[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن.
فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها. وهي: «الله، والرب، والرحمن «١» » وبنيت السورة على الإلهية والربوبيّة والرحمة. ف إِيَّاكَ نَعْبُدُ مبنى على الإلهية. وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على الربوبيّة وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة. والحمد يتضمن الأمور الثلاثة: فهو المحمود في إلهيته، وربوبيته، ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده.
وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها. وتفرّد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة:
الثاني: أخذها من اسم «الله» وهو المألوه المعبود. ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث: من اسمه «الرحمن» فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. فمن أعطى اسم «الرحمن» حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه علم إنزال الغيث «١» وإنبات الكلأ «٢»، وإخراج الحب. فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب «٣». وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك.
الموضع الرابع: من ذكر «يوم الدين» فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه. والحجة إنما قامت برسله وكتبه.
وبهم استحق الثواب والعقاب. وبهم قام سوق يوم الدين. وسيق الأبرار إلى النعيم. والفجار إلى الجحيم.
الموضع الخامس: من قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإن ما يعبد به تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه. وعبادته: هي شكره وحبه وخشيته، فطري ومعقول للعقول السليمة. لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله. وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول، يستحيل
(٢) العشب رطبا كان أو يابسا.
(٣) يقال: دب يدب بالكسر دبا ودبيبا، وكل ماش على الأرض دابة.
الموضع السادس: من قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فالهداية:
هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة. ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق. وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إلى، وتزيينه في قلبه، وجعله مؤثرا له، راضيا به، راغبا فيه. هما هدايتان مستقلتان، لا يحصل الفلاح إلا بهما. وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا، وإلهامنا له، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرا وباطنا. ثم خلق القدرة لنا على القيام لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم. ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هاهنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين، فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا، من الحق أضعاف المعلوم. وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك. وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوته الحصر. ونحن محتاجون إلى الهداية التامة.
فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى- وهي آخر مراتبها- وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة. وهو الصراط الموصل إليها. فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم. وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط. فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطّرف،
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر.
الموضع السابع: من معرفة نفس المسؤول، وهو الصراط المستقيم.
ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعيّنه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم. فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه. فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين. وكلما تعوج طال وبعد. واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته. وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا.
والصراط: تارة يضاف إلى الله، إذ هو الذي شرعه ونصبه، كقوله تعالى: ٦: ١٥٣ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً وقوله: ٤٢: ٥٢ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: صِراطِ اللَّهِ وتارة يضاف إلى العباد، كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه. وهو المنسوب لهم. وهم المارون عليه.
الموضع الثامن: من ذكر المنعم عليهم، وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى الأقسام الثلاثة. لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق، أو جاهلا به. والعالم بالحق
والثانية: في سياقه مع النصارى.
وفي الترمذي وصحيح ابن حبّان: من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليهود مغضوب عليهم.
والنصارى ضالون» «١».
ففي ذكر المنعم عليهم- وهم من عرف الحق واتبعه- والمغضوب عليهم- وهم من عرفه واتبع هواه- والضالين- وهم من جهله-: ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة. لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود. وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة. وأضاف النعمة إليه، وحذف فاعل الغضب لوجوه.
أخرجه الترمذي برقم ٢٩٥٤ بلفظ: «واليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال».
وحذف الفاعل في مقابلتهما، كقول مؤمني الجن ٧٢: ١٠ وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ومنه قوله الخضر في شأن الجدار واليتيمين ١٨: ٨٢ فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما وقال في خرق السفينة ١٨: ٧٩ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ثم قال بعد ذلك وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي وتأمل قوله تعالى: ٢: ١٨٧ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وقوله: ٥: ٤ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وقوله: ٤: ٢٤ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ- ثم قال- وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ.
وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم. وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر. فكل الخلق في نعمه. وهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟.
فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان. ومطلق النعمة يكون للمؤمن والكافر، كما قال تعالى: ١٤: ٣٤ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
والنعمة من جنس الإحسان، بل هي الإحسان. والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر. والمؤمن والكافر. وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم: ١٦: ٥٣ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فأضيف إليه ما هو منفرد به. وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومجرى للنعمة. وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به
الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره، وتصغير شأنه، ما ليس في ذكر فاعل النعمة، من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره، ورفع قدره: ما ليس في حذفه. فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه، ورفع قدره، فقلت: هذا الذي أكرمه السلطان، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه. كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك: هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطي.
وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره. فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح. وهي الهدى ودين الحق. ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء. فهذا تمام النعمة. ولفظ «أنعمت عليهم» يتضمن الأمرين. وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين: الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان، والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه. فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال. فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم. وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم. فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلالة وغضب الله عليه.
فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام، واقتضاه أكمل اقتضاء، في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة، مع ذكر الفاعل في أهل السعادة، وحذفه في أهل الغضب. وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.
وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة، والغضب والضلال. فذكر
٢: ٥ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقوله:
٦: ٨٢ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ والأول كقوله تعالى: ٥٤:
٤٧ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وقوله: ٢: ٧ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله: ٢٠: ١٢٤ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى فهذا الهدى والسعادة. ثم قال:
٢٠: ١٢٥ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
فذكر الضلال والشقاء.
فالهدى والسعادة متلازمان. والضلال والشقاء متلازمان.
فصل
وذكر الصراط المستقيم منفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعيّنه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: ٦:
١٥٣ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فوحّد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة له.
وقال ابن مسعود: «خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّا، وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «١» »
وهذا لأن
١٥: ٤١ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قال الحسن معناه: صراط إليّ مستقيم. وهذا يحتمل أمرين: أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض، فقامت أداة «على» مقام «إلى» والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى. وهو الأشبه بطريق السلف. أي صراط موصل إلي وقال مجاهد «١» : الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرّج على شيء.
وهذا مثل قول الحسن وأبين منه. وهو من أصح ما قيل في الآية. وقيل:
«على» فيه للوجوب، أي عليّ بيانه والدلالة عليه. والقولان نظير القولين في آية النحل. وهي: ١٦: ٩ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر: أن السبيل القاصد- وهو المستقيم المعتدل- يرجع إلى الله، ويوصل إليه قال طفيل الغنوي:
مضوا سلفا، قصد السبيل عليهم... وصرف المنايا بالرجال تقلب
أي ممرنا عليهم، وإليهم وصولنا. وقال الآخر:
فهن المنايا: أيّ واد سلكته... عليها طريقي، أو عليّ طريقها
فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة «إلى» التي هي للانتهاء، لا أداة «على» التي هي للوجوب. ألا ترى أنه لما أراد الوصول
قال الأعمش: كنت إذا رأيت مجاهدا تراه مغموما، فقيل له في ذلك فقال:
أخذ عبد الله يعني ابن عباس بيدي ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي وقال لي: «يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»
مات مجاهد بمكة وهو ساجد سنة ثلاث ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. (انظر شذرات الذهب).
٣٠: ٢٣ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ٦: ١٠٨ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ وقال.
لما أراد الوجوب ٨٨: ٢٦ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ٧٥: ١٧ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
٦: ٣٨ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ونظائر ذلك؟.
قيل: في أداة «على» سر لطيف. وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى. وهو حق. كما قال في حق المؤمنين: ٢: ٥ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وقال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: ٢٧: ٧٩ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ والله عز وجل هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق. فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى. فكان في أداة «على» على هذا المعنى ما ليس في أداة «إلى» فتأمله، فإنه سريع بديع.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر «على» في ذلك أيضا. وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق، وعلى الهدى؟.
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى، مع ثباته عليه واستقامته إليه. فكان في الإتيان بأداة «على» ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والرّيب. فإنه يؤتي فيه بأداة «في» الدالة على انغماس صاحبه، وانقماعه «١» وتدسسه فيه، كقوله تعالى: ٩: ٤٥ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وقوله: ٦: ٣٩ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ وقوله: ٢٣: ٢٥ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ وقوله: ٤٢: ١٤ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وتأمل قوله تعالى:
٣٤: ٢٤ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فإن طريق الحق تأخذ
وفي قوله تعالى: ١٥: ٤١ قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قول ثالث. وهو قول الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله: ٨٩: ١٤ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كما يقال: طريقك علي، وممرك علي، لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك، ولا معجز. والسياق يأبى هذا، ولا يناسبه لمن تأمله. فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال: ١٥: ٣٩ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم، ولا طريق لي عليهم. فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير. وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم. فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط، لأنه صراط علي. ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط، ولا الحوم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله. فلا يصل عدو الله إلى أهله.
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل، ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين، أيهما أليق بالآيتين، وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف.
وأما تشبيه الكسائي له بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة. فتأمله، ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم علي، لمن لا يسلكه. وليست سبيل المهدّد مستقيمة. فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول البتة.
وأما من فسره بالوجوب، أي عليّ بيان استقامته والدلالة عليه. فالمعنى صحيح. لكن في كونه هو المراد بالآية نظر. لأنه حذف في غير موضع الدلالة. ولم يؤلف الحذف المذكور، ليكون مدلولا عليه إذا حذف. بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة. فإنه حذف مألوف معروف. حتى إنه لا يذكر
عليّ بيانه. المقدر في الآية، مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق. وأجلّ المعنيين وأكبرهما.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه يقول: وهما نظير قوله تعالى: ٩٢: ١٢، ١٣ إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى قال: فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى.
قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلا معنى الوجوب، أي علينا بيان الهدى من الضلال. ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا في هذا المعنى كالبغوي. وذكر في الحجر الأقوال الثلاثة.
وذكر الواحدي في بسيطة المعنيين في سورة النحل. واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث.
فصل
والصراط المستقيم، هو صراط الله. وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه، كما ذكرنا. ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم، وهذا في موضعين من القرآن: في هود والنحل، قال في هود: ١١: ٥٦ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وقال في النحل:
١٦: ٧٦ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع. ولا تنطق ولا تعقل، وهي كلّ على عابدها يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه. فكيف يسوونه في العبادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد. وهو قادر متكلم، غني. وهو على صراط مستقيم في
قال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
قلت: ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم. فإن دلالته بفعله وقوله، وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله. فلا يناقض قول من قال: إنه سبحانه على الصراط المستقيم.
قال: وقيل: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالعدل. وهو على صراط مستقيم.
قلت: وهذا حق لا يناقض القول الأول. فالله على الصراط المستقيم، ورسوله عليه. فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه. وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم، وهو الصنم الذي هو أبكم، لا يقدر على هدى ولا خير. وإمام الأبرار، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي يأمر بالعدل. وهو على صراط مستقيم.
وعلى القول الأول: يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار.
والقولان متلازمان. فبعضهم ذكر هذا. وبعضهم ذكر هذا وكلاهما مراد من الآية. قال: وقيل: كلاهما للمؤمن والكافر. يرويه عطية عن ابن عباس.
وقال عطاء: الأبكم أبيّ بن خلف، ومن يأمر بالعدل: حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون «١».
وأما آية هود: فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا. وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم. وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم- فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة: ٦: ١١٥ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا وأفعاله كلها مصالح وحكم، ورحمة وعدل وخير.
فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة، لخروج الشر عن الصراط المستقيم. فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟
وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام: «لبيك وسعديك، والخير كله بيديك والشر ليس إليك «١» »
ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: والشر لا يتقرب به إليك، أو لا يصعد إليك. فإن المعنى أجل من ذلك، وأكبر وأعظم قدرا. فإن من أسماؤه كلها حسنى. وأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها حكم، وأقواله كلها صدق وعدل: يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه، أو أفعاله أو أقواله. فطابق بين هذا المعنى وبين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله: ١١: ٥٦
«ألا كل شيء ما خلا الله باطل» فقال: صدقت، فلما قال: «وكل نعيم لا محالة زائل» قال: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، توفي في السنة الثانية للهجرة. (انظر شذرات الذهب).
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك عن انس ٢/ ٣٦٣.
فهكذا تكون المعرفة بالله، لا معرفة القدرية المجوسية، والقدرية الجبرية، نفاة الحكم والمصالح والتعليل. والله الموفق سبحانه.
فصل
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريد لسلوك طريق مرافقه فيها غاية العزة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرق، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم مع الذين أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له. وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه. وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم. فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلّون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين. وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم. وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم. فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لك مثلين، فليكونا منك على بال.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق: ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت
«اللهم اهدني فيمن هديت»
أي أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية أي قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك.
فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة، واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم.
فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم، وعلمني في جملة من علمته. وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
فصل
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجلّ المطالب ونيله أشرف المواهب: علّم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم. توسل إليه بأسمائه وصفاته. وتوسل إليه بعبوديته. وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء. ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه، والإمام أحمد والترمذي. أحدهما:
حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا يدعو، ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»
قال الترمذي: حديث صحيح «١». فهذا توسل إلى الله بتوحيده، وشهادة الداعي له بالوحدانية. وثبوت صفاته المدلول عليها باسم «الصمد» وهو كما قال ابن عباس «العالم الذي كمل علمه، القادر الذي كلمت قدرته» وفي رواية عنه «هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد» وقال أبو وائل: «هو السيد الذي انتهى سؤدده» وقال سعيد بن جبير «٢» :«هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأعماله» وبنفي التمثيل والتشبيه عنه بقوله «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني:
حديث أنس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنّان، بديع السموات
(٢) هو سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي المقرئ المفسر الفقيه المحدث أحد الأعلام، قتله الحجاج سنة خمس وتسعين وله نحو من خمسين سنة. [.....]
فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسل بالحمد والثناء عليه، وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده. ثم جاء سؤال أهم المطالب، وأنجح الرغائب، وهو الهداية، بعد الوسيلتين. فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يدعو به إذا قام يصلّي من الليل.
رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت. فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» «٢»
فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له. ثم سأله المغفرة.
فصل
في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
التوحيد نوعان: نوع في العلم والإعتقاد. ونوع في الإرادة والقصد.
ويسمى الأول: التوحيد العلمي. والثاني: التوحيد القصدي الارادي.
لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة. والثاني بالقصد والإرادة. وهذا الثاني أيضا نوعان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية. فهذه ثلاثة أنواع.
(٢) أخرجه الترمذي برقم ٣٤١٨.
مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فإثبات الحمد له سبحانه. وأما المفصل: فذكر صفة الإلهية والربوبية، والرحمة والملك. وعلى هذا الأربع مدار الأسماء والصفات. فأما تضمن الحمد لذلك: فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبته والرضا عنه والخضوع له، فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له. وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها. ولهذا كان الحمد كله لله حمدا لا يحصيه سواه، لكمال صفاته وكثرتها. ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه، لما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه. ولهذا ذم الله تعالي آلهة الكفار، وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها. فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم ولا تهدى، ولا تنفع ولا تضر. وهذه صفة إله الجهمية، التي عاب بها الأصنام، نسبوها إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجّته لأبيه: ١٩: ٤٢ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر: وأنت إلهك بهذه المثابة، فكيف تنكر عليّ؟
لكن كان مع شركه أعرف بالله من الجهمية. وكذلك كفار قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه، وقال تعالى:
٧: ١٤٨ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم، واستدلال على بطلان الإلهية بذلك.
قيل: بلى، قد كلمهم، فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب، منه إليه بلا واسطة، كموسى. ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي.
وهم الأنبياء. وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله. فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه. وقالوا لهم: هذا كلام الله الذي تكلم به وأمرنا بتبليغه إليكم. ومن هاهنا قال السلف: من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم. لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده، فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة وقال تعالى في سورة طه عن السامري ٢٠: ٨٨ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، فَنَسِيَ. أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟ ورجع القول: هو التكلم والتكليم. قال تعالى: ١٦: ٧٦ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فجعل نفي صفات الكلام موجبا لبطلان الإلهية. وهذا أمر معقول بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية: أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها، ولا مدبرا، ولا ربّا، بل هو مذموم معيب ناقص، ليس له الحمد لا في الأولى، ولا في الآخرة. وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال، ونعوت الجلال، التي لأجلها استحق الحمد. ولهذا سمي السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه، وكلامه وتكليمه: توحيدا. لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع، وجحد له، وإنما توحيده: إثبات صفات كماله، وتنزيهه عن الشبيه والنقائص.
فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها توحيدا، وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا. فسموا الباطل باسم الحق، ترغيبا فيه، وزخرفا ينفقونه به. وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه، والناس أكثرهم مع ظاهر السّكّة، ليس لهم نقد النقاد: ١٨: ١٧ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت البتة، إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية، وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ولا كمال.
كمال.
وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه، وتعبد كل شيء له، فاتخاذ الولد ينافي ذلك، كما قال تعالى: ١٠: ٦٨ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، سُبْحانَهُ، هُوَ الْغَنِيُّ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وحمد نفسه على عدم الشريك، المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية، وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره، فيكون شريكا له. فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه. لأن الموجود أكمل من المعدوم. ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذ كان متضمنا ثبوت كمال. كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته، وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم، لتضمن ذلك قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، لكمال علمه وإحاطته. وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدا، لكمال عدله وإحسانه.
وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار، لكمال عظمته، يرى ولا يدرك، كما أنه يعلم ولا يحاط به علما. وإلا فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال. لأن العدم لا يرى، فليس في كون الشيء لا يرى كمال البتة. وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا، لعظمته في نفسه، وتعاليه عن إدراك المخلوق له. وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان، لكمال علمه.
فكل سلب في القرآن حمد به نفسه فلمضادته لثبوت ضده، ولتضمنه كمال ثبوت ضده. فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال، وأن نفيها نفي لحمده، ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده.
فصل
فهذا دلالة الحمد على توحيد الأسماء والصفات. وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها، وهي: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك: فمبني على أصلين:
أحدهما: أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله. فهي مشتقة من الصفات. فهي أسماء، وهي أوصاف. وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظا لا معاني فيها لم تكن حسنى، ولا كانت دالة على مدح ولا كمال. ولساغ وقوع أسماء الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان، وبالعكس، فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت المنتقم.
واللهم أعطني، فإنك أنت الضار المانع، ونحو ذلك. ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها. قال تعالى: ٧: ١٨٠ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها، وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله، كقوله تعالى:
٥١: ٥٨ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فعلم أن القويّ من أسمائه، ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله: ٣٥: ١٠ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا. وكذلك قوله: ٤: ١٦٦ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ١١: ١٤ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ٢: ٢٥٥ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه «البصير»
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»
وفي الصحيح
فهو قادر بقدرة. وقال تعالى لموسى: ٧: ١٤٤ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فهو متكلم بكلام. وهو العظيم الذي له العظمة، كما
في الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي»
وهو الحكيم الذي له الحكم ٤٠: ١٢ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت يمينه، وكانت مكفرة. لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه.
وأيضا لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها. فلا يقال: يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها.
وأيضا فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة، التي لم توضع لمسماها معنى قام به. فكانت كلها سواء، ولم يكن فرق بين مدلولاتها. وهذا مكابرة صريحة، وبهت بيّن. فإن من جعل معنى اسم «القدير» هو معنى اسم «السميع، البصير» ومعنى اسم «التواب» هو معنى اسم «المنتقم» ومعنى اسم «المعطي» هو معنى اسم «المانع» فقد كابر العقل واللغة والفطرة.
فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها. والإلحاد فيها أنواع، هذا أحدها.
الثاني: تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة. وقال ابن عباس ومجاهد «عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه، فسموا بها أوثانهم، فزادوا ونقصوا. فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز ومناة من المنان» وروى عن ابن عباس يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ «يكذبون عليه» وهذا تفسير بالمعنى. وحقيقة الإلحاد فيها: العدول بها
فصل
الأصل الثاني: أن الإسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة. فإنه يدل دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم. فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة. ويدل على الصفة الأخرى باللزوم. فإن اسم «السميع» يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها، وعلى السمع وحده بالتضمن. ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالالتزام. وكذلك سائر أسمائه وصفاته. ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه. ومن هاهنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام. فإن من علم أن الفعل الاختياري لازم للحياة، وأن السمع والبصر لازم للحياة الكاملة، وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة. أثبت من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما
وكذلك اسمه «الظاهر» من لوازمه: ألا يكون فوقه شيء، كما
في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء»
بل هو سبحانه فوق كل شيء، فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه «الظاهر» ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية فقط، كما يقال: الذهب فوق الفضة، والجوهر فوق الزجاج. لأن هذه الفوقية لا تتعلق بالظهور، بل قد يكون المفوّق أظهر من الفائق فيها. ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط، وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة، لمقابلة الاسم ب «الباطن». وهو الذي ليس دونه شيء، كما قابل «الأول» الذي ليس قبله شيء، ب «الآخر» الذي ليس بعده شيء.
وكذلك اسم «الحكيم» من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها، وإيقاعها على أحسن الوجوه. فإنكار ذلك إنكار لهذا الإسم ولوازمه. وكذلك سائر أسمائه الحسنى.
فصل
إذا تقرر هذان الأصلان: فاسم «الله» دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا بالدلالات الثلاث، فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له، مع نفي أضدادها عنه. وصفات الإلهية: هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص
فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال. والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله» واسم «الله» دال على كونه مألوها معبودا، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك. والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله. إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
فصفات الجلال والجمال أخص باسم «الله» وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم «الرب».
وصفات الإحسان والجود والبر، والحنان والمنة والرأفة واللطف، أخص باسم «الرحمن» وكرر إيذانا بثبوت الوصف، وحصول أثره، وتعلقه بمتعلقاته.
فالرحمن: الذي الرحمة وصفه. والرحيم: الراحم لعباده. ولهذا يقول تعالى: ٣٣: ٤٣ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ٩: ١١٧ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ولم يجيء رحمان بعباده، ولا رحمان بالمؤمنين، مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به.
ألا ترى أنهم يقولون: غضبان: للممتلئ غضبا، وندمان وحيران
والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: ٧: ١٥٦ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات. فلذلك وسعت رحمته كل شيء.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده موضوع على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»
وفي لفظ «فهو وضع عنده على العرش».
فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عنده على العرش، وطابق بين ذلك وبين قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وقوله: ٢٦: ١٥٦ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم.
وصفات العدل، والقبض والبسط. والخفض والرفع. والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم، ونحوها: أخص باسم «الملك» وخصه بيوم الدين، وهو الجزاء بالعدل، لتفرده بالحكم فيه وحده، ولأنه اليوم الحق، وما قبله كساعة. ولأنه الغاية، وأيام الدنيا مراحل إليه.
فصل
وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة. وهي: «الله، والرب، والرحمن» كيف نشأ عنها الخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؟
فاسم «الرب» له الجمع الجامع لجميع المخلوقات. فهو رب كل شيء وخلقه، والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته. وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره. فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألّهه وحده السعداء، وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي الغبادة والتوكل، والرجاء والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له.
وهاهنا افترق الناس وصاروا فريقين: فريقا مشركين في السعير، وفريقا موحدين في الجنة.
فالإلهية هي التي فرقتهم، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم فالدين والشرع، والأمر والنهي، مظهره وقيامه: من صفة الإلهية، والخلق والإيجاد والتدبير والفعل: من صفة الربوبية. والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار: من صفة الملك. وهو ملك يوم الدين. فأمرهم بإلهيته، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته. وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله. وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده. فالتأليه منهم له، والربوبية منه لهم. والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم. فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة.
واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته، ف الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى مطابق لقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها، فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه ربا
فصل
في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها: ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، رب محمود، ورحمان محمود، وملك محمود. فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من هذا الإسم بمفرده، وكمال من الآخر بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
مثال ذلك: قوله تعالى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فالغنى صفة كمال. والحمد صفة كمال، واقتران غناه بحمده كمال أيضا، وعلمه كمال، وحكمته كمال، واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا. وقدرته كمال. ومغفرته كمال، واقتران القدرة بالمغفرة كمال، وكذلك العفو بعد القدرة ٤: ١٤ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً واقتران العلم بالحلم ٤: ١١ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
وحملة العرش أربعة: اثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك» واثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» فما كل من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة، ولا كل من علم يكون حليما، ولا كل حليم عالم. فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم. ومن عفو إلى قدرة، ومن ملك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة: ٢٦: ٩ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ومن هاهنا كان قول المسيح عليه السلام: ٥: ١٢١ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أحسن من أن يقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن
وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام: ١٤: ٣٥ و ٣٦ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ. فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولم يقل: فإنك عزيز حكيم. لأن المقام مقام استعطاف وتعريض بالدعاء، أي إن تغفر له وترحمه، بأن توفقه للرجوع من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة كما
في الحديث: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به، وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه، واقترن به، من فعله وأمره. والله الموفق للصواب.
فصل
في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب المرتبة الأولى: مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة، بل منه إليه. وهذه أعلى مراتبها، كما كلم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه. قال الله تعالى: ٤: ١٦٤ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه. فالنداء من بعد والنجاء من قرب. تقول العرب: إذا كبرت الحلقة فهو نداء أو نجاء وقال له أبوه آدم في محاجته «أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده». وكذلك يقول له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه. وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة، على اختلاف الرواية. قال «وذلك بتفضيله بكلام الله» ولو كان التكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن هذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى. ولا كان يسمى «كليم الرحمن» وقال تعالى: ٤٢:
٥١ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ
ففرق بين تكليم الوحي، والتكليم بإرسال الرسول، والتكليم من وراء حجاب.
فصل
المرتبة الثانية: مرتبة الوحي المختص بالأنبياء. قال الله تعالى:
٤: ١٦٣ إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وقال:
٤٢: ٥١ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ- الآية فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم وجعله في آية النساء قسيما للتكليم، وذلك باعتبارين: فإنه قسيم التكليم الخاص الذي بلا واسطة، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة، والوحي في اللغة: هو الإعلام السريع الخفي، ويقال في فعله: وحى،
وأوحى- قال رؤية... وحى لها فاستقرت
وهو أقسام، كما سنذكره.
فصل
المرتبة الثالثة: إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري. فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه.
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء، لا تكون لغيرهم، ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشري رجلا، يراه عيانا ويخاطبه، وقد يراه على صورته التي خلق عليها، وقد يدخل فيه الملك، ويوحي إليه ما يوحيه، ثم يفصم عنه، أي يقلع. والثلاثة حصلت لنبينا صلّى الله عليه وسلّم.
فصل
المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث. وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصديقين، كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في هذه
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلق وجودهم في هذه الأمة بإن الشرطية، مع أنها أفضل الأمم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة بعده إلى محدث ولا ملهم، ولا صاحب كشف ولا منام فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها.
والمحدّث هو الذي يحدّث في سره وقلبه بالشيء، فيكون كما يحدث به.
قال شيخنا: والصديق أكمل من المحدث. لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف، فإنه قد سلم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه.
قال: وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول.
فإن وافقه قبله، وإلا رده، فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث.
قال: وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: حدثني قلبي عن ربي: فصحيح أن قلبه حدثه، ولكن عن من؟ عن شيطانه، أو عن ربه؟ فإذا قال: حدثني قلبي عن ربي كان مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به، وذلك كذب، قال: ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك، ولا تفوّه به يوما من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك. بل كتب كاتبه يوما «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب. فقال: لا. امحه واكتب: هذا ما رأى عمر بن الخطاب. فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر، والله ورسوله منه بريء» وقال في الكلالة «أقول فيها برأيي.
فإن يكن صوابا فمن الله. وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان» فهذا قول المحدث بشهادة الرسول وأنت ترى الاتحادي والحلولي والإباحي الشطاح، والسماعي: مجاهر بالقحة والفرية. يقول: حدثني قلبي عن ربي، فانظر إلى ما
فصل
المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام. قال الله تعالى: ٢١: ٧٨، ٧٩ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً فذكر هذين النبيين الكريمين: فأثنى عليهما بالعلم والحكم. وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة،
وقال علي بن أبي طالب، وقد سئل: «هل خصكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النّسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. وكان فيها العقل، وهو الديات وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر»
وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري «١» رضي الله عنهما: «والفهم فيما أدلى إليك» فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه.
يعرف به، ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه. وفهم أصل معناه.
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتى عدّ ألف بواحد، فانظر إلى فهم ابن عباس وقد
فصل
المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام. وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه. بحيث يصير مشهودا للقلب، كشهود العين للمرئيات وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، التي لا يعذب أحدا ولا يضله، إلا بعد وصوله إليها. قال الله تعالى ٩: ١١٥ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ فهذا الإضلال عقوبة منه لهم، حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا. فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا من بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر، وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده، والقرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله: ٦١: ٥ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ٤: ١٥٥ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فالأول: كفر عناد، والثاني: كفر طبع، وقوله: ٦: ١١٠ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه. بأن قلّب
فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم. قال تعالى:
٤١: ١٧ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب. فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده، لم يحصل به كمال الاهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة، وبيان بالآيات المشهودة المرئية. وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله، وصدق ما أخبرت به عنه، ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكر في آياته المشهودة عليهم، ويحضهم على التفكر في هذه وهذه.
وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء. قال الله تعالى: ١٤: ٤ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالرسل تبين والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته.
فصل
المرتبة السابعة: البيان الخاص، وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة، وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء، وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية البتة. قال تعالى في هذه المرتبة: ١٦: ٣٧ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وقال: ٢٨: ٥٦ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فالبيان الأول شرط. وهذا موجب.
فصل
المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع. قال الله تعالى: ٨: ٢٣ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
قال تعالى:
٣٥: ٢٢ وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ فإن ذلك حاصل لهم، وبه قامت الحجة عليهم، لكن ذاك إسماع الآذان، وهذا إسماع القلوب. فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلق بهما. فسماع لفظه حظ الأذن، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب. فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب. وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله ٢١:
٢: ٣ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه، أو تمكنه منها، وأما مقصود السماع وثمرته، والمطلوب منه: فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه، بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه: ٤٧: ١٦ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ.
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام: أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن. ومرتبة الإفهام أعم، فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه، ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر، وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه متعلقاته وإشاراته، ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب. ويترتب على هذا السماع سماع القبول.
فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن، وسماع القلب، وسماع القبول والإجابة.
فصل
المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام. قال تعالى: ٩١: ٧، ٨ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحصين بن الخزاعي
«١»
وقد جعل صاحب المنازل والإلهام هو مقام المحدثين. قال: وهو فوق مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة. واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد.
قلت: التحديث أخص من الإلهام: فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان، فأما التحديث:
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيه: «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر»
يعني من المحدثين. فالتحديث إلهام خاص. وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين، كقوله تعالى: ٢٨: ٧ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وقوله: ٥: ١١١ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي وإما من غير المكلفين كقوله تعالى: ١٦: ٦٩ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ فهذا كله وحي إلهام.
وأما جعله فوق مقام الفراسة فقد احتج عليه بأن الفراسة: ربما وقعت نادرة كما تقدم. والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد، يعني في مقام القرب والحضور.
والتحقيق في هذا: أن كل واحد من الفراسة والإلهام ينقسم إلى عام وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر، وعام كل واحد قد يقع كثيرا، وخاصة قد يقع نادرا، ولكن الفرق الصحيح: أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل، وأما الإلهام فموهبة مجردة، لا تنال بكسب البتة.
[ثم ذكر فصولا أربعة تكلم فيها عن درجات الإلهام الثلاثة. ثم قال].
فصل
المرتبة العاشرة: من مراتب الهداية. الرؤيا الصادقة: وهي من أجزاء النبوة كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».
وقد قيل في سبب هذا سبب التخصيص المذكور: إن أول أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة، وذلك نصف سنة. ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة، من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه، فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة وأربعين جزءا.
وهذا حسن لولا ما جاء
في الرواية الأخرى الصحيحة «أنها جزء من سبعين جزءا».
[ثم ذكر كلاما في الرؤيا، ثم قال].
فصل
في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين:
شفاء القلوب، وشفاء الأبدان فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال. فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم. وفساد القصد.
ويترتب عليها داءان قاتلان، وهما الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب ينتجه فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها، فهداية الصراط المستقيم: تتضمن الشفاء من مرض الضلال، ولذلك كان سؤال هذه الهداية: أفرض دعاء على كل عبد،
والتحقق ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ علما ومعرفة وعملا وحالا:
يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد، فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل. فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية، وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا، وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبة غير الله وعبوديته، من المشركين ومتبعي الشهوات، الذين لا غاية لهم وراءها، وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رئاستهم بأي طريق كان من حق أو باطل. فإذا جاء الحق معارضا في طريق رئاستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم. فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل. فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق، وحادوا عنه إلى طريق أخرى، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ، وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا وجالوا، وأتوا إليه مذعنين، لا لأنه حق، بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به: ٢٤: ٤٨: ٤٩: ٥٠ وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها، واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات. وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا، إذا حق الحق وبطل الباطل، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم، وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة. وهذا يظهر كثيرا في الدنيا، ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله، ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ، وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء، إذا حققت الحقائق. وفاز المحقون وخسر المبطلون، وعلموا
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى، ولمن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه، وهي من أعظم القواطع عنه. فحاله أيضا كحال هذا، وكلاهما فاسد القصد، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:
[١] عبودية الله لا غيره.
[٢] بأمره وشرعه.
[٣] لا بالهوى.
[٤] ولا بآراء الرجال وأوضاعهم، ورسومهم، وأفكارهم.
[٥] بالاستعانة على عبوديته به.
[٦] لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا ركبها الطبيب اللطيف، العالم بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشفاء التام، وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو إثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التلف ولا بد: وهما الرياء، والكبر، فدواء الرياء ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ ودواء الكبر ب إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول إِيَّاكَ نَعْبُدُ تدفع الرياء وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تدفع الكبرياء.
فإذا عوفي من مرض الرياء ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ ومن مرض الكبر والعجب
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى، كما سنبينه. فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت الله وكلامه، وفهمت عنه فهما خاصا، اختصها به، من معاني هذه السورة.
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق.
[ثم ذكر فصلين في الرقية بالفاتحة وتأثيرها مستشهدا بحديث أبي سعيد وببعض تحليلات نفسية، وبتجاربه. ثم قال].
فصل
في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين عن أهل الملل والنحل، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة.
وهذا يعلم بطريقين، مجمل ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق،
والحق: هو ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وفي حقائق الإيمان، التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى.
وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم، فكل علم أو عمل أو حقيقة، أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته، وعليه السكة المحمدية، بحيث يكون من ضرب المدينة، فهو من الصراط المستقيم، وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثمّ خروج عن هذه الطرق الثلاث: طريق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به، وطريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف الحق وعانده، وطريق أهل الضلال، وهي طريق من أضله الله عنه. ولهذا قال عبد الله بن عباس وجابر ابن عبد الله رضي الله عنهم: «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: هو الإسلام» وقال عبد الله بن مسعود
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: «هو القرآن»
وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره، وقال سهل بن عبد الله: «طريق السنة والجماعة». وقال بكر بن عبد الله المزني «١» :«طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
ولا ريب أنه ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه، وإيثاره على غيره. فهو الصراط المستقيم.
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له.
بهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل، وهو من صراط الأمتين: الأمة الغضبية، وأمة أهل الضلال.
فصل
وأما المفصل: فمعرفة المذاهب الباطلة، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها. فنقول:
الناس قسمان: مقر بالحق تعالى، وجاحد له، فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما، بل دلالة الخالق على المخلوق، والفعال على الفعل، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزاكية المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة: أظهر من العكس.
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان، كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن. وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم: ١٤: ١٠ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ؟ أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله روحه- يقول:
كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء | إذا احتاج النهار إلى الدليل |
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد: القائلين بوحدة الوجود، وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله، وهو حقيقة وجود هذا العالم، فليس عند القوم رب وعبد، ولا مالك ومملوك، ولا راحم ومرحوم، ولا عابد ومعبود، ولا مستعين ومستعان به، ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه، ولا غضبان ومغضوب عليه، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته، والمالك هو عين المملوك، والراحم هو عين المرحوم، والعابد هو نفس المعبود. وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها. فتظهر تارة في صورة معبود، كما ظهرت في صورة فرعون، وفي صورة عبد، كما ظهرت في صورة العبيد، وفي صورة هاد، كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء، والكل من عين واحد، بل هو العين الواحدة، فحقيقة العابد ووجوده، أو إنّيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم..
فصل
والمقرّون بالرب سبحانه وتعالى: أنه صانع العالم نوعان:
نوع ينفي مباينته لخلقه، ويقولون: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا خلفه ولا أمامه، ولا فيه ولا بائن عنه.
فتضمنت الفاتحة للرد على هؤلاء من وجهين:
أحدهما: إثبات ربوبيته تعالى للعالم. فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات، كما باينهم بالربوبية، وبالصفات والأفعال، فمن
وإما أن يقول: ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا، ولا داخلا ولا خارجا، كما قالته الدهرية المعطلة للصانع.
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين: إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم، وإثبات خالق قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارج العالم، ولا فوق العالم ولا تحته، ولا خلفه ولا أمامه، ولا يمنته ولا يسرته: فقول له خبئ، والعقول لا تتصوره حتى تصدق به. فإذا استحال في العقل تصوره. فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر. وهو منطبق على العدم المحض، والنفي الصّرف، وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين، فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل، ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها، التي لم تحل في العالم، ولا حلّ العالم فيها، ثم انظر أي المعلومين أولى به، واستيقظ لنفسك، وقم لله قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر، متجرد عن المقالات وأربابها وعن الهوى والحمية والعصبية، صادقا في طلب الهداية من الله، فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه. وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه، مباين لخلقه، بل هذا نفس ترجمتها.
فصل
ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان:
أهل توحيد، وأهل إشراك. وأهل الإشراك نوعان:
أحدهما: أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته، كالمجوس ومن
فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان، ولا تناولتها ربوبيته وكيف تتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه؟ مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه، إذ هو المعين عليها والموفق لها، وهو الذي شاءها منهم، كما قال في غير موضع من كتابه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فهو محمود على أن شاءها لهم، وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته، فهو المحمود عليها في الحقيقة. وعندهم: أنهم هم المحمودون عليها، ولهم الحمد على فعلها، وليس لله حمد على نفس فاعليتها عندهم، ولا على ثوابه وجزائه عليها.
أما الأول: فلأن فاعليتها بهم لا به، وأما الثاني: فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر، فهو محض حقهم، الذي عاوضوه «١» عليه.
وفي قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ رد ظاهر عليهم. إذا استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته، فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده، إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده، بمن ليس ذلك الفعل بيده ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته.
لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى، ولا ينجي من الردى، وهو حاصل لغيرهم من الكفار، الذين استحبوا العمى على الهدى، واشتروا الضلالة بالهدى.
فصل
النوع الثاني: أهل الإشراك به في إلهيته، وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء، ومليكه وخالقه، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين، ورب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وهم مع هذا يعبدون غيره، ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم، وهم الذين اتخذوا من دون الله أندادا، فهؤلاء لم يوفوا «إياك نعبد» حقه، وإن كان لهم نصيب من «نعبدك». لكن ليس لهم نصيب من «إياك نعبد» المتضمن معنى: لا نعبد إلا إياك، حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما، ف «إياك نعبد» تحقيق لتوحيد لهذا التوحيد، وإبطال للشرك في الإلهية، كما أن «إياك نستعين» تحقيق لتوحيد الربوبية، وإبطال للشرك به فيها، وكذلك قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فإنهم أهل التوحيد، وهم أهل تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين» وأهل الإشراك: هم أهل الغضب والضلال.
فصل
في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات وذلك من وجوه:
أحدهما: من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فإن إثبات الحمد الكامل له يقضي
وكذلك في إثبات صفة الرحمة له: ما يتضمن إثبات الصفات التي تستلزمها من الحياة، والإرادة والقدرة، والسمع والبصر، وغيرها.
وكذلك صفة الربوبية: تستلزم جميع صفات الفعل، وصفة الإلهية تستلزم جميع أوصاف الكمال: ذاتا وأفعالا، كما تقدم بيانه.
فكونه محمودا إلها ربا رحمانا رحيما، ملكا معبودا، مستعانا، هاديا منعما، يرضى ويغضب، مع نفي قيام الصفات به: جمع بين النقيضين.
وهو من أمحل المحال.
وهذه الطريق تتضمن إثبات الصفات الخبرية من وجهين:
أحدهما: أنها من لوازم كماله المطلق فإن استواءه على عرشه من لوازم علوه، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني: من لوازم رحمته وربوبيته. وهكذا سائر الصفات الخبرية الوجه الثاني: أن السمع ورد بها ثناء على الله ومدحا له، وتعرفا منه إلى عباده بها. فجحدها وتحريفها عما دلت عليه، وأريد بها: مناقض لما جاءت له، فلك أن تستدل بطريق السمع على أنها كمال، وأن تستدل بالعقل كما تقدم.
فصل
في تضمنها الرد على الجبرية. وذلك على وجوه:
أحدها: من إثبات عموم حمده سبحانه. فإنه يقتضي ألا يعاقب عبيده
الوجه الثالث: إثبات العبادة والاستعانة لهم، ونسبتها إليهم بقولهم:
«نعبد ونستعين» وهي نسبة حقيقية لا مجازية، والله لا يصح وصفه بالعبادة والاستعانة التي هي من أفعال عبيده، بل العبد حقيقة: هو العابد المستعين. والله المعبود المستعان به.
فصل
في بيان تضمنها للرد على القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة. وبيان أنه سبحانه فاعل مختار.
وذلك من وجوه:
أحدها: من إثبات حمده، إذ كيف يحمده على ما ليس مختارا لوجوده، ولا هو بمشيئته وفعله؟ وهل يصح حمد الماء على آثاره وموجباته؟
فخلافه خارج عن الفطرة والعقل، وهو لا ينكر خروجه عن الشرائع والنبوات بل يتبجح بذلك، ويعده فخرا.
الثاني: إثبات ربوبيته تعالى: يقتضي فعله بمشيئته واختياره وتدبيره وقدرته، وليس يصح في عقل ولا فطرة ربوبية الشمس لضوئها، والماء لتبريده، والنبات الحاصل به، ولا ربوبية شيء أبدا لما لا قدرة له عليه البتة، وهل هذا إلا تصريح بجحد الربوبية؟.
فالقوم كنوا للأغمار، وصرحوا لأولي الأفهام.
الثالث: إثبات ملكه. وحصول ملك لمن اختار له، ولا فعل ولا مشيئة غير معقول، بل كل مملوك له مشيئة واختيار وفعل أتم من هذا الملك وأكمل: ١٦: ١٧ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
الرابع: من كونه مستعانا، فإن الاستعانة بمن لا اختيار له ولا مشيئة ولا قدرة محال.
الخامس: من كونه مسئولا أن يهدي عباده، فسؤال من لا اختيار له محال. وكذلك من كونه منعما
فصل
في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات وذلك من وجوه:
أحدها: كمال حمده، وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله، ولا عدد الأفلاك، ولا عدد النجوم، ولا من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدعوه ممن لا يدعوه.
الثالث: من إثبات رحمته. فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه. فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته البتة. ولا شيئا من أحوال مملكته البتة. ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعانا.
السادس: كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هاديا.
الثامن كونه منعما.
التاسع كونه غضبانا على من خالفه.
العاشر: كونه مجازيا، يدين الناس بأعمالهم يوم الدين، فنفي علمه بالجزئيات مبطل لذلك كله.
فصل
في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات. وذلك من وجوه:
أحدها: إثبات حمده التام. فإنه يقتضي كمال حكمته وأن لا يخلق خلقه عبثا، ولا يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون، ولذلك نزّه نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه. وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة، وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق عظمته، ولا قدره حق قدره، بل نسبه إلى ما لا يليق به، ويأباه حمده ومجده.
فمن أعطى الحمد حقه علما ومعرفة وبصيرة استنبط منه «أشهد أن محمدا رسول الله» كما يستنبط منه «أشهد ألا إله إلا الله» وعلم قطعا أن
الثاني: إلهيته، وكونه إلها. فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله.
الثالث: كونه ربا. فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم.
وجزاء محسنهم بإحسانه، ومسيئهم بإساءته. هذا حقيقة الربوبية. وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة.
الرابع: كونه رحمانا رحيما. فإن كمال رحمته: أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه، ويباعدهم منه، ويثيبهم على طاعته، ويجزيهم بالحسنى، وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة. فكنت رحمته مقتضية لها.
الخامس: ملكه. فإن الملك يقتضي التصرف بالقول، كما أن الملك يقضي التصرف بالفعل، فالملك هو المتصرف بأمره وقوله، فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء والمالك هو المتصرف في ملكه بفعله، والله له الملك وله الملك، فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل.
وتصرفه بقوله نوعان: تصرف بكلماته الكونية، وتصرف بكلماته الدينية، وكمال الملك بهما، فإرسال الرسل: موجب كمال ملكه وسلطانه، وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس وعقولهم. فكل ملك لا تكون له رسل يبثها في أقطار مملكته فليس بملك. وبهذه الطريق يعلم وجود ملائكته، وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه. فإنهم رسل الله في خلقه وأمره.
السادس: ثبوت يوم الدين. وهو يوم الجزاء، الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا، وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة،
السابع: كونه معبودا. فإنه لا يعبد إلّا بما يحبه ويرضاه، ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله. فإنكار رسله إنكار لكونه معبودا.
الثامن: كونه هاديا إلى الصراط المستقيم. وهو معرفة الحق والعمل به، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب. فإن الخط المستقيم: هو أقرب خط موصل بين نقطتين، وذلك لا يعلم إلا من جهة الرسل. فتوقفه على الرسل ضروري، أعظم من توقف الطريق الحسي على سلامة الحواس.
التاسع: كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم. فإن إنعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم، وجعلهم قابلين الرسالة مستجيبين لدعوته، وبذلك ذكرهم منته عليهم وإنعامه في كتابه.
العاشر: انقسام خلقه إلى منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالين، فإن هذا الانقسام ضروري بحسب انقسامهم في معرفة الحق، والعمل به:
إلى عالم به عامل بموجبه، وهم أهل النعمة، وعالم به معاند له، وهم أهل الغضب. وجاهل به، وهم الضالون. وهذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل. فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة. فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة. وهذا الانقسام ضروري بحسب الواقع. فالرسالة ضرورية.
وقد تبين لك بهذه الطريق، والتي قبلها: بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد الجسماني، وقيامة الأبدان، وعرفت اقتضاءها ضرورة ثبوت الثواب والعقاب والأمر والنهى. وهو الحق الذي خلقت به وله السموات والأرض والدنيا والآخرة، وهو مقتضى الخلق والأمر، ونفيه نفي لهما.
فصل
إذا ثبتت النبوات والرسالة ثبتت صفة التكلم والتكليم.
فإن حقيقة الرسالة: تبليغ كلام المرسل، فإذا لم يكن ثمّ كلام فماذا يبلغ الرسل؟ بل كيف يعقل كونه رسولا؟ ولهذا قال غير واحد من السلف:
من أنكر أن يكون الله متكلما، أو يكون القرآن كلامه. فقد أنكر رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، بل ورسالة جميع الرسل، التي حقيقتها، تبليغ كلام الله تبارك وتعالى. ولهذا قال منكرو رسالته صلّى الله عليه وسلّم عن القرآن: ٧٤: ٢٤، ٢٥ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ وإنما عنوا القرآن المسموع الذي بلغوه وأنذروا به.
فمن قال: إن الله لم يتكلم به فقد ضاهأ قوله قولهم. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فصل
في بيان تضمنها للرد على من قال بقدم العالم وذلك من وجوه:
أحدها: إثبات حمده. فإنه يقتضي ثبوت أفعاله، لا سيما وعامة مواد الحمد في القرآن، أو كلها، إنما هي على الأفعال، وكذلك هو هاهنا. فإنه حمد نفسه على ربوبيته المتضمنة لأفعاله الاختيارية، ومن المستحيل: مقارنة الفعل لفاعله. هذا ممتنع في كل عقل سليم، وفطرة مستقيمة. فالفعل متأخر عن فاعله بالضرورة.
وأيضا فإنه متعلق الإرادة والتأثير والقدرة، ولا يكون متعلقها قديما البتة.
الثاني: إثبات ربوبيته للعالمين. وتقريره: ما ذكرناه، والعالم كل ما
الثالث: إثبات توحيده، فإنه يقتضي عدم مشاركة شيء من العالم له في خصائص الربوبية، والقدر من خصائص الربوبية، فالتوحيد ينفي ثبوته لغيره ضرورة، كما ينفي ثبوت الربوبية والإلهية لغيره.
فصل
في بيان تضمنها للرد على الرافضة وذلك من قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخرها.
ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
منعم عليهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه.
ومغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه. وضالون، وهم الذين جهلوه فأخطأوه.
فكل من كان أعرف للحق، وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم.
ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم: هم أولى بهذه الصفة من الرافض. فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض.
ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما، فرأينا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتحوا بلاد الكفر، وقلبوها بلاد إسلام، وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى. فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ورأينا
فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال، إن كنتم تعلمون؟ ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله:
بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم، وهو كما فسروه.
فإنه صراطهم الذي كانوا عليه، وهو عين صراط نبيهم. وهم الذين أنعم الله عليهم، وغضب على أعدائهم، وحكم لهم بالضلال، وقال أبو العالية «١» - رفيع الرياحي- والحسن البصري «٢»، وهما من أجل التابعين: الصراط المستقيم: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحباه، وقال أبو العالية أيضا في قوله
(٢) هو أبو سعيد الحسن بن أبي حسن البصري، إمام أهل البصرة وخير أهل زمانه، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وسمع خطبته عثمان وشهد يوم الدار، أبوه مولى زيد بن ثابت وأمه مولاة أم سلمة. كان جميلا فصيحا، قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن والحجاج قال ابن سعد في طبقاته: كان جامعا عالم رفيعا فقيها حجة مأمونا عابدا نساكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما. توفي سنة عشر ومائة. (انظر شذرات الذهب).
فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة. ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا، وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا ومسالمة من سالما، معلومة عند الأمة. خاصها وعامها.
وقال زيد بن أسلم «١» : الذين أنعم الله عليهم هم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعمر. ولا ريب أن المنعم عليهم: هم أتباعه، والمغضوب عليهم:
هم الخارجون عن أتباعه، وأتبع الأمة لهم وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته.
وأتباع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر، وأشد الأمة مخالفة لهما هم الرافضة، فخلافهم لهما معلوم عند جميع فرق الأمة، ولهذا يبغضون السنة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها، فهم أعداء سنته صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته.
وأتباعه من بنيهم أكمل ميراث؟ بل هم ورثته حقا.
فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه، وطريق أهل الغضب والضلال: طريق الرافضة. وبهذه الطريق بعينها يرد على الخوارج.
فإن معاداتهم الصحابة معروفة.
فصل
وسر الخلق الأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب: انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد. حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين: فنصفها له تعالى وهو «إياك نعبد» ونصفهما لعبده وهو «إياك نستعين» وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه.
والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع. والعرب تقول: طريق معبد أي مذلّل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابدا له، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدا له، حتى تكون محبا خاضعا، ومن هاهنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية، والمنكرون لكونه محبوبا لهم، بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم: منكرين لكونه إلها، وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم، فهذا غاية توحيدهم. وهو توحيد الربوبية، الذي اعترف به مشركو العرب، ولم يخرجوا به من الشرك، كما قال تعالى:
٤٣: ٨٧ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال تعالى:
٣٩: ٣٨ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ٢٣:
٨٤- ٨٩ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها؟. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه.
والاستعانة: تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره، مع ثقته به، لاستغنائه عنه. وقد يعتمد عليه، مع ثقته به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه.
فيحتاج إلى اعتماده عليه. مع أنه غير واثق به.
والتوكل معنى يلتئم من أصلين: من الثقة، والاعتماد، وهو حقيقة
الثاني: [قوله تعالى في حكاية عن شعيب] «١» : ١١: ٨٨ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
الثالث: قوله تعالى: ١١: ١٢٣: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ.
الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين ٦٠: ٤ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
الخامس: قوله تعالى: ٧٣: ٨ و ٩ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا.
السادس: قوله تعالى: ٣: ١٣ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».
وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ولأن «إياك نعبد» متعلق بألوهيته واسمه «الله» و «إياك نستعين» متعلق بربوبيته واسمه الرب. فقدم «إياك نعبد» على «إياك نستعين» كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة، ولأن «إياك نعبد» قسم الرب. فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و «إياك نستعين» قسم العبد، فكان مع الشطر الذي له، وهو «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخر السورة.
والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نحبه، ولأن «إياك نعبد» له. و «إياك نستعين» به، وما له مقدم على ما به. لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه. وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تتعلق بمشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته. والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي. والمتعلق بمحبته: طاعاتهم وإيمانهم. فالكفار أهل مشيئة، والمؤمنون أهل محبته. ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا. وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم «إياك نعبد» على «إياك نستعين».
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه: أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم وفيه الاهتمام وشدة العناية به، وفيه الإيذان بالاختصاص المسمى بالحصر. فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك،
وتأمل قوله تعالى: ٢: ٤٠ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ ٢: ٤١ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ كيف تجده في قوة: لا ترهبوا غيري، ولا تتقوا سواي؟ وكذلك «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» هو في قوة: لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك، وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الاختصاص من هذا السياق، ولا عبرة بجدل من قلّ فهمه، وفتح عليه باب الشك والتشكيك، فهؤلاء هم آفة العلوم، وبلية الأذهان والفهوم، مع أن في ضمير «إياك» من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي «إياك قصدت، وأحببت» من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك: قصدتك وأحببتك. وإياك أعني: فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني.
ومن هاهنا قال من قال من النحاة: إن «إيّا» اسم ظاهر، مضاف إلى الضمير المتصل، ولم يردّ بردّ شاف.
ولولا أنّا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة، وذكرنا مذاهب النحاة فيها، ونصرنا الراجح، ولعل أن نعطف على ذلك بعون الله.
وفي إعادة «إياك» مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلا: إياك أحب، وإياك أخاف. كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته، والاهتمام بذكره ما ليس في قولك: إياك أحب وأخاف.
فصل
إذا عرف هذا: فالناس في هذين الأصلين وهما العبادة والاستعانة أربعة أقسام.
أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان من أفضل ما يسأل الربّ تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلّى الله عليه وسلّم لحبّه معاذ بن جبل «١».
فقال «يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» «٢».
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب: إسعافه بهذا المطلوب وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه. فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء:
فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».
ومقابل هؤلاء: القسم الثاني: وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به فلا عبادة ولا استعانة بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض: يسأله أولياؤه وأعداؤه ويمدّ هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه: عدوه إبليس ومع هذا فسأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونا
ورد أن العلماء تأتي تحت رايته يوم القيامة
وقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني أحبك يا معاذ»
وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، وهو الذي بني مسجد الجند بالمين وقيل بني بعده، استشهد في طاعون عمداس سنة ثماني عشرة عن ست أو ثمان وثلاثين سنة. (انظر شذرات الذهب).
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ١/ ٢٧٣ و ٣/ ٢٧٣. [.....]
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة كل سائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له، وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة وحفظا لا بخلا، وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته، ويعامله بلطفه: فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه، ويراه يقضي حوائج غيره، فيسيء ظنه بربه، وهذا حشو قلبه ولا يشعر به، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرة، وعلامة هذا: حمله على الأقدار. وعتابه الباطن لها.
كما قيل:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته | حتى إذا فات أمر عاتب القدرا |
وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه عليّ، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له: أيصبر؟ فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم يتسخط؟ فيكون حظه السخط.
فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ.
فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتّر على المؤمن لا لإهانته، إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته. فله الحمد على هذا وعلى هذا، وهو الغني الحميد.
فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».
فصل
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة. وهؤلاء نوعان.
أحدها: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل. فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل. فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها، بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة: فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء، ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر، من غير أن يكون الله سبحانه وفق
فهم موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده.
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به، وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها، والمعول على المحرك الأول.
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل. فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم، فقل نصيبهم من «إياك نستعين» ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير، بحسب استعانتهم وتوكلهم. ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه، وكان مأمورا بإزالته، لأزاله.
فإن قلت: فما معنى التوكل والاستعانة؟.
قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، وتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادا عليه وتفويضا إليه وطمأنينة به وثقة به ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه مليّ به، ولا يكون إلا بمشيئته، شاءه الناس أم أبوه، فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مليّان بهما. فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبس همّه على إنزال ما ينويه بهما. فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله، فالله كافيه ولا بد. قال الله تعالى: ٦٥: ٣ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
أي كافيه. والحسب: الكافي. فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة، وإن لم يكن من أهل التقوى فهو:
القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضرر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه، فتوكل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، وطلبها منه، وأنزلها به فقضيت له، وأسعف بها، ولكن لا عاقبة له، سواء كانت أموالا أو رئاسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا، من كشف وتأثير وقوة وتمكين. فإنها من جنس الملك الظاهر، والأموال لا تستلزم الإسلام، فضلا عن الولاية والقرب من الله. فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر. فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه، وأنه من أوليائه المقربين. فهو من أجهل الجاهلين، وأبعدهم معرفة بالله ودينه، والتمييز بين ما يحبه ويرضاه ويكرهه ويسخطه، فالحال من الدنيا. فهو كالملك والمال، إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته، وتنفيذ أوامره، ألحقه بالملوك العادلين البررة، وإلا فهو وبال على صاحبه ومبعد له عن الله، وملحق له بالملوك الظلمة، والأغنياء الفجرة.
فصل
إذا عرف هذا: فلا يكون العبد متحققا بإياك نعبد إلا بأصلين عظيمين.
أحدهما: متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: الإخلاص للمعبود. فهذا تحقيق «إياك نعبد».
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة. وهم أهل «إياك نعبد» حقيقة، فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم
لم يقبل. وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السنة. وهذا هو المذكور في قوله تعالى ١٨: ١١٠ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»
وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا. فإن الله تعالى إنما بعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء.
فصل
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة. فليس عمله موافقا لشرع، ولا هو خالصا للمعبود، كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله. وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل. ولهم أوفر نصيب من قوله ٣: ١٨٨ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم. فهم أهل الغضب والضلال.
الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد، والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد الله بغير أمره، واعتقده قربة إلى الله فهذا حاله، كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة، وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة. وأمثال ذلك.
فصل
ثم أهل مقام «إياك نعبد» لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصص أربعة طرق. فهم في ذلك أربعة أصناف.
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة، ورووا حديثا لا أصل له
«أفضل الأعمال أحمزها»
أي أصعبها وأشقها، وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك، إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، وطرح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها.
ثم هؤلاء قسمان:
فعوامهم: ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه. ودعوا الناس
وخواصهم رأوا هذا مقصودا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله، وجمع المهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته. فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله، ودوام ذكره بالقلب واللسان، والاشتغال بمراقبته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
ثم هؤلاء قسمان: فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرّقهم وأذهب جمعيتهم. والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من العبادة جمعية القلب على الله. فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه.
وربما يقول قائلهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا | فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟ |
وسأل هؤلاء شيخا عارفا فقال: إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله، فإن قمت وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي، فما الأفضل في حقي؟.
فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم، وأجب داعي الله، ثم عد إلى موضعك. وهذا لأن الجمعية على الله: حظ الروح والقلب، وإجابة الداعي: حق الرب، ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل «إياك نعبد».
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح
بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» رواه أبو يعلي.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفاع متعد إلى الغير، وأين أحدهما من الآخر؟.
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد: كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا:
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»
وهذا التفضيل للنفع المتعدي، واحتجوا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من أتبعه، من غير أن ينتقض من أجورهم شيء» «١»
واحتجوا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير»
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم «إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر والنملة في حجرها».
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي نسب إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب، ولهذا أنكر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة الناس، ورأي هؤلاء التفرق في أمر الله ونفع عباده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.
الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر «١» : الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعلم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم. فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشر، فهي أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من عزلتهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال.
والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق. والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد. فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقض وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد. وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها. فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا دأبه في
فصل
ثم للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة. وهم في ذلك أربعة أصناف.
ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة. وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى (بمفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة) وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها، وهو كتاب بديع في معناه. وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى (بسفر الهجرتين وطريق السعادتين).
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها، ولا يتنعمون بها، وليست قرة أعينهم، وليست الأوامر سرور قلوبهم، وغذاء أرواحهم وحياتهم، ولهذا يسمونها تكاليف. أي قد كلفوا بها، ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا، وقال: إني إنما أفعله بكلفة، لم يعده أحد محبا له، ولهذا أنكر هؤلاء- أو كثير منهم- محبة العبد لربه. وقالوا: إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به، لا أنه يحب ذاته. فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه. وحقيقة العبودية: هي كمال المحبة، فأنكروا حقيقة العبودية ولبّها. وحقيقة الإلهية: كونه مألوها محبوبا بغاية الحب، المقرون
فصل
الصنف الثاني: القدرية النفاة، الذين يثبتون نوعا من الحكمة.
والتعليل لا يقوم بالرب، ولا يرجع إليه، بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته، فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير. قالوا: ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله ٧: ٤٣ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقوله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقوله هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟
وقوله صلّى الله عليه وسلّم، فيما يحكي عن ربه عز وجل «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها»
وقوله تعالى: ٣٩:
١٠ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ قالوا: وقد سماه الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا. لأنه يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع إليه منه.
قالوا: ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاء، ولا أجرا ولا ثوابا معنى.
٧: ٨، ٩ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ.
وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل. وبينهما أعظم التباين. فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته، وينعم من أفنى عمره في معصيته. وكرهما بالنسبة إليه سواء، وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم عملا منه، وأكثر وأفضل درجات. والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة، من غير تعليل ولا سبب، ولا حكمة تقتضي هذا بالثواب، وهذا بالعقاب.
والقدرية أوجبت عليه رعاية الأصلح. وجعلت كله بمحض الأعمال وثمنا لها، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله تنغيص باحتمال منّة الصدقة عليه بلا ثمن.
فقاتلهم الله ما أجهلهم بالله وأغرّهم به، جعلوا تفضله وإحسانه إلى العبد على العبد، حتى قالوا: إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل.
فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة. ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء البتة.
والطائفتان جائرتان، منحرفتان عن الصراط المستقيم، الذي فطر الله عليه عباده، وجاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. وهو أن الأعمال: أسباب موصلة إلى أثواب والعقاب. مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنّه، وصدقته على عبده، إن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحبّبها إليه، وزينها في قلبه وكرّه إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه، ولا هي على قدرة،
أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه، فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقع بشكرها. فلذلك
لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
، ولهذا نفي النبي صلّى الله عليه وسلّم دخول الجنة بالعمل، كما
قال «لن يدخل الجنة أحدا منكم الجنة بعمله»
وفي لفظ لن يدخل أحدا الجنة منكم الجنة بعمله»
وفي لفظ «لن ينجي أحدا منكم عمله، قالوا:
ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»
وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل، كما في قوله: ١٦: ٣٢ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ولا تنافي بينهما. إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفيّ استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها:
ردا على القدرية، التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة.
وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله، وأغلظهم عنه حجابا. وحقّ لهم أن يكونوا مجوس هذه الأمة، ويكفي في جهلهم بالله: أنهم لم يعلموا: أن أهل سماواته وأرضه في منته، وأن من تمام الفرح والسرور والغبطة واللذة:
اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق، وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة. وأعظمهم منه منزلة، وأقربهم إليه: أعرفهم بهذه المنة، وأعظمهم إقرارا بها، وذكرا لها، وشكرا عليها، ومحبة له لأجلها، فهل ينقلب أحد قط إلا في منته؟ ٤٩: ١٧ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
واحتمال منة المخلوق: إنما نقصا لأنه نظيره. فإذا منّ عليه استعلى عليه، ورأى الممنون عليه نفسه دونه، هذا مع أنه ليس في كل مخلوق، فلرسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنة على أمته، وكان أصحابه يقولون: «الله ورسوله أمنّ» ولا نقص في منة الوالد على ولده، ولا عار عليه في احتمالها، وكذلك السيد
فهذه باء السببية، ردا على القدرية والجبرية، الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال والجزاء، ولا هي أسباب له، وإنما غايتها أن تكون أمارات.
قالوا: وليست أيضا مطردة، لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر.
فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة.
فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء: كما هي مبطلة لقول أولئك، وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين، وتبين لمن له قلب ولب: مقدار قول أهل السنة. وهم الفرقة الوسط. المثبتون لعموم مشيئة الله، وقدرته، وخلقه العباد وأعمالهم، ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها، وانعقادها بها شرعا وقدرا، وترتيبها عليها عاجلا وآجلا.
وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق، وارتكبت لأجله نوعا من الباطل، بل أنواعا، وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ٢: ٢١٣ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و ٦٢:
٤ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
فصل
الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة: رياضة النفوس، واستعدادها لفيض العلوم عليها. وخروج قواها عن قوى النفوس السبعية والبهيمية، فلو عطلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم،
أحدهما: من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة، القائلين بقدم العالم، وعدم الشقاق الأفلاك، وعدم الفاعل المختار.
الطائفة الثانية: من تفلسفت: من صوفية الإسلام. وتقرب إلى الفلاسفة.
فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لاستعداد النفوس وتجردها، ومفارقتها العالم الحسي، ونزول الواردات والمعارف عليها.
ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلا لهذا المعنى، فإذا حصل لها بقي مخيرا في حفظ أوراده، أو الاشتغال بالوارد عنها، ومنهم من يوجب القيام بالأوراد والوظائف. وعدم الإخلال بها، وهم صنفان أيضا.
أحدهما: من يوجبونه حفظا للقانون، وضبطا للناموس.
والآخرون: الذين يوجبونه حفظا للوارد، وخوفا من تدرج النفس بمفارقتها له إلى حالتها الأولى من البهيمية.
فهذه نهاية أقدام المتكلمين على طريق السلوك. وغاية مفارقتهم بحكم العبادة وما شرعت لأجله، ولا تكاد تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة، على سبيل الجمع، أو على سبيل البدل.
فصل
وأما الصنف الرابع وهم الطائفة: المحمدية الإبراهيمية: أتباع الخليلين، العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه، وأهل البصائر في عبادته، ومراده بها.
فتركّب من هذه الأمور إيثار ما عندهم على ما سواه، وهذه بلية الطوائف. والمعافي من عافاه الله.
فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها: إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل، ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلها، بل هو الإله الحق، وكل إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباطه المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود. فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله؟ وكيف يستقيم له معرفة حكمة هي الغاية المقصودة بالخلق، ولها خلقوا، ولها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجلها خلقت الجنة والنار؟ وأن فرض تعطيل الخليقة عنها: نسبة لله إلى ما لا يليق به، ويتعالى عنه من خلق السموات والأرض بالحق، ولم يخلقهما باطلا. ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا، قال تعالى:
٢٣: ١١٥ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ؟ أي لغير شيء ولا حكمة، ولا لعبادتي ومجازاتي لكم، وقد صرح تعالى بهذا في قوله ٥١: ٥٦ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فالعبادة: هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها. قال الله تعالى: ٧٥: ٣٦
فأخبر أنه خلق السموات والأرض بالحق المتضمن: أمره ونهيه، وثوابه وعقابه.
فإذا كانت السموات والأرض وما بينهما خلقت لهذا، وهو غاية الخلق، فكيف يقال: إنه لا علة له، ولا حكمة مقصودة هي غايته؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكّد عليهم الثواب بالمنة، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية. وارتياضها بمخالفة العوائد؟.
فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال، وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته.
فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته. مع الخضوع له والانقياد لأمره.
فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله. فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.
ودل على أن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية، حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما. فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله. قال الله تعالى: ٩: ٢٤ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
فكل من قدّم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله. فذلك المقدّم عنده أحب من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه أو
فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك. وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول، وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور. ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به، فهذا الذي يخاف عليه. وهو داخل تحت الوعيد. فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله، ولم يوافقه على اتباع شيخه. فهو من الظلمة المعتدين. وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
فصل
وبنى «إياك نعبد» على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان، والقلب، وعمل القلب والجوارح.
فالعبودية: اسم جامع لهذه المراتب الأربع. فأصحاب «إياك نعبد» حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه، والذبّ عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضى به وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة
فإياك نعبد: التزام لأحكام هذه الأربعة، وإقرار بها، و «إياك نستعين» طلب للاعانة عليها والتوفيق لها، و «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل، وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السالكين إلى الله بهما
فصل
وجميع الرسل إنما دعوا إلى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وعبادته، من أولهم إلى آخرهم. فقال نوح لقومه ٧:
٥٩ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وكذلك قال هود وصالح وشعيب ٧:
٦٥، ٧٣، ٨٥ وإبراهيم. قال الله تعالى: ١٦: ٣٦ وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال ٢١: ٢٥ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقال تعالى:
٢٣: ٥١، ٥٢ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
فصل
والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه، وأقربهم إليه. فقال:
٤: ١٧٢نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
وقال ٤٠: ٦٠ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ وهذا يبين أن الوقف التام في قوله ٢١: ١٩ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هاهنا، ثم يبتدئ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ
فهما جملتان تامتان مستقلتان: أي إن له من في السموات ومن في الأرض عبيدا وملكا. ثم
والثاني: وصف لعبيد إلهيته وقال تعالى: ٢٥: ٦٣- ٧٧ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إلى آخر السورة. وقال ٧٦: ٦ عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً وقال ٣٨: ١٧ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وقال ٣٨: ٤١ وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ وقال ٣٨: ٤٥ وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وقال عن سليمان ٣٨: ٣٠ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وقال عن المسيح ٤٣: ٥٩ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ فجعل غايته العبودية لا الإلهية، كما يقول أعداؤه النصارى، ووصف أكرم خلقه عليه، وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته.
فقال تعالى: ٢: ٢٣ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وقال تبارك وتعالى: ٢٥: ١ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ وقال ١٨: ١ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه والتحدي بأن يأتوا بمثله، وقال ٧٢: ١٩ وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه. وقال ١٧: ١ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا فذكره بالعبودية في مقام الإسراء.
وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد.
فقولوا عبد الله ورسوله»
وفي الحديث «أنا عبد آكل كما يأكل العبيد، وأجلس كما يجلس العبيد»
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو قال «قرأت في التوراة صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم: محمد رسول الله، عبدي ورسولي، سميته المتوكل. ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر».
وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم إحسان العبودية على مراتب الدين، وهو الإحسان.
فقال في حديث جبريل- وقد سأله عن الإحسان-: «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «١»
. فصل
في لزوم «إياك نعبد» لكل عبد إلى الموت قال الله تعالى لرسوله ١٥: ٩٩ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وقال أهل النار ٧٤: ٤٦، ٤٧ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ واليقين هاهنا: هو الموت بإجماع أهل التفسير.
وفي الصحيح، في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه»
أي الموت وما فيه. فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان «من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟» ويلتمسان منه الجواب.
وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود، فيسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه التعبد فهو زنديق، كافر بالله ورسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله، والانسلاخ من دينه، وكلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكثر من الواجب على من دونه. ولهذا كان الواجب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم. والواجب على أولى العزم:
أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على أولى العلم: أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته.
فصل
في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة العبودية نوعان: عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله، برّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم. فهذه عبودية القهر والملك. قال تعالى:
١٩: ٨٨- ٩٣ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وقال تعالى: ٢٥: ١٧ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ فسماهم عباده مع ضلالهم، لكن تسمية مقيدة بالإشارة، وأما المطلقة فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وقال تعالى: ٣٩: ٤٦ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ
وقال ٤٠: ٣١ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ٤٠: ٤٨ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة، واتباع الأوامر. قال تعالى: ٤٣: ٦٨ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وقال ٣٩: ١٧، ١٨ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقال ٢٥: ٦٣، ٦٤ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وقال تعالى عن إبليس ١٥: ٤٠ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فقال تعالى: ١٥:
٤٠: ٤١ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته: هم عبيد إلهيته.
ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء.
وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية: فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه: إما منكرا. كقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً والثاني: معرفا باللام كقوله ٤٠: ٣١ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ٤٠: ٤٨ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ.
الثالث: مقيدا بالإشارة أو نحوها كقوله أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ.
الرابع: أن يذكروا في عموم عباده. فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر. كقوله ٣٩: ٤٦ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم. كقوله ٣٩: ٥٣ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وقد يقال: إنما سماهم عباده إذ لم يقنطوا من رحمته، وأنابوا إليه،
وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة: لأن أصل معنى اللفظة:
الذل والخضوع. يقال: «طريق معبد» إذا كان مذللا بوطء الأقدام، وفلان عبّده الحب إذا ذلله، لكن أولياؤه خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا، وانقيادا لأمره ونهيه، وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما.
ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة: انقسام القنوت إلى خاص وعام، والسجود كذلك. قال تعالى في القنوت الخاص ٣٩: ٩ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ وقال في حق مريم ٦٦: ١٢ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ وهو كثير في القرآن.
وقال في القنوت العام ٢: ١١٦ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي خاضعون أذلاء.
وقال في السجود الخاص ٤٠: ٦٠ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ وقال ١٩: ٥٨ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا وهو كثير في القرآن.
وقال في السجود العام ١٣: ١٥ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.
ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله ٢٢:
١٨ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل ١٦: ٢٤٩ وهو سجود الذل والقهر والخضوع. فكل أحد خاضع لربوبيته، ذليل لعزته. مقهور تحت سلطانه تعالى.
فصل
في مراتب «إياك نعبد» علما وعملا للعبودية مراتب، بحسب العلم والعمل. فأما مراتبها العلمية فمرتبتان:
إحداهما: العلم بالله. والثانية: العلم بدينه.
فأما العلم به سبحانه، فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان. إحداهما: دينه الأمر الشرعي. وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
والثانية: دينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذا العلم العلم بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العلمية فمرتبتان: مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين.
فأما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات، وترك بعض المستحبات.
وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره.
وخاصتهم: قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساو الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة، ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات، وهؤلاء يأتونها إطاعات وقربات، ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.
فصل
ورحى العبودية على خمس عشرة قاعدة. من كملها كمل مراتب العبودية وبيانها: أن العبودية منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح.
وعلى كل منها عبودية تخصه.
والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان، والجوارح. فواجب القلب: منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه.
فالمتفق على وجوبه: كالإخلاص، والمحبة، والصبر، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتصديق الجازم، والنية في العبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره.
ونية العبادة لها مرتبتان.
إحداهما: تمييز العبادة عن العادة.
والثانية: تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض.
والأقسام الثلاثة واجبة.
وكذلك الصدق. والفرق بينه وبين الإخلاص: أن للعبد مطلوبا وطلبا، فالإخلاص: توحيد مطلوبه. والصدق: توحيد طلبه.
فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسما. والصدق: أن لا يكون الطلب منقسما: فالصدق بذل الجهد، والإخلاص: إفراد المطلوب واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة.
وكذلك النصح في العبودية. ومدار الدين عليه، وهو بذل الجهد في
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان، واجب مستحق. وهو مرتبة أصحاب اليمين، وكمال مستحب. وهو مرتبة المقربين.
وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة، قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن، أو بضعا وتسعين، وله طرفان أيضا: واجب مستحق، وكمال مستحب.
[ثم ذكر القسم الواجب المختلف فيه- إلى أن قال].
والمقصود: أن يكون ملك الأعضاء- وهو القلب- قائما بعبوديته لله هو ورعيته وأما المحرمات التي عليه: فالكبر، والرياء، والعجب، والحسد، والغفلة، والنفاق، وهي نوعان: كفر ومعصية. فالكفر كالشك، والنفاق والشرك، وتوابعها.
والمعصية نوعان: كبائر وصغائر.
فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا، وشرب الخمر، وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن.
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها.
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها.
ومن الصغائر أيضا: شهوة المحرمات وتمنيها، وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر، بحسب تفاوت درجات المشتهي، فشهوة الكفر والشرك: كفر، وشهوة البدعة: فسق، وشهوة الكبائر: معصية، فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب. وإن تركها عجزا عن بذله مقدورة في تحصيلها: استحق عقوبة الفاعل، لتنزله منزلته في أحكام الثواب والعقاب، وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع، ولهذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» «١»
فنزله منزلة القاتل، لحرصه في الإثم دون الحكم، وله نظائر كثيرة في الثواب والقلب.
وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.
فصل
وأما عبوديات اللسان الخمس: فواجبها: النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن. وهو ما يتوقف صحة صلاته عليه، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله، كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود، وأمر بقول: «ربنا ولك الحمد» بعد الاعتدال الواجبة بالتشهد، وأمر بالتكبير.
ومن واجبه: رد السلام. وفي ابتدائه قولان. ومن واجبه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وأداء
وأما مستحبه: فتلاوة القرآن ودوام ذكر الله، والمذاكرة في العلم النافع، وتوابع ذلك.
وأما محرمة فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله، والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها، وكالقذف وسب المسلم، وأذاه بكل قول، والكذب، وشهادة الزور، والقول على الله بلا علم، وهو أشدها تحريما.
ومكروهه: التكلم بما تركه خير من الكلام به، مع عدم العقوبة عليه.
وقد اختلف السلف. هل في حقه كلام مباح متساوي الطرفين؟ على قولين. ذكرهما ابن المنذر وغيره. أحدهما: أنه لا يخلو كل ما يتكلم به:
إما أن يكون له أو عليه. وليس في حقه شيء لا له ولا عليه.
واحتجوا
بالحديث المشهور، وهو «كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه» «١».
واحتجوا بأنه يكتب عليه كلامه كله. ولا يكتب إلا بالخير والشر.
وقالت طائفة: بل هذا الكلام مباح لا له ولا عليه كما في حركات الجوارح.
قالوا: لأنّ كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي. وهذا شأن المباح.
والتحقيق: أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين، بل إما راجحة وإما مرجوحة. لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح، وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله فإنما نحن بك، فإن
وأخرجه البخاري في التاريخ عن أم حبيبة بلفظ: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلّا أمره بالمعروف ١/ ١/ ٢٦٢.
فإن قيل: فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين.
فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل.
قيل: حركته بها عند الحاجة إليها راجحة، وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده. فتكون عليه لا له.
فإن قيل: فإذا كان الفعل متساوي الطرفين كانت حركة اللسان الوسيلة إليه كذلك، إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم.
قيل: لا يلزم ذلك. فقد يكون الشيء مباحا، بل واجبا، ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة: هو واجب، مع أن وسيلته، وهو النذر مكروه منهي عنه، وكذلك الحلف المكروه مرجوح، مع وجوب الوفاء به أو الكفارة، وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه. ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة، وهذا كثير جدا. فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها، وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه.
فصل
وأما المعبودات الخمس على الجوارح: فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا: إذ الحواس خمسة. وعلى كل حاسة خمس عبوديات، فعلى السمع: وجوب الإنصات، والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه، من
ويحرم عليه استماع الكفر والبدع، إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة. من ردّه، أو الشهادة على قائله، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره، ولا يجب أن يطلعك عليه، ما لم يكن متضمنا لحق الله يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعين نصحه، وتحذيره منه.
وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن، إذا لم تدع إليه حاجة، من شهادة، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة ونحوها.
وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو، كالعود والطنبور واليراع ونحوها. ولا يجب عليه سدّ أذنه إذا سمع الصوت، وهو لا يريد استماعه، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات، فحينئذ يجب تجنب سماعها وجوب سد الذرائع.
ونظير هذا المحرم: لا يجوز له تعمد شم الطيب، وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامّه لم يجب عليه سد أنفه، ونظير هذا: نظرة الفجأة لا تحرم على الناظر، وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها.
وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم، وقراءة القرآن، وذكر الله، واستماع كل ما يحبه الله، وليس بفرض.
والمكروه: عكسه، وهو استماع كل ما يكرهه ولا يعاقب عليه، والمباح ظاهر.
وأما النظر الواجب: فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها، والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي
ونحو ذلك.
والنظر الحرام: النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا، وبغيرها إلّا لحاجة، كنظر الخاطب، والمستام والمعامل، والشاهد، والحاكم، والطبيب، ذي المحرم.
والمستحب: النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما والنظر في المصحف ووجوه العلماء الصالحين، الوالدين، والنظر في آيات الله المشهودة، ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته.
والمكروه: فضول النظر الذي لا مصلحة فيه. فإن له فضولا كما للسان فضولا، وكم قاد فضولها إلى فضول عزّ التخلص منها، وأعيي دواؤها. وقال بعض السلف: كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام.
والمباح: النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة.
ومن النظر الحرام: النظر إلى العورات. وهي قسمان.
عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب.
ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه شيء، وذهبت هدرا، بنص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق على صحته. وإن ضعفه بعض الفقهاء، لكونه لم يبلغه النص، أو تأوله، وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح لأجله، كعورة له هناك ينظرها. أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في اطلاعها.
وأما الذوق الواجب: فتناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه، وخوف الموت، فإن تركه حتى مات، مات عاصيا قاتلا لنفسه. قال الإمام
ومن هذا: تناول الدواء إذا تيقن به من الهلاك، على أصح القولين.
وإن ظن الشفاء به، فهل هو مستحب مباح، أو الأفضل تركه؟ فيه نزاع معروف بين السلف والخلف.
والذوق الحرام: كذوق الخمر والسموم القاتلة. والذوق الممنوع منه للصوم الواجب.
وأما المكروه: فكذوق المشتبهات، والأكل فوق الحاجة، وذوق طعام الفجاءة، وهو الطعام الذي تفجأ آكله، ولم يرد أن يدعوك إليه، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها،
وفي السنن: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن طعام المتبارين»
وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس.
والذوق المستحب: أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل، مما أذن الله فيه. والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل، فينال منه غرضه. والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب.
وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها، للأمر به عن الشارع.
وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم، فالشم الواجب: كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام، كالشم الذي يعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة؟ وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به، وما لا يملك؟ ومن هذا شم المقوّم وربّ الخبرة عند الحكم بالتقويم، والعبيد ونحو ذلك.
وأما الشم الحرام: فالتعمد لشم الطيب في الإحرام، وشم الطيب المغصوب والمسروق، وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات للافتتان بما وراءه.
وأما الشم المستحب: فشم ما يعينك على طاعة الله ويقوي الحواس، ويبسط النفس للعلم والعمل. ومن هذا: هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك.
ففي صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عرض عليه ريحان فلا يرده.
فإنه طيب الريح، خفيف المحمل».
«١»
والمكروه: كشم الظّلمة، وأصحاب الشبهات، ونحو ذلك.
والمباح: ما لا منع فيه من الله ولا تبعة، ولا فيه مصلحة دينية ولا تعلق له بالشرع.
وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس. فاللمس الواجب: كلمس الزوجة حين يجب جماعها، والأمة الواجب إعفافها.
والحرام: لمس ما لا يحل من الأجنبيات.
والمستحب: إذا كان فيه غض بصره وكف نفسه عن الحرام وإعفاف أهله.
ومن هذا لمس بدن الميت- لغير غاسله- لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له، ولهذا يستحب ستره عن العيون وتغسيله في قميص في أحد القولين، ولمس فخذ الرجل، إذا قلنا: هو عورة.
والمباح: ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية.
وهذه المراتب أيضا مرتّبة على البطش باليد والمشي بالرجل. وأمثلها لا تخفى.
فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهل عياله: واجب. وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف، والصحيح: وجوبه ليمكنه من أداء دينه، ولا يجب لإخراج الزكاة وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر، والأقوى في الدليل:
وجوبه لدخوله في الاستطاعة، وتمكنه بذلك من أداء النسك. والمشهور عدم وجوبه.
ومن البطش الواجب: إعانة المضطر ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم.
والحرام: كقتل النفس التي حرم الله، ونهب المال المغصوب، وضرب من لا يحل ضربه ونحو ذلك، وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنّرد، أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة كالشطرنج، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره، أو دونه عند بعضهم. ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا، إلا مقرونا بردها ونقضها، وكتابة الزور والظلم، والحكم الجائر، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم، ولا سيما إن كسبت عليه مالا: ٢: ٩ ٧٩ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ وكذلك كتابة
وأما المكروه: فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام، وكتابة ما لا فائدة في كتابته، ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة.
والمستحب: كتابة كل ما فيه منفعة في الدين، أو مصلحة لمسلم، والإحسان بيده بأن يعين صانعا، أو يصنع لأخرق، أو يفرغ من دلوه في دلو المستسقي، أو يحمل له على دابته، أو يمسكها حتى يحمل عليها، أو يعاونه بيده فيما يحتاج إليه ونحو ذلك، ومنه: لمس الركن بيده في الطواف، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان.
والمباح: ما لا مضرة فيه ولا ثواب.
وأما المشي الواجب: فالمشي إلى الجمعات والجماعات، في أصح القولين لبضعة وعشرين دليلا، مذكورة في غير هذا الموضع. والمشي حول البيت للطواف الواجب، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه، والمشي إلى صلة رحمه، وبر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر.
والحرام: المشي إلى معصية الله، وهو من رجل الشيطان. قال تعالى: ١٧: ٦٤ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال مقاتل «١» :
وقال له آخر: الذرة أو النملة معاؤها في مقدمها أو مؤخرها فلم يدر ما يقول وقال:
ليس هذا علمكم لكن بليت به لعجبي بنفسي، وسأله المنصور: لم خلق الله الذباب، فقال: ليذل به الجبابرة، وقال الشافعي: الناس عيال على مقاتل بن سليمان في
وكذلك تعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا:
فواجبه في الركوب في الغزو والجهاد والحج الواجب.
ومستحبه: في الركوب المستحب من ذلك، ولطلب العلم، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وفي الوقوف بعرفة نزاع: هل الركوب فيه أفضل، أم على الأرض؟ والتحقيق: أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة: من تعليم للمناسك، واقتداء به، وكان أعون على الدعاء ولم يكن فيه ضرر على الدابة.
وحرامه: الركوب في معصية الله عز وجل.
ومكروهه: الركوب للهو واللعب، وكل ما تركه خير من فعله.
ومباحه: الركوب لما لم يتضمن فوت أجر، ولا تحصيل وزر.
فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب، واللسان، والسمع، والبصر، والأنف، والفم، واليد، والرجل، والفرج، والإستواء على ظهر الدابة.