ﰡ
٣ - قوله في سورة البقرة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.
٤ - قوله في سورة الأنفال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)﴾.
فآية القدر صريحة في أن إنزال القرآن كان في ليلة القدر، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان في ليلة مباركة، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان في شهر رمضان، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله - ﷺ - كان في ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين في غزوة بدر التي فرق الله سبحانه فيها بين الحق والباطل، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان، ومن ذلك يتضح أن هذه الليلة هي ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِنَّا﴾ نحن ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ أي: أنزلنا هذا القرآن الكريم جملة واحدة. ﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ في مكان يقال له: بيت العنة، ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي - ﷺ - نجومًا متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة، فكان ينزل بحَسَب الوقائع والحاجة إليه.
وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ النون (١) فيه للعظمة، من للدلالة على الذات مع الصفات والأسماء، والضمير للقرآن؛ لأن شهرته تقوم مقام تصريحه باسمه، وإرجاع الضمير إليه، فكأنه حاضر في جميع الأذهان، وعظمه بأن أسند إنزاله إلى جنابه مع أن نزوله إنما يكون بواسطة الملك، وهو جبريل على طريقة القصر بتقديم الفاعل المعنوي، إلا أنه اكتفى بذكر الأصل عن ذكر التبع، قال في بعض التفاسير: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾: مبتدأ وخبر في الأصل بمعنى: نحن أنزلناه، فأدخل ﴿إنَّ﴾ للتحقيق، فاختير
ثم إن الإنزال (١) يُستعمل في الدفعي، والقرآن لم ينزل جملة واحدة، بل أُنزل منجمًا مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة، وهذه السورة من جملة ما أنزل، وجوابه أن المراد أن جبريل نزل به جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة في السماء الدنيا، وأملاه على السفرة؛ أي: الملائكة الكاتبين في تلك السماء، ثم كان ينزل على النبي - ﷺ - منجمًا على حَسَب المصالح، وكان ابتداء تنزيله أيضًا في مثل تلك الليلة.
وفيه إشارة (٢) إلى أن بيت العزة أشرف المقامات السماوية بعد اللوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليه، ولذلك قيل بفضل السماء الأولى على أخواتها؛ لأنها مقر الوحي الرباني، وقيل: لشرف المكان بالمكين، وكل منهما وجه، فإن السلطان إنما ينزل على أنزه مكان، ولو فرضنا نزوله على مسبخة.. لكفى نزوله هناك شرفًا لها، فالمكان الشريف يزداد شرفًا بالمكين الشريف، كما سبق في سورة البلد.
ففي نزول القرآن بالتدريج إشارة إلى تعظيم الجانب المحمدي، كما تدخل الهدايا شيئًا بعد شيء على أيدي الخدام تعظيمًا للمُهدى إليه بعد التسوية بينه وبين موسى عليهما السلام بإنزاله جملة إلى بيت العزة، وفي التدريج أيضًا تسهيل للحفظ وتثبيت لفؤاده، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وكلام الله المنزل قسمان: القرآن، والخبر القدسي؛ لأن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها باللفظ.
والسر في ذلك التعبد بلفظه، والإعجاز به فإنه لا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظًا، ومن الأسرار معنى، فكيف يقوم لفظ الغير ومعناه مقام حرف القرآن.
(٢) روح البيان.
وهنا سؤال: وهو أن الملائكة بأَسْرِهِم صعقوا ليلة نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة، كما ورد فيما وجهه.
والجواب: أن محمدًا - ﷺ - عندهم من أشراط القيامة، والقرآن كتابه، فنزوله دل على قيام الساعة، فصعقوا هيبة منه، وإجلالًا لكلامه ووعده ووعيده، ثم إن القرآن كلامه القديم أنزله في شهر رمضان، كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وهذا هو البيان الأول، ولم ندر نهارًا أنزل فيه أم ليلًا، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ وهذا هو البيان الثاني، ولم ندر أي ليلة هي، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾، فهذا هو البيان الثالث الذي هو غاية البيان.
فالصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وينسخ فيها أمر السنة وتدبير الأحكام إلى مثلها هي ليلة القدر، ولتقدير الأمور فيها، سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة تقدير الأحكام، والأمور السفلية، ويشهد التنزيل لما ذكرنا؛ إذ في أول الآية: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، ثم وصفها فقال: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)﴾، والقرآن إنما نزل في ليلة القدر، فكانت هذه الآية بهذا الوصف في هذه الليلة مواطئة لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾، كذا في "قوت القلوب" للشيخ أبي طالب المكي رحمه الله تعالى.
فإن قلت (١): ما الحكمة في إنزال القرآن ليلًا؟
قلت: لأن أكثر الكرامات ونزول النفحات والأسرار في السموات يكون بالليل، والليل من الجنة؛ لأنها محل الاستراحة، والنهار من النار؛ لأن فيه المعاش والتعب، والنهار حظ اللباس والفراق، والليل حظ الفراش والوصال، وعبادة الليل أفضل من عبادة النهار؛ لأن قلب الإنسان فيه أجمع، والمقصود من
٢ - ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢)﴾؛ أي: ما مقدار شرفها، وليس المراد: ما حقيقتها؟ فإنها مدة مخصوصة من الزمان، أي: وأي شيء أعلمك يا محمد ما هي؛ أي: إنك لا تعلم كنهها؛ لأن علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يدريها أحد منهم، ولا يدريها إلا علام الغيوب، وهو تعظيم للوقت الذي أنزل فيه، ومن بعض فضائل ذلك الوقت أنه يرتفع سؤال القبر عمن مات فيه، وكذا في سائر الأوقات الفاضلة، ومن ذلك العيد، ثم مقتضى الكرم أن لا يسأل بعده أيضًا.
فصل في فضل ليلة القدر وما وقع فيها من الاختلاف
عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا.. غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
واختلف العلماء في وقتها (١)، فقال بعضهم: إنها كانت على عهد رسول الله - ﷺ -، ثم رُفعت لقوله - ﷺ - حين تلاحى الرجلان: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، فعسى أن يكون خيرًا لكم" وهذه غلط ممن قال بهذا القول؛ لأن آخر الحديث يرد عليه، فإنه - ﷺ - قال في آخره: "فالتمسوها في العشر الأواخر": في التاسعة والسابعة والخامسة، فلو كان المراد: رفع وجودها لم يأمر بالتماسها، وعامة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء على أنها باقية إلى يوم القيامة.
روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أن ليلة القدر رُفعت، قال: كذب من قال ذلك، قلت: هي في كل شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم.
ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها، فقيل: هي متنقلة تكون في سنة في ليلة، وفي سنة أخرى في ليلة أخرى هكذا أبدًا، قالوا: وبهذا يُجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة، وقال مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو
وروي عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول يصبها، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنه علم أنها في شهر رمضان، ولكن أراد أن لا يتكل الناس، وقال جمهور العلماء: إنها في شهر رمضان، واختلفوا في تلك الليلة، فقال أبو رزين العقيلي: في أول ليلة من شهر رمضان، وقيل: هي ليلة سبعة عشر، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر، ويحكى هذا عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضًا والحسن، والصحيح الذي عليه الأكثرون: أنها في العشر الأواخر من رمضان. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان رسول الله - ﷺ - يجاور العشر الأواخر من رمضان، ويقول: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان" رواه مسلم.
وذهب الشافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين.
وعن أبي هريرة أن أبا سعيد قال: اعتكفنا مع رسول الله - ﷺ - العشر الأواسط، فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا، فأتانا النبي - ﷺ -، فقال: "من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه وأنا أريت هذه الليلة ورأيتني أسجد في ماء وطين، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمُطِرنا، فوالذي بعثه بالحق، لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم وكان المسجد على عريش، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين" متفق عليه.
وفي رواية نحوه إلا أنه قال: حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة
وورد في فضل ليلة القدر: اثنان وعشرون حديثًا، عن عبد الله بن أنيس قال: كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله - ﷺ - عن ليلة القدر؛ وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان فخرجت، فوافيت رسول الله - ﷺ - فقلت: أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال: كم الليلة؟ فقلت: اثنتان وعشرون، فقال: هي الليلة، ثم رجع، فقال: من القابلة يريد ثلاثًا وعشرين. أخرجه أبو داود.
وذهب جماعة من الصحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، ومال إليه الشافعي أيضًا، وعن الصنابحي: أنه سأل رجلًا هل سمعت في ليلة القدر شيئًا؟ قال: أخبرني بلال مؤذن رسول الله - ﷺ - أنها في أول السبع من العشر الأواخر، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس قال: قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال: "أنزل ليلة ثلاث وعشرين"، قيل لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى تصلى الصبح فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها، ولحق بباديته أخرجه أبو داود، ولمسلم عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين" قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله - ﷺ - وانصرف، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين.
وعن ابن عباس قال: التمسوها في أربع وعشرين. أخرجه البخاري. وقيل: هي في ليلة خمس وعشرين، دليله قوله - ﷺ -: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" وقيل: هي ليلة سبع وعشرين، ويحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم: أبي بن كعب، وابن عباس وإليه ذهب أحمد.
وعن زر بن حبيش قال: سمعت أبي بن كعب يقول: وقيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، قال أبيّ: والله الذي لا إله إلا هو
وعن معاوية عن النبي - ﷺ - في ليلة القدر قال: "ليلة سبع وعشرين". أخرجه أبو داود، وقيل: هي ليلة تسع وعشرين، دليله قوله: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" وقيل: هي ليلة آخر الشهر، وعن ابن عمر قال: سئل رسول الله - ﷺ - عن ليلة القدر وأنا أسمع، فقال: "هي في كل رمضان" وأخرجه أبو داود قال: ويروى موقوفًا عليه.
ذكر ليال مشتركة
وعن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله - ﷺ - في ليلة القدر: "اطلبوها ليلة سبع وعشرين من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، ثم سكت" أخرجه أبو داود.
وعن عتبة بن عبد الرحمن قال: حدثني أبي قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة، فقال: ما أنا بملتمسها بشيء سمعته من رسول الله - ﷺ - إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: "التمسوها في تسع يبقين"، من في سبع يبقين، من في خمس يبقين، من في ثلاث يبقين، من آخر الشهر قال: وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة، فإذا دخل العشر الأواخر اجتهد. أخرجه الترمذي.
وعن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله - ﷺ - ليخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال النبي - ﷺ -: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" أخرجه البخاري.
قوله: "فتلاحى رجلان"؛ أي: تخاصم رجلان، قوله: "فرفعت" لم يرد رفع عينها، وإنما أراد رفع بيان وقتها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول - ﷺ -: "هي في العشر
قال الشافعي: كان هذا عندي والله أعلم أن النبي - ﷺ - كان يجيب على نحو ما يُسئل عنه يقال له: ألتمسها في كذا؟ فقال: التمسوها في ليلة كذا، قال الشافعي: وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين، قال البغوي: وبالجملة أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة المحمدية ليجتهدوا في العبادة ليالي شهر رمضان طمعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في القرآن في أسمائه ورضاه في الطاعات؛ ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي، لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة؛ ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها.
ومن علاماتها
ما روي عن الحسن رفعه "أنها ليلة بلجة؛ أي: مضيئة سمحة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها"، وعن عائشة قالت: (كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر)، متفق عليه. ولمسلم عنها قالت: (كان رسول الله - ﷺ - يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره)، وعنها أن النبي - ﷺ -: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده) متفق عليه.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - ﷺ -: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان) متفق عليه.
وعن عائشة قالت: قلت يا رسول الله: إن علمتُ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" أخرجه الترمذي، وقال الحديث حسن صحيح، وأخرجه النسائي وابن ماجه.
ومعنى قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾؛ أي: إنا بدأنا تنزيل الكتاب
ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط بها إلا هو، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢)﴾؛ أي: ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، وفي هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم، وأنشأها من العدم.
٣ - ثم أوضح مقدار فضلها من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول منها قوله: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾؛ أي: قيامها والعبادة فيها. ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾؛ أي: من صيام ألف شهر وقيامها ليس فيها ليلة القدر حتى لا يلزم تفضيل الشيء على نفسه، فـ ﴿خَيْرٌ﴾ هنا للتفضيل، أي: أفضل وأعظم قدرًا، وأكثر أجرًا من تلك المدة، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، وتخصيص الألف بالذكر: إما للتكثير؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها، ولا تريد حقيقتها، كما في قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، أو لما روي أنه - ﷺ - ذكر رجلًا من بني إسرائيل اسمه: شمسون لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فتعجب المؤمنون منه، وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك المغازي، رواه ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: إن الرجل فيما مضى
والمعنى (١): أي هذه الليلة أعظم قدرًا وأكثر أجرًا من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر؛ لأن ليلة يسطع فيها نور الهدى، وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل لخير البشر، ويكون فيها وضع الحجر الأساسي لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم في كل زمان ومكان هي خير من ألف شهر من شهورهم التي كانوا يتخبطون فيها في ظلام الشرك وضلال الوثنية حيارى، لا يهتدون إلى غاية، ولا يقفون عند حد. والله تعالى يفضل ما شاء من زمان ومكان لمعنى من المعاني التي تدعو إلى التفضيل، وله الحكمة البالغة، وأي عظمة أعلى من عظمة ليلة يبتدىء فيها نزول هذا النور والهداية للناس بعد أن مضت على قومه - ﷺ - حقب متتابعة، وهم في ضلال الوثنية؟ وأي شرف أرفع من شرف ليلة سطع فيها بدر المعارف الإلهية على قلب رسوله - ﷺ - بعباده يبشرهم وينذرهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويجعل منهم أمة تحرر الناس من استعباد القياصرة، وجبروت الأكاسرة، ويجمعهم بعد الفرقة، ويلم شعثهم بعد الشتات؟.
فحق على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدًا لهم، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي الذي وجّه المسلمين تلك الجهة الصالحة النافعة، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم شكرًا له على نعمه ورجاء مثوبته.
قال المفسرون: معنى هذه الآية (٢): العمل الصالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى في تلك الليلة من المنافع والأرزاق وأنواع الخير والبركة.
ومن المعلوم (٣): أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة،
(٢) الخازن.
(٣) المراح.
قال في "الكواشي": ثم إن (١) نهار ليلة القدر مثل ليلة القدر في الخير، واختلفوا في وقتها كما مر، فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها، وإنما جُعلت في العشر الأخير الذي هو مظنة ضعف الصائم وفتوره في العبادة؛ ليتجدد جِده في العبادة رجاء إدراكها وجُعلت في الوتر؛ لأن الله سبحانه وتر يحب الوتر.
٤ - والوجه الثاني من فضلها: قوله عز وجل: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الليلة تهبط الملائكة كلهم من كل سماء إلى الأرض، وهو الأظهر؛ لأن الملائكة إذا نزلت في سائر الأيام إلى مجلس الذكر، فلأن ينزلوا في تلك الليلة مع علو شأنها أولى، أو إلى السماء الدنيا قالوا: ينزلون فوجًا فوجًا فمن نازل ومن صاعد كأهل الحج، فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة، ومواضع النسك بأسرهم، لكن الناس بين داخل وخارج، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر، وذكر لفظ ﴿تَنَزَّلُ﴾ هو المفيد للتدريج، وبه يندفع ما يرد أن الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتملها الأرض، وكذا السماء الدنيا على أن شأن الأرواح غير شأن الأجسام، والملائكة وإن كان لهم أجسام لطيفة يقال لهم: الأرواح.
وهذه الجملة مستأنفة مبينة لما له فضلت على ألف شهر، والحكمة (٢) في نزولهم في تلك الليلة أنهم لما قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ وظهر أن الأمر
(٢) الخازن.
ووجه ذكره بعد دخوله في الملائكة التعظيم له والتشريف لشأنه، وقيل: إن الروح صنف من الملائكة هم أشرافهم لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقيل: إن الروح ملك عظيم ينزل مع الملائكة تلك الليلة، ومن عظمه أنه لو التقم السموات والأرضين كانت له لقمة واحدة، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَنَزَّلُ﴾ أصله: تتنزل بتاءين، وقرأ طلحة بن مصرف وابن سميفع بضمها على البناء للمفعول، وقوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿تَنَزَّلُ﴾، من بمحذوف هو حال من ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: تنزل الملائكة وتهبط في تلك الليلة كلهم، والروح، بإذن ربهم؛ أي: بأمره وإرادته، أو حال كونهم متلبسين بإذن ربهم وإرادته.
وهذا يدل (٢) على أنهم كانوا يرغبون إلينا ويشتاقون، فيستأذنون فيؤذن لهم في النزول إلينا، فإن قيل: كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة ذنوبنا؟.. قلنا: لا يقفون على تفصيل المعاصي. روي أنهم يطالعون اللوح المحفوظ، فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة، فإذا وصلوا إلى معاصيه أُرخي الستر، فلا يرونه فحينئذ يقولون: سبحان من أظهر الجميل وستر القبيح، من لأنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات كإطعام الطعام وأنين العصاة، وفي الحديث القدسي: "لأنين المذنبين أحب إلى من زجل المسبحين" فيقولون: تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتًا هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا، وكيف لا يكون أحب، وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين، وأنين المذنبين إظهار
(٢) روح البيان.
وقوله: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْر﴾ متعلق بـ ﴿تَنَزَّلُ﴾ أيضًا؛ أي: تنزل من أجل كل أمر من الأمور قد قدر وقضي في تلك السنة من خير من شر؛ أي: لأجل إنفاذ كل أمر قد قدر في تلك السنة، فـ ﴿مِنْ﴾ للتعليل، فإن قيل (١): المقدرات لا تُفعل في تلك الليلة، بل في تمام السنة، فلماذا تنزيل الملائكة فيها لأجل تلك الأمور؟.. قيل: لعل تنزلهم؛ لتعين إنفاذ تلك الأمور، وتنزلهم لأجل كل أمر ليس تنزل كل واحد لأجل كل أمر، بل ينزل الجمع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات، وقيل: إن ﴿مِنْ﴾ بمعنى الباء؛ أي: بكل أمر من الخير والبركة كقوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأمر الله، قيل: يقسم جبريل عليه السلام تلك الليلة بقية الرحمة في دار الحرب على من علم الله أنه يموت مسلمًا، فبتلك الرحمة التي قسمت عليهم ليلة القدر يُسلِمون ويموتون مسلمين.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَمْرٍ﴾ وهو واحد الأمور، وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي: ﴿من كل امرىء﴾ مذكر امرأة؛ أي: من أجل إنسان، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل مع الملائكة، فيسلمون على كل إنسان، فـ ﴿مِنْ﴾ على هذا بمعنى: على، والأول أولى، وقد تم الكلام عند قوله: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾، وما بعده مستأنفة، والمعنى؛ أي (٣): تنزلت الملائكة من عالمها حتى تمثلت لبصره - ﷺ -، وتمثل له الروح جبريل مبلغًا للوحي، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ لعباده ما فيه الخير والبركة لهم، ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شؤونه تعالى، لا نبحث عن كيفيته، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره، فما عرف العالم بعد علمه المادي بشتى وسائله إلا النزر اليسير من الأكوان، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
والخلاصة: أن هذه الليلة عيد المسلمين لنزول القرآن فيها، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك تشاركهم الملائكة فيها بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان، وقد استخلفه في الأرض.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؛ أي: من مبدئها إلى وقت طلوع الفجر فيها، وقدر المضاف؛ لكون الغاية من جنس المغيا؛ أي: إن ذلك السلام من تلك السلامة تستمر وتدوم في تلك الليلة إلى وقت طلوع الفجر، فتصعد الملائكة عند طلوعه، فيعود الزمن على حاله الأول، فمطلع بفتح اللام مصدر ميمي، ومن قرأ: بكسر اللام جعله اسمًا لوقت الطلوع؛ أي: اسم زمان، و ﴿حَتَّى﴾ متعلقة بـ ﴿تَنَزَّلُ﴾ على أنها غاية لحكم التنزل؛ أي: لمكثهم في تنزلهم، أو لنفس تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجًا بعد فوج إلى طلوع الفجر، وقال بعضهم ليلة القدر من غروب الشمس إلى طلوع الفجر سلام؛ أي: يسلم فيها الملائكة على المطيعين إلى وقت طلوع الفجر، ثم يصعدون إلى السماء، فـ ﴿حَتَّى﴾ متعلقة بـ ﴿سَلَامٌ﴾.
قالوا (٢): علامة ليلة القدر أنها ليلة لا حارة ولا باردة، وتطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها كما مر؛ لأن الملائكة تصعد عند طلوع الشمس إلى السماء،
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَطْلَعِ﴾ - بفتح اللام - وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثّاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه بكسرها، فقيل: هما مصدران في لغة بني تميم، وقيل: المصدر بالفتح، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز.
والمعنى (٢): أي هذه الليلة التي حقها الخير بنزول القرآن، وشهود ملائكة الرحمن، ليلة كلها سلامة وأمن، وكلها خير وبركة من مبدئها إلى نهايتها، ففيها فرَّج الله تعالى الكرب عن نبيه - ﷺ -، وفتح له سبل الهداية والإرشاد.
الإعراب
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة استئنافًا نحويًا. ﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَدْرَاكَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾، والكاف في محل النصب مفعول أول لـ ﴿أدرى﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاستفهامية معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾: خبر المبتدأ، والجملة المعلقة
(٢) المراغي.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْر﴾ والقَدْر - بسكون الدال - إما بمعنى العظمة والشرف من قولهم لفلان: قدر عند فلان؛ أي: منزلة ودرجة وشرف، أو بمعنى التقدير: وهو جعل الشيء على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حَسَبما اقتضت الحكمة والمصلحة، سميت ليلة القدر بمعنى المنزلة والشرف إما باعتبار العامل فيها على معنى أن من أتى بالطاعة فيها صار ذا قدر وشرف، وإما باعتبار نفس العمل على معنى أن الطاعة الواقعة في تلك الليلة لها قدر وشرف زائد، قال أبو بكر الوراق: سميت ليلة القدر؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على رسول ذي قدر لأمة لها قدر، وسميت ليلة القدر بمعنى التقدير؛ لتقدير الأمور الواقعة في تلك السنة فيها؛ أي: لإظهار تقديرها للملائكة، وإلا فالتقدير نفسه أزلي أو بمعنى الضيق، قال الخليل: سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة الضيق؛ لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، فالقدر بمعنى الضيق،
وَمَا بِتَائَيْنِ ابْتُدِيْ قَدْ يُقْتَصَرْ | فِيْهِ عَلَى تَاءٍ كَتَبْيِيْنِ الْعِبَرْ |
﴿سَلَامٌ هِيَ﴾ يصح أن يكون ضمير ﴿هِيَ﴾ عائدًا على ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾، و ﴿سَلَامٌ﴾ بمعنى التسليم، والمعنى: أن الملائكة يسلمون على المؤمنين، ويصح أن يكون عائدًا على ﴿لَيْلَةُ﴾، و ﴿سَلَامٌ﴾ أيضًا بمعنى التسليم، والمعنى: أن الليلة ذات تسليم من الملائكة على المؤمنين أو من بعضهم على بعض، ويصح على هذا الوجه أن يُجعل ﴿سَلَامٌ﴾ بمعنى سلامة؛ أي: ليلة القدر ذات سلامة من كل شر.
﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ بفتح اللام وكسرها، فهما مصدران في لغة بني تميم، وقيل: المصدر بالفتح، والموضع بالكسر عند أهل الحجاز اهـ "بحر". وعبارة "السمين": وقرأ الكسائي: ﴿مطلع﴾ بكسر اللام، والباقون بفتحها، والفتح هو القياس، وهل هما مصدران من المفتوح مصدر والمكسور اسم مكان؟ فيه خلاف اهـ، وعبارة "مناهل الرجال على لامية الأفعال" عند قول ابن مالك:
مَظْلَمَةٌ مَطْلَعُ الْمَجْمَعِ مَحْمَدَةٌ | مَذِمَّةٌ مَنْسِكٌ مَضِنَّةُ الْبُخَلَا |
الضرب الأول منها: ما جاء فيه وجهان: الفتح والكسر، وهو اثنتان وعشرون كلمة: الأول منها مظلمة، والثاني منها مطلع، يقال: طلع الكوكب يطلُع - من باب نصر - طلوعًا ومطلعًا - بالفتح - على القياس، ومطلِعًا - بالكسر - على الشذوذ؛ أي:
و ﴿الْفَجْرِ﴾ الضوء المنتشر في أفق السماء عرضًا عند قرب طلوع الشمس، والفجر إذا أطلق انصرف إلى الفجر الصادق؛ لأنه هو الذي يتعلق به الأحكام الشرعية.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإتيان بـ ﴿ـإن﴾ المكسورة في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ لتأكيد الحكم والرد على المنكِر أو الشاك والمخاطبون فيهم ذلك، فقد قالوا: من تلقاء نفسه، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: تنزلت به الشياطين، فرد على جميع ذلك بذكر الإنزال، لا أنه مختلق ولا من أساطير الأولين.
فإن قلت: إن المؤمنين يصدقون خبر المولى بلا توكيد، والكافرون يعاندون ولو تعدد التأكيد.. أجيب عنه بجوابين:
الأول: يمنع أن الكافرين يعاندون مع التأكيد، فإن عاداتهم الانقياد للتأكيدات، فربما حصل لهم هداية بسبب ذلك التأكيد.
الثاني: على تسليم أنهم يعاندون مع التأكيد، فلا نسلم حصر معنى إن في التأكيد، بل قد يؤتى بها ترغيبًا في تلقي الخير والتنبيه بعظيم قدره وشرف حكمه.
ومنها: الإتيان بضمير المتكلم المعظِّم نفسَه وهو الله تعالى إشعارًا بتعظيم المنزل والمنزل به، ويحتمل أنها للمتكلم ومعه غيره، فإن الله سبحانه أنزله، والملائكة لهم مدخلية في إنزاله، والمعنى: إنا وملائكة قدمنا أنزلناه على حد قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ﴾، والإسناد لله حقيقة إجماعًا، وللملائكة قيل كذلك، وقيل: مجاز، وعليه فلا مانع من الجمع بين الحقيقة والمجاز، يقال: بني الأميرُ وعَمَلَتُهُ المدينةَ، ولا يعترض بالجمع بين القديم والحادث في ضميره فإنه حاصل في ضمير ﴿يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ ونحوه، وأما قوله - ﷺ - للخطيب: "بئس الخطيب" لما
وقيل: وقف على قوله: ومن يعصهما قبل الجواب اهـ "صاوي".
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ حيث شبه الإيحاء بالإنزال، واستُعير الإنزال للإيحاء، واشتُق من الإنزال بمعنى الإيحاء أنزلنا بمعنى: أوحينا بجامع الإعلام في كلٍّ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأن الإنزال وصف للأجسام، والقرآن عَرَض لا جسم، فكيف يوصف بالإنزال، ويحتمل كون إسناد الإنزال إلى القرآن مجازًا عقليًا، وحقه أن يُسند إلى حامله، فالتجوز إما في الظرف أو الإسناد.
ومنها: التعبير بالإنزال دون التنزيل؛ للدلالة على أن إنزاله في ليلة القدر دفعيٌّ لا تدريجي.
ومنها: الإضمار بلا سبق مرجع في قوله: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ لأن ضمير الغيبة للقرآن اكتفاء بشهرته؛ لأن شهرته تقوم مقام تصريحه باسمه، وإرجاع الضمير إليه فكأنه حاضر في جميع الأذهان.
ومنها: الإطناب بذكر ﴿لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ ثلاث مرات زيادة في الاعتناء بشأنها وتفخيمًا لأمرها.
ومنها: الاستفهام في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢)﴾؛ لغرض التفخيم والتعظيم.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ حيث عطف ﴿الروح﴾ الذي هو جبريل مع دخوله في الملائكة إظهارًا لشرفه وجلالة قدره.
ومنها: التعبير بالتنزل دون النزول في قوله: ﴿تَنَزَّلُ﴾ إشارة إلى أنهم ينزلون طائفة بعد طائفة، فينزل فوج ويصعد فوج لضيق الأرض عنهم.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾ حيث جعل الليلة عين السلام مبالغة في اشتمالها على السلامة على حد: زيد عدل.
ومنها: تقديم الخبر على المبتدأ في قوله: ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾؛ لإفادة الحصر مثل
ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات مثل ﴿الْقَدْرِ﴾ ﴿شَهْرٍ﴾ ﴿أَمْرٍ﴾ ﴿الْفَجْرِ﴾؛ لأنه من المحسنات البديعية اللفظية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
تتمتان:
الأولى: اختلفت المذاهب في ليلة القدر، فقال مالك: إنها دائرة في العام كله، والغالب كونها في رمضان، والغالب أيضًا كونها في العشر الأواخر منه، وقال أبو حنيفة والشافعي: هي في رمضان لا تتنقل منه، والغالب كونها في العشر الأواخر، واشتهر عن أبي بن كعب وابن عباس وكثير من العلماء: أنها ليلة السابع والعشرين، وأيده بعضهم بطريق الإشارة بأن عدد كلمات السورة ثلاثون كأيام رمضان، واتفق أن كلمة ﴿هِيَ﴾ تمام سبع وعشرين، وطريق آخر في الإشارة: أن حروف ليلة القدر تسعة، وقد ذُكرت في السورة ثلاث مرات، وثلاث في تسعة بسبع وعشرين، ونُقل عن بعضهم: ضبطها بأول الشهر من أيام الأسبوع، وقالوا: إنها تُعلم باليوم الأول من الشهر، فإن كان أوله يوم الأحد أو الأربعاء فهي ليلة تسع وعشرين، أو يوم الاثنين فهي ليلة إحدى وعشرين، أو يوم الثلاثاء أو الجمعة فهي ليلة سبع وعشرين، أو يوم الخميس فهي ليلة خمس وعشرين، أو يوم السبت فهي ليلة ثلاث وعشرين، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: ومنذ ما بلغت سن الرجال ما فاتتني ليلة القدر بهذه القاعدة المذكورة، وقد نظمتها بقولي:
يَا سَائِلِيْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِيْ | فيْ عَشْرِ رَمْضَانَ الأَخِيْرِ حَلَّتِ |
فَإنَّهَا فِيْ مُفْرَدَاتِ الْعَشْرِ | تُعْرَفُ مِنْ يَوْمِ ابْتِدَاءِ الشَّهْرِ |
فَبِالأَحَدْ وَالأرْبِعَا فِيْ التَّاسِعَهْ | وَجُمْعَةِ مَعَ الثَّلاَثَا السَّابِعَهْ |
وَإِنْ بَدَا الْخَمِيْس فهْيَ الخَامِسَهْ | وَإِنْ بَدَا بِالسَّبْتِ فَهْيَ الثَّالِثَةُ |
وَإِنْ بَدَا الإِثْنَيْنِ فَهْيَ الْحَادِيْ | هَذَا عَنِ السَّادَاتِ وَالزُّهَّادِ |
والثانية: ذكر العلماء لليلة القدر علامات كما مر بعضها منها: قلة نبح
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على خمسة مقاصد:
١ - بيان إنزال القرآن في ليلة القدر جملة إلى السماء الدنيا.
٢ - تفخيم شأن ليلة القدر بالاستفهام عنها.
٣ - بيان خيريتها على ألف شهر ليست فيها ليلة القدر.
٤ - بيان تنزل الملائكة فيها إظهارًا لشرفها وقدرها.
٥ - وصفها بكونها ذات سلامة من كل شر (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة البينة، وتسمى سورة: لم يكن، مدنية في قول الجمهور، نزلت بعد سورة الطلاق، وقيل: مكية، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال نزلت سورة لم يكن بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: نزلت سورة: لم يكن بمكة، وهي: ثمان آيات، وأربع وتسعون (١) كلمة، وثلاث مئة وتسعة وتسعون حرفًا.
المناسبة: مناسبتها لما قبلها (٢): أن قوله سبحانه في هذه السورة ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾... الخ كالعلة لإنزال القرآن، كأنه قيل: إنا أنزلناه؛ لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفًا مطهرة، ووضعها النبي - ﷺ - بعد سورة القدر؛ لأن الصحف المطهرة التي كان يتلوها النبي نزلت ليلة القدر.
فضلها: ومن فضائلها (٣): ما أخرجه أبو نعيم في "المعرفة" عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني قال: حدثني الفضل قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن الله يستمع قراءة: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فيقول: أبشر عبدي وعنتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى" قال ابن كثير: حديث غريب جدًّا، وأخرجه أبو موسى المدني عن مطر المزني من المدني بنحوه. وما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ - لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قال: وسماني لك. قال: نعم، فبكى".
وما أخرجه أحمد وابن قانع في "معجم الصحابة" والطبراني وابن مردويه عن أبي حية - البدري قال: لما نزلت: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ إلى آخرها.. قال جبريل: يا رسول الله: إن ربك يأمرك أن تُقرِئَها أُبَيًّا، فقال النبي - ﷺ -
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم: سورة البينة كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)﴾.أسباب النزول
كان اليهود والنصارى (١) من أهل الكتاب في ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم إلا من عصم الله؛ لأن أسلافهم غيروا وبدلوا في شرائعهم، وأدخلوا فيها ما ليس منها إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم، وإما لاستحسانهم ضروبًا من البدع تَوَهَّمُوها مؤيدة للدين، وهي هادمة لأركانه، وإما لإفحام خصومهم، والرغبة في الظفر بهم، وقد توالت على ذلك الأزمان، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه مَن قبلَهم حتى خفيت معالم الحق، وطُمست أنوار اليقين، وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها، والخنوع لها، وأصبح من العسير تحويلهم عنها زعمًا منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان الجدل ينشب حينًا بين المشركين واليهود، وحينًا آخر بين المشركين والنصارى، وكان اليهود يقولون للمشركين: إن الله سيبعث نبيًا من العرب من أهل مكة وينعتونه لهم، ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه وآزروه واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم.
قد كان هذا وذاك، فلما بُعث محمد - ﷺ -.. قام المشركون يناوِئُونه ويرفعون