. وكانوا في خدمته، فجاء محب من أحباء هذا القسيس وسأله عمن تنصر فقال :
ثلاثة أشخاص تنصروا، فسأل هذا المحب : هل تعلموا شيئا من العقائد الضرورية ؟ فقال : نعم، وطلب واحدا منهم ليرى محبه، فسأله عن عقيدة التثليث فقال : إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة، أحدهم الذي هو في السماء، والثاني الذي تولد من بطن مريم العذراء، والثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة. فغضب القسيس وطرده وقال هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال : إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان. فغضب عليه القسيس أيضا وطرده، ثم طلب الثالث وكان ذكيا بالنسبة إلى الأولين وحريصا في حفظ العقائد فسأله، فقال : يا مولاي حفظت ما علمتني حفظا جيدا، وفهمت فهما كاملا، بفضل السيد المسيح : إن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وصلب واحد منهم ومات، فمات الكل لأجل الاتحاد.
أقول : لا تقصير للمسؤولين فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ويتحير علماؤهم ويعترفون بأنا نعتقد ولا نفهم، ويعجزون عن تصويرها وبيانها. ه
﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي وإن لم ينتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه، ويعتصموا بعروة التوحيد الوثقى ويعتقدوه، فوالله ليصيبنهم بكفرهم عذاب شديد الألم في الآخرة. فوضع ( الذين كفروا ) موضع الضمير ليثبت أن ذلك القول كفر بالله، وإن الكفر سبب العذاب الذي توعدهم به، ويبين أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة بالتثليث أو غيره، دون من تاب وأناب إلى الله تعالى، إذ ليس عذاب الآخرة كعذاب الأمم في الدنيا يشترك فيه المذنبون وغيرهم. وقيل إن ( من ) بيانية.
﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ الاستفهام هنا للتعجيب من شأن هؤلاء الناس في تثليثهم وإصرارهم عليه، بعد ما جاءتهم البينات المبطلة له ؛ والنذر بالعذاب المرتب عليه. والهمزة داخلة على فعل محذوف عطف عليه فعل التوبة المنفي. والتقدير : أيسمعون ما ذكر من التنفيذ والوعيد، فلا يحملهم على التوبة والرجوع إلى التوحيد، واستغفار الله تعالى مما فرط منهم، والحال أن الله تعالى عظيم المغفرة واسع الرحمة، يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما سلف، إذا هم آمنوا وأحسنوا فيما بقي ؟ إن هذا لشيء عجاب. أو : أيصرون على ما ذكر بعد إقامة الحجة، ودحض الشبهة، فلا يتوبون ؟ الخ.
﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ﴾ قد يقول قائلهم إذا سمع ما تقدم : إذا كان التثليث أمرا باطلا لا حقية له، وكان الإله الح واحدا لا تعدد فيه ولا تركيب من أصول ولا أقانيم، ولا يشبه الأجسام بذات ولا صفة – فما بال المسيح وما شأنه ؟ هل يعد فردا من أفراد المخلوقات، لا يمتاز عليها بالذات ولا بالصفات ؟ وهل تعد أمه كسائي النساء ؟ أجاب الله تعالى عن هذه الأسئلة التي يوردها من أكبروا المسيح أن يكون بشرا، فبدأ بذكر خصوصيته التي امتاز بها على أكثر الناس، ثم ببيان حقيقته التي يشارك بها كل فرد من أفرادهم، أما الخصوصية فهو إنه ليس إلا رسولا من رسل الله تعالى الذين بعثهم لهداية عباده، قد خلت ومضت من قبله الرسل الذي اختصهم الله مثله تعالى بالرسالة وأيدهم بالآيات. فبهذه الخصوصية امتاز هو وإخوته الرسل على جماهير الناس، وأما أمه فهي صديقة من فضليات النساء، فمرتبتها في الفضل والكمال تلي مرتبة الأنبياء، وأما حقيقتهما الشخصية والنوعية فهي مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما. بدليل أنهما كانا يأكلان الطعام، وكل من يأكل الطعام فهو مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويمد حياته، لئلا ينحل بدنه وتضعف قواه فيهلك – دع ما يستلزمه أكل الطعام، من الحاجة إلى دفع الفضلات، - وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن مساو لسائر الممكنات المخلوقة في حاجتها إلى غيرها، فلا يمكن أن يكون ربا خالقا، ولا ينبغي أن يكون ربا معبودا. وإن من سفه الإنسان لنفسه، واحتقاره لجنسه، أن يرفع بعض المخلوقات المساوية له في ماهيته ومشخصاته بمزية عرضية لها، فيجعل نفسه لها عبدا، ويسمى ما يفتتن بخصوصيته منها إلها أو ربا.
﴿ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي انظر أيها الرسول أو أيها السامع نظر عقل وفكر. كيف نبين لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين على بطلان دعواهم في المسيح، ثم انظر بعد ذلك كيف يصرفون عن استبانة الحق بها، والانتقال من مقدماتها إلى نتائجها ؟ كأن عقولهم قد فقدت بالتقليد وظيفتها ؟
أقام الله تعالى البرهان من حال المسيح وأمه على بطلان كونه إلها، وبين ما يشاركان به أشرف البشر من المزية الخاصة، وما يشاركان به سائر البشر من صفاتهم العامة، وقفى على ذلك بالتعجيب من بعد التفاوت ما بين قوة الآيات حجهم بها، بها، وشدة انصرافهم عنها، ثم لقن نبيه حجة أخرى يوردها في سياق الإنكار عليهم وتبكيتهم على عبادة ما لا فائدة في عبادته فقال :
﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى وأمثالهم الذين عبدوا غير الله : أتعبدون من دون الله – أي متجاوزين عبادة الله وحده – ما لا يملك لكم ضرا تخشون أن يعاقبكم به إذا تركتم عبادته، وترجون أن يدفعه عنكم إذا أنتم عبدتموهم، ولا يملك لكم نفعا ترجون أن يجزيكم به إذا عبدتموه، وتخافون أن يمنعه عنكم إذا كفرتموه ؟ ﴿ وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ أي والحال إن الله تعالى هو السميع لأدعيتكم وسائر أقوالكم، العليم بحاجاتكم وسائر أحوالكم، فلا ينبغي لكم أن تدعوا غيره، ولا أن تعبدوا سواه.
ولما كان قول النصارى في المسيح من أشد الغلو في الدين، بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب، وكان إيذاء اليهود له وسعيهم لقتله، من الغلو في الجمود على تقاليد الدين الصورية، واتباع الهوى فيه، وكان هذا الغلو هو الحامل لهم على قتل زكريا ويحيى وشيعا قال تعالى :
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ الغلو الإفراط وتجاوز الحد في الأمر – فإن كان في الدين فهو تجاوز حد الوحي المنزل إلى ما تهوى الأنفس، كجعل الأنبياء الصالحين أربابا ينفعون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية، واتخاذهم لأجل ذلك آلهة يعبدون فيدعون من دون الله تعالى أو مع الله تعالى، سواء أطلق عليهم لقب الرب والإله كما فعلت النصارى أم لا. وكشرع عبادات لم يأذن بها الله، وتحريم ما لم يحرم الله، كالطيبات التي حرمها القسوس والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم. مبالغة في التنسك، سواء كان ذلك لوجه، أم كان رياء وسمعة – نهى الله تعالى أهل الكتاب الذين كانوا في عصر نزول القرآن عن هذا الغلو الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالتهم، فذكرهم بأن الذين كانوا قبلكم قد ضلوا باتباع أهوائهم في الدين، وعدم اتباعهم فيه سنة الرسل والنبيين، والصالحين من الحواريين، فكل أولئك كانوا موحدين، ولم يكونوا مفرطين ولا مفرَّطين، وإنما كانوا للشرك والغلو في الدين منكرين، فهذا التثليث وهذه الطقوس الكنسية الشديدة المستحدثة من بعدهم، ابتدعها قوم اتبعوا أهواءهم، فضلوا بها وأضلوا بها وأضلوا كثيرا ممن اتبعهم في بدعهم وضلالهم.
وأما الضلال الثاني التي ختمت به الآية فقد فسر بإعراضهم عن الإسلام، كما فسر الضلال الأول بما كان قبل الإسلام، فالإسلام هو سواء السبيل، أي وسطه الذي لا غلو فيه ولا تفريط، لتحتيمه الاتباع، وتحريمه الابتداع والتقليد، ويجوز أن يكون الضلال الأول ضلال الابتداع والزيادة في الدين، والضلال الثاني جهل حقيقة الدين وجوهره، وكونه وسطا بين أطراف مذمومة، كالتوحيد بين الشرك والتعطيل، واتباع الوحي بين الابتداع والتقليد، والسخاء بين البخل والتقتير، الخ.
فإن قيل : كيف غلب بني إسرائيل ذلك الضلال والإضلال، وآثر أكثرهم اتباع الهوى على هدى الأنبياء ؟ وبماذا آخذهم الله تعالى على هذا الإصرار ؟ فالجواب عن ذلك قوله عز وجل :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ اللعن أشد ما يعبر الله تعالى به عن مقته وغضبه، فالملعون منه هو المحروم من لطفه وعنايته، البعيد عن هبوط رأفته ورحمته، وقد كان داود عليه السلام لعن الذين اعتدوا منهم في السبت أو العاصين المعتدين عامة، والمعتدين في السبت خاصة. ثم لعنهم عيسى عليه السلام وهو آخر الأنبياء المرسلين منهم. وإنما كان سبب ذلك اللعن من الله، الذي استمر هذا الاستمرار، عصيانهم له عز وجل، واعتداؤهم الممتد المستمر، كما يدل عليه قوله تعالى :( وكانوا يعتدون ). وقد بين عز وجل ذلك العصيان، وسبب استمرارهم على تعدي حدود الله وإصرارهم عليه بقوله :﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾
﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر ما من المنكرات مهما اشتد قبحها وعظم ضررها، وإنما النهي عن المنكر حفاظ الدين، وسياج الآداب والفضائل، فإذا ترك تجرأ الفساق على إظهار فسقهم وفجورهم، ومتى صار الدهماء يرون المنكرات بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم. تزول وحشتها وقبحها من أنفسهم، ثم يتجرأ الكثيرون أو الأكثرون على اقترافها. فالأخبار بهذا الشأن من شؤونهم، أخبار بفشو المنكرات فيهم، وانتشار مفاسدها بينهم، لأن وجود العلة يقتضي وجود المعلول، ولولا استمرار وقوع المنكرات، لما صح أن يكون ترك التناهي شأنا من شؤون القوم ودأبا من دؤوبهم. [ وقد بسطنا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تفسير ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ﴾ [ النساء : ١٠٤ ] الآية فليراجع في جزء التفسير الرابع وسنعود إليه إن شاء الله تعالى ].
﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ هذا تأكيد قسمي لذم ما كانوا يفعلونه مصرين عليه من اقترف المنكرات والسكوت عليها والرضاء بها، وكفى بذلك إفسادا ذلك شأنهم ودأبهم الذي مردوا واصروا عليه، بينه الله تعالى لرسوله وللمؤمنين عبرة لهم، حتى لا يفعلهم فيكونوا مثلهم، ويحل بهم من لعنة الله وغضبه ما حل بهم. روى أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وغيرهم من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلفى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض – ثم قال ( لعن الذين كفروا – إلى قوله – فاسقون )، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم – كلا والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر. ثم لتأخدن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما يلعنهم ) ١ وورد في المعنى عدة أحاديث، فهل من معتبر أو مذكر ؟ بل رأينا من آثار غضب الله تعالى مثلما رأى بنو إسرائيل أو قريبا منه، وقد عرفنا سببه ولم نتركه، ونراه يزداد بالإصرار على السبب، ولا نتوب ولا نتذكر ! ! فإلى متى إلى متى ؟ ؟
١ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٠، باب ٦، ٧، وأبو داود في الملاحم باب ١٧، وابن ماجه في الفتن باب ٢١، وأحمد في المسند ١/٣٩١..
ثم ذكر الله تعالى لرسوله حالا من أحوالهم الحاضرة التي هي من آثار تلك السيرة الراسخة، فقال :﴿ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي ترى أيها الرسول كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركي قومك، ويحرضونهم على قتالك، وأنت تؤمن بالله وبما أنزله على أنبيائهم وتشهد لهم بالرسالة ؛ وأولئك المشركون لا يوحدون الله تعالى ولا يؤمنون بكتبه ولا برسله مثلك، فكيف يتولونهم ويحالفونهم عليك لولا اتباع أهوائهم، وسخط الله عليهم ؟ ﴿ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ هذا ذم مؤكد بالقسم لعمل اليهود الذي قدمته لهم أنفسهم ليلقوا الله تعالى به في الآخرة، وما هو إلا العمل القبيح الذي أوجب سخط الله عليهم، فالمخصوص بالذم هو ذلك السخط الذي استحقوه، وليس أمامهم ما يجزون به سواه، ولبئس شيئا يقدمه الإنسان لنفسه، فسيجزون به شر الجزاء ﴿ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ فهو محيط بهم لا يجدون عنه مصرفا، لأن النجاة من العذاب إنما تكون برضاء الله تعالى، وهم لم يعملوا إلا ما أوجب سخطه.
﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء ﴾ أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون الكافرين من مشركي العرب يؤمن بالله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو النبي الذي يدعون إتباعه وهو موسى صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إليه من الهدى والفرقان، لما اتخذوا أولئك الكافرين من عبدة الأصنام أولياء لهم وأنصارا، لأن العقيدة الدينية كانت تبعدهم عنهم والجنسية علة الضم. وفي العبارة وجه آخر وهو : لو كان أولئك الذين كفروا من المشركين يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذتهم اليهود أولياء، أي أنهم لم يتخذوهم أولياء إلا لكفرهم بالله ورسوله وما أنزل إليه، والمراد من التوجيهين واحد، وهو أن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها علة إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله وكتابه، والتعاون على حرب الرسول وإبطال دعوته والتنكيل بمن آمن به. هذا هو المشهور في التفسير الآية.
وذهب مجاهد إلى أن المراد بالذين تولاهم اليهود من الذين كفروا المنافقون، وهو أظهر الأقوال، والمعنى أن أولئك المنافقين كفار، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه كما يدعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم، فتوليهم إياهم دليل كونهم يسرون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقا. وقد تقدم الكلام في موالاة المنافقين لليهود وغيرهم فيما مضى من تفسير هذه السورة، وما العهد به ببعيد. كما تقدم القول في الموالاة والتناصر بين اليهود والمشركين.
فاليهود كانوا يتولون المشركين والمنافقين جميعا للاشتراك في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. وما قلنا إن قول مجاهد أظهر إلا من حيث اللفظ، وقد بين الله العلة الجامعة بينهم بقوله :﴿ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ أي خارجون من حظيرة الدين، منسلون منه انسلال الشعرة من العجين. والقليل لا تأثير له في سيرة الأمة وأعمالها والله أعلم.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ٨٤ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ٨٥ ﴾.
ختم الله هذا السياق في محاجة أهل الكتاب وبيان شأنهم، بهذه الآيات التي بين فيها حالتهم النفسية في عداوة المؤمنين ومودتهم، ودرجة قربهم منهم وبعدهم عنهم، وكذا حالة المشركين-
فقال :
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ العداوة بغضاء يظهر أثرها في القول والعمل، والمودة محبة يظهر أثرها في القول والعمل، خلافا للجمهور الذين فسروها بالمحبة مطلقا. وفي كلمة ( لتجدن ) تأكيدان- لام القسم في أول الكلمة ونون التوكيد في آخرها. وفي الخطاب بها وجهان – أحدهما أنه للنبي صلى الله عليه وسلم وثانيهما أنه لكل من يوجه إليه الكلام، وفي «الناس » الذين نزل فيهم هذا التفصيل قولان – أحدهما أنهم يهود الحجاز ومشركو العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل، والثاني أنه عام.
فأما صدقه على أهل العصر الأول فظاهر أتم الظهور، ولا سيما إذا جعلنا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإن أشد ما لاقى – بأبي هو وأمي – من العداوة والإيذاء قد كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومشركي العرب ولا سيما مكة وما قرب منها، ولم ير من النصارى مثل تلك العداوة والإيذاء، بل رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة بحماية المهاجرين الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من مكة إلى الحبشة خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ليفتنوهم عن دينهم، حتى قال أكثر أهل التفسير المأثور : إن الآية نزلت فيهم أولا وبالذات، ولا ينفي هذا القول كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وسيأتي ما روي في ذلك في آخر تفسير الآيات.
لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتب الدعوة الإسلامية إلى الملوك ورؤساء الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا- فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام فلما لم يقبلوا لجمودهم على التقليد، وعدم فقههم حقيقة الدين الجديد، اكتفى بالرد الحسن. والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردا، وإن لم يكن أكثر إلى الإسلام ميلا، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام، وعرف أهلها مزية الإسلام، دخلوا في دين الله أفواجا، وكان القبط أسرع له قبولا.
وقد كان حاطب بن أبي بلتعة رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، وكان مما قاله له بعد أن أعطاه الكتاب : إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) فانتقم به ثم انتقم منه. فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك. فقال ( المقوقس ) إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه. فقال حاطب : ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فقد سواه. إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن، إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل. وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به ( أي هو الإسلام عينه ) فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء، والإخبار بالنجوى. وسأنظر- الخ.
ومما يشهد لما ذكرناه أيضا حديث عمرو بن العاص رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان جيفر بن الجلندي وأخيه عبد بن الجلندي، فإن عمرا عمد أولا إلى عبد لأنه أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فبلغه دعوة الإسلام، فقال له عبد : يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك ؟ ( قال عمرو ) قلت : مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام. قال فمتى تبعته ؟ قلت : قريبا. فسألني أين كان إسلامك ؟ قلت : عند النجاشي. وأخبرته أن النجاشي قد أسلم. قال : فكيف صنع قومه بملكه ؟ فقلت أقروه واتبعوه. قال والأساقفة والرهبان تبعوه ؟ قلت نعم. قال انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح من الكذب. قلت : ما كذبت وما نستحله في ديننا. ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت : بلى. قال بأي شيء علمت ذلك، قلت : كان النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال : لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته. فبلغ هرقل قوله، فقال له اليناق أخوه : اتدع عبدك لا يخرج لك خرجا، ويدين بدين غيرك دينا محدثا ؟ قال هرقل : رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به ؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع. قال : انظر ما تقول يا عمرو. قلت والله صدقتك. قال عبد : فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه ؟ قلت يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وعن الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه. لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به، ولكن أخي يضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا. اه المراد منه ( وقد أسلم الرجلان بعد ).
فعلم من هذه الشواهد أن النصارى الذين كانوا مجاورين للحجاز كانوا في زمن البعثة أقرب مودة للمؤمنين، وأقرب قبولا للإسلام، وإن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه. وأن النجاشي ( أصحمة ) ملك الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا. ولكن يظهر أن الإسلام لم ينتشر في الحبشة بعد موته رضي الله عنه، ولم يعن المسلمون بإقامة أحكامهم في تلك البلاد، كما فعلوا في مصر والشام ( مثلا ) وهذا بحث تاريخي ليس من موضوعنا هنا، ولكن ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم »١ عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى أبي داود عن رجل من الصحابة وعلم عليه بالصحة. وقد رواه أبو داود بهذا اللفظ، والنسائي بلفظه في آخر حديث طويل ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه إن الله تعالى أراه- وهو يحفر في الخندق في وقعة الأحزاب – بلاد كسرى فسئل أن يدعو الله تعالى بأن يفتحها لأمته فدعا، ثم ذكر أن الله أراه ملك قيصر وديار الشام فسئل أن يدعو الله تعالى بأن يفتحها لهم فدعا. ثم ذكر أن الله أراه بلاد الحبشة وقال هذا الحديث قبل أن يسألوه الدعاء بفتحها.
وجملة القول أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين. وقد يظن بعض الناس أن سبب ذلك بعد النصارى عنهم، وقرب اليهود منهم في المدينة والمشركين في مكة والمدينة معا، ومن بلغته الدعوة إلى ترك دينه إلى دين آخر من بعيد لا يعني بعداوة أهلها وبمقاومتها كما يعني القريب الذي توجه إليه الدعوة مواجهة ومشافهة. ولذلك كان اليهود في الشام والأندلس يعطفون على المسلمين عند الفتح ويرغبون في نصرهم على نصارى الروم والقوط. ثم صار بين المسلمين والنصارى من العداوة على الملك والحروب لأجله ما هو أشد مما كان من عداوة اليهود والمشركين لسلفهم في أول الإسلام.
والقاعدة لهذا الرأي أن العداوة والمودة كانت ولم تزل أثر التنازع على المنافع والسيادة باسم الدين أو الدنيا. ولا دخل لطبيعة الدين فيها. وقد يؤيد هذا بما يثيره دعاة النصرانية في نفوس المسلمين في هذا الزمان، وبما بين الدول الإسلامية والنصرانية من البغي والعدوان، على أنه ليس بين اليهود والمسلمين من ذلك شيء، ولكن قد يوجد مثله بين مسلمي الهند ومشركيها، لتعارض مصالحهم ومنافعهم فيها، فعلة العداوة والمودة خارجية لا دينية ولا جنسية.
هذا كلام صحيح في جملته لا تفصيله، وينطبق على المختلفين في الدين والمتفقين فيه- فقد حارب نصارى البلقان بعضهم بعضا كما حاربوا العثمانيين، بل أهل المذهب الواحد من النصارى يحارب الآن بعضهم بعضا كالإنجليز والألمان، وليس هو المراد بالآية، وإنما القرآن يبين هنا معنى أعلى منه وأعم، لا خاصا بالتنازع.
وهو أن العلة الصحيحة لعداوة المعادين ومودة الموادين هي الحالة الروحية التي هي أثر تقاليدهم الدينية والعادية وتربيتهم الأدبية والاجتماعية، وقد نبه القرآن إلى ذلك في بيان سبب مودة النصارى من هذه الآية. وترك سبب شدة عداوة اليهود والمشركين لأن حالتهم الروحية مبينة في القرآن أتم البيان في عدة سور، ومن أوسعها بيانا لأحوال اليهود هذه السورة وما قبلها من السور الطوال المدنية، وأوسعها بيانا لأحوال المشركين سورة الأنعام التي تليها وهي من السور المكية.
كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت شدة العداوة للمؤمنين. فمنها الكبر والعتو، والبغي وحب العلو، ومنها العصبية الجنسية، والحمية القومية، ومنها غلبة الحياة المادية، ومنها الأثرة والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، وكان مشركو العرب على جاهليتهم أرق من اليهود قلوبا، وأكثر سخاء وإيثارا، وأشد حرية في الفكر والاستقلال. وما قدم الله ذكر اليهود في الآية إلا لإفادة أصالتهم وتمكنهم فيما وصفوا به، وتبريزهم على مشركي العرب فيه، وناهيك بما سبق لهم من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل. وأما ما كان من ضلعهم مع المسلمين في البلاد المقدسة والشام والأندلس فإنما كان لأجل تفيؤ ظل عدلهم، والاستراحة من اضطهاد نصارى تلك البلاد لهم، فهم لم يعدوا في ذلك عادتهم، ولم يتركوا ما عرف من شنشنتهم، وهي أنهم لا يعملون شيئا إلا لمصلحتهم.
ويمكن أن يستنبط ما تركه الله هنا من بيان سبب شدة هؤلاء وأولئك مما بينه من سبب قرب مودة النصارى بقوله عز وجل ﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( ٨٢ ) ﴾ أي ذلك- الذي ذكر من كون النصارى أقرب مودة للذين آمنوا-بسبب أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم وتربيتهم الدينية، ورهبانا يمثلون فيهم الزهد وترك نعيم الدنيا والخوف من الله عز وجل والانقطاع لعبادته. وإنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر لهم أنه الحق، لأن أشهر آداب دينهم التواضع والتذلل، وقبول كل سلطة، والخضوع لكل حاكم، بل من المشهور فيها الأمر بمحبة الأعداء، وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، فتداول هذه الوصايا، ووجود أولئك القسيسين والرهبان، لابد أن يؤثر في نفوس جمهور الأمة وسوادها، فيضعف صفة الاستكبار عن قبول الحق فيها. وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا، والرضاء بها سرا وجهارا، وأما اليهود فإذا أظهروا الرضا بذلك اضطرارا، أسروا الكيد أسرارا، ومكروا مكرا كبارا.
فتلك كانت صفات الفريقين الغالبة. لا أخلاق أفراد الأمتين كافة، ففي كل قوم خبيثون وطيبون، ﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ [ الأعراف : ١٠٩ ] ولكن شريعة اليهود نفسها تربي في نفوسهم الأثرة الجنسية لأنها خاصة بشعب إسرائيل، وكل أحكامها ونصوصها مبنية على ذلك.
وحكمة ذلك أن المراد منها تربية أمة موحدة بين أمم الوثنية الكثيرة بعد إنقاذها من استعباد أشد أولئك الوثنيين بطشا وأضراهم بالاستبداد-وهي أمة الفراعنة- ولو أذن الله لنبي إسرائيل بعد إنجائهم من مصر إلى الأرض المقدسة أن يخالطوا الأمم التي كانت فيها، وجعل شريعتهم عامة مبنية على قواعد المساواة بين الإسرائيليين وغي
١ أخرجه أبو داود في الملاحم باب ٨.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ٨٤ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ٨٥ ﴾.
ختم الله هذا السياق في محاجة أهل الكتاب وبيان شأنهم، بهذه الآيات التي بين فيها حالتهم النفسية في عداوة المؤمنين ومودتهم، ودرجة قربهم منهم وبعدهم عنهم، وكذا حالة المشركين-
ويبدأ الجزء السابع بقوله عز وجل :﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾
﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾ أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول الكامل-محمد صلى الله عليه وسلم – الذي أكمل به الدين، وبعث رحمة للعالمين، ترى أيها الناظر إليهم أعينهم تفيض من الدمع، أي تمتلئ دمعا حتى يتدفق الدمع من جوانبها لكثرته، أو حتى كأن الأعين ذابت وصارت دمعا جاريا، ذلك من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن، ولم يمنعهم من الإذعان والخشوع له ما منع غيرهم من العتو والاستكبار. فقوله «من الحق » بيان لقوله «مما عرفوا » وقيل إن من فيه للتبعيض، أي أن أعينهم فاضت عبرة ودموعا، عبرة منهم وخشوعا، لمعرفتهم بعض الحق، إذ سمعوا بعض الآيات دون البعض، فكيف لو عرفوا الحق كله بسماع جميع القرآن ومعرفة ما جاءت به السنة من الأسوة الحسنة والبيان، وهذا القول إنما يصح بتطبيقه على واقعة معنية كالذي تسمع في النجاشي وجماعته. وأما ظاهر الجملة الشرطية فهو بيان ما يكون من شأنهم عند سماع القرآن، وهو العبرة والاستعبار، والدموع الغزار.
ثم بين تعالى ما يكون من مقالهم، بعد بيان ما يكون من حالهم، فقال ﴿ يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( ٨٣ ) ﴾ أي يقولون هذا القول يريدون به إنشاء الإيمان، والتضرع إلى الله تعالى بأن يقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذين جعلهم الله تعالى كالرسل شهداء على الناس، وإنما يقولون ذلك لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم، أو مما يتناقلونه عن سلفهم، أن النبي الأخير الذي يكمل الله به الدين يكون متبعوه شهداء على الناس، أو المعنى أنهم بدخولهم في هذه الأمة يكتبون من الشاهدين، فذكر الله الأمة بأشرف أوصافها. قال ابن عباس رضي الله عنه : إن الشاهدين هنا هم الشهداء في قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وروي عنه أنه قال : هم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، أنهم شهدوا أنه قد بلغ، وإن الرسول قال : قد بلغت، كأنه يقول : إن الشهادة للرسل تستلزم الشهادة على من خالفهم، وإلا كان هذا التفسير غير ظاهر، لأن الشهادة على المرء ضد الشهادة له. والحق أن الشهادة هنا يراد بها أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة وتكون حجة على المشركين والمبطلين بكونها مظهرا لدين الله الحق الذي جحدوه أو ضلوا عنه. وقد حققنا القول في بيان معنى الشهداء في تفسير سورة النساء والسورتين قبلها ؛ فليراجع تفسير ٤ : ٦٨ ﴿ ومن يطع الله والرسول ﴾ [ النساء : ٦٨ ] في ( ج٥تفسير ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وهناك ما ورد في أسباب نزول هذه الآيات عن أهل الأثر :
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ قال هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : ما ذكر الله به النصارى قال : هم ناس من الحبشة أمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ﴾.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم سورة مريم ؛ فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل فيهم ﴿ ولتجدن أقربهم مودة ﴾ – إلى قوله – ﴿ من الشاهدين ﴾.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾ قال هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن. وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، فأنزل الله فيهم ﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾ الآية. ونزلت هذه الآية فيهم أيضا ﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون ﴾ [ القصص : ٥٢ ] – إلى قوله- ﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ [ القصص : ٥٤ ].
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عروة قال : كانوا يرون إن هذه الآية نزلت في النجاشي ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ قال إنهم كانوا برايين يعني ملاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبش فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله " إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم عن دينكم " فقالوا لن ننقلب عن ديننا، فأنزل الله ذلك من قولهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في الذين أقبلوا مع جعفر من أرض الحبشة وكان جعفر لحق بالحبشة هو وأربعون معه من قريش وخمسون من الأشعريين منهم أربعة من عك أكبرهم أبو عامر الأشعري وأصغرهم عامر. فذكر لنا أن قريشا بعثوا في طلبهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، فأتوا النجاشي فقالوا إن هؤلاء قد أفسدوا دين قومهم فأرسل إليهم فجاءوا فسألهم، فقالوا : بعث الله فينا نبيا كما بعث في الأمم قبلنا يدعونا إلى الله وحده ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بالصلة وينهانا عن القطيعة، ويأمرنا بالوفاء وينهانا عن النكث ؛ وإن قومنا بغوا علينا وأخرجونا حين صدقناه وآمنا به، فلم نجد أحدا نلجأ إليها غيرك. فقال معروفا. فقال عمرو وصاحبه إنهم يقولون في عيسى غير الذي تقول. قال : وما تقولون في عيسى ؟ قالوا : نشهد أنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ولدته عذراء بتول. قال : ما أخطأتم. ثم قال لعمرو وصاحبه : لولا أنكما أقبلتما في جواري لفعلت بكما وذكر لنا أن جعفر وأصحابه إذ أقبلوا جاء أولئك معهم فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال قائل : لو قد رجعوا إلى أرضهم لحقوا بدينهم. فحدثنا أنه قدم مع جعفر سبعون منهم فلما قرأ عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ( القرآن ) فاضت أعينهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث ( النجاشي ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاصي في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي. فقالوا إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبي. وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك. فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون. فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا : استأذن لأولياء الله، فقال ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله ؟ فلما دخلوا عليه سلموا. فقال الرهط من المشركين : ألم ترى أيها الملك إنا صدقناك وإنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها. فقال لهم ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول. قال فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود١ فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم. فقال : هل تقرؤن شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا نعم. قال : فاقرؤوا فقرؤوا- وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى- فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
هذا وإن المحدثين يجمعون بين أمثال هذه الروايات بتعدد الوقائع فإن لم يمكن الجمع اعتمدوا على ما كان أقوى سندا.
ذكر هذه الروايات الحافظ السيوطي في الدر المنثور. وذكر رواية أخرى أخرجها الطبراني مختصرة والبيهقي في الدلائل مطولة عن سلمان الفارسي رضي الله عنه في سبب إسلامه. ملخصها أنه كان مجوسيا وظفر ببعض عباد النصارى المنقطعين في بعض الجبال وسافر معهم من بلاده إلى الموصل وهنالك اتصلوا بعباد مثلهم ولقوا رجلا كان منقطا للعبادة في كهف عظموه كثيرا، ووعظهم هو وعظا بليغا، ذكر فيه إن عيسى كان رسولا لله وعبدا أنعم عليه فنكر ذلك له. وكان الرجل لا يخرج من الكهف إلا يوم الأحد. ثم سافر العابد وسافر معه سلمان إلى بيت المقدس. وهنالك شفى الله على يده مقعدا. وقد وعظ سلمان قبل فراقه فذكر الجنة والنهر وبعثة نبي من تهامة صفاته كيت وكيت، وأوصاه بالإيمان به، ثم فارقه فلم يستطع إدراكه فلقي ركبا من الحجاز حملوه إلى المدينة فباعوه فيها. ولما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ورأى العلامات فيه آمن وكاتب وساعده صلى الله عليه وسلم على شراء نفسه، وأن الآيات نزلت في أصحابه الذين صحبهم. والرواية ضعيفة وحمل الآيات عليها بعيد.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ٨٤ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ٨٥ ﴾.
ختم الله هذا السياق في محاجة أهل الكتاب وبيان شأنهم، بهذه الآيات التي بين فيها حالتهم النفسية في عداوة المؤمنين ومودتهم، ودرجة قربهم منهم وبعدهم عنهم، وكذا حالة المشركين-
﴿ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( ٨٤ ) ﴾ هذا تتمة قولهم، والمعنى أي مانع يمنعنا من الإيمان بالله وحده وبما جاءنا من الحق على لسان هذا الرسول، بعد أن ظهر لنا إنه البارقليط روح الحق الذي بشر به المسيح، والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين، الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل الكاملة، والعبادات الخالصة، والمعاملات المستقيمة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين رأينا أثر صلاحهم بأعيننا بعد ما كان من فسادهم في جاهليتهم ما كان ؟ أي لا مانع يمنعنا من هذا الإيمان بعد تحقيق موجبه، وقيام سببه. فسروا القوم الصالحين بأصحاب الرسول، وهو متعين بالنسبة إلى من آمن من نصارى الحبشة. وكل من سار على طريقهم يعد منهم ويحشر معهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وهناك ما ورد في أسباب نزول هذه الآيات عن أهل الأثر :
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ قال هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : ما ذكر الله به النصارى قال : هم ناس من الحبشة أمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ﴾.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم سورة مريم ؛ فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل فيهم ﴿ ولتجدن أقربهم مودة ﴾ – إلى قوله – ﴿ من الشاهدين ﴾.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾ قال هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن. وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، فأنزل الله فيهم ﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾ الآية. ونزلت هذه الآية فيهم أيضا ﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون ﴾ [ القصص : ٥٢ ] – إلى قوله- ﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ [ القصص : ٥٤ ].
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عروة قال : كانوا يرون إن هذه الآية نزلت في النجاشي ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ قال إنهم كانوا برايين يعني ملاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبش فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله " إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم عن دينكم " فقالوا لن ننقلب عن ديننا، فأنزل الله ذلك من قولهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في الذين أقبلوا مع جعفر من أرض الحبشة وكان جعفر لحق بالحبشة هو وأربعون معه من قريش وخمسون من الأشعريين منهم أربعة من عك أكبرهم أبو عامر الأشعري وأصغرهم عامر. فذكر لنا أن قريشا بعثوا في طلبهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، فأتوا النجاشي فقالوا إن هؤلاء قد أفسدوا دين قومهم فأرسل إليهم فجاءوا فسألهم، فقالوا : بعث الله فينا نبيا كما بعث في الأمم قبلنا يدعونا إلى الله وحده ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بالصلة وينهانا عن القطيعة، ويأمرنا بالوفاء وينهانا عن النكث ؛ وإن قومنا بغوا علينا وأخرجونا حين صدقناه وآمنا به، فلم نجد أحدا نلجأ إليها غيرك. فقال معروفا. فقال عمرو وصاحبه إنهم يقولون في عيسى غير الذي تقول. قال : وما تقولون في عيسى ؟ قالوا : نشهد أنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ولدته عذراء بتول. قال : ما أخطأتم. ثم قال لعمرو وصاحبه : لولا أنكما أقبلتما في جواري لفعلت بكما وذكر لنا أن جعفر وأصحابه إذ أقبلوا جاء أولئك معهم فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال قائل : لو قد رجعوا إلى أرضهم لحقوا بدينهم. فحدثنا أنه قدم مع جعفر سبعون منهم فلما قرأ عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ( القرآن ) فاضت أعينهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث ( النجاشي ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاصي في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي. فقالوا إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبي. وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك. فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون. فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا : استأذن لأولياء الله، فقال ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله ؟ فلما دخلوا عليه سلموا. فقال الرهط من المشركين : ألم ترى أيها الملك إنا صدقناك وإنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها. فقال لهم ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول. قال فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود١ فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم. فقال : هل تقرؤن شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا نعم. قال : فاقرؤوا فقرؤوا- وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى- فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
هذا وإن المحدثين يجمعون بين أمثال هذه الروايات بتعدد الوقائع فإن لم يمكن الجمع اعتمدوا على ما كان أقوى سندا.
ذكر هذه الروايات الحافظ السيوطي في الدر المنثور. وذكر رواية أخرى أخرجها الطبراني مختصرة والبيهقي في الدلائل مطولة عن سلمان الفارسي رضي الله عنه في سبب إسلامه. ملخصها أنه كان مجوسيا وظفر ببعض عباد النصارى المنقطعين في بعض الجبال وسافر معهم من بلاده إلى الموصل وهنالك اتصلوا بعباد مثلهم ولقوا رجلا كان منقطا للعبادة في كهف عظموه كثيرا، ووعظهم هو وعظا بليغا، ذكر فيه إن عيسى كان رسولا لله وعبدا أنعم عليه فنكر ذلك له. وكان الرجل لا يخرج من الكهف إلا يوم الأحد. ثم سافر العابد وسافر معه سلمان إلى بيت المقدس. وهنالك شفى الله على يده مقعدا. وقد وعظ سلمان قبل فراقه فذكر الجنة والنهر وبعثة نبي من تهامة صفاته كيت وكيت، وأوصاه بالإيمان به، ثم فارقه فلم يستطع إدراكه فلقي ركبا من الحجاز حملوه إلى المدينة فباعوه فيها. ولما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ورأى العلامات فيه آمن وكاتب وساعده صلى الله عليه وسلم على شراء نفسه، وأن الآيات نزلت في أصحابه الذين صحبهم. والرواية ضعيفة وحمل الآيات عليها بعيد.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ٨٢ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ٨٣ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ٨٤ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ٨٥ ﴾.
ختم الله هذا السياق في محاجة أهل الكتاب وبيان شأنهم، بهذه الآيات التي بين فيها حالتهم النفسية في عداوة المؤمنين ومودتهم، ودرجة قربهم منهم وبعدهم عنهم، وكذا حالة المشركين-
﴿ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ( ٨٥ ) ﴾ أي فجزاهم الله تعالى وأعطاهم من الثواب بقولهم الذي عبروا به عن إيمانهم وإخلاصهم بساتين وحدائق في دار النعيم تجري من تحت أشجارها الأنهار يخلدون فيها، فلا هي تسلب منهم ولا هم يرغبون عنها ويتركونها. وذلك النوع من الثواب جزاء جميع المحسنين في سيرتهم وأعمالهم من أهل الإيمان. وقد علم من الآيات الأخرى أن في تلك الجنات من الدور والقصور والنعيم الروحاني والرضوان الإلهي ما لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ويحيط به الوصف في هذا العالم المخالف لذلك العالم في حقيقته وخواصه ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ [ السجدة : ١٧ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وهناك ما ورد في أسباب نزول هذه الآيات عن أهل الأثر :
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ قال هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : ما ذكر الله به النصارى قال : هم ناس من الحبشة أمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ﴾.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم سورة مريم ؛ فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل فيهم ﴿ ولتجدن أقربهم مودة ﴾ – إلى قوله – ﴿ من الشاهدين ﴾.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾ قال هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن. وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، فأنزل الله فيهم ﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ﴾ الآية. ونزلت هذه الآية فيهم أيضا ﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون ﴾ [ القصص : ٥٢ ] – إلى قوله- ﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ [ القصص : ٥٤ ].
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عروة قال : كانوا يرون إن هذه الآية نزلت في النجاشي ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ قال إنهم كانوا برايين يعني ملاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبش فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله " إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم عن دينكم " فقالوا لن ننقلب عن ديننا، فأنزل الله ذلك من قولهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في الذين أقبلوا مع جعفر من أرض الحبشة وكان جعفر لحق بالحبشة هو وأربعون معه من قريش وخمسون من الأشعريين منهم أربعة من عك أكبرهم أبو عامر الأشعري وأصغرهم عامر. فذكر لنا أن قريشا بعثوا في طلبهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، فأتوا النجاشي فقالوا إن هؤلاء قد أفسدوا دين قومهم فأرسل إليهم فجاءوا فسألهم، فقالوا : بعث الله فينا نبيا كما بعث في الأمم قبلنا يدعونا إلى الله وحده ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بالصلة وينهانا عن القطيعة، ويأمرنا بالوفاء وينهانا عن النكث ؛ وإن قومنا بغوا علينا وأخرجونا حين صدقناه وآمنا به، فلم نجد أحدا نلجأ إليها غيرك. فقال معروفا. فقال عمرو وصاحبه إنهم يقولون في عيسى غير الذي تقول. قال : وما تقولون في عيسى ؟ قالوا : نشهد أنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ولدته عذراء بتول. قال : ما أخطأتم. ثم قال لعمرو وصاحبه : لولا أنكما أقبلتما في جواري لفعلت بكما وذكر لنا أن جعفر وأصحابه إذ أقبلوا جاء أولئك معهم فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال قائل : لو قد رجعوا إلى أرضهم لحقوا بدينهم. فحدثنا أنه قدم مع جعفر سبعون منهم فلما قرأ عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ( القرآن ) فاضت أعينهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : بعث ( النجاشي ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم ﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاصي في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي. فقالوا إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبي. وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك. فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون. فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا : استأذن لأولياء الله، فقال ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله ؟ فلما دخلوا عليه سلموا. فقال الرهط من المشركين : ألم ترى أيها الملك إنا صدقناك وإنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها. فقال لهم ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا يقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم ويقول في مريم إنها العذراء الطيبة البتول. قال فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود١ فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم. فقال : هل تقرؤن شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا نعم. قال : فاقرؤوا فقرؤوا- وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى- فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ﴾.
هذا وإن المحدثين يجمعون بين أمثال هذه الروايات بتعدد الوقائع فإن لم يمكن الجمع اعتمدوا على ما كان أقوى سندا.
ذكر هذه الروايات الحافظ السيوطي في الدر المنثور. وذكر رواية أخرى أخرجها الطبراني مختصرة والبيهقي في الدلائل مطولة عن سلمان الفارسي رضي الله عنه في سبب إسلامه. ملخصها أنه كان مجوسيا وظفر ببعض عباد النصارى المنقطعين في بعض الجبال وسافر معهم من بلاده إلى الموصل وهنالك اتصلوا بعباد مثلهم ولقوا رجلا كان منقطا للعبادة في كهف عظموه كثيرا، ووعظهم هو وعظا بليغا، ذكر فيه إن عيسى كان رسولا لله وعبدا أنعم عليه فنكر ذلك له. وكان الرجل لا يخرج من الكهف إلا يوم الأحد. ثم سافر العابد وسافر معه سلمان إلى بيت المقدس. وهنالك شفى الله على يده مقعدا. وقد وعظ سلمان قبل فراقه فذكر الجنة والنهر وبعثة نبي من تهامة صفاته كيت وكيت، وأوصاه بالإيمان به، ثم فارقه فلم يستطع إدراكه فلقي ركبا من الحجاز حملوه إلى المدينة فباعوه فيها. ولما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ورأى العلامات فيه آمن وكاتب وساعده صلى الله عليه وسلم على شراء نفسه، وأن الآيات نزلت في أصحابه الذين صحبهم. والرواية ضعيفة وحمل الآيات عليها بعيد.

﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ٨٦ ﴾
بعد أن بين الله تعالى في آخر الآية السابقة أن ما أثاب به أولئك النصارى الذين آمنوا بالرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم، هو جزاء جميع المحسنين عنده، الذين آمنوا كإيمانهم وخشعوا للحق كخشوعهم، عقب عليه بجزاء المسيئين إلى أنفسهم بالكفر والتكذيب، على سنة القرآن في الجمع بين الوعد والوعيد، فقال :﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ﴾ الدالة على وحدانيتنا، وصدق رسولنا فيما يبلغه عنا، ﴿ أولئك أصحاب الجحيم ﴾ أي أولئك دون غيرهم هم أصحاب تلك النار العظيمة الملازمون لها، الذين ليس لهم مثوى سواها، أعاذنا الله منها.
﴿ يأيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ٨٧ ﴾
بدأ الله تعالى هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك – ومنها حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم، وأحكام الطهارة، والعدل ولو في الأعداء والمبغضين، ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك، ولم يتخلله إلا قليل من آيات الأحكام والوعود والعظات، بينا مناسبتها له في مواضعها. وهذه الآيات عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدأت بها السورة، ويتلوها العود إلى محاجة أهل الكتاب كما علمت. فمجموع آيات السورة في هذين الموضوعين. وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة، وتجعل الآيات في أهل الكتب متصلا بعضها ببعض في باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن، من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.
على أن في نظمه وترتيب آية من المناسبة بين المسائل المختلفة ما يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتناسقه، كما ترى في مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة، زائدا على ما علمت آنفا من مناسبتها لمجموع ما تقدمها من أول السورة إلى هنا : ذلك أنه تعالى ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا، وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا، فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية، ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله تعالى، وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات طبعا من اللحوم والأدهان والنساء، إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج البتة، وإما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها ؛ وقد أزال الله تعالى هذا الظن، وقطع طريق تلك الرغبة، بقوله عز من قائل :﴿ يأيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ﴾ أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى. ولا تعتدوا فيها بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد كالزيادة على الشبع والري، أو بالأخلاق والآداب كجعل التمتع بلذتها أكبر همكم، أو شاغلا لكم عن معالي الأمور من العلوم والأعمال النافعة لكم ولأمتكم، وهذا معنى قوله :﴿ كلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾ [ الأعراف : ٣١ ] أو ولا تعتدوها هي – أي الطيبات المحللة – بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة. فالاعتداء يشمل الأمرين : الاعتداء في الشيء نفسه، واعتداء هو بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه، وقد حذف المفعول في الآية فلم يقل : فلا تعتدوا فيها – أو فلا تعتدوها – كما قال :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] ليشمل الأمرين – اعتداء الطيبات نفسها إلى الخبائث، والاعتداء فيها بالإسراف، لأن حذف المعمول يفيد العموم. ثم علل النهي بما ينفر عنه فقال :﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾ الذين يتجاوزون حدود شريعته، وسنن فطرته، ولو بقصد عبادته.
وتحريم الطيبات المحللة قد يكون بالفعل، من غير التزام بيمين ولا نذر، وقد يكون بالتزام، وكلاهما غير جائز ؛ والالتزام قد يكون لأجل رياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد يكون لإرضاء بادرة غضب، بإغاظة زوجة أو والد أو ولد. كمن يحلف بالله بالطلاق أنه لا يأكل من هذا الطعام [ ومثله ما في معناه من المباحات ] أو يلتزم ذلك بغير الحلف والنذر من المؤكدات. ومن هذا الصنف من يقول : إن فعل كذا فهو بريء من الإسلام، أو من الله ورسوله. وكل ذلك مذموم، ولا يحرم على أحد شيء يحرمه على نفسه بهذه الأقوال. وفي الأيمان وكفارتها خلاف بين العلماء سيأتي بيانه.
وأما ترك الطيبات البتة كما تترك المحرمات – ولو بغير نذر ولا يمين – تنسكا وتعبدا لله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، فهو محل شبهة فتن بها كثير من العباد والمتصوفة، فكان من بدعهم التركية، التي تضاهي بدعهم العملية ؛ وقد اتبعوا فيها سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. كعباد بني إسرائيل ورهبان النصارى. وهؤلاء أخذوها عن بعض الوثنيين كالبراهمة الذين يحرمون جميع اللحوم، ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من اللذات. وقهر الإرادة بمشاق الرياضات، وكانوا يحرمون الزينة كما يحرمون النعمة، فيعيشون عراة الأجسام، ولا يستعملون الأواني لأطعمتهم، بل يستغنون عنها بورق الشجر. وقد أرجعهم انتشار الإسلام في الهند عن بعض ذلك. ولا يزال الجم الغفير منهم يمشون في الأسواق والشوارع عراة ليس على أبدانهم إلا ما يستر السوءتين فقط، ويعبرون عن ذلك بكلمة «السبيلين » العربية التي يستعملها الفقهاء، لأنهم أخذوها – كما يظهر – عن المسلمين الذين كانوا يجبرونهم على ستر عوراتهم. ومنهم من يشد في وسطه إزارا بكيفية يرى بها باطن فخذه، والرجال والنساء في قلة الستر سواء، فترى النساء في أسواق المدن مكشوفات البطون والظهور والسوق والأفخاذ، ومنهن من تضع على عاتقها ملحفة تستر شطر بدنها الأعلى ويبقى الجانب الآخر مكشوفا.
وجملة القول أن تحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عن قدماء الهنود فاليونان، وقلدهم فيها أهل الكتاب ولاسيما النصارى، فإنهم – على تفصيهم من شريعة التوراة الشديدة الوطأة، وعلى إباحة مقدسهم وإمامهم بولس جميع ما يؤكل ويشرب لهم، إلا الدم المسفوح وما ذبح للأصنام – قد شددوا على أنفسهم، وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة عندهم، على ما فيها من الشدة والمبالغة في الزهد ثم أرسل الله تعالى خاتم النبيين والمرسلين بالإصلاح الأعظم، فأباح للبشر الزينة والطيبات. ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقها، لأن الإنسان مركب من روح وجسد، فيجب عليه العدل بينهما. وهذا هو الكمال البشري. فكانت الأمة الإسلامية بذلك أمة وسطا صالحة للشهادة على جميع الأمم وأن تكون حجة لله عليها. كما تقدم بيان ذلك في أول الجزء الثاني من هذا التفسير، وبذلك كانت جديرة بالبحث عن أسرار الخلق ومنافعه، وتسخير قوى الأرض والجو للتمتع بنعم الله فيها، مع الشكر عليها، ولكنها قصرت في ذلك ثم انقطعت عن السير في طريقه بعد أن قطع سلفها شوطا واسعا فيه.
ولما كان حب المبالغة والغلو من دأب البشر وشنشنتهم في كل شؤونهم، ما من شيء إلا ويوجد من يميل إلى الإفراط فيه، كما يوجد من يميل إلى التفريط – استشار بعض الصحابة رضي الله عنهم نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في تحريم الطيبات والنساء على أنفسهم، وتركها بعضهم من غير استشارة، اشتغالا عنها بصيام النهار وقيام الليل، فنهاهم عن ذلك. وأنزل الله تعالى هذه الآية وما في معناها من الآيات في تحريم الخبائث، والمنة بحل الطيبات، وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أحسن البيان.
وإننا نذكر هنا بعض الأخبار والآثار المروية في ذلك لتكون حجة على أهل الغلو في هذا الدين، الذين تركوا هدايته السمحة إلى تشديد الغابرين، وصاروا يعدون زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق خاصة بالكافرين، حتى كأن المشارك لهم فيها خارج عن هدي المؤمنين، وهاك ما ورد في هذه الآية من التفسير المأثور، وسيأتي في سورة الأعراف١ وغيرها ما يزيدك نورا على نور :
أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، وإني حرمت علي اللحم. فنزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ﴾ قال : نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني ».
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في مراسليه وابن جرير عن أبي مالك في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ قال نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه كانوا حرموا على أنفسهم كثيرا من الشهوات والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فنزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر٢ فقال بعضهم لا آكل اللحم، وقال بعضهم لا أتزوج النساء، وقال بعضهم لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :«ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ». ٣
وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في سننه وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ٤ ثم قرأ عبد الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين ﴾ ٥
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي قلابة قال : أراد أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ثم قال :«إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم » قال ونزلت فيهم :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ الآية.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ قال نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا من الدنيا ويتركوا النساء وتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ قال ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قال ليس في ديني ترك النساء واللحم ولا اتخاذ الصوامع » وخبرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل فلا أنام. وقال أحدهم أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر، وقال الآخر، أما أنا فلا آتي النساء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال :«ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟-قالوا بلى يا رسول وما أردنا إلا الخير. قال-لكني أقوم وأنام وأصوم
١ أي عند تفسير قوله تعالى: ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة﴾
(الأعراف: ٣٢)..

٢ أي عن عبادته، إذ لم يكتفوا بما كان يعمله على أعينهم من أداء الفرائض والسنن الرواتب، واعتقدوا أن الكمال أن يزيدوا على ذلك، وأنه لابد أن
يكون للرسول زيادات يخفيها عنهم رحمة بهم وتخفيفا عليهم، ومن ذلك نوم ابن عباس عند خالته ميمونة زوج النبي الرسول صلى الله عليه وسلم
ليرى صلاته في الليل..

٣ أخرجه البخاري في النكاح باب ١، ومسلم في النكاح حديث ٥..
٤ هذا نكاح المتعة، أجازه النبي صلى الله عليه وسلم في السفر ثم حرمه، ثم أجازه ثم حرمه على التأبيد، وكانت حكمة..
٥ إجازته أنهم كانوا يزنون في الجاهلية فشق عليهم البعد عن النساء في الغزو حتى عزم أقوياء الإيمان على الجب والخصاء، وخيف على الضعفاء
الزنا. وناهيك بما يتبعه من المفاسد، فكانت المتعة تربية للفريقين، وسيرا تدريجيا إلى الحياة الزوجية الكاملة التي يتحقق بها إحصان كا من الزوجين
للآخر ومنع مفاسد الزنا الكثيرة ومضار اختلاف عدة رجال إلى امرأة واحدة (المؤلف)..

﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ﴾ هذا تصريح بالأمر بضد مقتضى النهي الذي قبله، أي كلوا مما رزقكم الله تعالى إياه حال كونه حلالا في نفسه غير داخل فيما حرمه عليكم – من الميتة بأنواعها والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله – وحلالا في طريقة كسبه وتناوله، بأن لا يكون ربا أو سحتا أو غصبا أو سرقة [ ومن الناس من يقول إن الرزق في عرف الشرع ما ملك ملكا صحيحا، لا كل ما انتفع به الإنسان، فلا يحتاج إلى هذا القيد ] وحال كونه مستلذا غير مستقذر في نفسه أو لفساد طرأ عليه كالطعام المنتن.
والمراد بالأكل التمتع فيدخل فيه الشرب مما كان حلالا غير مسكر ولا ضار. طيبا غير مستقذر في نفسه أو بفساده أو نجاسة طرأت عليه. وإنما عبر بالأكل لأنه هو الغالب، كما عبر به في مثل قوله :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ] وهو يعم كل ما ينتفع به من طعام وشراب ولباس ومتاع ومأوى. وكثيرا ما تطلق العرب الخاص فتريد به العام، وما تطلق العام فتريد به الخاص، ويعرف ذلك بالسياق والقرائن.
الأمر ههنا للوجوب لا للإباحة، فهو ليس من الأمر بالشيء بعد النهي عنه المفيد للإباحة فقط كقوله :﴿ فإذا حللتم فاصطادوا ﴾ [ المائدة : ٢ ] وإنما هو تصريح بأن امتثال النهي عن تحريم الطيبات لا يتحقق إلا بالانتفاع بها فعلا، إذ ليس المراد بتحريمها المنهي عنه تحريمها بمجرد القول أو بالاعتقاد، بل المراد به أولا وبالذات الامتناع منها عمدا تقربا إلى الله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، أو إضعافا للجسد توهما أن إضعافه يقوي الروح، أو لغير ذلك من الأسباب والعلل، كمن يحرم على نفسه شيئا بنذر لجاج أو يمين، وكل هذا مما لا يزال يبتلى به كثير من المسلمين. دع ما كانت تحرمه الجاهلية على أنفسها من الأنعام أو نسلها تكريما لها لكثرة نتاجها، أو تعظيما لصنم تسيبها له. كما تراه مبينا في سورة الأنعام التي بعد هذه السورة.
وحكمة النهي عن ذلك أن الله تعالى يحب من عباده أن يقبلوا نعمه ويستعملوها فيما أنعم بها لأجله، ويشكروا له ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الفطرة التي فطرهم عليها، فيمنعوها حقوقها، وأن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها باستباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه. ولأجل هذه الحكمة لم يكتف بالنهي عن تحريم الطيبات، حتى صرح بالأمر باستعمالها والتمتع بها. وقد بين تعالى غاية ذلك وحكمته التي أشرنا إليه بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون ﴾ والشكر يكون بالقول والعمل، ولذلك قارن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الآية في خطاب المؤمنين، وما في معناها من خطاب المرسلين، فقال :«إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ] وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب – ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له »١ رواه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم. وفي الحديث تعريض بالعباد وأهل السياحة من الأمم السالفة الذين كانوا يرون أن روح العبادة التقشف والشعوثة، حتى أنهم على تقشفهم ما كانوا يتحرون الحلال كأنهم يرون التقشف وتعذيب النفس يبيحان لهم ما عداهما، فيكونون أهلا لاستجابة دعائهم. واستدل بعضهم بالحديث على كون المراد بالطيبات الحلال، ميلا إلى ذلك المذهب البرهمي، بل زعم بعضهم مثل ذلك في الآيات التي قرنت الحلال بالطيب فجعلوا الطيب تأكيدا للحلال ؟
فامتثال هذا الأمر وذلك النهي معا لا يتحقق إلا بالتمتع بما يتيسر من الطيبات فعلا بلا تأثم ولا حرج. بل ينبغي للمؤمن أن يكون طيب النفس بذلك، ملاحظا أنه من نعمة الله وفضله، ومن أسباب مرضاته ومثوبته، وأن مرضاته ومثوبته عليه تكون على حسب شهود المنتفع للنعم وشكره للمنعم، وأعني بالشهود أن يحضر قلبه أنه عامل بشرع الله، ومقيم لسنة فطرته التي فطر الناس عليها، وأنه يجب أن يشكر له ذلك بالاعتراف والحمد والثناء، كما شكره بالاعتقاد والاستعمال، وبذلك يكون عاملا بالكتاب والحكمة.
فعلم مما شرحناه أن امتناع امرئ من الطيبات التي رزقه الله إياها، مع الداعية الفطرية للاستمتاع بها، إثم يجنيه على نفسه في الدنيا. ويستحق به عقاب الله في الآخرة، بزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها الله، وبما يترتب على ذلك من إضاعة بعض حقوق الله وحقوق عباد الله. كإضاعة حقوق امرأته أو عياله. وناهيك به إذا انتصب قدوة لغيره، فكان سببا لغلو بعض الناس في الدين وتحريمهم على أنفسهم وعلى من يقتدي بهم ما أحله الله تعالى. والتحريم والتحليل تشريع، وهو حق من حقوق الربوبية، فمن انتحله لنفسه كان مدعيا للربوبية أو كالمدعي لها. ومن اتبع في ذلك فقد اتخذ ربا، كما يؤخذ من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] وسيأتي في موضعه من التفسير.
﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( ٨٨ ) ﴾ في الأكل وغيره فلا تفتاتوا عليه في تحريم ولا تحليل، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل ولا فيما حرم، فإن اتقاء سخطه في ذلك من لوازم إيمانكم به. ومن اعتداء حدوده في الأكل والشرب الإسراف فيهما، فإنه قال :﴿ كلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين ﴾ [ الأعراف : ٣١ ] فمن جعل شهوة بطنه أكبر همه فهو من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرض معدته وأمعاءه للتخم فهو من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل، فهو من المسرفين، وما كان المسرف من المتقين.
الأمر بالتقوى في هذا المقام أوسع معنى وأعم فائده من النهي عن الإسراف في آية الأعراف التي أوردناها آنفا. فهو من باب الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد. وبه يدفع إشكال من عساه يقول : إن الدين شرع لتزكية النفس، والتمتع بالشهوات واللذات، ينافي هذه التزكية وإن اقتصر فيه على المباحات، وكم أفضى التوسع في المباحات إلى المحرمات ؟ وقد ذكر تعالى أنه يقال في الآخرة لأهل النار ﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ﴾ [ الأحقاف : ٢٠ ] فكيف يكون الاستمتاع بالطيبات مطلوبا شرعا ؟ وكيف يحتاج فيه إلى أمر الشرع، وهو مستغنى عنه باقتضاء الطبع ؟
وبيان الدفع أن تزكية الأنفس إنما تكون بإيقافها عند حد الاعتدال، واجتناب التفريط والإفراط، وقد خلق الله الإنسان مركبا من روح ملكية وجسد حيواني، فلم يجعله ملكا محضا، ولا حيوانا محضا، وسخر له بهذه المزية جميع ما في عالمه الذي يعيش فيه من المواد والقوى والأحياء، وجعل من سنته في خلقه أن تكون سلامة البدن وصحته من أسباب سلامة العقل وسائر قوى النفس. ولذلك حرم عليه ما يضر بجسده، كما حرم عليه ما يضر بروحه وعقله. ومن ضعف جسده عجز عن القيام بالصلاة والصيام والحج والجهاد والكسب والواجب عليه للنفقة على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم، وعلى مصالح أمته العامة. فإن لم يعجز عن القيام بها كلها، عجز عن بعضها، أو عن الكمال فيها غالبا. كما أنه يقل نسله ويجيء قميئا ضعيفا أو ينقطع البتة، ويكون بذلك مسيئا إلى نفسه وإلى الأمة. والتمتع بالطيبات من غير إسراف ولا اعتداء لحدود الله وسنن فطرته هو الذي يؤدي به حق الجسد وحق الروح، ويستعان به على أداء حقوق الله وحقوق خلقه، فإن صحبته التقوى فيه وفي غيره تتم به التزكية المطلوبة.
لا ننكر مع هذا أن منع النفس من الشهوات المباحة أحيانا مما يستعان به على تزكية النفس وتربية الإرادة، وحسبنا منه ما شرعه الله لنا من الصيام، وهو مما يدخل في عموم التقوى في هذا المقام، فإنه سبحانه وتعالى بين لنا أن حكمة الصيام وسبب شرعه كونه مرجوا لتحصيل ملكة التقوى إذ قال :﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ ( البقرة : ١٨٣ ) وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير هذه الآية من الجزء الثاني وفي مواضع أخرى. فالصيام رياضة بدنية نفسية، وجمع بين حرمان النفس من لذاتها بقصد التربية، وبين تمتيعها بها توسلا إلى شكر النعمة والقيام بالخدمة أما ما قيل من استغناء الناس بداعية الطبع عن أمر الشرع بهذا التمتع، فهو مدفوع بما أحدثه حب الغلو في كثير من الناس من الجناية على أبدانهم وعقولهم وأممهم بترك طيبات الطعام والنساء. وأما ما يقال للكفار يوم القيامة ﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ﴾ ( الأحقاف : ٢٠ ) فمعناه أنهم جعلوا كل همهم من حياتهم الدنيا التمتع الجسدي ولو بالحرام، فلم يعطوا إنسانيتهم حقها بالجمع بينه وبين تقوى الله التي هي سبب النعيم الروحاني. وقد بين تعالى ذلك بقوله :﴿ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ﴾ ( محمد : ١٢ ).
فتبين مما شرحناه في تفسير الآيتين أن هدي القرآن في الطيبات أي المستلذات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال، والتزام الحلال، كهديه في سائر الأشياء التي يسرف فيها بعض الناس ويقصر بعض. والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه، فأكثر الناس ينحرفون عنه في التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف، فيكونون كالأنعام بل أضل لما يجنون به على أنفسهم، حتى قال بعض الحكماء : إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم. يعني أنهم لإسرافهم في الطعام يصابون بأمراض تكون سببا لقصر آجالهم، وإسراع الهرم فيهم. والقليل من الناس ينحرفون عنه إلى جانب التفريط والتقصير، إما اضطرارا كالمقترين البائسين، وإما اختيارا كالزهاد المتقشفين، والتزام صراط الاعتدال المستقيم أعسر وأشق على النفس، وأدل على الفضيلة والعقل، وكل حزب بما لديهم فرحون.
لا يخطر على بال المسرف أن يدعي أنه متبع هدى الدين في إسرافه، وقصارى ما يعتذر به عن نفسه إذا عذل وعيب عليه إسرافه شرعا أن يدعي أنه لم يتجاوز حد ما أباحه الله له. وإذا قصد المعتدل إتباع الشرع بإقامة سنة الفطرة وإعطاء كل ذي حق حقه من جسده ونفسه وأهله، وشكر الله على نعمه باستعمالها كما ينبغي، فقلما يفطن الناس لذلك منه، ولا يكاد أحد يعده به كامل الدين معتصما بالفضيلة، فهي فضيلة لا رياء فيها ولا سمعة، وإنما المفرطون بتعمد التقشف هم الذين كثيرا ما يغترون بأنفسهم ويغتر الناس بهم، فهم على انحرافهم عن صراط الدين، يدعون أو يدعي فيهم أنهم أكمل الناس في إتباع الدين.
أعوز هؤلاء النص على دعوى كون الغلو في التقشف من الدين فتعلقوا ببعض وقائع الأحوال من سيرة فقراء السلف الصالح على تصريحهم بأن وقائع الأحوال في السنة لا يستدل بها لإجمالها وتطرق الاحتمال إليها، فكيف إذا كانت وقائع من لا يحتج بقول أحد منهم ولا بفعله ؟
عقد أبو حامد الغزالي في إحيائه كتابا سماه ( كتاب كسر الشهوتين ) – شهوة البطن وشهوة الفرج – وطريقته أن يبدأ في كل موضوع بما ورد فيه من الآيات فالأخبار النبوية فالآثار السلفية، ونراه لم يجد آية يبدأ بها موضوع ( بيان فضيلة الجوع وذم الشبع ) فبدأه بأحاديث أكثرها ل
١ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٦٥، والترمذي في تفسير سورة ٢، باب ٣٦، والأدب باب ٤١، والدارمي في الرقاق باب ٩، وأحمد في المسند
٣٢٨/٢..

﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ٨٩ ﴾.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال لما نزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ وأخرج أبو الشيخ عن يعلى بن مسلم قال سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية... قال اقرأ ما قبلها فقرأت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ - إلى قوله – ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ قال : اللغو أن تحرم هذا الذي أحل الله لك وأشباهه، تكفر عن يمينك ولا تحرمه، فهذا اللغو الذي لا يؤاخذكم به، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فإن مت عليه أوخذت به. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » قال هو الرجل يحلف على الحلال أن يحرمه فقال الله «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم »أن تتركه وتكفر عن يمينك، «ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » قال : ما أقمت عليه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد »لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » قال هما الرجلان يتبايعان يقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا – ويقول الآخر : والله لا أشتريه بكذا. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : اللغو أن يصل الرجل كلامه بالحلف : والله لتجيئن، والله لتأكلن، والله لتشربن – ونحو هذا، لا يريد به يمينا ولا يتعمد به حلفا، فهو لغو اليمين ليس له كفارة.
أورد ذلك السيوطي في الدر المنثور. وأصح منه وأظهر في تفسيره ما أورده في تفسير هذه الجملة في سورة البقرة عن مالك في الموطإ والشافعي في الأم والبخاري ومسلم في صحيحهما والبيهقي في سننه وأشهر مصنفي التفسير المأثور من حديث عائشة قالت أنزلت هذه الآية «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » في قول الرجل : لا والله و – بلى والله و – كلا والله١. زاد ابن جرير : يصل بها كلامه. وفي رواية له ولغيره عنها : هو القوم يتدارءون في الأمر يقول هذا : لا والله، ويقول هذا : كلا والله – يتدارءون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم. وفي هذا المعنى عدة روايات عن غيرها من علماء الصحابة كابن عباس وابن عمر.
والصحيح الذي تشهد له اللغة في تفسير ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ هو قول عائشة وعليه جرينا في تفسير آية البقرة. ولقد لخص الأقوال المأثورة في اللغو الحافظ ابن كثير وبدأ بالقول الراجح وهو قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله، وبلى والله. قال : وهذا مذهب الشافعي، وقيل هو في الهزل وقيل في المعصية، وقيل على غلبة الظن – وهو قول أبي حنيفة وأحمد – وقيل اليمين في الغضب، وقيل في النسيان، وقيل هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك. واستدلوا بقوله :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾.
قال : والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ أي بما صممتم عليه منها وقصدتموه اه. فهو قد صحح ما صححه بكونه هو الذي تدل عليه ألفاظ الآية إذا تركت الروايات المختلفة ونظر إلى المتبادر من العبارة، وهو مما يجب التعويل عليه في كل ما اختلفوا فيه.
فاللغو في الأقوال كالعبث في الأفعال وهو ما لا يكون بقصد من القائل أو الفاعل إلى غرض له منه. قال الراغب : اللغو من الكلام ما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور- إلى أن قال – ومنه اللغو في الأيمان أي ما لا عقد عليه، وذلك ما يجري وصلا للكلام بضرب من العادة. ثم ذكر عبارة الآية وبيت الفرزدق الآتي.
وقال في مادة [ عقد ] : العقد الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، فيقال عاقدته وعقدته، وتعاقدنا وعقدت يمينه. قال :( عاقدت أيمانكم ) وقرئ ( عقدت أيمانكم ) وقال :( بما عقدتم الأيمان ) وقرئ ( بما عقدتم الأيمان ) اه.
وأقول التشديد قراءة الجمهور والتخفيف قراءة حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم. وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان ( عاقدتم ) من المعاقدة، وكتابة الكل في المصحف واحدة – هكذا «عقدتم » بدون ألف.
وما في قوله :«بما عقدتم » مصدرية، قال الزمخشري : بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية، وروي أن الحسن رضي الله عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد دعني أجب عنك فقال :
ولست بمأخوذ بقول تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم
ثم أقول إن ما فسر به الراغب العقد لم يوضحه، فليس كل جمع بين طرفين عقدا، وقد يكون العقد في غير الأطراف. فهو كما قال في لسان العرب نقيض الحل، فعقد الأيمان توكيدها بالقصد والغرض الصحيح، وتعقيدها المبالغة في توكيدها، فهو كعقد الشيء لشده أو ما يعقد على الشيء من خيط أو حبل ليحفظه، وقد قال تعالى في سورة النحل :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾ [ النحل : ٩١ ] – إلى أن قال – ﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ﴾ [ النحل : ٩٢ ] فاستعمل في الأيمان النقض الذي هو ضد الإبرام، وهما في الأصل للخيوط والحبال، وكذلك النكث الذي هو ضد الفتل فيها، وكلاهما قريب من الحل الذي هو ضد العقد. فمجموع الآيات في المائدة والبقرة والنحل يدل على أن المؤاخذة في الأيمان إنما تكون في المؤكد الموثق منها بالقصد الصحيح والنية كما قال في سورة البقرة في مقابلة نفي المؤاخذة باللغو ﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] وذلك بأن يحل اليمين وينقضها بتعمد الحنث بعد توكيدها بما يشبه العقد والإبرام. وكثيرا ما سمعت العوام في بلدنا يقولون في الحلف «والله بكسر الهاء وعقد اليمين... » للإعلام بأنها يمين متعمدة مقصودة وليست لغوا يجري على اللسان بمقتضى العادة، وهم لا يحركون به الهاء بل ينقطون بها ساكنة. فهذه هي اليمين التي يأثم من يحنت بها ويحتاج إلى الكفارة وقد بين الله ذلك بقوله :
﴿ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ﴾ الكفارة صفة مبالغة من الكفر وهو الستر والتغطية. ثم صارت في اصطلاح الشرع اسما لأعمال تكفر بعض الذنوب والمؤاخذات أي تغطيها وتخفيها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به في الدنيا ولا في الآخرة، فالذي يكفر عقد اليمين إذا نقض أو أريد نقضه بالحنث به أحد هذه المبررات الثلاثة على التخيير. وأدناها إطعام عشرة مساكين وجبة واحدة لكل منهم من غالب الطعام الذي تطعمون به أهل بيوتكم لا من أدناه الذي تتقشفون به أحيانا، ولا من أعلاه الذي تتوسعون به أحيانا كطعام العيد وما تكرمون به من تدعون أو تضيفون من كرام الناس ككثرة الألوان وما يتبعها من العقبة ( الحلوى والفاكهة ) فمن كان أكثر طعام أهله خبز البر وأكثر إدامه اللحم بالخضر أو دونه فلا يجزئه ما دونه مما يأكلونه قليلا في بعض الأيام إذا طسيت أنفسهم ( أي قرفت من كثرة أكل الدسم ) ليعود إليها نشاطها. ولكن الأعلى يجزئ على كل حال لأنه من الوسط وزيادة، وربما كان هو المراد بالأوسط، أي من نوع يكون من أمثل طعام أهليكم.
وقد روي ما يدل على هذا عن عطاء فإنه فسر الأوسط بالأمثل. وفسره ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة بالأعدل، وهو ما بيناه أولا. وعن ابن عباس في رواية أخرى أنه قال : من عسرهم ويسرهم. وعن ابن عمر أنه قال في تفسيره : الخبز واللحم والخبز واللبن والخبز والزيت والخبز والخل. وفي رواية أخرى عنه نحو ما تقدم إلا أنه ذكر بدل الخل التمر ثم قال : ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم. ومن الناس من جعل الأوسط بالنسبة إلى الطعام البلد لا طعام الأفراد الذين تجب عليهم الكفارة، ففي رواية عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت أهله قوت دون وبعضهم قوتا فيه سعة قال الله تعالى :''من أوسط ما تطعمون أهليكم " أي الخبز والزيت. وجعل بعضهم الأوسط في القلة والكثرة. والأول أظهر، وعلى هذا يكون الثريد بالمرق وقليل من اللحم، أو الخبز مع الملوخية أو الرز أو العدس من أوسط الطعام في مصر والشام لهذا العهد. وكان التمر أوسط طعام أهل المدينة في العصر الأول وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كفر بصاع من تمر وأمر الناس به، رواه ابن ماجه ولكنه ضعيف وجمهور السلف على أن العدد واجب، وأجاز أبو حنيفة إطعام مسكين واحد عشرة أيام.
وأما الكسوة فهي اللباس وهي فوق الإطعام ودون العتق، ولم يقل فيها مما تكسون أهليكم أو من أوسطه، فيجزئ إذا كل ما يسمى كسوة، وأدناه ما يلبسه المساكين عادة وهو المتبادر من الآية. والظاهر المختار عندي أنه يختلف باختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، فيجزئ في مصر القميص السابغ الذي يسمونه ( الجلابية ) مع السراويل أو بدونه، فهو كالإزار والرداء أو العباءة في العصر الأول. وفي العباءة حديث مرفوع رواه الطبراني عن عائشة وابن مردويه عنها وعن حذيفة ولم يصح سندهما وإنما معناه صحيح. ولا يجزئ ما يوضع على الرأس من قلنسوة أو كمة أو طربوش أو عمامة، ولا ما يلبس في الرجلين من الأحذية والجوارب، ولا نحو منديل أو منشفة. وذهب بعض الفقهاء إلى إجراء كل ما تقول العرب فيه كساه كذا، أو ما يطلق عليه لفظ الكسوة، وهو مذهب الشافعي.
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن الزبير عن أبيه قال : سألت عمران بن الحصين رضي الله عنه عن قوله :( أو كسوتهم ) قال : لو أن وفدا قدموا على أميركم وكساهم قلنسوة قلنسوة قلتم : قد كسوا. ولكن هذا أثر واه جدا لأن محمد بن الزبير متروك ليس بشيء. وفيه بحث لفظي وهو أن إضافة الكسوة إلى المساكين كإضافة الإطعام إليهم، فإن كان يكفي في الإطعام تمرة أو تفاحة لأنه يقال لغة : أطعمه تمرة أو تفاحة – يكفي ما ذكر من الكسوة، والأول باطل بالإجماع والثاني مثله وإن اختلف فيه، وقد اختلف في لفظ الكسوة هل هو مصدر كالإطعام أو اسم لما يلبس، والمراد لا يختلف. ثم إن هذه الثلاثة التي خير الله الناس فيها مرتبة على طريقة الترقي، فالإطعام أدناها والكسوة أوسطها والإعتاق أعلاها – كما قلنا – وهو معلوم بالبداهة. فلو أريد من الكسوة ما يشتمل القلنسوة والعمامة لم يكن ذلك من الترقي ولم يظهر لجعل الكسوة بعد الإطعام وقبل الإعتاق نكتة.
وروي عن الحسن وابن سيرين أن الواجب ثوبان ثوبان. وروي الثاني عن أبي موسى أنه فعله. وعن سعيد بن المسيب عمامة يلف بها رأسه وعباءة يلتحف بها، وعن الإمام أبي جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبي مالك والحسن في رواية عنه ثوب ثوب. والمراد به كما صرح به إبراهيم النخعي ثوب جامع كالملحفة والرداء، وكان لا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوها جامعا. وعن مجاهد أعلاه ثوب وأدناه ما شئت. وروى العوفي عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين أو شملة. وعن مالك وأحمد : يرفع لكل مسكين ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلا
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥، باب ٨، والأيمان والنذور باب ١..
﴿ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ٩٠ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ٩١ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ٩٢ ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وأمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأمنوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ٩٣ ﴾
تقدم في تفسير آية البقرة ( ٢ : ٢١٩ يسألونك عن الخمر والميسر ) أن الله تعالى حرم الخمر بالتدريج، وصدرنا الكلام هنالك بحديث أبي هريرة عند الإمام أحمد في ذلك كما رواه السيوطي في أسباب النزول مختصرا. وروي في سبب نزول آيات المائدة أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : فيَّ نزل تحريم الخمر – صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريم الخمر، فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير. وقالت قريش : قريش خير. فأهوى رجل بلحي جزور ١ فضرب على أنفي ففزره – فكان سعد مفزور الأنف – قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فنزلت هذه الآية :﴿ يا أيها الذي آمنوا إنما الخمر والميسر ﴾ الآية رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النحاس في ناسخه، وروى الطبراني عنه أنه نادم رجلا فعارضه فعربد عليه فشجه فنزلت الآيات في ذلك.
وعن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار : شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان – وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن – والله لو كان رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا. حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر – إلى قوله – فهل أنتم منتهون ﴾ فقال ناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وفي بطن فلان قتل يوم أحد ؟ فأنزل الله ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي والترمذي أن عمر كان يدعو الله تعالى : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فظل على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء. فلما نزلت آية المائدة دعي فقرئت عليه. فلما بلغ قول الله تعالى ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قال انتهينا انتهينا٢.
والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج أن الناس كانوا مفتونين بها حتى أنها لو حرمت في أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام بل عن النظر الصحيح المؤدي إلى الاهتداء به لأنهم حينئذ ينظرون إليه بعين السخط فيرونه بغير صورته الجميلة، فكان من لطف الله تعالى وبالغ حكمته أن ذكرها في سورة البقرة بما يدل على تحريمها دلالة ظنية فيها مجال للاجتهاد ليتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسها ( راجع ج ٢ ) وذكرها في سورة النساء بما يقتضي تحريمها في الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى عن قرب الصلاة في حال السكر. فلم يبق للمصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل. وكذا الصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له ولا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، وقليل ما هم. وكان شيخنا يرى أن آية النساء نزلت قبل آية البقرة. ثم تركهم الله تعالى على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين، ورسخ اليقين، وكثرت الوقائع التي ظهرت لهم بها إثم الخمر وضررها، ومنه كل ما ذكر في سبب نزول هذه الآيات.
أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت في البقرة ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] شربها قوم لقوله «منافع للناس » وتركها قوم لقوله «إثم كبير » منهم عثمان بن مظعون. حتى نزلت الآية التي في النساء ﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فتركها قوم وشربها قوم يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي في المائدة ﴿ إنما الخمر والميسر ﴾ الآية قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا. فتركها الناس، ووقع في صدور أناس من الناس منها، فجعل قوم يمر ( ؟ ) بالرواية من الخمر فتخرق فيمر بها أصحابها فيقولون : قد كنا نكرمك عن هذا المصرع. وقالوا ما حرم علينا شيء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول : إن في نفسي شيئا. فيقول صاحبه : لعلك تذكر الخمر !فيقول نعم، فيقول إن في نفسي مثل ما في نفسك، حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ( أي حاضر ) وخافوا أن ينزل فيهم ( أي قرآن ) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدوا له حجة فقالوا : أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش. أليسوا في الجنة ؟ قال «بلى » قالوا :«أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر ؟ فحرم علينا شيء دخلوا الجنة وهم يشربونه ؟ فقال قد سمع الله ما قلتم فإن شاء أجابكم » فأنزل الله ﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ ؟ فقالوا انتهينا. ونزل في الذين ذكروا حمزة وأصحابه ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ [ المائدة : ٩٣ ] الآية، ولأصحاب التفسير المأثور روايات أخرى في سبب النزول وما كان من اجتهاد بعض الصحابة في آيتي البقرة والنساء. وقد بين وجهه في تفسير آية البقرة. ومنه حديث لأبي هريرة وآثار سيأتي بعضها في سياق تفسير الآيات :﴿ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ ( الخمر ) كل شراب مسكر، وهذه التسمية لغوية وشرعية. وقيل شرعية فقط. وهو قول ضعيف، وقيل إن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد. وهذا أضعف مما قبله ولا دليل على هذا الحصر من اللغة ولا من الشرع، وقد بينا ذلك في تفسير آية البقرة ( ج٢ ).
ومن أحسن ما رد به على أصحاب هذا القول وأخصره قول القرطبي : الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر. وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك. بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم. وقد أخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من الحنطة خمر ومن الشعير خمر ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر »٣ وروي أيضا أنه خطب عمر على المنبر وقال : ألا إن الخمر قد حرمت وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل٤- وهو في الصحيحين وغيرهما – وهو ( أي عمر ) من أهل اللغة اه.
وقد تعقب هذا بعضهم بأنه يحتمل أن يكون بيانا للإسلام الشرعي لا اللغوي، وهذا التعقيب ضعيف ولا يغني عن الحنفية شيئا، لأنهم لا يقولون إن المسكر من غير عصير العنب خمر داخل في عموم الآية شرعا. ووجه ضعفه أن لفظ الخمر ليس اسما لعمل شرعي لم يكن معروفا قبل الشرع فلما جاء به الشرع أطلق عليه كلمة من اللغة تتناوله بطريق المجاز، بل هو اسم لنوع من الشراب يمتاز عن سائر الأشربة بالإسكار. وهذه التسمية معروفة عنهم قبل نزول ما نزل من الآيات في الخمر. وقد نزلت آية البقرة جوابا عن سؤال سألوه عن الخمر، ولم يقل أحد من مفسري السلف ولا الخلف ولا خطر على بال أحد أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن خمر عصير العنب خاصة، وأنها هي المقصودة بالجواب بأن فيها إثما كبيرا ومنافع للناس، وإن غيرها ألحق بها في التحريم بطريق القياس، أو بتفسير النبي والصحابة للخمر الشرعية.
وقد بينا فيما أوردناه آنفا من أسباب النزول أنه لم يشق عليهم تحريم شيء كما شق عليهم تحريم الخمر، وإن بعضهم كان يود لو يجد مخرجا من تحريمها كما وجد المخرج من آية البقرة الدالة على تحريم الخمر بتسميتها إثما مع تصريح القرآن قبل ذلك بتحريم الإثم، ولأجله تركها بعضهم، وتفصى منه آخرون بتخصيص الإثم بما كان ضررا محضا لا منفعة فيه، والنص قد أثبت أن في الخمر منافع. وقد أهرقوا ما كان عندهم من الخمر عند الجزم بالنهي عنها كما رأيت وكما ترى بعد، وقلما كان يوجد عندهم من خمر العنب شيء. فلو كان مسمى الخمر في لغتهم ما كان مسكرا من عصير العنب فقط لما بادروا إلى إهراق ما كان عندهم.
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أنه قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها من شراب العنب شيء٥. وروى أحمد والبخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء ونفر من أصحابه عند أبي طلحة ( هو زوج أم أنس ) حتى كاد الشراب يأخذ منهم فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فقالوا حتى ننظر ونسأل. فقالوا يا أنس أسكب ما بقي في إنائك، فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ٦. هذا لفظ أحمد. وزاد أنس في رواية أخرى أبا دجانة ومعاذ بن جبل في رهط من الأنصار. وفي روايات الصحيحين أنه كان يسقيهم الفضيخ٧، وهو شراب البسر والتمر يفضخان أي يشدخان وينبذان في الماء، فإذا اشتد واختمر كان خمرا، وكان هذا أكثر خمر المدينة كما صرح به أنس. وفي رواية لمسلم عنه : كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة – وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر – فإذا مناد ينادي، فقال اخرج فانظر، فخرجت فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت. قال فجرت في سكك المدينة. فقال أبو طلحة : اخرج فأهرقها، فهرقتها٨. الحديث.
نعم قد روى النسائي بسند رجاله ثقات عن ابن عباس مرفوعا «حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب »٩ وقد اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه. وبين النسائي علله ومن خالف فيه. ومعناه على تقدير صحته والاحتجاج به أن الشربة التي شأنها أن يسكر قليلها وكثيرها محرمة لذاتها بالنص سواء كانت من العنب أو الزبيب أو التمر أو البسر أو غير ذلك، وأما سائر الأشربة التي ليس من شأنها الإسكار كالنبيذ الذي لم يشتد ولم يختمر وهو ما ينبذ من تمر أو زبيب أو غيرهما في الماء حتى ينضح ويحلو ماؤه فشربه حلال ما لم يصل إلى حد الإسكار، ومن المعلوم أن الأنبذة يسرع إليها الاختمار في بعض البلاد كالحارة وبعض الأواني كالقرع والمزفت، وإن من الناس من يسكر بها عند أدنى تغير يعرض لها أو إذا أكثر منها وإن لم تختمر، ولأجل هذا اختلف العلماء في النبيذ فذهب الجمهور إلى أنه إذا صار يسكر الكثير منه فشرب القليل منه يكون حراما لسد ذري
١ اللحي، بفتح فسكون: منبت الأسنا، والجزور: ما يجزر من النعم أ يذبح ويجزأ. أي ضربه بفك رأس الجزور، وفي رواية طويلة عند ابن جرير
أنه لحي بعير..

٢ أخرجه أبو داود في الأشربة باب ١، والترمذي في تفسير سورة ٥، باب ٨، ٩، وأحمد في المسند ١/٥٣..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٢/١١٨، ٤/٢٦٧، ٢٧٣..
٤ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥، باب ١٠، والأشربة باب ٢، ٥، ومسلم في تفسير حديث ٣٢، ٣٣، وأبو داود في الأشربةباب ١، ٤، والترمذي
في الأشربة باب ٨، والنسائي في الأشربة باب ٢٠، وابن ماجه في الأشربة باب ٥، وأحمد في المسند ٣/١١٢، ٤/٢٦٧..

٥ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥، باب ١٠..
٦ أخرجه أحمد في المسند ٣/١٨١، والبخاري في الأشربة باب ٢، ٣، ومسلم في الأشربة حديث ٣، ٦..
٧ أخرجه البخاري في الأشربة باب ٢١، ومسلم في الأشربة حديث ٩، والفضيخ: كسر الشيء الأجوف والشدخ كسر الشيء الرطب والأجوف
وبابهما منع..

٨ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥، باب ١١، ومسلم في الأشربة حديث ٣، وأبو داود في الأشربة باب ١، والدارمي في الأشربة باب ٢،
وأحمد في المسند ٣/٢٢٧..

٩ أخرجه النسائي في الأشربة باب ٢٥..
﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾ بين حظ الشيطان من الناس في الخمر والميسر دون ما قرن بهما في الآية الأولى من الأنصاب والأزلام، لأن بيان تحريمهما هو المقصود بالذات، وقد تقدم في أول سورة ( أي في الآية الثالثة منها ) تحريم ما ذبح على النصب والاستقسام بالأزلام وكون ذلك فسقا، وكان المؤمنون قد تركوهما لأنهما من أعمال الجاهلية، وخرافات الوثنية، والخطاب هنا للمؤمنين الذين طهرهم التوحيد من خرافات الشرك كلها، ولذلك قال عمر عند نزول الآية : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا. فعلم من ذلك أن ذكر الأنصاب والأزلام – وهما من الخرافات الاعتقادية – ولزهما مع الخمر والميسر – وهما من الرذائل المالية والاجتماعية – قد أريد به أن كل ذلك من رجس الجاهلية، وأنه لا يليق شيء منه بأهل الحنيفية.
والعداوة ضرب من التجاوز الذي هو أصل معنى مادة ( عدا يعدو ) وهو تجاوز الحق إلى الإيذاء. قال في لسان العرب : والعادي الظالم، يقال : لا أشمت الله بك عاديك – أي عدوك الظالم لك، قال أبو بكر : قول العرب : فلان عدو فلان – معناه فلان يعدو على فلان بالمكروه ويظلمه اه. وقالوا أيضا : العدو ضد الصديق وضد الولي، أي الموالي، فعلم من ذلك أن العداوة سيئة عملية. والبغضاء انفعال في القلب وأثر في النفس فهو ضد المحبة. فالعداوة والبغضاء يجتمعان ويوجد أحدهما دون الآخر.
أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم فمعروف وشواهده كثيرة، وعلته أن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يعقل الإنسان – أي يمنعه من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس – ويستولي عليه حب الفخر الكاذب، ويسرع إليه الغضب بالباطل، وقد جرت عادة محبي الخمر على الاجتماع للشرب، فقلما تكون رذائلهم قاصرة عليهم، غير متعدية إلى غيرهم، وكثيرا ما تتعدى إلى غير من يشرب معهم، كالأهل والجيران، والخلطاء والعشراء، وقد تقدم في أسباب نزول الآيات بعض الشواهد على ذلك. ومن أغرب أخبار شذوذ السكر الذي يفضي مثله عادة إلى العداوة والبغضاء والهرج والقتال، حديث علي كرم الله وجهه مع عمه حمزة رضي الله عنه وملخصه أنه كان له شارفان ( ناقتان مسنتان ) أراد أن يجمع عليهما الإذخر ( نبات طيب الرائحة ) مع صائغ يهودي ويبيعه للصواغين ليستعين بثمنه على وليمة فاطمة عليها السلام عند إرادة البناء بها، وكان عمه حمزة يشرب الخمر مع بعض الأنصار ومعه قينة تغنيه – فأنشدت شعرا حثته به على نحر الناقتين وأخذ أطايبهما ليأكل منها الشرب، فثار حمزة وجب اسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. فلما رأى علي ذلك تألم ولم يملك عينيه، وشكا حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل النبي على حمزة – ومعه علي وزيد بن حارثة – فتغيظ عليه وطفق يلومه، وكان حمزة ثملا قد احمرت عيناه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولمن معه : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل نكص على عقبيه القهقري وخرج هو ومن معه١. والحديث في الصحيحين. ولولا حلم الرسول وعصمته وعقله، وأدب علي وفضله، وبلاء حمزة في إقامة الإسلام وقربه، لما وقفت هذه الحادثة عند الحد الذي وقفت عنده.
وإن حوادث العداوة والبغضاء التي يثيرها السكر، وما ينشأ عنها من القتل والضرب، والعدوان والسلب، والفسق والفحش، ومن إفشاء اسرار، وهتك الأستار، وخيانة الحكومات والأوطان، قد سارت بأخبارها الركبان، وما زالت حديث الناس في كل زمان ومكان.
وأما الميسر فهو مثار للعداوة والبغضاء أيضا ولكن بين المتقامرين، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين، ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين، وإن المقامر ليفرط في حقوق الوالدين والزوج والولد، حتى يوشك أن يمقته كل أحد.
قال الفخر الرازي : وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الإجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوبا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالبا فيه، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال، وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده ! ! ولا شك أنه بعد ذلك يصير فقيرا مسكينا ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له اه.
وأما كون كل من الخمر والميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة – وهو مفسدتهما الدينية – فهو أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء – وهو مفسدتهما الاجتماعية – لأن كل سكرة من سكرات الخمر، وكل مرة من لعب القمار، تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله الذي هو روح الدين، وعن الصلاة التي هي عماد الدين، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته، ويثني عليه بأسمائه وصفاته، أو يقيم به الصلاة التي هي ذكر لله، وزيادة أعمال تؤدي بنظام لغرض وقصد، ولو ذكر السكران ربه، وحاول الصلاة لم تصح له، والمقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة فلا يبقى له من نفسه بقية يذكر الله تعالى بها، أو يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها، ولعله لا يوجد عمل من الأعمال يشغل القلب ويصرفه عن كل ما سواه ويحصر همه فيه مثل هذا القمار، حتى إن المقامر ليقع الحريق في داره، وتنزل المصائب بأهله وولده، ويستصرخ ويستغاث فلا يصرخ ولا يغيث، بل يمضي في لعبه، ويكل أمر الحريق إلى جند الإطفاء، وأمر المصابين من الأهل إلى المواسين أو الأطباء، وما زال الناس يتناقلون النوادر في ذلك عن المقامرين، من الأولين والمعاصرين.
على أن المقامر إذا تذكر الصلاة أو ذكره غيره بها، وترك اللعب لأجل أدائها، فإنه لا يكاد يؤدي منها إلا الحركات البدنية بدون أدنى تدبر أو خشوع، ولا سيما إذا كان يريد أن يعود إلى اللعب. نعم إنه قد يأتي بأفعال الصلاة تامة فيفضل السكران بهذا إذ لا يكاد يأتي منه ضبط أفعالها، ولكن السكران قد يفضله بأعمال القلب والخشوع ولو بغير عقل. فكم من سكران يذكر الله تعالى ويذكر ذنوبه حتى سكره ويبكي ويدعو الله تعالى أن يتوب عليه ؟ لقيت مرة سكرانا في أحد شوارع القاهرة فأقبل علي يقبل يدي ويبكي ويقول أدع الله لي أن يتوب علي من السكر ويغفر لي، أنت ابن الرسول، ودعاؤك مقبول. وأمثال هذا الكلام، وإذا كان الله تعالى لا يقبل صلاة السكران لأنه لا يعقل ما يقول وما يفعل، فهو بالأولى لا يقبل صلاة المقامر الذي يقف بين يديه، وقلبه مشغول عنه بما حرمه عليه، فلا يتدبر القرآن، ولا يخشع للرحمان، وهو عاقل مكلف قادر على مجاهدة نفسه، وتوجيهها إلى مراقبة ربه. ولا يفيد مثل هذا المصلي الساهي عن صلاته بإفتاء الفقهاء بصحتها، إذا كملت شروطها وفروضها، فما كل صحيح عند علماء الرسول بمقبول، ﴿ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ﴾ [ قريش : ٤، ٥ ].
قد يقال إن الله تعالى قد بين بهذه الآية علتين لتحريم الخمر والميسر – إحداهما اجتماعية والأخرى دينية، والدينية تصدق على الألعاب التي اشتد ولوع كثير من الناس بها كالشطرنج، فالظاهرأن تعد بذلك محرمة كالميسر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وإن كان اللعب بها على غير مال ؟ قال السيد الآلوسي في هذا المقام من تفسيره ( روح المعاني ) : وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل، وتكبو له الفرس، ويصوح من همومه الرخ بل يتساقط ريشه، ويحار لشناعته بيذق الفهم، ويضطرب فرزين العقل، ويموت شاه القلب، وتسود رقعة الأعمال اه.
وأقول إن اللعب بالشطرنج إذا كان على مال دخل في عموم الميسر وكان محرما بالنص كما تقدم، وإذا لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه قياسا على الخمر والميسر إلا إذا تحقق فيه كونه رجسا من عمل الشيطان، موقعا في العداوة والبغضاء، صادا عن ذكر الله وعن الصلاة، بأن كان هذا شأن من يلعب به دائما أو في الغالب. ولا سبيل إلى إثبات هذا، وأننا نعرف من لاعبي الشطرنج من يحافظون على صلواتهم وينزهون أنفسهم عن اللجاج والحلف الباطل، وأما الغفلة عن الله تعالى فليست من لوازم الشطرنج وحده، بل كل لعب وكل عمل فهو يشغل صاحبه في أثنائه عن الذكر والفكر فيما عداه إلا قليلا، ومن ذلك ما هو مباح وما هو مستحب أو واجب. كلعب الخيل والسلاح والأعمال الصناعية التي تعد من فروض الكفايات، ومما ورد النص فيه من اللعب لعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بحضرته. وإنما عيب الشطرنج من أنه أشد الألعاب إغراء بإضاعة الوقت الطويل، ولعل الشافعي كرهه لأجل هذا، ونحمد الله الذي عافانا من اللعب به وبغيره، كما نحمده حمدا كثيرا أن عافانا من الجرأة على التحريم والتحليل، بغير حجة ولا دليل.
ولما بين جل جلاله علة تحريم الخمر والميسر وحكمته أكده بقوله :﴿ فهل أنتم منتهون ( ٩١ ) ﴾ فهذا استفهام يتضمن الأمر بالانتهاء.
قال الكشاف : من أبلغ ما ينهي به، كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون ؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا ؟
قال هذا بعد بيان ما أكد الله تحريم الخمر والميسر في هاتين الآيتين ( ٩٠-٩١ ) من سبعة وجوه وتبعه في ذلك الرازي وغيره، ونحن نبين المؤكدات بأوضح مما بينوها به وأوسع فنقول :
أحدها : إن الله تعالى جعل الخمر والميسر رجسا وكلمة الرجس تدل على منتهى القبح والخبث ولذلك أطلقت على الأوثان كما تقدم فهي أسوأ مفهوما من كلمة الخبيث، وقد علم من عدة آيات أن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«الخمر أم الخبائث » رواه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن عمرو. وقال :«الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته » رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمر، وكذا من حديث ابن عباس بلفظ «من شربها وقع على أمه » الخ وليس فيه ترك الصلاة. وقد علم السيوطي على هذه الأحاديث في جامعه بالصحة.
ثانيها : أنه صدر الجملة بإنما الدالة على الحصر للمبالغة في ذمهما، كأنه قال ليست الخمر وليس الميسر إلا رجسا فلا خير فيهما البتة.
ثالثها : أنه قرنهما بالأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات الشرك. وقد أورد المفسرون هنا حديث «مدمن الخمر كعابد وثن »٢ رواه ابن ماجه عن أبي هريرة. وفي سنده محمد بن سليمان الأصبهاني صدوق يخطئ ضعفه النسائي.
رابعها : أنه جعلهما من عمل الشيطان، لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان، وهل يكون عمل الشيطان، إلا موجبا لسخط الرحمان ؟
خامسها : أنه جعل الأمر بتركهما من مادة الاجتناب وهو أبلغ من الترك لأنه يفيد الأمر بالترك مع البعد عن المتروك بأن يكون التارك في جانب بعيد عن جانب المتروك كما تقدم. ولذلك نرى القرآن لم يعبر بالاجتناب إلا عن ترك الشرك والطاغوت الذي يشمل الشرك والأوثان وسائر مصادر الطغيان، وترك الكبائر عامة وقول الزور الذي هو من أكبرها، قال تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ﴾ [ الحج : ٣٠ ] وقال :﴿ واجتنبوا الطاغوت ﴾ [
١ أخرجه البخاري في الشرب باب ١٣، ومسلم في الأشربة حديث ١، وأحمد في المسند ١/١٤٢..
٢ أخرجه ابن ماجه في الأشربة باب ٣..
ثاني عشرها : قوله عز وجل :﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ أي أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما، كما تجتنبون الأنصاب والأزلام أو أشد اجتنابا وفي كل شيء، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم مما نزله الله عليكم، ومنه قوله :«كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»٣ وقد تقدم قريبا.
ثالث عشرها : قوله عز وجل :﴿ واحذروا ﴾ أي احذروا عصيانهما، أو ما يصيبكم إذا خالفتم أمرهما من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، فإنه ما حرم عليكم إلا ما يضركم في دنياكم وآخرتكم، قال تعالى :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصبيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ [ النور : ٦٣ ].
رابع عشرها : الإنذار والتهديد في قوله :﴿ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( ٩٢ ) ﴾ أي فإن توليتم وأعرضتم عن الطاعة، فاعلموا إنما على رسولنا أن يبين لكم ديننا وشرعنا، وقد بلغه وأبانه، وقرن حكمه بأحكامه، وعلينا نحن الحساب والعقاب وسترونه في إبانه، كما قال :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ] وإنما الحساب لأجل الجزاء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:لم يؤكد تحريم شيء في القرآن مثل هذا التأكيد ولا قريبا منه، وحكمته شدة افتتان الناس بشرب الخمر وكذا الميسر. وتأولهم كل ما يمكن تطرق الاحتمال إليه من أحكام الأديان التي تخالف أهواءهم، كما أولت اليهود أحكام التوراة في تحريم أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره. وكما استحل بعض فساق المسلمين شرب بعض الخمور بتسميتها بغير اسمها، إذ قالوا : هذا نبيد أو شراب لا يسكر إلا الكثير منه وقد أحل ما دون القدر المسكر منه فلان وفلان- يقولون ذلك فيما هو خمر، لا حظ لهم من شربه إلا السكر.
بل تجرأ بعض غلاة الفساق على القول بأن هذه الآيات لا تدل على تحريم الخمر لأن الله قال :«فاجتنبوه» ولم يقل حرمته فاتركوه، وقال :«فهل أنتم منتهون» ولم يقل فانتهوا عنه، وقال بعضهم سألنا هل أنتم منتهون ؟ فقلنا : لا، ثم سكت وسكتنا. ويصدق على هؤلاء قوله تعالى :﴿ اتخذوا دينهم هزوا ولعبا ﴾ [ المائدة : ٥٧ ] ويمكن أن يقال إن هذا اللغو قلما يصدر عمن كان صحيح الإيمان-والعياذ بالله تعالى.
أما المؤمنون فقد قالوا : انتهينا ربنا. وقال بعضهم : انتهينا انتهينا. أكدوا الاستجابة والطاعة كما أكد عليهم التحريم وكان فيهم المدمنون للخمر من عهد الجاهلية، حتى شق عليهم تحريمها فكان أشد من جميع التكاليف الشرعية. وكانوا قد اجتهدوا في آية البقرة لأن الدلالة على التحريم فيها ظنية غير قطعية كما بيناه غير مرة، فلما جاء الحق اليقين والتحريم الجازم، انتهوا وأهرقوا جميع ما كان عندهم من الخمور في الشوارع والأزقة، حتى ظل أثرها وريحها زمنا طويلا، وقد قدح بعض أذكيائهم زناد الفكر عسى أن يهتدوا إلى شيء يجدون فيه بعض الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا إلا أن من قد مات من أهل بدر وأحد كسيد الشهداء حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره ماتوا وهم دائبون على شربها، فلم تغن عنهم هذه الشبهة شيئا. لأن الله لا يكلف الناس العمل بأحكام الشريعة قبل نزولها. وهناك بعض ما ورد في ذلك زائد على ما أوردنا من قبل.
روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قام رسول الله فقال :«يا أهل المدينة إن الله يعرض عن الخمر تعريضا، لا أدري لعله سينزل فيها أمر»- أي قاطع- ثم قام فقال :«يا أهل المدينة إن الله قد أنزل إلي تحريم الخمر، فمن كتب منكم هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربها».
وأخرج مسلم وأبو يعلى وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«يا أيها الناس إن الله قد عرض بالخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به» فلم نلبث إلا يسيرا حتى قال :«إن الله قد حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع» قال فاستقبل الناس بما كان عندهم منها فسفكوها في طرق المدينة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع قال : لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«إن ربكم يقرب في تحريم الخمر» ثم نزلت آية المائدة فحرمت الخمر عند ذلك.
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال : أول ما نزل من تحريم الخمر ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] الآية. فقال بعض الناس نشربها لمنافعها وقال آخرون : لا خير في شيء فيه إثم، ثم نزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] الآية فقال بعض الناس نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين، فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ﴾ فنهاهم فانتهوا. وأخرج أيضا عن قتادة في تفسير آية النساء أنه قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية «إن الله قد تقرب في تحريم الخمر» ثم حرمها بعد ذلك في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب٧، وعلم أنها تسفه الأحلام وتجهد الأموال وتشغل عن ذكر الله وعن الصلاة.
وروى أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات. ثم ذكر نزول الآيات الثلاث وما كان من شأن الناس عند كل واحدة منهن، وقال في آية النساء : ثم أنزل الله آية أغلظ منها وآي من آية البقرة، وقال مثل ذلك في آية المائدة.
فهذه الأخبار والآثار وغيرها مما تقدم في التصريح بالقطع بتحريم الخمر تدل دلالة قاطعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كافة فهموا من آية المائدة أن الله تعالى حرم الخمر تحريما باتا لا هوادة فيه، وأن الخمر عندهم كل شراب من شأنه أن يسكر شاربه، وقد صرحوا فيها بلفظ التحريم، وأنه كان تعريضا، فجعلته آية المائدة تصريحا، أو أن آيتي البقرة والنساء كانتا مقدمة لتحريمها مفيدتين له إفادة ظنية كما قلنا من قبل. وأن جميع المؤمنين أهرقوا ما كان عندهم من الخمور عند نزول الآية، وكان كلها أو أكثرها من التمر والبسر الذي يكثر في المدينة، وأنهم لم يجدوا لهم مخرجا من ذلك بتأويل ولا رخصة.
نعم إنهم كانوا يسمون بعض الأنبذة بأسماء خاصة وقد سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ما حكمها إذا صار يسكر كثيرا أو مطلقا. قال أبو موسى الأشعري : قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمين – البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد – والمزر وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد. قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم بخواتمه فقال :«كل مسكر حرام» رواه أحمد والشيخان. وفي حديث علي كرم الله وجهه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الجعة٨. رواه داود والنسائي وغيرهما. والجعة بكسر ففتح نبيذ الشعير. وتسمى بالإفرنجية «بيرا».
والأصل في النبيذ أن ينقع الشيء في الماء حتى ينضح فيشرب بعد يوم أو يومين أو ثلاثة ولم يقصد به أن يترك ليختمر ويصير مسكرا كما تقدم، ونزيد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النبذ في الأواني التي يسرع إليها الاختمار لعدم تأثير الهواء فيها كالحنتم أي جرار الفخار المطلية، والنقير أي جذوع النخل المنقورة، والمزفت وهو المقير أي المطلي بالقار وهو الزفت، والدباء وهو القرع الكبير. ثم بين أن الظروف لا تحل ولا تحرم وأذن بالنبذ في كل وعاء مع تحريم كل مسكر٩. رواه مسلم وأصحاب السنن.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يؤمر به فيسقى الخادم أو يهراق١٠. رواه أحمد ومسلم. أي يصير بعد ثلاثة أيام مظنة الإسكار، فهذه نهاية المدة التي يحل فيها النبيذ غالبا. وفي آخرها كان يحتاط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشربه بل يسقيه الخادم أو يريقه لئلا يختمر ويشتد فيصير خمرا والعبرة بالإسكار وعدمه.
فائدة تتبعها قاعدة : علم من الروايات التي أوردناها آنفا أن بعض الصحابة فهم من آيتي البقرة والنساء تحريم الخمر فتركها، ولكن عشاقها وجدوا منهما مخرجا بالاجتهاد. وكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذر المجتهدين في اجتهادهم وإن كان بعضهم مخطئا فيه، وقد يجيزه له إذا كان قاصرا عليه : أجنب رجل فأخر الصلاة إذ لم يجد الماء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :«أصبت» وأجنب آخر فتيمم وصلى إذ لم يجد الماء فذكره له كالأول، فقال له ما قال للأول «أصبت» رواه النسائي. أجاز عمل عمرو بن العاص إذ تيمم للجنابة مع وجود الماء خوفا من البرد وصلى إماما فسأله عن ذلك فاحتج بقوله تعالى :﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] رواه أحمد والبخاري تعليقا وأبو داود والدارقطني، ولكنه قال لمن ترك الصلاة مع الجماعة وسأله عن ذلك فاعتذر بالجنابة وفقد الماء «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» رواه البخاري١١.
ويؤخذ من هذه الأحاديث ومن تلك أن التحريم الذي يكلفه جميع الناس هو ما كان نصا صريحا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف الناس إراقة ما كان عندهم من الخمر إلا عندما نزلت آية المائدة الصريحة بذلك، مع كونه فهم من آيتي البقرة والنساء تحريم الخمر بالتعريض، والمراد من التعريض عين المراد من التصريح إلا أن التعريض حجة على من فهمه خاصة والتصريح حجة المكلفين كافة. ومن هنا تعرف سبب ما كان من تساهل السلف في المسائل الخلافية وعدم تضليل أحد منهم لمخالفه، وتعلم أيضا أن ما قال العلماء بتحريمه اجتهادا منهم لا يعد شرعا يعامل الناس به، وإنما يلتزمه من ظهر له صحة دليلهم من قياس أو استنباط من آية أو حديث دلالتهما عليه غير صريحة. وأن في تعريض كلام الله ورسوله حكما، وسيأتي لهذا البحث تتمة في تفسير ﴿ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ [ المائدة : ١٠١ ].
شبهة أخرى على تحريم قليل المسكر وعلة تحريمه
ويعلم من هذه الأحاديث فساد قول من عساه يقول : إن القليل من الخمر لا تتحقق فيه علة التحريم والقياس أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. ومتى فقدت العلة، كان إثبات الحكم منافيا للحكمة. ووجه فساده أنه لا قياس مع النص، وأن قاعدة سد ذرائع الفساد الثابتة في الشريعة تقتضي منع قليل الخمر والميسر لأنه ذريعة لكثيره، ولعله لا يوجد في الدنيا ما يشابههما في ذلك.
بينا في تفسير آية البقرة التعليل العلمي الطبعي لكون قليل الخمر يدعو إلى كثيرها – وكذلك الميسر – وكون متعاطيهما قلما يقدر على تركهما ( ج ٢ ) ولهذا يقل أن يتوب مدمن الخمر، لأن ما يبعثه على التوبة من وازع الدين أو خوف الضرر، يعارضه تأثير سم الخمر – الذي يسمى الغول ( أو الكحول ) – في العصب الداعي بطبعه إلى معاودة الشرب، وهو ألم يسكن بالشرب موقتا ثم يعود كما كان أو أشد. ومتى تعارضت الاعتقادات والوجدانات المؤلمة أو المستلذة في النص رجحت عند عامة الناس الثانية على الأولى، وإنما يرجح الاعتقاد عند الخواص وهم أصحاب الدين القوي، والإيمان الراسخ وأصحاب الحكمة والعزيمة القوية. وهذا الألم الذي أشرنا إليه قد ذكره أهل التجربة في أشعارهم كقول أبي نواس :
وداوني بالتي كانت هي الداء١٢

وقول الشاعر :

وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها١٣
وإننا نرى جميع المتعلمين على الطريقة المدنية في هذا العصر وأكثر الناس في البلاد التي تنشر فيها الجرائد والمجلات العلمية يعتقدون أن الخمر شديد الضرر في الجسم، والعقل والمال وآداب الاجتماع ولم نر هذا الاعتقاد باعثا على التوبة منها إلا للأفراد منهم، حتى أن الأطباء منهم – وهم أعلم الناس بمضارها – كثيرا ما يعاقرونها ويدمنونها، وإذا عذلوا في ذلك أجابوا بلسان الحال أو لسان المقال بما أجاب به طبيب عذله خطيب على أكله طعاما غليظا كان ينهى عن أكله إذ قال : إن العلم غير العمل فكما أنك أيها الخطيب تسرد على المنبر خطبة طويلة في تحريم الغيبة والخوض في الأعراض ثم يكون جل سمرك في سهرك اغتياب الناس، كذلك يفعل الطبيب في نهيه عن الشيء لا ينتهي عنه إذا كان يستلذه.
وقد مضت سنة الله تعالى بأن تكون قوة تأثير الدين على أشدها وأكملها في نشأته الأولى، كما يفيده قوله تعالى :﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : ١٦ ] ولهذا ترك جمهور المؤمنين الخمر في عصر التنزيل، ولكن بقي من المدمنين من لم يقو على احتمال

﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ( ٩٣ ) ﴾ ورد في عدة روايات تقدم بعضها أن بعض الصحابة استشكلوا عند نزول هذا التشديد في الخمر والميسر حال من مات من المؤمنين الذين كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، ولا سيما من حضر منهم غزوتي بدر وأحد، وكان أمر الخمر عندهم أهم، ومنهم من كلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وفي رواية أنهم سألوا عمن ماتوا وعن الغائبين الذين لم تبلغهم آية القطع بالتحريم. وأن هذه الآية نزلت جوابا لهم، وقيل إن الآية نزلت فيمن كانوا يشددون على أنفسهم في الطيبات من الطعام والشراب، ختما للسياق بما يتعلق بحال من بدئ بهم، والروايات المأثورة على الأول.
الطعام ما يؤكل، والطعم ( بالفتح ) ما يدرك بذوق الفم من حلاوة ومرارة وغيرهما. يقال : طعم ( كعلم وغنم ) فلان بمعنى أكل الطعام- وطعم الشيء يطعمه ذاق طعمه أو ذاقه فوجد طعمه منه، استعمل في ذوق طعم الشيء من طعام وشراب بأخذ قليل منه بمقدم الفم. ومن الأول قوله تعالى :﴿ فإذا طعمتم فانتشروا ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] أي أكلتم، ومن الثاني ﴿ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمنه فإنه مني ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ] أي لم يدق طعم مائه. قال الجوهري : الطعم بالفتح ما يؤديه الذوق، يقال طعمه مر أو حلو وقال : طعم يطعم طعما ( بالضم ) فهو طاعم إذا أكل أو ذاق – مثل غنم يغنم غنما فهو غانم – فالطعم بالضم مصدر. وأنشد ابن الأعرابي :
فأما بنو عامر بالنسار غداة لقولنا فكانوا نعاما ١
نعاما يخطمه صعر الخدو دلا تطعم الماء إلا صياما
شبههم بالنعام التي لا ترد الماء ولا تذوقه. وصرح في لسان العرب بأن طعم بمعنى أكل الطعام وأنه إذا جعل بمعنى الذوق جاز فيما يؤكل ويشرب. واستشهد المفسرون له بقول الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا٢
النقاخ بالضم الماء البارد، والبرد النوم. قال الزمخشري : ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم. ويقال : ما ذقت غماضا اه.
قال الآلوسي في تفسيره : وأما استعماله ( أي طعم الماء ) بمعنى شربه واتخذ طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام، كما في حديث «زمزم طعام طعم وشفاء سقم » فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه. ولا يخدش هذا ما حكي أن خالدا القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعد : أطعموني ماء. فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به، وحملوه على شدة جزعه وقيل فيه :
بل المنابر من خوف ومن وهل واستطعم الماء لما جد في الهرب
وألحن الناس كل الناس قاطبة وكان يولع بالتشديق في الخطب
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه اه..
أقول أما الحديث فرواه ابن أبي شيبة والبزار بسند صحيح وهو على تشبيه مائها بالغذاء فليس مما نحن فيه. وأما كلام خالد فهو لحن إلا أن يريد به أديقوني طعم الماء – مبالغة في طلب القليل منه. ولا يقع مثله في كلام الفصحاء إلا بهذا المعنى، فإذا لا يمكن أن يكون طعم في القرآن بمعنى الشرب مطلقا، ولا يجوز أن يفيد هذا المعنى إلا بالتبع لمعنى الأكل تغليبا له، فيجعل »طعموا » هنا بمعنى أكلوا الميسر وشربوا الخمر. كتغليب الأكل في كل استعمال في مثل النهي عن أكل أموال اليتامى وعن أكل أموال الناس بالباطل. ولم أر أحدا هدي إلى هذا الإيضاح بهذا التدقيق.
والجناح ما فيه مشقة أو مؤاخذة. أنشد ابن الأعرابي :
ولاقيت من جمل وأسباب حبها جناح الذي لقيت من تربها قبل٣
وقال ابن حلزة :
أعلينا جناح كندة أن يغ نم غازيهم ومنا الجزاء٤
ويفسرونه غالبا بالإثم وهو ما فيه الضرر، والضرر يكون دينيا ودنيويا، ولم يستعمل في القرآن إلا في حيز النفي بمعنى رفع الحرج والمؤاخذة.
ومعنى الآية على رأي الجمهور «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات » من الأحياء والميتين، والشاهدين والغائبين «جناج » إثم ولا مؤاخذة «فيما طعموا » أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمهما – ولا في غير ذلك مما لم يكن محرما ثم حرم «إذا ما اتقوا » أي إذا هم اتقوا في ذلك العهد ما كان محرما عليهم – ومنه الإسراف في الأكل والشرب من المباح «وآمنوا » بما كان قد نزله الله تعالى «وعملوا الصالحات » التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام والجهاد «ثم اتقوا » ما حرمه الله تعالى بعد ذلك عند العلم به «وآمنوا » بما نزل فيه وفي غيره – كما قال ﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا فهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ﴾ [ التوبة : ١٢٤، ١٢٥ ] وكما قال :﴿ ويزداد الذين آمنوا إيمانا ﴾ [ المدثر : ٣١ ] ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ التي هي من لوازم الإيمان، «ثم اتقوا » أي ارتقوا عن ذلك فاتقوا الشبهات تورعا وابتعادا من الحرام، «وأحسنوا » أعمالهم الصالحات بأن أتوا بها على وجه الكمال، وتمموا نقصها بنوافل الطاعات ﴿ والله يحب المحسنين ( ٩٣ ) ﴾ فلا يبقى في قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع في العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما صقال القلوب وزيتها الذي يمد نور الإيمان.
وطالما استشكل المفسرون اشتراط ما اشترطته الآية لنفي الجناح من التقوى المثلثة والإيمان المثنى والإحسان الموحد، وطالما ضربوا في بيداء التأويل واستنباط الآراء، وطالما رد بعضهم ما قاله الآخرون في ذلك، وسبب ذلك اتفاقهم على أن الله تعالى لا يؤاخذ يوم القيامة أحدا بعمله قبل تحريمه كما قال تعالى بعد ذكر محرمات النكاح ( إلا ما قد سلف ) فقيل إن ما ذكر ليس بشرط لرفع الجناح بل لبيان حال من نزلت فيهم الآية. وأما تكرار التقوى فقيل إنه لمجرد التأكيد، أو للأزمنة الثلاثة، أو لاختلاف ما يتقى من الكفر والكبائر والصغائر، أو من مطلق ومقيد، أو بعضها للثبات والدوام.
وغفل هؤلاء عن معنى الشبهة التي وقعت لبعض الصحابة ونزلت الآية جوابا عنها. وبيانها من وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى حرم الخمر والميسر في الآية الأولى من هذه الآيات وبين في الثانية علة التحريم من وجهين، وهذه العلة لازمة لهما، فإذا لم تكن مطردة في العداوة والبغضاء، فهي مطردة في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وناهيك بما ينقص من دين من صد عنهما. وإنما كمال الدين ومناط الجزاء في الآخرة ما يكون من تأثير الإيمان والعمل الصالح في تزكية النفس، وإنارة القلب.
ثانيهما : إن الله تعالى قد عرض بتحريم الخمر قبل نزول آيات المائدة بما بينه في سورة البقرة والنساء – واللبيب تكفيه الإشارة – فكان من لم يفطن لذلك مقصرا في اجتهاده، وربما كان ذلك لإيثار الهوى أو الشهوة.
هذا وجه الشبهة، وتخليص الجواب عنها أن من صح إيمانه فصلح عمله وعمل في كل وقت بالنصوص القطعية المنزلة، وبحسب ما أداه إليه اجتهاده في الظنية، واستقام على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان – فلا يحول دون تزكية ذلك لنفسه وصقله لقلبه، ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده، وإن كان في ذلك من الإثم ما حرم بعد لأجله.
ذلك بأن الله تعالى ما حرم شيئا إلا لضرره في الجسم أو العقل أو الدين أو المال أو العرض، والضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال وقد يتخلف أحيانا، إذ يكفي في التحريم أن يكون ضارا في الغالب، فمن عمل عملا من شأنه الضرر في الجسم فربما ينجو من ضرره بقوة مزاجه إذا هو لم يسرف فيه، ومن عمل عملا من شأنه نقص الدين – وهو غير محرم عليه أو غير عالم بتحريمه - فربما ينجو من سوء تأثيره الذاتي بقوة إيمانه ويقينه وكثرة أعماله الصالحة، بحيث يكون ذلك الضرر كنقطة من القذر وقعت في البحر أو النهر، ولكن قوة الإيمان ورسوخ الدين بالعمل الصالح ينافي الإقدام على ارتكاب المحرم، إلا ما يكون من اللمم والهفوات التي لا يصر المؤمن عليها.
فالنجاح العظيم والخطر الكبير من ارتكاب المعصية بعد العلم بتحريمها ليس فيما عساه يصيب مرتكبها من ضررها الذاتي التي حرمت لأجله فقط، لأن هذا قد يتخلف أو يكون ضعيفا أو مغلوبا، بل الجناح والخطر الديني في الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وترجيح هوى النفس على مقتضى الإيمان والاعتقاد. وهذا شيء قد حفظ الله منه من كانوا يشربون الخمر من أهل بدر وأحد. بل حفظهم الله تعالى من ضرر الخمر الاجتماعي الدنيوي أيضا، لأنهم لم يسرفوا فيها ولا سيما بعد نزول آية سورة النساء التي لم تبق لهم إلا وقتا ضيقا لشربها. والآية تدل على ذلك. ويؤيده أن الله تعالى قد ألف بين قلوبهم بنعمته إخوانا. بل كان ذلك شأن الصحابة عامة، كان يكاد الشقاق يقع بينهم كما مر في أسباب نزول الآيات، ولكن لا يلبث أن يغلبه الإيمان، فيكونوا مصداقا لقوله تعالى ﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ [ الأعراب : ٢٠١ ] فالمعصية لا تفسد الروح إلا إذا كان فاعلها غير مبال بحرمة الشرع، ولا يكون تأثيرها الذاتي قويا إلا بالإسراف فيها والإصرار عليها.
وقد سألني بعض الباحثين في علم الأخلاق وفلسفة الاجتماع من المصريين عن السبب في سوء تأثير الزنا في إفساد أخلاق فساق المصريين وإذلال أنفسهم وإضعاف بأسهم وعدم تأثيره في اليابانيين مثل هذا التأثير ؟ فأجبته على الفور : إن اليابانيين لا يدينون الله بحرمة الزنا كالمصريين، فمعظم ضرره فيهم بدني وأقله اجتماعي، ولكن ليس له ضرر روحي فيهم. وأما المصريون فمعظم ضرره فيهم روحي لأنهم يقدمون على شيء يعتقدون دينا وعرفا بقبحه وفحشه، فهم بذلك يوطنون أنفسهم على دنية الفحش والاتصاف بالقبح، فلذلك كان من أسباب المهانة والفساد فيهم. فأعجب بالجواب وأذعن له.
شبهة لعشاق الخمر ودحضها
قال الإمام الرازي : زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بين في الخمر أنها محرمة عندما تكون موقعة في العداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة – بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق – قالوا :- ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم، لأنه لو كان المراد ذلك لقال :«ما كان جناح على الذين طعموا » كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة ﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] ولكنه لم يقل ذلك بل قال :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ﴾ – إلى قوله – ﴿ إذا ما اتقوا وآمنوا ﴾ [ المائدة : ٩٣ ] ولا شك أن «إذا » للمستقبل لا للماضي. واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة. وقولهم أن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي – فجوابه ما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار ؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها ؟ فأنزل الله هذه الآيات [ الصواب الآية ] وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا ا
١ البيتان من المتقارب وهما لبشر بن أبي خازم في ديوانه صفحة ١٩٠، ١٩١، والبيت في الأول في الأشباه والنظائر ٨/٣٥، ولسان العرب (نعم)
وبلا نسبة في جمهرة اللغة ٧٢٢، ولسان العرب (طعم)، والبيت الثاني بلا نسبة في لسان العرب (خطم) وتاج العروس (خطم)، (صيم)..

٢ البيت في الطويل، وهو للعرجي في ديوانه ص ١٠٩، ولسان العرب (نقخ)، (برد)، ولعمر بن أبي ربيعة في ذيوانه ص ٣١٥، وبلا نسبة في
مقاييس اللغة ١/٢٤٣، ويروى البيت للحارث بن خالد المخزومي وهو في ديوانه ص ١١٧..

٣ البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (جنح)، وتاج العروس (جنح)..
٤ البيت من الخفيف وهو للحارث بن حلزة في ديوانه ص ٣٧، ولسان العرب (جنح)، وتهذيب اللغة ٤/١٥٧، والأغاني ١١/٤٠، والحيوان ١/١٨،
وشرح القصائد السبع ص٤٧٨، وشرح القصائد العشر ص٣٩٤، وشرح المعلقات السبع ص٢٣٣، وشرح المعلقات العشر ص١٢٤، والمعاني الكبير ٢/١٠١١..

﴿ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ٩٤ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ٩٥ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون٩٦ ﴾
بينا في تفسير الآية ( ٩٠ ) أن هذه السورة افتتحت بآيات من أحكام الحلال والحرام في الطعام وأحكام النسك ( ومنها الصيد في أرض الحرم أو في حال الإحرام ) وتلاها سياق طويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، ثم عاد الكلام إلى شيء من تفصيل تلك الأحكام الخ ونقول الآن : إن الله جلت آلاؤه نهى عباده المؤمنين عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وفي غيرها، وأمرهم بأكل الحلال الطيب، ولما كان بعض المبالغين في النسك قد حلفوا على ترك بعض الطيبات، بين لهم بهذه المناسبة كفارة الأيمان، ثم بين لهم تحريم الخمر والميسر لأنهما من أخبث الخبائث، فكان هذا وذاك متمما لما في أول السورة من أحكام الطعام والشراب. وناسب أن يتمم أحكام الصيد في الحرم وإلاحرام أيضا : فجاءت هذه الآيات في ذلك.
وقال الرازي في مناسبة هذا لما قبله ما نصه : ووجه النظم أنه تعالى كما قال :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك – فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحللات وبين دخوله في المحرمات اه. وما قلناه خير منه وأصح، وليست الخمر والميسر من الطيبات فيستثنيان منها بل هما رجس خبيث.
﴿ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ﴾ الابتلاء الاختبار، والصيد مصدر أطلق على ما يصطاد من حيوان البحر مطلقا ومن حيوانات البر الوحشية لتؤكل، وقيل مطلقا فيدخل فيه غير المأكول لحمه إلا ما أبيح قتله كما يأتي. وتقدم تفصيل الكلام في الصيد في تفسير أول السورة. وسيأتي في تفسير الآية التالية الخلاف فيما يكفر به المحرم عن صيده. ووصف الصيد بكونه تناله الأيدي والرماح يراد به كثرته وسهولة أخذه، وإمكان الاستخفاء بالتمتع به. وروي عن ابن عباس ومجاهد أن ما يؤخذ بالأيدي صغاره وفراخه وبالرماح كباره. وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.
ووجه الابتلاء بذلك أن الصيد ألذ الطعام وأطيبه وناهيك باستطابته وبشدة الحاجة إليه في السفر الطويل كالسفر بين الحرمين، وسهولة تناول اللذيذ تغري به، فترك ما لا ينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله تعالى كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة، وقد قيل إن من العصمة أن لا تجد، وهل يعد ترك الزنا ممن لا يصل إليه إلا بسعي وبذل ومال وتوقع فضيحة كترك يوسف الصديق له إذ غلقت امرأة العزيز الأبواب دونه وقالت : هيت لك ؟.
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إن الله تعالى يقسم بأنه سيختبركم بإرسال شيء كثير من الصيد – أو ببعض من أنواعه – يسهل عليكم أخذ بعضه بأيديكم وبعضه برماحكم ﴿ ليعلم الله من يخافه بالغيب ﴾ أي يبتليكم به وأنتم محرمون ليعلم من يخافه غائبا عن نظر الناس غير مراء لهم ولا خائف من إنكارهم، فيترك أخذ شيء من الصيد، ويختار شظف العيش على لذة اللحم، خوفا من الله تعالى وطاعة له في سره – أو يخافه حال كونه متلبسا بالإيمان بالغيب الذي يقتضي الطاعة في السر، والجهر، فإذا وقع ذلك منكم علمه الله تعالى لأن علمه يتعلق بالواقع الثابت، وترتب على علمه به رضاه عنكم وإثابتكم عليه، كما يعلم حال من يتعدي فيه، وقد بين جزاءه في الجملة الآتية فدل ذلك على ما حذف من جزاء من يخافه. والمشهور أن المراد بمثل هذا التعبير أنه تعالى يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان علام الغيوب، لأن هذا من ضروب تربيته لكم، وعنايته بتزكيتكم، وقد تقدم تفسير هذا التعليل بعلم الله تعالى ( راجع ج٢ و ج٤ ).
﴿ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( ٩٤ ) ﴾ أي فمن اعتدى بأخذ شيء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان والإعلام الذي أخبركم الله تعالى به قبل وقوعه فله عذاب شديد الألم في الآخرة – قيل وفي الدنيا بالتعزير والضرب – لأنه لم يبال باختبار الله له، بل سجل على نفسه أنه يخاف الله تعالى بالغيب، ولكنه قد يخاف لوم المؤمنين وتعزيرهم، إذا هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم، وهذا شأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، لا شأن المؤمنين الصادقين الأبرار.
﴿ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ٩٤ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ٩٥ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون٩٦ ﴾
بينا في تفسير الآية ( ٩٠ ) أن هذه السورة افتتحت بآيات من أحكام الحلال والحرام في الطعام وأحكام النسك ( ومنها الصيد في أرض الحرم أو في حال الإحرام ) وتلاها سياق طويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، ثم عاد الكلام إلى شيء من تفصيل تلك الأحكام الخ ونقول الآن : إن الله جلت آلاؤه نهى عباده المؤمنين عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وفي غيرها، وأمرهم بأكل الحلال الطيب، ولما كان بعض المبالغين في النسك قد حلفوا على ترك بعض الطيبات، بين لهم بهذه المناسبة كفارة الأيمان، ثم بين لهم تحريم الخمر والميسر لأنهما من أخبث الخبائث، فكان هذا وذاك متمما لما في أول السورة من أحكام الطعام والشراب. وناسب أن يتمم أحكام الصيد في الحرم وإلاحرام أيضا : فجاءت هذه الآيات في ذلك.
وقال الرازي في مناسبة هذا لما قبله ما نصه : ووجه النظم أنه تعالى كما قال :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك – فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحللات وبين دخوله في المحرمات اه. وما قلناه خير منه وأصح، وليست الخمر والميسر من الطيبات فيستثنيان منها بل هما رجس خبيث.
﴿ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ هذا بيان لما يجب على المحرم المعتدي في الصيد من الجزاء والكفارة في الدنيا، سبق في أول السورة تحريم الصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ومن كان في أرض الحرم، وقد أعاده هنا ليرتب عليه جزاءه. وتقدم هنالك أن الحرم بضمتين جمع حرام وهو المحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل.
﴿ ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾ أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصدا لقتله فجزاؤه – أو فعليه جزاء – من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته إن وجد، وإلا ففي قيمته، وقيل في قيمته مطلقا. وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك. قرأ عاصم وحمزة والكسائي «فجزاء » بالرفع والتنوين، و «مثل » بالرفع والإضافة لما بعده وهو ظاهر. وقرأ الباقون بإضافة جزاء إلى مثل، وهو مخرج على أن مثل الشيء عينه على حد ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : ١١ ] أو هو من قبيل خاتم فضة أي من فضة، وأن المعنى فعليه جزاء الذي قتله أي جزاء عنه. وقال الزمخشري : أصله «فجزاء مثل ما قتل » بنصب مثل بمعنى فعليه أن يجزي مثل ما قتل من النعم، ثم أضيف كما تقول : عجبت من ضرب زيدا، ثم من ضرب زيد اه.
قتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرام بالإجماع لنص الآية. ولكن أكل المحرم مما صاده من ليس بمحرم مختلف فيه فقيل يحرم مطلقا عملا بظاهر الآية الآتية وحديث الصعب بن جثامة عند أحمد ومسلم وغيرهما. وقيل يجوز مطلقا لما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي. والجمهور على جواز الأكل مما يصيده غير المحرم لنفسه ويهدي منه للمحرم، وهو التحقيق الذي يجمع به بين الروايات كما يدل عليه حديث أبي قتادة في الصحيحين وغيرهما وهو الذي صاد الحمار الوحشي وأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية وقد اختلفوا في الصيد الذي نهت الآية عن قتله فقال الشافعي : هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا جزاء في قتل الأهلي وما يؤكل لحمه من السباع والحشرات، وهي كثيرة في مذهبه، ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما بقتلها في الحل والحرم – وهي الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور١. وأخرجاه أيضا من طريق مالك وأيوب عن نافع عن ابن عمر.
قال أيوب : قلت لنافع فالحية ؟ قال الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها. وألحق مالك وأحمد وغيرهما بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد لأنها أشد ضررا منه. وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها. وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الجزاء في قتل كل حيوان إلا الفواسق الخمس وجعل الذئب منها لأنه كلب بري. والمراد بالغراب الأبقع الضار لا الأسحم الذي يؤكل فإنه صيد. والحاصل أن الحيوانات الضارة التي تقتل اتقاء ضررها، لا جزاء على المحرم إذا قتلها، أطلق ذلك بعضهم، قال الحافظ ابن كثير وقال مالك رحمه الله : لا يقتل الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه، وقال مجاهد بن جبر وطائفة : لا يقتله بل يرميه، وروي مثله عن علي كرم الله وجهه. وقد روى هشيم : حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم فقال :«الحية والعقرب والفويسقة ( أي الفأرة ) – ويرمي الغراب ولا يقتله – والكلب العقور والحدأة »٢ رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي عن أحمد بن منيع كلاهما عن هشيم ثم ذكر أن الترمذي حسنه.
واختلفوا في اشتراط التعمد لوجوب الجزاء فذهب أكثرهم إلى أنه لا يشترط التعمد. وقالوا إن الكتاب دل على جزاء المتعمد وسكت عن جزاء المخطئ ولكن السنة مضت بأن عليه الجزاء أيضا. قاله الزهري.
والجمهور على أن المتعمد هو القاصد لقتله مع ذكره لإحرامه وعلمه بحرمة قتل ما يقتله. ومنهم من يشترط نسيان الإحرام. ولم نر للجمهور حديثا مرفوعا يدل على تغريم المخطئ ولا رواية صحيحة صريحة في كون ذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، إلا ما رواه الحكم عن عمر أنه كتب بذلك. وروى الشافعي وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال : رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطإ، وما قاله الزهري أصرح منه. ولكن لا يعد مثل هذا دليلا شرعيا. ولذلك احتج الشافعي بالقياس على قتل الخطإ لا الروايات. ويشبه أن يكون قول عمرو بن دينار حكاية للإجماع، ولكن لا يصح فالخلاف في المسألة مروي عن ابن عباس وطاوس وسعيد ابن جبير – كلهم صرحوا باشتراط العمد. وعبارة طاوس : لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ إنما يحكم على من أصابه عمدا، والله ما قال الله إلا «ومن قتله منكم متعمدا » وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن سيرين اشتراط التعمد للقتل مع نسيان الإحرام. والروايات في الخلاف مفصلة في الدر المنثور وغيره واشتراط العمد مذهب داود الظاهري، وقد شرح الرازي استدلاله بالآية شرحا يؤذن باختياره له.
وروي عن سعيد بن جبير ما يصح أن يكون بيانا لسبب الخلاف لولا إجمال فيه، وذلك قوله : إنما كانت الكفارة فيمن قتل الصيد متعمدا، ولكن غلظ عليهم في الخطإ كي يتقوا اه. ولم يبين من أين جاء التغليظ، فإن صحت الرواية عن عمر أنه : كتب أن يحكم عليه في الخطإ والعمد – جاز أن يكون هذا اجتهادا منه في أحوال خاصة لسد ذريعة صيد العمد في حال الإحرام، كما فعل في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد لمنع الناس منه، ثم تبعه الجهور في هذا وذاك من غير بحث في السبب الباعث له على ذلك ومراعاة المصلحة التي أرادها وعدم تعديها. ومن لم يتبعه في ذلك يقول إن اجتهاده ليس شرعا ولا دليلا من أدلة الشرع، فكيف يؤخذ على علاته فيما كان كمسألتنا من المسائل المنصوصة في القرآن أو التي مضت فيها السنة قبله وفي صدر خلافته كمسألة الطلاق الثلاث ؟ هذا مع علمنا بأنه كان يخطئ فيراجع فيعترف بخطإه ويرجع عنه.
فإن إن قيل العلماء المجتهدين قد اتبعوه في ذلك لإقرار الصحابة إياه عليه وعدم معارضتهم له كعادتهم فيما يرونه خطأ – قلنا إنه لم يثبت أنه عرض مسألة تغريم من قتل الصيد خطأ على الصحابة وأقروه عليه. وإنما قال الحكم أنه كتب، ولم يقل لمن كتب، والظاهر – إن صح – أنه لبعض عماله، ويحتمل أن يكون في واقعة حال اقتضت ذلك، ونص كتابته لم يذكر في الرواية. والحكم الذي روى هذا الأثر هو ابن عتيبة الكندي الكوفي كما يظهر من إطلاق اسمه وهو على توثيق الجماعة له من المدلسين كما قال ابن حبان في الثقات. وقال فيه ابن مهدي : الحكم بن عتيبة ثقة ثبت ولكن يختلف معنى حديثه. ولم نقف على رجال السند إليه عند الذين رووا الأثر عنه – وهم ابن أبي شيبة وابن جرير وابن حاتم كما في الدر المنثور – لنعرف درجة روايتهم. وجملة القول أن هذا الأثر ليس بحجة، وسيأتي ما صح من حكم عمر.
بعد كتابة ما تقدم راجعت تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري فإذا به قد أورد في رواياته قول من قالوا إن المراد من التعمد في الآية هو العمد لقتل الصيد مع نسيان قاتله لإحرامه حال قتله إياه، وقول من قالوا إنه العمد لقتله مع ذكر قاتله لإحرامه – ولكنه ذكر في هذه الروايات قول من قالوا بالجزاء في العمد بالكتاب وفي الخطإ بالسنة أو لسد الذريعة وحفظ حرمات الله أي بالقياس – ثم قال :
«والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى حرم قتل صيد البر على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراما بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ ثم بين حكم من قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدا لقتله – ولم يخصص المتعمد قتله في حال نسيانه إحرامه ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه، بل عم في إيجاب الجزاء على كل قاتل صيد في حال إحرامه متعمدا، وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نص كتاب ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع عن الأمة، ولا دلالة من بعض هذه الوجوه – فإذا كان كذلك فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامدا قتله ذاكرا لإحرامه أو عامدا قتله ناسيا لإحرامه، أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه، في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى وهو ﴿ مثل ما قتل من النعم ﴾ الخ ».
أقول هذا هو الاستدلال الصحيح البين ولكن لا يظهر دخول القسم الأخير من التفصيل فيه، وهو قوله :«أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه » لأن هذا من قتل الخطإ لا العمد إلا أن يريد صورة معينة وهي أن يقصد قتل صيد فيصيب صيدا غيره وهو ذاكر لإحرامه، إذ يصدق عليه حينئذ أنه قصد قتل الصيد بإطلاق وأنه منتهك لحرمة الإحرام. ولعل هذا هو المراد، ويقرب منه ما إذا قصد رميه لجرحه لا لقتله. وأما إذا رمى غرضا لا حيوانا أو حيوانا يباح قتله كالكلب العقور فأصاب سهمه أو رصاصه صيدا لم يكن يراه مثلا – فلا جزاء عليه في هذا بمقتضى الدليل الذي قرره، وسيأتي أن عمر قال في مثله أنه أشرك فيه العمد بالخطإ.
ثم قال ابن جرير : وأما ما يلزم بالخطإ قاتله فقد بينا القول فيه في كتابنا ( كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ) بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع، وليس هذا الموضع موضع ذكره، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل، وليس في التنزيل للخطإ ذكر فنذكر أحكامه اه.
واختلفوا في المثل المراد من الآية فذهب الجمهور إلى اعتبار مثل المقتول في خلقه كصورته وفعله، وذهب إبراهيم النخعي إلى اعتبار القيمة وتبعه أبو حنيفة وأبو يوسف. والأول مؤيد بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم علماء الصحابة. روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم عن جابر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشا وجعله من الصيد٣. أي لأنه يؤكل لحمه كما ثبت في غير هذا الحديث أيضا. وقد روي مرفوعا وموقوفا. وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فصححه. ورواه الدارقطني عن الأجلح بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة » قال والجفرة التي قد ارتعت. والأجلح هذا قال أبو حاتم لا يحتج بحديثه ووثقه يحيى بن معين وقال ابن عدي صدوق. وقال الحافظ في تقريب التهذيب : صدوق شيعي من السابعة. فاعتمد توثيقه. وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وحديث جابر أخرجه البيهقي وأبو يعلى وقالا : عن عمر رفعه. وأما الدارقطني فرواه من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه وكذلك الحاكم، ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير موقوفا على جابر وصحح وقفه الدارقطني من هذا الوجه. وقال السيوطي في الدر المنثور : وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن وتؤكل ».
أقول والحديث يدل على اعتبار السن في المماثلة فالعنز بالتحريك أنثى المعز كالنعجة من الضأن، والعناق ( بالفتح ) الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة – والجفرة بفتح الجيم الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر.
﴿ يحكم به ذوا عدل منكم ﴾ أي يحكم بالجزاء من النعم، وكونه مثل المقتول من الصيد، رجلان من أهل العدالة والمعرفة منكم أيها المؤمنون. ووجه الحاجة إلى حكم العدل
١ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الصيد باب ٧، وبدء الخلق باب ١٦، ومسلم في الحج حديث ٦٦-٦٩، ٧١-٧٤، ٧٦، ٧٧، ٧٩،
وأبو داود في المناسك باب ٣٩، والترمذي في الحج باب٢١، والنسائي في المناسك باب ٨٢-٨٤، ٨٦، ٨٨، ١١٣، ١١٤، ١١٦، ١١٩، وابن ماجه في المناسك باب ٩١، والدارمي في المناسك باب ١٩، ومالك في الحج حديث ٨٨-٩٠، أحمد في المسند١/٢٥٨، ٢/٨، ٣٢، ٣٧، ٤٧، ٥٠، ٥٤، ٦٥، ٧٧، ٨٢، ١٣٨، ٦/٣٣، ٨٧، ٩٧، ١٢٢، ١٤٤، ٢٠٣، ٢٥٩، ٣٦١..

٢ أخرجه أبو داود في المناسك باب ٣٩، وأحمد في المسند ٢/٣، ٣/٣..
٣ أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه في المناسك باب ٩٠..
﴿ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ٩٤ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ٩٥ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون٩٦ ﴾
بينا في تفسير الآية ( ٩٠ ) أن هذه السورة افتتحت بآيات من أحكام الحلال والحرام في الطعام وأحكام النسك ( ومنها الصيد في أرض الحرم أو في حال الإحرام ) وتلاها سياق طويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، ثم عاد الكلام إلى شيء من تفصيل تلك الأحكام الخ ونقول الآن : إن الله جلت آلاؤه نهى عباده المؤمنين عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وفي غيرها، وأمرهم بأكل الحلال الطيب، ولما كان بعض المبالغين في النسك قد حلفوا على ترك بعض الطيبات، بين لهم بهذه المناسبة كفارة الأيمان، ثم بين لهم تحريم الخمر والميسر لأنهما من أخبث الخبائث، فكان هذا وذاك متمما لما في أول السورة من أحكام الطعام والشراب. وناسب أن يتمم أحكام الصيد في الحرم وإلاحرام أيضا : فجاءت هذه الآيات في ذلك.
وقال الرازي في مناسبة هذا لما قبله ما نصه : ووجه النظم أنه تعالى كما قال :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك – فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحللات وبين دخوله في المحرمات اه. وما قلناه خير منه وأصح، وليست الخمر والميسر من الطيبات فيستثنيان منها بل هما رجس خبيث.
﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ﴾ المراد بالبحر الماء الكثير المستبحر الذي يوجد فيه السمك وغيره من الحيوانات المائية التي تصاد فيدخل فيه الأنهار والآبار والبرك ونحوها. وصيد البحر ما يصطاد منه مما يعيش فيه عادة وإن أمكن أن يعيش خارجه قليلا أو كثيرا كالسرطان والسلحفاة. وقيل هو ما لا يعيش إلا فيه. وطير الماء ليس منه فيما يظهر على القولين، لأنه ليس من الحيوانات المائية وإنما يلازم الماء ليصيد طعامه منه. قال الشافعي في الأم بعد بيان معنى البحر بمعنى ما تقدم : ومن خوطب بإحلال صيد البحر وطعامه عقل أنه إنما أحل له ما يعيش في البحر من ذلك وأنه أحل كل ما يعيش في مائه لأنه صيده. وطعامه عندنا ما ألقي وطفا عليه والله أعلم، ولا أعلم الآية تحتمل إلا هذا المعنى. أو يكون طعامه في دواب تعيش فيه فتؤخذ بالأيدي من غير تكلف كتكلف صيده، فكان هذا داخلا في ظاهر جملة الآية والله أعلم اه.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية وقال :«ما لفظه ميتا فهو طعامه » رواه ابن جرير عنه. وروى مثله عن أبي بكر وعمر وابن عباس، وذكر أن أبا بكر قاله على المنبر. وفي لفظ لابن عباس : ما قذف به ميتا. وقال جابر بن عبد الله : ما حسر عنه. وعن أبي أيوب : ما لفظ البحر فهو طعامه وإن كان ميتا. فهؤلاء يرون ان المراد بطعامه في الآية ما لا عمل للإنسان ولا كلفة في اصطياده كالذي يطفو على وجهه والذي يقذف به إلى الساحل والذي ينحسر عنه الماء في وقت الجزر أو لأسباب أخرى، لا فرق بين حيه وميته. وعن ابن عباس في رواية أخرى قال : صيده الطري وطعامه المالح للمسافر والمقيم. وأخذ بهذا بعض العلماء. ولولا هذه الروايات لكان المتبادر من الآية عندي – أحل لكم أن تصطادوا من البحر وأن تأكلوا الطعام المتخذ من حيوانه سواء صدتموه أنتم أو صاده لكم غيركم أو ألقاه البحر إليكم. وسواء كنتم حلالا أو محرمين. وأما قوله :«متاعا » فمعناه لأجل تمتيعكم به أو متعكم الله به متاعا حسنا. والسيارة جماعة المسافرين يتزودون منه، فهو متاع للمقيم والمسافر.
﴿ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ﴾ هذا أعم من تحريم قتل الصيد فإنه يشمل أخذه من غير قتل. وقيل يشمل أكله وإن صاده غير المحرم مطلقا، والتحقيق التفصيل، فما صاده غير المحرم لأجل المحرم أو بإعانته أو إذنه لا يحل للمحرم الأكل منه وما صاده غير المحرم لنفسه أو لمثله ثم أهدي منه للمحرم فهو حل له. وقد قلنا في تفسير الآية السابقة إن هذا ما يجمع به بين الروايات. وفيه أنه تخصيص للكتاب بأخبار الآحاد. وقد أجازه الجمهور ومنعه بعض الحنابلة مطلقا. ولبعض العلماء تفصيل فيه لا محل لذكره هنا.
روى أحمد والشيخان عن أبي قتادة قال : كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني وأحبوا لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقالوا : والله لا نعينك عليه. فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا وخبأت العضد معي فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه من ذلك فقال «هل معكم منه شيء » ؟ فقلت نعم. فناولته العضد فأكلها وهو محرم١. وفي رواية لهم «هو حلال فكلوه » وفي رواية لمسلم «هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء » ؟ قالوا : لا. قال :«فكلوه » ولفظ البخاري «هل أشار إليه أحد أن يحمل عليها أو أشار إليها » ؟ قالوا لا. قال :«فكلوا ما بقي من لحمها » ورواية التأنيث مبينة على أن ما صاده أبو قتادة كان أتانا لا حمارا. ففي رواية البخاري : فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا الخ وهذا هو الصواب إلا أن تكون الواقعة متعددة خلط الرواة بعضها ببعض.
وفي رواية لأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة أن أبا قتادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : وإني إنما صدته لك. فأمر أصحابه فأكلوا ولم يأكل٢. وسنده جيد وقد استغربوا هذه الزيادة وشكوا في كونها محفوظة، لمخالفتها رواية الصحيحين، وحاول بعضهم الجمع بكونه أكل قبل أن يخبره بأنه اصطاده له وامتنع بعد العلم بذلك. وهو تكلف ظاهر، ولا يظهر الجمع إلا إذا ثبت أو احتمل تعدد الواقعة. وفي هذه الرواية شذوذ آخر وهو أن أبا قتادة قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم فرأيت حمارا فحملت عليه فاصطدته فذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أني لم أكن أحرمت وأني إنما اصطدته لك الخ ما تقدم. واستشكلوه بأنه كيف جاز أن يترك الإحرام وهو معهم. والصواب كما قال بن عبد البر – إن النبي صلى الله عليه وسلم كان وجهه على طريق البحر مخافة العدو فلذلك لم يكن محرما. فعلى هذا لا يكون لتعبيره عن خروجه وعدم إحرامه هنا وجه ظاهر.
وروى أحمد والشيخان عن الصعب بن جثامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بوادان ( كلاهما في طريق مكة ) فرده عليه. فلما رأى ما في وجهه قال :«إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم »٣.
وروى الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم »٤ وله طرق لا يخلو واحد منها من علة. قال الشافعي : هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس.
﴿ واتقوا الله الذي إليه تحشرون ( ٩٦ ) ﴾ فلا تحلوا ما حرمه عليكم من الصيد وغيره مخافة أن يعاقبكم يوم تحشرون إليه، أي تجمعون وتساقون إليه يوم الحساب.
١ أخرجه البخاري في الهبة باب ٣، والأطعمة باب ١٩..
٢ أخرجه ابن ماجه في المناسك باب ٩٣، وأحمد في المسند ٥/٣٠٤..
٣ أخرجه البخاري في جزاء الصيد باب ٦، ١٤، ومسلم في الحج حديث ٥٠، وأحمد في المسند ٤/٣٧، ٣٨، ٧١، ٧٣، ٥/٢٨٩..
٤ أخرجه أبو داود في المناسك باب ٤٠، والترمذي في الحج باب ٢٥، والنسائي في المناسك باب ٨١، وأحمد في المسند ٣/٣٦٢..
﴿ *جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم٩٧ ﴾
هذه الآية تتمة السياق السابق، وقد ذكر الله تعالى فيه أن جزاء الصيد يكون هديا بالغ الكعبة. وأريد بالكعبة هنالك حرمها وجوارها الذي تؤدى فيه المناسك كما تقدم، ثم ذكر الكعبة هنا وأورد به عينها ولذلك بينها بالبيت الحرام، وذكر الهدي أيضا.
وقال الرازي : اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، فبين ( أي هناك ) أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير فكذلك هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة اه.
﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ﴾ الجعل هنا إما خلقي تكويني وهو التصيير، وإما أمري تكليفي وهو التشريع، وسيأتي توجيه كل منهما. و ( الكعبة ) في اللغة البيت المكعب أي المربع. وقيل المرتفع من كعب الرمح وهو طرف الأنبوب الناشز، أو كعب الرجل وهو الناتىء عند مفصل الساق، ومنه كعبت الجارية ( البنت ) وكعب ثديها يكعب إذا نتأ وارتفع فهي كاعب وكعاب، وثدي كاعب. والأول أصح. وقد غلب اسم الكعبة على بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام بمكة أم القرى في جزيرة العرب. وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة ( ج١ ) وتفسير آل عمران ( ج٤ ).
قال مجاهد : إنما سميت الكعبة لأنها مربعة. وقال عكرمة : إنما سميت الكعبة لتربيعها. و [ القيام ] أصله القوام بالواو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كالميزان. والمراد به ما يقوم به أمر الناس ويتحقق أو يستقيم ويصلح. وقرأ ابن عامر «قيما » بكسر القاف وفتح الياء، وهو بمعنى «قياما » وقد تقدم مثله في أول سورة النساء. و [ الشهر الحرام ] ذو الحجة الذي تؤدى فيه مناسك الحج في تلك المعاهد المقدسة. وقيل المراد به جنس الأشهر الحرام التي كانوا يتركون فيها القتال. و [ الهدي ] ما يهدى إلى الحرم من الأنعام للتوسعة على فقرائه. و [ القلائد ] هنا ذوات القلائد من الهدي وهي الأنعام التي كانوا يقلدونها إذا ساقوها هديا، خصها بالذكر لعظم شأنها. وقيل هي على معناها الأصلي وهو ما يقلد به الهدي من النبات، وكذا ما كان يتقلد به مريدو الحج والراجعون منه إلى بلادهم ليأمنوا على أنفسهم في عهد الجاهلية. وتقدم تفصيل القول في ذلك أول السورة.
والمعنى على الوجه الأول في الجعل أن الله تعالى جعل الكعبة التي هي البيت الحرام قياما للناس الذين يقيمون بجوارها والذين يحجونها، أي سببا لقيام مصالحهم ومنافعهم، بإيداع تعظيمها في القلوب، وجذب الأفئدة إليها، وصرف الناس عن الاعتداء فيها، وعلى مجاوريها وحجاجها، وتسخيرهم لجلب الأرزاق إليها، . فهذا هو الجعل الخلقي التكويني. ويؤيده دعاء إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي حكاه الله تعالى عنه بقوله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم الثمرات لعلهم يشكرون ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] وفي معناه قوله تعالى :﴿ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا. أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ ص : ٥٧ ] وقوله تعالى :﴿ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ؟... ﴾ [ الزمر : ٦٧ ].
والمعنى على الوجه الثاني أنه جعلها قياما للناس في أمر دينهم المهذب لأخلاقهم المزكي لأنفسهم، بما فرض عليهم من الحج الذي هو من أعظم أركان الدين لأنه عبادة روحية بدنية مالية اجتماعية – وتقدم بيان بعض حكمه وسيأتي لها مزيد إن شاء الله تعالى – وما شرع في مناسك الحج من الصدقات والذبائح التي تطهر فاعلها من رذيلة البخل وتحببه وتحبب إليه الفقراء والمساكين، ويتسع بها رزق أهل الحرم. وهذا هو الجعل الأمري التشريعي. دع ما تستلزمه كثرة الناس هنالك من جلب الأرزاق وعروض التجارة التي تقوم بها أمور المعيشة.
روى ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر القيام هنا بقوله : قياما لدينهم ومعالم لحجهم، وفي رواية أخرى عنه قال : قيامها أن يأمن من توجه إليها. وروي عن سعيد بن جبير فيه ثلاثة أقوال ١- صلاحا لدينهم ٢- شدة لدينهم ٣- عصمة في أمر دينهم. فهذه أقوال من جعل القيام دينيا فقط. وإنما هو ديني دنيوي، لأن أهل الحرم وحجاجه ما كانوا ليجدوا فيه ما يعيشون به من الغذاء، وما يأمنون به على أنفسهم الهلاك، لولا أن جعل الله الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما لأمر المعيشة، كما جعلها قياما لأمر الدين، ولكن خص بعضهم القيام الدنيوي بزمن الجاهلية.
روى ابن جرير وابن حاتم عن ابن زيد قال : كان الناس فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن في العرب ملوك يدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن بعض به – والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد، ويلقى الرجل قاتل أبيه وابن عمه فلا يعرض له، وهذا كله قد نسخ.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : جعل الله البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى لا يخاف بعضهم بعضا حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام.
وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة :«جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » قال حواجز أبقاها الله في الجاهلية بين الناس، فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه. وكان الرجل لو لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب١ من الجوع لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر ( أي عاد من الحج ) تقلد قلادة من الإذخر أو من السمر٢ فمنعته٣ من الناس حتى يأتي أهله – حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية اه.
والمختار أن جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس هو جعل تكويني تشريعي معا، وهو عام شامل لما تقوم به وتتحقق مصالح دينهم ودنياهم، وشامل لزمن الجاهلية وعهد الإسلام، ولكن له في كل من العهدين صورة خاصة به – ففي عهد الجاهلية كان التكويني أظهر والتشريعي أخفى، لأنهم على إضاعتهم لشريعة إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليه وسلم إلا قليلا من مناسك الحج مزجوها بالوثنية والخرافات الوضعية كانت آيات الله تعالى التكوينية ظاهرة فيهم، كما تقدم بيانه آنفا، وسبق ما في معناه في سورة آل عمران. وأما في عهد الإسلام فالتشريعي أظهر.
﴿ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ( ٩٧ ) ﴾ أي فعل ذلك الجعل لأجل أن تعلموا منه إذا تأملتم فيه أنه تعالى يعلم ما في العالم العلوي والسفلي وأن علمه محيط بكل شيء. وذلك أنه عز وجل جعل في قلوب العرب في طور جاهليتها وغلظتها وتفانيها في الغزو والسلب والنهب تعظيما لهذا المكان وللأعمال التي تعمل فيه وللزمن الذي فيه تؤدى هذه الأعمال هنالك، منعهم من اعتداء بعضهم على بعض، وكان سببا لحقن الدماء وسعة الرزق، وقد عجزت جميع أمم الحضارة والمدنية في القديم والحديث – بله أمم البداوة – عن تأمين الناس في قطر من الأقطار وزمن معين من كل سنة بحيث لا يمكن أن يقع فيهما قتال ولا قتل ولا عدوان، وكذلك جعل في أحكام الحج، ومناسكه أعظم الفوائد والمنافع الروحية والجسدية، والدينية والدنيوية، كما علم مما مر آنفا بالإجمال، ومما بيناه في غير هذا المكان من حكم الحج بالتفصيل، وقد ثبتت هذه المنافع والفوائد التي عليها مدار قيام أمر الناس ثبوتا قطعيا بالمشاهدة والتجربة، فدل ما ذكر على أن جعل البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما للناس لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها، فكان دليلا على أنه سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك، وأنه عليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية.
على أن آياته الدالة على علمه بما في السموات والأرض وبغير ذلك أعم وأظهر في نظر العقل من جعله بعض الأمكنة والأزمنة سببا لدفع الشقاوة عن كثير من الناس وجلب السعادة والهناء لهم، فإن سننه تعالى في الفلك وسير الشمس والقمر وغيرهما بحسبان، وفي عالم الجماد والنبات والحيوان، لا يعتريها من الشبهات ما يعتري السنن المتعلقة بنوع الإنسان، ولكن الناس يغفلون عنها.
١ العصب، بالتحريك: أطناب المفاصل التي تلائم بينها وتشدها، وهي لا تمضغ ولا تهضم فلا تغذي..
٢ الإذخر: نبات عطر يكثر في الحرمين، والسمر، بالتحريك: شجر معروف..
٣ منعته: أي حمته وحفظته فلا يعتدي عليه أحد لأجلها..
﴿ اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ٩٨ ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ٩٩ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون١٠٠ ﴾
أرشدنا جل شأنه في الآية التي قبل هذه إلى بعض آيات علمه في خلقه وأمره، وأرشدنا في هذه إلى العلم بأن العليم بكل شيء، الذي ظهرت آيات علمه وحكمته في خلق السموات والأرض، كما ظهرت في جعل البيت الحرام قياما للناس – لا يمكن أن يترك الناس سدى، كما أنه لم يخلقهم عبثا، فلا يليق بحكمته وعدله أن يجعل الذين اجترحوا السيئات، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يسوي بين الطيب والخبيث كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلح والمفسد، والمظلوم والظالم، فلا بد إذا من الجزاء بالحق، ولا يملك الجزاء إلا من يقدر على العقاب الشديد، وعلى المغفرة والرحمة.
لذلك قال :﴿ اعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ لمن دسى نفسه بالشرك والفسوق والعصيان ﴿ وأن الله غفور رحيم ( ٩٨ ) ﴾ لمن زكى نفسه بالأعمال الصالحة مع التوحيد والإيمان، فلا يؤاخذه بما سلف قبل الإيمان، ولا بما يعلمه من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة والإصلاح. ولا باللمم، إذا اجتنب كبائر الإثم والفواحش. بل يستر ذنبه ويمحوه، فيضمحل في إيمانه وعلمه الصالح، كما يستر القذر القليل، ويضمحل بما يغمره من الماء الكثير، ويخصه فوق ذلك برحمة منه ورضوان.
فالآية متضمنة للترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، فهي وعيد لمن كفر وتولى عن العمل بكتاب الله، ووعد لمن آمن به وعمل الصالحات. وقد تقدم تفسير المغفرة والرحمة في كثير من الآيات. ولعل في تقديم ذكر العقاب وتأخير ذكر المغفرة والرحمة إشارة إلى أن العقاب قد ينتهي بالمغفرة والرحمة فلا يدوم، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه١ كما ثبت في الصحيح، ولذلك يغفر كثيرا من ظلم الناس لأنفسهم ( ويعفو عن كثير ) وأعاد اسم الجلالة في مقام الإضمار للدلالة على أن مغفرته ورحمته ثابتتان له بالأصالة.
١ لفظ الحديث: «إن رحمتي سبقت غضبي»، وفي لفظ: «غلبت غضبي»؛ وفي لفظ: «سبقت رحمتي غضبي»؛ أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٥،
٢٢، ٢٨، ٥٥، وبدء الخلق باب ١، ومسلم في التوبة حديث ١٤-١٦، والترمذي في الدعوات باب ٩٩، وابن ماجه في المقدمة باب ١٣، والزهد باب ٣٥، وأحمد في المسند ٢/٢٤٢، ٢٥٨، ٢٦٠، ٣١٣، ٣٥٨، ٣٨١، ٣٩٧، ٤٣٣، ٤٦٦..

﴿ ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( ٩٩ ) ﴾ هذا بيان لوظيفة الرسول في إثر بيان كون الجزاء بيد الله العليم بكل شيء، وهي أن الرسول من حيث هو رسول ليس عليه إلا تبليغ رسالة من أرسله، فهو لا يعلم جميع ما يبديه المكلفون من الأعمال والأقوال وما يكتمونه منها فيكون أهلا لحسابهم وجزائهم على أعمالهم، وإنما يعلم ذلك الله وحده. وفيه إبطال لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والرجاء فيها، والتماس الخلاص والنجاة من عذاب الآخرة بشفاعتها، فهو يقول بصيغة الحصر " ما على الرسول إلا البلاغ " والبيان لدين الله وشرعه، فبذلك تبرأ ذمته ويكون من بلغهم هم المسؤولين عند الله تعالى، والله وحده هو الذي يعلم ما تبدون وما تكتمون من عقائدكم وأقوالكم وأفعالكم فيجازيكم عليها، بحسب علمه المحيط بكل ذرة منها، فيكون جزاؤه حقا وعدلا، ويزيد المحسنين كرما منه وفضلا. ﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] فلا تطالبوا بسعادتكم إلا أنفسكم، ولا تخافوا عليها إلا منها.
ويؤيد تفسيرنا هذا قوله في سورة الرعد :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ] وقوله في سورة الأنعام :﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون * قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك، إن أتبع إلا ما يوحى إلي. قل هل يستوي الأعمى والبصير، أفلا تتفكرون ؟ * وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي لا شفيع لعلهم يتقون ﴾ [ الأنعام : ٤٨ – ٥١ ].
وأما الشفاعة الواردة في الأحاديث فلا تناقض الشفاعة المنفية هنا وفي آيات أخرى – لأنها عبارة عن دعاء مستجاب يظهر الله عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما في كتابه، تكريما للداعي الشفيع من غير أن يكون مؤثرا في علم الله ولا في إرادته، لأن الحادث لا يؤثر في القديم، ﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ﴾ [ الحديد : ٣ ].
ثم إنه تعالى لما بين الجزاء وكونه منوطا بالأعمال، أراد أن يبين ما يتعلق به الجزاء من وصف الأعمال والعاملين لها، فأثبت وجود حقيقتين متضادتين يترتب على كل منهما ما يليق بها، وهما حقيقة الطيب وحقيقة الخبيث فقال :﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾
﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾ أي قل أيها الرسول مخاطبا كل فرد من أفراد أمة الدعوة : لا يستوي الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال – كالضار والنافع، والفاسد والصالح، والحرام والحلال ولا من الناس كالظالم والعادل، والجاهل والعالم، والمفسد والمصلح، والبر والفاجر والمؤمن والكافر. فلكل من الخبيث والطيب في القسم الأول حكم يليق به عند الله تعالى، ولكل منهما في القسم الآخر جزاء ومكان يستحقه بحسب صفته ( سيجزيهم وصفهم ) وهو الحكيم العليم الذي يضع كل شيء في موضعه. ولعل نكتة تقديم الخبيث في الذكر كون السياق للاهتمام بإزالة شبهة المغترين بكثرته ولذلك قال :﴿ ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾ الخطاب من الرسول لكل مكلف بلغته دعوته كما تقدم، أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس لقوتهم، أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها، والتوسع في التمتع بها، كأكل الربا والرشوة والغلول والخيانة، أو لدعوى أصحابها أنها دليل على حب الله لهم ورضاه عنهم، إذ فضلهم بها على غيرهم، ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ [ سبأ : ٣٥ ].
أي لا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك فصرت بعيدا عن إدراك حقيقة الأمر، وهي أن القليل من الحلال كراتب الحاكم العادل وربح التاجر الصادق، خير من كثير الحرام كالرشوة والخيانة، باعتبار حسن العاقبة في الدنيا والآخرة، كما أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه ولا يفيد فائدته. بل ربما يضر آكله ويفسد عليه معدته.
كذلك القليل الطيب من الناس خير من الكثير الخبيث، فالفئة القليلة من أهل الشجاعة والثبات والإيمان، تغلب الفئة الكثيرة من ذوي الجبن والتخاذل والشرك، وأن أفرادا من أولي البصيرة والرأي، ليأتون بما تعجز عنه الجماعات من أهل الغباوة والخرق، والعالم الحكيم، يسخر لخدمته ألوفا من الجاهلين ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ [ الزمر : ٩ ].
كان المشركون يفخرون على المؤمنين في صدر الإسلام بكثرتهم ويعتزون بها ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا ﴾ [ سبأ : ٣٥ ] فضرب الله تعالى لهم مثل الكافر الذي فاخر المؤمن بقوله :﴿ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ﴾ [ الكهف : ٣٤ ] وكيف كانت عاقبة أمره خسرا. وقال لهم :﴿ ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ﴾ [ الأنفال : ١٩ ] ثم قال للمؤمنين تثبيتا لهم حتى لا تروعهم كثرة المشركين في عَددهم وعُددهم ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم بنصره ﴾ [ الأنفال : ٢٦ ] وجاءت هذه الآية بالقاعدة العامة وهي أن العبرة بصفة الشيء لا بعدده، وإنما تكون العزة بالكثرة بعد التساوي في الصفات ولما كان من دأب أهل الغفلة والجهل والغرور بالكثرة مطلقا قال تعالى تعقيبا على ما أثبته من تفضيل الطيب على الخبيث وإن كثر الخبيث ﴿ فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ( ١٠٠ ) ﴾ أي فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث، ولا بكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين، فإن تقوى الله تعالى هي التي تنظمكم في سلك الطيبين، فيرجى لكم أن تكونوا من المفلحين، أي الفائزين بخير الدنيا والآخرة.
وإنما خص أولي الألباب بالذكر في عجز الآية بعد مخاطبة كل مكلف في صدرها لأن أهل البصيرة والروية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها، فلا يصرون على الغرور بكثرة الخبيث، بعد التنبيه والتذكير. وأما الأغرار الغافلون الذين لم يمرنوا عقولهم على الاستقلال في النظر، والاعتبار بالتجارب والحكم، فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر، بل لا يعتبرون بما يرون بأعينه ويسمعون بآذانهم من حوادث الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة المجموعة من الحرام، والأمم والدول التي اضمحلت كثرتها العاطلة من فضيلتي العلم والنظام، وكيف ورث هؤلاء وأولئك من كانوا أقل مالا ورجالا، إذ كانوا أفضل أخلاقا وأعمالا، ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ].
روي عن السدي أن المراد بالخبيث هنا المشركون وبالطيب المؤمنون. وروي عن أبي هريرة قال : لدرهم حلال أتصدق به أحب إلي من مائة ألف ومائة ألف حرام، فإن شئتم فاقرؤوا كتاب الله ﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن الإسكندراني قال : كتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يذكر أن الخراج قد انكسر، فكتب إليه عمر : إن الله يقول :﴿ لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾ فإن استطعت أن تكون في العدل والإصلاح والإحسان بمنزلة من كان قبلك في الظلم والفجور والعدوان فافعل. ولا قوة إلا بالله.
﴿ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ١٠١ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ١٠٢ ﴾
قال الرازي : في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه، الأول : إنه تعالى لما قال «ما على الرسول إلا البلاغ» صار التقدير كأنه قال : ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه الرسول إليكم فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه، فإنكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم. الثاني : أنه تعالى لما قال :«ما على الرسول إلا البلاغ» وهذا ادعاء منه للرسالة( ؟ ) ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكيا عنهم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ] - إلى قوله – ﴿ قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ ؟ [ الإسراء : ٩٣ ] والمعنى أني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم، وذلك ليس في وسعي، ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم، مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا. ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزات وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك، فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم. الوجه الثالث : أن هذا متصل بقوله :﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( ٩٩ ) ﴾ فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسوءكم اه. كلام الرازي بنصه.
وأقول : إن مناسبة هاتين الآيتين لآية تبليغ الرسول للرسالة مناسبة خاصة قريبة، ولهما موقع من مجموع السورة ينبغي تذكره والتأمل فيه. ذلك أن هذه السورة آخر ما نزل من السور، وقد صرح الله تعالى في أوائلها بإكمال الدين، وإتمام النعمة به على العالمين، فناسب أن يصرح في أواخرها بأن الرسول قد أدى ما عليه من وظيفة البلاغ، وأنه ينبغي للمؤمنين أن لا يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها، فتكون العاقبة أن يسرع إليها الفسوق عن أمر ربها. وهو معصوم من كتمان شيء مما أمره الله بتبليغه.
فإن قيل : إذا كان الأمر كذلك فلم طال الفصل بين هذا النهي وبين الخبر بإكمال الدين، ولم يتصل به في النظم الكريم ؟ قلت : تلك سنة القرآن في تفريق مسائل الموضوع الواحد من أخبار وأحكام وغيرهما لما بيناه مرارا من حكمة ذلك، وهاك أقوى ما ورد في أسباب نزول الآيتين :
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتكم كثيرا» قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين١ فقال رجل : من أبي ؟ قال :«فلان» فنزلت هذه الآية :﴿ لا تسألوا عن أشياء ﴾٢ قال الحافظ ابن كثير وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في قوله ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم ﴾، قال فحدثنا أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال :«لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه فقال : يا نبي الله من أبي ؟ قال :«أبوك حذافة» قال ثم قام عمر – أو قال فأنشأ عمر – فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله – أو قال أعوذ بالله – من شر الفتن. قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط»٣ أخرجاه ( أي الشيخان ) من طريق سعيد، ورواه معمر عن الزهري عن أنس بنحو ذلك أو قريبا منه. قال الزهري فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك قالت : أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ؟ فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
«وقال ابن جرير أيضا : حدثنا الحرث حدثنا عبد العزيز حدثنا قيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال : أين أبي ؟ قال :«في النار – فقام آخر فقال : من أبي ؟ قال – أبوك حذافة» فقام عمر بن الخطأب فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما، إنا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك والله أعلم من آباؤنا. قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾. إسناده جيد. «وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف منهم أسباط عن السدي – فذكر ابن كثير عنه مثل حديث أبي هريرة في جملته وزاد في آخر كلام عمر – فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي. فيومئذ قال :«الولد للفراش وللعاهر الحجر» ثم قال : قال البخاري : حدثنا الفضل بن سهل حدثنا أبو النضر حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ حتى فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري.
«وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وردان الأسدي حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز عن علي قال لما نزلت هذه الآية ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ [ أل عمران : ٩٧ ] قالوا : يا رسول الله ! أفي كل عام ؟ فسكت. فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت. قال ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال :«لا ولو قلت نعم لوجبت – ولو وجبت لما استطعتم» فأنزل الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ ٤. وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق منصور بن وردان به. وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول أبو البختري لم يدرك عليا اه».
أقول منصور بن وردان ثقة كما قال ابن حبان وغيره. وأبو البختري هو سعيد ابن فيروز التابعي ثقة فيه تشيع روى عنه الجماعة كلهم، ولكن مراسيله ضعيفة.
وقد عزا السيوطي في الدر المنثور حديث علي هذا إلى أحمد والترمذي «وحسنه» وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وذكر نحوه عن ابن عباس عازيا إياه إلى عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم – قال :«وصححه» – والبيهقي في سننه. وفيه أن السائل الأقرع بن حابس. وذكر مثله أيضا عن الحسن من تخريج عبد بن حميد وفيه «ذروني ما وذرتكم» الخ وهذه الزيادة من أحاديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة ولفظ البخاري «دعوني ما تركتكم» – ولفظ مسلم : دعوني ما تركتكم – فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم٥.
قال القسطلاني في شرحه له تبعا للحافظ ابن حجر : وسبب هذا الحديث على ما ذكره مسلم [ أقول وكذا النسائي ] من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»- ثم قال – «ذروني ما تركتكم» الحديث وأخرجه الدارقطني مختصرا وزاد فيه فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم ﴾ اه وأقول : محمد بن زياد هذا ثقة روى عنه الجماعة كلهم.
ونص سنن النسائي٦ : عن أبي هريرة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال :«إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج» فقال رجل : في كل عام ؟ فسكت عنه حتى أعاده ثلاثا فقال :«لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها. ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ؛ فإذا أمرتكم بالشيء ( وفي نسخة بشيء ) فخذوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وروي عن ابن عباس مسألة وجوب الحج وأن الأقرع بن حابس قال : كل عام يا رسول الله ؟ فسكت فقال :«لو قلت نعم لوجبت ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ولكنه حجة واحدة» وفي فتح الباري أن ابن عبد البر نقل عن رواية مسلم أن السؤال عن الحج كان يوم خطب صلى الله عليه وسلم وقال :«لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته».
وقال ابن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس ( لا تسألوا عن أشياء ) قال هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك : ما جعل الله من كذا ولا كذا. قال وأما عكرمة فإنه قال إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) قال فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس فما لك تقول هذا ؟ فقال : هيه.
ثم روى ابن جرير مثل قول مجاهد عن سعيد بن جبير. ثم قال : وأولي الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه، ومسألة سائله إذ قال «إن الله فرض عليكم الحج» أفي كل عام ؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل. وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس فغير بعيد عن الصواب. ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه. ذكر هنا القول به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها الخ ما قاله، وفيه أن تلك الأخبار صحاح فوجب ترجيحها. يشير إلى ضعف سند رواية مجاهد لأن خصيف بن عبد الرحمن راويها عنه قد ضعفه الإمام أحمد وقال مرة : ليس بقوي. وقال أبو حاتم : تكلم في سوء حفظه. ولكن قال ابن معين فيه مرة صالح ومرة ثقة.
والطريقة المتبعة في الجمع بين أمثال هذه الأحاديث : أن يقال إن النهي في الآية يشمل كل ما ورد في سبب نزولها وكل ما هو في معناه، وليس كل ما روي في أسباب النزول كان سببا حقيقيا، بل كانوا يقولون في كل ما يدخل في معنى الآية ويشمله عمومها : إنها نزلت فيه، وكثيرا ما ينقلون كلام الرواة بمعناه فيجيء منطوقه متعارضا، وقد بينا هذه المسألة مرارا. وأبعد ما قيل في أسباب نزول هذه الآية أن بعضهم كان يسأل النبي عن الشيء امتحانا أو استهزاء، وهذا لا يصدر إلا من كافر صريح أو منافق، والخطأب في الآية للمؤمنين فلا يمكن أن يكون نهيا لهم عن سؤال الامتحان أو الاستهزاء، وإنما يجو
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ ( أشياء ) اسم جمع أو جمع لكلمة ( شيء ) وهي أعم الألفاظ مطلقا أو الألفاظ الدالة على الموجود، فتشمل السؤال عن الأحكام الشرعية، والعقائد والأسرار الخفية، والآيات الكونية إذا تحقق فيما ذكر معنى الجملتين الشرطيتين، والمقصود أولا وبالذات النهي عن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف، ويليه السؤال عن الأمور الغيبية أو الأسرار الخفية المتعلقة بالأعراض وغير ذلك من الأشياء التي يحتمل أن يكون إظهارها سببا للمساءة، إما بشدة التكاليف وكثرتها، وإما بظهور حقائق تفضح أهلها. ولكن حذف مفعول «تسألوا » يدل على العموم، أي ولا تسألوا غير الرسول عن أشياء يحتمل أن يكون إبداؤها سببا لمساءتكم، فهي تتضمن النهي عن الفضول وما لا يعني المؤمن.
ومن المقرر في قوانين العربية أن شرط «إن » مما لا يقطع بوقوعه. والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه، فكان التعبير بقوله «إن تبد لكم تسؤكم » دون «إذا أبديت لكم تسوءكم » دالا على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها.
وبهذا يسقط قول من يقول إن أمثلة المسائل المنهي عنها الواردة في أسباب النزول مما لا يمكن العلم بكون إبدائها يسوء السائلين عنها، بل يحتمل عندهم أن يكون مما يسر، وقد كان جواب من سأل عن أبيه سارا له. وكذلك من سأل عن الحج، إذ كان جوابه التخفيف عنه وعن الأمة ببيان كون الحج يجب على كل مستطيع مرة واحدة لا في كل عام. ويمكن أن يقال مثل هذا في كل سائل عن أمثال هذه المسائل فلا يظهر تعليل النهي بهذا الشرط. كل هذا يسقط بما ذكرنا من دلالة الجملة الشرطية المصدرة بإن على احتمال وقوع شرطها لا على القطع بوقوعه.
ويدل على هذا الذي قررناه قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الحج «ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم ؟ ولو قلت نعم لوجبت » الخ ما تقدم، وفي رواية لابن جرير «ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحرج » فهو صريح في كون احتمال قوله «نعم » كان كافيا في وجوب ترك ذلك السؤال. ويدل عليه أيضا في سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه قول أمه له : ما رأيت ولدا أعق منك، أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ؟ وسيأتي رأينا في جوابه صلى الله عليه وسلم لابن حذافة.
﴿ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ﴾ أي وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوءكم حين ينزل القرآن في شأنها أو حكمها لأجل فهم ما نزل إليكم فإن الله يبديه لكم على لسان رسوله. وبنحو هذا القول قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، فإنه بعد إيراد الوجوه السابقة في السؤال عند تفسير صدر الآية قال في تفسير هذه الجملة ما نصه :
«يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما نهاهم عن مسألتهم إياه عن فرائض لم يفرضها عليهم، وتحليل أمور لم يحللها لهم، وتحريم أشياء لم يحرمها عليهم – قبل نزول القرآن بذلك - : يا أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابا ولا وحيا لا تسألوا عنه، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيان بوحي وتنزيل ساءكم، لأن التنزيل بذلك إذا جاءكم فإنما يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم، إما بإيجاب عمل عليكم ولزوم فرض لكم، وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤنة وكلفة، وإما بتحريم ما لو لم يأت بتحريمه وحي كنتم من التقديم عليه في فسحة وسعة، وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه وفي ذلك لكم مساءة، لنقلكم عما كنتم ترونه حقا إلى ما كنتم ترونه باطلا. ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها، وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، بين عليكم ما أنزلته إليه من إتيان كتابي، وتأويل تنزيلي ووحيي.
«وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حدثنا به هناد بن السري قال حدثنا أبو معاوية عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » ثم روى ( ابن جرير ) مثل هذا المعنى عن عبيد بن عمير تفسيرا للآية. وروي عن ابن عباس أنه قال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن منها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه اه وظاهر كلامه أن الحديث موقوف على أبي ثعلبة وستعلم أنه مرفوع.
وقال الحافظ ابن كثير في بيان هذا الوجه «أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها فلعله قد ينزل بسؤالكم تشديد أو تضييق. وقد ورد في الحديث «أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته »٧ ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها ( عفا الله عنها ) أي ما لم يذكره في كتابه هو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم »٨ وفي الحديث الصحيح أيضا «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ».
أقول : أما حديث «ذروني ما تركتكم » وفي رواية بلفظ «دعوني » فهو في الصحيحين. وسببه السؤال عن الحج كما تقدم. وأما حديث أبي ثعلبة فقد عزاه الحافظ ابن كثير إلى الصحيح أيضا ولم يسنده ولا أشار إلى من خرجه. وهو في سنن الدارقطني. وأورده صاحب مشكاة المصابيح عنه في الفصل الثاني من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة قال : وعن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ». ورويناه في الأربعين النووية٩ عنه بلفظ «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » قال النووي : حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
وثم وجه ثان في معنى الجملة وهو أنه يقول : إن تسألوا عن تلك الأشياء في زمن نزول القرآن وعهد التشريع يظهرها الله لكم – إن كانت اعتقادية ببيان ما يجب أن يعلم فيها، وإن كانت عملية ببيان حكمها، لأن لكل شيء حكما يليق به علم الله وحكمته، والله تعالى يبين لعباده بنص الخطأب ما لا بد لهم منه لصلاح أمري معادهم ومعاشهم – وبفحوى الخطأب أو الإشارة ما يفتح لهم باب الاجتهاد في كل ما له علاقة بأمور مصالحهم، فيعمل كل فرد أو هيئة حاكمة منهم بما ظهر أنه الحق والمصلحة، وينتهي عما يظهر له أنه الباطل والمفسدة، فيكون الوازع للفرد في المسائل الشخصية من نفسه بحسب درجته في العلم والفضيلة، وللمجموع في الأحكام والسياسة من أنفسهم أيضا، لأنه يتقرر بتشاور أولي الأمر منهم، وفي ذلك منتهى السعة واليسر، وإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن يترك أمر التشريع إليه تعالى لأنه أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، فلا تسألوا عن أشياء إن أبديت لكم أحكامها تسوؤكم وتحرجكم، ومتى سألتم عنها في عهد التشريع لا بد أن تجابوا وتبين لكم، ولكن هذا البيان قد يسد في وجوهكم باب الاجتهاد الذي فوضه الله إليكم، ويقيدكم بقيود أنتم في غنى عنها [ وسيأتي تفصيل هذا المبحث قريبا عقب تفسير الآيات ].
فحاصل هذا الوجه أن السؤال عن تلك الأشياء في زمن نزول القرآن يقتضي إبداءها لكم، وإبداؤها يقتضي مساءتكم، فيجب ترك السؤال عنها البتة.
وحاصل الوجه الأول تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا في حالة واحدة وهي أن يكون قد نزل في شأنها شيء من القرآن فيه إجمال وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورا لا مراء فيه كما وقع في مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة ( تقدم بيانه بالتفصيل ) فعلى هذا تكون الجملة الشرطية الثانية من قبيل الاستثناء من عموم النهي. وإنما يدل هذا على جواز السؤال عن تلك الأشياء بشرطه لا على وجوبه، فالسؤال عما ذكر غير مطلوب بإطلاق.
وكل من هذين الوجهين ظاهر في السؤال عن الأشياء التي تقتضي أجوبتها تشريعا جديدا وأحكاما تزيد في مشقة التكاليف. ولا يظهر البتة في سؤال الآيات الكونية لما يعارض ذلك من النصوص الدالة على عدم إجابة مقترحي الآيات لعنادهم ومشاغبتهم وكون الإجابة تقتضي هلاكهم إذا لم يؤمنوا بها، كما هي سنة الله فيمن قبلهم ( فإن قيل ) إنما هذا الوعد للمؤمنين، وإنما كانت تلك الاقتراحات من الكافرين ( قلنا ) لو أن المؤمنين فهموا من الآية أنهم يجابون إلى ما يقترحون من الآيات لوجد كثير منهم يقترح ذلك لما للنفوس من الشوق إلى رؤية الآيات. وأما السؤال عن الأمور الواقعة التي تقتضي أجوبتها أخبارا عن أسرار خفية وأمور غيبية، فلا يظهر فيه كل من الجوابين مثل ظهوره في طلب الأحكام، ولا سيما الأشياء الشخصية كسؤال بعضهم عن أبيه، فإذا صح أنه مراد من الآية فوجهه – والله أعلم – أن زمن نزول القرآن هو زمن بيان المغيبات، وإظهارها للرسول عند الحاجة إلى معرفتها، ومنه وقت السؤال عنها، فإنه إن سئل عنها يخبره الله بها مزيدا في إثبات نبوته ورسالته، كما أخبره بالجواب عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين حين سأله اليهود عنها. وعندي أن جوابه صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله عن أبيه جواب شرعي لا غيبي، بدليل قوله بتلك المناسبة «الولد للفراش » فكأنه قال له : أبوك الشرعي من ولدت على فراشه وهو حذافة بن قيس. وهذا من أسلوب الحكيم المتضمن لتعليمهم ما ينفعهم من السؤال، فهو من قبيل ما ورد في تفسير ﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] وقد تقدم في تفسير سورة البقرة ( ج٢ ).
وهذه الآية تدل على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة أو على أنه لا يقع – وقد غفل جمهور الأصوليين عن الاستدلال بها – وبيان ذلك أن ما يسأل عنه إما أن يكون مما يطلب العلم به كالعقائد والأخبار، وإما يكون مما يطلب العمل به وهو الأحكام. وتأخير البيان – دع تركه وعدمه – يقتضي الإقرار على الاعتقاد الباطل، أو العمل بغير الوجه المراد للشارع. ولا يدخل في هذا ولا ذاك السؤال عن الأمور الشخصية كسؤال من سأل عن ناقته، ولذلك جعلنا هذا النوع من السؤال غاية في خفاء دخوله في عموم ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) فإن كان داخلا فيها فحكمته – والله أعلم – أن عدم إبداء الجواب للسائل المؤمن ربما كان مشككا في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم. وذهب أبو السعود مذهبا غريبا في الآية وتعليل إبداء الأشياء المسؤول عنها بما يوجب المساءة في كل من نوعيها فقال : والمراد بها ما يشق عليهم ويغمهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن التكا
٧ أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٣، ومسلم في الفضائل حديث ١٣٢، ١٣٣، وأبو داود في السنة باب ٦، وأحمد في المسند ١/١٧٦، ١٧٩..
٨ تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل..
٩ كتاب الأربعين النووية، أول كتاب تلقيته عن الشيوخ، قرأته في بلدنا (القلون) على استاذنا وشيخ شيوخنا علامة الديار السورية بل العربية الشيخ نشابة (رحمه الله تعالى) وأجازني به وذلك قبل أن أبدأ بطلب العلم. (المؤلف)..
﴿ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ١٠١ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ١٠٢ ﴾
قال الرازي : في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه، الأول : إنه تعالى لما قال «ما على الرسول إلا البلاغ» صار التقدير كأنه قال : ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه الرسول إليكم فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه، فإنكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم. الثاني : أنه تعالى لما قال :«ما على الرسول إلا البلاغ» وهذا ادعاء منه للرسالة( ؟ ) ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكيا عنهم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ] - إلى قوله – ﴿ قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ ؟ [ الإسراء : ٩٣ ] والمعنى أني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام إليكم، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم، وذلك ليس في وسعي، ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم، مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا. ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزات وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك، فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم. الوجه الثالث : أن هذا متصل بقوله :﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( ٩٩ ) ﴾ فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إن تبد لكم تسوءكم اه. كلام الرازي بنصه.
وأقول : إن مناسبة هاتين الآيتين لآية تبليغ الرسول للرسالة مناسبة خاصة قريبة، ولهما موقع من مجموع السورة ينبغي تذكره والتأمل فيه. ذلك أن هذه السورة آخر ما نزل من السور، وقد صرح الله تعالى في أوائلها بإكمال الدين، وإتمام النعمة به على العالمين، فناسب أن يصرح في أواخرها بأن الرسول قد أدى ما عليه من وظيفة البلاغ، وأنه ينبغي للمؤمنين أن لا يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها، فتكون العاقبة أن يسرع إليها الفسوق عن أمر ربها. وهو معصوم من كتمان شيء مما أمره الله بتبليغه.
فإن قيل : إذا كان الأمر كذلك فلم طال الفصل بين هذا النهي وبين الخبر بإكمال الدين، ولم يتصل به في النظم الكريم ؟ قلت : تلك سنة القرآن في تفريق مسائل الموضوع الواحد من أخبار وأحكام وغيرهما لما بيناه مرارا من حكمة ذلك، وهاك أقوى ما ورد في أسباب نزول الآيتين :
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتكم كثيرا» قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين١ فقال رجل : من أبي ؟ قال :«فلان» فنزلت هذه الآية :﴿ لا تسألوا عن أشياء ﴾٢ قال الحافظ ابن كثير وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في قوله ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم ﴾، قال فحدثنا أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال :«لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه فقال : يا نبي الله من أبي ؟ قال :«أبوك حذافة» قال ثم قام عمر – أو قال فأنشأ عمر – فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله – أو قال أعوذ بالله – من شر الفتن. قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط»٣ أخرجاه ( أي الشيخان ) من طريق سعيد، ورواه معمر عن الزهري عن أنس بنحو ذلك أو قريبا منه. قال الزهري فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك قالت : أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ؟ فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
«وقال ابن جرير أيضا : حدثنا الحرث حدثنا عبد العزيز حدثنا قيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال : أين أبي ؟ قال :«في النار – فقام آخر فقال : من أبي ؟ قال – أبوك حذافة» فقام عمر بن الخطأب فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما، إنا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك والله أعلم من آباؤنا. قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾. إسناده جيد. «وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف منهم أسباط عن السدي – فذكر ابن كثير عنه مثل حديث أبي هريرة في جملته وزاد في آخر كلام عمر – فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي. فيومئذ قال :«الولد للفراش وللعاهر الحجر» ثم قال : قال البخاري : حدثنا الفضل بن سهل حدثنا أبو النضر حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ حتى فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري.
«وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وردان الأسدي حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز عن علي قال لما نزلت هذه الآية ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ [ أل عمران : ٩٧ ] قالوا : يا رسول الله ! أفي كل عام ؟ فسكت. فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت. قال ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال :«لا ولو قلت نعم لوجبت – ولو وجبت لما استطعتم» فأنزل الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ ٤. وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق منصور بن وردان به. وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول أبو البختري لم يدرك عليا اه».
أقول منصور بن وردان ثقة كما قال ابن حبان وغيره. وأبو البختري هو سعيد ابن فيروز التابعي ثقة فيه تشيع روى عنه الجماعة كلهم، ولكن مراسيله ضعيفة.
وقد عزا السيوطي في الدر المنثور حديث علي هذا إلى أحمد والترمذي «وحسنه» وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وذكر نحوه عن ابن عباس عازيا إياه إلى عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم – قال :«وصححه» – والبيهقي في سننه. وفيه أن السائل الأقرع بن حابس. وذكر مثله أيضا عن الحسن من تخريج عبد بن حميد وفيه «ذروني ما وذرتكم» الخ وهذه الزيادة من أحاديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة ولفظ البخاري «دعوني ما تركتكم» – ولفظ مسلم : دعوني ما تركتكم – فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم٥.
قال القسطلاني في شرحه له تبعا للحافظ ابن حجر : وسبب هذا الحديث على ما ذكره مسلم [ أقول وكذا النسائي ] من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»- ثم قال – «ذروني ما تركتكم» الحديث وأخرجه الدارقطني مختصرا وزاد فيه فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم ﴾ اه وأقول : محمد بن زياد هذا ثقة روى عنه الجماعة كلهم.
ونص سنن النسائي٦ : عن أبي هريرة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال :«إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج» فقال رجل : في كل عام ؟ فسكت عنه حتى أعاده ثلاثا فقال :«لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها. ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ؛ فإذا أمرتكم بالشيء ( وفي نسخة بشيء ) فخذوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وروي عن ابن عباس مسألة وجوب الحج وأن الأقرع بن حابس قال : كل عام يا رسول الله ؟ فسكت فقال :«لو قلت نعم لوجبت ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ولكنه حجة واحدة» وفي فتح الباري أن ابن عبد البر نقل عن رواية مسلم أن السؤال عن الحج كان يوم خطب صلى الله عليه وسلم وقال :«لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته».
وقال ابن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس ( لا تسألوا عن أشياء ) قال هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك : ما جعل الله من كذا ولا كذا. قال وأما عكرمة فإنه قال إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) قال فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس فما لك تقول هذا ؟ فقال : هيه.
ثم روى ابن جرير مثل قول مجاهد عن سعيد بن جبير. ثم قال : وأولي الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه، ومسألة سائله إذ قال «إن الله فرض عليكم الحج» أفي كل عام ؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل. وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس فغير بعيد عن الصواب. ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه. ذكر هنا القول به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها الخ ما قاله، وفيه أن تلك الأخبار صحاح فوجب ترجيحها. يشير إلى ضعف سند رواية مجاهد لأن خصيف بن عبد الرحمن راويها عنه قد ضعفه الإمام أحمد وقال مرة : ليس بقوي. وقال أبو حاتم : تكلم في سوء حفظه. ولكن قال ابن معين فيه مرة صالح ومرة ثقة.
والطريقة المتبعة في الجمع بين أمثال هذه الأحاديث : أن يقال إن النهي في الآية يشمل كل ما ورد في سبب نزولها وكل ما هو في معناه، وليس كل ما روي في أسباب النزول كان سببا حقيقيا، بل كانوا يقولون في كل ما يدخل في معنى الآية ويشمله عمومها : إنها نزلت فيه، وكثيرا ما ينقلون كلام الرواة بمعناه فيجيء منطوقه متعارضا، وقد بينا هذه المسألة مرارا. وأبعد ما قيل في أسباب نزول هذه الآية أن بعضهم كان يسأل النبي عن الشيء امتحانا أو استهزاء، وهذا لا يصدر إلا من كافر صريح أو منافق، والخطأب في الآية للمؤمنين فلا يمكن أن يكون نهيا لهم عن سؤال الامتحان أو الاستهزاء، وإنما يجو
﴿ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ( ١٠٢ ) ﴾ أي قد سأل هذه المسألة – أي هذا النوع – منها أو هذه المسائل – أي أمثالها – قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها لهم كافرين بها، فإن الذين أكثروا السؤال عن الأحكام التشريعية من الأمم قبلكم لم يعلموا بما بين لهم منها، بل فسقوا عن أمر بهم، وتركوا شرعهم لاستثقالهم العمل به، وأدى ذلك إلى استنكاره واستقباحه، أو إلى جحود كونه من عند الله تعالى، وكل ذلك من الكفر به. والذين سألوا الآيات كقول صالح لم يؤمنوا بعد إعطائهم إياها بل كفروا واستحقوا الهلاك في الدنيا قبل الآخرة – والأخبار الغيبية كالآيات أو منها – وقد اقتصر ابن جرير في هذه الآية على تفسير المسائل التي سألوها وكفروا بها بالآيات التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام، وذكر ابن كثير المعنيين اللذين قررناهما آنفا واستشهد للأول بمسألة السؤال عن الحج. ولا بد من الجمع بينهما لتكون هذه الآية تتمة لما قبلها، وبيانا لسبب ذلك النهي الجامع للمعنيين كما تقدم. ويؤيد الأول ما ورد في حديث السؤال عن الحج من كون فرضه كل عام يفضي إلى الكفر، وإنما يظهر ذلك بالوجه الذي قررناه وبيناه، ولم نر أحدا سبقنا إليه.
والعبرة في هذه الآية أن كثيرا من الفقهاء وسعوا بأقيستهم دائرة التكاليف، وانتهوا بها إلى العسر والحرج المرفوع بالنص القاطع، فأفضى ذلك إلى ترك كثير من أفراد المسلمين وحكوماتهم للشريعة بجملتها، وفتح لهم أبواب انتقادها والاعتراض عليها، فاتبعوا بذلك سنن من قبلهم. ولا بد لنا من عقد فصل خاص في تفصيل هذا البحث :
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوة في بيان كون كثرة الزيادة على نصوص الشارع والتنطع في الدين
باستعمال الرأي في العبادات وأحكام الحلال والحرام
مخلا بيسر الإسلام ومنافيا لمقصده
نفتتح هذا الفصل بمقدمات من المسائل، أكثرهن مقاصد لا وسائل، يتجلى بهن المراد ويتميز الحق من الباطل.

١-
إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل دينه وأتم به نعمته على المؤمنين بما أنزله من القرآن على خاتم رسله، وبما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل القيام من بيان مراد الله تعالى من تنزيله، فهذه مسألة قطعية ثابتة بالنقل والعقل، وقد تقدم تفصيل القول فيها في تفسير ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ [ المائدة : ٣ ] من هذه السورة.

٢-
إن الدين يسر قد رفع الله تعالى منه الحرج كما نطق به النص في آية الوضوء من هذه السورة وفي سياق آيات الصيام من سورة البقرة – وتقدم تفسير النصين – وسيأتي نص آخر في معنى نص آية الوضوء في آخر سورة الحج. وقال تعالى في سورة الأعلى ﴿ ونيسرك لليسرى ﴾ [ الأعلى ٨ ]، أي الشريعة التي تفضل غيرها باليسر، ولذلك سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، ووصفها بقوله ليلها كنهارها، وجعل الدين عين اليسر مبالغة في يسره فقال «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»١ الخ رواه البخاري وابن حبان من حديث أبي سعيد المقبري. وقال صلى الله عليه وسلم «أحب الدين – وفي لفظ الأديان – إلى الله الحنيفية السمحة»٢ رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وذكره البخاري في ترجمة أحد أبواب الصحيح تعليقا، والطبراني من حديث ابن عباس. وقال صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا. وبشروا ولا تنفروا»٣ رواه الشيخان من حديث أنس. وقال «لقد تركتم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء»٤ رواه ابن ماجه من حديث لأبي الدرداء.

٣-
إن القرآن الحكيم هو أصل الدين وأساسه، وقد قال الله تعالى :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] وقال ﴿ تبيانا لكل شيء ﴾ [ النحل : ٨٩ ] وأما الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المبلغ له والمبين لمراد الله تعالى مما جاء فيه مجملا، قال تعالى مخاطبا له ﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾ [ الشورى : ٤٨ ] وقال ﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ [ النحل : ٤٤ ] وقال ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ [ النساء : ١٠٥ ].
واختلف العلماء فيما جاء في السنة من الأحكام التي لا ذكر لها في القرآن هل هي من رأي النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده فيه ؟ أم بوحي آخر غير القرآن ؟ أم أذن الله له باستئناف التشريع ؟ والخلاف مشهور ورجح الإمام الشافعي القول الثاني. وفي صحيح البخاري [ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بما لم ينزل عليه الوحي فيقول «لا أدري» أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس، لقوله تعالى :﴿ بما أراك الله ﴾ ] ويليه فيه [ باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل ].
ونقول : لا يتجه الخلاف إلا في الأحكام الدينية المحضة، وأما المصالح المدنية والسياسة والحربية فقد أمر بالمشاورة فيها، وكان يرى الرأي فيرجع عنه لرأي أصحابه، وعاتبه الله تعالى على بعض الأعمال التي عملها برأيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في غزوات بدر وأحد وتبوك. ولا يتأتى شيء من ذلك فيما كان يوحى.

٤-
الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله عز وجل، وفيما يبينه للناس من أمر دينه. ولذلك قال في مسألة تلقيح النخل حين ظن أنه لا ينفع فتركه بعضهم لظنه فخسر موسمه «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله»٥ وقال أيضا «إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر»٦ وقال أيضا «أنتم أعلم بأمر دنياكم»٧ رواهن مسلم.

٥-
إن الله تعالى قد فوض إلى المسلمين أمور دنياهم الفردية والمشتركة الخاصة والعامة، بشرط أن لا تجني دنياهم على دينهم وهدي شريعتهم – فجعل الأصل في الأشياء الإباحة بمثل قوله ﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾ [ البقرة : ٢٩ ] وقوله ﴿ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ﴾ [ الجاثية : ١٣ ] – وجعل أمور سياسة الأمة وحكومتها شورى إذ قال في وصف المؤمنين ﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ [ الشورى : ٣٨ ] وأمر بطاعة أولي الأمر – وهم أهل الحل والعقد ورجال الشورى – بالتبع لطاعة الله ورسوله، وأرشد إلى رد أمور الأمن والخوف المتعلقة بالسياسة والحرب والإدارة إلى الرسول وإلى أولي الأمر، كما تقدم بيان ذلك في سورة النساء [ راجع تفسير ﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر ﴾ [ النساء ٥٩ ] وتفسير ﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ ] [ النساء : ٨٣ ] وآتى هذه الأمة الميزان مع القرآن، كما آتاه الأنبياء من قبل، والميزان ما يقوم به العدل والمساواة في الأحكام من الدلائل والبينات التي يستخرجها أهل العلم والبصيرة باجتهادهم في تطبيق الأقضية على النص والعدل والمصلحة.
وأما أدلة ذلك من السنة فأعظمها وأظهرها سيرته صلى الله عليه وسلم في تدبير أمر الأمة في الحرب والسلم والسياسة العامة بمشاورة أولي الرأي والفهم والمكانة المحترمة من المؤمنين وهم كبراء المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ومنها إذنه لمعاذ عند إرساله إلى اليمن بالاجتهاد في القضاء، وحديث «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر»٨ رواه البخاري من حديث عمرو بن العاص، وذكر أن أبا هريرة وأبا سلمة تابعاه عليه.

٦-
إن الله تعالى جعل الإسلام صراطه المستقيم لتكميل البشر في أمورهم الروحية والجسدية، ليكون وسيلة للسعادة الدنيوية والأخروية، ولما كانت الأمور الروحية التي تنال بها سعادة الآخرة من العقائد والعبادات لا تختلف باختلاف الزمان والمكان – أتمها الله تعالى وأكملها أصولا وفروعا، وقد أحاطت بها النصوص فليس لبشر بعد الرسول أن يزيد فيها ولا أن ينقص منها شيئا.
وأما الأمور الدنيوية من قضائية وسياسية فلما كانت تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة – بين الإسلام أهم أصولها، وما مست إليه الحاجة في عصر التنزيل من فروعها، وكان من إعجاز هذا الدين وكماله أن ما جاءت به النصوص من ذلك يتفق مع مصالح البشر في كل زمان ومكان، ويهدي أولي الأمر إلى أقوم الطرق لإقامة الميزان، بما تقدم ذكره من الشورى والاجتهاد.

٧-
من تدبر ما تقدم تظهر له حكمة ما كان من كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة سؤال المؤمنين له عن المسائل التي تقتضي أجوبتها كثرة الأحكام، والتشديد في الدين، أو بيان أحكام دنيوية ربما توافق ذلك العصر ولا توافق مصالح البشر بعده. وقد تقدم بسط ذلك في تفسير الآيتين، وسنورد قريبا أحاديث أخرى وآثارا في معنى ما أوردناه في سياق تفسيرهما.

٨-
من أجل ذلك الذي تقدم كان السلف الصالح يذمون الإحداث والابتداع، ويوصون بالاعتصام والاتباع، وينهون عن الرأي والقياس في الدين، ويتدافعون الفتوى ويتحامونها ولاسيما إذا سئلوا عما لم يقع، ولكن بعض الذين انقطعوا لعلم الشريعة فتحوا باب القياس والرأي فيها، وأكثروا من استنباط الفروع الكثيرة في العبادات والمعاملات جميعا، فجاء بعض الفروع مخالفا للسنة القولية أو العلمية مخالفة بينة، وبعضها غير موافق ولا مخالف، إلا أنه يدخل فيما عفا الله عنه فسكت عن بيانه رحمة لا نسيانا كما ورد، وقد وضعوا للاستنباط أصولا وقواعد منها الصحيح الذي تقوم عليه الحجة، ومنها ما لا تقوم عليه حجة البتة، ومنهم من لم يلتزم تلك الأصول والقواعد في استنباطِه للأحكام، وقولِه هذا حلال وهذا حرام، وذهبوا في ذلك مذاهب بددا، وسلكوا إليه طرائق قددا، فكثرت التكاليف حتى تعسر تعلمها، فما القول في عسر العمل بها ؟ ! فتسلل منها الأفراد والجماعات، وتفصت من عقلها الحكومات، وكثرت على المسلمين بها الشبهات، وكانت في طريق العودة إلى الإسلام أصعب العقبات. ولو سلك المتأخرون طريق السلف حتى أئمة أهل الرأي منهم في منع التقليد والرجوع إلى صحيح المأثور، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول-لما وصلنا إلى هذا الحد الذي وصفناه.

٩-
إن الإسلام دين توحيد واجتماع، وقد نهى أشد النهي عن التفرق والاختلاف، قال تعالى :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] وقال :﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ﴾ [ آل عمران : ١٠٥ ] وقال :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ ] الأنعام : ١٥٩ ] وقال ﴿ ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شبعا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ [ الروم : ٣١، ٣٢ ] ولم تكن هذه النصوص من الكتاب وأمثالها منه ومن السنة برادعة للمسلمين عن التفرق، وما كان التفرق إلا من الرأي الذي اتبعوا فيه سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى دخلوا جحر الضب الذي دخلوه قبلهم، مصداقا للحديث المتفق عليه. وروى ابن ماجه والطبراني من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون وأبناء سبايا الأمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا»٩ وقد علم عليه السيوطي بالحسن. ونقل هذا المعنى غير مرفوع عن غير واحد من علماء التابعين في أهل الكتاب عامة كما رواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم.
ولما كثر القول بالرأي قام أهل الأثر يردون على أهل الرأي وينفرون الناس منهم، فكان علماء الأحكام قسمين أهل الأثر والحديث، وأهل الرأي، وكان أئمة الفريقين من المؤمنين المخلصين، الناهين عن تقليد غير المعصوم في الدين، ثم حدثت المذاهب، وبدعة تعصب الجماعة الكثيرة للواحد، وفشا بذلك التقليد بين الناس، فضاع العلم من الجمهور بترك الاستقلال في الاستدلال، فكان هذا أصل كل شقاء وبلاء لهذه الأمة في دينها ودنياها.

١٠-
ما اجتمعت هذه الأمة على ضلالة قط، أما أهل الصدر الأول فلم يفتتن بالبدع التي ظهرت في عصرهم إلا القليل منهم، وكان السواد الأعظم على الحق، ولما ضعف الحق وارتفع العلم بكثرة الموت في العلماء المستقلين، وفشو الجهل بتقليد الجماهير حتى لأمثالهم من المقلدين، كان يوجد في كل عصر طائفة ظاهرة على الحق مقيمة للسنة، خاذلة للبدعة ولغربة الإسلام، صار هؤلاء غرباء في الناس، وكانوا في اعتصامهم بالحق وفي غربتهم في الإسلام مصداقا للأحاديث الصحيحة. ولو خلت الأرض منهم وانفرد بتعليم الدين والتصنيف فيه المقلدون المتعصبون للمذاهب، الذين جعلوا مقلديهم أصلا في الدين، يردون إليه أو لأجله نصوص الكتاب والسنة حتى بالتحريف والتأويل، ويضعفون الصحيح ويصححون السقيم، لعميت السبيل الموصلة إلى دين الله القويم.
إنما أعني بأهل الحق وأنصار السنة من عرفوا الحق ودعوا إليه وأنكروا على مخالفيه، وقرروه بالتدريس والتأليف، فهؤلاء هم الذين يصدق عليهم حديث الصحيحين وغيرهما «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله»١٠ وفي لفظ «حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»١١ وحديث مسلم وغيره «ب

ثم قال عز وجل :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ١٠٣ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ١٠٤ ﴾
وجه اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما أنه سبحانه وتعالى نهى في السياق الذي قبلهما عن تحريم ما أحله الله وعن الاعتداء فيه- وإن كان التحريم تركا يلتزم بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكا وتعبدا، لا شرعا يدعى إليه ويعتقد وجوبه افتراء عليه تعالى، - وبين فيه كفارة الأيمان، وحرم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وصيد البر على المحرم بحج أو عمرة، وبعد أن نهى عن تحريم ما أحله، نهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم الله تعالى شيئا لم يكن حرمه، أو شرع حكم لم يكن شرعه، بأن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء مما سكت الله عنه عفوا وفضلا، فيكون الجواب عنه إن ورد تكليفا جديدا، فناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم، وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم، وما قلد بهم بعضهم بعضا على جهلهم، مع بيان بطلان التقليد، وكونه ينافي العلم والدين-
فقال :
﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ هذه أربعة نعوت لأربعة أنواع من محرمات الأنعام التي حرمتها الجاهلية على أنفسها :
فالبحيرة : فعيلة بمعنى مفعولة وهي الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روي عن ابن عباس، وقيل إذا ولدت عشرة أبطن، يفعلونه ليكون علامة على تحريم أكلها أو ركبها أو الحمل عليها، وهو مأخوذ من مادة ( بحر ) وهو في الأصل-كما قال الراغب- »كل مكان واسع جامع للماء الكثير » ثم اشتقوا منه عدة كلمات فيها معنى السعة.
والسائبة : الناقة التي تسيب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجز صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف. فهي اسم فاعل من قولهم : ساب الفرس ونحوه، أي ذهب على وجهه حيث شاء، وساب الماء جرى، فهو سائب. وقال محمد بن إسحاق هي الناقة إذا ولدت عشر إناث ليس بينهن ذكر، وقال مجاهد : هي من الغنم مثل البحيرة من الإبل. وعن أبي روق والسدي : كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها لطواغيتهم وأوثانهم.
والوصيلة : الشاة التي تصل أنثى بأنثى في النتاج، وقيل : هي التي وصلت أخاها، قال الراغب : وهو أن أحدهم كان إذا ولدت له شاته ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها، فلا يذبحون أخاها من أجلها. وعن ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى استحيوها وإن كان ذكرا أو أنثى في بطن واحد استحيوها وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا.
والحام : اسم فاعل من الحماية، وهو فحل الضراب أي التلقيح، قيل إذا أتم ضراب عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره. وتركوه لا يحملون عليه شيئا. وروي أنهم كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس تمييزا له. وقد اختلفت الروايات في تفسير هذه الألفاظ كما ترى، وأقواها ما رواه البخاري ومسلم وغير واحد من رواة التفسير المأثور عن سعيد بن المسيب قال :
البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال : قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار-كان أول من سيب السوائب »١ قال ابن المسيب والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه ( أي تركوه ) للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي. وسيأتي في سورة الأنعام بقية ما يتعلق بهذا البحث ومن ابتدعه للعرب وغير شريعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وما ابتدعه المسلمون مما يضاهي ذلك.
أما معنى الجملة فهو أن الله تعالى لم يشرع لهم تحريم البحائر والسوائب وأخواتهما، أي لم يجعله من أحكام الدين ﴿ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ﴾ بزعمهم أن هذه الأشياء محرمة سواء أسندوا تحريمها إلى الله تعالى ابتداء، أو ادعاء على سبيل الاستدلال – كما حكى عنهم بقوله :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] أي ولكنه شاء ذلك منا ففعلناه فهو راض به - أم لم يسندوه إليه. أما كون إسناد تحريمه إليه بالتصريح افتراء عليه فظاهر بين، وأما إسناده إليه ادعاء واستدلالا بالمشيئة فهو افتراء أيضا لأن دليله باطل، فإن الله تعالى لم يمنع الكفار من الكفر والفساق من الفسق ولا أكرههم عليها بمحض المشيئة والقدرة، بل جعل لهم اختيار الترجيح في أعمالهم ولم يجعلهم مجبورين عليها، فعدم إجبارهم على الترك أو الفعل لا يدل على رضائه تعالى بما اختاروه لأنفسهم من كفر وفسق، وأما كونه افتراء عليه في حال السكوت عن إسناده إليه، فوجهه أن التحريم والتحليل من شأن رب الناس وإلههم سبحانه فليس لأحد من خلقه أن يحرم عليهم شيئا إلا بإذنه والتبليغ عنه، فمن تجرأ على ذلك كان مدعيا بفعله هذا إما الربوبية وإما الإذن من الرب تعالى، وكلاهما افتراء، والفعل فيه أبلغ من القول.
﴿ وأكثرهم لا يعقلون ( ١٠٣ ) ﴾ أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم، وأن ذلك من أعمال الكفر به، بل يظنون أنهم يتقربون به إليه ولو بالواسطة، لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم، ليست بزعمهم إلا وسائط بينهم وبين الله تعالى، تشفع لهم عنده، وتقربهم إليه زلفى. وهكذا شأن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره، وتسييب عجل للسيد البدوي أو سواه، وسن ورد أو حزب يضاهي به المشروع من شعائر دينه، أو غير ذلك من العبادات التي لم تؤثر عن الشارع، يزعم أنه جاء بما يتقرب به لله تعالى وينال به رضاه عز وجل، والحق أن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا عبادة ولا تحريم إلا بنص عام أو خاص، وليس لأحد أن يزيد أو ينقص برأي ولا قياس، ولذلك قال عز وجل :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥، باب ١٣، زمسلم في الجنة حديث ٥١، وأحمد في المسند ١/٤٤٦، ٢/٢٧٥، ٣٦٦..
ثم قال عز وجل :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ١٠٣ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ١٠٤ ﴾
وجه اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما أنه سبحانه وتعالى نهى في السياق الذي قبلهما عن تحريم ما أحله الله وعن الاعتداء فيه- وإن كان التحريم تركا يلتزم بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكا وتعبدا، لا شرعا يدعى إليه ويعتقد وجوبه افتراء عليه تعالى، - وبين فيه كفارة الأيمان، وحرم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وصيد البر على المحرم بحج أو عمرة، وبعد أن نهى عن تحريم ما أحله، نهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم الله تعالى شيئا لم يكن حرمه، أو شرع حكم لم يكن شرعه، بأن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء مما سكت الله عنه عفوا وفضلا، فيكون الجواب عنه إن ورد تكليفا جديدا، فناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم، وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم، وما قلد بهم بعضهم بعضا على جهلهم، مع بيان بطلان التقليد، وكونه ينافي العلم والدين-
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ أي وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله تعالى في القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبينات، والمبنية على قواعد درء المفاسد وجلب المصالح دون العبث والخرافات، وإلى الرسول المبلغ لها، والمبين لمجملها، قالوا حسبنا ويكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وأحكام، وحلال وحرام، قال تعالى ردا عليهم ﴿ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ( ١٠٤ ) ﴾ أي أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع الإلهية، ولا يهتدون سبيلا إلى مصالحهم الدينية والدنيوية ؟ وإنما يعرف ما يكفي الأفراد والأمم وما لا يكفي بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل، والاهتداء إلى الأعمال الصالحة والفضائل، وأين من هذا وذاك، أولئك الأميون الجهلاء، الذين كانوا يتخبطون في وثنية وخرافات، ووأد بنات، وعدوان مستمر، وقتال مستحر، وعداوة وبغضاء، وظلم لليتامى والنساء، على ما أوتوا من فطنة وذكاء، وعزيمة ودهاء، وحزم ومضاء، وعزة وإباء، واستقلال أفكار وآراء، وغير ذلك من المزايا التي تؤهلهم لأن يكونوا هم الأئمة الوارثين، والخلفاء العادلين. لولا تقليد الآباء، لولا تقليد الآباء ؟ ؟ وكذلك كان بعد اتباعهم بتركه مقتضى العلم وهداية القرآن.
هذه الآية والآية المشابهة لها في سورة البقرة – ﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾ [ البقرة : ١٦٨ ] – هما أظهر وأوضح ما ورد في الكتاب العزيز من الآيات في بطلان التقليد، ولكن كثيرا من الناس قد ضلوا بالتقليد عن حجة القرآن، وهدي النبي عليه الصلاة والسلام، حتى عادوا وهم في حجر الإسلام، شرا مما كانت عليه الجاهلية في حجر الأصنام.

فصل في بيان بطلان التقليد وشبهات أهله


الآيات القرآنية الدالة على بطلان التقليد في الدين كثيرة جدا، وكذلك الأحاديث النبوية وأقوال علماء السلف الصالحين، وإنما تقررت بدعة التقليد في القرن الرابع أي بعد القرون الثلاثة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون، وشر التقليد ما فرق الأمة شيعا، وجعل الاختلاف في الدين عندها دينا. بانتساب كل شيعة وطائفة إلى رجل يلتزمون أقواله أو أقوال من يدعون إتباعه في كل مسألة وإن خالفت نصوص الكتاب والسنة وما كان عليه جمهور الصحابة والتابعين، هذا مع العلم بأن الله تعالى ذم المتفرقين المختلفين في الدين، وبرأ رسوله منهم وتوعدهم بالعذاب العظيم، وأمر بأن يرد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله منهم لا إلى أقوال الناس غير المعصومين، وجعل وظيفة الكتاب الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبين أنه لا يحمل على الاختلاف فيه إلا البغي والضلال.
ثم إن كتاب الله تعالى قد أوجب العلم بالدين، والتقليد ليس بعلم كما ثبت بالإجماع والعقل، وطالب بالدليل ولا سيما في القول على الله عز وجل، كقوله تعالى :﴿ هل عندكم من سلطان بهذا ؟ أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ﴾ [ يونس : ٦٨ ] السلطان البرهان وقد بينا بطلان التقليد وتناقض أهله في مواضع من التفسير والمنار وإننا نذكر هنا ما حرره الإمام الشوكاني في مسألة التقليد في الأحكام من كتابه ( إرشاد الفحول، إلى تحقيق الحق من علم الأصول ) – قال رحمه الله تعالى :
المسألة الثالثة : اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقا. قال القرافي : ومذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد. وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد. قال : ونقل عن مالك أنه قال : أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه. وقال عند موته : وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط. قال ابن حزم : فههنا مالك ينهى عن التقليد وكذلك الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وقد روى المزني عن الشافعي في أول مختصره أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره. انتهى.
وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها «القول المفيد في حكم التقليد » فلا نطول المقام بذكر ذلك، وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور. ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه من حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات، وكذلك ما سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له عند عدم الدليل ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع. فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله، فالعجب من كثير من أهل الأصول حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض المعتزلة. وقابل مذهب القائلين بعدم الجواز بعض الحشوية وقال يجب مطلقا ويحرم النظر، وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على أنفسهم وعلى غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم.
والمذهب الثالث : التفصيل وهو أنه يجب على العامي ويحرم على المجتهد، وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة، ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أقوال المجتهدين وهؤلاء هم مقلدون فليسوا ممن يعتبر خلافه، ولاسيما وأئمتهم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم، وقد تعسفوا فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس لا المقلدين ! فيالله العجب.
وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثر، وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين ! فإن أراد إجماع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتلك دعوى باطلة، فإنه لا تقليد فيهم البتة ولا عرفوا التقليد ولا سمعوا به، بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة وهذا ليس من التقليد في شيء، بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية، وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية.
وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد والمجوزون له من قوله سبحانه :﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ إلا السؤال عن حكم الله في المسألة لا عن آراء الرجال، هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال كما زعموا، وليس الأمر كذلك هي واردة في أمر خاص، وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالا كما يفيده أول الآية وآخرها حيث قال :﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر ﴾ [ النحل : ٤٣، ٤٤ ].
وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك، وإن أراد إجماع من بعدهم فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم، وقد عرفت مما نقلناه سابقا أن المنع قول الجمهور إذا لم يكن إجماعا.
وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء فضلا عن أن ينعقد بهم إجماع. والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد فضلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط، ولم نؤمر برد شرائع الله سبحانه إلى آراء الرجال. بل أمرنا بما قاله سبحانه :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ أي كتاب الله وسنة رسوله.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله فإن لم يجد فبما يظهر له من الرأي كما في حديث معاذ١.
وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ذكروه، فههنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له، لا عن رأيه البحث، واجتهاده المحض، وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم. ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسع الله عليه.
وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من [ الآيات ] ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة ﴾ [ الزخرف : ٢٢ ] ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] ﴿ إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ] وأمثال هذه الآيات. ومن أراد استيفاء البحث على التمام فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها وإلى المؤلف الذي سميته «أدب الطلب ومنتهى الأرب ».
وما أحسن ما حكاه الزركشي في البحر عن المزني أنه قال : يقال لمن حكم بالتقليد : هل لك من حجة ؟ فإن قال :«نعم » أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال بغير علم قيل له فلم أرقت الدماء وأبحث الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟ فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء. قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عنك، فإن قال :«نعم » ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة، فإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا يجوز تقليد من أهو أكبر وأغزر علما، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حذر من زلة العالم، وعن ابن مسعود أنه قال لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر. فإنه لا أسوة في الشر، انتهى.
قلت : تتميما لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة يقال له هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر والمرسل من الله تعالى إلى عباده، المعصوم من الخطأ في أقواله وأفعاله، فتقليده أولى من تقليد الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه، وليس له من العصمة شيء، ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس.
واعلم : أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له يجوز له العمل بها عند فقد الدليل ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال، ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم وتقليد غيرهم. وقد عرفت حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي لا بالرواية، ويتمسك بمحض الاجتهاد عن مطالب بحجة ٢، فمن قال إن رأي المجتهد يجوز لغيره التمسك به ويسوغ له أن يعمل به فيما كلفه الله. فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع، ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط. وأما مجرد الدعاوى والمجازفات في شرع لله تعالى فليست بشيء، ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى لادعى من شاء ما شاء، وقال من شاء بما شاء اه.
هذا ما قاله الشوكاني – وإننا سنعود إن شاء الله تعالى إلى هذا البحث في مواضع أخرى فنزيده بيانا وتفصيلا.
١ يعني أن الواجب في القضاء الي يعرض هو النص وإلا فالاجتهاد التقليد. ولا يدل الحديث على الإذن في الاجتهاد الرأي في العبادات أنها لم تثبت بالنص، ولكن قد يحتاج في بعضها إلى الاجتهاد في طريقة إيقاعها على الوجه المشروع كالاجتهاد في القبلة، وهو ما سماه علماء الأصول تحقيق المناط، وللاتفاق عليه أنكر الغزالي عدة من القياس للاتفاق عليه والاختلاف في القياس، حتى ما يسمى منه تنقيح المناط..
٢ كذا في الأصل «عن مطالب بحجة»، ولعل صوابه «غير مطالب بحجة»، فحرف غير بعن والله أعلم..
﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ١٠٥ ﴾
بعد أن بين الله تعالى بطلان التقليد – وهو أن يتبع المرء غيره من الناس في فهمه للدين ورأيه فيه بغير علم ولا حجة – أمر المؤمنين بصيغة الإغراء بأن يهتموا بإصلاح أنفسهم بالعلم الصحيح والعمل الصالح الذي يعد رشدا وهدى، وبين لهم أنهم إذا أصلحوا أنفسهم وقاموا بما أوجب الله عليهم من علم وتعليم وعمل وإرشاد، فلا يضرهم من ضل من الناس عن محجة العلم بالجهل والتقليد، وعن صراط العمل الصالح بالفسق والإفساد في الأرض، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ أي الزموا إصلاح أنفسكم، وتزكيتها بما شرعه الله لكم، لا يضركم ضلال غيركم إذا أهديتم، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى. ومن أصول الهداية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لا تكونون مهتدين إلا إذا بلغتم دعوة الحق والخير، وعلمتم الجاهلين ما أعطاكم الله من العلم والدين، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، فلا تكتموا الحق والعلم كما كتمه من كان قبلكم، فلعنهم الله على لسان أنبيائهم ولسان نبيكم ﴿ إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ( ١٠٥ ) ﴾ أي إليه وحده رجوعكم ورجوع من ضل عما اهتديتم إليه، فينبئكم عند الحساب بما كنتم تعملون في الدنيا ويجزيكم به.
وقد اختلفت الرواية عن الصحابة والتابعين في هذه الآية.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زهير يعني ابن معاوية، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا قيس، قال قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس أنكم تقرؤون هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ – إلى آخر الآية – وأنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول :«إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن الله عز وجل أن يعمهم بعقابه » قال وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان١. وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن خالد به متصلا مرفوعا، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره، وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق رضي الله عنه وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، حدثنا عمرو بن حارثة اللخمي عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له ما تصنع في هذه الآية ؟ قال أية آية ؟ قلت قول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم » قال عبد الله بن المبارك وزاد غير عتبة قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم ؟ قال :«لا بل أجر خمسين منكم »٢ ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح، وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك، ورواه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي حكيم.
وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الحسن رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله :﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ فقال إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل.
ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ﴾ الآية، قال كانوا عند عبد الله بن مسعود فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه عليك بنفسك، فإن الله يقول :﴿ عليكم أنفسكم ﴾ الآية، قال فسمعها ابن مسعود فقال : مه لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد وقع تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب، ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فأمر نفسك، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية، رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا الربيع بن صبيح عن سفيان بن عقال قال قيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله قال :﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ فقال ابن عمر إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :«ألا ليبلغ الشاهد الغائب » فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وقال أيضا : حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر وابن عاصم قالا حدثنا عوف عن سوار بن منبه قال كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد في العين شديد اللسان فقال يا أبا عبد الرحمن نفر ستة كلهم قد قرأ فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك ؟ فقال الرجل إني لست إياك أسأل إنما أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله : لعلك ترى لا أبا لك أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ! عظهم وأنههم فإن عصوك فعليك بنفسك فإن الله عز وجل يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ﴾ الآية.
وقال أيضا : حدثني أحمد بن المقدام حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا قتادة عن أبي مازن قال انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم هذه الآية ﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ﴾ فقال أكثرهم لم يجئ تأويل هذه اليوم.
وقال : حدثنا القاسم حدثنا الحسن حدثنا ابن فضالة عن معاوية بن صالح عن جبير بن نفير قال كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني لأصغر القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا أليس الله يقول في كتابه ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ فأقبلوا علي بلسان واحد وقالوا تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها ؟ فتمنيت أني لم أكن تكلمت. وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا إنك غلام حديث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان : إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة قال تلا الحسن هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ فقال الحسن : الحمد لله بها. والحمد لله عليها. ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله. وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فلا يضرك من ضل إذا اهتديت. رواه ابن جرير وكذا روى من طريق سفيان الثوري عن أبي العميس عن أبي البختري عن حذيفة مثله، وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد الدمشقي حدثنا الوليد حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن كعب في قوله ﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ قال إذا هدمت كنيسة مسجد دمشق فجعلت مسجدا٣ وظهر لبس العصب فحينئذ تأويل هذه الآية اه..
أقول : علم من هذه الروايات أن السلف اتفقوا على أن المؤمن لا يكون مهتديا بمجرد إصلاحه لنفسه إذا لم يهتم بإصلاح غيره ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويفهم منه أن هذا فرض لازم دائم، ولكن بعضهم يقول إن فريضة الأمر والنهي تسقط إذا فسد الناس فسادا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد، أو فسادا يخشى أن يفضي إلى إيذاء الواعظ المرشد. وقد رجح ابن جرير وغيره من المحققين القول الأول لقوة روايته، وسائر أدلته، والتحقيق أن من علم أو ظن ظنا قويا أنه يناله أذى إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر يسقط عنه الفرض، ويكون الأمر والنهي حينئذ فضيلة لا فريضة، وهذا إذا رجح أن المنكر يزول بإنكاره، فإذا رجح أنه يؤذى ولا يترتب على نصحه فائدة، فحينئذ يكره له أو يحرم عليه إذا كان الإلقاء باليد إلى التهلكة، وقد فصل القول في ذلك أبو حامد الغزالي في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحياء فليراجعه من شاء.
ومن فوائد هذه الروايات تصريح بعض علماء الصحابة رضي الله عنه بأن في القرآن أحكاما لا يظهر تأويلها إلا بعد عصر التنزيل، أي أن آيات الأحكام في ذلك كآيات الأخبار بالغيب، وكثيرا ما نبين في تفسيرنا ما يظهر تأويله في عصرنا، كما بين من قبلنا ما ظهر لهم من المعاني المتعلقة بعصورهم، ولا غرو فقد وصف القرآن في الآثار بأنه لا تنتهي عجائبه.
١ أخرجه أبو داود في الملاحم باب ١٧، والرمذي في تفسير سورة ٥، باب ١٧، والفتن باب ٨، وابن ماجه في الفتن باب ٢٠، وأحمد في المسند ½، ٥، ٧، ٩، ٤/٣٦١، ٣٦٣..
٢ أخرجه أبو داود في الملاحم باب ١٧، والترمذي في تفسير سورة ٥، باب ١٨، وابن ماجه في الفتن باب٢١..
٣
كنيسة مسجد دمشق هي الكنيسة التي كانت ملاصقة للمسجد، وسبب ذلك أن شطرا من مدينة دمشق فتح صلحا والشطر الآخر فتح عنوة والتقى الفريقان من الصحابة في كنيسة مريم ثم اتفقوا على أن لكل شطر حكمه وبذلك كان شطر الكنيسة للمسلمين فاتخذوه مسجدا وبقي الشطر الآخر كنيسة فكان عنوانا على عدل الإسلام، وقد كان المسلمون يبذلون للنصارى الكرائم والنفائس في كنيستهم فلا يقبلون حتى أكرههم بعض الأمويين على ذلك ثم ردها لهم عمر بن عبد العزيز. والمراد من الرواية أن المسلمين إذا فسد أمرهم حتى ظلموا أهل الذمة بمثل أخذ كنيستهم الملاصقة للمسجد وبتأنفهم في الزينة بلبس العصب فعند ذلك لا ينفع فيهم وعظ واعظ، والعصب بالفتح ضرب من برود اليمن لا يجمع وإنما يقال العصب، وبرد عصب برود عصب، بالإضافة قال في لسان العرب: وفي الحديث «المعتدة لا تلبس المصبغة إلا ثوب عصب» العصب برود يمينه يعصب غزلها- أي يجمع ويشد- ثم يصبغ وينسج فيأتي موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. وقيل هي برود مخططة، والعصب الفتل. والعصاب الغزال، فيكون النهي للمعتمدة عما صبغ بعد النسج. وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه أراد أن ينهي عن عصب اليمن وقال: نبئت أنه يصبغ بالبول، ثم قال: نهيا عن التعمق اه (المؤلف).
.

﴿ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيرهم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الآثمين ١٠٦ فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ١٠٧ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ١٠٨ ﴾.
جاء في أسباب نزول هذه الآيات ومعناها في الدر المنثور ما نصه :
أخرج الترمذي١ وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ قال برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرايين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إليه غيره. قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها. فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف، فأنزل الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾ – إلى قوله – ﴿ أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ فقام عمرو بن العاصي ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء.
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي٢ وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله : لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، وأخذا الجام وفيه نزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرايين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي تاجرا حتى قدم المدينة فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه، ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا، فقالوا لهما هذا كتابه بيده، قالوا ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ – إلى قوله – ﴿ إنا إذا لمن الآثمين ( ١٠٦ ) ﴾ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموه بذهب، فقال أهله هذا من متاعه، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية الأخرى :﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾
﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه، ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول : صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء. ثم قال : يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قريتين من بيت لحم وهي القرية التي ولد فيها عيسى فكتب له بها كتابا، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ ﴿ شهادة بينكم ﴾ مضاف برفع شهادة بغير نون وبخفض بينكم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي عن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ﴾ هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين ثم قال :﴿ أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ﴾ فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين أمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، فذلك قوله تعالى :﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ يقول إن اطلع على الكافرين كذبا قام الأولياء فحلفا أنهما كذبا، ذلك أدنى أن يأتي الكافران بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم، فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء، فليس على شهود المسلمين أقسام إنما الأقسام إذا كانا كافرين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله ﴿ اثنان ذوا عدل منكم ﴾ قال من أهل الإسلام ﴿ أو آخران من غيركم ﴾ قال من غير أهل الإسلام وفي قوله ﴿ فيقسمان بالله ﴾ يقول يحلفان بالله بعد الصلاة وفي قوله :﴿ فآخران يقومان مقامهما ﴾ قال من أولياء الميت ﴿ فيحلفان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ﴾ يقول فيحلفان بالله ما كان صاحبنا ليوصي بهذا أنهما لكاذبان، وفي قوله :﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ يعني أولياء الميت فيستحقون ماله بأيمانهم ثم يوضع ميراثه كما أمر الله وتبطل شهادة الكافرين وهي منسوخة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية ﴿ اثنان ذوا عدل منكم ﴾ قال ما من الكتاب إلا قد جاء على شيء جاء على إدلاله غير هذه الآية، ولئن أنا لم أخبركم بها لأنا أجهل من الذي يترك الغسل يوم الجمعة : هذا رجل خرج مسافرا ومعه مال فأدركه قدره فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب، فإن أدى فسبيل ما أدى، وإن هو جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة أن هذا الذي وقع إلي وما غيبت شيئا، فإذا حلف برئ، فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه، فذلك الذي يقول الله ﴿ ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ﴾.
هذا ما ورد في سبب نزول هذه الآيات وتفسير بعضها من قوي وضعيف وأما وجه اتصالها بما قبلها مباشرة فقد قال الرازي فيه : إنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله :( عليكم أنفسكم ) أمر بحفظ المال في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾ اه وهذا قول غير ظاهر بل لا يصح على المعنى المعروف عند العلماء لحفظ النفس والمال إلا أن يحمل الكلام على لازم معناه. وأظهر منه أن يقال إنه تعالى لما ذكرنا في آخر الآية السابقة بأن مرجعنا إليه بعد الموت وأنه يحاسبنا ويجازينا ناسب أن يرشدنا في إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وإلى العناية بالإشهاد عليها لئلا تضيع.
وأما مفرداتها التي يحسن التذكير بمعناها قبل تفسير النظم الكريم فمنها ( الشهادة ) وهي كالشهود حضور الشيء مع مشاهدته بالبصر أو البصيرة أو مطلقا – كما قال الراغب – قال : لكن الشهود بالحضور المجرد أولى، والشهادة مع المشاهدة أولى... والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر... و»شهدت» يقال على ضربين أحدهما جار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة ويقال «أشهد بكذا» ولا يرضى من الشاهد أن يقول :«أعلم» بل يحتاج أن يقول «أشهد» والثاني يجري مجرى القسم فيقول :«أشهد بالله أن زيدا منطلق» فيكون قسما، ومنهم من يقول : إن قال :«أشهد» ولم يقل «بالله» يكون قسما، ويجري «علمت» مجراه في القسم فيجاب بجواب القسم، نحو قول الشاعر :
ولقد علمت لتأتين منيتي٣
اه مخلصا. وقد ترد بمعنى الإقرار بالشيء.
و( البين ) : أمر اعتباري يفيد صلة أحد الشيئين بالآخر أو الأشياء من زمان أو مكان أو حال أو عمل، وقالوا إنه يطلق على الوصل والفرقة، ومن الثاني قولهم «ذات البين» للعداوة والبغضاء. قال تعالى :﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ [ الأنفال : ١ ] أي ما بينكم من عداوة أو فساد، وهو أمر معنوي متصل بين الأفراد.
ومنها :﴿ ضربتم في الأرض ﴾ [ النساء : ١٠١ ] أي سافرتم وتقدم في سورة النساء. ومنها :( تحبسونهما ) وهو من الحبس بمعنى إمساك الشيء ومنعه من الإنبعاث. والحبس مصنع الماء التي يمنع فيه من الجريان. ومنها :( عثر ) وهو من العثور على الشيء بمعنى الاطلاع عليه بالاتفاق من غير سبق طلب له أو من غير حسبان، أو عثره عليه – أوقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك. وأصله من عثر ( كقعد ) عثارا وعثورا إذا سقط.
وأما معنى الآيات وتفسير نظمها فنبينه بما يلي :
﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ﴾ أي حكم ما يقع بينكم من الشهادة أو كيفيته إذا نزلت بأحدكم أسباب الموت ومقدماته وأراد حينئذ أن يوصي هو أن يشهد اثنان الخ أو الشهادة المشروعة بينكم في ذلك هي شهادة اثنين من رجالكم ذوي العدل والاستقامة، وذلك بأن يشهدهما الموصي على وصيته سواء ائتمنهما على ما يوصي به كما في واقعة سبب النزول أم لا، ويترتب على إشهاده إياهما أن يشهدا بذلك، ومن إيجاز الآية أن عبارتها تدل على الإشهاد والشهادة جميعا. والمراد بقوله «منكم » من المؤمنين وهو قول الجمهور، وقيل من أقاربكم وروي عن الحسن والزهري وأخذ به كثير من الفقهاء.
﴿ أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فأصابتكم مصيبة الموت ﴾ أي أو شهادة شهيدين آخرين من غير المسلمين أو من الأجانب إن كنتم مسافرين ونزلت بكم مقدمات الموت وأردتم الإيصاء. وفي الكلام تأكيد شديد للوصية وللإشهاد عليها ﴿ تحبسونهما من بعد الصلاة ﴾ استئناف بياني كأن السامع لما تقدم يقول وكيف يشهدان ؟ فأجيب بهذا الجواب أي تمسكون الشهيدين اللذين أشهدا على الوصية من بعد الصلاة. قال الأكثرون المراد صلاة العصر – لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف عديا وتميما فيه، ولأن العمل جرى عليه فكان التحليف فيه هو المعتاد المعروف، ولأنه الوقت الذي يقعد فيه الحكام للقضاء والفصل في المظالم والدعاوى لاعتداله واجتماع الناس فيه إذ يكونون قد فرغوا من معظم أعمال النهار – أو لأن هذا الوقت وقت الصلاة عند غير المسلمين أيضا فهو وقت ذكر الله الذي يرجى فيه اتقاء الكذب والخيانة منهم أيضا – أو لأن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى، أو لأنها تحضرها ملائكة الليل والنهار فيتحرى المؤمن أن يكون بعدها متصفا بالكمال. وقيل إن المراد جنس الصلاة المفروضة لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر فيكون جديرا بالصدق من يكون قريب عهد بها، وقال الحسن البصري المراد الظهر أو العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وروي عن ابن عباس أن الشهيدين إذا كانا غير مسلمين فالمراد بالصلاة صلاة أهل دينهما، أي لما ذكرنا من علة ذلك آنفا ﴿ فيقسمان بالله إن ارتبتم ﴾ أي فيقسم الشاهدان على الوصية إن شككتم في صدقهما فيما يقران به، أي وتستقسمونهما فيقسمان، والأمين يصدق باليمين. وقال بعضهم : الفاء للجزاء أي تحبسونهما فيقدمان لأجل ذلك على القسم. قيل هذا خاص بالشهود من الكفار إذا اتهموا أي لأنه لم يشترط فيهم أن يكونوا عدولا. وقيل عام وقد نسخ، والصواب أنه لا نسخ في الآيات. قال الرازي : وعن علي عليه السلام، أنه كان يحلف الشاهد والراوي عند التهمة. ويجب أن يصرحا في قسمهما بقولهما.
﴿ لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ﴾ أي لا نشتري بيمين الله ثمنا. أي لا نجعل يمين الله كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به في الدنيا ولو كان المقسم له من أقاربنا، وصح إرجاع الضمير إلى المقسم لأجله للعلم به من فحوى الكلام كقوله تعالى :﴿ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] وهذا موافق لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] والمراد أن يقول المقسم أنه يشهد لله بالقسط ولا يصده عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه، ولا مراعاة قريب له إن فرض أن له نفعا في إقراره وقسمه، أي ولو اجتمعت المنفعتان كلتاهما.
﴿ ولا نكتم شهادة الله ﴾ ويقولان في قسمهما أيضا : ولا نكتم الشهادة التي أوجبها الله تعالى وأمر بأن تقام له المؤكدة بالحلف به ﴿ وأقيموا الشهادة لله ﴾ [ الطلاق : ٢ ] ﴿ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ أي إنا إذا اشترينا بالقسم ثمنا أو راعينا به قريبا بأن كذبنا فيه لمنفعة أنفسنا أو منفعة قرابة لنا، أو كتمنا شهادة الله كلها أو بعضها بأن ذكرنا بعض الحق وكتمنا بعضا – لمن المتحملين للإثم، المتمكنين فيه المستحقين لجزائه. والإثم في الأصل ما يقعد بصاحبه عن عمل الخير والبر من معصية وغيرها. وهذا التعبير أبلغ من «إنا إذا لآثمون ».
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:إيضاح لتفسير الآيات وبلاغتها والاستنباط منها
قال الرازي بعد تفسير الآية الثانية : اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما، وروى الواحدي رحمه الله في البسيط عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام اه.
وأورد الآلوسي في روح المعاني عبارة الرازي عن المفسرين دون رواية الواحدي عن عمر، ثم نقل مثلها عن السعد التفتازاني وعن الطبرسي في الآيتين – لا الثانية فقط – وقال إن الطبرسي افتخر بما أتى فيه ولم يأت بشيء.
أقول : نحن لا يروعنا ما يراه المفسرون من الصعوبة في إعراب بعض الآيات أو في حكمها لأن لهم مذاهب في النحو والفقه يزنون بها القرآن فلا يفهمونه إلا منها، والقرآن فوق النحو والفقه والمذاهب كلها، فهو أصل الأصول، ما وافقه فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود مرذول، وإنما يهمنا ما يقوله علماء الصحابة والتابعين فيه، فهو العون الأكبر لنا على فهمه، ولم يرو عن أحد منهم ما يدل على وجدان شيء من الصعوبة في عبارة الآيتين. وما نقله الواحدي عن عمر رضي الله عنه في آية «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فليس مما يؤيد ما نقل عن المفسرين من استصعابها، بل معناه أن أحكامها أشد من سائر أحكام السورة، ولعله يعني بذلك ما فيها من التضييق في رد أيمان بعد أيمان، وإظهار فضائح من كذب وخان، قال في حقيقة الأساس : عضلت على فلان – ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد. ومنه النهي عن عضل النساء أي منعهن من الزواج.
ولكن أصحاب المذاهب الفقهية اضطربوا في عدة أحكام من أحكامها لمجيئها مخالفة لأقيستهم ولما عليه العمل بثبوته في سائر الأحكام – منها حلف الشاهد اليمين، ومنها شهادة غير المسلم فيما هو خاص بالمسلمين، ومنها العمل بيمين المدعي، وقد اجتهدوا في تخريج كل مسألة من تلك المسائل على الثابت عندهم كما تراه قريبا.
حتى ادعوا في بعضها النسخ، ورووه عن بعض الصحابة بسند لم يصح، فلهذا رأينا بعد تفسير الآيتين بما يفهم من ظاهر اللفظ بالاختصار أن نفصل ما اشتملتا عليه من الفوائد والأحكام، ليظهر حتى للضعيف في علم العربية ما فيهما من إعجاز الإيجاز، وما جنته المذاهب النحوية والفقهية على كثير من العلماء، حتى قال ما قال في الآيتين أشهرهم بسعة الإطلاع أو بالدقة والذكاء.
أما دعوى النسخ فقد علم مما سلف ومما سيأتي قريبا ما عليه المحققون من أنه ليس في سورة المائدة منسوخ، وقد حرر المسألة الحافظ ابن كثير في تفسيره فقال :
«ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب حدثنا هشيم قال أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقا، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب – قال – فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال – فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته، - قال – فأمضى شهادتهما. ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي داود الطياليسي عن شعبة عن مغيرة الأزرق عن الشعبي أن أبا موسى قضى به. وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي عن أبي موسى الأشعري. فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : الظاهر – والله أعلم – أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام والله أعلم».
ثم قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد قول السدي في الآية الأولى :
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه كأني أنظر إلى العلجين حين انتُهيَ بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوفوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله ﴿ لا نشتري به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ﴾ أن صاحبهم بهذا أوصى وأن هذه لتركته، فيقول لهما الإمام ( أي الحاكم ) قبل أن يحلفا إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك فإن ﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ رواه ابن جرير اه المراد من كلام ابن كثير. وتأمل قوله :«ولم تجز لكما شهادة» فالظاهر أنه من كلام ابن عباس رضي الله عنه وسيأتي لبحث دعوى النسخ واستشكال الفقهاء مزيد بيان قريبا.
وأما الفوائد والأحكام التي اشتملت عليها الآيتان بإيجازهما، فهاك ما يتبادر إلى الذهن منها.

١-
الحث على الوصية وتأكيد أمرها وعدم التهاون فيها بشواغل السفر وإن قصرت فيه الصلاة وأبيح فيه الإفطار في رمضان.

٢-
الإشهاد على الوصية في الحضر والسفر، ليكون أمرها أثبت، والرجاء في تنفيذها أقوى، وإن كثيرا من الناس لا يكتبون وصيتهم ولا يشهدون أحدا عليها فيكون ذلك في بعض الأحيان سببا لضياعها.

٣-
إن الأصل في الإشهاد على الوصية أن يختار الشاهدان من المؤمنين الموثوق بعدالتهم كما ثبت في آيات أخرى أيضا، وحكمته ظاهرة من وجوه لا حاجة إلى شرحها.

٤-
إن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع. فإن وجبت الوصية وجب بشرطه وإلا فهو مندوب، لأن مقصد الشارع من إثبات الوصية لا يترك البتة إذا لم يتيسر إقامته على وجه الكمال، إذ الميسور لا يسقط بالمعسور، والمقام هنا مقام إثبات الحقوق، لا مقام التعبد الذي يشترط فيه الإيمان. ولا مقام التشريف والتكريم للأديان وأهل الأديان.

٥-
إن الشهادة تشمل ما يقوله كل من الخصمين من إقرار في القضية أو إنكار، ونفي للمدعي به أو إثبات.

٦-
شرعية اختيار الأوقات التي تؤثر في قلوب الشهود ومقسمي الأيمان ويرجى أن يصدقوا ويبروا فيها كما بيناه في تعليل القسم بعد الصلاة، ومثله في ذلك اختيار المكان، وهو مشروع أيضا.
ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وصححه وابن ماجه بسند رجاله ثقات وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه عن جابر مرفوعا ( لا يحلف أحد عند منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار )١ وعن أبي هريرة حديث بمعناه عند أحمد وابن ماجه. وروى النسائي بإسناد رجاله ثقاب عن أبي أمامة بن ثعلبة رفعه ( من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا )٢ واستدل بالآية وبهذه الأحاديث جماهير الفقهاء على جواز التغليظ على الحالف بمكان معين تثبت حرمته شرعا كالمسجد الحرام، وخاصة ما بين الركن ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والمسجد النبوي وخاصة ما كان منه عند منبره صلى الله عليه وسلم، وبالزمان كيوم الجمعة وبعد صلاة العصر، وقال بعضهم – ومنهم الحنفية – أن ما ذكر من النصوص لا يدل على ذلك. ولعله لا ينكر أحد التغليظ بما ورد فيها، وإنما الخلاف في القياس عليها أو الأخذ بفحواها.
وقال الرازي في تفسير الآية : قال الشافعي رحمه الله : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مئتي درهم – في الزمان والمكان، فيحلف بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد، وقال أبو حنيفة رحمه الله يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان ومكان، وهذا على خلاف الآية، ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم، ولا شك أن الذي قاله الشافعي رضي الله عنه أقوى اه.
هذه العبارة تشهد على نفسها بالتعصب فلا يقال إن أبا حنيفة خالف الآية إلا إذا أجاز ترك العمل بمنطوقها في هذا الموضوع نفسه.

٧-
التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب كالألفاظ التي وردت في الآية، وأشد منها ما ورد في شهادة اللعان، وقد جرى على هذا أصحاب الجمعيات السياسية في الإسلام وغيره فاخترعوا أيمانا وأقساما قد يتحامى أفسق الناس وأجرأهم على الإجرام أن يحنث بها. وقد بينا ما يجب البر به وما يجب الحنث به من الأيمان وسائر مهمات أحكامها في تفسير آية كفارتها من هذه السورة.

٨-
إن الأصل في أخبار الناس وشهادتهم التي هي أخبار مؤكدة صادرة عن علم صحيح أن تكون مقبولة مصدقة. ولهذا شرط في حكم تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما، وصدر هذا الشرط بأن التي لا تدل على تحقق الوقوع، إشارة إلى أن الأصل في وقوعها أن يكون شاذا.

٩-
إن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء، وفي المؤتمن أن يكون أمينا، وأن يكون ما يقوله في أمر الأمانة مقبولا. ولذلك قال «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فأفادت أداة الشرط أن الأصل في هذا أن لا يقع، وأنه إن وقع كان شاذا. وأفاد فعل «عثر» المبني للمفعول إن هذا الشذوذ إن وقع فشأنه أن يطلع عليه بالمصادفة والاتفاق، لا بالبحث وتتبع العثرات.

١٠-
شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن في أكثر الأمم، بل تحتمه قوانينها الوضعية باطراد لكثرة ما يقع من شهادة الزور، وسيأتي بحث الفقهاء في ذلك.

١١-
١٢- شرعية ائتمان المسلم لغير المسلم على المال وشرعية تحليف المؤتمن والعمل بيمينه.

١٣-
شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق الله له بيمين صار حالفها خصما له. ومن هذا القبيل شهادة المتلاعنين وأقسامهما، فإذا شهد الرجل على امرأته بالزنا تلك الشهادة المشروعة في سورة النور المتضمنة للقسم المغلظ - ترد الشهادة مع اليمين إلى زوجه التي رماها بذلك، فإذا شهدت بالله مثل شهادته سقط عنها الحد وبرئت من التهمة في شرع الله، وبالنسبة إلى غيره من عباد الله. ومنه أيمان القسامة في الدماء، وقد اختلف الفقهاء فيمن يبدأ باليمين – المدعون ذووا القتيل ؟ أم المدعى عليهم ذووا المتهم بالقتل، وأيا ما كان البادئون فإن الأيمان ترد إلى الآخرين.

١٤-
إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة لميت بأمر يتعلق بالتركة فالذي يجب تقديمه منهم للقيام به من كان أولاهم به. ومن بلاغة الإيجاز إبهام الأوليين بالقسم في الآية لاختلاف الأولوية باختلاف الأحوال والوقائع كما أشرنا إليه. فإذا تعين أصحاب الأولوية بلا نزاع فذاك وإلا فالحاكم هو الذي يقدم من يراه الأولى.

١٥-
صحة شهادة غير المسلم على المسلم والعمل بها في الجملة، وأخرناه ليتصل بما نوضحه به في الفصل الآتي.
كل هذه الأحكام مفهومة من الآيتين فتأمل جمعهما لهذه المعاني الكثيرة على إيجازهما وإيضاحهما للمعنى المقصود بهما بالذات.

فصل في حكم شهادة غير المسلمين على المسلمين


هذا بحث شرعي يجب أن نعطيه حقه من الاستقلال في الاستدلال فنقول : اعلم أن آيات القرآن في الإشهاد والاستشهاد منها المطلق ومنها المقيد. قال تعالى في اللاتي يأتين الفاحشة من المسلمات :﴿ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾ [ النساء : ١٤ ] الآية وقال تعالى في

﴿ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيرهم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الآثمين ١٠٦ فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ١٠٧ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ١٠٨ ﴾.
جاء في أسباب نزول هذه الآيات ومعناها في الدر المنثور ما نصه :
أخرج الترمذي١ وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ قال برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرايين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إليه غيره. قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها. فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف، فأنزل الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾ – إلى قوله – ﴿ أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ فقام عمرو بن العاصي ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء.
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي٢ وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله : لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، وأخذا الجام وفيه نزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرايين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي تاجرا حتى قدم المدينة فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه، ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا، فقالوا لهما هذا كتابه بيده، قالوا ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ – إلى قوله – ﴿ إنا إذا لمن الآثمين ( ١٠٦ ) ﴾ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموه بذهب، فقال أهله هذا من متاعه، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية الأخرى :﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾
﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه، ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول : صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء. ثم قال : يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قريتين من بيت لحم وهي القرية التي ولد فيها عيسى فكتب له بها كتابا، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ ﴿ شهادة بينكم ﴾ مضاف برفع شهادة بغير نون وبخفض بينكم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي عن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ﴾ هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين ثم قال :﴿ أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ﴾ فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين أمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، فذلك قوله تعالى :﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ يقول إن اطلع على الكافرين كذبا قام الأولياء فحلفا أنهما كذبا، ذلك أدنى أن يأتي الكافران بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم، فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء، فليس على شهود المسلمين أقسام إنما الأقسام إذا كانا كافرين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله ﴿ اثنان ذوا عدل منكم ﴾ قال من أهل الإسلام ﴿ أو آخران من غيركم ﴾ قال من غير أهل الإسلام وفي قوله ﴿ فيقسمان بالله ﴾ يقول يحلفان بالله بعد الصلاة وفي قوله :﴿ فآخران يقومان مقامهما ﴾ قال من أولياء الميت ﴿ فيحلفان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ﴾ يقول فيحلفان بالله ما كان صاحبنا ليوصي بهذا أنهما لكاذبان، وفي قوله :﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ يعني أولياء الميت فيستحقون ماله بأيمانهم ثم يوضع ميراثه كما أمر الله وتبطل شهادة الكافرين وهي منسوخة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية ﴿ اثنان ذوا عدل منكم ﴾ قال ما من الكتاب إلا قد جاء على شيء جاء على إدلاله غير هذه الآية، ولئن أنا لم أخبركم بها لأنا أجهل من الذي يترك الغسل يوم الجمعة : هذا رجل خرج مسافرا ومعه مال فأدركه قدره فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب، فإن أدى فسبيل ما أدى، وإن هو جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة أن هذا الذي وقع إلي وما غيبت شيئا، فإذا حلف برئ، فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه، فذلك الذي يقول الله ﴿ ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ﴾.
هذا ما ورد في سبب نزول هذه الآيات وتفسير بعضها من قوي وضعيف وأما وجه اتصالها بما قبلها مباشرة فقد قال الرازي فيه : إنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله :( عليكم أنفسكم ) أمر بحفظ المال في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾ اه وهذا قول غير ظاهر بل لا يصح على المعنى المعروف عند العلماء لحفظ النفس والمال إلا أن يحمل الكلام على لازم معناه. وأظهر منه أن يقال إنه تعالى لما ذكرنا في آخر الآية السابقة بأن مرجعنا إليه بعد الموت وأنه يحاسبنا ويجازينا ناسب أن يرشدنا في إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وإلى العناية بالإشهاد عليها لئلا تضيع.
وأما مفرداتها التي يحسن التذكير بمعناها قبل تفسير النظم الكريم فمنها ( الشهادة ) وهي كالشهود حضور الشيء مع مشاهدته بالبصر أو البصيرة أو مطلقا – كما قال الراغب – قال : لكن الشهود بالحضور المجرد أولى، والشهادة مع المشاهدة أولى... والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر... و»شهدت» يقال على ضربين أحدهما جار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة ويقال «أشهد بكذا» ولا يرضى من الشاهد أن يقول :«أعلم» بل يحتاج أن يقول «أشهد» والثاني يجري مجرى القسم فيقول :«أشهد بالله أن زيدا منطلق» فيكون قسما، ومنهم من يقول : إن قال :«أشهد» ولم يقل «بالله» يكون قسما، ويجري «علمت» مجراه في القسم فيجاب بجواب القسم، نحو قول الشاعر :
ولقد علمت لتأتين منيتي٣
اه مخلصا. وقد ترد بمعنى الإقرار بالشيء.
و( البين ) : أمر اعتباري يفيد صلة أحد الشيئين بالآخر أو الأشياء من زمان أو مكان أو حال أو عمل، وقالوا إنه يطلق على الوصل والفرقة، ومن الثاني قولهم «ذات البين» للعداوة والبغضاء. قال تعالى :﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ [ الأنفال : ١ ] أي ما بينكم من عداوة أو فساد، وهو أمر معنوي متصل بين الأفراد.
ومنها :﴿ ضربتم في الأرض ﴾ [ النساء : ١٠١ ] أي سافرتم وتقدم في سورة النساء. ومنها :( تحبسونهما ) وهو من الحبس بمعنى إمساك الشيء ومنعه من الإنبعاث. والحبس مصنع الماء التي يمنع فيه من الجريان. ومنها :( عثر ) وهو من العثور على الشيء بمعنى الاطلاع عليه بالاتفاق من غير سبق طلب له أو من غير حسبان، أو عثره عليه – أوقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك. وأصله من عثر ( كقعد ) عثارا وعثورا إذا سقط.
وأما معنى الآيات وتفسير نظمها فنبينه بما يلي :
﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ﴾ قرأ الجمهور «استحق » بضم التاء على البناء للمفعول، وحفص عن عاصم بفتح التاء بالبناء للفاعل وهي مروية عن علي وابن عباس وأبي، وقرأ يعقوب وخلف وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه ( الأولين ) جمع الأول الذي يقابله آخر، مع قراءتهم استحق بالبناء للمفعول، وقرأه الباقون ( الأوليان ) مثنى الأولى سواء منهم من قرأ استحق بالبناء للمفعول ومن قرأه بالبناء للفاعل، ورسم الأوليان والأولين في المصحف الإمام واحد وهو هكذا ( الأولين ). والمعنى فإن اتفق الاطلاع على أن الشهيدين المقسمين استحقا إثما بالكذب أو الكتمان في الشهادة أو بالخيانة وكتمان شيء من التركة في حالة ائتمانهما عليها – كما ظهر في الواقعة التي كانت سبب النزول – فالواجب أو فالذي يعمل لإحقاق الحق هو أن يرد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الذين استحق ذلك الإثم بالإجرام عليهم والخيانة لهم، وهذان الرجلان الوارثان ينبغي أن يكونا هما الأوليين بالميت أي الأقربين إليه الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع – كما تفيده قراءة الجمهور – أو غيرهما منهم كما تفيده قراءة من قرأ ( الأولين ) وهو صفة للذين استحق عليهم أو منصوب على الاختصاص.
وتحمل القراءة الأولى على طلب الأكمل وهو أن يشهد أقرب الورثة إلى الميت. والقراءة الثانية على ما إذا منع مانع من إقسام أقرب الورثة أو كانت المصلحة في حلف غيره منهم لامتيازه بالسن أو الفضيلة، هذا إذا أريد بالأوليين الأوليان بأمر الميت الموصي، ويجوز أن يراد بهما الأوليان بالقسم في هذه الحالة، أي أجدر الورثة باليمين لقربهما من الميت أو لعلمهما أو لفضلهما. وأما قراءة حفص عن عاصم – وبها يقرأ أهل بلادنا – فقال أكثر المفسرين في توجيهها أن «الأوليان » فيها فاعل استحق والمفعول محذوف والتقدير : من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بأمر الميت منهم ما أوصى به أو ما تركه – أو ندبهما للشهادة.
وذهب الإمام الرازي إلى أن الأوليين في هذه القراءة هما الوصيان قال : ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما – بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان، وقرأ الحسن الأولان ووجهه ظاهر مما تقدم اه.
أقول : الوجه عندي في ذلك أنهما الأوليان باليمين في الأصل لأنهما منكران واليمين على من أنكر، وكان المقام مقام الإضمار – بأن يقال : من الذين استحقا عليهم الإثم – فوضع المظهر وهو الأوليان موضع الضمير لإفادة أن الأصل في الشرع أن تكون اليمين عليهما ولكن استحقاقهما الإثم بما ظهر من حنثهما اقتضى ردها أي اليمين إلى الورثة ﴿ فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ﴾ أي يحلفان على أن ما يشهدان به من خيانة الشهيدين اللذين شهدا على وصية ميتهما أحق وأصدق من شهادتهما بما كانا شهدا به، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة أو ما اعتديا الحق فيما اتهموهما به ﴿ إنا إذا لمن الظالمين ﴾ أي ويقولان في قسمهما إنا إذا اعتدينا الحق وقلنا الباطل لداخلون في عداد الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وانتقامه، والظالمين لمن ائتمنه ميتهم، وظلمهما محرم عليهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:إيضاح لتفسير الآيات وبلاغتها والاستنباط منها
قال الرازي بعد تفسير الآية الثانية : اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما، وروى الواحدي رحمه الله في البسيط عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام اه.
وأورد الآلوسي في روح المعاني عبارة الرازي عن المفسرين دون رواية الواحدي عن عمر، ثم نقل مثلها عن السعد التفتازاني وعن الطبرسي في الآيتين – لا الثانية فقط – وقال إن الطبرسي افتخر بما أتى فيه ولم يأت بشيء.
أقول : نحن لا يروعنا ما يراه المفسرون من الصعوبة في إعراب بعض الآيات أو في حكمها لأن لهم مذاهب في النحو والفقه يزنون بها القرآن فلا يفهمونه إلا منها، والقرآن فوق النحو والفقه والمذاهب كلها، فهو أصل الأصول، ما وافقه فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود مرذول، وإنما يهمنا ما يقوله علماء الصحابة والتابعين فيه، فهو العون الأكبر لنا على فهمه، ولم يرو عن أحد منهم ما يدل على وجدان شيء من الصعوبة في عبارة الآيتين. وما نقله الواحدي عن عمر رضي الله عنه في آية «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فليس مما يؤيد ما نقل عن المفسرين من استصعابها، بل معناه أن أحكامها أشد من سائر أحكام السورة، ولعله يعني بذلك ما فيها من التضييق في رد أيمان بعد أيمان، وإظهار فضائح من كذب وخان، قال في حقيقة الأساس : عضلت على فلان – ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد. ومنه النهي عن عضل النساء أي منعهن من الزواج.
ولكن أصحاب المذاهب الفقهية اضطربوا في عدة أحكام من أحكامها لمجيئها مخالفة لأقيستهم ولما عليه العمل بثبوته في سائر الأحكام – منها حلف الشاهد اليمين، ومنها شهادة غير المسلم فيما هو خاص بالمسلمين، ومنها العمل بيمين المدعي، وقد اجتهدوا في تخريج كل مسألة من تلك المسائل على الثابت عندهم كما تراه قريبا.
حتى ادعوا في بعضها النسخ، ورووه عن بعض الصحابة بسند لم يصح، فلهذا رأينا بعد تفسير الآيتين بما يفهم من ظاهر اللفظ بالاختصار أن نفصل ما اشتملتا عليه من الفوائد والأحكام، ليظهر حتى للضعيف في علم العربية ما فيهما من إعجاز الإيجاز، وما جنته المذاهب النحوية والفقهية على كثير من العلماء، حتى قال ما قال في الآيتين أشهرهم بسعة الإطلاع أو بالدقة والذكاء.
أما دعوى النسخ فقد علم مما سلف ومما سيأتي قريبا ما عليه المحققون من أنه ليس في سورة المائدة منسوخ، وقد حرر المسألة الحافظ ابن كثير في تفسيره فقال :
«ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب حدثنا هشيم قال أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقا، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب – قال – فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال – فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته، - قال – فأمضى شهادتهما. ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي داود الطياليسي عن شعبة عن مغيرة الأزرق عن الشعبي أن أبا موسى قضى به. وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي عن أبي موسى الأشعري. فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : الظاهر – والله أعلم – أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام والله أعلم».
ثم قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد قول السدي في الآية الأولى :
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه كأني أنظر إلى العلجين حين انتُهيَ بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوفوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله ﴿ لا نشتري به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ﴾ أن صاحبهم بهذا أوصى وأن هذه لتركته، فيقول لهما الإمام ( أي الحاكم ) قبل أن يحلفا إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك فإن ﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ رواه ابن جرير اه المراد من كلام ابن كثير. وتأمل قوله :«ولم تجز لكما شهادة» فالظاهر أنه من كلام ابن عباس رضي الله عنه وسيأتي لبحث دعوى النسخ واستشكال الفقهاء مزيد بيان قريبا.
وأما الفوائد والأحكام التي اشتملت عليها الآيتان بإيجازهما، فهاك ما يتبادر إلى الذهن منها.

١-
الحث على الوصية وتأكيد أمرها وعدم التهاون فيها بشواغل السفر وإن قصرت فيه الصلاة وأبيح فيه الإفطار في رمضان.

٢-
الإشهاد على الوصية في الحضر والسفر، ليكون أمرها أثبت، والرجاء في تنفيذها أقوى، وإن كثيرا من الناس لا يكتبون وصيتهم ولا يشهدون أحدا عليها فيكون ذلك في بعض الأحيان سببا لضياعها.

٣-
إن الأصل في الإشهاد على الوصية أن يختار الشاهدان من المؤمنين الموثوق بعدالتهم كما ثبت في آيات أخرى أيضا، وحكمته ظاهرة من وجوه لا حاجة إلى شرحها.

٤-
إن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع. فإن وجبت الوصية وجب بشرطه وإلا فهو مندوب، لأن مقصد الشارع من إثبات الوصية لا يترك البتة إذا لم يتيسر إقامته على وجه الكمال، إذ الميسور لا يسقط بالمعسور، والمقام هنا مقام إثبات الحقوق، لا مقام التعبد الذي يشترط فيه الإيمان. ولا مقام التشريف والتكريم للأديان وأهل الأديان.

٥-
إن الشهادة تشمل ما يقوله كل من الخصمين من إقرار في القضية أو إنكار، ونفي للمدعي به أو إثبات.

٦-
شرعية اختيار الأوقات التي تؤثر في قلوب الشهود ومقسمي الأيمان ويرجى أن يصدقوا ويبروا فيها كما بيناه في تعليل القسم بعد الصلاة، ومثله في ذلك اختيار المكان، وهو مشروع أيضا.
ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وصححه وابن ماجه بسند رجاله ثقات وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه عن جابر مرفوعا ( لا يحلف أحد عند منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار )١ وعن أبي هريرة حديث بمعناه عند أحمد وابن ماجه. وروى النسائي بإسناد رجاله ثقاب عن أبي أمامة بن ثعلبة رفعه ( من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا )٢ واستدل بالآية وبهذه الأحاديث جماهير الفقهاء على جواز التغليظ على الحالف بمكان معين تثبت حرمته شرعا كالمسجد الحرام، وخاصة ما بين الركن ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والمسجد النبوي وخاصة ما كان منه عند منبره صلى الله عليه وسلم، وبالزمان كيوم الجمعة وبعد صلاة العصر، وقال بعضهم – ومنهم الحنفية – أن ما ذكر من النصوص لا يدل على ذلك. ولعله لا ينكر أحد التغليظ بما ورد فيها، وإنما الخلاف في القياس عليها أو الأخذ بفحواها.
وقال الرازي في تفسير الآية : قال الشافعي رحمه الله : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مئتي درهم – في الزمان والمكان، فيحلف بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد، وقال أبو حنيفة رحمه الله يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان ومكان، وهذا على خلاف الآية، ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم، ولا شك أن الذي قاله الشافعي رضي الله عنه أقوى اه.
هذه العبارة تشهد على نفسها بالتعصب فلا يقال إن أبا حنيفة خالف الآية إلا إذا أجاز ترك العمل بمنطوقها في هذا الموضوع نفسه.

٧-
التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب كالألفاظ التي وردت في الآية، وأشد منها ما ورد في شهادة اللعان، وقد جرى على هذا أصحاب الجمعيات السياسية في الإسلام وغيره فاخترعوا أيمانا وأقساما قد يتحامى أفسق الناس وأجرأهم على الإجرام أن يحنث بها. وقد بينا ما يجب البر به وما يجب الحنث به من الأيمان وسائر مهمات أحكامها في تفسير آية كفارتها من هذه السورة.

٨-
إن الأصل في أخبار الناس وشهادتهم التي هي أخبار مؤكدة صادرة عن علم صحيح أن تكون مقبولة مصدقة. ولهذا شرط في حكم تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما، وصدر هذا الشرط بأن التي لا تدل على تحقق الوقوع، إشارة إلى أن الأصل في وقوعها أن يكون شاذا.

٩-
إن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء، وفي المؤتمن أن يكون أمينا، وأن يكون ما يقوله في أمر الأمانة مقبولا. ولذلك قال «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فأفادت أداة الشرط أن الأصل في هذا أن لا يقع، وأنه إن وقع كان شاذا. وأفاد فعل «عثر» المبني للمفعول إن هذا الشذوذ إن وقع فشأنه أن يطلع عليه بالمصادفة والاتفاق، لا بالبحث وتتبع العثرات.

١٠-
شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن في أكثر الأمم، بل تحتمه قوانينها الوضعية باطراد لكثرة ما يقع من شهادة الزور، وسيأتي بحث الفقهاء في ذلك.

١١-
١٢- شرعية ائتمان المسلم لغير المسلم على المال وشرعية تحليف المؤتمن والعمل بيمينه.

١٣-
شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق الله له بيمين صار حالفها خصما له. ومن هذا القبيل شهادة المتلاعنين وأقسامهما، فإذا شهد الرجل على امرأته بالزنا تلك الشهادة المشروعة في سورة النور المتضمنة للقسم المغلظ - ترد الشهادة مع اليمين إلى زوجه التي رماها بذلك، فإذا شهدت بالله مثل شهادته سقط عنها الحد وبرئت من التهمة في شرع الله، وبالنسبة إلى غيره من عباد الله. ومنه أيمان القسامة في الدماء، وقد اختلف الفقهاء فيمن يبدأ باليمين – المدعون ذووا القتيل ؟ أم المدعى عليهم ذووا المتهم بالقتل، وأيا ما كان البادئون فإن الأيمان ترد إلى الآخرين.

١٤-
إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة لميت بأمر يتعلق بالتركة فالذي يجب تقديمه منهم للقيام به من كان أولاهم به. ومن بلاغة الإيجاز إبهام الأوليين بالقسم في الآية لاختلاف الأولوية باختلاف الأحوال والوقائع كما أشرنا إليه. فإذا تعين أصحاب الأولوية بلا نزاع فذاك وإلا فالحاكم هو الذي يقدم من يراه الأولى.

١٥-
صحة شهادة غير المسلم على المسلم والعمل بها في الجملة، وأخرناه ليتصل بما نوضحه به في الفصل الآتي.
كل هذه الأحكام مفهومة من الآيتين فتأمل جمعهما لهذه المعاني الكثيرة على إيجازهما وإيضاحهما للمعنى المقصود بهما بالذات.

فصل في حكم شهادة غير المسلمين على المسلمين


هذا بحث شرعي يجب أن نعطيه حقه من الاستقلال في الاستدلال فنقول : اعلم أن آيات القرآن في الإشهاد والاستشهاد منها المطلق ومنها المقيد. قال تعالى في اللاتي يأتين الفاحشة من المسلمات :﴿ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾ [ النساء : ١٤ ] الآية وقال تعالى في

﴿ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيرهم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الآثمين ١٠٦ فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ١٠٧ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ١٠٨ ﴾.
جاء في أسباب نزول هذه الآيات ومعناها في الدر المنثور ما نصه :
أخرج الترمذي١ وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ قال برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرايين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إليه غيره. قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها. فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف، فأنزل الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾ – إلى قوله – ﴿ أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ فقام عمرو بن العاصي ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء.
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي٢ وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله : لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، وأخذا الجام وفيه نزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرايين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي تاجرا حتى قدم المدينة فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه، ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا، فقالوا لهما هذا كتابه بيده، قالوا ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ – إلى قوله – ﴿ إنا إذا لمن الآثمين ( ١٠٦ ) ﴾ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموه بذهب، فقال أهله هذا من متاعه، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية الأخرى :﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾
﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه، ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول : صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء. ثم قال : يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قريتين من بيت لحم وهي القرية التي ولد فيها عيسى فكتب له بها كتابا، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ ﴿ شهادة بينكم ﴾ مضاف برفع شهادة بغير نون وبخفض بينكم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي عن أبي طلحة عن ابن عباس ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ﴾ هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين ثم قال :﴿ أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ﴾ فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين أمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، فذلك قوله تعالى :﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾ يقول إن اطلع على الكافرين كذبا قام الأولياء فحلفا أنهما كذبا، ذلك أدنى أن يأتي الكافران بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم، فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء، فليس على شهود المسلمين أقسام إنما الأقسام إذا كانا كافرين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله ﴿ اثنان ذوا عدل منكم ﴾ قال من أهل الإسلام ﴿ أو آخران من غيركم ﴾ قال من غير أهل الإسلام وفي قوله ﴿ فيقسمان بالله ﴾ يقول يحلفان بالله بعد الصلاة وفي قوله :﴿ فآخران يقومان مقامهما ﴾ قال من أولياء الميت ﴿ فيحلفان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ﴾ يقول فيحلفان بالله ما كان صاحبنا ليوصي بهذا أنهما لكاذبان، وفي قوله :﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ يعني أولياء الميت فيستحقون ماله بأيمانهم ثم يوضع ميراثه كما أمر الله وتبطل شهادة الكافرين وهي منسوخة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية ﴿ اثنان ذوا عدل منكم ﴾ قال ما من الكتاب إلا قد جاء على شيء جاء على إدلاله غير هذه الآية، ولئن أنا لم أخبركم بها لأنا أجهل من الذي يترك الغسل يوم الجمعة : هذا رجل خرج مسافرا ومعه مال فأدركه قدره فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب، فإن أدى فسبيل ما أدى، وإن هو جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة أن هذا الذي وقع إلي وما غيبت شيئا، فإذا حلف برئ، فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه، فذلك الذي يقول الله ﴿ ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ﴾.
هذا ما ورد في سبب نزول هذه الآيات وتفسير بعضها من قوي وضعيف وأما وجه اتصالها بما قبلها مباشرة فقد قال الرازي فيه : إنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله :( عليكم أنفسكم ) أمر بحفظ المال في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾ اه وهذا قول غير ظاهر بل لا يصح على المعنى المعروف عند العلماء لحفظ النفس والمال إلا أن يحمل الكلام على لازم معناه. وأظهر منه أن يقال إنه تعالى لما ذكرنا في آخر الآية السابقة بأن مرجعنا إليه بعد الموت وأنه يحاسبنا ويجازينا ناسب أن يرشدنا في إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وإلى العناية بالإشهاد عليها لئلا تضيع.
وأما مفرداتها التي يحسن التذكير بمعناها قبل تفسير النظم الكريم فمنها ( الشهادة ) وهي كالشهود حضور الشيء مع مشاهدته بالبصر أو البصيرة أو مطلقا – كما قال الراغب – قال : لكن الشهود بالحضور المجرد أولى، والشهادة مع المشاهدة أولى... والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر... و»شهدت» يقال على ضربين أحدهما جار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة ويقال «أشهد بكذا» ولا يرضى من الشاهد أن يقول :«أعلم» بل يحتاج أن يقول «أشهد» والثاني يجري مجرى القسم فيقول :«أشهد بالله أن زيدا منطلق» فيكون قسما، ومنهم من يقول : إن قال :«أشهد» ولم يقل «بالله» يكون قسما، ويجري «علمت» مجراه في القسم فيجاب بجواب القسم، نحو قول الشاعر :
ولقد علمت لتأتين منيتي٣
اه مخلصا. وقد ترد بمعنى الإقرار بالشيء.
و( البين ) : أمر اعتباري يفيد صلة أحد الشيئين بالآخر أو الأشياء من زمان أو مكان أو حال أو عمل، وقالوا إنه يطلق على الوصل والفرقة، ومن الثاني قولهم «ذات البين» للعداوة والبغضاء. قال تعالى :﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ [ الأنفال : ١ ] أي ما بينكم من عداوة أو فساد، وهو أمر معنوي متصل بين الأفراد.
ومنها :﴿ ضربتم في الأرض ﴾ [ النساء : ١٠١ ] أي سافرتم وتقدم في سورة النساء. ومنها :( تحبسونهما ) وهو من الحبس بمعنى إمساك الشيء ومنعه من الإنبعاث. والحبس مصنع الماء التي يمنع فيه من الجريان. ومنها :( عثر ) وهو من العثور على الشيء بمعنى الاطلاع عليه بالاتفاق من غير سبق طلب له أو من غير حسبان، أو عثره عليه – أوقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك. وأصله من عثر ( كقعد ) عثارا وعثورا إذا سقط.
وأما معنى الآيات وتفسير نظمها فنبينه بما يلي :
ثم بين تعالى حكمة شرعه لهذه الشهادة وهذه الأيمان، في هذا الأمر المبني على الثقة والائتمان، فقال :﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ﴾ أي ذلك الذي ذكر من تكليف المؤتمن على الوصية القيام على مشهد من الناس بعد الصلاة وإقسامه تلك اليمين المغلظة أقرب الوسائل إلى أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها بلا تغيير ولا تبديل، تعظيما لله ورهبة عن عذابه ورغبة في ثوابه، أو خوفا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم في الشهادة برد أيمان إلى الورثة بعد أيمانهم تكون مبطلة لها، فمن لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب أو يخون لضعف دينه يمنعه خوف الفضيحة على أعين الناس.
﴿ واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ أي واتقوا الله أيها المؤمنون في الشهادة والأمانة وفي كل شيء واسمعوا سمع إجابة وقبول هذه الأحكام وسائر ما شرعه الله تعالى لكم، فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين عن أمر الله تعالى محرومين من هدايته مستحقين لعقابه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:إيضاح لتفسير الآيات وبلاغتها والاستنباط منها
قال الرازي بعد تفسير الآية الثانية : اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما، وروى الواحدي رحمه الله في البسيط عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام اه.
وأورد الآلوسي في روح المعاني عبارة الرازي عن المفسرين دون رواية الواحدي عن عمر، ثم نقل مثلها عن السعد التفتازاني وعن الطبرسي في الآيتين – لا الثانية فقط – وقال إن الطبرسي افتخر بما أتى فيه ولم يأت بشيء.
أقول : نحن لا يروعنا ما يراه المفسرون من الصعوبة في إعراب بعض الآيات أو في حكمها لأن لهم مذاهب في النحو والفقه يزنون بها القرآن فلا يفهمونه إلا منها، والقرآن فوق النحو والفقه والمذاهب كلها، فهو أصل الأصول، ما وافقه فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود مرذول، وإنما يهمنا ما يقوله علماء الصحابة والتابعين فيه، فهو العون الأكبر لنا على فهمه، ولم يرو عن أحد منهم ما يدل على وجدان شيء من الصعوبة في عبارة الآيتين. وما نقله الواحدي عن عمر رضي الله عنه في آية «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فليس مما يؤيد ما نقل عن المفسرين من استصعابها، بل معناه أن أحكامها أشد من سائر أحكام السورة، ولعله يعني بذلك ما فيها من التضييق في رد أيمان بعد أيمان، وإظهار فضائح من كذب وخان، قال في حقيقة الأساس : عضلت على فلان – ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد. ومنه النهي عن عضل النساء أي منعهن من الزواج.
ولكن أصحاب المذاهب الفقهية اضطربوا في عدة أحكام من أحكامها لمجيئها مخالفة لأقيستهم ولما عليه العمل بثبوته في سائر الأحكام – منها حلف الشاهد اليمين، ومنها شهادة غير المسلم فيما هو خاص بالمسلمين، ومنها العمل بيمين المدعي، وقد اجتهدوا في تخريج كل مسألة من تلك المسائل على الثابت عندهم كما تراه قريبا.
حتى ادعوا في بعضها النسخ، ورووه عن بعض الصحابة بسند لم يصح، فلهذا رأينا بعد تفسير الآيتين بما يفهم من ظاهر اللفظ بالاختصار أن نفصل ما اشتملتا عليه من الفوائد والأحكام، ليظهر حتى للضعيف في علم العربية ما فيهما من إعجاز الإيجاز، وما جنته المذاهب النحوية والفقهية على كثير من العلماء، حتى قال ما قال في الآيتين أشهرهم بسعة الإطلاع أو بالدقة والذكاء.
أما دعوى النسخ فقد علم مما سلف ومما سيأتي قريبا ما عليه المحققون من أنه ليس في سورة المائدة منسوخ، وقد حرر المسألة الحافظ ابن كثير في تفسيره فقال :
«ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب حدثنا هشيم قال أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقا، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب – قال – فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال – فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته، - قال – فأمضى شهادتهما. ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي داود الطياليسي عن شعبة عن مغيرة الأزرق عن الشعبي أن أبا موسى قضى به. وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي عن أبي موسى الأشعري. فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : الظاهر – والله أعلم – أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام والله أعلم».
ثم قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد قول السدي في الآية الأولى :
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه كأني أنظر إلى العلجين حين انتُهيَ بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوفوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله ﴿ لا نشتري به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ﴾ أن صاحبهم بهذا أوصى وأن هذه لتركته، فيقول لهما الإمام ( أي الحاكم ) قبل أن يحلفا إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك فإن ﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ رواه ابن جرير اه المراد من كلام ابن كثير. وتأمل قوله :«ولم تجز لكما شهادة» فالظاهر أنه من كلام ابن عباس رضي الله عنه وسيأتي لبحث دعوى النسخ واستشكال الفقهاء مزيد بيان قريبا.
وأما الفوائد والأحكام التي اشتملت عليها الآيتان بإيجازهما، فهاك ما يتبادر إلى الذهن منها.

١-
الحث على الوصية وتأكيد أمرها وعدم التهاون فيها بشواغل السفر وإن قصرت فيه الصلاة وأبيح فيه الإفطار في رمضان.

٢-
الإشهاد على الوصية في الحضر والسفر، ليكون أمرها أثبت، والرجاء في تنفيذها أقوى، وإن كثيرا من الناس لا يكتبون وصيتهم ولا يشهدون أحدا عليها فيكون ذلك في بعض الأحيان سببا لضياعها.

٣-
إن الأصل في الإشهاد على الوصية أن يختار الشاهدان من المؤمنين الموثوق بعدالتهم كما ثبت في آيات أخرى أيضا، وحكمته ظاهرة من وجوه لا حاجة إلى شرحها.

٤-
إن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع. فإن وجبت الوصية وجب بشرطه وإلا فهو مندوب، لأن مقصد الشارع من إثبات الوصية لا يترك البتة إذا لم يتيسر إقامته على وجه الكمال، إذ الميسور لا يسقط بالمعسور، والمقام هنا مقام إثبات الحقوق، لا مقام التعبد الذي يشترط فيه الإيمان. ولا مقام التشريف والتكريم للأديان وأهل الأديان.

٥-
إن الشهادة تشمل ما يقوله كل من الخصمين من إقرار في القضية أو إنكار، ونفي للمدعي به أو إثبات.

٦-
شرعية اختيار الأوقات التي تؤثر في قلوب الشهود ومقسمي الأيمان ويرجى أن يصدقوا ويبروا فيها كما بيناه في تعليل القسم بعد الصلاة، ومثله في ذلك اختيار المكان، وهو مشروع أيضا.
ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وصححه وابن ماجه بسند رجاله ثقات وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه عن جابر مرفوعا ( لا يحلف أحد عند منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار )١ وعن أبي هريرة حديث بمعناه عند أحمد وابن ماجه. وروى النسائي بإسناد رجاله ثقاب عن أبي أمامة بن ثعلبة رفعه ( من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا )٢ واستدل بالآية وبهذه الأحاديث جماهير الفقهاء على جواز التغليظ على الحالف بمكان معين تثبت حرمته شرعا كالمسجد الحرام، وخاصة ما بين الركن ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والمسجد النبوي وخاصة ما كان منه عند منبره صلى الله عليه وسلم، وبالزمان كيوم الجمعة وبعد صلاة العصر، وقال بعضهم – ومنهم الحنفية – أن ما ذكر من النصوص لا يدل على ذلك. ولعله لا ينكر أحد التغليظ بما ورد فيها، وإنما الخلاف في القياس عليها أو الأخذ بفحواها.
وقال الرازي في تفسير الآية : قال الشافعي رحمه الله : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مئتي درهم – في الزمان والمكان، فيحلف بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد، وقال أبو حنيفة رحمه الله يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان ومكان، وهذا على خلاف الآية، ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم، ولا شك أن الذي قاله الشافعي رضي الله عنه أقوى اه.
هذه العبارة تشهد على نفسها بالتعصب فلا يقال إن أبا حنيفة خالف الآية إلا إذا أجاز ترك العمل بمنطوقها في هذا الموضوع نفسه.

٧-
التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب كالألفاظ التي وردت في الآية، وأشد منها ما ورد في شهادة اللعان، وقد جرى على هذا أصحاب الجمعيات السياسية في الإسلام وغيره فاخترعوا أيمانا وأقساما قد يتحامى أفسق الناس وأجرأهم على الإجرام أن يحنث بها. وقد بينا ما يجب البر به وما يجب الحنث به من الأيمان وسائر مهمات أحكامها في تفسير آية كفارتها من هذه السورة.

٨-
إن الأصل في أخبار الناس وشهادتهم التي هي أخبار مؤكدة صادرة عن علم صحيح أن تكون مقبولة مصدقة. ولهذا شرط في حكم تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما، وصدر هذا الشرط بأن التي لا تدل على تحقق الوقوع، إشارة إلى أن الأصل في وقوعها أن يكون شاذا.

٩-
إن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء، وفي المؤتمن أن يكون أمينا، وأن يكون ما يقوله في أمر الأمانة مقبولا. ولذلك قال «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فأفادت أداة الشرط أن الأصل في هذا أن لا يقع، وأنه إن وقع كان شاذا. وأفاد فعل «عثر» المبني للمفعول إن هذا الشذوذ إن وقع فشأنه أن يطلع عليه بالمصادفة والاتفاق، لا بالبحث وتتبع العثرات.

١٠-
شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن في أكثر الأمم، بل تحتمه قوانينها الوضعية باطراد لكثرة ما يقع من شهادة الزور، وسيأتي بحث الفقهاء في ذلك.

١١-
١٢- شرعية ائتمان المسلم لغير المسلم على المال وشرعية تحليف المؤتمن والعمل بيمينه.

١٣-
شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق الله له بيمين صار حالفها خصما له. ومن هذا القبيل شهادة المتلاعنين وأقسامهما، فإذا شهد الرجل على امرأته بالزنا تلك الشهادة المشروعة في سورة النور المتضمنة للقسم المغلظ - ترد الشهادة مع اليمين إلى زوجه التي رماها بذلك، فإذا شهدت بالله مثل شهادته سقط عنها الحد وبرئت من التهمة في شرع الله، وبالنسبة إلى غيره من عباد الله. ومنه أيمان القسامة في الدماء، وقد اختلف الفقهاء فيمن يبدأ باليمين – المدعون ذووا القتيل ؟ أم المدعى عليهم ذووا المتهم بالقتل، وأيا ما كان البادئون فإن الأيمان ترد إلى الآخرين.

١٤-
إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة لميت بأمر يتعلق بالتركة فالذي يجب تقديمه منهم للقيام به من كان أولاهم به. ومن بلاغة الإيجاز إبهام الأوليين بالقسم في الآية لاختلاف الأولوية باختلاف الأحوال والوقائع كما أشرنا إليه. فإذا تعين أصحاب الأولوية بلا نزاع فذاك وإلا فالحاكم هو الذي يقدم من يراه الأولى.

١٥-
صحة شهادة غير المسلم على المسلم والعمل بها في الجملة، وأخرناه ليتصل بما نوضحه به في الفصل الآتي.
كل هذه الأحكام مفهومة من الآيتين فتأمل جمعهما لهذه المعاني الكثيرة على إيجازهما وإيضاحهما للمعنى المقصود بهما بالذات.

فصل في حكم شهادة غير المسلمين على المسلمين


هذا بحث شرعي يجب أن نعطيه حقه من الاستقلال في الاستدلال فنقول : اعلم أن آيات القرآن في الإشهاد والاستشهاد منها المطلق ومنها المقيد. قال تعالى في اللاتي يأتين الفاحشة من المسلمات :﴿ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾ [ النساء : ١٤ ] الآية وقال تعالى في

﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ١٠٩ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ١١١ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ١١٢ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ١١٣ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ١١٤ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين١١٥ ﴾
بينا في أول تفسير الآيتين ٩٠ و ٩١ من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
ويرى بعض المفسرين أن كلمة ( يوم ) في أولها من متعلقات الآية أو الجملة التي قبلها كما ترى فيما يلي :
﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ قيل إن هذا متعلق بالفعل من آخر جملة مما قبله، والتقدير : والله لا يهدي القوم الفاسقين إلى طريق النجاة يوم يجمع الرسل في الآخرة ويسألهم عن تبليغ الرسالة وما أجابتهم به أقوامهم – أو لا يهديهم يومئذ طريقا إلا طريق جهنم، وقيل إنه متعلق بقوله :«واتقوا الله » أو بقوله :«واسمعوا » أي واتقوا عقاب الله يوم جمعه الرسل، - أو – واسمعوا يوم يجمع الله الرسل، أي خبره وما يكون فيه.
وذهب آخرون إلى أن الآية منقطعة عما قبلها – والمعنى : يوم يجمع الله الرسل ويسألهم يكون من الأهوال ما لا يفي ببيانه مقال – أو المعنى : واذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم، وهذا التقدير أظهر وله في التنزيل نظائر. والمراد من السؤال توبيخ أممهم، وإقامة الحجة على الكافرين منهم، والمعنى أي إجابة أجبتم ؟ أإجابة إيمان وإقرار، أم إجابة كفر واستكبار ؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ماذا كان، وإلا لقرن بالباء، وقيل الباء محذوفة والتقدير بماذا أجبتم. وهذا السؤال للرسل من قبيل سؤال الموءودة في قوله تعالى :﴿ وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت ﴾ [ التكوير : ٨، ٩ ] في أن كلا منهما وجه إلى الشاهد دون المتهم لما ذكر آنفا من الحكمة، وهو يكون في بعض مواقف القيامة ويشهدون على الأمم بعد التفويض الآتي أو عقب سؤال غير هذا، ويسأل الله تعالى الأمم في موقف آخر أو في وقت آخر. كما هو شأن قضاة التحقيق في سؤال الخصم والشهود، لتحقق شرائط الحكم الصحيح كما هو المعهود، قال تعالى :﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ﴾ [ الأعراف : ٦، ٧ ].
ولما كان تعالى يسأل كلا من الفريقين عما هو أعلم به منه، وكان الرسل عليهم الصلاة والسلام على علم يقيني بذلك – يكون جوابهم في أول العهد بالسؤال التبرؤ من العلم وتفويضه إلى الله تعالى – إما لنقصان علمهم بالنسبة إلى علمه تعالى كما نقل عن ابن عباس، وإما لما يفاجئهم من فزع ذلك اليوم أو هوله أو ذهوله كما نقل عن الحسن ومجاهد والسدي. وذلك قوله تعالى :
﴿ قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ( ١٠٩ ) ﴾ جاء الجواب منفصلا كسائر ما يأتي من أقوال المراجعة على طريقة الاستئناف البياني، وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه حتى كأنه وقع، قال ابن عباس : يقولون للرب : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. يعني أنه ليس بنفي لعلمهم بإطلاق وإنما هو نفي لعلم الإحاطة الذي هو خاص بالخلاق العليم، إذ الرسل كانوا يعلمون ظاهر ما أجيبوا به من مخاطبيهم ولا يعلمون بواطنهم، ولا حال من لم يروه من أممهم، إلا ما يوحيه تعالى إليهم من ذلك وهو قليل من كثير، ولذلك قرنوا نفي العلم عنهم بإثبات المبالغة في علم الغيب له تعالى، فإن صيغة علام معناها كثير العلم أي بكثير المعلومات، وإلا فعلمه واحد محيط بكل شيء إحاطة كاملة، ولا يوصف تعالى بالعلامة، ولعله لما فيه من تاء التأنيث. قال تعالى لنوح عليه السلام لما سأل ربه أن ينجي ولده من الطوفان ﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علم ﴾ [ هود : ٤٦ ] وقال لخاتم رسله عليه الصلاة والسلام ﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ [ التوبة : ١٠١ ].
وقال الفخر الرازي ما معناه : إن الرسل أرادوا إنه لم يكن لهم من حقيقة حال أممهم إلا الظن الذي هو ظاهر حالهم لا العلم القطعي الذي يتوقف على معرفة الظاهر والباطن بدليل ما ورد في الحديث من الحكم بالظاهر قال :«فالأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، والظن كان معتبرا في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور. فلهذا السبب قالوا :«لا علم لنا إلا ما علمتنا » ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة. اه.
ونقول : إن هذا رأي ضعيف وإن بني على اصطلاح أهل الكلام والأصول في تفسير الظن والعلم، والصواب ما بيناه قبله. وذلك أن الرسل يعلمون كثيرا من الحقائق علما يقينيا، كاستكبار المجرمين عن إجابة دعوتهم وإصرارهم على كفرهم. ومن علمهم بذلك ما شهد به التنزيل إذ أخبرهم الله أن أولئك المعاندين لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، وأنه قد ختم على قلوبهم وحق القول عليهم، ومنهم من يكاشف النبي بحالهم ويمثلون له في النار، كما كان يعلم أن بعض المؤمنين صادقون في إيمانهم وبشرهم بالجنة، وأن بعضهم ضعفاء الإيمان ولكن إيمانهم صحيح مقبول عند الله تعالى والعلم بالظاهر يقبل في شهادتهم على الجاحدين إذ لا عبرة بالإيمان في الباطن مع الجحود في الظاهر بل هو أشد الكفر. وقد أخبرنا الله تعالى أنهم يشهدون على أممهم، فلو كان كل ما يعرفون من أحوال أممهم ظنا لا عبرة به في القيامة، لما كان لشهادتهم فائدة ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ [ النساء : ٤١ ].
﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ١٠٩ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ١١١ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ١١٢ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ١١٣ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ١١٤ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين١١٥ ﴾
بينا في أول تفسير الآيتين ٩٠ و ٩١ من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
﴿ * إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ ﴾
ذكر الله سؤال الرسل وجوابهم بالإجمال بين بالتفصيل سؤال واحد منهم عن التبليغ وجوابه عن السؤال لإقامة الحجة على من يدعون اتباعه وهم الذين حاجتهم هذه السورة فيما يقولون في رسولهم أوسع الاحتجاج، وأقامت عليهم البرهان في إثر البرهان، وقدم عز وجل على هذا السؤال والجواب ما خاطب به هذا الرسول من بيان نعمته عليه وآياته له التي كانت منشأ افتتان الناس به فقال :
﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ﴾ قال البيضاوي في قوله تعالى :«إذ قال » : بدل من «يوم يجمع » وهو على طريقة ﴿ ونادى أصحاب الجنة ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ] – أي في التعبير عن المستقبل بالماضي – والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما ظهر عليهم من الآيات، فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة، وغلا آخرون واتخذوهم آلهة. أو نصب بإضمار «أذكر » اه.
والنعمة تستعمل مصدرا واسما لما حصل بالمصدر، والمفرد المضاف يفيد التعدد. والمعنى : اذكر إنعامي عليك وعلى والدتك وقت تأييدي إياك بروح القدس الخ أو أذكر نعمي حال كونها واقعة عليك وعلى والدتك إذ أيدتك أي قويتك شيئا فشيئا بروح القدس الذي تقوم به حجتك، وتبرأ من تهمة الفاحشة والدتك، حال كونك تكلم الناس في المهد بما يبرئها من قول الآثمين الذين أنكروا عليها أن يكون لها غلام من غير زوج يكون أبا له – وكهلا حين بعثت فيهم رسولا تقيم عليهم الحجة، بما ضلوا به عن المحجة. فكلامه في المهد هو قوله :﴿ إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ﴾ [ مريم : ٣٠ ] الخ ما ذكره في سورة مريم. و( روح القدس ) هو ملك الوحي الذي يؤيد الله به الرسل بالتعليم الإلهي والتثبيت في المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها، قال تعالى في شأن القرآن :﴿ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ﴾ [ النحل : ١٠٢ ]. وقد تقدم في موضعين من سورة البقرة، وقال تعالى :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾ [ الأنفال : ١٢ ].
﴿ وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ أي ونعمتي عليك إذ علمتك قراءة الكتاب أي ما يكتب – أو الكتابة بالقلم – أي وفقتك لتعلمها، والحكمة وهي العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع بما فيه من الإقناع والعبرة والبصيرة وفقه الأحكام، والتوراة – وهي الشريعة الموسوية، والإنجيل – وهو ما أوحاه تعالى إليه من الحكم والأحكام، والبشارة بخاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد سبق لنا تفصيل القول في حقيقة التوراة والإنجيل في تفسير أول سورة آل عمران ( ج٣ تفسير ) وفي تفسير هذه السورة ( ج٦ تفسير ).
﴿ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ﴾ قرأ نافع هنا وفي آية آل عمران «فتكون طائرا » والطائر واحد الطير – كراكب وركب – والجمهور «فتكون طيرا » قيل هو جمع وقيل اسم جمع، وأجاز أبو عبيدة وقطرب إطلاق طيرا على الواحد ولعله مبني على أن أصله المصدر كما وجهه ابن سيده. ولفظ الطير مؤنث بمعنى جماعة. والخلق في أصل اللغة التقدير أي جعل الشيء بمقدار معين. يقال خلق الإسكافي النعل ثم فراه، أي عين شكله ومقداره ثم قطعه قال الشاعر :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ضُ القوم يخلق ثم لا يفري١
ومنه خلق الكذب والإفك قال تعالى :﴿ وتخلقون إفكا ﴾ [ العنكبوت : ١٧ ] أي تقدرون وتزورون كلاما يأفك سامعه أي يصرفه عن الحق. ويستعمل في إيجاد الله تعالى الأشياء بتقدير معين في علمه. والمعنى : واذكر نعمتي عليك إذ تجعل قطعة من الطين مثل هيئة الطير في شكلها ومقادير أعضائها فتنفخ فيها بعد ذلك فتكون طيرا بإذن الله ومشيئته، أو بتسهيله أو تكوينه، إذ يجعل جلت قدرته نفسك سببا لحلول الحياة في تلك الصورة من الطين، فأنت تفعل التقدير والنفخ، والله هو الذي يكوّن الطير. وقد تقدم في تفسير نظير هذه الآية من سورة آل عمران كلام عن شيخنا الأستاذ الإمام مضمونه أن عيسى عليه السلام أعطي هذه الآية أي مكنه الله منها ولم يفعلها. واستدركنا على ذلك بالإشارة إلى دلالة آية المائدة هذه على وقوعها من غير جزم بذلك، وبينا سر ذلك وحكمته عند الصوفية وهو قوة روحانية عيسى عليه السلام، ولا يبعد كتمان اليهود لهذه الآية إذا كان رآها بعضهم مرة واحدة وعدها من السحر اعتقادا أو مكابرة وخاف أن تجذب قومه إلى المسيح، ولكن قوله تعالى – بإذني – يدل على أن المسيح لم يعط هذه القوة دائما بحيث جعل السبب الروحي فيها كالأسباب الجسمانية المطردة، بل كانت هذه الآية كغيرها لا تقع إلا بإذن من الله وتأييد من لدنه، ونكتة التعبير بالمضارع عن فعل مضى هي تصوير ذلك الماضي وتمثيله حاضرا في الذهن كأنه حاضر في الخارج، لا لإفادة الاستمرار فإنه فعل مضى والكلام تذكير به كما وقع إذ وقع.
﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ﴾ عطف التذكير بإبراء الأكمه والأبرص على ما قبله مباشرة فلم يبدأ بإذ، وبدئ بها التذكير بإخراج الموتى، فكان عطفا على قوله :«إذ أيدتك بروح القدس » ولعل نكتة ذلك أن إبراء الأكمه والأبرص من جنس شفاء المرض الذي قد يقع بعض أفراده على أيدي غير الأنبياء المرسلين، ولا سيما من يظن المرضى فيهم الصلاح والولاية، فلما كان كذلك ذكر بالتبع لإحياء الصورة من الطير، ولما كان إحياء الموتى أعظم جعل نعمة مستقلة فقرن بإذ. والمراد بالأكمه والأبرص والموتى الجنس – والأكمه من ولد أعمى، ويطلق على من عمى بعد الولادة أيضا. وفي كتب العهد الجديد أنه أبرأ كثيرا من العمى والبرص وأحيى ثلاثة أموات : الأول : ابن أرملة وحيد في ( نابين ) كانوا يحملونه على النعش فلمس النعش وأمر الميت أن يقوم منه فقام فقال الشعب «قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه » أي شعب إسرائيل اه ( من إنجيل لوقا ٧ : ١١-١٧ ) الثاني : ابنة رئيس ماتت ودعاه لإحيائها فجاء بيته وقال للجمع «تنحوا فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة فضحكوا عليه فلما أخرج الجمع دخل وأمسك بيدها فقامت الصبية » والقصة في ( إنجيل متى ٩ : ١٨-٢٦ ) ونفيه لموتها ثم إثباته لنومها ينافي أن يكون أراد بالنوم الموت مجازا على ما نقل عنه في غير هذا الموضع. وعليه يقال يحتمل أن يكون أغمي عليها فظنوا أنها ماتت فعلم بالكشف أو الوحي أنها لم تمت. والمسلمون لا يثقون بنقول القوم ولا بدقتهم في الترجمة ومراعاة ما يدل عليه الإثبات بعد النفي. الثالث : ألعازر الذي كان يحبه جدا ويحب أختيه مريم ومرثا كما يحبونه، ففي الفصل الحادي عشر من إنجيل يوحنا أنه كان مات في بيت عنيا ووضع في مغارة فجاء المسيح وكان له أربعة أيام فرفع عينيه إلى فوق وقال :«أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت. ليؤمنوا إنك أرسلتني، ولما قال هذا : صرخ بصوت عظيم «ألعازر هلم خارجا » فخرج الميت » الخ.
وملاحدة أوروبة يزعمون أن ألعازر تماوت بإذن المسيح والتواطؤ معه... وقد كذبوا أخزاهم الله تعالى. ولم ينقل النصارى عنه أنه أحيا أمواتا كانوا تحت التراب بعد البلى كما نقل عن دانيال عليهما السلام.
وتكرار كلمة ( الإذن ) بتقييد كل فعل من تلك الأفعال بها يفيد أنه ما وقع شيء منها إلا بمشيئة الله الخاصة وقدرته. والإذن يطلق على الإعلام بإجازة الشيء والرخصة فيه وعلى الأمر به وكذا على المشيئة والتيسير كقوله تعالى :﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] ومحال أن يكون معناه بإجازته أو أمره، ومثله بل أظهر منه قوله :﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ﴾ [ آل عمران : ١٦٦ ] أي بإرادته وتيسيره.
﴿ وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( ١١ ) ﴾ أي واذكر نعمتي عليك حين كففت بني إسرائيل عنك فلم أمكنهم من قتلك وصلبك وقد أرادوا ذلك وقت تكذيب كفارهم إياك وزعمهم أن ما جئت به من البينات لم يكن إلا سحرا ظاهرا، لا من جنس الآيات التي جاء بها موسى، على أنها مثلها أو أظهر منها.
قرأ الجمهور ( سحر ) وقرأ حمزة والكسائي ( ساحر ) بالألف، ورسمها في المصحف الإمام بغير ألف ككلمة ( ملك ) في الفاتحة وتقرأ ( مالك ) وكلمة ( الكتب ) في عدة سور تقرأ فيها ( الكتاب ) بالإفراد كما تقرأ في بعضها بصيغة الجمع، ولو كتبت هذه الكلمات بالألف لما احتملت إلا قراءة المد وحدها. وظاهر أن قراءة الجمهور ( سحر ) يراد بها أن تلك البينات التي جاء بها من السحر وهو التمويه والتخييل الذي يري الإنسان الشيء على غير حقيقته، أو ما له سبب خفي عن غير فاعله، وأن قراءة ( ساحر ) يراد بها أن من أتى بتلك البينات ساحر، إذ جاء بأمر صناعي أو بتخييل باطل. والمراد من القراءتين كلتيهما أن الذين كفروا بعيسى عليه السلام طعنوا في تلك الآيات بأنها سحر، وفيمن جاء بها بأنه من جنس السحرة، أي فلا يعتد بشيء مما يظهر على يديه من خوارق العادات، فأفاد أنهم لا يؤمنون وإن جاءهم بآيات أخرى، إذ لم يكن الطعن فيما كان قد جاء به لشبهات تتعلق بها، وإنما كان عن عناد ومكابرة ادعوا بهما أن السحر صنعة له يجب أن يوصف به كل شيء غريب يجيء به.
١ البيت من الكامل، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٩٤، ولسان العرب (خلق) (فرا)، وتهذيب اللغة ٧/٢٦، ١٥، ٢٤٢، ومقاييس اللغة ٢/٢١٤. ٤/٤٩٧، وديوان الأدب ٢/١٢٣، وكتاب الجيم ٣/٤٩، والمخصص ٤/١١١، وبلا نسبة جمهرة اللغة ص ٦١٩، وتاج العروس (فرا)..
﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ١٠٩ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ١١١ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ١١٢ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ١١٣ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ١١٤ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين١١٥ ﴾
بينا في أول تفسير الآيتين ٩٠ و ٩١ من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ( ١١١ ) ﴾ أي واذكر نعمتي عليك حين ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بك – وقد كذبك جمهور بني إسرائيل – فجعلتهم أنصارا لك يؤيدون حجتك، وينشرون دعوتك. والوحي في أصل اللغة الإشارة السريعة الخفية، أو الإعلام بالشيء بسرعة وخفاء، كما بيناه من قبل. ولو وجد هذا التلغراف في عهد العرب الخلص لسموا خبره وحيا، والمصريون يسمونه حتى في الرسميات إشارة. وأطلق الوحي في القرآن على ما يلقيه الله تعالى في نفوس الأحياء من الإلهام كقوله تعالى :﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ﴾ [ النحل : ٦٨ ] وقوله :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ﴾ [ القصص : ٧ ] وهكذا ألقى الله تعالى في قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام، وقيل الوحي إليهم هو ما أنزل على أنبيائهم.
والحواريون جمع حواري وهو من خلص لك وأخلص سرا وجهرا في مودتك، ومعناه في أصل اللغة الأبيض النقي اللون، والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود لبياضهن، قال في اللسان : والأعراب تسمى نساء الأمصار حواريات لبياضهن وتباعدهن من قشف الأعراب بنظافتهن، قال :
فقلت إن الحواريات معطبة إذا تفتلن من تحت الجلابيب١
وأما الحور العين فهما جمع حوراء وعيناء، من الحور ( بالتحريك ) وهو شدة بياض العين مع شدة سوادها، فالحوراء مؤنث الأحور، والحوارية مؤنث الحواري. ثم استعمل الحواري بمعنى النقي الخالص في غير اللون، قال في اللسان : وقال بعضهم : الحواريون صفوة الأنبياء الذين خلصوا لهم، قال الزجاج : الحواريون خلصان الأنبياء عليهم السلام وصفوتهم. قال : والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «الزبير ابن عمتي، وحواري من أمتي »٢ أي خاصتي من أصحابي وناصري قال – وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حواريون. وتأويل الحواريين في اللغة : الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب٣. اه.
واللغة لا تدل على النقاء من كل عيب بهذا التحديد، وإنما تدل على النقاء والخلوص مطلقا، فيكفي في صحة الإطلاق أن يكونوا قد خلصوا لنصره، أو خلصوا ونقوا من الكفر والنفاق. وقد حكى الله عنهم هنا أنهم قالوا : آمنا. أي بالله ورسوله عيسى عليه السلام. وأشهدوا الله على أنفسهم إنهم مسلمون، أي مخلصون في إيمانهم مذعنون لما يترتب عليه من الأمر والنهي، وحكى عنهم في سورتي [ آل عمران ] و [ الصف ] أنهم حين قال المسيح «من أنصاري إلى الله » قالوا «نحن أنصار الله ».
١ البيت من البسيط، وهو للفرزدق في ديوانه ١/٢٣، وتهذيب اللغة ٥/٢٢٨، وبلا نسبة في لسان العرب (حور) وتاج العروس (حور)..
٢ روي الحديث في الصحيحين وسنن ابن ماجه ومسند أحمد ابن لفظ: «إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير»، أخرجه البخاري في الجهاد باب ٤٠، ٤١، ١٣٥، وفضائل الصحابة باب ١٣، والمغازي باب ٢٩، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٤٨، وابن ماجه في المقدمة باب٧١١، وأحمد في المسند ١/٨٩، ١٠٢، ١٠٣، ٣/٣٠٧، ٣١٤، ٣٣٨، ٣٦٥..
٣ زعم بعض كتاب النصارى المعاصرين أن كلمة «الحواري» محرفة عن كلمة الخوري اليونانية، وهو زعم شبهته ضعيفة و البراهين على بطلانه قوية، فالكلمة لم تستعمل في القرآن إلا بصيغة جمع المذكر السالم وهو منقول بالتواتر اللفظي والخطي ومعروف معناه في اللغة، وجمع الخور الخوارنة لا خواريون. ولو أخذ اللفظ المفرد (حواري) فرد أو لإفراد من كتاب العرب عن كتابة لنصارى الروم أو غيرهم لأمكن حينئذ أن يقال إنهم حرفوه إن ثبت أن الروم أو غيرهم كانوا يطلقون لقب الخوري عن تلاميذ المسيح، كيف ومعنى الخوري الكاهن المدبر للقرية ولم يطلقه أحد من العرب بهذا المعنى؟ (المؤلف)..
﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ١٠٩ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ١١١ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ١١٢ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ١١٣ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ١١٤ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين١١٥ ﴾
بينا في أول تفسير الآيتين ٩٠ و ٩١ من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
﴿ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ﴾ قال أبو السعود العمادي في تفسير «إذ قال الحواريون » ما نصه : كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه منقطع عما قبله كما ينبئ عنه الإظهار في موقع الإضمار. و«إذ » منصوب بمضمر خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام، بطريق تلوين الخطاب والالتفات، لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكاية خطاب، بل لأن الخطاب لمن خوطب بقوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ – الآية – فتأمل، كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عقيب حكاية ما صدر عن الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه السلام : اذكر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الإيمان والإخلاص، لم يكن عن تحقيق وإيقان، ولا يساعده النظم الكريم. اه.
أقول : في متعلق الظرف قولان للمفسرين رجح أبو السعود المشهور منهما وهو الأول ورد الثاني الذي جرى عليه الزمخشري في الكشاف وهو أنه متعلق بقوله تعالى :﴿ قالوا آمنا ﴾ أي ادعوا الإيمان وأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون مخلصون في إيمانهم في الوقت الذي قالوا فيه ما ينافي ذلك وهو قولهم :﴿ يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ﴾ ويقول الزمخشري إن الله تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام وإنما حكى قولهم حكاية ووصله بما يدل على كذبهم فيه وهو سؤالهم هذا وجوابه عليه السلام لهم إذ أمرهم بتقوى الله إن كانوا مؤمنين حقا، وإصرارهم على السؤال بعد ذلك، ووجه رد هذا القول أنه لو كان هو المراد لقيل :«إذ قالوا يا عيسى ابن مريم » ولم يقل :«إذ قال الحواريون » ولما صح أن تكون دعوى الإيمان من الحواريين نعمة من الله على عيسى – وهي كاذبة – ولا أن تكون عن وحي من الله تعالى. ولكن هذا الأخير لا يرد على الزمخشري لأنه فسر الوحي إلى الحواريين بالإيمان بأنه أمر الله إياهم بذلك على ألسنة الرسل، أي أمر إياهم مع غيرهم إذ كلف الناس كافة بأن يؤمنوا بما تجيئهم به الرسل، ولكن يرد قوله أيضا تسميتهم بالحواريين وما في سورتي آل عمران والصف من إجابتهم عيسى إلى نصره. ولعله يرى أن هذا شأنهم في أول الدعوة ثم آمنوا بعد ذلك وصاروا أنصار الله ورسوله عيسى عليه السلام.
وقد حكى أبو السعود بعد ما ذكرناه عنه الخلاف في إيمانهم. ومنشأ هذا الخلاف كلمة «يستطيع » وقد قرأ الكسائي «هل تستطيع ربك » قالوا أي سؤال ربك، وهذه القراءة مروية عن علي وعائشة وابن عباس ومعاذ من علماء الصحابة رضي الله عنهم وقد صحح الحاكم عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه «تستطيع ربك » ومثله في ذلك غيره لأن تلقين القرآن لا يتوقف على تصريح الصحابي برفعه، وقرأ الجمهور «يستطيع ربك » وهذا الذي استشكل بأنه لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان. وأجاب عنه القائلون بصحة إيمانهم من وجوه.
١- أن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله تعالى على ذلك، فهو على حد سؤال إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمان الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك بالغيب.
٢- أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه.
٣- أن السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية لا بحسب القدرة، أي هل ينافي حكمة ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء أم لا، فإن ما ينافي الحكمة لا يقع وإن كان مما تتعلق به القدرة، كعقاب المحسن على إحسانه، وإثابة الظالم المسيء على ظلمه.
٤- أن في الكلام حذفا تقديره : هل تستطيع سؤال ربك. ويدل عليه قراءة : هل تستطيع ربك، والمعنى هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.
٥- أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة، والمعنى هل يطيعك ويجيبك دعاءك ربك إذا سألته ذلك.
وأقول ربما يظن الأكثرون أن هذا الوجه الأخير تكلف بعيد وليس كذلك. فالاستطاعة استفعال من الطوع وهو ضد الكره. قال تعالى ﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ﴾ [ فصلت : ١١ ] وفي لسان العرب : الطوع نقيض الكره، والاسم الطواعة والطواعية ثم قال : ويقال طعت له وأنا أطيع طاعة، ولتفعلنه طوعا أو كرها، وطائعا أو كارها، وجاء فلان طائعا غير مكره.... قال ابن سيده : وطاع يطاع وأطاع – لان وانقاد، وأطاعه إطاعة وانطاع له كذلك. وفي التهذيب : وقد طاع له يطوع إذا انقاد له بغير ألف، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه. فإذا وافقه فقد طاوعه. اه. فيفهم من هذا أن إطاعة الأمر فعله عن اختيار ورضا ولذلك عبر به عن امتثال أوامر الدين لأنها لا تكون دينا إلا إذا كانت عن إذعان ووازع نفسي. والذي أفهمه أن الاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الإجابة، فإذا كان «استجاب له » بمعنى أجاب دعاءه أو سؤاله – فمعنى استطاعه أطاعه، أي انقاد له وصار في طوعه أو طوعا له. والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيهما وهو الطلب، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف. فأصل استطاع الشيء- طلب وحاول أن يكون ذلك الشيء طوعا له فأطاعه وانقاد له، ومعنى استجاب – سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب.
فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين أن يستطيع هنا بمعنى يطيع، وأن معنى يطيع يفعل مختارا راضيا غير كاره، فصار حاصل معنى الجملة هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك ؟ والمائدة في اللغة الخوان الذي عليه الطعام، فإذا لم يكن عليه طعام العيد لا يسمى مائدة، وقد يطلق لفظ المائدة على الطعام نفسه حقيقة أو مجازا من إطلاق اسم المحل على الحال، وهو اسم فاعل من ماد بمعنى تحرك أو من ماد أهله بمعنى نعشهم كما في الأساس أي أعاشهم وسد فقرهم، كأنها هي تميد من يجلس إليها ويأكل منها وقيل إنها بمعنى اسم المفعول على حد : عيشة راضية.
﴿ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( ١١٢ ) ﴾ أي قال عيسى لهم اتقوا الله أن تقترحوا عليه أمثال هذه الاقتراحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى لئلا تكون فتنة لكم فإن من شأن المؤمن الصادق الإيمان أن لا يجرب ربه – أو أن يعمل ويكسب ولا يطلب من ربه أن يعيش بخوارق العادات، وعلى غير السنن التي جرت عليها معايش الناس. أو المعنى : اتقوا الله وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عسى أن يعطيكم ذلك، من باب قوله تعالى :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ].
﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ١٠٩ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ١١١ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ١١٢ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ١١٣ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ١١٤ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين١١٥ ﴾
بينا في أول تفسير الآيتين ٩٠ و ٩١ من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
﴿ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ( ١١٣ ) ﴾ أي نطلبها لأربعة فوائد : إحداها : إننا نريد أن نأكل منها لأننا في حاجة إلى الطعام ولا نجد ما يسد حاجتنا، وقيل المراد أكل التبرك. الثانية : نريد أن تطمئن قلوبنا بما نؤمن به من قدرة الله بمشاهدة خرقه للعادة، أي بضم علم المشاهدة واللمس والذوق والشم إلى علم السمع منك وعلم النظر والاستدلال. الثالثة : أن نعلم هذا النوع من العلم – أي علم المشاهدة – أن الحال والشأن معك هو أنك قد صدقتنا ما وعدتنا من ثمرات الإيمان، كاستجابة الدعاء ولو بخوارق العادات. الرابعة : أن نكون من الشاهدين على هذه الآية عند بني إسرائيل فيؤمن المستعد للإيمان ويزداد الذين آمنوا إيمانا. – فهذا ما نراه في توجيه أقوالهم، على المختار من صحة إيمانهم.
﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ١٠٩ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ١١١ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ١١٢ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ١١٣ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ١١٤ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين١١٥ ﴾
بينا في أول تفسير الآيتين ٩٠ و ٩١ من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
﴿ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ( ١١٤ ) ﴾ أي لما علم عيسى عليه السلام صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزا ولا تجربة دعا الله تعالى بهذا الدعاء، فناداه باسم الذات الجامع لمعنى الألوهية والقدرة والحكمة والرحمة وغير ذلك فقال :«اللهم » ومعناه يا الله، ثم باسم الرب الدال على معنى الملك والتدبير والتربية والإحسان خاصة، فقال :«ربنا » أي يا ربنا ومالكنا كلنا ومتولي أمورنا لأمر بينا، أنزل علينا مائدة سماوية، جثمانية أو ملكوتية، يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم، وتتغذى بها أبدانهم أو أرواحهم، ولو لم يقل من السماء لشمل الطلب إعطاءهم مائدة من الأرض ولو بطريقة عادية، فإن كل ما يعطى من الله تعالى يسمى إنزالا لتحقق معنى العلو المطلق غير المقيد بجهة من الجهات لله سبحانه فإنه هو العلي القاهر فوق عباده.
ثم وصف عيسى عليه السلام هذه المائدة بما أحب أن يستفاد من إنزالها فقال في وصفها «تكون لنا عيدا » أي عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا، أو تكون كرامة ومتاعا لنا في عيدنا. ثم قال :«لأولنا وآخرنا » وهو بدل من قوله :«لنا » الذي ذكر أولا لإفادة الحصر والاختصاص، أي عيدا لأول من آمن منا وآخر من آمن، والمتبادر أنه أراد بأولهم من كان آمن عند ذلك الدعاء وبآخرهم من يؤمن بعد نزول المائدة ممن يشهد لهم من شهدها وغيرهم، ويحتمل على بعد أن يراد أول جماعته الحاضرين معهم إيمانا وآخرهم، وروي أن المعنى يأكل منها آخر القوم كما يأكل أولهم أو كافية للفريقين.
وكلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور، وبمعنى الموسم الديني أو المدني الذي يجتمع له الناس في يوم معين أو أيام معينة من السنة للعبادة أو لشيء آخر من أمور الدنيا، ولذلك قال السدي في تفسير العبارة : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثوري : يعني يوما نصلي فيه. وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه عظة لنا ولمن بعدنا، ويصح أن يسمى طعام العيد عيدا على سبيل المجاز كما أشرنا إليه آنفا وقوله :«وآية منك » معناه وتكون آية وعلامة منك على صحة نبوتي ودعوتي، ولعل المراد بنص قوله :«منك » – مع العلم بأن كل شيء منه تعالى ولا سيما الآيات – النص على أن الآيات إنما تكون من الله وحده، أو أن تكون المائدة من لدنه تعالى بغير واسطة منه عليه السلام تشبه السبب كالآيات السابقة.
ومما نقل عنه وعن نبينا عليهما الصلاة والسلام إطعام العدد الكثير من الطعام القليل بخلق الله الزيادة فيه، وروي عن نبينا أيضا إسقاء العدد الكثير من الماء القليل إذ وضع يده فصار يزيد ويفور من بين أصابعه. فأمثال هذه الآيات – وإن كانت من الله ككل شيء – تحصل بما يشبه الأسباب، وفيها مجال لاشتباه المرتاب، لأن كل من يأخذ من ذلك الطعام أو الماء فإنما يأخذ من شيء كان موجودا وهو لم يشاهد حدوث الزيادة فيه. وينقل الناس مثل هذا عن غير الأنبياء من الصالحين كالسحرة والمشعوذين، وقد كان معروفا في بني إسرائيل، ولذلك وصف الحواريون المائدة بما وصفوها به، وقال هو «وآية منك » لتوافق مطلوبهم فلا يقترحوا شيئا آخر، وإنني أذكر حكايتين عن بعض المعاصرين توضح ما أريد :
حدثني الثقة أن بعض رجال العلم والدين عاد مريضا من الرجال المعتقدين المشهورين بالكرامات فأقام عنده في حجرة النوم ساعة وكان قد نقه، ثم أراد الانصراف فآلى عليه أن يتعشى معه، ثم دعى بالخوان فنصب ولم يوضع عليه شيء من الطعام، فجلس إليه الشيخان وصار المزور يقترح على الزائر أن يذكر ما يشتهي من ألوان الطعام وكلما ذكر شيئا مد المزور صاحب الدار يده فأخرج صحنا من تحت كرسي أو أريكة بجانبه مملوءاً بذلك اللون وهو سخن يتصاعد بخاره، حتى ذكر عدة ألوان لا تناسب بينها ولم تجر عادة البلد بالجمع بينها، وأبعد من ذلك أن تكون طبخت ووضعت تحت ذلك الكرسي وبقيت على حرارتها كل تلك المدة. فأمثال هذه الحكاية يعدها بعض من ثبتت روايتها عنده من الخوارق، ويعدها بعضهم من الشعوذة والحيل التي اكتشف مثلها وهو موضوع الحكاية الثانية :
حدثني شيخ من كبار شيوخ الطريق والمناصب العلمية بواقعة وقعت لوالده – وكان معتقدا محترما – مع رجل غريب جاء مدينتهم وظهر على يديه عدة غرائب عدت من الكرامات، وقال : إن والده أخذ هذا الرجل مرة وطاف به في ضواحي البلد مدة طويلة انتهوا في آخرها إلى المقبرة التي دفن فيها أجدادهم فزاروا قبورهم واستراحوا هنالك وشكوا ما عرض لهم من الجوع بطول المشي، فأظهر والد محدثي للشيخ الغريب أنه يمكنهم أن يستضيفوا أجداده السادة الكرام، ثم نادى أحدهم واستجداه ودس يده في تراب قبره فأخرج منه صحفة فيها عدة مكرَّشات ( كروش غنم مطبوخة وهي محشوة بالرز واللحم والصنوبر )، فأكلوا منها فإذا هي حارة، وقد استطابها الرجل الغريب جدا حتى توهم أنها ليست من طعام الدنيا. ولا أذكر أكان اختيار هذه الأكلة وإخراجها باقتراح الرجل نفسه أم باقتراح غيره وإنما أظن ظنا قويا أنها اقترحت.
قال محدثي : وسر هذه المسألة أن والدي أمر قبل خروجه بأن تطبخ عندنا هذه الكروش ويأخذها أحد الخدم أو المريدين ( الشك مني ) فيدفنها في ذلك القبر في صحفة مغطاة بحيث تبقى سخنة ولا يصيبها تراب، وإنما فعل ذلك لاختبار الرجل وحمله إياه على مكاشفته بحقيقة ما يعمله من الغرائب في مقابلة إخباره إياه بسر هذه المسألة، ولا أتذكر ما كان من أمرهما بعد ذلك فإنني سمعت هذه القصة في أوائل العهد بطلب العلم.
فأمثال هذه الوقائع التي يعهدها الناس في كل زمان ويعلمون أن منها ما هو حيل أو صناعة تتلقى بالتعليم والتمرين – هي التي حملت بعض الناس على الشك والارتياب في آيات الأنبياء، وبعضهم على تسميتها سحرا مبينا، وبعضهم على التثبت فيها للتفرقة بين الحق والباطل، وهو ما طلبه الحواريون لأجل تحصيل العلم اليقيني الذي تطمئن به قلوبهم وتقوم به حجتهم على غيرهم، على ما اخترناه مع الجمهور من صحة إيمانهم قبل طلب المائدة أو لأجل تحصيل اليقين في الإيمان بعد التسليم في الظاهر كما اختار الزمخشري وغيره، ولهذه الحكمة جعل الله تعالى الآية الكبرى لرسالة خاتم رسله صلى الله عليه وسلم علمية حتى لا يبقى مجال لارتياب أحد من طلاب الحق المخلصين فيها. وهي إتيان رجل أمي عاش بين الأميين إلى سن الكهولة بكتاب فيه أعلى العلوم الإلهية والأدبية والاجتماعية والشرعية وأخبار الأمم والأنبياء السابقين الذين لم يقرأ هو ولا قومه عنهم شيئا وغير ذلك من أخبار الغيب التي ظهر صدقها في زمنه وبعد زمنه، ببلاغة عجز البلغاء عن مثلها وأسلوب أشد إعجازا، كما تقدم شرحه في تفسير سورة البقرة..
وأما قوله عليه السلام :﴿ وارزقنا وأنت خير الرازقين ( ١١٤ ) ﴾ فمعناه وارزقنا منها أو من غيرها ما تتغذى به أجسامنا أيضا وأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بحساب، وترزق من تشاء بغير حساب. ومن محاسنه أنه أخر ذكر فائدة المائدة المادية عن ذكر فائدتها الدينية الروحية، أو معناها وارزقنا الشكر عليها، وربما يقويه إنذار الله من يكفر بعد إنزالها إذ قال :﴿ قال الله إني منزلها عليكم ﴾.
﴿ *يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ١٠٩ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ١١٠ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ١١١ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ١١٢ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ١١٣ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ١١٤ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين١١٥ ﴾
بينا في أول تفسير الآيتين ٩٠ و ٩١ من هذه السورة وجه الاتصال والترتيب بين مجموع آياتها وطوائفها من أولها إلى هذا السياق الأخير منها وهو يتعلق بمحاجة أهل الكتاب عامة، والنصارى منهم خاصة، وفيه ذكر المعاد والحساب والجزاء الذي ينتهي إليه أمر المختلفين في الدين، وأمر المؤمنين المخاطبين بالأحكام التي سبق بيانها، وهذا هو وجه المناسبة والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها مباشرة من آيات الأحكام.
﴿ قال الله إني منزلها عليكم ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم ونافع منزلها بالتشديد من التنزيل المفيد للتكثير أو التدريج، والباقون منزلها بالتخفيف من الإنزال، وقيل إنهما هنا بمعنى واحد. أي وعد الله عيسى بتنزيلها عليهم مرة أو مرارا، ولكنه رتب على هذا الوعد شرطا أي شرط، فقال :﴿ فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ( ١١٥ ) ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، مثل ﴿ إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر ﴾ [ الكوثر : ١، ٢ ] و المعنى أن من يكفر منهم بعد هذه الآية التي اقترحوها على الوجه الذي لا يحتمل الاشتباه ولا التأويل فإن الله تعالى يعذبه عذابا شديدا لا يعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين كلهم أو عالمي أمتهم الذين لم يعطوا مثل هذه الآية. وإنما يعاقب الخاطئ والكافر بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر، والبعد فيه عن الشبهة والعذر، وما أعطي من موجبات الشكر، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله ثم يقترح آية بينة على وجه مخصوص تشترك في العلم بها جميع حواسه، وينتفع بها في دنياه قبل آخرته، فيعطى ما طلب أو خيرا منه ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين ؟
وقد اختلف مفسرو السلف في المائدة أنزلت بالفعل أم لا ؟ فروي عن بعضهم أنها نزلت، واختلف هؤلاء في الطعام الذي نزل – أي أعطي على وجه المعجزة من الله – فأبهمه بعضهم، وقيل هو خبز وسمك، وصرح بعضهم بأن الخبز من الشعير، وقيل خبز ولحم، وقيل من ثمار الجنة، وقيل كل شيء إلا اللحم. وقيل كان ينزل عليهم طعام أينما ذهبوا كما كان ينزل المن على بني إسرائيل. ولا يصح من أسانيد هذه الروايات شيء، ولذلك رجح ابن جرير نزولها انجازا للوعد وأنه كان عليها مأكول لا نعينه، بل قال غير جائز أن يكون سمكا وخبزا، وقال إن العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر. ونقول إذا إنه يصدق بمثل ما كان ينزل على بني إسرائيل في التيه من المن الذي يجمعونه عن الحجارة وورق الشجر، وعبارة ابن عباس عند ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد من طريق عكرمة : كان طعاما ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا، ويصدق بما يأتي عن إنجيل يوحنا من إطعام الألوف في عيد الفصح من خمسة أرغفة وسمكتين أكل منها أول ذلك الجمع كآخره.
وقال آخرون إنها لم تنزل البتة قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : وقال قائلون إنها لم تنزل، فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله :«أنزل علينا مائدة من السماء » قال هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. قال ابن جرير : حدثنا القاسم – هو ابن سلام – حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام، وعنه قال : أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا فأبوا أن تنزل عليهم. وقال أيضا : حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل. وحدثنا بشر حدثنا يزيد وحدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول لما قيل لهم :﴿ فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ﴾ قالوا لا حاجة لنا فيها فلم تنزل. وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن. وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله وكان يكون موجودا في كتابهم بالتواتر ولا أقل من الآحاد والله أعلم. اه ثم ذكر الحافظ رأي الجمهور وترجيح ابن جرير له.
وذكر الرازي أن الذين قالوا بنفي نزولها احتجوا عليه بوجهين ذكرهما وأجاب عنهما فقال : أحدهما : أن القوم لما سمعوا قوله :﴿ أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ( ١١٥ ) ﴾ استغفروا وقالوا لا نريدها والثاني : أنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة. وبعد ذكر قول الجمهور بنزولها لوجوب إنجاز الوعد الجازم غير المعلق قال – والجواب عن الأول أن قوله «فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه » شرط وجزاء لا تعلق له بقوله :«إني منزلها عليكم » والجواب عن الثاني أن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم اه.
أقول : أما جوابه عن الحجة الأولى ففي غير محله لوجهين أحدهما : أنها عبارة عن خبر إن صح لا ترد صحته بكون جملة الوعيد الشرطية غير متعلقة بجملة الوعد، إلا إذا قاله هذان التابعيان الجليلان من قبيل التفسير بالرأي، والأقرب أن له عندهما أصلا مرفوعا، فالأولى أن يحمل على وجه يتفق مع صدق الوعد، وهو الوجه الثاني : وذلك بأن يقال إن جملة الوعيد مرتبة على جملة الوعد لعطفها عليها بالفاء كما بيناه آنفا، وهذا الترتيب كاف لحمل الحواريين على ترك طلبها بل طلب الاستقالة من إنزالها. وما كان مثل الحسن ومجاهد وقتادة من أئمة التفسير ليخفى عليهم أن الوعد غير معلق بشرط وأنه إنما جعل الوعيد مرتبا عليه ترتيبا، ولكنهم رأوا أن هذا سبب كاف في عدم معارضة الوعد لما رووه من تنصل القوم واستقالتهم من ذلك الطلب وإقالة الله إياهم منه. وحينئذ لا يكون عدم إنزالها إخلافا للوعد، فإن من وعد غيره بشيء وأراد أن ينجزه له مرتبا عليه تكليفا أو تخويفا حمل الموعود على عدم القبول لا يسمى مخلفا.
وأما جوابه عن الحجة الثانية فهو دعوى تحتاج إلى إثبات إذ لا يثبت أنه كان عند أتباع المسيح عيد للمائدة إلا بنص عن المعصوم أو نقل يعتد به من تاريخهم. وسيأتي ما عند النصارى من ذلك وأنه ليس بعيد ليوم نزول المائدة والظاهر أن الرازي لم يطلع عليه، ومنه يعلم ما في قول الحافظ ابن كثير : إن النصارى لا تعرف خبر المائدة وإنه ليس في كتابهم المقدس عندهم. نعم إن كتابهم أو كتبهم ليس لها أسانيد متصلة لا بالتواتر ولا بالآحاد. ولكن يقال مع ذلك أنه لو كان لسلفهم عيد عام للمائدة لكان من الشعائر التي تتوفر الدواعي على نقلها بالقول والعمل. ويجاب بأنه يجوز أن يكون المراد بالعيد اجتماع الحواريين وأمثالهم لصلاة ونحوها كما قيل، فإن هذا يجوز أن ينسى لإخفائهم إياه في زمن الاضطهاد، أو بأن الذين أظهروا النصرانية بعد استخفاء أهلها بالاضطهاد لا يدخلون في عموم قوله ( وآخرنا ) لأنهم بدلوا وهو الذي أجاب به الرازي، أو بأن المراد بالعيد الذكرى والموعظة لمؤمنيهم المتبعين له عليه السلام كما تقدم عن سلمان رضي الله عنه.
ويجوز أيضا أن يكون العيد بغير اسم المائدة، وأن يكون معنى قوله :«تكون لنا عيدا »- تكون طعاما للعيد. وهو يصدق بإطعامه العدد الكثير من الخبز والسمك القليل في عيد الفصح كما يأتي قريبا. ثم إن كتب النصارى من الأناجيل وغيرها قسمان أحدهما قانوني وهو ما أقرته الكنيسة واعتمدته، والثاني غير قانوني وهو ما رفضته الكنيسة ولم تعتمده، ومنه إنجيل برنابا الذي صرح فيه بالتوحيد الخالص والبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنجيل الطفولية الذي ذكر فيه مسألة جعله هيئة من الطين كهيئة الطير نفخ فيها فطارت، فيجوز أن يكون خبر هذه القصة في بعض الأناجيل التي رفضتها الكنيسة وفقدت بعد ذلك، وقد صرح يوحنا في إنجيله بأن الآيات التي عملها المسيح كثيرة لو كتبت كلها لا يسع العالم الكتب المكتوبة – وأننا نرى بعض أصحاب الأناجيل الأربعة المعتمدة كتب منها ما لم يكتبه الآخرون.
وقد صرحوا بأن أكثر كلام المسيح كان أمثالا ورموزا، ويعدون من هذه الرموز كل ما ورد من خبر الأكل والشرب في الملكوت وكذلك بعض النصوص في الأكل والشرب في الدنيا. فما يدرينا أنهم أشاروا إلى هذه القصة ببعض التأويلات حسب فهمهم واعتقادهم إذ كانوا ينقلون ذلك بالمعنى ثم نقل عنهم بالترجمة وقد فقدت الأصول ولا يعلم عنها شيء يقيني كما بينا ذلك من قبل بالنقول عنهم.
وأنا أذكر هنا ما في هذه الأناجيل بمعنى قصة المائدة : جاء في أول الفصل السادس من إنجيل يوحنا أن المسيح عليه السلام ذهب إلى بحر الجليل ( بحيرة طبرية ) وتبعه خلق كثير لأنهم رأوا آياته، فصعد إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه – وهم الحواريون – قال يوحنا :«* ٤- وكان الفصح عيد اليهود قريبا* ٥- فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء*٦- وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل* ٧- أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا*٨- قال له واحد من تلاميذه وهو اندراوس أخو سمعان بطرس*٩- هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء* ١٠- فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون، وكان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال وعددهم خمسة آلاف * ١١- وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ على المتكئين، وكذلك كل من السمكتين بقدر ما شاءوا ».
ثم بين أن المسيح عاتب التلاميذ على الشبع من ذلك الخبز وقال :«* ٢٧- اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي، للحياة الأبدية التي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد ختمه * ٢٨- فقالوا له ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله * ٢٩- أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله * ٣٠- فقالوا له فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك، ماذا تعمل * ٣١- آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزا من السماء ليأكلوا * ٣٢- فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء * ٣٣- لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم * ٣٤- فقالوا أعطنا في كل حين هذا الخبز * ٣٥- فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة من يقبل إلي فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا * ٣٦- ولكنني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون » الخ القصة وفيها تكرار أنه هو خبز الحياة النازل من السماء لا المن الذي نزل على أجدادهم، وأن من يأكل جسده ويشرب دمه فله الحياة الأبدية لأنه يثبت فيه.
فهذه القصة أولها يشير إلى المائدة الجسدية، وآخرها يشير إلى المائدة الروحية، وهي قد وقعت في عيد الفصح المتفق عليه عند اليهود والنصارى إلى اليوم، ولا يزال النصارى يحتفلون به ويأكلون فيه خبزا ويشربون خمرا باسم المسيح ويسمونه العشاء الرباني. فهذا دليل على أن لهذه الآية أصلا عندهم، ونحن نعتقد أن القرآن مهيمن على كتبهم فما حكاه عن أنبيائهم فهو الحق اليقين، وما نفاه فهو المنفي الذي لا يقبل الثبوت، ومن الغريب أن يوحنا يثبت هنا أن التلاميذ قالوا للمسيح بعد ما رأوا إطعامه العدد الكثير من الطعام القليل : أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك، وأنه قال لهم : إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون. فهذا يوافق قول من قال إنهم سألوا المائدة امتحانا ولم يكونوا مؤمنين حقا كما ادعوا وهو ظاهر الآيتين هنا، وإنما استدللنا على صحة إيمانهم بتسميتهم حواريين، وبما في آل عمران والصف، على أنه حكاية عنهم أيضا. والله أعلم بالسرائر.
﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوم ١١٦ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ١١٧ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ١١٨ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ١١٩ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير١٢٠ ﴾
اتصال هذه الآيات بما قبلها جلي ظاهر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله تعالى :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك ﴾ الخ والمعنى : اذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل فيسألهم جميعا عما أجابتهم به أممهم إذ يقول لعيسى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك الخ وإذ يقول له بعد ذلك : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ أي يسأله : أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم ؟
ومعنى قوله :«من دون الله » كائنين من دون الله – أو حال كونكم متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة. فهذا التعبير يصدق باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك، فإن عبادة الشريك المتخذ غير عبادة الله خالق السموات والأرض، سواء اعتقد المشرك أن هذا المتخذ ينفع ويضر بالاستقلال – وهو نادر – أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب، أو بالوساطة عند الله أي بحمله تعالى بما له التأثير والكرامة على النفع والضر، وهو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة كما حكى الله عنهم في قوله :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] وقوله :﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] الخ – وقلما يوجد في البشر المتدينين من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره، فإن الإيمان الفطري المغروس في غرائز البشر هو أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك أحد كنهها، فالموحدون أتباع الرسل يتوجهون بعباداتهم القولية والفعلية إلى صاحب هذه القوة الغيبية وحده، معتقدين أنه هو الفاعل المطلق وحده، وأن كل فعل ينسب إلى غيره فإنما ينسب إليه كذبا أو على أنه فعله بإقدار الله إياه عليه وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه، التي قام بها نظام الأسباب والمسببات بمشيئته وحكمته، والمشركون يتوجهون تارة إليه وتارة إلى بعض ما يستكبرون خصائصه من خلقه، كالشمس والنجم، وبعض مواليد الأرض، وتارة يتوجهون إليهما معا فيجعلون الثاني وسيلة إلى الأول.
ومن يشعر بسلطة غيبية تتجلى له في بعض الخلق فهو يخشى ضرها ويرجو نفعها، ولا يمتد نظر عقله ولا شعور قلبه إلى سلطة فوقها، ولا يتفكر في خلق هذه الأكوان، فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، فلا يعد من العقلاء المستعدين لفهم الشرائع وحقائق الدين، على أنه يصدق عليه أنه اتخذ إلها من دون الله، ولكن هذا النوع من الاتخاذ غير مراد هنا لأن الذين شرعوا للناس عبادة المسيح وأمه كانوا من شعوب مرتقية حتى في وثنيتها، ولها فلسفة دقيقة فيها، وهم اليونان والرومان، وبعض اليهود المطلعين على تلك الفلسفة جد الاطلاع. وجملة القول أن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء كانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره، ولو بدعاء غيره والتوجه إليه ليكون واسطة عنده ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾ [ البينة : ٥ ].
أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم بيانه في مواضع من تفسير هذه السورة، وأما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون.
إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح ( عليهما السلام ) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء، واستغاثة واستشفاع، ومنها صيام ينسب إليها، ويسمى باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها، التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا نعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة ( إله ) عليها، بل يسمونها ( والدة الإله ) ويصرح بعض فرقهم بأن ذلك حقيقة لا مجاز، والقرآن يقول هنا إنهم اتخذوها وابنها إلهين، والاتخاذ غير التسمية، فهو يصدق بالعبادة وهي واقعة قطعا، وبين في آية أخرى أنهم قالوا :﴿ إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم ﴾ وذلك معنى آخر وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا.
وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب ( السواعي ) من كتب الروم الأرثوذكس، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى ( دير البلمند ) وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم. وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به. وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم ( المشرق ) بصورتها وبالنقوش الملونة، إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع أن مريم البتول «حبل بها بلا دنس الخطية » وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية، ومنه قول «الآب لويس شيخو » في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية «إن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور » وقوله :«قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتول المغبوطة أم الله »١.
من يسمع أو يقرأ سؤال الله تعالى لعيسى عن عبادة الله له ولأمه تتوق نفسه إلى معرفة جوابه عليه السلام، وتتوجه إلى السؤال والاستفهام، فلذلك جاء كأمثاله بأسلوب الاستئناف ﴿ قال سبحانك ﴾ بدأ عليه السلام جوابه بتنزيهه إلهه وربه عز وجل عن أن يكون معه إله، خلافا لمن قال إن التنزيه هنا إنما هو عن ذلك القول المسؤول عنه، فذهب إلى أن معنى الجملة : أنزهك تنزيها لائقا من أن أقول ذلك، أو من أن يقال ذلك في حقك، وظن أن هذا هو الذي يقتضيه سياق النظم، وستعلم ما فيه من الضعف، وأن ما اخترناه هو الحق.
وكلمة «سبحان » قيل إنها علم للتسبيح، وقيل إنها مصدر للتسبيح الثلاثي كالغفران، واستعملت مضافة باطراد إلا ما شذ في الشعر، والتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وهو من مادة السبح والسباحة وهي الذهاب السريع البعيد في البحر أو البر، ومن الثاني سبح الخيل وقالوا فرس سبوح ( كصبور ) ومثله التقديس من القدس وهو الذهاب البعيد في الأرض، ثم استعمل التسبيح والتقديس في التنزيه. قالوا : إن التسبيح يدل على الإبعاد ولكن عن كل شر وسوء، ولذا خص بتنزيه الله تعالى، ويقابله اللعن فهو يدل على الإبعاد ولكن عن كل خير، وكذلك لفظ الإبعاد والبعد غلب استعماله في مقام الشر ؛ ﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ [ هود : ٦٠ ] ﴿ أولئك في ضلال بعيد ﴾ [ إبراهيم : ١٤ ].
قال الراغب : والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المر السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير، كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل أبعده الله، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا كان أو فعلا أو نية. اه ثم أورد الشواهد من الآيات على إطلاق التسبيح بمعنى الصلاة وبمعنى الدلالة على التنزيه كتسبيح السموات والأرض وما فيهما. والمراد بتسبيح النية العلم والاعتقاد. وفي كلمة «سبحانك » – ومثلها سبحان الله – مبالغة في هذا التنزيه أي مبالغة، إذ تدل على المبالغة بمادتها الدالة بمأخذها الاشتقاقي على البعد والايغال والسبح الطويل في هذا البحر المديد الطويل، وبصيغتها الأصلية وهي التسبيح – التي هي مسمى اسم المصدر ( سبحان ) ومدلوله – فإن التفعيل يدل على التكثير، ثم بالعدول عن هذه الصيغة التي هي مصدر إلى الاسم الذي جعل علما عليها – على قول ابن جني – فإن اسم المصدر يدل على تأكيد معنى المصدر وثباته وحقيقته، لأن مدلوله هو لفظ المصدر، فانتقال الذهن منه إلى المصدر ومن المصدر إلى المعنى بمنزلة تكرار لفظ المصدر، بل هو أبلغ منه وأدل على إرادة الحقيقة دون التجوز، ولم أر أحدا سبقني إلى بيان هذا على كونه في غاية الظهور عند من تأمله [ ومن شدة الظهور الخفاء ].
قلنا إن عيسى عليه السلام بدأ جوابه بتنزيه الله عز وجل عن أن يكون معه إله، فأثبت بهذا أنه على علم يقيني ضروري بأن الله تعالى منزه في ذاته وصفاته عن أن يشارك في ألوهيته، وانتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق، عن قول ما ليس له بحق، فقال :﴿ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ أي ليس من شأني ولا مما يصح وقوعه مني أن أقول قولا ليس لي أدنى حق أن أقوله، لأنك أيدتني بالعصمة من مثل هذا الباطل. ولا يخفى أن هذا أبلغ في البراءة من نفي ذلك القول وإنكاره إنكارا مجردا، لأن نفي الشأن يستلزم نفي الفعل نفيا مؤيدا بالدليل، فهو بتنزيه الله تعالى أولا أثبت أن ذلك القول الذي سئل عنه – تمهيدا لإقامة الحجة على من اتخذوه وأمه إلهين – قول باطل ليس فيه شائبة من الحق، ثم قفى على ذلك بأنه ليس من شأنه ولا مما يقع من مثله أن يقول ما ليس له بحق، فنتيجة المقدمتين الثابتتين أنه لم يقل ذلك القول.
ثم أكد هذه النتيجة بحجة أخرى قاطعة على سبيل الترقي من البرهان الأدنى الراجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام، إلى البرهان الأعلى الراجع إلى ربه العلام، فقال :﴿ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾ أي إن كان ذلك القول قد وقع مني فرضا فقد علمته، لأن علمك محيط بكل شيء، تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه فعلمه مني غيري ؟ ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا تهديني إليها بنظر واستدلال كسبي، إلا ما تظهرني عليه بوحي وهبي. قيل إن إضافة كلمة نفس إلى الله تعالى من باب المشاكلة، على أنها وردت بغير مقابل يسوغ ذلك كقوله تعالى :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ] – ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ] وقيل إنها بمعنى الذات، والمهم فهم المعنى من هذا الإطلاق. وتنزيه الله تعالى عن مشابهة نفسه لأنفس خلقه معروف بالنقل والعقل، فاستشكال إطلاق الوحي للأسماء مع هذا ضرب من الجهل ﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾ أي إنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك لأن علمك المحيط بكل ما كان وما يكون وما هو كائن علم ذاتي لا منتزع من صور المعلومات، ولا مستفاد بتلقين ولا بنظر واستدلال، وإنما علم غيرك منك لا من ذاته، فإما أن يناله بما آتيته من المشاعر أو العقل، وإما أن يتلقاه مما تهبه من الإلهام والوحي، أي وقد علمت أني لم أقل ذلك القول. وشرط «أن » لا
١ إذا أردت نصا من نصوص بعض فرقهم على هذه العبادة وما يستدلون به على أصلها وحقيقتها عندهم على طريقتهم في الاستدلال من العهد العتيق على عقائدهم فتأمل ما نشر في العدد الرابع عشر من مجلد السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية بقلم «الأدب أنستاس الكرملي» وهو مقال موضوعه (أصل رهبانية الكرمل) فقد صرح فيه بأن لعبادة مريم العذراء أصلا في العهد العتيق، وجعل عنوان أول فصل من هذا المقال «قدم التعبد للعذراء» وذكر في أوله عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وفسر المرأة بالعذراء ثم قال: «ألا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم إيليا الحي فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والإبهام، إلى عالم الصراحة والتبيان» ثم فسر هذه الصراحة وهذا رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر، فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة أنه رأى سحابة قدر راحة الرجل طالعة من البحر. وقال (أي الكاتب للمقال) في تلك القزعة من السحاب: «فمن ذلك النشء (أول ما ينشأ من السحاب)؟ قلت إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل وصورة الحبل بلا دنس أصلي» الخ ثم قال «هذا هو أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، وهو يرتقي إلى المئة العاشرة قبل المسيح، والفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم» ثم قال «ولذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالإله يسوع بعد الرسل والتلامذة وأول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس والجسد» (المؤلف)..
ثم إنه بعد تنزيه ربه، وتبرئة نفسه، وإقامة البرهانين على براءته، بين حقيقة ما قاله لقومه، لأن الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة، بحيث تظهر لهم هنالك حجة الله البالغة، إلا بإثبات ما كان يجب أن يكونوا عليه من أمر الدين والتوحيد بعد نفي ضده، فكان من شأن السامع لما سبق من النفي أن يسأل عما قاله في موضوعه، ولذلك قال :﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴾ فهذا قول يتضمن إنكار أن يكون أمرهم باتخاذه وأمه إلهين وإثبات ضده، أي ما قلت لهم في شأن الإيمان وأصل الدين وأساسه الذي يبنى عليه غيره ولا يعتد بغيره دونه، إلا ما أمرتني بالتزامه اعتقادا وتبليغا وهو الأمر بعبادتك وحدك، مع التصريح بأنك ربي وربهم، وأنني عبد من عبادك مثلهم، أي إلا أنك خصصتني بالرسالة إليهم. فقوله :«أن اعبدوا الله » تفسير للمأمور به، وإنما قال : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، ولم يقل ما أمرتهم إلا بما أمرتني به، أدبا مع الله تعالى ومراعاة لما ورد في السؤال «أأنت قلت ».
﴿ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ﴾ أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون فأقر الحق وأنكر الباطل مدة دوام وجودي بينهم ﴿ فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ﴾ أي فلما توفيتني إليك كنت أنت المراقب لهم وحدك إذ انتهت مدة رسالتي فيهم ومراقبتي لهم وشهادتي عليهم، فلا أشهد على ما وقع منهم وأنا لست فيهم، وأنت شهيد عليهم وشهيد بيني وبينهم، بما أنك شهيد على كل شيء في ملكك، وأنت أكبر شهادة ممن تجعلهم شهداء من خلقك، ﴿ قل أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم ﴾ [ الأنعام : ١٩ ].
وقد مر في هذه السورة ما يزكي تبرئة عيسى عليه السلام لنفسه ويؤيد قوله هنا، وذلك قوله تعالى :﴿ لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم – وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ﴾ [ المائدة : ٧٥ ] فجملة «وقال المسيح يا بني إسرائيل » الخ حالية أي قالوا قولهم ذلك والحال أن المسيح أمرهم بضده، وهو أن يعبدوا الله وحده.
وفي أناجيلهم من بقايا التوحيد الذي أمرهم به ما رواه يوحنا في إنجيله عنه وهو قوله عليه السلام :«وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته » وفي إنجيل برنابا من تجريد التوحيد والاستدلال عليه بالآيات البينات ما هو جدير بأن يكون وحيا صحيحا من الله تعالى إلى رسوله عيسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان المراد من السؤال الذي أجيب عنه بهذا الجواب هو إقامة الحجة التي يظهر بها عدل الله تعالى يوم القيامة فيما يجزي به من اتخذ عيسى وأمه إلهين وغيرهم من قومه فوض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى بحسب ما تقتضيه شهادته تعالى وصفاته فقال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ أي إن تعذب أولئك الناس الذين أرسلتني إليهم فبلغتهم ما أمرتني به من توحيدك وعبادتك وحدك، فضل من ضل منهم، وقالوا ما لم أقله لهم، واهتدى من اهتدى منهم فلم يعبدوا معك أحدا من دونك، فإنهم عبادك وأنت ربهم الأولى والأحق بأمرهم، ولست أنا ولا غيري من الخلق بأرحم بهم، ولا بأعلم بحالهم، وإنما تجزيهم بحسب علمك بظواهرهم وبواطنهم، فأنت أعلم بالمؤمن الموحد، والمشرك المثلث، والطائع الصالح، والعاصي الفاسق، والمقر للكفر والفسق والمنكر لهما، وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، ولا تظلم أحدا مثقال ذرة. فالمراد إذا : إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب منهم. ولا يمنع إرادة هذا المعنى إطلاق الضمير الراجع إلى جملتهم فإنه ضمير الجنس الذي يصدق ببعض الأفراد، وهو لم يرد بصيغة من صيغ العموم. ولذلك أطلقه في المقابل. وهو قوله : وإن تغفر لهم الخ أي وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة منهم، فإنك أنت العزيز أي القوي الغالب على أمره، الحكيم في جميع تصرفه وصنعه، فيضع كل حكم وجزاء وفعل في موضعه. وهو أعلم بموضع العدل، وموضع الرحمة والفضل.
وهذا التوجيه أظهر من قول بعضهم إن تعذب من أشرك منهم فإنهم عبادك، وإن تعذب من آمن منهم فإنك أنت العزيز الحكيم. فإن هذا تعيين لمن يعذبه ومن يغفر له، ينافيه إطلاق ضمير الجنس في مقام التفويض الذي مهد له بالبراءة مما قالوه فيه وفي أمه، مخالفا لما بلغهم عن ربه، وإثبات أن الله تعالى هو الرقيب عليهم، والشهيد مدة وجودي بينهم وبعد وفاتي، وأنت الشهيد عليهم ولا شهادة أكبر ولا أصدق من شهادتك، فمهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك، إذ لا يوجد أحد أرحم منك بعبادك فيرحمهم أو يسألك أن ترحمهم، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ولا يمنع، ولا بتحويلك عن إرادتك فإنك أنت الحكيم الذي تضع كل شيء موضعه، فلا يمكن لأحد غيرك أن يرجعك عنه، بناء على أن غيره أولى منه. فمن ذا الذي يستطيع الاستدراك أو الافتيات عليك ؟
فهذا بيان ما يقتضيه التفويض المطلق إلى الله تعالى وحده، بل أقول إن في جزاء الشرط الأول إشارة إلى أن تعذيب من يظن المخلوقون أنهم يستحقون المغفرة إن وقع من الله فلا يكون إلا عدلا، لأنهم عباد الله المضافون إليه، ومن شأن هذه الإضافة أن تفيدهم مغفرة منه ورحمة، يدل على ذلك قوله تعالى :﴿ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ﴾ [ الزخرف : ٦٨ ] ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] وأمثالهما من الآيات التي أضيف فيها لفظ عباد إلى الله، فإذا وقع عليهم العذاب فلا بد أن يكون سببه الذي خفي عن المخلوقين عظيما، فالأدب التفويض – وفي جزاء الشرط الثاني إشارة إلى أن المغفرة إن أصابت من يظن المخلوقون أنه يستحق العذاب فلا تكون من الله تعالى إلا لغاية اقتضتها عزة الألوهية، وحكمة الربوبية، فلا عبرة بالظواهر التي تبدو للمخلوقين بالنسبة إلى علم علام الغيوب وحكمته ولا سيما في ذلك اليوم، فالواجب أن يفوض إليه الأمر كله، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء.
وبهذا تنجلي نكتة اختيار «العزيز الحكيم » هنا على «الغفور الرحيم » على خلاف المعروف من أسلوب القرآن في مراعاة مناسبة المقام في قرن الأسماء الإلهية بالأفعال والأحكام، كما تقدم بيانه في تفسير ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم ﴾ [ المائدة : ٣٨، ٣٩ ] فذكر عيسى عليه السلام لاسمي الله ﴿ العزيز الحكيم ﴾ في جزاء شرطية المغفرة كذكره لكلمة «عبادك » في جزاء شرطية التعذيب، كل منهما وقع في محله الذي تقتضيه البلاغة في مقام التفويض فكان حجة له، ولو أراد بكلامه الشفاعة والاسترحام لعكس، ولكل مقام مقال، ولولا هذا لكان كل منهما اعتراضا على الرب، أو تعريضا بحكمه جل وعز، وحاشا لعيسى عليه الصلاة والسلام من ذلك.
ولما غفل من غفل من المفسرين عن هذا مع تصريح بعضهم بأن الكلام في تفويض الأمر إلى الله تعالى استشكلوا العبارة، وحاروا فيما فهموه من دلالتها على جواز غفران الشرك، وطفقوا يتلمسون النكتة لترتيب الغفران على صفتي العزة والحكمة، دون ما يتبادر من ترتيبه على صفتي المغفرة والرحمة، واستنجدوا مذاهبهم الكلامية في ذلك فأنجدت مفسري الأشعرية، بما استطالوا به على مفسري المعتزلة، فقالوا إن المعنى : إن تعذبهم فإنهم عبيدك والمالك يتصرف بعبيده كما يشاء فلا يسأل ولا يعترض عليه وإن عذب أكملهم إيمانا وإسلاما وإحسانا، وقال بعضهم إن المراد فإنهم عبيدك الأرقاء في أسر ملكك، الضعفاء العاجزون عن الامتناع من عقابك، وإن تغفر لهم ما كان من شركهم وكفرهم وما يتبعه من سوء أعمالهم فإنك أنت القوي القادر على ذلك الحكيم فيه من حيث إن المغفرة مستحسنة لكل مجرم. قاله أبو السعود. وقال الآلوسي : والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة، لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول، بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم، وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، اه وظاهر هذا أن حكم الشرع في هذا الأصل من أصول الدين على خلاف المعقول، وليس كذلك. وأجاب الرازي عن الإشكال الموهوم بأربعة وجوه :
أحدها : إن ما ذكر في سؤال الله لعيسى بعلم منه إن قوما من النصارى حكوا عنه ما هو كفر – وحاكي الكفر ليس بكافر بل مذنب بكذبه في هذه الحكاية فلهذا المعنى طلب المغفرة له.
وهذا وجه أملاه عليه ما اعتاد من الجدل في الألفاظ وهو غافل عن حال من حكى الله عنهم ذلك القول، وهو أنهم يدعون ألوهية المسيح ويعبدونه ويعبدون أمه، وعن حال من حكوه هم عنه، وهو أنه رسول الله إليهم، وحكاية الشرك والكفر عن الرسول كفر في نفسه، ويستلزم إما الكفر بالرسول وإما الأخذ بما حكي عنه من الكفر ! !
الثاني : قوله «إنه يجوز – على مذهبنا – من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه. فذكر عيسى هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله وترك التعرض والاعتراض بالكلية، ولذا ختم الكلام بقوله :﴿ فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ يعني أنت قادر على ما تريد، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية. وقوله إن الله لا يغفر الشرك فنقول : إن غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة، قالوا لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب وليس في إسقاطه على الله مضرة، فوجب أن يكون حسنا. بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليه السلام اه بحروفه.
وهذا الوجه مخالف للمعقول والمنقول من نصوص القرآن وصحاح الأحاديث من عدة وجوه لا حاجة في هذا الموضع إلى تفصيلها وترجيح مذهب السلف وأهل الأثر بها على مذهب الأشاعرة في موضوع إثبات العدل والحكمة لله تعالى – لا عليه – وتنزيهه عن ضدهما، ولا إلى بيان كون العدل والحكمة لا يعقل أن يتحققا فيمن لا فرق في أفعاله بين الأضداد، بحيث يكون الضدان عنده في الحسن والعدل والحكمة سواء، ولكننا نقول : إن حاصل هذا الوجه أن عيسى عليه السلام يجيز ويستحسن الغفران للمشركين من قومه، بناء على أنه حسن معقول في نفسه، وأنه لا يوجد مانع يمنع منه في شرعه. وهذا يخالف نص قوله تعالى المتقدم في هذه السورة ﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم – وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ﴾ [ المائدة : ٧٢ ] ثم إن هذا الوجه يقتضي اختلاف دين الله الواحد، في هذا الأصل من أصول العقائد، وأن تكون ملة محمد صلى الله عليه وسلم أبعد من ملة عيسى عن رحمة الله ومغفرته ! والنصوص تدل على أنها أجدر من غيرها بهذه السعة، ومنها مسألة غفران الشرك لو كان مما يشرعه الله ويرضاه، لأن من جاء بها هو الذي خاطبه الله تعالى بقوله :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] وقال فيه إنه يضع عن اليهود والنصارى إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
وأما الوجه الثالث من أجوبته فمبني على جواز توبة من قالوا ذلك الكفر، وهو بديهي البطلان، ولو صح لقيل إن المعهود في القرآن أن تقرن المغفرة للتائبين بذكر المغفرة والرحمة لا بذكر العزة والحكمة.
وأما الوجه الرابع فهو مبني على ما روي عن السدي مخالفا للجمهور من أن هذا السؤال والجواب في الآيات كانا بعد رفع عيسى إلى السماء ( قال في تصويره ) : يعني إن توفيتهم على الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضا ذاك، وعلى هذا التقدير فلا إشكال اه.
وأقول : إن هذا الوجه أضعف من الوجه الذي قبله فجميع ما أورده الرازي من الوجوه ضعيف. وما كان ليخفى ضعفها بل سقوطها وبطلان كثير من مسائلها على ذكائه النادر، واطلاعه الواسع، لولا عصبية المذاهب. ولكن قوله في أثناء شرح الوجه الثاني : إن مقصد عيسى عليه السلام من كلامه تفويض الأمر إلى الله عز وجل هو الحق المبين، وقد هدانا الله تعالى إلى تفسيره وشرح نكتة البلاغة فيه بأوضح تبيين.
وقد علم مما بيناه أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه، ويؤيد هذا عدة أحاديث ( منها ) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وسلم ﴿ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] – الآية، وقول عيسى عليه السلام ﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ فرفع يديه وقال «اللهم أمتي أمتي » وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسله : ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال – وهو أعلم – فقال الله «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك »١ ( ومنها ) حديث ابن عباس في صحيح البخاري قال فيه :«ألا وإنه يجاء برجال من أمتي يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح ﴿ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم – إلى قوله الحكيم ﴾ [ المائدة : ١١٧، ١١٨ ] قال فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ». ٢ وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره بهذا المعنى زيادة «فأقول بعدا لهم وسحقا »٣ وقد ورد هذا المعنى في عدة أحاديث في
١ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٤٦..
٢ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٨، وتفسير سورة ٥، باب ١٤..
٣ أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٥، ومسلم في الجنة حديث ٥٨..
بعدما تقدم من تفويض عيسى أمر قومه إلى ربه عز وجل بتلك العبارة البليغة، في أثر تلك الأجوبة السديدة، تتوجه النفس إلى معرفة ما يقوله الرب في ذلك اليوم العظيم وتسأل عنه بلسان الحال أو المقال إن لم تسمعه وذلك قوله عز وجل :﴿ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ﴾ قرأ الجمهور «يوم » بالرفع وهو خبر هذا، أي قال الله تعالى : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم. وقرأه نافع بالنصب – وقيل البناء على الفتح – أي قال الله : هذا أي الذي قاله عيسى واقع أو كائن يوم ينفع الصادقين صدقهم. ثم بين هذا النفع بيانا مستأنفا فقال :﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ﴾ الجملة الأولى تقدم تفسيرها مرارا. وأما الجملة الثانية فهي بيان للنعيم الروحاني بعد ذكر النعيم الجثماني، فإن رضاء الله تعالى عنهم ورضاءهم عنه هو غاية السعادة الأبدية في نفسه، وفيما يترتب عليه من عطاياه تعالى وإكرامه، ومن كونهم يكونون ناعمين بذلك الإكرام مغتبطين به، إذ لا مطلب لهم أعلى منه فتمتد أعناقهم إليه، وتستشرف قلوبهم له حتى يتوقف رضاهم عليه، وأما كونه سعادة في نفسه فيعلم من حال كل من كان في كنف إنسان والد أو أستاذ أو قائد أو رئيس أو سلطان فإن علمه برضاه عنه يجعله في غبطة وهناء وطمأنينة قلب، ويكون سروره وزهوه بذلك على قدر مقام رئيسه الراضي عنه، على حد البيت الذي يتمثل به الصوفية :
قوم تخالجهم زهو بسيدهم والعبد يزهى على مقدار مولاه
على أن رضاء رؤساء الدنيا لا يستلزم رضاء المرؤوسين دائما، لأن منهم الظالمين الذين لا يوفون أحدا حقه وإن كانوا راضين عنه، ورضاء أكرم الأكرمين يستلزم رضاء من رضي هو عنه لأنه يعطيه أضعاف ما يستحق، وفوق ما يؤمل ويرجو، كما قال تعالى في سورة الم السجدة ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ [ السجدة : ١٧ ] ورضوانه تعالى فوق كل شيء كما قال في سورة التوبة بمعنى ما هنا ﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر، وهو الفوز العظيم ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
والفوز الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه. وقال الراغب : الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة. فمعناه مركب من سلب وإيجاب، كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ] وإطلاقه على الظفر بالمطلوب وحده- كما في الآية التي نفسرها وآية التوبة التي بمعناها وما يشابهها- مراعى فيه المعنى السلبي بالقرائن الحالية، كما يقال في الجيش الذي يغلب عدوه ويظفر بالغنائم منه : إنه فاز، وهو إذا نال مراده من هدم قلعة ودك حصن فهلك تحت أنقاضه فلا يقال إنه قد فاز. وإذا كان المهم في الفوز المعنى الإيجابي يعدى بالباء فيقال : فاز بكذا، وإذا كان المهم بيان المعنى السلبي يعدى بمن فيقال : فاز من الهلاك قال تعالى :﴿ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ﴾ [ أل عمران : ١٧٧ ] وإنما سميت الفلاة مفازة على سبيل التفاؤل لأنها مظنة الهلاك.
الإشارة في قوله تعالى :﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾ إلى كل من النعيمين الجثماني والروحاني اللذين يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة، وقيل إنه للثاني فقط، والأول أصح لأنه الأكمل، ولأن مثل هذا الإطلاق ورد في إثر إطلاق الجزاء بالجنة وحدها في آيتين من سورة التوبة غير الآية التي أوردناها آنفا، وفي إثر إطلاق الجزاء بالجنة مع النجاة من عذاب النار كما تراه في آخر سورة الدخان، وفي معناه ما في سورة المؤمن والحديد والصف والتغابن، فإن ذكر المغفرة فيها يتضمن معنى النجاة من عذاب النار. فنسأل الله الكريم الرحمن الرحيم، أن يجعلنا من أهل هذا الفوز العظيم، بفضله وإحسانه، وتوفيقنا لأسباب مرضاته.
ثم ختم جل جلاله هذه السورة بقوله ﴿ لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ﴾ وهو مناسب لما قبله مباشرة ومناسب لأن يكون ختاما لمجموع ما في هذه السورة. أما الأول فلما بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق في مقعد الصدق، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره. وأما الثاني فلما كان أكثر آيات هذه السورة في محاجة أهل الكتاب عامة، وبسط الحجج على بطلان أقوال النصارى في نبيهم خاصة، وسائرها في بيان أحكام الحلال والحرام، مع النص على إكمال الدين بالقرآن، وعلى وحدة الدين الإلهي واختلاف الشرائع والمناهج للأمم، - ولما كان كل من ذينك القسمين في الأصول والفروع قد تكرر فيه الوعد والوعيد، وقفى عليهما بذكر جمع الله تعالى للرسل يوم القيامة وسؤالهم عن التبليغ، وجواب أحدهم الدال على شهادتهم على أقوامهم بالحق وتفويض أمرهم إلى الله عز وجل-.
لما كان ما ذكر كما ذكر ناسب أن تختم هذه السورة ببيان كون الملك كله والقدرة كلها لله وحده، وأن ملك السموات والأرض وما فيهن لله وحده، كما يدل عليه تقدم الظرف- وهو خبر المبتدأ- وقد اختيرت كلمة «ما » في قوله «وما فيهن » على «من » الخاصة بمن يعقل، وهو الذي من شأنه أن يملك، لأن مدلولها أعم وأشمل، وللإشارة إلى أن يوم الجزاء الحق يستوي فيه من يعقل ومن لا يعقل، فلا يملك معه أحد شيئا، لا حقيقة ولا مجازا، ويدخل في ذلك المسيح وأمة اللذين عبدا من دون الله، فيتضمن الحصر والتعريض بعبادتهما، وبالاتكال على شفاعتهما، إذ الملك والقدرة لله وحده ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] وغاية الأمر أنهما من عباد الله المكرمين ﴿ وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا- سبحانه بل عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون* يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون* ومن يقل منهم : إني إله من دونه- فذلك نجزيه جهنم. كذلك نجزي الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٢٦ – ٢٩ ] صدق الله العظيم.
Icon