وهي خمس آيات، قال المحلي : أو ست آيات، قال سليمان الجمل : ولم يذكر غيره هذا القول من المفسرين فيما رأينا ؛ بل اقتصروا على كونها خمسا، ولعل قائل هذا القول يعد ﴿ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم ﴾ آية مستقلة، ثم رأيت في السمين ما يشير إليه انتهى، وهي مكية عند أكثر المفسرين، كذا قال الماوردي، وقال الثعلبي : هي مدنية في قول أكثر المفسرين، وهو الأصح، وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة.
ﰡ
وفي آية أخرى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) وهي ليلة القدر، وفي آية أخرى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) وليلة القدر في شهر رمضان، قال مجاهد في ليلة القدر، ليلة الحكم.
وقد آخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل وغيرهم عن ابن عباس " أنزل القرآن في ليلة القدر حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم جعل جبريل ينزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بجواب كلام العباد وأعمالهم ".
ومعلوم أن الإِنزال مستعار للمعاني من الأجرام، شبه نقل القرآن من اللوح إلى السماء وثبوته فيها بنزول جسم من علو إلى سفل، فعلى هذا هو مجاز مستعار قيل: سميت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدر فيها ما شاء من أمره
وقيل إنها سميت بذلك لعظم قدرها وشرفها، من قولهم لفلان قدر، أي شرف ومنزلة كذا قال الزهري: وقيل سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً وقال الخليل: سميت ليلة القدر لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة كقوله (ومن قدر عليه رزقه) أي ضيق.
والأحاديث في فضل ليلة القدر كثيرة وكذا في تعيينها وليس هذا موضع بسطها وقد اختلف في تعيين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولاً قد ذكرناها بأدلتها وبيّنا الراجح منها في شرحنا لبلوغ المرام المسمى بمسك الختام، وذكرها الشوكاني في شرحه لمنتقى الأخبار المسمى بنيل الأوطار.
والمعنى أي شيء يجعلك دارياً بها.
ثم بين فضلها من ثلاثة أوجه أولها قوله
وقيل أراد بقوله ألف شهر جميع الدهر لأن العرب تذكر الألف في كثير من الأشياء على طريق المبالغة، وقيل وجه ذكر ألف شهر أن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابداً حتى يعبد الله ألف شهر، فجعل الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، عبادة ليلة خيراً من عبادة ألف شهر كانوا يعبدونها.
عن أنس في الآية قال العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة والزكاة أفضل من ألف شهر، وعن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر يا محمد يعني نهر في الجنة ونزلت (إنا أنزلناه في ليلة القدر) إلى قوله (ألف شهر) يملكها بعدك بنو أمية، قال القاسم فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً " والمراد بالقاسم هو القاسم بن الفضل المذكور في إسناده أخرجه الترمذي وضعفه وابن جرير والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي.
قال الترمذي أن يوسف هذا مجهول يعني يوسف بن سعد الذي رواه عن الحسن بن علي، قال ابن كثير فيه نظر فإنه قد روى عنه جماعة منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء ويونس بن عبيد، وقال فيه يحيى بن معين هو مشهور وفي رواية عنه هو ثقة، ورواه ابن جرير من طريق القاسم ابن الفضل عن عيسى بن مازن.
قال ابن كثير ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً، قال المزني هو حديث منكر.
وقول القاسم بن الفضل أنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر الخ ليس بصحيح فإن جملة مدتهم من عند أن استقل بالملك معاوية وهي سنة أربعين إلى أن سلبهم الملك بنو العباس، وهي سنة اثنتين وثلاثين ومائة مجموعها اثنتان وتسعون سنة، وعن ابن عباس نحو ما روي عن الحسن بن علي، وعن سعيد بن المسيب مرفوعاً مرسلاً نحوه.
وقد تقدم الخلاف في الروح عند قوله (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً) قرأ الجمهور تنزل بفتح التاء وقرىء بضمها على البناء للمفعول.
(من) أجل (كل أمر) من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة، وقيل أن من بمعنى اللام أي لكل أمر، وقيل هي بمعنى الباء أي بكل أمر، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم، قرأ الجمهور " أمر " وهو واحد الأمور، وقرىء امرىء مذكر امرأة أي من أجل كل إنسان، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة فيسلمون على كل إنسان، فـ (من) على هذا بمعنى على، والأول أولى.
وقد تم الكلام عند قوله (من كل أمر) ثم ابتدأ بفضلها الثالث فقال
وقال الشعبي هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن ويقولون السلام عليك أيها المؤمن، وقيل يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض، وقال عطاء يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته.
وعن ابن عباس في الآية قال في تلك الليلة تصفد مردة الشياطين وتغل عفاريت الجن وتفتح فيها أبواب السماء كلها ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب،
قرأ الجمهور مطلع بفتح اللام، وقرىء بكسرها فقيل هما لغتان في المصدر، والفتح أكثر نحو المخرج والمقتل، وقيل بالفتح اسم مكان وبالكسر المصدر، وقيل العكس و " حتى " متعلقة بتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أي لمكثهم في محل تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر وقيل متعلقة بسلام بناءً على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر.
تسمى سورة البينة، وسورة المنفكين، وسورة القيامة، وسورة البرية، هي ثمان آيات أو تسع آيات وهي مدنية في قول الجمهور، وقيل مكيّة، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس نزلت بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة لم يكن بمكة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقرأ عليه.
وعن أبي حية البدري قال: " لما نزلت (لم يكن) إلى آخرها قال جبريل يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبياً فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبيّ " إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة " فقال أبيّ وقد ذُكرت ثَمّ يا رسول الله قال " نعم " فبكى " (١) أخرجه أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه.
_________
(١) ثَمَّ بفتح الثاء أي هناك وتأمل تجد أنه بكى خشية لله ولم يغتر.
وعن إسماعيل بن أبي حكيم المزني أحد بني فضل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يقول: " إن الله يستمع قراءة (لم يكن الذين كفروا) فيقول أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى " (١) أخرجه أبو نعيم في المعرفة، قال ابن كثير حديث غريب جداً، وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني أو المدني بنحوه.
_________
(١) مسلم ٤/ ١٩١٥.
بسم الله الرحمن الرحيم
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)