تفسير سورة المائدة

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المائدة( ١ )
١ - ب، ج: (سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم). د. (سورة المائدة قوله بسم الله الرحمن الرحيم)..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المائدة
قال علقمة: ما كان في القرآن ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ فهو نزل بالمدينة، وما كان ﴿يا أيها الناس﴾ فهو نزل بمكة.
وهذا قول جرى من علقمة على معنى أن الأكثر كذلك، وليس يصحب ذلك في كل القرآن، بل " قد " يكون في المدني ﴿يا أيها الناس﴾ وفي المكي ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾.
1551
ولكن ما كان فيه ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ فهو مدني، وما كان (فيه) ﴿يا أيها الناس﴾ ولَيْسَ فِيه ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ فهو مكي، وفي " النور " اختلاف.
قوله ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد﴾ نصب على الحال من المضمر في ﴿أَوْفُواْ﴾ يراد به التقديم، وقيل: هو حال من الكاف والميم " في قوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾. وقيل: من
1552
الكاف والميم " في ﴿عَلَيْكُمْ﴾.
ومعنى الآية الأولى - من هذه السورة - أن العقود: العهود التي (قد) كان عاهد بعضهم بعضاً بها في الجاهلية من النصرة والمؤازرة، أمروا في الإسلام أن يوفوا بها، قال ذلك ابن عباس ومجاهد والضحاك / وقتادة والسدي والثوري.
1553
وروي أن النبي عليه السلام قال: " أَوْفوا بِعَقْدِ الْجاهِلِيَّةِ وَلا تُحدِثوا عَقْداً في الإِسْلامِ ".
وقال الكلبي: العقود هنا الفرائض وما أُحِلَّ لهم وما حرم عليهم.
وقيل: هو كل شيء عقده الإنسان على نفسه: من حج أو يمين أو هبة أو عتق أو نكاح أو طلاق أو شبه ذلك.
1554
وكل طاعة ألزمها الإنسان نفسَه، فليس له أن يخرج منها حتى يُتِمَّها، وعليه القضاءُ إن قطعها من غير عذر.
" و " قال ابن جريج: هي العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد، فهي لأهل الكتاب خاصة، وكان في كتاب رسول الله الذي بعثه إلى نجران: هذا بيانٌ من الله ورسولِه: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ إلى ﴿سَرِيعُ الحساب﴾.
1555
وقال زيد بن أسلم: العقود - في هذه الآية - " سِتَّة ": " عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين ".
(و) قوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾ " الآية.
" قال الحسن: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم ". وقال قتادة والسدي والضحاك: بهيمة الأنعام: ﴿الأنعام﴾ كلُّها. وقال ابن عمر: بهيمة الأنعام: ما في
1556
بطونها.
قال عطية: هو بمنزلة كبدها يؤكل، وسئل ابن عمر عنه يخرج ميتاً، فأجاز أكله، يريد بعد ذكاة أمه، (لقول النبي ﷺ: " ذَكاةُ الْجَنينِ ذَكاةُ أُمِّهِ "). فأما إِن خَرجَ ميّتاً - والأم حية - فلا يؤكل أَلبتَّة، وقال ابن عباس مثل ذلك.
وروي " عن " الضحاك أن بهيمة الأنعام الوحش مثل (الظباء والحمر) وشبهه.
1557
والأنعام - في اللغة - يشتمل على الإبل والبقر والغنم، وسميت الأنعام بهيمة، لأنها أُبْهِمَت عن التمييز.
وقوله ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي: فإِنَّه حرام، وهو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة (والدم)﴾ [المائدة: ٣] وما بعدها.
وقيل: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ هو الخنزير.
وقيل: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ هو الدم المسفوح، لأنه أحلها ثم حرّم دمها.
﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾: الحُرم جمع حرام، " وحرام " بمعنى مُحرِم.
1558
وهذه الآية - على عدد المدني، من أول السورة إلى ﴿يُرِيدُ﴾ - فيها خمسة أحكام:
- الأول قوله: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾.
- والثاني قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾.
- والثالث قوله: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾.
- والرابع قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.
- ودل على أن الصيد حلال لغير المحرم، فهو الحكم الخامس.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية.
1559
قوله: ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ مصدر أصله الفتح، و [لكن] من أسكن جعله اسماً. وقد توهم أبو عبيدة وأبو حاتم أن من أسكنه جعله مصدراً، فأنكراه على ذلك، وليس هو عند من أسكن مصدراً، بل هو اسم " ككسلان " و " غضبان ".
وقرأ يحيى بن وثاب ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ بالضم.
1560
وهي عند الكسائي لغتان: " أَجرَم " و " جَرَم "، ولا يعرف البصريون " أجرم " إلا في الجنابة.
ومن قرأ ﴿أَن صَدُّوكُمْ﴾ بالكسر، فالمعنى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا إن صدّوكم "، فالصد لم يكن بعد. وفي حرف ابن مسعود شاهد للكسر، لأنه قرأ (إِن يَصُدّوكُم)، ومثله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ﴾ [محمد: ٢٢].
1561
ومن قرأ بالفتح، احتج أن الصد قد كان، وذلك أن الآية نزلت عام الفتح، سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست /، فالصدّ كان قبل الآية.
وقيل: " إِنْ " بمعنى " إذْ "، فهو صَدٌّ قد كان، فالكسر أولى به، ويدل على الكسر قوله: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله [وَلاَ الشهر الحرام] وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد﴾ ولا كذا ولا كذا، فهو أمر للمؤمنين ألا يعتدوا إنْ صَدّ لهم، ولو كان الفتح الصواب لكان نَهْياً للمشركين ولم يقل ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾، وقد جعل النحاس هذه الحجة حجة للفتح، وهو خطأ، إنما
1562
تكون حجة للكسر.
ومعنى الآية: أن الله نهى المؤمنين أن يحلوا شعائره، وهي معالمه وحدوده التي جعلها علماً لطاعته في الحج.
وقال عطاء: شعائر الله حرماته، حضهم على اجتناب سخطه واتباع طاعته.
1563
وقال السدِّي: شعائر الله حرَم الله.
وقال ابن عباس: " شعائر الله مناسك الحج ".
وعن ابن عباس أيضاً: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ نهاهم أن يرتكبوا ما نهى عنه المحرمَ أن يصيبه.
وواحد الشعائر: شعيرة، وقيل: هي " فعيلة " بمعنى: " مُفعَلَة ".
قال أبو عبيدة: الشعائر الهدايا. قال الأصمعي: أشعرتها: أعلمتها.
1564
ابن قتيبة: الإشعار أن [يُجَلَّلَ] ويُقلَّد ويُطعَن في سنامه ليُعلَم بذلك أنه هدي، فنهى الله أن يستحلوه قبل أن يبلغ مَحِلَّه.
وقيل: الشعائر العلامات بين الحِلِّ والحَرم، فنُهوا أن يجاوزوها غير مُحرِمين، وهو مشتق من قولهم " شَعر فُلانٌ بالأمرِ " إذا علم به.
قال زيد [بن] أسلم: الشعائر ست: الصفا والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. قال: والحرمات خمس: الكعبة الحرام، والبلد [الحرام]، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والمُحرِم حتى يَحِلَّ.
وقال الكلبي: كان عامة العرب لا يَعُدُّون الصفا والمروة من الشعائر، ولا
1565
يقفون في حجهم (عليهما، وكانت الحُمْسُ لا يرون عرفات من الشعائر ولا يقفون بها في حجهم)، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وغيرها.
وقوله: ﴿وَلاَ الشهر الحرام﴾ أي: لا تستحلوه بأن تقاتلوا فيه [أعداؤكم]، وهو مثل قوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧].
وعنى بالشهر الحرام رَجَب مُضَر، كانت مضر تحرّم فيه القتال.
وقيل: عنى به ذا القعدة. وقيل: إنهم كانوا يُحرّمونه مرة ويُحلّونه مرة، فنهوا
1566
عن تحليله.
وقوله ﴿وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد﴾: أما الهدي فهو ما أهداه المؤمن من بعير " أو بقرة " أو شاة إلى بيت الله، حرّم الله سبحانه أن يُغْصَب أهله عليه أو يمنعوا أن يبلغوه محلّه. وقوله ﴿القلائد﴾ أي: لا تحلوا الهدايا المقلدات ولا غير المقلدات، فقوله ﴿الهدى﴾ هو ما لم يقلد، وقوله ﴿القلائد﴾ هو ما قلد منها. وقيل: القلائد هو ما كان المشركون يتقلدون به - إذا أرادوا الحج مُقبلين إلى مكة - من لحاء السَّمِرُ فإذا انصرف تقلد من الشَّعَر، فلا يعرض له أحد.
1567
وقيل: إنه كان يأخذ معه من شوك الحرم فلا يعرض له أحد. قال قتادة: كان الرجل - في الجاهلية - إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من السَّمُر فلم يعرض له أحد، وإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلا يعرض له أحد.
وقال عطاء وغيره: كان الرجل إذا خرج من الحرم تقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن، فأمر الله المؤمنين ألا [يحِلُّوا] من تقلد بذلك.
وهو منسوخ، وكذلك / قال السدي وابن زيد. وقيل: إنما نهى الله أن يُنزع شجر الحرم فيُتَقلّد به على ما كانت الجاهلية تصنع. فالتقدير على هذه الأقوال: ولا أصحاب القلائد.
1568
وقيل: كان الرجل إذا خرج من أهله حاجاً أو معتمراً - وليس معه هدي جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فَأمِن بها إلى مكة، وإذا خرج من مكة علق في عنقه من لحاء شجر مكة فيأمن بها إلى أهله.
وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما: فأنزل الله ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ أي: لا تستحلوا ترك ذلك، ﴿وَلاَ الهدي﴾ أي: لا تعرضوا لهدي المشركين، ﴿وَلاَ القلائد﴾ أي: لا تستحلوا من قلد بعيره، وكان أهل مكة يُقَلِّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يقلدون بالوبر، وقوله ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام﴾ أي: لا تستحلوا منع القاصدين للبيت الحرام.
وقرأ الأعمش (ولا آمِّي البَيْتِ) بالإضافة.
1569
وقيل: المعنى: ولا تستحلوا منع قصد القاصدين البيت.
و" هذه الآية [نزلت] في رجل من ربيعةَ يقال له الْحُطَم " بن هند - كافرٍ، أتى حاجاً، قد قلد هديه، فأراد أصحاب النبي ﷺ أن يخرجوا إليه فنزلت الآية، فنهاهم الله (عن) ذلك.
قال ابن جريج: " قدم الحُُطَمُ البكري على النبي ﷺ فقال: إني داعِيةُ قومي وسَيِّدُ قومي، فأْعْرِض عَلَيَّ ما تقول، فقال له النبي: أدعوك إلى الله أن تعبده: لا تشرك به (شيئاً) وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
1570
قال الحطم: في أمرك غِلظة، أَرجعُ إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرتَ، فإن قبلوا أقبلتُ معهم، وإن أدبروا كنت معهم.
قال له النبي: ارْجِعْ. فلما خرج قال: لقد دخل عليَّ بِوجهٍ كافرٍ وخرج عنّي بقفاً غادِرٍ، وما الرجل بمسلم. فَمَرّ على سَرْح لأهل المدينة، فانطلق به وقَدِم اليمامة وحضر الحج، فتجهز [خارجاً]- وكان عظيم التجارة - فاستأذن أصحابُ النبي أن يتلقّوه ويأخذوا ما معه "، فأنزل الله تعالى ﴿ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية.
والحُطَم هذا هو القائل:
1571
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطم ليس براعي إبلٍ ولا غَنَم
ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمٍ باتوا نِياماً وابنُ (هندٍ لَمْ) ينَمْ
(بَاتَ يُقاسيها) غُلامٌ كالزَّلَم خَدَلَّجَ (السَّاقَيْن) مَمْسوحَ الْقَدَم
وقيل: اسم الحُطم [ضُبَيْعَة] بن شرحبيل البكري، قال ذلك إذ ساق السرح وهرب به. وقال ابن زيد: جاء ناس يوم الفتح يَؤُمّون البيت بعمرة وهم مشركون، فقال المسلمون: نُغِيرُ عليهم، فنزل ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام﴾.
1572
قال الشعبي: هذه الخمسة الأحكام منسوخة، كأنه يريد [أنها] نسختها ﴿[فاقتلوا] المشركين﴾ [التوبة: ٥]، قال الشعبي: ولم ينسخ من سورة المائدة غير هذه.
وكذلك قال ابن عباس وقتادة في ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام﴾: أمر ألا يمنع مشرك من الحج، ثم نسخ ذلك بالقتل.
وقال ابن زيد: هذا كله منسوخ بالأمر بقتالهم كافة.
(و) قال قتادة: نسخ من المائدة ﴿لا آمِّينَ البيت الحرام﴾، نسخه آية القتل
1573
في " براءة ".
ومن قال: نزلت كلها في شأن الحطم، قال: هي منسوخة. ومن قال: الشعائر حدود الله ومعالمه، قال: هي محكمة.
وأما (الشهر الحرام) فهو منسوخ أيضاً، لأن الجميع قد أجمعوا على أن الله تعالى قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها.
(و) قوله / ﴿وَلاَ القلائد﴾ منسوخ، لأن المشرك لو تقلد بجميع شجر الحرم لم نؤمّنه الآن: إجماع من الأمة، فهو منسوخ.
1574
وقد قيل: إن المائدة لم ينسخ منها شيء، لأنها آخر ما نزل فيما ذكرت عائشة رضي الله عنها. وقد قال البراء: آخر سورة نزلت " براءة " وآخر آية نزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ آخر النساء.
وقوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾
قال قتادة: هي للمشركين يلتمسون فضل الله ورضوانه عند أنفسهم وفيما يُصلح شأنهم في الدنيا خاصة.
قال ابن عباس: يترضون الله بحجِّهم عند أنفسهم، وقال مجاهد: يبتغون الأجر والتجارة.
1575
وقيل: هي للمسلمين، فهي محكمة، لأن المشرك لا يبتغي رضوان الله وفضله بحجه.
وكونها في المشركين أبين في أقوال المفسرين وأكثر.
قوله ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ هذا إباحة (وليس بحَتْمٍ).
قال عطاء بن (أبي رباح): [أربع رخصة وليس بعزيمة]:
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾، ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤].
﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ [الحج: ٣٦]، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١٠].
قوله ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ المعنى: لا يحملنّكم بغض قوم أن
1576
تعتدوا من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، هذا على قراءة الفتح، ومن كسر فمعناه: إن فعلوا ذلك بكم فيما تستقبلون.
والقوم - هنا - أهل مكة صدوا النبي عليه السلام ومن معه عن المسجد الحرام يوم الحديبية. وقيل: معنى ﴿" وَ " لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يكسبنكم.
وقوله ﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾ قيل: إنها نزلت في النهي عن الطلب بِنُحول الجاهلية أمروا ألا يطالبوا بما (مضى من أجل أنهم صُدُّوا عن البيت، فيحملهم البغض [أن] يطالبوا بما) تَقدَّم في الجاهلية من قتل أو غيره. ثم أُمروا أن يتعاونوا على
1577
البر والتقوى، والبِرُّ: ما أُمِرْتَ به، والتقوى: ما نُهيتَ عنه: قاله ابن عباس.
وقال سهل بن عبد الله: " البر: الإيمان، والتقوى: السنة ". ﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ ﴿الإثم﴾: الكفر، ﴿والعدوان﴾: البدعة.
﴿واتقوا الله﴾ أي: خافوه إنه شديد العقاب.
قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى حرم [أكَلَ كل] ما مات من الأنعام وغيرها قبل التذكية، وحرم الدم المسفوح ولحم الخنزير [مُذَكّى] أو غير [مُذَكّى] وحرم ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ وهو (ما ذبح) للأصنام والأزلام وشبهها مما أريد به غير الله، ومما تُعُمِّدَ في وقت ذبحه تَركُ ذكر اسم الله عليه، وحرم ﴿المنخنقة﴾ وهي التي
1578
تَخْتَنِقُ بحبل أو بين حجرين أو عودين - ونحو ذلك - فتموت قبل التذكية، وحرم ﴿والموقوذة﴾ وهي التي تموت من ضرب عصا أو حجر أو [غير] ذلك فتموت قبل التذكية، وحرم ﴿والمتردية﴾ وهي التي تسقط من جبل أو في بئر ونحو ذلك فتموت قبل التذكية، وحرم ﴿النطيحة﴾ وهي التي تموت من نطح شاة أخرى لها، أو من نطحها لشاة أخرى، وكانوا يأكلون ذلك في الجاهلية من غير تذكية.
واختلف في ﴿النطيحة﴾ فقيل: (هي) " فعلية " (بمعنى " مفعولة " وقيل هي) بمعنى " فاعلة "، ولذلك ثبتت الهاء (فيها).
1579
وقال الفراء: إنما ثبتت الهاء، لأنه ليس قبلها مؤنث فتحذف الهاء لدلالة المؤنث على التأنيث، إنما تحذف إذا كان قبلها ما يدل على التأنيث.
وحرم ﴿وَمَآ أَكَلَ السبع﴾ وهو أن [يؤخذ] منه وقد أكل بعضها وليس مما علّم / للصيد.
وكان سبب ذكر هذه الأشياء أن العرب الجاهلية كانت تضرب الشاة بالعصا حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل ما لحقت من الشاة وغيرها في فم الأسد، وكانت تخنق الشاة بالحبل حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل جميع ما ذكر الله تحريمهُ، فأنبأنا الله بتحريمه، وهذه حجة من أجاز أكل جميع ذلك إذا ذكى وفيه حياة على أي: حال كان.
1580
قوله ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ اختلف العلماء في هذا الاستثناء: فأكثرهم على أنه مستثنى ذكر تحريمه، كأنه حرم علينا جميع ما ذكره إلا ما أدركنا ذكاته وفيه شيء من روح. وأكثر الفقهاء على أن ما أدرك من جميعه فذكيّ وتحركت رجله أو طرف بعينه أو علم أنه بقيت (فيه) حياة، فإنه يؤكل.
ومنهم من يرى أن هذا الاستثناء إنما هو من التحريم، لاَ مِنَ المحرمات المذكورة، كأن تقديره: إلا ما أحله الله لكم بالتذكية، وهو مذهب أهل المدينة، فيكون المعنى: إلا ما ذكيتم مما ذكر مما تُرجى له الحياة لو ترك، لا ما ذكيتم مما لا ترجى (له) الحياة لو ترك، فكل ما أصيب من ذلك في مقتل، فلا تنفع فيه الذكاة وإن أدرك
1581
وفيه حياة، هذا مذهب مالك وأهل المدينة.
ويدل على صحة هذا القول أن هذه الأشياء المذكورات بالتحريم لو كانت لا تحرم إلا بالموت قبل الذكاة، لكان قوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ يغني عن ذكر ما بعده، ولا يكون لِذكرِ ما بعد الميتة فائدة.
وقد قال المخالف: الفائدة في ذكر ما بعد الميتة وهو من الميتة ما تقدم ذكره من أن (أهل) الجاهلية كانت تخنق الشاة حتى تموت وتأكلها وتضرب الشاة حتى تموت وتأكلها، فأعيد ذكرها بعد الميتة لهذا السبب.
1582
وقد سئل مالك عن الشاة يخرّق بطنها وتدرك (و) فيها حياة، قال: لا أرى أن تذكى ولا تؤكل، وكذلك مذهبه في كل ما تيقن أنه لا يعيش مما نزل به: أنه لا يذكى ولا يؤكل إن ذكي وفيه بعض حياة.
وأصل التذكية - في اللغة - التمام، يقال: " لفلانٍ ذَكاءٌ " أي: تمام الفهم، " وذَكَّيْتُ النار ". أتْمَمْتُ إيقادَها.
وقرأ الحسن: (السَّبْع) بالإسكان، وهي لغة أهل نجد. وأجاز مالك أكل ذبيحة السارق، ومنعه غيره. ولا يؤكل ما ذبحه المُحْرِم من صيد، لا يأكله هو ولا غيره عند مالك وغيره، بخلاف ما ذبح السارق. وقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم﴾ مخصوص، لأن الدم الذي هو غير مسفوح - كالكبد وما أشبهه - حلال،
1583
" وأحل النبي ﷺ أكل الحيتان والجراد والميتة "، فالدم خصصه قوله في " الأنعام " ﴿أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ [الأنعام: ١٤٥]، والميتة خصصتها السنة.
وقوله ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ حرم الله ما ذبح ليقرب إلى الأصنام، وقيل: النصب حجارة يذبح عليها أهل الجاهلية ويعبدونها.
قوله ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام﴾: أي وحرم ذلك عليكم، وهو أن أحدهم
1584
(كان) إذا أراد سفراً أو غزواً أجال القداح - وهي الأزلام - وكانت مكتوباً على بعضها " نهاني ربي "، وعلى بعضها، " أمرني ربي "، فإذا خرج القدح الذي عليه النهي لم يسافر، وإذا خرج الذي عليه الأمر سافر. وقيل: الأزلام حصىً بيض كانوا يضربون بها.
وقيل: الأزلام كعاب فارس كانوا يتقامرون بها.
وقيل: هي الشطرنج.
ومعنى ﴿تَسْتَقْسِمُواْ﴾ تستدعوا القِسْمَ، كما تقول: استسقى إذا استدعى
1585
السقي، والاستقسام من القِسْم، كأنهم يطلبون بها النصيب من سفرٍ أو بركة على ما يريدون.
وقال ابن إسحاق: كانت هبل أعظم صنماً لقريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة يروى أن إبراهيم وإسماعيل حفراها ليكون فيها ما يهدى إلى الكعبة من حلي وغيره، وكانت عند هبل سبعة أقداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه " العقل " إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، وقدح فيه " نعم "، إذا ضربوا به فخرج " نعم " عملوا به، وقدح فيه " لا " فإذا أرادوا
1586
أمراً فضربوا (به) فخرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك، وقدح فيه " منكم "، وقدح فيه " مُلصَق "، وقدح فيه " من غيركم "، وقدح فيه " المياه "، فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح - وفيها ذلك القدح - فإذا خرج عملوا به، وكانوا يستعملون ذلك في نكاحهم وجميع أمورهم، وكانوا إذا شكوا في نسب أحد [منهم] ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قرّبوا صاحبهم وقالوا: يا إلهنا، هذا فلان (بن فلان) أَخْرِجْ لنا الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه " منكم " كان من أوسطهم، (وإن خرج عليه " من غيركم " كان حليفاً)، وإن خرج [عليه] " ملصق " كان لا نسب له ولا حلف، وإن خرج " لا " أخّروه عامهم ذلك وأتوا به عاماً آخر: أحكاماً لم يأمر (الله بها) ولا رضيها.
1587
قوله ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ الآية، المعنى: الآن يئس الكفار منكم أن تتركوا دينكم وترتدوا إلى دينهم، وذلك اليوم (يوم) عرفة، عام حج النبي عليه السلام حجة الوداع، بعد دخول العرب في الإسلام.
وقيل: ذلك يوم جمعة، نظر النبي ﷺ إلى الناس فلم ير إلا موحداً فحمد الله على ذلك، فنزلت الآية.
وقيل: المعنى: الآن، والعرب تقول: " أَنَا الْيَوْمَ قَد كَبِرْتُ عن هذا " أي: الآن.
وقال الحسن: يئسوا أن تستحلوا في دينكم ما استحلوا في دينهم.
﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾ أي: لا تخافوهم أن يقهروكم فيردوكم عن دينكم، وخافون أي: إن خالفتم أمري.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.
1588
فهذا يقوي قول من (قال): " لا منسوخ فيها "، وهو قول الحسن وغيره، وليس عليه العمل، بل فيها ناسخ ومنسوخ عند أكثر العلماء.
قوله ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أي: أتْممتُ فرائضي عليكم وحدودي، ونزل ذلك يوم عرفة في حجة الوداع، ولم يعش النبي عليه السلام - بعد نزول هذه الآية - إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، " ولما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي ﷺ: ما يُبْكِيكَ؟
فقال: كُنَّا في زيادةٍ من ديننا، فَأَمَّا إِذا كَمُلَ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي ﷺ: صَدَقْتَ ".
1589
قال عمر: نزلت يوم جمعة يوم عرفة.
وقيل: معنى كمال الدين: أنه منع أن يحج مشرك وكمل الحج للمسلمين ونُفِيَ المشركون من البيت الحرام والحج، قال ذلك قتادة وابن جبير وغيرهما
وقيل: المعنى: اليوم أظهرت دينكم على سائر الأديان وأهلكت عدوكم.
وذكر بعض العلماء أن في المائدة (ثمان عشرة) فريضة ليست في غيرها (وهي):
تحريم الميتة / والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، والاستقسام بالأزلام، وتحليل طعام أهل الكتاب، وتحليل المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، والجوارح
1590
مكلِّبين، وتمام الطهور: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وحكم السارق والسارقة، ونفي (فرض) البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وهي آخر سورة نزلت.
واختيار الطبري أن يكون المعنى أن الله أعلم نبيه أنه أكمل لهم دينهم
1591
بانفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين حتى حج المسلمون، لا مشرك يخالطهم، فأما إكماله بتمام الفرائض فيعارضه ما روى البراء بن عازب أن آخر آية نزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ [النساء: ١٧٦] الآية، (و) أيضاً فإن قول من قال: " نزل بعد ذلك فرائض "، أولى من قول من قال: " لم ينزل "، لأن الذي نفى يخبر أنه لا علم عنده، والنفي لا يكون شهادة مع خبر الصادق بالإيجاب.
وقوله ﴿[وَ] أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ هو منع المشركين الحرام وانفراد المسلمين به.
(وقوله) ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً﴾ أي: رضيت لكم أن تستسلموا لأمري
1592
وطاعتي، ﴿دِيناً﴾: ولم يزل تعالى راضياً به لهم، ولكن لما تَمَّ وكمُل ذكر الرضى به.
وقيل: إن هذه الآية نزلت بالمدينة يوم الاثنين.
وقوله ﴿فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ﴾ أي: من أصابه ضرّ في مجاعة، فالميتة حلال له.
والمخمصة: من خَمَصِ البطن، وهو ضموره من الجوع، وذكر بعضهم أنه مصدر من: " خَمَصَهُ الجوع " وقيل: هو اسم للمصدر.
ومعنى ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾ أي: غير مائل ولا متحرف إلى أكلها يريد به
1593
التعمد - من غير ضرورة - (واتباع الشهوة) وقيل: معناه: غير مُتَعَمّدٍ لاكتساب الإثم بأكله من غير ضرورة، يقال: " جنف القوم "، إذا مالوا وكل أعرج فهو أجنف.
قوله ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: له، وفي الكلام حذف، والمعنى غير متجانف لإثم فأكله. [والمعنى]: فإن الله يسترُ له عن أكله ويرحمه، ومن رحمته أنه أباح له ما حرم عليه عند الضرورة.
1594
قال الحسن والنخعي والشعبي: إنما يأكل المضطر من الميتة قدر ما يقيمه.
وقال عطاء: يأكل منها قدر ما يرد نفسه، ولا يشبع.
وقال مسروق: من اضطر إلى الميتة فتحرّج أن يأكل منها حتى مات، دخل النار.
قال مسروق: (و) ليس في الخمر رخصة، إذا اضطر إليها [مضطر] لأنَّها لا تروي.
1595
ولا يحل أكل الميتة لمضطر خرج لفساد الطرق وقطعها، قاله مجاهد.
قوله ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ الآية.
المعنى: أنهم سألوا النبي ﷺ ما الذي أحل الله لهم، فقال الله له ﴿[قُلْ] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ وهو الحلال الذي أذن فيه من الذبائح، وأعلمهم أنه أحل لهم (مع ذلك) أكل صيد ما علموا من الجوارح، وهي سباع البهائم والطير، سميت " جوارح " (لكسبها لأربابها) أقواتهم، فالجوارح: الكواسب، (و) واحدها: جارحة يقال: جرح فلان أهله خيراً "، إذا أكسبهم خيراً، و " فلان جارحة أهله " أي: كاسبهم، و " لا جارح لفلان " أي: ليس له كاسب، و " فلان يجترح " أي: يكتسب، ومنه قوله تعالى: / ﴿أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات﴾ [الجاثية: ٢١] أي:
1596
اكتسبوها، ومنه قوله تعالى ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار﴾ [الأنعام: ٦٠] أي: ما اكْتَسَبْتُمْ.
وفي الكلام حذف، والتقدير: قل أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح.
وكان النبي قد أمر بقتل الكلاب، فسألوا عما يحل اتخاذه منها وصيده، فنزل ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح﴾ فعلم أنه مباح اكتساب كلاب الصيد سلوقية أو غير سلوقية.
ومعنى ﴿مُكَلِّبِينَ﴾: أصحاب كلاب، قال مجاهد: الفهد من الجوارح، وكلهم على أن الصقر والبازي من الجوارح، وكذلك العقاب.
والجوارح هي المعلَّمة من هذه الأنواع، إذا دعيت أجابت وإذا زجرت أطاعت،
1597
فكل من أرسل منها شيئاً فسمى الله تعالى فأصابت صيداً أكل، وإن قتلته فهو حلال، غير أن الضحاك قال: الجوارح: الكلاب المعلّمة دون غيرها لقوله ﴿مُكَلِّبِينَ﴾، وقد " روي أن النبي ﷺ سئل عن صيد البازي، فقال: " ما أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُل " ".
وما صاد غير المعلَّم لا يؤكل إلا أن تدرك ذكاته وهو حي صحيح، لم يحدث فيه ما إن ترك لم يعش. وإذا أكل الكلب المعلم من الصيد، أكل باقيه عند مالك.
ومعنى ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ أصحاب كلاب، ويقال: أكلب الرجل، إذا كثرت عنده الكلاب، فهو مُكْلِب.
1598
وقد قرأ ابن مسعود (مُكْلِبين) بإسكان الكاف، يريد كثرة كلابهم، وقيل معنى ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ معلّمين محرّشين.
وقوله ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله﴾ أي: تؤدبوهنّ من التأديب الذي أدبكم الله به والعلم الذي علمكم، وهو الطاعة إذا زُجر والأخذ إذا أُمر.
قال ابن عباس: التعليم: أن يمسك الصيد فلا يأكل حتى يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه فلا يؤكل، وهو قول سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وقتادة وعطاء وعكرمة والشافعي، وروي عن أبي هريرة.
1599
وقال ابن عمر: يؤكل وإن أكل وبه قال (مالك وجماعة معه).
ومن أرسل كلباً غير معلم فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ إلا أن يُدْرِكَ ذكاته فإن أرسل معلماً فأخذ ولحقه قبل أن يموت - فاشتغل عن تذكيته حتى مات - فلا يؤكل، لأنه أدركه حيّاً وفرَّط في تذكيته، فإن (كان) أدركه (حيّاً) وقد أنفذ الكلب - أو البازي - مقاتله فلم يذكه حتى مات، أكل، لأن الذكاة ليست بشيء إذ هو ميت لا محالة لو ترك.
1600
فإن أرسل المُعَلَّم فوجد معه كلباً آخر - معلَّما أو غير معلَّم - فلا يؤكل، لأنه لا يدري لعل الآخر قتله وهو لم يرسله ولا سمى الله عليه، كذلك قال مالك والشافعي وغيرهما، وقال الأوزاعي: إن كان الثاني معلَّما أكل، وإن كان غير معلّم لم يؤكل، وكذلك قياس البازي. فإن أرسله على صيد فأخذ غيره، فإن مالكاً يكره أكله، فإن أرسله في جماعة: فأيها أخذ أكل.
ولا بأس عند مالك بلعاب الكلب الصائد يصيب ثوب الإنسان، وقال الشافعي: هو نجس.
فإن انفلت المعلّم من يد صاحبه - ولم يرسله - فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ عند
1601
مالك والشافعي، وقال عطاء والأوزاعي: يؤكل.
ولا يؤكل صيد أهل الكتاب عند مالك، لأن الله تبارك اسْمُهُ قال ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ [المائدة: ٩٤] وتؤكل ذبائحهم. وأجاز الشافعي وعطاء وغيرهما أكل ما صاد كلب الكتابي المعلم.
وأما صيد المجوسي فأكثرهم منعه ولم يجز أكله، فأما صيد الكتابي والمجوسي للحيتان والجراد فهو / حلال أكله عند أكثر العلماء، وكره مالك صيد المجوسي الجراد، ولم يكره الحيتان، فرق بين صيد البر والبحر، وكذلك قال النخعي.
1602
وكل ما أصاب المِعْراض يؤكل إذا كان بغير عَرْضه عند مالك والشافعي. فأما صيد البندقة فكرهه مالك والشافعي وغيرهما. ولم ير مالك رضي الله عنهـ بأساً بأكل الصيد يغيب عن عين صاحب الكلب إذا وجد فيه أثراً من كلبه، وكذلك السهم ما لم يبت عنه. ولم يجز ابن القاسم أكل الصيد إذا بات عن المرسل.
وقال ابن الماجشون: إذا أنفذ سهمك - أو كلبك - مقتل الصيد
1603
فكله. وإن بات عنك، وإذا لم ينفذ مقتله فلا تأكل إذا بات عنك، لعل غير كلبك قتله، وقاله أشهب وأصبغ.
وقوله ﴿[مِمَّآ] أَمْسَكْنَ﴾ من: للتبعيض. وقيل: هي زائدة.
ومعنى التبعيض أنه يؤكل، لحمه حلال، ويترك دمه [وفَرْثه]، لأن الدم حرام.
وقوله: ﴿واذكروا اسم الله " عَلَيْهِ "﴾ أي: حين الإرسال. وقيل: حين
1604
الأكل.
ومن نسي فلا شيء عليه، فإن تركها عامداً لم [يؤكل] ما أخذ، كما لا يؤكل ما ذبح إذا ترك التسمية عامداً.
قوله: ﴿واتقوا الله﴾ أي: اتقوه فيما أمركم به، وأن لا تأكلوا صيد غير معلم، ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي: لمن حاسبه، حافظ لجميع ما تعملون.
قوله: ﴿اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ الآية.
الطيبات - هنا - الحلال من الذبائح. وقيل: هي كل ما تلذذ به من الحلال. ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ أي: ذبائحهم، ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ (أي) ذبائحنا جائز (لنا)
1605
أن نطعمهم إياها، فتحليل ذلك هو لنا لا لهم، ومثله قوله ﴿وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ﴾ [الممتحنة: ١٠] أي: أعطوهم ما أنفقوا، فالأمر لنا لاَ لَهم، لأنهم ليسوا ممن يؤمن بالقرآن فيكون الأمر لهم.
ومذهب الشعبي وعطاء وغيرهما أنه تؤكل ذبائحهم وإن سَمَّوا عليها غير اسم الله، وهذا عندهم ناسخ لقوله ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١]، ويروى ذلك عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت.
ومن العلماء من قال: هذا استثناء وليس بناسخ لِما في الأنعام، تؤكل ذبائح
1606
أهل الكتاب وإن ذُكِر عليها اسم المسيح.
ومذهب عائشة رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب وابن عمر أنه لا تؤكل ذبيحة الكتابي [إذا] لم يسم عليها.
و" كان " مالك يكره ذلك ولم يحرمه. وأما إن ذكر عليه اسم المسيح فلا تؤكل عند مالك. وكره مالك ذبائح أهل الكتاب لكنائسهم ولم يحرمه. فأما ذبيحة المجوسي فلا تؤكل.
1607
وذبيحة نصارى تغلب لا تؤكل. وقال ابن عباس: تؤكل ذبائحهم، وهم بمنزلة غيرهم، وقال بذلك غيره من الفقهاء.
وقال علي بن أبي طالب: لا تؤكل ذبائحهم، وبه قال الشافعي: فأما الحديث الذي يروى عن النبي ﷺ في المجوس: " سُنّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتابِ " فإنه غير متصل الإسناد، (و) أيضاً فإن الحديث إنما جرى على سبب الجزية لا غير، وقوله " سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ " يدل على أنهم ليسوا منهم.
1608
وقوله ﴿والمحصنات مِنَ المؤمنات﴾ أي: أحل لكم الحرائر من المؤمنات والحرائر من الذين أوتوا الكتاب - نصرانية أو يهودية -، إذا أعطيتها صداقها وهو ﴿أُجُورَهُنَّ﴾.
وقيل: المحصنات - هنا - العفائف من هؤلاء ومن هؤلاء، فأجاز قائل هذا / نكاح الإماء من أهل الكتاب وتحريم غير العفائف من الجميع، قال ذلك مجاهد، وقاله سفيان والسدي.
والحربية من أهل الكتاب - وغيرها سواء - جائز نكاحها. ومن قال: المحصنات العفائف، فالحربية - من الإماء والحرائر - جائز نكاحها عنده، ومذهب مالك وغيره أن إماء أهل الكتاب لا يجوز نكاحهن.
وروي أن ثواب الرجل مع الزوجة المؤمنة أفضلُ من ثوابه مع الزوجة الكتابية، وروي أن الرجل إذا قبَّل زوجته المؤمنة، كتب له عشرون حسنة، وإذا جامعها
1609
كتب له عشرون ومائة حسنة، فإذا اغتسل منها، لم يمرّ الماء بشعرة من جسده إلا كتبت (له (عشر)) حسنات ومحي عنه عشر سيئات، وباهى الله به الملائكة فقال: انظُروا إلى عبدي قام في ليلة [قَرَّةٍ] يَغتَسِلُ من خَشْيَتي، ورَأَى أن ذلكَ (حقٌّ لي) عليه، اشهدوا يا ملائكتي أنّي قَد غَفرتُ لَه.
وروي أن المرأة لا تضع شيئاً من بيت زوجها، تريد بذلك إصلاحه، ولا ترفعه إلا كتب لها عشر حسنات ومحي عنها عشر سيئات، فإذا حملت ثم طلقت، فلها بكل طلقة كأنما أعتقت نسمة (من ولد إسماعيل) خير النسم،
1610
فإذا أرضعت كان لها بكل مصة عشر حسنات ومحي عنها عشر سيئات، فإذا أفطمته نادى منادٍ من السماء: أَيَّتُها المرأة قد غفر لك فاستأنفي العمل.
وروي عن (ابن المسيب) والحسن أنهما كانا لا يريان بأساً بنكاح إِماء اليهود والنصارى.
و (قد) قيل: عنى بذلك نساء أهل الذمة من أهل الكتاب خاصة، ونساء
1611
أهل الحرب حرام، روي ذلك عن ابن عباس.
قوله ﴿مُحْصِنِينَ﴾ أي: أعِفّاء، ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ أي: غير مزانين، ﴿وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ﴾ أي: أَخِلاّءٌ على الزّنى، والخدن: الخليل للمرأة يزانيها.
قوله ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان﴾ أي: بما جاء به محمد ﷺ، وقيل: بالإيمان بالله تعالى وبرسوله محمد ﷺ.
وقيل: بالإيمان: بما نزل من الحرام والحلال والفرائض.
ونزل ذلك في قوم تَحَرَّجوا نكاح [نساء] أهل الكتاب، فأنزل الله ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾، أي من يردّ من أتى
1612
به محمد ﷺ.
وقيل: الإيمان - هنا - التوحيد، وهو مثل قوله ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] ومثل قوله ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً﴾ [آل عمران: ٨٥] الآية.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ الآية.
قوله ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾: من خفض.
(فهو) عند الأخفش وأبي عبيدة على الجوار، والمعنى للغسل، شبه
1613
الأخفش بقولهم " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ "، وهذا قول مردود، لأن الجوار لا يقاس عليه، إنما يسمع ما جاء منه ولا يقاس عليه.
وأيضاً فإن الأرجل معها حرف العطف، ولا يكون الإتباع مع حرف العطف.
وقيل: إنه إنما خفض لاشتراك الغسل والمسح في باب الوضوء، كما قال ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] فخفض وعطفه على الفاكهة التي يطاف بها، وهذا مما لا يطاف
1614
به، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في التنعم بهما، وكما قال الشاعر:
شرّابُ أَلْبَانٍ وتَمْرٍ وأَقطٍ.... فعطف التمر والأقط على ما يشرب، وليس يشربان، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما في التغدي بهما، ومثله قوله:
ورأيتُ زوجَكِ قد غدا مُتَقَلِّداً سيفاً ورُمحاً
فعطف الرمح على / السيف وليس الرمح مما يتقلد به، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في الحمل وفي أنهما سلاح، ومثله:
1615
في أنهما غذاء لها. ومثله قوله:
وزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعُيونا.... فعطف العيون على الحواجب وليست مما يُزَجَّجَ إنما تكحّل، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في التزيّن بهما، فكذلك يحمل الغسل على المسح لاشتراكهما في باب الوضوء.
وتقدير ما ذكرنا - عند النحويين - على حذف فعل فيه (كله) على قدر معانيه، كأنه قال [وأكّالِ تَمْرٍ]، (وحامِلاً رُمْحاً)، (وَسَقيْتُها ماءً)، (وكَحَّلنَ الْعُيُونَ) ونحو ذلك من التقدير.
1616
وقال علي بن سليمان تقديره: وأرجِلكم غسلاً.
وقيل: المسح - في كلام العرب - يكون بمعنى الغسل يقال: تمسحت للصلاة أي: توضأت لها فاحتمل المسح للأرجل أن يكون بمعنى الغسل وبغير معنى الغسل، فبيّنت السنّة أن المسح للرؤوس بغير معنى الغسل، وأن المسح للأرجل بمعنى الغسل.
وقال قوم من العلماء - منهم الشعبي -: من قرأ بالخفض [فقراءته] منسوخة بالسنة.
واستدل من قال: أن معنى الخفض النصب، بقوله ﴿إِلَى الكعبين﴾، فحدد كما
1617
حدد اليدين إلى المرفقين، ولما كانت اليدان مغسولتين بالإجماع وجب أن تكون الرجلان كذلك لاشتراكهما في التحديد.
وقال ابن عباس: [قراءة] النصب ناسخة للمسح على الخفين وهو مذهب عائشة وأبي هريرة. قال ابن عباس: ما مسح رسول الله ﷺ على الخفين بعد نزول المائدة. وقد أجاز المسح على الخفين جماعة من الصحابة ورووه عن النبي عليه السلام أنه مسح بعد (نزول) المائدة، ومن أوجب شيئاً أولى بالقبول ممن نفى،
1618
وعليه جماعة الفقهاء، وهو قول علي وسعد وبلال و (عمرو بن) أمية وحذيفة وبريدة وغيرهم.
1619
وهذه الآية ناسخة لقوله: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾
[النساء: ٤٣]، وهو قول جماعة.
وقيل: هي ناسخة لما كانوا عليه: روي " أن النبي ﷺ كان إذا أحدث (لم يكلم أحداً) حتى يتوضأ فنسخ ذلك بالوضوء عند افتتاح الصلاة " وقيل: هي منسوخة، لأنها لو لم تنسخ لوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء، فنسخها فعل النبي ﷺ وجمعه صلاتين وصلوات بوضوء واحد.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: هي على الندب، نَدَبَ كُلَّ قائم إلى الصلاة إلى الوضوء وإن كان (على وضوء) وقيل: يجب على كل من قام إلى الصلاة الوضوء -
1620
وإن كان) متوضئاً - بظاهر الآية، وهذا قول خارج عن قول الجماعة، وهو قول عكرمة وابن سيرين. وروي أن علياً رضي الله عنهـ كان يتوضأ لكل صلاة.
وقال زيد بن أسلم وأهل المدينة: الآية مخصوصة فيمن قام من النوم.
وقيل: الآية مخصوصة يراد بها من كان على غير طهارة، وهو قول الشافعي، قال: المعنى: إذا قمتم - وقد أحدثتم - فافعلوا كذا.
ومعنى ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾، إذا أردتم القيام، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن
1621
فاستعذ بالله} [النحل: ٩٨] أي: إذا أردت [قراءة] القرآن.
وقوله ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾: الباء للتوكيد / لا للتعدية، والمعنى: (و) امسحوا رؤوسكم، ولا يجزئ مسح بعض الرأس لأجل دخول الباء، كما لا يجزئ مسح بعض الوجه في التيمم لدخول الباء في قوله: ﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ﴾ [النساء: ٤٣]، وهذا إجماع، فالرأس مثله.
وقوله: ﴿إِلَى المرافق﴾: روى أشهب عن مالك أنه قال: الغسل إليهما ولا يدخلان في الغسل، وروى غير أشهب عنه أن غسلهما واجب مثل الكعبين اللذين أجمع على غسلهما، وهو قول عطاء والشافعي.
1622
وأصل (إلى) - في اللغة - الانتهاء، كقوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧]، فالليل آخر الصوم غير داخل في الصوم، وكذلك المرفقان غير داخليْن في الوضوء.
ومَن أدخل المرفقين في الغسل، فإنما هو على أن يجعل " إلى " بمعنى " مع " كما قال: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢] أي: " مع "، وكما قال: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ [آل عمران: ٥٢، الصف: ١٤] أي: مع الله، هذا قول بعض أهل اللغة. ومنع ذلك المبرد وغيره من النحويين لأن اليد - عند العرب - حدها إلى الكتف فلو كانت " إلى " بمعنى " مع " وجب غسل اليد كلها إلى الكتف، لأنه آخرها، و " إلى " عنده على بابها، قال المبرد: إذا كان ما بعد " إلى "
1623
مِمّا قبلها، فما بعدها داخل فيما قبلها كآية (الوضوء)، وإذا كان بعدها مخالفاً لما قبلها، فالثاني غير داخل فيما دخل فيه الأول، كقوله ﴿إِلَى الليل﴾، فلو قلت " بِعتُ هذا الفدّان إلى هذه الدّار "، لم تدخل الدّار في البيع، لأن الدار مخالفة للفدان، ولو قلت " بعتُ هذا الثّوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف "، دخل الطرف الثاني في البيع، كذلك لمّا كانت المرفقان من جنس اليد، دخلتا في الغسل مع اليد، فإذا كان الحد من جنس المحدود دخل معه، وإذا كان من غير جنسه لم يدخل معه، هذا التفسير قول المبرد، وهو حسن جيد، ولذلك يقول الموثقون: " اشترى الدّار بحدودها "، فالحدود داخلة في البيع.
1624
(وكان الطبري يقول): ليس غسلهما بواجب، فهو ندب من النبي ﷺ لقوله: " أمتي الغر المُحَجَّلون من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غُرَّتَه فليفعل ".
قوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً﴾ أي: [ذوو] جنب، " وجُنُبٌ " مصدر لا يثنى ولا يجمع، كعدل ورضًى وصَوْم، يقال: قوم صَوْمٌ، ورجل صَوْمٌ، يقال: أجنب
1625
الرجل وجَنَب وجَنُب.
(و) قوله: ﴿وَإِن كُنتُم مرضى﴾ أي: جرحى أو مجدورين وأنتم جنب، ﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ أي: مسافرين وأنتم جنب.
وقوله: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ قيل: اللمس: الجماع. (وقيل): هو المس دون الجماع، كالقبلة والمباشرة.
ويسْأل من قال: هو الجماع، ما وجه تكريره وقد مضى حكم الجنب في قوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾؟ فالجواب: أن الأول بيَّن حكمه وأمره بالطهر إذا وجد الماء، ففَرَض عليه الاغتسال، ثم بيَّن - ثانيةً - حكمه إذا أعوزه الماء، فأعلَمه أن التيمم
1626
بالصعيد طهور حينئذ. والتيمم: القصد والتوخي إلى الشيء.
قوله: ﴿مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم (مِّنْ حَرَجٍ)﴾ أي: ضيق في فروضكم، ﴿ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ أي: يطهركم بما فرض عليكم فَتَطَّهَّرونَ من الذنوب، " وروى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال: إنّ الوضوءَ يُكفِّر ما قبله، ثم تصير الصلاةُ نافلةً، قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم، / غير مرةٍ ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ".
وقال ابن جبير: معنى ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾: ليدخلكم الجنة، (أي) فإنها لم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة، ولن يدخله الجنة حتى يغفر له، كذلك
1627
قال لنبيه: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ [الفتح: ٢] فلم تتم النعمة إلا بعد المغفرة، وهو قول زيد بن أسلم ذكر جميع ذلك ابن وهب وغيره.
قوله: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
قوله: ﴿بِذَاتِ الصدور﴾: قال الأخفش والفراء وابن كيسان: الوقف بالتاء على (ذات) وهو خط المصحف، لأن التاء كأنها متوسطة.
ومذهب الكسائي والجرمي أن تقف بالهاء، وهو اختيار أبي غانم، لأن هذا تأنيث الأسماء.
ومعنى الآية أن الله تعالى ذكرهم بنعمته أن هداهم لما فيه النجاة لهم.
ومعنى ﴿وَمِيثَاقَهُ﴾ هو ما بايعوا عليه النبي عليه السلام من السمع والطاعة فيما (أحبوا) وكرهوا والعمل بكل ما أمرهم به، قال ذلك ابن عباس وغيره وقال مجاهد: الميثاق - هنا - ما أخذه الله تعالى على عباده إذ أخرجهم من صلب آدم فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢]، فأقروا بأن الله ربهم، وصار ذلك ميثاقاً عليهم، فمن آمن بالله وأسلم فقد تمسك بالميثاق، ومن كفر فهو نقض الميثاق. وقيل: هي بيعة الرضوان.
قوله: ﴿واتقوا الله﴾ أي: خافوا الله أن تُضمروا لرسوله ﷺ خلاف ما تبدون، فإنه يعلم ما في الصدور.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى حضّ المؤمنين أن يكونوا شهداء بالعدل في أوليائهم
وأعدائهم.
قوله ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ أي لا يَحمِلنَّكم بغض قوم على ألا تشهدوا بالحق وعلى ألا تعدلوا في حكمكم فيهم، والمعنى: لا يحملنكم بغض المشركين على ترك العدل. وهذه الآية نزلت حين هم اليهود بقتل النبي ﷺ. ثم أمرهم بالعدل فقال: ﴿اعدلوا﴾ أي: اعدلوا في الأعداء وغيرهم، فالعدل أقرب إلى التقوى، أي: أن تكونوا من أهل التقوى لا مِنْ أهل الجور، وهو كناية عن العدل.
قوله ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية.
يقال " وعدتُ الرجل " تريد: " وعدته خيراً "، و " أوعدته " تريد: " أوعدته شراً "، فإذا ذكرت الموعود قلت فيهما جميعاً " وعدته " و " أوعدته " فإذا لم تذكر الموعود قلت في الخير " وعدته "، وفي الشر " أوعدته "، هذا قول أكثر العلماء.
وقوله ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ هو على الحكاية، (لأنه لا يجوز في الكلام " وعدتُ لكَ درهماً "، وإنما جاء في القرآن على الحكاية)، كأن تقديره: قال الله جل ذكره: لِلَّذين آمنوا عندي جنات، ثم أمر النبي عليه السلام أن يخبرهم، ثم أخبر ما قال فحكاه، فقوله ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ يقوم مقام الموعود، وهو تفسير للوعد.
قوله ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ (بِآيَاتِنَآ)﴾ الآية.
أي الذين جحدوا وحدانية الله ونقضوا ميثاقه وعهوده وكذبوا بآياته وجحدوا [أنبياءه]: (هم) أصحاب الجحيم.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ الآية.
1631
معنى الآية: أن الله جل ذكره أمر نبيه ﷺ المؤمنين بالشكر على نعمه (إذ دفع) عنهم كيد اليهود عليهم اللعنة. وكان / سبب نزول هذه الآية أن النبي عليه السلام أمّن رجلين مشركين من بني كلاب وأعطاهما سهمين من سهامه أماناً لهما، فلقيهما عمرو بن أمية الضَّمْري وهو مقبل من بئر معونة فقتلهما ولم يعلم أن معهما أماناً من النبي ﷺ، فلما قدم عمرو على النبي عليه السلام قال له: قَتَلْتَهُما (و) معهما أماني؟! قال: لم أعلم، فَوداهُما النبي عليه السلام ومضى إلى بني النضير من اليهود ومعه أبو بكر وعمر وعلي وعثمان رضي الله عنهم، يَسْتعينهم على دية الكلابِيَيْن
1632
اللّذَيْن قتلهما عمرو فلما قَرُبَ من مدينتهم، خرجوا إليه فتلقَّوه وقالوا: مرحباً بك يا أبا القاسم، ماذا جِئْتَ له؟، فقال: رجل من أصحابي أصاب رجلين من بني كلاب - معهما أمانٌ منّي - فقتلهما فَلَزِمَني دِيَتُهما، فأريد أن تُعينوني قالوا: نعم والحُبُّ لَك والكَرامةُ يا أبا القاسم، اقْعُد حتى نجمع لك، فقعد النبي ﷺ وأصحابه تحت الحصن، فلما خلا بنو النضير - بعضهم (إلى بعض) - قالوا: لن نجد محمداً أقربَ منه الآن، فَمَن رَجُلٌ يَظهَر على هذا الجدار فَيَطْرح عليه رحىً أو حجراً فيريحنا منه؟، فقال رجل منهم: أنا، وهو عمرو بن جحاش، فأتى جبريل النبي صلى الله عليهما فأعلمه الخبر، فقام وتبعه
1633
أصحابه، فأنزل الله جل ذكره ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ الآية، وفي ذلك نزل ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ)﴾ [المائدة: ١٣]، فعند ذلك بعث (إليْهم النبيُّ) محمد بن مَسْلَمَة الأُوسي، وأمره أن يأمرهم بالرحيل والخروج من جواره، فلما أتاهم محمد بن مسلمة، تلقوه وسلموا عليه، فقال [لهم]: إني أُرسِلْتُ إليكم برسالة، ولَسْتُ أَبَلِّغكُمُوها حتّى أَسْأَلَكُم عن شيء قلتموه لي قبل اليوم، قالوا: (سَلْنا عمّا بدا لَكَ)، فقال لهم محمد بن مسلمة: أليس قد أتَيْتُكم سَنَة كذا وكذا فقلتم لي: يا ابن مَسلمةٍ، إن (شِئت هَدَيْناك وإن شئت غدّيناك)، فقلت: والله
1634
ما لي حاجة بهداكم، فقَرَّبْتُم إليّ طعاماً في صَحْفة جَزْع - كأني انظر: إليها -، فلما فَرَغْتُ من [غذائي]، قلتم لي: ما الذي أرغبك عن التوراة؟، فقلت: ما لي بها حَاجة، فقلتم كأنك تريد الحنيفية؟، فقلت: إيهاً والله أريدها، فقلتم لي: أما إنَّ صاحبها قد [رهنك] خروجه، وأشرتم نحو مكةَ وقلتم لي: ذلك الضّحوك القتّال يركب البعير ويَلبَس الشملة و [يجتزئ] بالكسوة، سيفه على عاتقه، (لتكونن - على يديه - في هذه البلاد) ملاحم وملاحم وملاحم، قالوا: قد قلنا لك ذلك، ولكن ليس هو هذا.
قال: أشهد (أن
1635
لا) إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، هو - والله - هذا، وقد بعَثَني إليكم وقال: قد غدرتم مرةً ومرةً ومرةً، فارْتحِلوا من بَلَدي وارتحلوا من جواري، فقالوا: أخِّرنا عشرة أيام نتجهز ونخرج، ففعل، ثم أتى رسول الله ﷺ فأخبرَه، فَصَوَّبَ أمرَه، وأمرَ النّبي ﷺ بحراسة المدينة، فدبّّ إليهم المنافقون وقالوا: لِمَ ترتحلون، وإنّما أنتم أهل الثمار والأموال، وقد نَزَل بكم محمد ولم تَنزِلوا به؟، فبعثوا إلى النبي ﷺ: اصْنَع ما أنت صانع فلسنا بمُرتَحلين، فكبّر النبي ﷺ ثلاث تكبيرات ثم قال: خابَتْ يَهودُ، لا تُصَلُّوا الظُّهرَ إلاّ عندهم، فغزاهم النبي ﷺ فصالحوه / على ما حمل (الحافر والخُفَّ):
1636
الجمل بين رجلين، والحافر لرجل واحد، وَارْتَحَلوا.
قال قتادة: هذه الآية نزلت على النبي عليه السلام وهو بنَخْل في الغزوة السابعة، أراد بنو ثعلبة أن يفتكوا بالنبي عليه السلام فأطلعه الله على ذلك.
وقيل: النعمة التي أمر الله بالشكر عليها - هنا - هي أن اليهود كانت همت بقتل النبي ﷺ في طعام دَعَوْهُ إليه، فأعلم اللهُ نَبيَّه بما همُّوا به، فلم يأتهم.
وقيل: هي ما أطلع الله نبيه من أمر المشركين إذ هموا أن يميلوا على المسلمين - وهم في صلاتهم - ميلة واحدة، وذلك يوم بطن [نخل]، فعلَّم الله نبيَّه صلاة
1637
الخوف والحذر منهم، وهي الغزوة السابعة.
وقيل: هي ما فعل الأعرابي، وذلك " أن النبي ﷺ كان مستظلاً تحت شجرة - وأصحابه متفرقون - إذ جاء أعرابي إلى سلاح رسول الله ﷺ - وهو معلق في شجرة - فأخذ السيف وسله، ثم أقبل على النبي ﷺ فقال: مَن يمنعك مني؟، قال: الله، قال الأعرابي - مرتين أو ثلاثاً -: من يمنعك مني؟، والنبي ﷺ يقول: الله، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبيّ ﷺ أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه "، قال قتادة: كان قوم أرادوا أن يفتكوا برسول الله عليه السلام، فأرسلوا هذا الأعرابي.
وقيل: " هم قريش بعثت رجلاً ليفتك برسول الله، فأتى وسَلَّ سيف رسول الله ﷺ ثم قال: من يمنعك مني يا محمد؟، [قال: الله]، ثم رد السيف في غمده ".
1638
قوله ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ الآية.
أخبر الله تعالى في هذه الآية بما كان من أسلاف هؤلاء الذين أرادوا كيد رسول الله ﷺ.
( و) قوله: ﴿اثني عَشَرَ نَقِيباً﴾: النقيب - في اللغة - كالأمين والكفيل والعريف.
قال قتادة: جعل من كل سبط (رجلاً شاهداً) عليهم.
والأسباط: نسل (اثني عشر ولداً) ليعقوب، (فنسل كل ولد ليعقوب) سبط، (فجعل من كل سبط) رجل أمين عليهم.
قال السدي: أمر الله موسى وبني إسرائيل بالسير إلى بيت المقدس - وفيها
1639
جبارون - فلما (قَرُبوا) بعث موسى اثني عشر نقيباً من جميع أسباط بني إسرائيل ليأتوه بخبر الجبارين، فلقيهم رجل من الجبارين - يقال له عاج - فأخذ (الإثني عشر) فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حملة حطب، فانطلق بهم إلى امرأته (وقال): انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يقاتلوننا، فطرحهم بين يديها وقال: (ألا أطْحَنهُم) برجلي، فقالت له امرأته: لا بلْ خلِّ عنهم حتى يُخبروا قومَهم بما قد رَأوا، ففعل ذلك، فقال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبَرْتُم بني إسرائيل خبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، ولكن اكتموه وأخبروه [نَبِييَ] الله فيكونان هما يَرَيان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ثم رجعوا،
1640
فنكث عشرة منهم العهد، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاج، وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم فأخبروهما الخبر.
وقال مجاهد: أرسل موسى النقباء - من كل سبط رجلاً - إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كمّ أحدهم اثنان منهم، ولا يَحمِل عنقود عنبِهم إلا خمسةُ أنفس، ويدخل في شطر [الرمانة]- إذا نُزِع حَبُّها - خمسة أنفس، فرجع النقباء، كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وآخر معه فإنهما / أمرا بقتالهم، فعصوا وأطاعوا أمر الآخرين، فعند ذلك قالوا: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا
1641
هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: ٢٤].
قال ابن عباس: جاء النقباء بحبة من فاكهتهم يحملها رجل، فقالوا: اقْدُروا قوة قوم هذه فاكهتهُم.
﴿وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أي: " ناصركم على عدوكم "، قيل: هو للنقباء. وقيل لجميعهم.
(ومعنى) ﴿(وَ) عَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ أي: نصرتموهم. وقيل معناه [وَقَّرْتُموهم] بالطاعة (لهم).
1642
وأصل التعزير المنع.
ومعنى ﴿وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ أي: " أنفقتم في سبيل الله ".
وقوله: ﴿قَرْضاً﴾ خرج مصدراً على " قرض "، كما قال ﴿نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] وقبله ﴿أَنبَتَكُمْ﴾ [نوح: ١٧].
وقوله تعالى ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة﴾ وما بعده: تفسير لأخذ الميثاق كيف هو وما هو.
وقوله: ﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ﴾ إلى قوله ﴿مَعَكُمْ﴾: اعتراض بين الميثاق وتفسيره، غير داخل في الميثاق الذي نقضه بنو إسرائيل دون النقباء، لأن الله تعالى قال للنقباء: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾، ومن كان الله معه لم ينقض ميثاقه.
قوله ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ﴾ الآية.
(ما) زائدة مؤكدة للقصة، أو نكرة. و ﴿نَقْضِهِم﴾ بدل منها.
1643
و ﴿قَاسِيَةً﴾ و (قسِيّة) لغتان، كعالم وعليم، ويؤيد قراءة ﴿قَاسِيَةً﴾ قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [الزمر: ٢٢]. ويؤيد قَرَأَةَ (قسية) أن " فعيلاً " أبلغ - في المدح والذم - من " فاعل "، فعليم أبلغ من عالم، وسميع أبلغ من سامع، فالمعنى: من أجل نقضهم للميثاق - للذي أخذ عليهم - لعنهم الله، أي: أبعدهم من رحمته، وجعل (الله) قلوبهم قسية، أي: غليظة [نابية] عن الإيمان والتوفيق بطاعة الله.
1644
والقاسية والعاتية: واحد.
وقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ أخبر الله تعالى عن فعلهم أنهم يبدلون ما في التوراة ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله، ويقولون لجهالهم: هذا كلام الله. وهذا من صفة القرون (التي) كانت بعد موسى من اليهود، ومنهم من أدرك عصر نبينا، فأخبره الله عنهم بما [يعملون]، وأدخلهم في ذكر ما كانوا قبلهم إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم.
وقيل: معنى ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ يتأولونه على غير تأويله.
وقيل: معنى ﴿[وَجَعَلْنَا] قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾: (أي وصفناهم بهذا).
وقوله: " ﴿وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ أي: تركوا نصيباً مما أُمِرُوا بِهِ ".
قال الحسن: تركوا عُرى دينهم، أي: تركوا (الأخذ والعمل) بالتوراة.
1645
وقوله: ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ أي: لا تزال يا محمد تطلع من اليهود - الذين نقضوا الميثاق - على خيانة ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾، والخائنة، الخيانة، وضع الاسم موضع المصدر، كقولهم " خاطئة " في موضع " خطيئة " و " قائلة " في " قيلولة ". وقيل: (التقدير): على فرقة خائنة. وقيل على رجل خائنة، كما يقال: رجل راوية، يريد: لا تزال يا محمد تطلع على مثل الذين هموا بقتلك.
وقيل: المعنى على نسمة خائنة منهم. ويجوز أن يكون التقدير: على فرقةٍ خائنة، أو: على طائفة خائنة. وقيل: الهاء للمبالغة، وقيل: (المعنى): على خائن
1646
منهم.
﴿فاعف عَنْهُمْ واصفح﴾: أمر النبي ﷺ بالعفو عن هؤلاء الذين أرادوا قتله من اليهود. وقال قتادة: هي منسوخة بآية القتال في " براءة ". وقيل: هي منسوخة بقوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨]. وقيل: المعنى: فاعف عنهم واصفح ما دام / بينك وبينهم ذمة وعهد.
قوله ﴿وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ الآية.
هذا في الإعراب كقولك " من زيد أخذت درهمه " وهو حسن، ولو قلت: " درهمه من زيد (" أخذت "، و " ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا "، و " أخذت درهمه من زيد ")، و " (ألْيَنَهَا لبِست من الثياب) "، لم يجز [لتقدم] المضمر على
1647
المظهر.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أعلمنا أنه أخذ أيضاً من النصارى ميثاقهم، فسلكوا مسلك اليهود، فبدلوا ونقضوا وتركوا حظهم الذي ذكّروا به من الإنجيل مثل اليهود.
وقوله: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة﴾ أي: حرضنا وألقينا. وهي الأهواء المختلفة والتباغض والخصومات في الدين التي بين اليهود والنصارى.
وقيل: بين النصارى بعضهم مع بعض، وبين اليهود بعضهم مع بعض. والهاء والميم في ﴿بَيْنَهُمُ﴾ تعود على اليهود والنصارى.
وقيل: على النصارى، لأنهم قد افترقوا فرقاً منهم: النسطورية
1648
واليعقوبية و [الملكانية] وغير ذلك، فالعداوة بين بعضهم مع بعض.
قوله ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى أعلم أهل الكتاب أنه أرسل إليهم محمداً ﷺ يبين لهم كثيراً مما أخفوا من الكتاب - وهو التوراة والإنجيل -، وكان ذلك من أدل ما يكون على نبوة محمد ﷺ إذ أعلم الناس بما فعل أهل الكتاب، فمما بينه: رجم الزانيين المحصنين - وقد أخفوه وغيروه -، وقتل النفس بالنفس وغيره.
1649
وقال [القرظي]: أول ما نزل على النبي ﷺ من القرآن - حين قدم المدينة - هاتان الآيتان وكانت اليهود بها يومئذ، ثم نزلت السورة كلها جملة (واحدة) عليه بعرفات.
ومعنى ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ أي: (و) يترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم، فلا يأمركم بالعمل به، إلا أن يأمره الله بذلك. وقيل: هو ما جاؤهم به رسول الله ﷺ من تخفيف ما كان الله شدده عليهم وتحليل ما كان حرم عليهم.
قوله ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ إلى ﴿صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
والمعنى: يا أهل التوراة والإنجيل ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ﴾ وهو محمد ﷺ. هو نور لمن استنار به، ﴿وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ هو القرآن.
[وقيل: النور: التوراة، والكتاب المبين: القرآن]. ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ أي:
1650
بالكتاب، ﴿مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ﴾ أي: يهدي الله بالكتاب ﴿سُبُلَ السلام﴾ من اتَّبع رضى الله تعالى في قبول ما أتاه من ربه.
و [﴿السلام﴾] هنا: اسم الله جلت عظمته، أي: سبل الله.
وقيل [السلام]- هنا - السلامة، أي: طرق السلامة، والرضى من الله القبول للعبد. وقيل: هو خلاف السخط.
﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات﴾ أي: من الكفر ﴿إِلَى النور﴾ أي: إلى الإسلام، ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي: بأمره، أي: [بأمر] الله له بذلك.
قوله: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ﴾ الآية.
معنى الآية أنها ذمّ للنصارى في قولهم واحتجاج عليهم في قولهم.
ومعنى ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ﴾ أي: (من) يقدر ويطيق رد ما أراد الله تعالى، فلو كان
المسيح إِلهاً، لقدر على رد ما يأتيه من أمر الله سبحانه، وفي عجزه عن ذلك دليل على أنه ليس بإله، إذ الإله لا يكون عاجزاً مقهوراً تلحقه الآفات، فعيسى كسائر ولد آدم.
قوله تعالى: ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي: تصريف ما فيهما وما بينهما، فهو يهلك من يشاء ويبقي من يشاء. (ووحّد) الأرض، لأنها تدل على النوع.
قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله﴾ الآية.
معنى الآية أن قوماً من اليهود والنصارى كلمهم النبي ﷺ وخوّفهم فقالوا: ما تُخَوِفُنَا يا محمد؟ نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال الله لنبيه: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم (بِذُنُوبِكُم)﴾ إن كنتم كما زعمتم، وذلك أن اليهود قالت:
1652
﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، فأقروا بالعذاب وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه.
ثم قال: قل لهم يا محمد ﴿بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ أي: أنتم مثل سائر بني آدم، لا فضل لكم عليهم إلا بالطاعة.
﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ أي: يستر ذنوبه، وهم المؤمنون، ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ أي: يميته على الضلالة فيعذبه. وقال السدي في معنى ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ أي: يهدي من يشاء في الدنيا فيغفر له، ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ (أي يميته على الضلالة) فيعذبه.
﴿وَ [للَّهِ] مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي: تدبيرها وتدبير ما بينهما، وإليه مصيركم فيجازيكم بأعمالكم.
وقوله ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُم﴾ معناه: فلم عذّبكم بذنوبكم فمسخكم قردة وخنازير؟ وإنما احتج عليهم النبي ﷺ بما قد كان وعلم، ولم يحتجّ عليهم بما لم يقع بعد، لأنهم ينكرون ذلك ويدّعون أنهم لا يعذبون فيما يستقبلون، فالماضي [أولى] به وعليه
1653
المعنى.
قوله ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل﴾ الآية.
قوله ﴿أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا﴾: ﴿أَن﴾ في موضع نصب أي: [كَرَاهَةَ] أن تقولوا.
وقال الفراء: المعنى: (لأن لا) تَقُولُوا.
ومعنى الآية أنها مخاطبة لليهود الذين كانوا بين ظهرانيْ (مُهَاجَرِ النَّبِي) ﷺ، وذلك أنهم لما دعاهم النبي إلى الإيمان به وبما جاءهم به، قالوا: ما بعث الله من نبي بعد موسى، ولا أنزل كتاباً بعد التوراة.
(و) قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن
1654
وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فأنكروا ما قالوا لهم، وقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله الآية.
ومعنى ﴿على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل﴾: على انقطاع من الرسل وسكون، وذلك أنه كانت الرسل بين موسى وعيسى متواترين.
وقد اختلف في الفترة التي كانت بين محمد وعيسى عليهما السلام: فقال قتادة: هي خمس مائة سنة وستون سنة.
وقيل عنه: خمس مائة وأربعون، وقيل عنه: ست مائة وزيادة سنين.
1655
وقال الضحاك: هي أربع مائة سنة وبضع وثلاثون سنة.
وقال ابن عباس: هي أربع مائة سنة فترة لا نَبِيَّ فيها، وكانت مائة سنة بعث الله فيها أربعة أنبياء، منهم ثلاثة رسل، وهم الذين ذكروا في " يس "، فبين ميلاد عيسى وميلاد محمد خمس مائة سنة.
وقيل: هو ما جاءهم به رسول الله من تخفيف ما كان الله شدد عليهم وتحليل ما كان حرم عليهم.
ومعنى ﴿أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ﴾ أي: أعذرنا إليكم برسول وكتاب كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير.
قوله ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
روي عن ابن كثير أنه قرأ ﴿يَاقَوْمِ﴾ بالرفع على معنى: يا أيها القوم، رواه
1656
شبل بن عباد عنه.
وهذه الآية إعلام من الله جل ذكره لنبيه ﷺ، / فقديم فسق اليهود وغيهم، وإن موسى ﷺ ذكرهم بنعم الله تعالى عليهم، إذ أرسل (إليهم) الأنبياء يأتونهم بالوحي، وأنه حرضهم على الجهاد، وأن لا يرتدوا على أدبارهم في قتال الجبارين الذين أمرهم الله تعالى بقتالهم.
وقيل: الأنبياء - الذين جعلهم الله تعالى فيهم - هم الذين اختارهم موسى للميقات، وهم السبعون الذين ذكرهم الله في " الأعراف ".
1657
﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً﴾ أي: تُخْدَمُون، ولم يكن في ذلك الوقت من بني آدم من يُخْدَم سِواهم، قال قتادة: هم أول من سخر له الخدم.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " من كان له بيت وخادم فهو ملك ".
وقيل: المعنى: جعلكم ذوي منازل لا يُدْخَلُ عليكم فيها إلا بإذن.
وقيل: المعنى: (جَعلَكم تَملِكُون أمركم لا يغلبكم عليه غالب).
(وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يذكر عن عبد ربه) بن سعيد أن معنى ﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً﴾ هو أن يكون للرجل المسكن يأوي إليه والمرأة يتزوجها والخادم
1658
تخدمه، هو أحد الملوك.
وقوله: ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين﴾ الذي آتاهم هم المن والسلوى والبحر والحجر والغمام، قاله مجاهد. وقيل: هو الدار والخادم والزوجة.
ومعنى ﴿مِّن العالمين﴾ من عالَمي زمانكم. وقال ابن جبير: ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً﴾ هذه لأمة محمد ﷺ.
قوله: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ الآية.
قال ابن عباس: هي فلسطين والأردُنُّ (و) عنه وعن مجاهد: الأرض المقدسة: الطور وما حوله أمرهم موسى بدخولها عن أمر الله لهم. وقيل: هي
1659
الشام، قاله قتادة.
وقيل: هي دمشق (و) فلسطين، (و) قال مقاتل: هي أريحا أرض الأردن.
والمقدسة: المطهرة، وقيل: المباركة.
وقوله: ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي: التي كتبها الله لبني إسرائيل، وقد سكنها بنو إسرائيل ولم يسكنها هؤلاء الذين خاطبهم موسى ﷺ لقوله ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾،
1660
ولم يعن موسى ﷺ أن الله كتبها للذين خاطبهم، وإنما عنى أن الله تعالى كتبها لبني إسرائيل وقيل: معناه: التي وهب الله لكم وأعلم بها أباكم إبراهيم.
وقال السدي: التي أمركم الله بدخولها.
﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ﴾ أي: امضوا لأمر الله في قتالهم ولا ترجعوا القَهْقَري، ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ لِنكولكم عن قتال عدوكم الذي أمركم الله به.
قوله: ﴿قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى ذكره أخبر عن (قول) قوم موسى له إذا أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وأنهم قالوا: إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنَا بِهم.
1661
سموا " جبارين " لشدتهم وعظم خلقهم وقوتهم.
وأصل الجبار: أن يكون المصلح أمر نفسه ومن يلزمه أمره، ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعاً بباطل أو حق، حتى قيل للمعتدي: جبار وقال بعض أهل اللغة: " الجبار - من الآدميين - (العاتي) الذي يَجبُر الناس على ما يريد ".
وقولهم ﴿لَن نَّدْخُلَهَا﴾ لم تدخل (لن) للعصيان منهم وللامتناع من أمر الله لهم، ولو كان كذلك لكفروا، إنما دخلت لتدل على امتناع الدخول للخوف من الجبارين ودل على ذلك قولهم ﴿فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾، ومن أسماء الله جل وعز: الجبار، لأنه المصلح أمر / عباده.
قال ابن عباس: لما قرب منهم موسى، بعث إليهم اثني عشر نقيباً ليأتوه
1662
بخبرهم، فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً (من) هيئتهم وأسجامهم فدخلوا حائطاً لبعضهم، فجاء صاحب الحائط يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعها، فوجدهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم.
وقال الضحاك: ﴿اإِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ قال: سفلة لاَ خَلاَقَ لهم ".
فعند ذلك قالوا لموسى ﴿(إِنَّا) لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾.
قوله: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ﴾ الآية.
قرأ سعيد بن جبير ﴿الذين يَخَافُونَ﴾ على ما لم يسم فاعله، فأخبر الله تعالى نبيه بما
1663
قال رجلان صالحان من بني إسرائيل وهما يوشع بن نون وكلاب بن [يافنا]- وقيل: كالب، وقيل: اسمه كالوب بن مَافِنَة - فَوَفَيَّا موسى بما عهد إليهما.
وقال ابن عباس: لما نزل موسى بمدينة الجبارين بعث من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً ليأتوا بخبره فصاروا فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه (فحملهم) حتى أتى بهم المدينة ونادى في قومه، فاجتمعوا إليه [فقالوا]: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بَعَثنا إليكم لنأتيه بخبركم. فأعطوهم حبة عنب [بِوِقْرِ] الرجل: فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قدر قوم هذه فاكهتهم، فلما أتوهم قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا،
1664
﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ﴾ وهما رجلان - كانا من أهل المدينة - أسلما واتبعا موسى وهارون فقالا لموسى ﴿ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)﴾ الآية.
قال الكلبي: كانوا [بجبال] أريحا من الأردن فَجُبِنَ القوم أن يدخلوها فأرسلوا جواسيسَهم - من كل سبط رجلاً - يأتوهم بخبر الأرض المقدسة فدخل الإثنا عشر فمكثوا بها [أربعين] ليلة ثم خرجوا، فصدق اثنان وكذب عشرة، فقالت العشرة: رأينا أرضاً تأكل أهلها ورأينا حصونا منيعة، ورأينا رجالاً جبابرة ينبغي لرجل منهم مائة منا، فجبنت بنو إسرائيل وقالوا: لا ندخلها حتى يخرجوا منها، فقال يوشع بن نون وكالوب وهما الرجلان [اللذان] أنعم الله عليهما بالإيمان -:
1665
نحن أعلم بالقوم من هؤلاء، إن القوم قد (مُلِئوا منّا) رعباً، ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا: يا موسى أَيُكَذِّبُ منا عشرة ويُصَدِّقُ اثنان؟ إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها.
قال الله عند ذلك: فإنها محرمة عليهم أبداً، وهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة. فلم يدخلها أحد ممن كان مع موسى، هلكوا كلهم في التيه، إلا الرجلين فإنهما دخلاها، ودخلها (مع) موسى أبناء القوم الهالكين في التيه، وهذا على [قراءة] من قرأ: (يُخافون) بالضم.
ومعنى / ﴿أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾ أي: بطاعته واتباع نبيه. وقيل: أنعم الله عليهما بالخوف. وقال الضحاك: أنعم الله عليهما بالهدى، وكانا من مدينة الجبارين.
قوله: ﴿قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾ الآية.
(و) هذا أيضاً خبر من الله عن قول القوم لموسى، ومعنى (أبداً): أيام حياتنا ومقامهم.
ومعنى ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ﴾ أي: وليعنك ربك، لأن الله لا يجوز عليه الذهاب وإنما الذي سألوه الذهاب موسى وهذا إعلام من الله نبيه محمداً ﷺ أن بني إسرائيل لم يزالوا يعصون الأنبياء وأن [الذين] بحضرتك أسوة في العصيان.
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ الآية.
المعنى: قال موسى - عند قولهم له ما حكى عنهم، ونكولهم عن قتال عدوهم -: ربِّ إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلا نَفْسي، وَأخي كذلك، أي: وأخي [أيضاً لا يملك] إلا نفسه.
(وقيل: المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، فيكون نسقاً على نفسي).
فالأخ - على القول الأول - في موضع رفع، عطف على موضع ﴿إِنِّي﴾، وعلى
1667
الثاني في موضع نصب.
ويجوز الرفع في الأخ من وجه آخر: وهو أن يكون معطوفاً على المضمر في ﴿أَمْلِكُ﴾، كأنه قال: إني لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا. ويجوز النصب على أن [يكون] نسقاً على الياء التي هي اسم (أنّ)، بمعنى قال: إني وأخي لا أملك إلا أنفسنا.
ومعنى الآية: أنه خبر من الله عن موسى وما قال عندما قال له قومه.
ومعنى ﴿فافرق بَيْنَنَا﴾ (أي فافصل بيننا) ﴿وَبَيْنَ القوم الفاسقين﴾ أي: افصل بيننا بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم، يقال " فرقت بين الشيئين " بمعنى: فصلت بينهما، قال ابن عباس: اقض بيننا.
وقيل: المعنى: اجعل الجنة دارنا ليكون بيننا وبينهم فرق.
وأجاز أبو حاتم الوقف على ﴿إِلاَّ نَفْسِي﴾، قال: لأن المعنى: وأخي لا يملك إلا
1668
نفسه، وهذا قول مردود، لأن كل إنسان يملك نفسه فلا فائدة في الكلام على هذا، ولو كان موسى لا يملك أخاه، لم يكن في تخصيص ذكره فائدة، لأنه أيضاً لا يملك قومه، فهم بمنزلة الأخ على هذا القول. (وقد أنكر هذا القول) المبرد وغيره.
قوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ الآية.
﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ منصوب بـ ﴿يَتِيهُونَ﴾، لأن موسى غضب عليهم لما قالوا، فدعا عليهم، فحرمها الله عليهم أبداً وألزمهم أن يتيهوا أربعين سنة عقوبة ولم يدخلوها.
وقيل: وهو منصوب بـ ﴿مُحَرَّمَةٌ﴾ وأنهم عوقبوا بأن حرمت عليهم أربعين
1669
سنة، و ﴿يَتِيهُونَ﴾، حال العامل فيه ﴿مُحَرَّمَةٌ﴾، ثم بعد الأربعين فَتَحَها لهم وأسكنهم إياها وكانوا يومئذ ست مائة ألف مقاتل، فلبثوا أربعين ﴿سَنَةً﴾ في ستة فراسخ جادين في السير، فإذا سئموا ونزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، فاشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى و (ظللهم بالغمام)، وانفجر لهم حجر أبيض عن اثنتي عشرة عيناً، لكل سبط منهم عين، فلما تمت الأربعون سنة أمرهم الله أن يأتوا المدينة، فقد كفوا أمر عدوهم، وقال لهم: إذا أتيتم المسجد فَأْتوا الباب واسجدوا وقولوا " حطة "، بمعنى: حط عنا ذنوبنا، فأتى عامة القوم وسجدوا على خدودهم وقالوا: حنطة.
قال السدي: / لما ضرب عليهم التيه، ندم موسى فمكثوا أربعين سنة، ثم إن
1670
موسى اجتمع بعاج، [فنزا] موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عاج فقتله، ولم يبق أحد ممن أبى (أن يدخل) قرية الجبارين - ممن كان مع موسى - إلاَّ مات ولم يشهد الفتح، وإنما كان معه أبناؤهم، ثم إن الله [نَبَّأ] يوشع بن نون وأمره بقتال الجبارين، فآمن به بنو إسرائيل، فهزموا الجبارين، قال: فكانت العصابة من بني إسرائيل تجتمع على عُنُقِ الرجل يضربونها لا يقطعونها.
قال ابن عباس: كل من دخل التيه - ممن جاز العشرين سنة - مات في التيه، ومات موسى عليه السلام في التيه، ومات هارون قبله، وبرز يوشع [بمن بقي] معه مدينة الجبارين فافتتحها.
1671
قال قتادة: مات موسى في الأربعين سنة ولم يدخل بيت المقدس إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا.
قال الطبري: ثبتت الأخبار أن موسى قتل عاج بن عناق وهو من أعظم الجبارين، وموسى ﷺ هو الذي افتتح مدينة الجبارين والرجلان على مقدمته.
وروي أن طول عاج ثمان مائة ذراع، وأنه لما ضربه موسى بعصاه [في] الكعب [سقط] ميتاً، فكان جسراً للناس يمرون عليه.
وروى ابن زيد عن أبيه أن النبي عليه السلام قال: " كان طول موسى عشرة أذرع، وطول عصاه عشرة أذرع، ونزا موسى عشرة أذرع (فما نال من عوج إلا العِرق) - الذي تحت الكعب - فقتله بتلك الضربة " قال زيد: فبلغني أن جيفته سدَّت بطن وادي الأردن.
1672
قال نوف البكالي: كان طول عوج ثمان مائة ذراع، وعرضه أربع مائة ذراع.
وقال وهب بن منبه: لما نظر عوج إلى عسكر موسى - وكانوا ستمائة (ألف مقاتل) ونيفاً - اقتلع من الجبل صخرة - على قدرهم من الأرض - فاحتملها رافعاً بها يديه ليرسلها على العسكر، فبعث الله تعالى الهدهد - ومعه قطعة من ماسٍ - فأداره على الصخرة تلقاء رأسه، فما نزا موسى فأصاب عرق عوج، سقط موضع التقوير من الصخرة في عنق عوج فسقط ميتاً.
1673
وقوله: ﴿يَتِيهُونَ﴾ أي: يحارون.
وقوله: ﴿فَلاَ تَأْسَ﴾ خطاب لموسى. وقيل: لمحمد عليهما السلام.
والتمام عند الأخفش وأبي حاتم ونافع ويعقوب: ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ على أن نصب " الأربعين " بـ ﴿يَتِيهُونَ﴾.
" قال أبو العالية: كانوا ست مائة ألف، سماهم الله " فاسقين " بهذه
1674
المعصية ".
قوله: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى أمر نبيه ﷺ أن يتلو (خبر ابني) آدم على اليهود الذين ذكر قصتهم فيما تقدم، فيخبرهم عاقبة الظلم ونكث العهد، وما جزاء المطيع منهما وما آل إليه أمر العاصي منهما. وابنا آدم هما: هابيل وقابيل، أمرهما الله تعالى أن يقربا قرباناً، وكان أحدهما صاحب غنم وكان له حمل يحبه - ولم يكن له مال أحبَّ إليه منه - فقربه وقبله الله منه، وهو الذي فدى به إبراهيم ﷺ، ( لم يزل يرتع في الجنة حتى فدى به الذبيح، وقرب الآخر شرَّ حرثه - وكان صاحب حرث - / فلم يتقبل منه، قال ابن عمر: وَأَيْمُ الله، لقد كان المقتول أشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرّج أن يبسط يده إلى أخيه.
قال ابن عباس: كان قَبول القربان أن تأتي نار فتأكل المُتَقبَّل وتترك الذي لم
1675
يُتقبَّل - ولم يكن في الوقت مسكين يُتصدَّق عليه، فحسد الذي لم يُتقبَّل منه المُتقبَّل منه، فقال: ﴿لأَقْتُلَنَّكَ﴾، قال له أخوه: وما ذنبي؟، ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾.
قال مجاهد: لما قتله عقل الله إحدى رجليه بساقها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس، حيث ما دارت [دار] عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، وفي الصيف حظيرة من نار، معه سبعة أملاك، كلما ذهب ملك جاء آخر.
وقابيل هو القاتل لهابيل - فيما ذكر المفسرون -، وقابيل هو الأكبر.
وذكر ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ أن آدم كان يولد له غلام وجارية، فإذا ولد له بطنان، زوج أخت هذا لهذا وأخت هذا لهذا، وإن قابيل كان له أخت حسنة أحسن من أخت هابيل، فأبى أن يزوجها لهابيل، وقال: أنا أحق بها، فأمره آدم أن يزوّجها منه فأبى، وإنهما قَرَّبا قُرباناً إلى الله: أيّهما أحق بالجارية، وكان آدم قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، وكان قد قال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأَبَت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل فقال: نعم،
1676
فاذهب تجد أهلك كما يسرك. فلما قرّبا قرباناً، قرّب هابيل جَذَعَة سمينة، وقرّب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة فَفَرَكَها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وقد كان قابيل يفخر بأنه الأكبر وأنه وصيُّ آدم، فغضب قابيل وقال: لأقتلنّك حتى لا تنكح أختي.
قال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه.
وقيل: إنهما لما امتنع قابيل أن يزوج أخته لهابيل، غضب آدم وقال: اذهبا فتحاكما إلى الله وقرِّبا قرباناً، فأيّكما قُبِل قربانُه فهو أحق بها، فقرَّبا القربان بمنى - فمِن ثَمَّ صار مذبحُ الناس اليوم بمنىً - فنزلت نار فأحرقت قربان هابيل، ولم تأكل قربان قابيل، فقتله قابيل بحجر: رضخ رأسه (به)، واحتمل أخته حتى
1677
أتى بها وادياً من أودية اليمن - في شرقي عدن - (فكَمَن) فيه، وبلغ آدمَ الخبرُ فأتى فوجد هابيل قتيلاً.
قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، يلوي برقبته ويأخذ برأسه، فنزل إبليس فأخذ طيراً، فوضع رأسه على صخرة ثم أخذ حجراً، فرضخ به رأسه (وقابيل ينظر ففعل [ذلك] بأخيه فرضخ رأسه).
ومكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك، ثم أُتِيَ (فقيل له) (حيّاك الله) وبيّاك. معنى " بيّاك ": أضحكك.
وروي عن علي أنه [قال]: بكاه آدم وقال:
عَلَفتُها تِبْناً وماءً بارداً. فعطف الماء على التّبن وليس مما يوصف بالعلف، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما
1678
تغيَّرتِ الْبِلادُ ومَنْ عَليْها فَوَجْهُ الأَرضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ
تَغيَّر كلُّ ذي طَعْمٍ وَلَوْنٍ وقَلَّ بَشاشَةَ الْوجْهُ المُليحُ.
" بشاشَةَ ": نصب على التفسير، لكن حذف التنوين لالتقاء الساكنين. ومن الناس من يرويه بخفض " الوجهِ المليحِ " على أنه [مُقْوٍ].
و ﴿المتقين﴾ - هنا -: " الذين اتقوا الله وخافوه ". وقيل: هم من اتقى الشرك، قاله الضحاك وغيره.
وروي أن الذي قرّب هابيلُ كان كبشاً سميناً من خيار غنمه، وأن الله تعالى
1679
أدخل ذلك الكبش الجنة، فلم يزل حتى فدي به ولد إبراهيم.
قوله: ﴿لَئِن بَسَطتَ (إِلَيَّ) يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ الآية.
أخبر الله - في هذه الآية - بتحرّج المقتول عن القتل، وقال ابن عمر: وأيْمُ الله - إنْ كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده.
قال مجاهد وغيره: كان فرض الله عليهم ألا يمتنعوا ممن أراد قتلهم.
﴿إني أَخَافُ (الله) رَبَّ العالمين﴾ أي: أخافه إن خالفت أمره فمددت يدي إليك.
قوله: ﴿إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي﴾ الآية.
ومعنى إرادته لأن يبوأ أخوهُ بإثمه: أن المؤمن يريد الثواب ولا ينبسط إليه،
1680
فصار في كف يده - عمن يقتله - بمنزلة من يريده، فهو مجاز على هذا، وهو قول المبرد.
وقيل: هو حقيقة، لأنه لمّا قال ﴿لأَقْتُلَكَ﴾، استوجب النار بما تقدم في علم الله تعالى أنه سيفعل، فعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله.
وقال ابن كيسان: إنما وقعت الإدارة بعدما بسط يده بالقتل.
وقيل: المعنى: بإثم قتلي إن قتلتني. وقيل: المعنى: إذا قتلتني أردت ذلك " لك "، لأنه إرادة الله للقاتل.
1681
ومعنى ﴿بِإِثْمِي﴾ أي: بإثم قتلي، ومعنى ﴿وَإِثْمِكَ﴾ (أي وإثمك) الذي من أجله لم يُتقبّل منك، وهو قول مجاهد. وقيل: معناه: بإثم قتلي وإثم اعتدائك عليَّ، لأنه يأثم في الاعتداء وإنْ لم يقتل.
وقيل: المعنى: ﴿بِإِثْمِي﴾ الذي كان يلحقني لو بسطتُ يدي إليك، وإثمك في تحمّلك قتلي. وعن ابن عباس: بإثم قتلي وإثم معاصيك المتقدمة لك.
وقال إبراهيم بن عرفة: (أراده عن) غير محبة ولا شهوة، لأنّه لمّا لم يكن بُدٌّ من أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، اختار - عن ضرورة وعن غير محبة لذلك - أن يُقتل، كما تقول للرجل - يحاول ظلمك -: " أريد أن أَفدي نفسي منك " وأنت لا تحب ذلك ولكن الضرورة ألجأتك إلى هذه الإرادة.
1682
(و) قوله: ﴿وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين﴾ قيل: هو (من) قول المقتول. وقيل: هو إخبار من الله لنا. وهذا يدل على أن الله تعالى قد كان أمر آدم ونهاه وولده " ووعدهم " وأوعدهم.
وقال النبي ﷺ: " ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمَاً إِلاّ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ منها، ذلك بأنه أوَلُ مَن سَنَّ القتل ".
ومعنى ﴿تَبُوءَ﴾ أي: تحمل وتلزم وتنصرف به.
قوله: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ الآية.
معنى " طوّعت ": أجابته إلى ذلك وانقادت (له إلى ذلك ففعل).
وقيل: معناه: زَيَّنَت. وذلك أنه وجده نائماً فشدخ رأسه بصخرة: وذلك أن
الغلام فَرَّ منه فطلبه فوجده نائماً عند غنم له يرعاها فشدخ رأسه. وذكر (...) ابن جريج أن إبليس علّمه ذلك.
قوله: ﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً﴾ الآية.
قرأ الحسن: (أَعَجِزَتْ) بكسر الجيم، وهي لغة شاذة، إنما يقال: " عَجِزَت المَرْأةُ ": إذا كبِرت عجيزتها.
ومعنى الآية: أن القاتل لم يدر ما يصنع به.
قال ابن عباس: فمكث يحمل أخاه في خِوان على رقبته سنة، فبعث الله غرابين، فرآهما يبحثان. فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي؟. / وقيل: بعث الله غراباً حياً إلى غراب ميت، فجعل الحي يواري الميت فتعلم منه ابن آدم. وقيل: بعث الله غرابين أخوين فاقتتلا قدّامه، فقتل أحدهما الآخر،
1684
فأقبل القاتل يواري المقتول فتعلم ابن آدمَ القاتلُ منه، فوارى أخاه.
وقال مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال: ﴿يَاوَيْلَتَا﴾ أعجَزت أن ﴿أَكُونَ﴾ أفعل مثل ما فعل هذا؟.
وهذا كله مَثَلٌ ضربه الله لابن آدم وحرصه في الدنيا.
ومعنى ﴿مِنَ النادمين﴾ أي: من النادمين على قتل أخيه.
قال نافع: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾ التمام، وخالفه في ذلك جماعة العلماء باللغة، وقالوا التمام ﴿مِنَ النادمين﴾، لأن الذي كُتب على بني إسرائيل إنما كان من أجل قتل ابْْنَي آدم: أحدهما الآخر. وإذا وقف على ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾، صار إنما كُتب عليهم لغير علة،
1685
وليس التفسير على ذلك.
قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ﴾ الآية.
قرأ الحسن: ﴿أَوْ فَسَادٍ﴾ بالنصب، على معنى: أو تحمل فساداً، ويجوز أن يكون مصدراً على معنى: أو أفسد فساداً.
و [قراءة] الجماعة بالخفض على معنى: أو بغير فساد في الأرض.
ومعنى الآية: من أجل هذا القتل كتبنا - أي: [حكمنا]- على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً ظلماً - لم تَقْتُل نفساً - أو قتلها بغير فساد كان منها في الأرض، وفسادُها: إخافة السبل.
وقوله: ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾.
قال ابن عباس: معناه من قتل نبياً أو إماماً عدلاً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أعان نبياً أو إمامَ عدلٍ فنصره من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعاً. وقيل المعنى: من قتل نفساً بغير ذنب فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها - أي: ترك قتلها مخافة الله
1686
- فكأنما أحيا الناس جميعاً.
وقيل المعنى: فكأنما قتل الناس عند المقتول، ومن استنقذ نفساً من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ.
وقيل: المعنى: أن صاحب القتل يَصْلى النار، فهو بمنزلة من قتل الناس جميعاً، ومَن سَلِم مِن قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً.
وقال مجاهد: معناه أنه يصير إلى جهنم بقتل نفس كما يصير إليها بقتل جميع الناس. وقيل: المعنى (أنّ) من قتل نفساً، يجب عليه من القصاص والقَوْد كما يجب على من قتل الناس جميعاً، قال ذلك ابن زيد عن أبيه.
وقيل: معنى ﴿مَنْ أَحْيَاهَا﴾: مَن عفا عمن يجب عليه القصاص، فهو مثل من عفا عن جميع الناس لو وجب (له عليهم قصاص).
قال ابن زيد أيضاً: ﴿مَنْ أَحْيَاهَا﴾: من عفا عنها، أعطاه الله من الأجر مثل لو عفا
1687
عن الناس جميعاً. وعن مجاهد: من أحياها من غرق أو حرق أو هلكة. قال الحسن: وأعظم إحيائها: إحياؤها من كفرها وضلالتها.
وقيل: المعنى يُعذَّب - كما يعذب قاتل الناس جميعاً - من قتل نفساً، ويُؤجَر من أحيا نفساً - أي: استنقذها - كما يؤجر من أحيا الناس جميعاً.
وقيل: المعنى هو: في الجرأة على الله والإقدام على خلافه كمن قتل الناس جميعاً، تشبيهاً لا تحقيقاً، لأن عامل السيئة لا يجزي إلا بمثلها.
وقوله / ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ﴾ هذا يُعْطَى من الأجر مثل ما يعطى من أحيا الناس جميعاً، لأن الحسنات تضاعف ولا تضاعَفُ السيئات، فهذه حقيقة والأول على التشبيه لا على الحقيقة.
1688
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ الآية؛ أي: جاءت بني إسرائيلَ الرسلُ بالحجج الواضحة البيّنة، ﴿إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ﴾ أي: بعد مجيء الرسل بالآيات البيّنات ﴿لَمُسْرِفُونَ﴾ أي: " لعاملون بمعاصي الله ".
قوله: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ الآية.
معنى الآية: أنها بيان من الله عن حكم المفسد في الأرض.
والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
ونزلت هذه الآية في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، وقطعوا السبل، فخيّر الله تعالى نبيّه ﷺ بالحكم فيهم، قاله ابن عباس (وغيره، قال ابن عباس): خيّر الله نبيه، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع من خلاف. (و) قال الحسن: نزلت هذه الآية في المشركين.
1689
وقيل: نزلت في قوم - من عُكْل وعُرَيْنة - ارتدوا عن الإسلام (وحاربوا رسول الله ﷺ، قاله أنس وغيره، إنهم ارتدوا " واسْتَاقُوا المواشي وقتلوا الرِّعاء، فقطع النبي أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. وقال بعض العلماء: إن هذه الآية ناسخة لما فعل النبي بالعُرَنيين إذ مثَّل بهم، فلم يعد النبي ﷺ إلى المثلة. وقيل: بل فعل ذلك النبي بوحي وإلهام لقوله:
1690
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى﴾ [النجم: ٣].
والسَّمْلُ: فَقْءِ العينِ بحديدة أو بشوكة.
وقوله: ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض﴾: قيل: يخرجون من ديار الإسلام إلى دار الحرب، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: ينفى من البلد الذي أحدث فيه ذلك إلى غيره. وقال الكوفيون: النفي - هنا - الحبس، لأنه لا يمكن أن ينفى من الأرض كلها لو تركنا والظاهر.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
أي: إلا الذين تابوا من محاربتهم وشركهم والسعي في الأرض بالفساد من قبل أن تملكوهم، فإن الله يغفر لهم، أي: يستر عليهم ما تقدم من فعلهم ويرحمهم.
وهذه الآية - عند جماعة - إنما في المشركين - وأما الرجل المسلم فليس يحرزُه من الحد إذا قتل أو أفسد الأموال توبته. وقيل: هي للمؤمنين وغيرهم إذا استأمنوا أو تابوا أو أمَّنَهُم الإمام، فليس لأحد أن يطلبهم بدم ولا بغيره، قاله السدي وغيره.
وقال مالك: لا يطلب بشيء إذا جاء تائباً - المؤمن ولا غيره - إلا أن يكون معه مال يُعرف فيأخذه صاحبه أو تقوم على المسلم بينة بالقتل فيقاد منه، ولا يتبعه الإمام بشيء من الدماء التي لم يطلبها أولياؤها. وقال الشافعي: تضع توبتُه عنه حقوق الله ولا يَسقط عنه بها حقوقُ بني آدم.
وقيل: إنما تضع التوبة الحقوق عمن لحق - في حرابته - بدار الكفر ثم أتى تابئاً، وأما من لم يلحق بدار الكفر، فالحقوق كلها لازمة له - تاب أو لم يتب -.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ﴾ الآية.
المعنى: خافوه فيما أمركم / به واطلبوا إليه القربة. والوسيلة: القربة. وقيل: هي المحبة. وقيل: الوسيلة درجة في الجنة.
﴿بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾، قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض﴾ الآية.
(و) معناها: أن الذين كفروا بمحمد ﷺ وبما جاء به، وماتوا على ذلك، لو ملكوا - يوم القيامة - ما في الأرض كلها وضِعْفَهُ معه، لرضوا أن يفتدوا به من العذاب وليس يُتَقبّل منهم ذلك ولا ينفعهم.
وهذا إعلام من الله تعالى لليهود والنصارى ومشركي قريش أنهم لا بد لهم من الخلود في النار، وأن قولهم ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] باطل كذب.
(ثم) أخبر تعالى أنهم يريدون أن يخرجوا من النار بعد دخولها وأنهم ليسوا
بخارجين منها وأنهم في عذاب مقيم، (أي دائم) أبداً.
قال نافع بن الأزرق لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار (و) قد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾، فقال له ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها، هذا للكفار. قال الحسن: (كلما رفعتهم) بلهبها حتى يصيروا إلى أعلاها، أعيدوا فيها.
قوله: ﴿والسارق والسارقة﴾ الآية.
قال سيبويه: أبت العامة إلا الرفع، يريد بالعامة الجماعة من الرواة والقراء، والاختيار عنده النصب، لأن الأمر بالفعل أولى، فهو عنده مثل " زيداً فاضربه "،
1694
وخولف في ذلك فقال الكوفيون: الرفع أولى، لأنك لا تقصد إلى سارق بعينه، وإنما المعنى: كل من سرق فاقطعوا يده، ولذلك أجمعوا على أن [قرأوا]: ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا﴾ [النساء: ١٦] بالرفع، وهو مذهب المبرد.
وقال: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ بالجمع ليفرق بين ما في الإنسان منه واحد وما فيه اثنان، هذا قول الخليل. وقال الكوفيون: أكثر ما في الإنسان - من الجوارح - اثنان " اثنان " مثل اليدين والرجلين والقدمين والأذنين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِب بالواحد منهم - إذا أضيف إلى آخر - مذهب الجمع.
وقيل: فعل ذلك، لأن التثنية جمع. وقيل: لأنه لا يُشْكل.
1695
وأجاز سيبويه جمع غير هذا مما (ليس) في الإنسان في حال التثنية وحكى (" وَضَعا رِحالَهما): يريد رَحْلَيْ راحِلَتَيْن.
وقرأ ابن مسعود " والسّارق والسّارقَةَ " بالنصب، وبه قرأ عيسى بن عمر.
﴿جَزَآءً﴾ مفعول من أجله، ويكون مصدراً، ومثله ﴿نَكَالاً﴾.
وقرأ ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما).
والألف واللام في ﴿السارق والسارقة﴾ دخلتا لتعريف النوع ك ﴿ رضي الله عنR الزانية والزاني﴾ [النور: ٢]،
1696
و [ليستا] لتعريف الجنس، إنما يكونان لتعريف الجنس فيما لزمته الألف واللام (من أجل جنسه: كالرجل والدينار والدرهم، وما لزمه الألف واللام) لأجل فِعله، فهو تعريف النوع كالسارق والزاني وشبهه، وهذا يزول عنه هذا الاسم بزوال فعله، والأول لا يزول عنه أبداً.
ومعنى الآية: من سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيديهما.
وعنى بذلك سارق ثلاثة [دراهم]، أو ربع دينار أو (ما قيمته) ربع دينار، أو ثلاثة [دراهم] فصاعداً، هكذا بيَّنَته السنة.
1697
ولا يقطع السارق حتى يسرق من حرز وما أشبه الحرز، وهو قول أهل المدينة: مالك وأصحابه. وقد قطع النبي ﷺ في مجن / قيمته ثلاثة دراهم، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهم.
وروي أن علياً قطع في ربع دينار: درهمان ونصف.
وروي عن ابن مسعود أن القطع في دينار أو عشرة دراهم فصاعداً، لا فيما دون ذلك. وقال عطاء: لا تقطع يد السارق فيما دون عشرة دراهم.
1698
وقال النخعي: تقطع يد السارق في دينار أو في قيمته.
وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن اليد تقطع في أربعة [دراهم] فصاعداً، لا فيما دون ذلك.
وقد أوجب قوم القطع على كل من سرق وإن قَلَّ ذلك، على ظاهر الكتاب.
ولا قطع على السارق حتى يُخرج المتاع من حرزه أو ما يشبه الحرز، وهو قول الشعبي والزهري وعطاء، وروي ذلك عن عثمان وابن عمر، وهو قول مالك
1699
والشافعي وغيرهما.
ولو نقب بيننا فأدخل يَدَه وأخذ متاعاً فرمى به إلى الخارج ثم خرج فأخذه، فعليه - في ذلك - القطع عند مالك وغيره، لأنه قد أخذه من حرزه - وهو الحائط -، ولو ناوَلَهُ آخرَ خارجاً من البيت، كان القطع على الداخل ولم يُقطع الخارج.
ولو دخل جماعة بيتاً وأخذوا متاعاً وحملوه على أحدهم وخرجوا به، فقال ابن القاسم عن مالك: لا يقطع إلا مَن حمله، وقال ابن أبي أويس (عنه): يقطعون جميعاً.
ولا قطع على من سرق باب دار أو باب مسجد، لأنه ظاهر لا حرز عليه.
1700
وإذا سرق من بيت الحمام - ومع المتاع من يُحرزه - قطع عند مالك، فإن لم يكن مع المتاع من يحرزه لم يقطع.
وإذا سرق رجلان شيئاً - لو سرقه أحدهما وجب عليه القطع - قُطِعَا جميعاً عند مالك، كالرجلين يَقتُلان رجلاً، فإنهما يُقتَلان به.
وقال الشافعي: لا قطع على أحدهما حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما فيه القطع.
وإذا سرق من رجلين أربعة [دراهم] فصاعداً، قطع عند مالك.
وإذا سرق سارق ما يجب فيه القطع ثم سرقه منه آخر، فعليهما القطع عند مالك وغيره، ولو كانوا سبعين قطعوا. وقيل: لا قطع على الثاني.
1701
ولو كان لرجل على رجل مائة دينار دَيْناً فسرق الذي له الدّيْنُ من مال الذي عليه الدّيْن مائة درهم، فإنه يقطع عند مالك.
فإذا سرق السارق ثم رد ما سرق ورفع إلى الإمام بعد ذلك، قطع في قول مالك وإن عفا عنه صاحب المتاع. وقيل: إنّه لا يقطع إذا عفا عنه صاحب المتاع.
ويقطع عند مالك [في الفواكه] إذا كان فيها قيمة ما تقطع عليه اليد. وقيل: لا قطع في ذلك.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ " " والكَثَرُ: الجُمَّار ".
ومن سرق مصحفاً قطع عند مالك والشافعي.
ولا قطع على مختلس أو خائن عند جماعة العلماء.
1702
وأوجب مالك وغيره القطع على الطرّار الذي يَطُرُّ النفقة من الكم.
وقيل: إن كانت الصُرَّةُ داخل الكم قطع، وإن كانت خارجاً لم يقطع.
وعلى الولد إن سرق من مال والده القطع، وهو قول مالك. وقيل: لا قطع عليه.
وكلهم لم يوجبوا على الوالدين قطعاً إذا سرقا [من] مال ولدهما.
فأما [ذوو] المحارم فقال الشافعي: يقطعون. / وقال غيره: لا
1703
يقطعون.
وكذلك اختلف في الزوجين، فقال مالك: يقطع كل واحد منهما إذا سرق مال الآخر.
وقال غيره: لا قطع على واحد منهما.
وإذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، (ثم إن سرق قطعت يده اليسرى)، ثم إن سرق قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق عُزر وحُبس، هذا قول مالك والشافعي وغيرهما. وقيل: تقطع [أولاً] اليمنى ثم يده اليسرى، ثم إن سرق حبس. وقيل: تقطع يده اليمنى ثم رجله ثم لا قطع عليه، قاله الزهري وغيره.
1704
وإذا كانت يمنى السارق شلاء قطعت يسراه عند مالك. وقيل: تقطع الشلاء. وذكر ابن القاسم أن مالكاً لم يجبه فيها بشيء، قال: ثم بلغني أنه قال: تقطع اليسرى.
وقال غير ابن القاسم عن مالك: تقطع رجله، لأن يَدَهُ الشّلاء كالمقطوعة.
وإذا أمر الحاكم بقطع يمينه (فقطعت يساره) أجزأ.
وقال مالك: إذا كان السارق مريضاً يُخاف عليه لم يُقطع حتى يبرأ.
1705
و (العبد والحر) في (جميع) ذلك سواء عند مالك.
ولا يُحَدّ إلا بالغ، والإنبات في حد البلوغ عند جماعة من العلماء، وحد البلوغ - عند مالك - الاحتلام أو يبلغ من السن ما لا يجاوزه غلام (إلا احتلم).
وأجاز جماعة من العلماء أن يُشفع في الحدود ما لم يبلغ السلطان، روي ذلك ابن عباس والزبير بن العوام، وهو مذهب الأوزاعي وابن حنبل.
وروي عن ابن عمر وغيره كراهة ذلك، وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد صاد الله في حكمه.
1706
وقال مالك: من لم يُعرف منه أذى للمسلمين (و) إنما كانت منه (تلك) زلة، فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام أو الشُّرَط أو الحرس.
ومعنى ﴿نَكَالاً مِّنَ الله﴾ أي: مكافأة بفعلهما، ﴿والله عَزِيزٌ﴾ أي: عزيز في انتقامه من السارق وغيره (و) من أهل معصيته، ﴿حَكِيمٌ﴾ في فرائضه وحدوده.
قوله: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ الآية.
المعنى: فمن تاب من هؤلاء السراق من بعد سرقته وأصلح، ﴿فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ أي: يرجعه إلى ما يحب ويرضى عن ما يسخطه، ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ (رَّحِيمٌ)﴾ أي: ساتر على من تاب رحيم بعباده الراجعين إليه.
فتوبة الكافر عن كفره تدرأ عنه الحد، لأن ذلك أدْعى إلى الدخول في الإسلام.
وتوبة المسلم عن السرق والزنى لا تدرأ عنه الحد، لأن ذلك أعظمُ لأجره في الآخرة وأمنع بِمَن هَمَّ أن يفعل مثل ذلك، وقال مجاهد: توبة السارق في هذا الموضع إقامة الحد عليه.
" وروي أن النبي ﷺ ( أمر بقطع) امرأة سرقت حلياً فقالت المرأة: هل من توبة؟، فقال لها رسول الله: أنتِ اليومَ مِن خَطيئَتِك كيومَ ولَدَتْكِ أمّك "، فأنزل الله: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ الآية.
قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ الآية.
هذا خطاب للنبي ﷺ والمراد به من كان بالمدينة وحواليها من اليهود، والمعنى: ألم يعلم هؤلاء القائلون: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] الذين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه أن الله مدبر ما في السماوات وما في الأرض وأنه يعذب من يشاء / ويغفر لمن يشاء قادر على ذلك لا يمتنع عليه.
قوله ﴿يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ﴾ الآية.
1708
هذه الآية نزلت في أبي لبابة قال: " لبني قريظة - حين حاصرهم النبي ﷺ -: إنما هو الذبح فلا تنزِلوا على حكم سعد ". وقيل: (إنّه) إنما أشار إليهم بيده إلى حلقه يريد أنه الذبح إن نزَلتم على حكم سعد.
وقيل: " إنها " نزلت في عبد الله بن صوريا ارتد بعد إسلامه، وأُمِر النبي ألاّ يَحزن عليه: وقال أبو هريرة: إن أحبار اليهود اجتمعوا في أمر رجل (زنى بامرأة) وهما محصنان، فقالوا: امضوا بنا إلى محمد فَسَلوه كيف الحكم فيهما: فإنْ حَكَم بعملكم من التحميم - وهو الجَلد بحبل من ليف مطلي بِقارٍ - ثم
1709
يُسَوَّد وجهه ثم يُحمل على حمار ويُحوَّل وجهه ما يلي دُبُر الحمار، وكذلك يُفعل بالمرأة، فاتَّبِعوه وصدِّقوه، فإنه ملك، وإن (هو) حكَم بالرجم فاحْذَروه على ما في أيديكم.
فأتوا النبي، فمشى النبي عليه السلام حتى أتى أحبارهم (فقال لهم): أَخرِجوا إليَّ أعلمَكم، فأخرَجوا ابنَ صوريا الأعور - وكان أحدثَهم سنّاً - فخلا به النبي ﷺ وقال: يا ابن صوريا أُذكِّرك أيادِيَ الله عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه في التوراة بالرجم؟، فقال: اللهم نعم، أما واللهِ يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك! فخرج (رسول الله) فأمر بهما في جماعة - عند باب مسجده - فرُجما، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله: ﴿يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ الآية.
وقال البراء: مُرَّ (على) النبي بيهودي مُحمَّمٍ مجلودٍ، فدعا النبي رجلاً
1710
من علمائهم فقال: [هكذا] تجدون حد الزاني فيكم؟
قال: نعم، قال: فأُنشِدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني ما حَدّثتك، ولكن كثر الزنى في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع فنضع شيئاً مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي ﷺ: ( اللهم) أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه!، فأمر به فرجم، فأنزل الله ﴿لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ الآية.
وذكر ابن حبيب أن اليهود أنكرت أن يكون الرجم في التوراة فرضاً عليهم، فقال لهم النبي ﷺ: مَن أعلَمُكم يا معشر يهود؟ قالوا: ابن صوريا - وهو
1711
غلام منهم أمرد أبيض أعور - فدعاه (رسول الله)، [فقال " له "]: أنت أعلم يهود؟، قال: كذلك يزعمون، قال له رسول الله: فماذا تجدون (في الرجم) في كتاب الله الذي أنزله على موسى؟ قال: يا محمد إنهم يفضحون الشريف ويرجمون الدني، وجعل [يَرُوغ] عما في كتابهم، فنزل جبريل عليه السلام على (رسول الله) ﷺ فقال له: اِسْتَحْلِفْه بما آمرك به، فإن حلف وكذب، احترق بين يديك وأنت تنظر، فقال له رسول الله - وهو الذي أمره به جبريل -:
أُنشِدك الله الذي لا إله إلا هو القوي، إلَه بني إسرائيل الذي [أخرجكم] من مصر وفرق لكم البحر - وأحلفه بأشياء كثيرة - هل تجد في التوراة آية الرجم (على) المحصن؟، قال: نعم، والله يا محمد لو قلتُ غير هذا لاحترقتُ بين يديك
1712
وأنت تنظر.
وقال ابن جريج ومجاهد: " هم " ﴿سَمَّاعُونَ / لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ - آخَرِينَ﴾ - هم اليهود -.
والمعنى: لا يحزنك تسرع (من تسرع منهم إلى الكفر، لأنهم آمنوا بألسنتهم ولم (يؤمنوا بقلوبهم). ﴿وَمِنَ الذين هَادُواْ﴾ أي: ولا يحزنك تسرع) الذين هادوا إلى جحود نبوتك، ثم وصفهم فقال: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي: هم سماعون للكذب، وهو قَبولهم ما قال لهم أحبارُهم من الكذب: أن حكم الزاني المحصن - في التوراة - التحميم - والجلد، وهو صفة لليهود خاصة، ثم أخبر أنهم سماعون لقوم آخرين لم يأتوا النبي، وهم أهل الزاني والزانية، بعثوا إلى النبي يسألونه عن الحكم ولم يأتوا النبي.
1713
وقيل: إن السماعين يهود فَدَكٍ، و " القوم الآخرين " - الذين لم يأتوا النبي - يهود المدينة.
وقيل: المعنى سماعون من أجل الكذب، أي: يستمعون منك يا محمد ليكذبوا عليك. ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أي: يستمعون منك ليُبَلغوا ما سمعوا قوماً آخرين، فهُمْ عليك عُيون لأولئك الغيب.
﴿يُحَرِّفُونَ الكلم﴾: أي يغيرون حكم الله الذي أنزله في التوراة في حكم المحصنين من الزناة، ومعنى: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم﴾ أي: حكم الكلم، ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: من بعد وَضعِ الله ذلك مواضِعَه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، مثل ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله﴾ [البقرة: ١٧٧].
﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ﴾ أي: (إن حكم) بهذا الحكم المحرف (فاقبلوه،
1714
يقول ذلك أحبار اليهود لهم في أمر الزانيين، [يقولون]: إن حكم محمد بينكم بهذا الحكم المحرف) - وهو التحميم والجلد - فخذوه، ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا﴾ أي: وإن لم يحكم بينكم به فاحذروه ولا تؤمنوا به.
وقال السدي: يهود فدك يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا فخذوه - وهو الجلد - وإن لم تؤتوه فاحذروا - وهو الرجم -.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما حكَّموا النبي ﷺ في اللَّذَيْن زنيا، دعا رسول الله بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها - وقد وضع يده على آية الرجم - فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثم قال: هذه - يا نبي الله - آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك، فقال لهم النبي عليه السلام: يا معشر يهود، ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو
1715
بأيديكم؟ فقالوا: أما إنه قد كان فيما نعمل به حتى زنى منا رجل بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل بعده فقالوا: لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلان، (فلما فعلوا ذلك، اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التحميم وأماتوا ذكر الرجم)، فقال النبي: فأنا أول من أحيا أمر الله، ثم أمر بهما ورجما عند باب المسجد، قال ابن عمر: فكنت ممن رجمهما.
وقال قتادة: الآية نزلت في قتيل من بني قريظة، قتله بنو النضير، وكانت بنو النضير إذا قتلت قتيلاً وَدَت الدية - لا غير - لفضلهم، وإذا قُتل لهم قتيل لم يرضوا إلا بالقَود تَعزُّراً، فأرادت النضير أن ترفع أمر القتيل - الذي قتلوه -
1716
إلى النبي، فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيلُ عمد، متى رفعتموه إلى محمد خَشِيتُ عليكم القَوَد، فإن قُبلت منكم الدّية فأعطوها، وإلا فكونوا منه على حذر.
وقوله: ﴿وَمَن يُرِدِ / الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً﴾: هو تسلية للنبي عليه السلام ألا يحزن على مسارعة من سارع إلى الكفر من المنافقين واليهود، وفتنته: ضلالته.
﴿فَلَن تَمْلِكَ (لَه (ُ مِنَ الله شَيْئاً﴾: لا اهتداء له أبداً.
﴿أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ أي: بالإسلام " في الدنيا ".
﴿لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ أي: ذل وصغار وأداء الجزية عن يد، ﴿لَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
وزعمت المعتزلة والقدرية أن الله لم يرد كفر أحد من خلقه، وأراد أن يكون جميع الخلق مؤمنين، فكان ما لم يرد ولم يكن ما أراد - تعالى عن ذلك -، وقد قال
1717
(الله): ﴿لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى﴾ [الأنعام: ٣٥] وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣]، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ [رَبُّكَ] مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢] وقال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنِّي [لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ]﴾ [السجدة: ١٣].
وقال: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الإنسان: ٣٠]، وقال: ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً﴾، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ [مَن] فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ [يونس: ٩٩]، وقال: ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً﴾ [الرعد: ٣١]، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [النحل: ٩٣]، وفي كتاب الله من هذا ما لا يحصى، يخبر تعالى في جميعه أنه أراد جميع ما كان وما يكون، وأن جميع الحوادث كانت عن
1718
إرادته ومشيئته، وأنه لو شاء لأحدثها على خلاف ما حدثت فيجعل الناس كلَّهم مؤمنين.
فعَندت المعتزلة عليها لعنة الله عن ذلك وخالفته، وقالت: حدث كفر الكافر على غير إرادة من الله، وعلى إرادة من الشيطان، وقد أجمع المسلمون على قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالت المعتزلة: يكون ما لا يشاء الله، وهو كفر الكافر، معاندةً لإجماع الأمة، وقد حصلت المعتزلة في قولها على أنه ليس لله - تعالى ذكره - على إبليس مزيَةٌ، لأن إبليس شاء [ألا] يؤمن أحد فآمن المؤمنون، فكان خلاف ما شاء، وشاء الله - عندهم - ألا يكفر أحد فكفر الكافرون، فكان خلاف ما شاء، فلا فرق بينهما على قولهم الملاعين، تعالى ربنا عما قالت المعتزلة علواً كبيراً، بل كان عن مشيئته، كان يفعل (ما) يشاء: يوفق من يشاء فيؤمن، ويخذل من يشاء فيكفر، لا معقب لحكمه ولا رادّ لمشيئته، وخلق من شاء للسعادة فوفقه
1719
لعملها، وخلق من شاء للشقاء وخذله عن العمل بغير عمل أهل الشقاء، " كل مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ "، هذا هو الصراط المستقيم، أعاذنا الله من الزيغ عن الحق.
قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ﴾ الآية.
السحت: فيه لغتان: إسكان الحاء وضمها.
وروى خارجة عن نافع: " السَّحْت " بفتح السين وإسكان الحاء، جعله
1720
مصدر: " سحته سحتاً ".
ومعنى الآية: أن الله زاد في وصف من تقدم وصفه من اليهود أنهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾، فذكر أيضاً أنهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ على التأكيد. ويجوز أن يكون الأول معناه: أنهم يسمعون " مِن " قول مَن يقول لهم: " محمد ليس بنبي "، ويقول لهم: " ليس على المحصن رجم إذا زنى / "، ويكون الثاني معناه: أنهم يستمعون إليك ليكذبوا عليك - وقد قيل ذلك في معنى الأول، وقد ذكرته -. ثم وصفهم تعالى بأنهم: ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ وهو الرّشا في الحكم.
قال قتادة والحسن: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ هم حكام اليهود، يسمعون الكذب ويقبلون الرشا.
والسحت - في اللغة -: كل حرام يسحت الطاعات أي: يذهبها، يقال: سحته: إذا أذهبه قليلاً قليلاً، ويقال للحالق: " اِسْحَتْ " أي: استأصل.
وقيل: السحت: الرشا في الأحكام، وأكل ثمن الخمر، وأكل ثمن الميتة، وثمن
1721
جلدها الذي لم يُدْبَغ، وأكل ما نهى النبي عن أكله من كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وأدخل قوم في السحت أكل (أموال الناس) بالباطل.
وقوله: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ معناه: فإن جاءك قوم المرأة - الذين ذكر أنهم لم يأتوا بَعْدُ -، فاحكم بينهم إن شئت بالحق، وإن شئت فأعرض عنهم، أي: دع الحكم بينهم إن شئت.
وقيل: نزلت في الدية في بني النضير وقريظة، كانت دية النضيري كاملة، ودية القرظي نصف دية لشرف [النضيري]، فتحاكموا إلى النبي ﷺ، فأمره الله أن يحكم بينهم بالحق، ثم خيّره في الترك، قاله ابن عباس.
(و) قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب للنضيري ديتان،
1722
وللقرظي دية، فلما علمت [قريظة] بحكم النبي قالوا: لا نرضى إلا بحكم محمد، فخيّر الله نبيه ﷺ في الحكم بينهم.
قال: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله﴾ الآية.
وهو الرجم على المحصن إذا زنى. (و) قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك﴾ هو ما غيَّروا من حكم الرجم المنصوص في التوراة، وجَعلُهم عوضه التحميمَ والضربَ بحبل لِيف مفتول أربعين ضربة استحرافاً منهم [لحكم] لم يؤمروا به، والحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بهذه الآية، إن شاء حكم بالحق على مذهبه، وإن شاء لم يحكم، وهو مذهب الشعبي والنخعي وعطاء وعمرو بن شعيب، وهو قول مالك، فهي محكمة على قول هؤلاء.
1723
وقيل: إن الآية منسوخة بقوله ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه لما قدم المدينة - واليهود بها كثير - كان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فقال ﴿أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ فأباح له ترك الحكم بينهم، فلما قوي الإسلام أنزل [الله] ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ [المائدة: ٤٩].
قال ابن عباس: نسخت من سورة المائدة آيتان: القلائد وقوله: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾، وهو قول عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، وهو المشهور عن الشافعي، وهو قول الكوفيين.
وكل العلماء أجاز للإمام أن ينظر بينهم إذا تحاكموا إليه، وإنما اختلفوا في الإعراض عنهم.
1724
وقوله: ﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً﴾ أي: إن أعرضت عنهم - فلم تحكم بينهم - فإنهم لا يضرونك. ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط﴾ أي: إن اخترت أن تحكم بينهم، فاحكم بالعدل، إن الله يحب العادلين في حكمه.
قوله: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ الآية.
المعنى: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك ﴿وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا [حُكْمُ الله]﴾ أن على الزاني المحصن الرجم، والنفس بالنفس، ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ﴾ عن حكمها، أي: يتركون حكم التوراة جرأة على الله، وهذا تقريع لليهود، لأنهم تركوا حكم ما في أيديهم من كتابهم، ورجعوا إلى حكم النبي عليه السلام وهم يجحدون نبوته، ثم قال ﴿وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾ أي: (ما) من فعل هذا بمؤمن.
قوله: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أنزل التوراة فيها هدى لما سألوا عنه من حكم الزانيين المحصنين،
1725
وفيها (نور: أي) جلاء مما أظلم عليهم من الحكم.
وقيل: المعنى ﴿فِيهَا هُدًى﴾ أي: بيان أمر النبي، ﴿وَنُورٌ﴾ أي: بيان ما سألوا عنه.
ومعنى قوله ﴿النبيون الذين أَسْلَمُواْ﴾ أي: الذين سلموا لما في التوراة من أحكام الله، فلم يتعقبوا بالسؤال عنه، وليس الإسلام - هنا - ضد الكفر، لأن النبي لا يكون إلا مسلماً مؤمناً، وإنما الإسلام هنا: الانقياد والتسليم، ومثله قول إبراهيم: ﴿واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] أراد مسلمين لأمرك، منقادين لحكمك بالنية والعمل، وكذلك قوله ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١] أي: سلمت لأمره.
ومعنى ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ أي: يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾، أي: عليهم، فاللام بمعنى " على "، كما قال النبي ﷺ لعائشة:
1726
" اشترطي لهم الولاء أي: عليهم، ولم يأمرها بأن تشترط الولاء لهم، وهو لا يجوز، (فلا يأمرها بفعل ما لا يجوز)، وإنما أمرها بفعل ما يجوز، وهو أن يكون الولاء لها، فلما اشترطوا الولاء لأنفسهم قال ﷺ: ما بال قوم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ".
وقيل: المعنى: للذين هادوا (و) عليهم، أي: يحكمون لهم (و) عليهم، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.
وقيل: المعنى: فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار.
(و) عني بالنبيين - هنا - محمد ﷺ ومن قبله، قاله السدي وقتادة و [غيرهما].
1727
وروي (أن) النبي ﷺ قال - لما نزلت هذه الآية -: " نحن - اليوم - نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان ".
والأحبار: [العلماء] [الحكماء]، واحدهم حَبْرٌ، وقيل: حِبْرٌ. وسموا أحباراً، لأنهم يحبرون الشيء، فهو في صدورهم مُحَبّرٌ.
وسمي الحبر - الذي يكتب به - حبراً، لأنه يحبر به، أي: يكتب به.
وقال الفراء: التقدير فيه: مداد حِبْرٍ، (لأن العالم يقال له " حِبْر " فإذا [قلت: " هذا] حِبْرٌ " للمداد، فالمعنى: مداد حِبْرٍ)، أي: مداد عالم، ثم تحذف مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقال الأصمعي: (إنما سمي) الحبر - الذي هو المداد - حِبْراً لتأثيره، يقال:
1728
" على [أسنانه] حبرَةٌ " أي: صُفْرَةٌ أو سَوَادٌ.
﴿والربانيون والأحبار﴾: القراء والفقهاء. وقيل: الفقهاء والعلماء. و " قال ابن زيد: الربانيون ": الولاة، والأحبار: العلماء ". والرَّبَّاني - عند أهل اللغة -: رب العلم، أي: صاحبه، والألف والنون للمبالغة.
وقيل: معنى ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾: للذين تابوا من الكفر، أي: يحكم هؤلاء بما في التوراة للذين " تابوا " من الكفر.
وقوله: ﴿بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله﴾ أي: يحكمون بما استودعوا من كتاب الله، والباء متعلقة بالأحبار، والمعنى: يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار، أي: والعلماء / بما استودعوا من كتاب الله، ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ﴾ أي: وكان النبيون
1729
والربانيون والأحبار شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله، وقال ابن عباس: الشهداء - هنا - الربانيون والأحبار شهداء أن الذي قضى [به] محمد ﷺ حق في أمر الزانيين المحصنين وقد أخبرنا الله أنهم استحفظوا كتابهم، وأعلمنا أنهم بدلوا وغيّروا، وأعلمنا تعالى أنه يحفظ علينا ما أنزله من القرآن فقال ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] فغير جائز أن يبدل أحد أو يغير ما حفظه الله علينا، فنحن أمة محمد عليه السلام برآء من التبديل والتغيير لشيء من كتاب الله، إذ الله تولى حفظه علينا، ولم يسلم أهل التوراة من ذلك، إذ الله استحفظهم عليه فخانوا، ولم يحفظه هو.
وقوله ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون﴾ هذا خطاب للربانيين والأحبار، أمرهم ألا يخشوا الناس في تنفيذ حكمه وإمضائه على ما في كتابه، وأن يخشوه في ذلك، قاله السدي وغيره. وقوله ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي: لا تأخذوا [الرّشى] في الأحكام، فإنه
1730
عِوَضٌ خسيس وثمن قليل.
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ أي: من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه في الزانيين المحصنين وغيرهما من دية القتيل، ﴿فأولئك هُمُ الكافرون﴾ أي: الساترون الحق.
وهذه في كفار أهل الكتاب.
وقيل: هي في المشركين.
وقيل: المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلاً له، فأولئك هم الكافرون.
وقال بعد ذلك: ﴿هُمُ الظالمون﴾. وقال بعد ذلك: ﴿هُمُ الفاسقون﴾.
فقيل: إن الأوصاف الثلاثة لمن غير حكم الله [ومن جميع الخلق.
1731
وقيل: هي لليهود المغيرين حكم الله].
وقيل: الوصف الأول لليهود، والثاني والثالث للمسلمين.
وقيل: نزل ﴿الكافرون﴾ في المسلمين إذا غيّروا حكم الله، و ﴿الظالمون﴾ في اليهود، و ﴿الفاسقون﴾ في النصارى. وهو ظاهِرُ النص.
قوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس [بالنفس]﴾ الآية.
قرأ الكسائي برفع (العين) وما بعده، واحتج له بإجماعهم (على الرفع) في ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣]، وقوله ﴿والله وَلِيُّ المتقين﴾ [الجاثية: ١٩]، فرفع [ما] بعد (أنّ)
1732
فيهما على القطع، فكذلك (العين) وما بعدها.
وقيل: هو معطوف على موضع ﴿النفس (بالنفس)﴾. وقيل: هو معطوف على المضمر الذي في [النفس].
وقال بعض العلماء: من نصب جعله كله مكتوباً في التوراة، من رفع جعل ﴿والعين بالعين﴾ وما بعده ابتداء حكم في المسلمين، وجعل ﴿النفس بالنفس﴾ هو المكتوب في التوراة دون ما بعده. والرفع [قراءة] النبي عليه السلام فيما روي عنه.
ومن نصب ﴿والجروح﴾ عطفه على ما قبله، وأعمل فيه ﴿أَنَّ﴾، و ﴿قِصَاصٌ﴾
1733
الخبر.
ومن رفع قطعه مما قبله، [واختير قطعه مما قبله] لمخالفة خبره خبر ما قبله، ولمخالفة حكمه حكم ما قبله، ولمخالفة إعراب خبره (إعراب) خبر ما قبله، فلما خالف ما قبله، من هذه الوجوه قوي القطع، فرُفع على الابتداء.
والمعنى: وكتبنا على هولاء اليهود الذين يحكمونك - وعندهم التوراة - في التوراة أن يحكموا بالنفس [في النفس] والعين " بالعين " وما بعده.
قال ابن عباس: لم يجعل الله لبني إسرائيل دية، إنما هو النفس بالنفس أو العفو.
فهذا استوى فيه أحرار المسلمين: الرجال والنساء فيما بينهم في النفس، وفيما دون النفس / إذا كان عمداً، ويستوي فيه العبيد: رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس، وفيما دون النّفس.
1734
والقصاص من العين هو ظاهر النص، وبه علي بن أبي طالب والشعبي والنخعي والحسن ومالك والشافعي وغيرهم و [قراءة] الرفع توجب ذلك، لأنه حكم مستأنف للمسلمين، وليس بحكاية عما في التوراة. والنصب إنما هو حكاية عما في التوراة، فيجوز ألا يكون (حكماً لنا). ويكون القصاص في الأنفس عندنا من قوله تعالى: [﴿الحر بِالْحُرِّ﴾ الآية، ويجوز أن يكون (حكماً لنا) أيضاً بنص آخر وهو]: ﴿العبد بالعبد﴾، فيكون هذا بيان أن ذلك حكم لنا.
وأحسن ما روي في صفة الاقتصاص من العين ما فعل " علي " بن أبي طالب: وهو أنه أمر بِمِرْآةٍ فَأحْمِيَتْ، ثم وضع على العين الأخرى قُطناً، ثم أخذ المِرآة
1735
بكلبتين. فأدناهما من عينه حتى سال إنسانُ عينه.
وإذا ضرب رجل عين رجل فأذهب بعض بصره وبقي بعض، فالحكم فيها - على ما فعل علي بن أبي طالب -: أن تُعْصَب عينُه الصحيحة، ويعطى رَجُلٌ بيضة ويذهب " بها "، فحيث ما انتهى بصر المضروب عُلِّمَ، [ثم يرجع فيغطّي] عينه، وتكشف الأخرى، ثم يذهب الرجل بالبيضة فحيث ما انتهى بصر المضروب علم]، ثم يحوّل المضروب فيفعل به من ناحية أخرى في عينيه جميعاً مثل ذلك، ويكال الموضعان فإذا استويا نظر ما بين امتداد نظر الصحيحة والسقيمة، فيعطي من مال الضارب بقسطه، وبذلك قال مالك والشافعي.
1736
ولو فقأ أَعْورُ عين صحيح: فقيل: لا قود عليه، وعليه الدية.
روي ذلك عن عمر وعثمان. وقيل عليه القصاص، وهو قول علي بن أبي طالب، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن شاء فقأ عينه، وإن شاء أخذ دية عين أعْوَر كاملة.
وإذا أُوْعِبَ جَدْعُ الأنفِ، ففيه الدية، وهو قول سائر العلماء. ولو كسره
1737
عمداً لكان فيه القود عند مالك، وإذا كسره خطأ - فبرأ على غير عثم - فلا شيء فيه عند مالك، وإن برأ على عَثْمٍ، ففيه اجتهاد الإمام. وكذلك قال: (ابن) القاسم إن خَرّم أنفه: وإذا قطع من أصله - أو من العظم - ففيه الدية كاملة عند مالك -. وإذا أفسد الخياشيم فانكسرت حتى " لا " يتنفس، ففيها الاجتهاد.
وأما السن: فجاء من الخبر من أنه أقاد من السن، وأنه قال: (و) في السن
1738
خمس من الإبل. وظاهر النص " القصاص ".
ورُوي عن علي بن أبي طالب وابن عباس في السن بخمس من الإبل أي: سن كانت، وبه قال عروة بن الزبير والزهري وقتادة ومالك والشافعي والثوري وغيرهم.
وروي عن عمر أنه حكم فيما أقبل من الفم - الثنايا والرباعيات والأنياب - بخمس فرائض في كل سن.
كل فريضة: عشرة دنانير، فذلك خمسون ديناراً في كل سن.
1739
وقضى في الأضراس (ببعير بعير)، وقضى معاوية في الضرس بخمس فرائض. فالدية تزيد إذا أصيب الفم كله عند معاوية، وتنقص عند عمر.
وإذا اسودت السن من ضربة أو جناية، فقد تم عقلها عند مالك وغيره، لأن جمالها قد ذهب، فإن طرحت بعد ذلك، كان فيها عقلها، لأن منفعتها قد ذهبت.
وروي عن عمر أنها إذا اسودت ففيها ثلث ديتها.
وقيل: فيها حكومة إذا اسودت، وبه قال الشافعي.
(وإن) قلعت سن الصبي، فنبتت، فلا شيء فيها، إلا أن تنبت ناقصة
1740
الطول (عن ما) هو مثلها، / فيؤخذ من الجاني بقدر ما نقصت، هذا مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال مالك: لأولياء الصبي أن يضعوا عقلها، فإن نبتت ردوها على أهلها.
وقيل: في ذلك حكومة.
وإذا أخذ الكبير دية سنه ثم نبتت، فلا يرد ما أخذ عند مالك، لأنه أخذه بحق. وقال أصحاب الرأي: يرد ما أخذ. واختلف في ذلك قول الشافعي.
ولو جنى عليها آخر فسقطت، أخذ صاحبها إرشها تاماً.
1741
ولو قلعت سن قوداً ثم أخذها صاحبها فردها فالتحمت، فلا شيء عليه عند ابن المسيب، وهو قول عطاء، وقال: ليس له أن يردها ثانية، وإن ردها، أعاد كل صلاة صلاها وهي عليه، ويَجْبُره السلطان على قلعها مرة أخرى.
وكذلك قول الثوري وغيره: تقلع ثانية، لأن القصص للشَّيْن، فلا بد من قلعها.
وقال مالك في قصاص الأسنان: " الثنية بالثنية "، والرباعية بالرباعية والسفلى بالسفلى.
ولا [تقاد] سن إلا بمثلها في موضعها، فإن لم يكن له مثل الذي طرح، رجع ذلك إلى العقل.
1742
ولو قلعت سن رجل فداواها وردها [فالتحمت]، فلا شيء فيها على الجاني عند مالك إذا عادت كهيئتها. وقال الشافعي: لا يسقط عن الجاني شيء مما وجب عليه.
وفي السن الزائدة إذا قلعت - عند مالك - حكومة، وهو قول الثوري والشافعي. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث السن.
فإن كسر بعضها أعطى صاحبها بحساب ما نقص منها، وهو قول الجماعة. [وأما] الأذنان: فإذا ذهب سمعهما ففيهما الدية، فإن قطعتا ولم يذهب
1743
السمع ففيهما الاجتهاد، هذا قول مالك.
فإن ضرب رجل رجلاً فادعى المضروب أن سمعه ذهب، اغتفل المضروب وصيح به، فإن أجاب جواب من يسمع، لم يقبل قوله، وإن لم يجب، أحلف بالله: لقد صممت وما وجدت الصمم إلا منذ ضربت، فإذا حلف أعطي عقله كاملاً.
وفي اللسان الدية. فإن قطع بعضه، نظر ما نقص من مخارج الحروف من ثمانية وعشرين حرفاً، فيكون على الفاعل - من الدية - بمقدار ما ذهب من كلامه.
وليس في اللسان قود عند مالك، وروي عنه أنه قال: فيه القود إن كان
1744
يستطاع القود منه.
وفي لسان الأخرس حكومة عند مالك والشافعي وأهل العراق وغيرهم.
وقال النخعي: فيه الدية كاملة، وقال قتادة: فيه ثلثا الدية.
وفي ذهاب الصوت الدية عند جماعة من الفقهاء، وقيل: فيه حكم.
وفي كل اثنين من الإنسان الدية كاملة: في الأذنين والشفتين واليدين والرجلين ونحو ذلك.
وعن زيد بن ثابت أن في الشفة السفلى ثلثي الدية، وفي العليا الثلث، وهو
1745
قول ابن المسيب والزهري.
وفي اللحية حكومة عند ابن القاسم. وقال غيره: إن أنبتت فلا شيء فيها، وإن لم تنبت ففيها الدية.
وفي نتف الحاجبين وأشفار العينين حكومة عند مالك " وإن لم تنبت ".
والأصابع إذا زالت من الكف ففيها عقل اليد. وفي اليد من المنكب دية اليد لا غير. وما كان من ذلك خطأ، حملته العاقلة، وما كان عمداً ففيه القصاص.
وإذا شلت اليد أو الرجل فقد تم (عقلها)، فإن كان الضرب: عمداً، ضرب الضارب مثل ما ضرب.
1746
وإذا شلت [الأصابع] تمت ديتها، فإن قطعت الشلاء (أو) [الأصبع] الأشل، فإنما في ذلك حكومة في مال الجاني. ومن قطع يد رجل - ناقصة منها أصبع - قطعت يده ولا يسأل عن نقص [الأصبع]، أي: أصبع كانت. فإن كانت اليد تنقص أصبعين أو ثلاثة، لم يقطع يد الجاني، ولكن عليه العقل في ماله.
ومن قطع (من) يد رجل أصبعين وما يليهما من الكف (في ضربة) واحدة، وجب عليه خمساً دية الكف.
ومن قطع كفاً لا أصابع فيها، ففيها حكومة.
ومن قطع يمين رجل - ولا يمين له -، فعليه العقل مثل عقل العمد - إذا قُبلت
1747
- من ماله.
ومن أصيب أصبعه خطأً، أو ذهبت بأمر من الله، ثم قطع كفه خطأ، فإنما له أربعة أخماس الدية على العاقلة.
وكذلك إذا ذهبت الأنملة، ثم قطع الكف، إنما له حساب ما بقي.
وفي الظفر الاجتهاد إذا برأ على عثم، وإن كان عمداً ففيه القصاص.
وروي عن النبي ﷺ أنه " جعل في الأصابع عشراً عشراً ".
وأصابع اليد والرجل سواء، لا فضل لبعضها على بعض.
1748
وروي عن عمر أنه قضى في الإبهام بثلاثة عشر، وفي التي تليها باثني عشر، وفي الوسطى بعشرة، وفي التي تليها بتسعة، وفي الخنصر بست.
والأشهَر أنها سواء (عشر عشر) لكل واحدة.
وفي كل أنملة ثلث دية الأصبع إلا الإبهام ففيها الثلثان، في كل أنملة نصف دية [الأصبع].
وروي عن مالك أنه قال: في الإبهام ثلاثة أنامل: الثالثة مع الكف، ففي كل واحدة ثلث دية الأصبع كسائر الأصابع.
وروي عنه أنه قال: الإبهام مفصلان: في كل مفصل نصف دية أصبع، وفي
1749
الثالثة التي تلي الكف حكومة، بمنزلة باقي الكف إذا قطعت بعد الأصابع.
وعن عمر أنه جعل في اليد الشلاء والرجل الشلاء ثلث ديتها.
وقال ابن شهاب: فيها نصف ديتها، ومثله الأصبع الأشل، وقال الشافعي: فيها حكومة.
وفي الذّكَر الديةُ كاملة عند جميع العلماء، وهو مروي عن النبي ﷺ.
وفرق قتادة: فجعل في الذي لا يأتي النساء ثلث الدية، وفي الذي يأتي الدية.
وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره.
1750
وفي الذّكَر الديةُ كاملة عند جميع العلماء، وهو مروي عن النبي ﷺ. وفرق قتادة: فجعل في الذي لا يأتي النساء ثلث الدية، وفي الذي يأتي الدية.
وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره.
فإن قطع القضيب بعد الحشفة ففيه اجتهاد عند مالك، وينتظر به حتى ينظر ما يحدث عليه من قطعه. فإن قطع من طرف الحشفة، قيس مقداره فيما بقي وكان بحساب ذلك، ولا يقاس ما بقي القضيب، لأن في الحشفة الدية كاملة.
1751
وفي الأنثيين - في خطأ - الدية كاملة، وفي العمد القصاص. وفي بيضة واحدة نصف الدية.
وقال سعيد بن المسيب: في اليسرى ثلثا الدية، لأن الولد منها، وفي اليمنى الثلث.
وإن قُطع ذكر رجل وأنثياه، ففي ذلك ديتان، وكذلك إن قطعا في وقتين، ففي كل واحد الدية.
وفي ذكر الخَصِيّ حكومة عند مالك، وفي الدية " كاملة " عند الشافعي. وقال قتادة: فيه ثلث الدية.
1752
وفي كسر العظام إذا [كسرت] القصاص عند مالك: الساق بالساق، ولا قصاص فيما فوقه، ولا في كسر ظهر ولا فخذ.
ويجتهد الإمام في اللطمة عند مالك. و " قد " قيل: / فيها القصاص.
وفي الموضحة - وهي الضربة التي توضح العظم - خمس من الإبل. وهي تكون في الرأس والوجه قال مالك: إنْ كانت التي في الوجه تَشِينهُ، زِيدَ على الجاني بقَدْر شَيْنِها. وليس موضحة البدن مثل موضحة الرأس والوجه. ولا يعجل
1753
بأخذ الدية من صاحب الموضحة حتى ينظر (إلى) ما يصير إليه أمرُها، فإن مات منها كان في ذلك قسامة.
وقال مالك: يقاد من العمد، ولا يعقل جراحات الخطأ إلا بعد البرء، وإن اقتص من الجارح عمداً فبرأ، فإن كان جرحُه مثلَ جُرح المَجروح أوّلاً أو أكثر فلا شيء (عليه) للأول، وإن كان في الأول عثل وبرأ المقتص منه على غير عَثَلٍ، أو على عثل دون عثل الأول، اجتهد الإمام في الحكومة على قدر ما زاد شَيْنُ المجروح الأول.
1754
والموضحة في الوجه - عند مالك - من اللَّحْيِ الأعلى فما فوقه خاصة. و [لا] تكون الموضحة في الأنف عند مالك.
وفي الموضحة - في سائر البدن - حكومة عند مالك والشافعي. وروي عن أبي بكر وعمر أن فيها نصف عشر دية ذلك العضو الذي وقعت فيه، وسند ذلك إليهما ضعيف.
وفي الهاشمة القودُ عند مالك إلا أن يخاف منها فلا يقتص منها، وفيها
1755
عشر من الإبل. وفي المُنَقّلة خمسَ عشرة من الإبل عند مالك وجماعة العلماء، ولا قود فيها عند مالك والشافعي وغيرهما. والمُنَقِّلَة: (التي ينقل منها) العظام.
وفي المأمومة - وهي التي تصل إلى أم الدماغ - ثلث الدية، وهو قول مالك
1756
وجماعة العلماء، ولا قود فيها عند مالك وأكثر العلماء.
والشجاج - التي دون الموضحة - ست:
أولها: الدامية: وهي التي تَدْمَى ولا يسيل دمها.
ثم الدامعة: وهي التي يسيل دمها.
ثم الخارصة: وهي التي تَحرِص الجلد (أي) تشقه قليلاً، ومنه قيل: حَرَصَ الثوبَ القَصَّارُ: إذا شَقّهُ.
1757
ثم الباضعة: وهي التي تشق الجلد وبعض اللحم.
ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم أكثر من الباضعة.
ثم السمحاق: وهي التي لم يبق بينها وبين العظم إلا قشرة " رقيقة " وكل قشرة رقيقة فهي سمحاقة، ويسميها أهل المدينة: المِلْطاة، وفي جميع ذلك - عند مالك والشافعي وغيرهما - حكومة.
وقد حد غيرهم في كل نوع حدا: قضى زيد بن ثابت (ببعير في الدامية)، وفي الدامعة بنصف بعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة أبعرة، وفي
1758
السمحاق بأربعة أبعرة.
وروي عن علي في السمحاق مثل ذلك، وروي أن فيها نصف دية الموضحة، وروى مالك أن عمر وعثمان قضيا في [الملطاء].
وفي السمحاق بنصف الموضحة، وكان يرى فيها حكومة كسائرها. ورأى مالك: القصاص فيما دون الموضحة، مما ذكرنا إذا كان عمداً.
1759
وفي الْجَائِفَة ثلث الدية، قضى به رسول الله ﷺ، وبه قال مالك وغيره. ولا فرق بين العمد والخطأ في الجائفة. وفي الجائفة [النافذة] ثلثا الدية.
وفي ثدي المرأة نصف الدية، وفيهما جميعاً الدية كاملة، هذا مذهب الجميع.
وفي الحُلْمة - إذا انقطع لبَنُها - نصف الدية عند مالك.
وفي ثدي الرجل حكومة عند مالك. وعن زيد بن ثابت أن فيها ثمن
1760
الدية. وقال الزهري: خمس من الإبل.
وقوله: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ﴾ أي: من تصدق بجرحه، هدم عنه ذنوبه مثل ما تصدق به، [قاله] جابر بن زيد. وروى الشعبي عن / رجل من الأنصار قال: سئل النبي عليه السلام عن قوله تعالى ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ قال: هو الرجل تُكسَرُ سِنُّه، أو يُجْرح في جَسَدِه فَيَعْفو عنه فَيُحَط من خَطاياه بقَدْر ما عفا: إن كان نصف الدّية فنصفُ خَطاياهُ، وإن كان ثُلثُ الدية فَثُلُث خَطاياهُ، وإن كان رُبُع الدية فَرُبُع خطاياه، وإن كانت الدية كلها فخطاياه كلها.
وقال قتادة: " ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ يقول: لولي القتيل الذي عفا ". فالهاء المجروح،
1761
أو لولي القتيل. وقيل: الهاء للجارح، والمعنى: إن تَصَدَّق المجروح على الجارح بإِرْش جُرحِه، فالصدقة كفارة للجارح، ليس يبقى عليه ذنب من الجرح.
قال زيد بن أسلم: " إِنْ عَفا عنه، أو اقتص منه، أو قَبل منه الدية فهو كفارة له "، أي: للفاعل، وفي هذا القول بُعْدٌ، لأنه لم يَجْرِ ذكر للجارح، وإنما جرى ذِكرُ المجروحِ في (" مَنْ ")، فالهاء تعود عليه أَوْلى، وهو اختيار الطبري، قال: ولأَنّ المعهود أن التكفير إنّما يكون للمتصدِّق دون المتصدَّق عليه.
وقيل: الهاء في (بِهِ) لإرش الجرح، وفي (لَهُ) للجارح، أي: مَن تصدق بما وجب له من الإرش والدية ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾، أي: فذلك الفعلُ كفارةٌ للجارح والقاتل في
1762
حُكم الدنيا، و (مَن) اسم للمجروح (أو لولي) المقتول.
وقيل: (" مَن ") اسم للقاتل والجارح، والهاء في (به) تعود على القتل أو الجرح، والهاء في (له) تعود على القاتل أي: من تصدق بِبيان أنه هو القاتل وهو الجارح، فذلك الإقرار كفارة للمُقِرّ، لأنه قد أباح نفسه بإقراره لأخذ الحدّ منه، ورفع التُّهم عن الناس:
قال مجاهد: إذا أصاب الرجلُ الرجلَ بأمر، ولم يعرف الفاعل، فاعترف الفاعل، وأقرّ، فهو كفارة له، وقد روي أن عروة بن الزبير أصاب عين رجل خطأً عند الركن فقال: أنا عروةُ، فإن كان بعينك [بأس فأنا] بها.
قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ الآية.
المعنى: و " أَتْبَعْنا عيسى بنَ مريم على آثارِ النبيين الذين أسلموا من قبلك ".
﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة﴾ أي: مصدقاً لما أتى به موسى " قبله ".
﴿وَآتَيْنَاهُ الإنجيل﴾ أي: أعطيناه كتاباً اسمه الإنجيل، ﴿فِيهِ هُدًى﴾ أي: بيانُ ما جهِله الناس من حكم الله في زمانه، ﴿وَنُورٌ﴾ أي: وضياء من عمى الجهالة، ﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: وجعلنا الإنجيل مصدقاً لما قبل عيسى من التوراة وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل عيسى، ﴿وَهُدًى﴾ أي: هدى إلى صحة ما أنزل الله على أنبيائه من الكتب، ﴿وَمَوْعِظَةً﴾ أي: [زجراً] لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال، ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي: للذين خافوا الله واتقوا عقابه.
قوله: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ﴾ الآية.
مَن كسر اللام ونصب الفعل في ﴿لْيَحْكُمْ﴾، جعلها لام " كي "، والمعنى:
أعطيناه ذلك كي يحكم أهل الإنجيل، فخالفوا حكمه. ومن أسكن اللام، جعلها لام الأمر، والمعنى: وأمرْنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه، فلم يفعلوا ما أُمِروا به.
قال ابن زيد: كل شيء في القرآن " فاسق " فهو بمعنى " كاذب " إلا قليلاً، فالفاسقون هنا الكاذبون.
قوله: ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ الآية.
المعنى: أنه خطابٌ للنبي ﷺ، والكتاب - هنا -: القرآن، ومعنى ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: يصدق ما قبله من كتب الله أنها حق من الله، ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ أي: شهيداً على الكتب / أنها حق، وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال للرجل إذا حفظ الشيء وشَهِدَه: " قد هَيْمَنَ، يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً ". قال ابن عباس: ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾
1765
أي: شهيداً " عليه، وهو قول السدي. وقال قتادة: مهيمناً: [أي]: أميناً وشاهداً.
وقال ابن جبير: ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ ([أي] مؤتمناً)، القرآن مُؤتمن على ما قبله من الكتب، وكذلك (روي أيضاً) عن ابن عباس والحسن وعكرمة.
وقال عبد الله بن الزبير: المهيمن: القاضي على ما قبله من الكتب.
وقال المبرد: الأصل " مُؤَيْمن "، ثم أُبدِل من الهمزة هاء.
قال أبو عبيد: يقال: هيمن على الشيء، إذا حفظه.
1766
وقرأ مجاهد وابن محيصن: ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ بفتح الميم. قال مجاهد: " محمد عليه السلام مؤتمن على القرآن ".
فيكون على قول مجاهد ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ حالاً من الكاف في ﴿إِلَيْكَ﴾. وعلى قول غيره حال من الكتاب، مثل: ﴿مُصَدِّقاً﴾.
والهاء في ﴿عَلَيْهِ﴾ - في قول مجاهد - تعود على الكتاب (الأول الذي هو القرآن. وعلى قول غيره تعود على الكتاب) الثاني الذي هو بمعنى الكتب
1767
المتقدمة التي القرآن يصدقها ويشهد عليها بالصحة أنها من عند الله.
وقد طعن قوم في قول مجاهد من أجل الواو التي مع " مهيمن "، لأن الواو توجب عطفه على " مصدق "، و " مصدق " حال من الكتاب الأول، والمعطوف شريك المعطوف عليه، قال: ولو كان حالاً من الكاف التي للنبي ﷺ في ﴿إِلَيْكَ﴾، لم يؤت بالواو، فالواو تمنع من ذلك. ولو تأول متأول أن ﴿مُصَدِّقاً﴾ حال من الكاف في ﴿إِلَيْكَ﴾، ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ عطف عليه، لَبَعُد ذلك، من أجل قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، ولم يقل " يديك ".
وهو جائز على بُعدِه على التشبيه بقوله: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢] بعد قوله: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾. فإن تأولته على هذا، كان " مصدق " و " مهيمن " حالين من
1768
الكاف التي هي اسم النبي ﷺ، فهو المصدق للكتب المتقدمة، والمؤتمن على الكتاب، وهو القرآن.
وقوله: ﴿فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ أي: إذا أتوك فاحكم بينهم بشرائع الله التي [أنزلها] عليك، ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق﴾ إذ قالوا: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا﴾ [المائدة: ٤١] أي: إن حَكَم بينكُم (في المحصنين) بالتَّحْميم والجَلْدِ بِحَبْل ليف فاقبلوا منه، وإن لم يحكم بذلك فاحذروا أمره ولا تتبعوه، وذلك قول يهود فَدَك ليهود المدينة، فأمر الله نبيَّه ألا يتبع أهواءهم في ذلك، وأن يحكم بما أنزل الله أي: بحدوده.
قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً [وَمِنْهَاجاً]﴾ أي: شريعة، ﴿وَمِنْهَاجاً﴾ أي: طريقاً واضحاً.
1769
قال قتادة: معناه أن للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء، ويُحرِّم ما يشاء لِيَعْلَم أهل طاعته، والإخلاصُ واحد، والتوحيدُ واحدٌ لا يختلف، ولا يقبل غيره، وهو الإسلام، فالإسلام دين الأنبياء كلهم وشرائعهم في (الحلال والحرام) والصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات مختلِفٌ على ما أراد الله من أمة كل نبي، لِيبلوَ الجميع بما يشاء من أحكامه، فَيَجْزِي الطائعَ ويعاقب العاصي، لا إله إلا هو.
وقال مجاهد: معناه: لِكُلِّكُم جعلنا القرآن شِرعةً ومنهاجاً، أي: شرعة وطريقاً واضحاً، عنى بذلك أمة محمد ﷺ خاصة، هذا معنى قوله.
واختار الطبري القول الأول، وهو أن يكون: لكل أمة جعلنا شريعة
1770
وطريقاً، / واستدل بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي يجعلكم (كلكم) - أيها الأُممُ - على شريعة واحدة، قال: ولو عنى بذلك أمة محمد ﷺ لم يكن لقوله ﴿لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ فائدة، لأنهم أمة واحدة - أمة محمد - قد فعل بهم ذلك. ويدل على أنه أراد به الأمم (أنه قد جرى) ذكر الكتب التي قبل القرآن، وذكر عيسى وغيره، فرجع الكلام على ذلك. وقال ابن عباس (شرعة ومنهاجاً): سبيلاً وسنة، وكذلك قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: إن الشرعة السبيل، والمنهاج السنة.
﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: على دين واحد وعلى شريعة واحدة.
قوله تعالى: ﴿ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم﴾ في الكلام حذف، والمعنى: ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم فيما آتاكم من شرائعه. وهذا خطاب للنبي ﷺ،
1771
والمراد به النبي ومن معه ومن مضى من الأمم.
﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ أي: فبادروا إلى عملها قبل أن تعجزوا عنها بموت أو هرم أو مرض، فإن (مرجعكم إلى الله)، فيجازيكم بأعمالكم، ويخبر كل فريق بعمله، ويبين المحق من المبطل، (وتنقطع الدعاوى، لأن الأنبياء قد أخبرت بالمحق من المبطل) في الدنيا، ولكن الدعاوى لم تنقطع، ففي الآخرة تنقطع الدعاوى وتقع الحقائق.
قوله: ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ الآية.
هذا معطوف على ﴿الحق﴾ [المائدة: ٤٨] أي: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم بينهم. وهذا - عند جماعة - ناسخ للتخيير الذي تقدم في الحكم بينهم، أمره الله
1772
بالحكم بينهم وأن لا يتبع أهواءهم في الأحكام التي قد أحدثوها في القتيل من بني النضير ومن قريظة، وفي التحميم الذي جعلوه على المحصن من عند أنفسهم، حذّره منهم أن يفتنوه عن الحكم الذي أنزل الله فيردوه إلى [حكمهم].
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي: أعرضوا عن الاحتكام إليك والرضا بحكمِك، فاعلم أن ذلك إنما هو من الله ليعجل لهم عقوبة ذنوبهم السالفة في عاجل الدنيا.
﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ﴾ يريد به اليهود، إنهم لتاركون العمل بكتاب الله وخارجون من طاعته: ذكر ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا: امضوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: قد علمت أننا علماء يهود وأشرافها، وإنا
1773
إذا اتَّبعْناك [اتّبَعَنا] يهود، فنؤمن بك كلنا، وبيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدقك. فأبى ذلك النبي ﷺ، فأنزل الله: ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ﴾ الآية.
قال ابن زيد: معنى ﴿أَن يَفْتِنُوكَ﴾: أن يقولوا لك كذا وكذا في التوراة بخلاف ما فيها، قد بين الله له ما في التوراة، فقال: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس﴾ [المائدة: ٤٥]، يعني: كتب ذلك في التوراة.
قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ الآية.
قرأ الحسن وقتادة والأعمش ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية﴾، والحَكَم والحاكم سواء، والعامل فيهما [(يبغون)]، والحُكْم في الجاهلية: الكاهن.
ومن قرأ بالتاء في (تبغون) فمعناه قل لهم يا محمد، أفحكم الجاهلية تبغون، على المخاطبة، ومن قرأ بالياء، فعلى الخبر من الله عنهم. ومعنى (تبغون) تطلبون، وهو خطاب وتوبيخ لهؤلاء اليهود الذين لم يرضوا بحكم رسول الله، ثم وبخهم أيضاً فقال: / ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً﴾ أيها اليهود عند من كان يؤمن بالله، فأي حكم أحسن من حكم الله؟!.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ الآية.
أكثر العلماء على أن المأمور بذلك جميع المؤمنين. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، كان بينهما وبين بني قَيْنُقاع عهد وحلف، فلما حاربت بنو قينقاع النبي عليه السلام، قام دونهم عبد الله بن أبيّ و [حاجّ] عنهم، ومضى
1775
عبادة بن الصامت إلى النبي عليه السلام [وتبرأ] من حلفهم وعهدهم وقال: أنا أتولى الله ورسوله والمؤمنين.
وقال الزهري: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال بعض اليهود: غركم أن أصبتم رهطاً من قريش لاَ عِلْمَ لَهُمْ بالقتال، أما أنّا لو عزمنا عليكم واستجمعنا لم يكن لكم يَدان بقتالنا، فتبرأ عبادة بن الصامت عند رسول الله من أوليائه من يهود، فقال عبد الله ابن أبي: لكن أنا لا أبرأ من ولاء يهود، أنا رجل لا بد لي منهم، فأنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى﴾ الآية.
1776
وقيل نزلت في قوم من المؤمنين (هموا - حين) نالَهم بأُحُدٍ ما نالهم - أن يأخذوا من اليهود والنصارى عُصَمَاء، فنهاهم الله تعالى عن ذلك. وقال السدي: لما كانت وقعة بأُحُدٍ، اشتد على قوم ذلك، فقال رجل لصاحبه: [أما أنا] فأَمُرُّ بذلك اليهودي فآخُذُ منه أماناً، فإِنِّى أخاف أن يِدَّال علينا، وقال آخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني فآخُذُ منه أماناً، فأنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ الآية.
1777
وقال عكرمة: بعث رسول الله عليه السلام أبا لُبابة - من الأوس - إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حُلقِه: الذَّبح (الذبح)، فأنزل الله الآية فيه.
وقيل: نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يخبرون اليهود والنصارى بأسرار المؤمنين ويوالونهم.
والاختيار عند الطبري أن يكون نهياً عاماً لجميع المؤمنين.
وقوله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أي: اليهود بعضهم أنصار بعض، وكذلك النصارى ففيه معنى التحريض للمؤمنين: أن يكون أيضاً بعضهم أولياء بعض.
قوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ أي: من والاهم فهو منهم، لأنه لا [يواليهم] إلا وهو بدينهم راض، فهو منهم.
﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي: " لا يُوَفِّقَ " من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم لله ورسوله ".
1778
قوله: ﴿فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [يُسَارِعُونَ فِيهِمْ]﴾ الآية.
هذه الآية بيان لما في الآية التي قبلها، والمعنى: ترى قوماً في قلوبهم مرض يسارعون في ولاية اليهود والنصارى، ﴿يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ أي: تكون الدائرة علينا، فيوالون اليهود والنصارى لضُعْفِ إيمانهم.
وقيل: يعني بذلك عبد الله بن أبي بن سلول المنافق.
وقال مجاهد: كان المنافقون يَصَانِعُونَ اليهود ويَسْتَرْضُونَهم ويستعرضون أولادهم يقولون: نخشى أن تكون الدائرة لليهود، وفيهم نزلت الآية، وكذالك قال قتادة.
قال ابن عباس: معنى قولهم: ﴿نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ (أي): نخشى (ألا يدوم) الأمر لمحمد ويغلب علينا المشركون.
وقيل: يراد بها عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه، لأن النبي ﷺ لم يزل في طلب بني / قَيْنُقاع حتى أسرهم، ولم يزل عبد الله بن أبي يسأل فيهم حتى خلاهم له وقال:
1779
خذهم لا بارك الله لك فيهم، فماتوا حتى بقي منهم نافخ النار.
وقيل: المعنى: نخشى أن يصيبنا قحط فلا يفضلوا علينا، فيوالونهم لذلك.
والأول أحسن لقوله: ﴿فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح﴾ أي: بالنصر.
(و) قال ابن عباس: فأتى الله بالفتح، فَقُتِلَتْ مُقَاتِلَة قُريظَةَ، وسُبِيَت ذراريهم، وأُجْليَ بنو النضير.
ومعنى ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ يخبر بأسماء المنافقين الذين يوالون اليهود والنصارى.
﴿فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ (في أَنْفُسِهِمْ)﴾. (من) موالاة اليهود والنصارى ﴿نَادِمِينَ﴾.
1780
وقيل: ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ إيجاب الجزية على اليهود والنصارى. وقيل معنى: ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ بالخصب.
ومعنى: (بالفتح): فتح مكة، فيصبحوا نادمين إذا رأوا النصر.
وقيل: الفتح: القضاء، ومن قوله: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾ [الأعراف: ٨٩].
قوله: ﴿يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله﴾ الآية.
من نصب (يقولَ) عطفه على (أن يأتي)، وهو بعيد جداً، لأنك (لو قلت): " عسى زيد أن يقوم ويأتي عمروا " لم يجز، كما لا يجوز: " عسى زيد أن يقوم عمرو ".
ولو قلت: " عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو " حَسُنَ، كما يَحسُن " " عسى أن
1781
يقوم عمرو ".
فلو كان نص الآية: " فعسى أن يأتي الله بالفتح "، حَسُن العطف، وإنما تجوز الآية على أن تحمل على المعنى، لأن قولك: " عسى أن يأتي الله بالفتح " و " عسى الله أن يأتي بالفتح "، سواء فيجعل النصب على المعنى، ويكون مثل قول الشاعر:
مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً... ومعنى الآية أنها متعلقة بما قبلها، والمعنى: ﴿فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ إذا رأوا النصر، ﴿يَقُولُ الذين آمَنُواْ﴾ بعضهم لبعض، تعجّباً منهم ومن نفاقهم: ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ مؤمنين والمعنى - على [قراءة] من أتى بالواو - مثل ذلك وهو أبين.
1782
ومن قرأ بالنصب فمعناه: وعسى أن يقول الذين آمنوا كذا وكذا.
وقال مجاهد: المعنى: ﴿فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [حينئذ]
﴿يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ﴾ إنهم مؤمنون.
قال الكلبي: فجاء الله بالفتح، فأمر الله نبيه بقتل بني قريظة وسبي ذراريهم وإجلاء [بني] النضير، فندم المنافقون حين أُجلِيَ أَهْلُ وَدِّهِمْ، وظهر (نفاقهم)، فعند ذلك قال المؤمنون - بعضهم لبعض - ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ الآية.
1783
هذه الآية وَعيدٌ لمن يرتد فيما يُستقبل، لأن الله تعالى قد علم أنه سيرتد بعد وفاة نبيه قوم.
وقوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾: قال الحسن والضحاك وغيرهما: هم أبو بكر الصديق وأصحابه، رَدُّوا من ارتد بعد النبي وقال: لا نؤدي الزكاة إلى [أهل] الإيمان.
وقيل: هم أهل اليمن. وقيل هم آل أبي موسى الأشعري، " روي أن النبي ﷺ أَوْمَأ إلى أبي موسى الأشعري عند نزول هذه الآية، وقال: هم قوم هذا، وهم أهل اليمن " وعن مجاهد أنه قال: " هم قَوْمُ سَبَإٍ ". وقال السدِّي: هم الأنصار.
1784
وقوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين﴾ (أي) جانبهم لين للمؤمنين / ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ أي: جانبهم خشن على الكافرين. وقيل: (أعزة) بمعنى أشداء عليهم ذوي غلظة.
وقال علي بن أبي طالب: أذلة: ذوي رأفة " وأعزة: ذوي عنف.
وقال ابن جريج: أذلة: رحماء، أعزة: أعداء.
﴿يُجَاهِدُونَ﴾ أي: يجاهدون من ارتد ولم يؤمن، ﴿وَلاَ يَخَافُونَ﴾ في جهادهم ذلك ﴿لَوْمَةَ لائم﴾. وهذا مما يدل على صحة خلافة أبي بكر، لأنه جاهد بعد النبي من ارتد لم يرجع لقول قائل، وقد كان كسر عليه جماعة عن قتال أهل الردة فأبى إلا قتلهم، فقاتلهم حتى رجعوا إلى الإسلام وأداء الزكاة، فرأى كل من كسر عليه أولاً
1785
أن الذي فعل هو الصواب، رضي الله عنهم أجمعين.
قوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ﴾ الآية.
هذه الآية راجعة إلى ما تقدم من تحذير الله المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، فأعلمهم في هذه [الآية] أن الذي هو وليهم الله ورسوله والذين آمنوا.
وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت حين تبرأ من ولاية يهود.
وقال: الكلبي: " بلغنا أن عبد الله بن سلام ورهطاً من مسلمي أهل الكتاب أتوا النبي عند صلاة الظهر، فقالوا: يا رسول الله، بيوتنا قاصية، ولا نجد متحدثاً دون المسجد، وإنَّ قومنا لَمَّا رأونا صَدَّقْنا الله ورسوله وتركنا دينهم، أظهروا لنا العداوة، وأقسموا ألا يخالطونا ولا يجالسونا، فشق ذلك علينا. فبينما هم يشكون ذلك إلى النبي حتى نزلت ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ﴾ الآية، فلما قرأها رسول الله ﷺ عليهم
قالوا: رضينا بالله ورسوله والمؤمنين أولياء، وأذن بلال بالصلاة، فخرج رسول الله والناس يصلون بين قائم وراكع وساجد، وإذا هو بمسكين يسأل، فدعاه رسول الله ﷺ فقال له: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: خاتم من فضة، قال: مَن أعطاكَ؟ قال: ذلك الرجل القائم، فإذا هو عليّ، قال: على أي: حال أعطاك؟ قال: أعطانيه وهو راكعٌ. فزعموا أن رسول الله كبَّر عند ذلك ".
قوله: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾،
قيل: هو علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. قال السدي مرَّ به سائل - وهو راكع - فأعطاه خاتمه. وقيل: عنى به جميع المؤمنين.
قوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أعلم أن من [تبرأ] من يهود - الذين هم حزب الشيطان -
ووالى الله ورسوله والذين آمنوا، هم حزب الله، ﴿فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون﴾، والحزب: الأنصار.
قوله: ﴿اأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً﴾ الآية.
ومعنى الآية: أن الله حذر المؤمنين ألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ووصفهم تعالى بأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعباً، وهم (قد) أوتوا الكتاب من قبلنا، يعني التوراة والإنجيل.
و [حذرهم] ألا يتخذوا الكفار أولياء، وهم مشركو قريش.
فمن نصب (الكفار) فالمعنى فيه: أنه تعالى نهانا عن اتخاذهم أولياء ولم يخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً كأهل الكتاب. ومن خفض فمعناه أنه تعالى
نهانا عن اتخاذهم أولياء، وأخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً كما فعل أهل الكتاب.
ومعنى اتخاذهم ديننا هزواً ولعباً: / هو إيمانهم: ثم كفرهم وإظهارهم خلاف ما يبطنون أخبر الله عنهم أنهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤].
﴿واتقوا الله﴾ أي: اتقوه (في اتخاذهم) أولياء، ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي: مصدقين بالله.
قوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ الآية.
المعنى: أنه إخبار عما يفعل اليهود والنصارى، أنهم كانوا إذا نودي بالصلاة سَخِرُوا ولعِبوا من ذلك، لأنهم قوم لا يعقلون، ما في إجابتهم إليهم لو فعلوا، وما عليهم إذا سخروا من العقاب على ذلك.
قال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع في النداء " أشهد أن
1789
محمداً رسول الله " (قال): " حُرِّقَ الكَاذِبُ " فدخلت خادم - ذات (ليلة من الليالي) - بنار - وهو نائم - فسقطت [شرارة] من النار فأحرقت البيت واحترق هو وأهله.
وقال ابن عباس: ضحك قوم من اليهود والمشركون من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله (هذه). الآية.
قال الكلبي: كان إذا نادى منادي رسول الله للصلاة، قالت اليهود والمشركون:
1790
قد قاموا، لا قاموا، وإذا ركعوا سخروا (و) استهزأوا بهم وضحكوا.
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لليهود والنصارى: هل [تكرهون] منا وتجدون علينا شيئاً من الأشياء إلا إيماننا بالله وإقرارنا به، وبما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبل أي: التوراة والإنجيل وجميع الكتب؟ ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي: وهل تنقمون منا إلا أن أكثركم فاسقون؟، كأنه: هل تنقمون إلا إيماننا وفسقكم؟.
ومنع بعض العلماء حمل ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ﴾ على ﴿تَنقِمُونَ﴾، وقال: كيف يجوز " هل تنقمون (منا) إلاَّ فسقكم "، والفسق منهم، فغير جائز أن ينقموا على غيرهم فسقهم، قال: وإنما هو مردود على (بالله) أي: هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وبأن أكثركم
فاسقون.
وذكر ابن عباس أن ناساً من يهود أتوا النبي ﷺ [ فسألوه] عمن يؤمن به من الرسل، فقال: ﴿آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى [وعيسى]﴾، وما أوتي النبييون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: " لا نؤمن (بمن آمن) به "، فأنزل الله ﴿قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ﴾ الآية.
قوله: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً﴾ الآية.
1792
﴿مَن لَّعَنَهُ (الله)﴾ [من]: في موضع رفع، كما قال: ﴿شَرٌّ﴾: النار. والتقدير فيه هو: لَعْنُ مَن لَعَنَهُ الله ويجوز أن تكون ﴿مَن﴾ في موضع نصب ﴿أُنَبِّئُكُمْ﴾، ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من ﴿شَرٌّ﴾.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا [دينكم] هزواً ولعباً م الذين أوتوا الكتاب والكفار -: هل أنبئكم بشر من ثواب ما تنقمون هو لعن ﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير﴾، وهم أصحاب السبت من اليهود.
1793
وقرأ حمزة ﴿وَعَبَدَ الطاغوت﴾ بضم الباء وخفض الطاغوت، بإضافة " عبد " إليه، ومعناه: وخَدَمُ الطَّاغُوتِ.
﴿أولئك شَرٌّ مَّكَاناً﴾ أي: شر من هؤلاء الذين نَقَمتُم عليهم لإيمانهم بالله وبما أنزل من قبل، ﴿وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ أي: أجْوَرُ / عن قصد الحق، وهذا كلام فيه تعريض لليهود الذين نقموا إيمان المؤمنين، فهم [المُعْنيون] بذلك.
وقيل: المعنى: أولئك الذين نقموا عليكم - أيها المؤمنين - شرُّ مَكاناً عند الله من الذين لعنهم الله، وجعل منهم القردة والخنازير.
وقيل: المعنى أولئك الذين آمنوا شرّ؟ أم مَن لعنه الله؟، (ويعني به المقول) لهم ذلك من اليهود.
1794
قوله: ﴿وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا﴾ الآية.
المعنى: وإذا جاءكم - أيها المؤمنون - هؤلاء المنافقون من اليهود، قالوا: " آمنا "، وقد دخلوا عليكم بالكفر إذا جاؤكم، وخرجوا به أيضاً كما دخلوا، لم يحولوا عما يعتقدون، وإنما كذبوا بألسنتهم وقالوا ما لا يعتقدون، ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا [كَانُواْ] يَكْتُمُونَ﴾ من كفرهم، قال السدي: هؤلاء ناس من المنافقين - كانوا يهود - دخلوا كفاراً (وخرجوا كفاراً)، إذ لم ينتفعوا بما سمعوا.
قوله: ﴿وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ﴾ الآية.
المعنى: ترى يا محمد كثيراً من هؤلاء اليهود يسارعون في الأثم، [أي] في الكفر، والعدوان، وهو مجاوزة حدود الله، فمعنى ذلك أنهم يسارعون في معاصي الله وترك حدوده، ويسارعون في أكلهم السحت، وهو الرشا في الأحكام.
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [في الكلام معنى القسم، والمعنى: أقسم بالله لبئس ما كانوا يعملون] في مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
قوله: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار﴾ الآية.
المعنى: هلاَّ ينهاهم عن ذلك الربانيون، وهم أئمتهم وعلماؤهم.
وقيل: وُلاتهم. (والأحبار) (و) هم الفقهاء والعلماء.
﴿عَن قَوْلِهِمُ الإثم﴾ وهو الكفر. وقيل: ﴿وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ وهو الرشوة في الأحكام.
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ أي: لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لا ينهون عامتهم عن ذلك.
وهذه الآية أشد آية وُبِّخ فيها العلماء، قال ابن عباس: ما في القرآن آيةٌ أَشَدُّ توبيخاً من هذه، والمعنى: أقسم [لبئس ما] كانوا يصنعون.
وقرأ أبو الجراح (الرِّبِّيُّون) وهم [الجماعات]، مأخوذ من الرِّبَّة، والرِّبَّةُ: الجماعة، ونُسب إليها فقيل: رِبِّيٌّ، ثم جُمع فقيل: رِبِّيُّونَ.
قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ الآية.
هذه الآية من أدل دليل على صحة نبوة محمد ﷺ، إذ أخبرهم بمكنون سرهم وخفي اعتقادهم. ومعنى قولهم ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾: " خير الله مُمسَك " وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم واليد - هنا - بمنزلة قوله تعالى في تأديب نبيه: {وَلاَ تَجْعَلْ
1797
يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: ٢٩] أي: لا تقتر في النفقة حتى تضر بنفسك وبمن معك، ﴿(وَ) لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط﴾ [الإسراء: ٢٩] أي: لا تسرف في الإنفاق والتبذير، فتبقى لا شيء لك. وإنما خصت اليد بأن جعلت في موضع الإمساك والإنفاق، لأن عطاء الناس وبذلهم مَعْروفهم، الغالب عليه باليد، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضاً بالكرم أو بالبخل بأن أضافوه إلى اليد التي بها يكون العطاء والإمساك، فخوطبوا بما يتعارفونه في كلامهم، فحكى الله عن اليهود أنهم قالوا ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ أي: أنه يبخل علينا بالعطاء كالذي يده مغلولة عن العطاء، تعالى الله عما قال أعداء الله علواً كبيراً.
1798
وقال بعض المفسرين (في) معنى الآية: نعمة الله مقبوضة عنا.
لأنهم كانوا إذا نزل بهم خير، / قالوا: يد الله مبسوطة علينا، وإذا نزل بهم ضيق وجدْبٌ، قالوا: يد الله مقبوضة عنا، أي: نعمته وأفضاله.
وقد قيل: في قوله ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾: أنهما مطر السماء ونبات الأرض، لأن النعم (بهما ومنهما) تكون.
قوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: من الخير، ﴿وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ أي: أبعدوا من رحمة الله تعالى لقولهم ذلك. وقيل: غلت في الآخرة، وهو دعاء عليهم.
ثم قال تعالى - راداً لما حكى من قولهم -: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي: بالبذل
1799
والإعطاء، ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ أي: يعطي: فيحرم هذا ويُقَتِّرُ عليه، ويُوسِّع على هذا.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك: قولهم ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ معناه: أنه بخيل ليس بالجواد. وكذلك معنى قول ابن عباس وغيره.
قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ قيل: معناه: نعمتاه الظاهرة والباطنة على خلقه مبسوطتان. وقيل: معناه: نعمتاه، يعني نعمته في الدينا ونعمته في الآخرة. والعرب تقول: " لفلان عند فلان يد "، أي: نعمة. وقيل: عنى بذلك القوة، كقوله: ﴿أُوْلِي الأيدي والأبصار﴾ [ص: ٤٥] أي: أصحاب القوة والبصائر في الدين.
وقد قيل في معنى قولهم: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ أي: عن عذابنا، [أي يده مقبوضة عن
1800
عذابنا، و] معنى ﴿مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي: [مطلقتان].
واليد - عند أهل النظر والسنة في هذا الموضع وما كان مثله - صفة من صفات الله، ليس بجارحة، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله، إذ ليس كمثله شيء، و (أن ما) وقع من ذكر هذا وشبهه، وذكر المجيء والإتيان، صفات لله، لا أنها فيها انتقال وحركة وجارحة، فسبحان من ليس كمثله شيء من جميع الأشياء، فلو أنك أثبت له حركة أو انتقالاً أو جارحة لكنت قد جعلته كبعض الأشياء الموجودة، وقد قال:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، فاحذر أن يتصور في عقلك أن البارئ جل ذكره يشبه شيئاً من الأشياء التي عقلت وفهمت، ومتى فعلت شيئاً من هذا فقد ألحدت، وأهل السنة يقولون: ان يديه غير نعمته.
1801
وقوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ أي: ليزيدنهم ما أطلعناك عليه من خفي اعتقادهم، وسوء مذهبهم، ﴿طُغْيَاناً﴾ عن الإيمان بك، ﴿وَكُفْراً﴾ بما جئت به.
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي: بين اليهود والنصارى. وهو مردود إلى قوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ﴾ [المائدة: ٥١].
﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ أي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء شتته الله وأفسده عليهم. قال قتادة: (لن تلقى) يهودياً ببلد إلا وجدته (من) أذل أهل ذلك البلد، ولقد جاء الإسلام - حين (جاء - وهم) تحت أيدي المجوس أبغض خلق الله إليه.
1802
وهو كلام تمثيل، وتحقيقه: كلما تجمعوا لتفريق المؤمنين وحربهم، شتتهم الله و [محقهم].
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً﴾ أي: يسعون في إبطال الإسلام، والكفر برسوله وآياته، ﴿والله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ أي: " من كان عاملاً بمعاصيه ".
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتابءَامَنُواْ واتقوا﴾ الآية.
المعنى: لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله و [رسوله]، واتقوا مخالفتهما، ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ [سَيِّئَاتِهِمْ]﴾ أي: لغطينا ذنوبهم وسترنا / عليها. ﴿ولأدخلناهم جنات النعيم﴾ أي: بساتين يتنعمون [فيها] في الآخرة.
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة [والإنجيل]﴾ الآية.
أي: لو أن اليهود أقامت التوراة، أي: عملت بما فيها وأقرت بما فيها من صفة النبي ونبوته، ولو أن النصارى أقامت الإنجيل، أي: عملت بما فيه وأقرت بصفة النبي ونبوته التي هي فيه، ﴿وَ [مَآ] أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ يعني القرآن، أي: وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، والمعنى في ذلك: التصديق بجميع الكتب.
(و) قوله: ﴿لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ﴾ أي: من قطر السماء، ﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: من نبات الأرض. وقيل: معناه التوسعة عليهم في الأرزاق كما يقول القائل: " هو في خير من قرنِهِ إلى قدمه ".
﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾: أي مؤمنة بمحمد. وقيل: مقتصدة في القول في عيسى أنه
﴿رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ﴾. قال مجاهد: هم مسلمو أهل الكتاب. ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ أي: عملهم مذموم.
قوله: ﴿يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ الآية.
والمعنى: أن الله تعالى: أكد على النبي في تبليغ ما أنزل إليه من ربه، لأنه كان يرفق بالناس في أول الإسلام وابتدائه، فأمر بالاجتهاد في التبليغ.
وقوله: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ أي: إن تركت آية وكتمتها، لم تبلغ رسالته، قاله ابن عباس. وقيل: المعنى: إن (لم) تبلغ ذلك معلناً، غير مُتَوَقٍّ أمراً، فما
1805
بلغت، وهو مثل قوله ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤].
وقوله: ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ أي: أمره تعالى بالتبليغ، وأخبره بالعصمة من الناس.
قال ابن جبير: " لما نزلت ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾، قال رسول الله ﷺ: لا تحرسوني، فإنّ ربي قد عصمني. وكان ناس من أصحابه يتعقبونه في الليل، فلما نزلت ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾، قال: يا أيها " الناس " إِلْحَقُوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني من الناس " وروي " أن النبي كان إذا نزل منزلاً، اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابي فخرط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال النبي: الله،
1806
فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده، وضرب برأسه الشجرة حتى (انْتَثَرَ) دماغه، فأنزل الله ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ " وقيل: " كان " النبي " صلى الله عليه يخاف قريشاًَ، فلما نزلت هذه الآية، استلقى ثم قال: من شاء فَلْيَخْذُلني، مرَّتين أو ثلاثاً ".
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ﴾ الآية.
المعنى: لستم على دين حتى تصدقوا بما في التوراة من الفروض وصفة محمّد، و [بما] في الإنجيل، وتصدقوا [بما] أنزل إليكم من ربكم، وهو القرآن الكريم.
(و) قوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ أي: ليزيدنهم ما أطْلَعْتُكَ عليه من أمرهم، ﴿طُغْيَاناً﴾ أي: تجاوزاً في التكذيب، ﴿وَكُفْراً﴾ أي: [وجحوداً
لنبوتك] ﴿فَلاَ تَأْسَ﴾ أي: لا تحزن عليهم، فإنهم كافرون.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ﴾ الآية.
مذهب الخليل وسيبويه في [الصَّابون] أنه رفع على أنه عطف على موضع (إن) وما عملت فيه.
وقال الكسائي والأخفش: هو عطف على المضمر في ﴿هَادُواْ﴾. وقو قول مطعون فيه، لأنه يلزم أن يكون ﴿الصابئون﴾ دخلوا في اليهودية.
وقال الفراء: / إنما جاز الرفع، لأن ﴿الذين﴾ لا يظهر فيه عمل (إن).
وأجاز الكسائي: إن [زيدا وعمرو]. قائمان " قال: لضعف " إن " واستدل بقول الشاعر:
فإني وقيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ....
1808
وقال الفراء: لا حجة للكسائي في هذا البيت، لأن قيارا قد عطف على اسم مكنّىً عنه، والمكنّى لا يتبيَّن فيه الإعراب ك ﴿الذين﴾، فهل فيه أن يعطف على الموضع.
وقرأ [سعيد] بن جبير " والصَّابِينَ " بالنصب، على ظاهر العربية.
ومعنى الآية: أن الذين آمنوا بألسنتهم، يعني المنافقين، واليهود والصّابين والنصارى، من آمن منهم، أي: من حقّق الإيمان بمحمد - وما أتى به - بقلبه، وباليوم الآخر، وعمل صالحاً، فلا خوف عليهم. وقيل المعنى: أن الذين آمنوا بألسنتهم وقلوبهم، من ثبت منهم على الإيمان ﴿وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي: لا يخافون يوم
1809
القيامة ولا يحزنون.
قوله: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً﴾ الآية.
اللام في ﴿لَقَدْ﴾ لام قسم، " والمعنى: أقسم " لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على إخلاص التوحيد، والعمل بما أمرهم به، والانتهاء عما نهاهم عنه، وأرسلنا إليهم (بذلك رسلاً)، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسُهُم، فريقاً كذّبوا وفريقاً قتلوا، نقضاً للميثاق الذي أخذ عليهم. فالتكذيب اشتركت فيه اليهود والنصارى، والقتل هو من فعل اليهود خاصة، كانت تقتل النبيين (والمرسلين) إذا أمروا بالمعروف ونهو عن المنكر.
قوله: ﴿وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ الآية.
المعنى: وظن هؤلاء الذين أُخِذَ ميثاقهم أنه لا يكون لهم من الله ابتلاء " واختبار بالشدائد من العقوبات، ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ أي: عن الحق والوفاء بالميثاق الذي
1810
أخذ عليهم. و (كثير) بدل من المضمر. وقيل: هو تأكيد كما تقول: " رأيت قومك ثلثهم " وقيل: رفعه على إضمار مبتدا، [و] المعنى: العمى كثير منهم وقيل: التقدير: العمى والصم منهم كثير. وقيل هو على لغة من قال: " أكلوني البراغيث "، فيرتفع (كثيرٌ) بـ[عَموا وصَمُّوا]. ويجوز - في غير القرآن - النصب على أنه نعت لمصدر محذوف.
(و) قال مجاهد: (هم) اليهود خاصة وقيل: المعنى: وحسبوا ألا يكون اختبار. لقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، فعموا عن الحق وصموا.
1811
﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ أي: لم يعلموا بما سمعوا، ولا انتفعوا بما رأوا من الآيات فكانوا بمنزلة العُمْيِ الصُّم.
وقيل: معنى ﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ﴾: ثم بعث الله محمداً يخبرهم أن الله يتوب عليهم إن تركوا الكفر وآمنوا، ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ أي: لم ينتفعوا بما قيل لهم.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ الآية.
أخبر الله عن النصارى أنه لما اختبرهم بوفاء الميثاق، كفروا وقالوا: المسيح الله، وقد عملوا أنه (ابن) مريم، والله لا يكون مولوداً، تعالى (الله) عن ذلك. وأخبر عن المسيح أنه قال لهم ﴿اعبدوا الله﴾ إلى آخر الآية، وهذا قول اليعقوبية من اليهود.
والمسيح: الصديق.
وقال ابن عباس: سمي مسيحاً، لأنه كان أَمْسَحَ الرجل، لا أخمصَ له.
وقيل: سُمِّيَ مسيحاً، لأنه كان لا يمسح بيديه ذا عاهة إلا برأ، ولا يضع يديه على شيء إلا أعطي فيه مراده. وقال / ثعلب: سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض، أي: يقطعها بالسياحة.
و [قيل]: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.
وأما المسيح الدجال، فإنما سمي به لأنه أمسح العين، فهو بمعنى ممسوح، ك " قتيل " بمعنى " مقتول ".
قوله: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ الآية.
أخبر الله في هذه الآية قولَ بعضهم وكفرهم، وهو قول جمهور النصارى.
وقوله: (منهم) تعود (على أهل الكفر) من الذين قالوا: ﴿[إِنَّ] الله هُوَ المسيح [ابن مَرْيَمَ]﴾ ومن الذين قالوا: ﴿[إِنَّ] الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله: ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ الآية.
(و) المعنى: [أفلا] يرجعون عن قولهم ويستغفرون منه، ﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: ساتر: لذنوب الناس، ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم.
قوله: ﴿مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ الآية.
هذا احتجاج على فرق النصارى في قولهم في عيسى. فالمعنى: ليس عيسى
1814
أول رسول مبعوث إلى الناس فيعجبوا من ذلك، بل قد خلت من قبله الرسل إلى الخلق، فهو واحد منهم، (فهو) مثل قوله في محمد ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل﴾ [الأحقاف: ٩]، و (مثل) قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ [آل عمران: ١٤٤].
(والصدّيقة: الفعلية من الصدقٍ].
ومعنى الآية: ما المسيح في إنبائه بالمعجزات - من إبراء الأكمه وإحياء الموتى - ﴿إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ أي: مثل الرسل التي قد خلت من قبله، أتى بالمعجزات كما أتى موسى وابراهيم، فهو أظهر الآيات، (فهو) كغيره ممن تقدم من الرسل الذين أظهروا الآيات.
- ومعنى ﴿خَلَتْ﴾: تقدمت -، فليس هو بأول رسول فيعجب منه.
1815
قوله ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ كناية عن إتيان الحاجة، فنبه بأكل الطعام على عاقبته، وغلَّبَ المذكر على المؤنث. وقيل: المعنى: كانا يتغديان كما يتغدَّى البشر، ومن كان هكذا فليس بإله، لأن الإله لا يحتاج إلى شيء.
قوله: ﴿انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات﴾ أي: انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى ﴿الآيات﴾، وهي العلامات على بطلان ما يقولون في أنبياء الله، ثم انظر: يا محمد - مع تنبيهنا إياهم على ذلك - كيف يؤفكون، أي: من أين يصرفون عن الحق. يقال لكل مصروف عن شيء: (هو مأفوك عنه)، و (وقد أفكت فلاناً عن كذا) أي: صرفته عنه، آفِكُه أَفْكاً، و (قد أُفِكَتِ الأَرْضُ): إذا صرف عنها المطر.
قوله: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء القائلين في المسيح ما ذكرت عنهم: أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، والذي خلقكم ورزقكم، فيخبرهم تعالى أن المسيح -
الذي زعموا أنه إلهٌ - لا يملك لهم دَفْعَ ضُرٍّ إِنْ أَحَلَّهُ الله [بهم]، ولا صَرْفَ نَفْعٍ إن أعطاهم الله إيّاه.
﴿والله هُوَ السميع العليم﴾ أي: أنتم أقررتم أن عيسى كان في حال لا يسمع ولا يعلم، والله لم يزل سميعاً عليماً، " وهذا من ألطف ما يكون من الكناية ". وقيل: المعنى: ﴿هُوَ السميع﴾ لاستغفارهم لو استغفروه من قولهم في المسيح، ﴿العليم﴾ بتوبتهم - لو تابوا منه - وبغير ذلك من أمورهم.
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد: يا أهل الإنجيل لا تغلوا في دينكم أي: لا تفرطوا في القول في أمر المسيح فتجاوزوا الحق في جعلكم إياه [إلهاً]، ولكن قولوا: ﴿رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ [مِّنْهُ]﴾.
1817
﴿وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ﴾ أي: أهواء اليهود الذين قد ضلوا من قبلكم عن سبيل الله الهدى ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ أي: أضل هؤلاء اليهود كثيراً من الناس عن الحق، فحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح، ﴿وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ أي: عن قصد السبيل.
وسمي (الهوى / هوى، لأنه يهوي) بصاحبه في الباطل والهوى - في القرآن - مذموم. والعرب لا تستعمله إلا في الشر، وأما في الخير فيستعملون الشهوة والمحبة.
1818
وقال ابن أبي نجيح: ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ اليهود أضلوا المنافقين.
قوله: ﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية.
(ذلك) في موضع رفع، على معنى: ذلك اللعن بما عَصَوا، أو على معنى: الأمرُ ذلك بما عصوا، ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: فعلنا ذلك بما عصوا.
والمعنى: أن الذين لعنوا على لسان داود (هم) أهل السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى (ابن مريم) هم أصحاب المائدة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة، والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. قال النبي ﷺ: " أول ما وقع النقص في بني إسرائيل: أن أحدهم كان يرى أخاه على
1819
المعصيةِ فينهاهُ، ثم لا يمنعه ذلك من الغد أن يكون أكيله وشريبه ".
قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد في القرآن.
وقال مجاهد: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير. والمراد بذلك - والله أعلم - أنه (تعالى) حذرهم أن يقولوا في عيسى ما قالوا فلعنوا كما لعن هؤلاء.
ورُوي أن داود عليه السلام دعا عليهم على عهده: وذلك أنه مرَّ على نفر وهم
1820
في بيت، فقال: من في البيت؟ [فقالوا]: خنازير، فقال: (اللهم اجعلهم خنازير)، فأصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال: " اللهم الْعَنْ مَنْ افْتَرَى عَلَيَّ وَعَلَى أُمِّي، فَاجْعَلْهُمْ " قردة خاسئين. ذلك بعصيانهم واعتدائهم.
ثم أخبر تعالى أنهم ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾. أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، والمنكر: المعاصي.
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ في الكلام معنى القسم. والمعنى: أقسم لبئس الفعل فعلهم في تركهم النهي عن المعاصي.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن أولَ ما كان من نقض بني إسرائيل ومعصيتهم: أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، شبه تعْذير، فكان أحدهم إذَا لقي
1821
صاحبه الذي كان يعيب عليه آكله وشاربه وخالطه، كأنه لم يعب عليه شيئاً، فلعنهم الله على لسان داود وعيسى بن مريم ".
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " لا يزال العذاب مكفوفاً عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها، فلم تنكر، استحلوا عقاب الله ".
وقال عليه السلام: " إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أظهرت فلم تُغَيَّر ضرتِ العامة ".
وقال ﷺ: " ( لا تعذب) الخاصة بعمل العامة حتى تكون الخاصة تستطيع أن تغير على العامة، فإذا استطاعت ذلك - فلم تفعل - عذبت (الخاصة والعامة) ".
1822
قوله تعالى: ﴿ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية.
المعنى: ترى يا محمد كثيراً من اليهود يوالون المشركين من عبدة الأوثان ويعادون أولياء الله قال مجاهد: يعني المنافقين.
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ﴾ ف (أَنْ) في موضع رفع، فالذي قدمت لهم أنفسهم هو سَخَطُ الله بما فعلوا. ﴿وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ﴾ / أي: مقيمون في الآخرة.
المعنى (لعنوا) - عند أكثر المفسرين -: أبعدوا من رحمة الله فمسخوا بذنوبهم.
(و) روى ابن حبيب في حديث يرفعه إلى النبي عليه السلام أنه قال: الممسوخ خمسة عشر صنفاً: الفيل، والدب، والضب، والأرنب، والعنكبوت، والخنفساء،
1823
والوطواط، والعقرب، والقنفذ، والدعموص، و [الجريث]، والقردة، (و) الخنازير، وسُهَيْلٌ، والزهرة.
قيل: يا رسول الله، فما كان سبب هؤلاء إذ مُسخوا؟، فقال: أما الفيل فكان رجلاً لوطياً، وكان ينكح البهائم، لا يدع رطباً ولا يابساً، فمسخه الله فيلاً. وأما الدب فكان (رَجُلاً) مؤنثاً يؤتى، فمسخه الله دباً. وأما الضب فكان أعرابياً يسرق الحاج فمسخه الله ضباً. وأما الأرنب: فكانت امرأة [قذرة] لا تغتسل من حيض ولا غير ذلك، فمسخها الله أرنباً. وأما الخنفساء: فكانت امرأة سحرت ضرتها فمسخها الله
1824
خنفساء. وأما العنكبوت فكانت امرأة عاصية لزوجها معرضة عنه، مبغضة له، فمسخها الله عنكبوتاً. وأما الوطواط: فكان رجلاً يسرق الرطب من رؤوس النخيل ليلاً، فمسخه الله وطواطاً، وأما القنفذ، فكان رجلاً سيء الخلق، فمسخه الله قنفذاً. وأما العقرب: فكان رجلاً همّازاً لا يسلم من لسانه أحد، فمسخه الله عقرباً. وأما [الدعموص] فكان رجلاً نمَّاماً يفرق بين الأحبة، فمسخه الله دعموصاً. وأما [الجريث]: فكان رجلاً ديوثاً يدعو الرجال إلى حليلته فمسخه الله [جريثاً]. وأما القردة: فالذين تعدوا في السبت من بني إسرائيل. وأما
1825
الخنازير: فالذين سألوا عيسى نزول المائدة ثم كانوا بعد نزولها أشد ما يكونوا تكذيباً. وأما سهيل: فرجل عَشَّار كان باليمن متعدّياً فمسخه الله شهاباً. - وروي أن (رسول الله ﷺ) يلعنه إذا رآه -.
وأما الزهرة: فامرأة افتتن بها هاروت وماروت، فمسخها الله شهاباً.
وسورة المائدة: من آخر ما نزل من القرآن. وروي أن فيها إحدى وعشرين فريضة ليست في شيء من القرآن وهي: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، وما علمتم من الجوارح مكلبين، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم، وطعامكم حلٌّ لهم،
1826
﴿والمحصنات مِنَ المؤمنات﴾ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وتمام الطهور، والسارق والسارقة، وآية المحاربين، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، وكفارة الإيمان، وتحريم الخمر، وتحريم الصيد في الحرم، وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت جملة، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب وتخلصه. وقد اختلف هل فيها منسوخ (أولا)، وقد ذكرنا ذلك في [موضعه] ".
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله﴾ الآية.
المعنى: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا
﴿يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي: خارجون عن طاعة الله. وقال مجاهد: المنافقون. ولم يبين.
قوله: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً﴾ الآية.
قوله: ﴿قِسِّيسِينَ﴾ هو جمع (قسِّيس) مسلماً، (و) تكسيره على (قساوسة)، أُبدل من إحدى السينات واواً. ويقال: (قَسٌّ) في معناه، وجمعه (قُسُوس)، ويقال للنميمة (قَسَّ).
1828
ورهبان جمعه رهابنة ورهابين.
والمعنى: لتجدن - يا مُحَمَّد - أشد الناس عداوة للذين اتبعوك، فآمنوا بك ﴿اليهود والذين أَشْرَكُواْ﴾، وهم عبدة الأوثان، ولتجدن أقربهم مودة لمن آمن بك، النصارى.
﴿ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الحق.
وهذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر من نصارى الحبشة لما سمعوا القرآن أسلموا. " وقيل: إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وَأَصْحَابٍ له أسلموا ".
قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي وفداً إلى النبي، فقرأ عليهم القرآن
1829
فأسلموا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم.
قال ابن عباس: بعث النبي - وهو بمكة، حين خاف على أصحابه من المشركين - نفراً إلى النجاشي، منهم: ابن مسعود وجعفر بن أبي طالب، فبلغ ذلك المشركين، فبعثوا عمرو بن العاصي في رهط إلى النجاشي يحذرونه من محمد، فسبق أصحاب المشركين، فقالوا للنجاشي: خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها وقد بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك بخبرهم، قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون (لي)، فقدم أصحاب النبي، فأتوا باب النجاشي، وقالوا: استأذِنوا لأَولياء الله، فقال: ائذن لهم، فمرحباً بأولياء الله. فلما دخلوا عليه، سلموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى - أيها الملك - لم يحيوك بتحيتك!
1830
فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي. فقالوا له: إِنَّا حَيَّيْنَاكَ بتحيةِ أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال (لهم): ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ [قالوا]: هو عبد الله وكلمة من الله وروح منه، ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء البتول. قال: فأخذ عوداً من الأرض (وقال): " ما زاد عيسى وأمَّه على ما قال صاحبكم قدرَ هذا العود "، فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. قال لهم النجاشي: هل تعرضون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: اقرأوا، فقرأوا، وهناك قسيسون ورهبان ونصارى، فعرفت كل قرأوا، وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فأنزل الله الآية.
وقال الكلبي: كانوا أربعين رجلاً: اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام، فأسلموا حين هاجر إليهم المؤمنون وسمعوا القرآن فعرفوا الحق وانقادوا
1831
إليه، وكانت اليهود أشد عداوة لمن آمنوا برسول الله يومئذٍ بالمدينة، وكذلك كانت قريش لمن آمن بمكة.
وقيل: إن الذي قرأ على النجاشي هو جعفر بن أبي طالب، قرأ عليه أول سورة مريم.
وقال السدي: بعث النجاشي اثني عشر من الحبشة: سبعة " قسيسون وخمسة " رهبان، ينظرون إلى النبي ﷺ ويسألونه، فلما لقوه قرأ عليهم ما أنزل الله، فبكوا وآمنوا، / وأنزل الله فيهم: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين]﴾، فرجعوا إلى النجاشي فآمن وهاجر بمن معه، فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله ﷺ والمسلمون واستغفروا له.
وروى ابن شهاب عن أم سلمة - زوج النبي عليه السلام، وكانت قد هاجرت إلى
1832
أرض الحبشة مع من هاجر من مكة من المسلمين حين آذاهم المشركون - فقالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار - النجاشي -، أَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنا الله تعالى، لا نُؤذَى ولا نَسمَع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدَيْنِ، وأن يهدوا له هدايا مما يستظرف من متاع مكة، فجمعوا له هدايا ولم يتركوا بطريقاً من بطارقته إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاصي، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق (منهم) هديته قبل أن تُكَلِّما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سَلاَهُ أن يُسَلِّمَهُم إليكما قبل أن يكلمهم.
1833
قالت أم سلمة: فخرجا حتى قدما على النجاشي - ونحن عنده بخير دار عند خير جار - فلم يبق من بطارقته بِطْريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق: " إنه قد صبأ إلى بلاد الملك مِنّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مُبْتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومنا لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأَشِيروا على أن يُسَلِّمَهم إلينا ولا يكلّمهم، فإن قومهم أعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هدية النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا: أيها الملك، إنه قد صبأ إليك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، ابتدعوا ديناً لا نعرفه نحن ولا أَنْتَ، وقد بَعَثَنا إليك فيهم أشرافُ قومنا من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم
1834
لنردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالت البطارقة من حوله: صدقاً - أيها الملك -، فأَسْلِمْهُم إليهما. قالت: فغضب النجاشي (وقال): لاها الله اذن، وَلاَ أُسْلِمُهُم، (ولا يكاد قومٌ جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني من سواي) حتى أدعوهم [فأسألهم] فما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما [يقولان]، أسلَمتهم إليهما ورددتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غَير ذلك، منعتهم
1835
(منهم)، وأحسنت جوارهم ما [جاوروني].
قال أم سلمة: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو بن العاصي من أن يسمع النجاشي كلام المؤمنين، فدعا النجاشي المؤمنين، فلما جاءهم رسول النجاشي، اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون اذا جئتموه؟ قالوا: نقول - والله - ما علّمنا نبيُّنا وما أمرنا كائناً في ذلك ما كان. فلما جاءوا - وقد دعا النجاشي أساقِفَته فنشروا مصاحبهم حوله - سألهم فقال: ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا (به) في ديني، ولا (في) دين أحد من [هذه] الملل؟، (و) قالت أم سلمة: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهـ، فقال له: أيها الملك، كنَّا
1836
قوماً، - أهلَ جاهلية - نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، نُسيء الجِوار، ويأكل القويُّ (الضعيفَ، فكنا على ذلك) حتى (بعث) الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبَه وصِدْقَه وأَمانَتَه وعافيته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونَخْلَعُ ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا / من الحجارة والأوثان، وأَمَرنا بِصِدْق الحديث وردِّ الأمانة وصِلَة الرحم وحُسنُ الجِوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقولِ الزور وأكل (مال) اليتيم، وقذف المحصنة، وأَمَرَنا أن نعبدَ الله ولا نشرك به شيئاً، وأَمَرنَا بالصلاة والزكاة وبالصيام. - قالت أم سلمة: فَعَدَّدَ عليه أمور الإسلام - فصدّقنا وآمنّا به، واتّبعناهُ على ما جاءنا به من عند الله، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأَحْلَلنا ما أحلَّ لنا، فَعَدا علينا قومنا فعذَّبونا وفَتنونا عن ديننا
1837
ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلَّ ما كُنّا نستحلُّ من الخبائث فلما قَهَرونا (وظَلَمونا) وضَيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا (أن لا) نظلم عندك أيها الملك.
قالت أم سلمة: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله (من) شيء؟، قال له جعفر: نعم، قال: فَاقْرَأْهُ عليَّ. قالت: فقرأ عليه صدراً من ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]، فبكى النجاشي (وبكى أساقفته حِينَ سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي): إن هذا والذي جاء به عيسى لَيَخرُج من مِشْكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسْلِمْهم
1838
إليكما أبداً، ثم قال لجعفر (وأصحابه): اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي - والشُّيُومُ في لسانهم: الآمنون -، من سبَّكُم [غَرِم]، من سبّكم [غَرِم]، قالها ثلاثاً، ثم قال: رُدُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، (فوالله) ما أخذ [الله] (الرشوة مني) حين رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي فآخُذُ الرشوة (فيه)، وما أطاع الله الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة: فخرجا من عنده مقبوحين.
ففي النجاشي وأصحابه نزل {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول [ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ
1839
الحق]} الآيات.
قالت عائشة رضي الله عنها في قول النجاشي: " ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخُذَ الرشوَة فيه، وما أطاع الله الناس فيّ فأطيع الناس فيه "، قالت: إن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد غيره، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر ولداً، فقالت الحبشة بينهم: لو قتلنا أبا النجاشي، وملَّكْنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه [اثني] عَشَرَ ولداً، فيتوارثوا الملك من بعده وتبقى الحبشة بعده دهراً.
فغَدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا. ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيباً حازماً من الرجال، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّه (ونزل) منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكَانَه من عمِّه قالت
1840
بينهم: والله لقد غَلَب هذا الفتى على أمر عمّه، وإنا لنتخوف أن يُمَلِّكه علينا، وَإِنْ مَلَّكَه (علينا) ليقتلنا أجمعين، لقد عَرَفَ أنَّا نحْن قتلنا أباه. فَمَشَوا إلى عمه فقالوا: إمّا أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تُخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خِفْنا على أنفسنا. فقال: ويلكم، قَتلتُم أباهُ بالأمس وأقتُلهُ اليومَ؟ بل أُخرجُه من بلادكم، فخرجوا به إلى السوق فباعوه [من رجل] من التجّار بست مائة درهم، فقذفه في سفينة وانطلق به حتى [إذا] [العشيّ] من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة، فقتلته ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هم حمق، ليس في واحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرُها، فلما ضاق عليهم أمرهم، قال بعضهم لبعض، تَعْلَموا - والله - أن مَلِككم -
1841
الذي لا يقيم أمركم غيرُه - الذي بعتم، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه.
قالت: / فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه، فأخذوه منه وجاءوا به، وعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملَّكوه أنفسهم، فجاءهم التاجر الذين كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ فقالوا: لا نعطيك شيئاً، قال: إذن والله أكلمه. قالوا: فدونك.
قالت: فجاءه التاجر، فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعتُ غلاماً من قوم بالسوق بست مائة درهم فأسلموا إليّ غلامي (وأخذوا دراهمي حتى إذا سِرْت، خرجت بغلامي، أدركوني فأخذوا غلامي مني ومنعوني دراهمي. فقال لهم النجاشي: لتُعْطُنَّه دراهمه، أو ليضعن غلامه) يده في يده، فليذهبن به حيث
1842
شاء. قالوا: [بل] نعطيه دراهمه.
قال: فلذلك قال: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مات النجاشي، كان يُتَحَدَّثُ أنه لا يزال نور يرى على قبره.
وقال ابن جبير: هم سبعون رجلاً وجَّهَ بهم النجاشي، وكانوا ذوي فقه وسنن، فقرأ عليهم النبي ﴿يس﴾ [يس: ١]، فبكوا، وقالوا: ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ وفيهم نزل: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] إلى قوله ﴿يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ [القصص: ٥٤] إلى آخر الآية.
1843
وقال قتادة: هم ناس كانوا على الحق من شريعة عيسى، ثم آمنوا بالنبي عليه السلام.
والرهبان يكون واحداً وجمعاً، وإذا كان جمعاً فواحده: " راهب "، وإذا كان واحداً فهو كقربان، وجمعه: رهابين، مثل قرابين.
ثم نعتهم تعالى ذكره في الآية الأخرى فقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق]﴾ يعني الرهبان والقسيسين الذين أتوا من عند النجاشي، فقرأ النبي ﷺ ﴿ يس﴾ [يس: ١] ففاضت أعينهم لما سمعوا الحق وعرفوه.
ومعنى: ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾: قال ابن عباس: مع محمد وأمته، لأنهم شهدوا أنه قد بلغ، وأن الرسل كما قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣].
ثم ذكر تعالى قولهم أنهم قالوا: ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق﴾ [الآية] وهو النبي والقرآن.
﴿وَنَطْمَعُ﴾ أي: ونحن نطمع، ﴿أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين﴾ أي: المؤمنين
1844
المطيعين.
قوله: ﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ﴾ الآية.
المعنى: فجزاهم الله بقولهم ذلك وإقرارهم وتصديقهم، ﴿جَنَّاتٍ﴾ أي: دخول جنات، ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ في الآخرة، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ المحسنين﴾.
أخبر تعالى أن من كفر منهم ومن غيرهم، وكذب بالقرآن، أنهم أصحاب الجحيم. " ﴿الجحيم﴾: ما اشتد حره من النار، وهو الجاحم " أيضاً.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ الآية.
(معنى الآية): أن الله أباح أكل الطيبات التي تشتهيها الأنفس، وألا يحرمها أحد على نفسه، ثم نهاهم عن الاعتداء، وهو تعدي الحدود التي (قد)
1845
حرمت.
وهذه [الآية] " نزلت في أبي بكر وعمر (وعثمان) وعلي وابن مسعود وغيرهم، اجتمعوا في (دار) عثمان بن مظعون على أن يَجُبُّوا أنفسهم، وأن يعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحماً ولا دسماً وأن يلبسوا المسوح، ولا يأكلوا من الطعام إلا القوت، وأن يسيحوا في الأرض / كهيئة الرهبان، فبلغ ذلك النبي عليه السلام، فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده ولا [إياهم]، فقال لامرأة عثمان أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟، فقالت: ما هو يا رسول الله؟،
1846
فأخبرها، فكرهت أن تكذب رسول الله ﷺ، وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله، إن كان عثمان أخبرك فقد صدقك، فقال لها: [قولي] لزوجك وأصحابه - إذا رجعوا -: إن رسول الله يقول لكم: إني آكل وأشرب، وآكل اللحم والدسم، وأنام وأصلي، وآتي النساء، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ثم انصرف. فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمرها (به) رسول الله، فجاء عثمان إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله [حَدَّثَتْني] نفسي فلم أحب أن أحدث شيئاً حتى أذكر لك، فقال (له النبي ﷺ: ( و) ما تحدثك به نفسك يا عثمان؟، قال: تحدثني أن أختصي. قال: مهلاً يا عثمان، فإن خصاء أمتي الصيام. فقال: (يا) رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال. فقال: مهلاً يا عثمان، فإن ترهب أمتي الجلوس في المسجد لانتظار الصلوات. فقال: يا رسول
1847
الله (فإن نفسي) تحدثني أن أسيح [في الأرض] قال: مهلاً يا عثمان، فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله والحج والعمرة. قال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله. قال: مهلاً يا عثمان، فإن صدقتك يوماً بيوم، وتكف عيالك وترحم المسكين واليتيم فتعطهما أفضل لك. فقال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أطلق خولة [بنت خويلد] امرأتي، قال: مهلاً يا عثمان، فإن الهجرة في أمتي من هجر ما حرم الله، وهاجر في حياتي، وزار قبري بعد مماتي، أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع. قال: فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشى النساء. قال: مهلاً يا عثمان، فإن الرجل، المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه، فإنه
1848
لم يكن له من وقعته تلك ولد، كان له وصيف في الجنة، وإن كان (له) ولد من وقعته فمات قبله، كان له فرطاً وشفيعاً يوم القيامة، وإن مات بعده كان له نوراً يوم القيامة.
قال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم. قال: مهلاً يا عثمان، فأنا أحب اللحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت [ربي أن] يطعمنيه (في) كل يوم لأطعمنيه. قال: يا رسول الله: فإن نفسي تحدثني ألا أمس الطيب. قال: مهلاً يا عثمان، فإن جبريل أمرني بالطيب غباً، لا ترغب عن سنتي، [فمن] رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب، ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة. فقام رسول الله ﷺ ( وغلّظ) فيهم المقالة وقال: إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم يستقم لكم "
، فنزلت:
1849
﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ إلى ﴿مُؤْمِنُونَ﴾.
والاعتداء " ها " هنا هو ما نووا من جب أنفسهم، نهو عن ذلك، قاله السدي. وقيل: هو ما نووا من التحريم على أنفسهم. وقال الحسن: معنى: ﴿لاَ تعتدوا﴾ إلى ﴿مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾. وأصل الاعتداء: التجاوز إلى ما لا يحل.
قال تعالى: ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً﴾ حلالاً لكم، ذلك (و) طيباً. ﴿واتقوا الله﴾ في أن تحرموا ما أحل (الله) لكم، أو تحلوا ما حرم الله عليكم، ﴿الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ أي: مصدقون مقرون.
قوله: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ الآية.
معنى الآية: أن الذين ذكر أنهم أرادوا أن يحرموا الطيبات في الآية التي قبلها،
1850
كانوا قد حلفوا ليفعلُن ذلك، فنهوا عن تحريم ما أرادوا تحريمه، وأُعلموا أن الله لا يؤاخذ باللغو في الأَيمان.
قال ابن عباس: لما نهاهم النبي عن ما أرادوا أن يفعلوا من التحريم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع في أيماننا التي حلفنا بها؟، فأنزل الله ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ (الآية). (﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾): من شدّد ﴿عَقَّدتُّمُ﴾ فمعناه: بما وكدتم الأيمان، فالتشديد يدل على تأكيد اليمين. ومن خفف فِلأَن " عقدهُ " تلزم فيه الكفارة إذا [حنث] بإجماع.
1851
واختير التخفيف - عند من قرأ به -، لأن السامع إذا سمع التشديد سبق إليه أن الكفارة لا تكون إلا مع التأكيد وتكرير اليمين وهذا لا يقول به أحد.
والتخفيف يدل على أنه إن عقده ولم يكرره لزمته الكفارة إذا حنث. وأنكر أبو عبيد على من قرأ بالتشديد، وقال: لأنه يوهم أن الحنث لا يجب إلا بتكرير اليمين، لأن " فعّل " - في كلام العرب - لتكرير [الفعل].
وهذا الاعتراض لا يلزم، وإنما يكون التشديد للتكرير مع الواحد، فأما مع الجميع فلا، لأنه قد تكرر واحد يمين عقده كقولك: " ذَبَّحتُ الكباش "، فكذلك ([عقّدتم الأيمان])، إنما وقع التكرير من أجل الجمع، ولو
1852
كانت الآية " عقدتم اليمين "، للزم ما قال أبو عبيد، فالتشديد يكون للتكرير، (إلا أن) التكرير ينقسم قسمين:
- قسم يتكرر الفعل فيه على الواحد.
- وقسم يتكرر الفعل فيه على آحاد: مرة لكل واحد، وهو الذي في الآية.
وقال مجاهد: ﴿بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾: بما تعمدتم الأيمان. وقال عطاء: " بِما عقَّدتم الأيْمَانَ " كقولك " والله الذي لا إله إلاّ هو ".
وروى نافع عن ابن عمر: إذا حلف من غير أن يُؤَكِّدَ اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين [مد] وإذا وكَّد اليمين أعتق رقبة.
فقيل لنافع: ما معنى " وكَّد اليمين "؟، قال: أن يحلف على الشيء مراراً.
ولغو اليمين: أن يحلف على الشيء يراه أنه كما حلف، ثم لا يكون كذلك، وهو
1853
قول مالك وجماعة معه، وقيل هو قولك: " لا والله " و " بلى والله "، وهو قول الشافعي وجماعة معه.
وقيل: هو تحريمك ما أحل الله لك، فلتفعله ولا كفارة عليك، قاله ابن جبير وغيره. وقال مسروق: لغو اليمين: كل يمين في معصية ليس فيها كفارة.
وعن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين: أن تحلف وأنت غضبان. لا كفارة في جميع ذلك على الاختلاف المذكور.
والأيمان ثلاث: - يمين تُكَفَّر، كيمينك ألا تفعل الشيء ثم تفعله.
- والثانية: يمين لا تكفر لشدتها، وجرمها عظيم، وهو أن تتعمد فتحلف على الشيء وأنت تعلم أنك كاذب.
1854
- ويمين لا تكفر، ولا جرم لها، وهي اللغو.
وقوله: ﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾: الهاء تعود على ما في قوله ﴿بِمَا عَقَّدتُّمُ﴾، فمعناه: " فكفارة ما عقدتم منها إطعام عشرة مساكين ".
وقيل: الهاء تعود على " اللغو "، وفيه ذكرت الكفارة، وأما ما عقدتم يمينه فلا كفارة له وهو أعظم من أن يكفر.
والأحسن أن تعود الهاء على (ما): لأن اللغو في اللغة: المطرح، (ولو) كان اللغو يكفر لم يكن مطرحاً. وقيل المعنى: فكفارة " إثمه ".
والإطعام: أن تطعم لكل مسكين مداً في قول مالك وغيره. وقيل: تطعم
1855
لكل مِسْْكين صاعاً.
ومعنى ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ أي: من أعدل ذلك، قيل: الخبز والسمن.
وقيل: الخبز والتمر. و [قيل]: الخبز و [الزيت] وقيل: المعنى: من أوسط ذلك في الشبع: / إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين، وإن كان ممن يقوتهم، قوت المساكين.
وروي عن عاصم من طريق الشموني عن أبي بكر (أوسط)
1856
بالصاد.
قال مالك: إن غذاهم وعشاهم أجزأه، ولا يجزيه قيمة الطعام عند الشافعي، وهو قياس مذهب مالك، وأجازه بعض العراقيين، ولا يعطي إلا مسلماً.
ولا يجزيه إلا مؤمنة إن أعتق. ولو أعتق مولوداً أو مرَضعاً من قِصَر النفقة أجزأه عند مالك.
[﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾ أي: إن لم يجد الإطعام ولا العتق والكسوة فعليه
1857
صيام ثلاثة أيام، ولا يصوم إلا عند عدم الإطعام أو العتق. وفي قراءة ابن مسعود (فَصِيَامُ ثَلاثةِ (أَيَّامٍ) مُتَتَابعاتٍ).
والتفريق عند مالك يجوز في كفارة اليمين، وهو قول الشافعي وغيره. والصوم للعبد أحسن وإن أذن له سيده بالعتق والإطعام، ولم يُجِز له جماعة إلا الصوم، واختلف فيه قول مالك. والكفارة قبل الحنث جائزة، وبعده أحسن.
وقد قيل: لا تجزي قبله.
1858
وروي عن النبي عليه السلام: " كَفِّر عَن يمينك و [أْتِ] الذي هو خير ".
وقد بدأ تعالى ذكره في هذه الآية بالتخفيف، ثم أتى بالأشد بعده، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى (بالأخف بعده)، وذلك أن الله جل ذِكره إنما بدأ بالأخف ثم أتى بالأشد على طريق التخيير، فأتى بـ (أوْ) للتخيير، ثم أتى بالأَخف بعد ذلك عند عدم ما وقع فيه التخيير، فقال: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى بالأخف عند عدم الأشد، لا على طريق التخيير في ذلك.
قوله: ﴿ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾: (ذلك) إشارة إلى ما تقدم من الإطعام أو العتق أو الكسوة، أو الصيام عند عدم الثلاثة، ومعنى ﴿كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾ أي: ستر إثم
1859
أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم وأنتم قد عقدتم الأيمان.
﴿واحفظوا أَيْمَانَكُمْ﴾ أي: احفظوها أن تحنثوا، ولا تكفروا.
﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ﴾: أي: كما يبين لكم الكفارة في أيمانكم، يبين الله لكم آياته، أي: علاماته، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (أي تشكرون) على هدايته لكم وبيانه لكم.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ الآية.
أخبر الله تعالى الذين أرادوا التحريم على أنفسهم - بعد أن نهاهم عن التحريم - أن الخمر والميسر - وهو الذي يتياسرونه -، والأنصاب - وهي التي يذبحون عندها -، والأزلام التي يقتسمون بها ﴿رِجْسٌ﴾ أي: إثم ونتن، ﴿مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ أي: مما زيَّنه الشيطان لكم وحسنه في أعينكم، [﴿فاجتنبوه﴾] أي: فاتركوه وارفضوه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
1860
والميسر: القمار. وسئل القاسم بن محمد عن الشطرنج والنرد، (فقال): هو ميسر، وقال [كل ما] صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.
قال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار هو ما يتخاطر الناس عليه.
قال الأصمعي: الميسر كان في الجزور خاصة، كانوا يقتسمونها على
1861
ثمانية وعشرين سهماً. وقال الشيباني: على عشرة أسهم. ثم يلقون القداح ويتقامرون على مقاديرها.
" والأنصاب: حجارة كانوا يعبدونها في الجاهلية، " والأزلام: القداح ".
والرجس: كل عمل يقبح فعله، (وهو) النتن.
(و) قوله ﴿فاجتنبوه﴾: الهاء تعود على " الرجس ". وقيل: تعود على " الخمر ". / وقيل: المعنى: فاجتنبوا هذا الفعل. وقيل: المعنى: فاجتنبوا ما ذكر.
وذكر ابن المنكدر أن النبي عليه السلام قال: " مَن شَربَ الخمرَ ثُمّ لم يسكر، أَعْرَضَ
1862
اللهُ عَنه أربعين ليلةً، وإن أسكر لم يَقبَل اللهُ منه صَرْفاً ولا عَدلاً أربعين ليلة، فإن مات فيها، مات كعابد الأوثان، وكان حقاً على الله أن يَسْقِيَه يوم القيامة من طينة الخَبال. قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عُصارة أهل النار: القيح والدم ".
قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة﴾ الآية.
(المعنى): إنما يريد الشيطان بكم شرب الخمر ليوقع بينكم العداوة والبغضاء ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله﴾ أي: يصدكم بغلبة الخمر والميسر عليكم عن ذكر الله وعن الصلاة، ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ أي: عن شرب الخمر.
ويقال: إن عمر ذكر لرسول الله مكروه عاقبة الخمر، فأنزل الله تحريمها.
وروي أنه قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في " البقرة ": ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ [البقرة: ٢١٩] الآية، فقُرِئت على عمر فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في " النساء ": ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣] الآية، فكان النبي يقول إذا
1863
حضرت الصلاة: فلا يَقْرَبَن الصلاةَ سكران، (ودعي) عمر فقرئت عليه، فقال: اللهمَ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في " المائدة ": ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ الآية [إلى) ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾، فقال عمر: انتهينا، انتهينا. وقيل: نزلت بسبب سعد بن أبي وقاص [لاحى] رجلاً على شراب فضربه بلَحْيَيْ جَمل ففزر أنفه فنزل ذلك.
وكان الرجل في الجاهلية يقامر عن أهله وماله حتى يقعد حزيناً سليباً، ينظر إلى ما له في يد غيره، فيورث ذلك عداوة بينهم. فنهى الله عن ذلك، وهو الميسر.
1864
وقال مصعب بن سعد: صنع رجل (من الأنصار طعاماً)، فدعاني وأبي - سعداً - فشربنا الخمر قبل أن تحرم فانتثينا. فتفاخرنا، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَي جزور فضرب به أنف سعد ففزره، فنزل: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ الآية.
وقال ابن عباس: شرِب حيّان من الأنصار الخمر حتى سكروا، فلما سكروا جرح بعضهم بعضاً، فلما صَحَوْا، جعل (يرى الرجل) الأثر في وجهه ورأسه ويقول: فعل هذا بي أخي فلان!، وكانوا إخوة لا ضغائن بينهم، فصارت بينهم ضغائن، فنزلت الآية بالتحريم.
قوله: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا﴾ الآية.
المعنى: وأطيعوا الله تعالى في اجتنابكم ما تقدم فيه النهي عن الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام، وأطيعوا الرسول فيما بلغ إليكم. ﴿واحذروا﴾ أي: احذروا الخلاف لما أمرتم به، ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ (أي) إن " لَمْ " تفعلوا ما أمرتم به، ﴿فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين﴾ أي: ليس هو بمسيطر عليكم، إنما عليه أن يبلغكم ما أرسل به، ويوضحه لكم، والعقاب على الله المرسِل، ليس على المرسَل وهذا تهدد لمن خالف (أمر) الله.
قوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ﴾ الآية.
المعنى: في قول ابن عباس وغيره -: أن المؤمنين قالوا لما نزل تحريم الخمر: (يا رسول) الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا﴾ الآية.
﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ أي: اتقى اللهَ الأحياء منهم في اجتناب ما حرم عليهم، ﴿وَآمَنُواْ﴾
1866
أي: وصدقوا الله ورسوله فيما أمرهم به، ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أي: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله، / ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ﴾ أي: " وَ " اتقوا محارمه وصدقوا فثبتوا على ذلك، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ﴾ أي: اتقوا الله، فدعاهم تقواهم إلى الإحسان، وهو العمل بما (لم) يفرض عليهم: من الخير والنوافل. فالاتقاء الأول: اتقاء تلقي أمر الله وقبوله، والثاني: الاتقاء بالثبات على الاتقاء الأول وترك التبديل، والاتقاء الثالث: الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل.
فهذه الآية نزلت - في قول الجميع - فيمن مات منهم وهو يشربها، أُعلِموا أنه لا جناح عليهم. وقال جابر بن عبد الله: صبح ناس غداة أُحد الخمر فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء، وذلك قبل تحريمها، يريد: فنزلت الآية فيهم.
1867
وقيل: نزلت فيما أكلوا من الحرام بالميسر و (ما شربوا) من الخمر فأُعلِموا أنه لا جناح عليهم في ذلك إذا ما اتقوا فيما يستقبلون.
وقيل: معنى ﴿إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ﴾ أي: اتقوا شرب الخمر، وآمنوا بتحريمها " ﴿ثُمَّ (اتَّقَواْ وَآمَنُواْ)﴾ أي: اتقوا الكبائر وازدادوا إيماناً، " ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ " أي: اتقوا الصغائر، ﴿وَّأَحْسَنُواْ﴾ بالنوافل.
وقيل: ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ الكفر، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ الكبائر، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ الصغائر.
وقيل: [معنى هذا: ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ فيما مضى: على إضمار " كان " مع " إذا "، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ في الحال التي هم فيها، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ فيما يستقبلون.
(وقيل: ﴿......﴾ ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾: في الحال التي هم فيها [﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ فيما
1868
يستقبلون] ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ أي: ماتوا على ذلك وهم محسنون.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد﴾ الآية.
أي: يا أيها الذين صدقوا. ليختبرنكم الله في الطاعة والمعصية بشيء من الصيد، أي: ببعضه، لأنه صيد البر خاصة، ف (مِن) للتبعيض. وقيل: هي لبيان الجنس.
قوله ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ﴾ يعني ما يؤخذ باليد من البيض والفراخ.
﴿وَرِمَاحُكُمْ﴾ كالحمير والبقر والظبا، وما يصاد بالنبل، امتحن الله عباده في حال إحرامهم لعمرتهم وحجهم، فلا [يقربوه].
﴿لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب﴾ أي: كي يعلم من يتبع أمره ممن لا يتبع، ﴿بالغيب﴾: في
الدنيا بحيث لا يراه أحد، والمعنى: ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه بحيث لا يراه أحد.
وقيل: ليعلم ذلك علم معاينة يقع عليها الجزاء، وقد علمه غيباً لا إله إلا هو عَلاَّم الغيوب.
قوله: ﴿فَمَنِ اعتدى﴾ أي: فمن تجاوز حد لله في الصيد بعد تحريمه عليه ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: موجع.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ الآية.
﴿هَدْياً﴾ حال من الهاء في (به)، ويجوز نصبه على البيان، ويجوز نصبه على المصدر.
و ﴿بَالِغَ الكعبة﴾ نعته، والتقدير فيه: التنوين. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا، لا
1870
تقتلوا صيد البر وأنتم حرم لحج أو عمرة.
﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً﴾ (أي) ناسياً لإحرامه، معتمداً لقتل الصيد، فإن كان ذاكراً لإحرامه وتحريمه، فمجاهد وابن زيد يقولان: لا حكم عليه و [نقمة] الله منه أعظم. ومن الناس ما قال: لا حج له.
ومن قتل الصيد خطأ، فعليه ما على المتعمد عند مالك وجماعة غيره.
وقيل: لا شيء عليه، إنما أتى النص في المتعمد. وقال الزهري: نص الله
1871
على المتعمد وأتت السنة بما على المخطيء.
(قال أبو محمد): (وإيجاب الجزاء على المخطئ) يحتاج إلى نظر، وقد أفردنا لذلك كتاباً لاتساع الكلام في ذلك، إذ ظاهر النص يعطي ألا شيء على المخطئ، وإيجاب الجزاء على المخطئ [أولى] لدخوله تحت عموم الابتلاء في قوله ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله﴾ [المائدة: ٩٤]، ولدخوله تحت عموم النهي في قوله: ﴿لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، ولدخوله تحت عموم التحريم في قوله / ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ [المائدة: ٩٦]، ولأنه عمل أهل المدينة، ولِمَا قال ابن شهاب: إنه السنة.
ومعنى ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم﴾ هو (أن ينظر) إلى أشبه الأشياء به، فيجزيه
1872
(به) ويهديه إلى الكعبة.
فمن أصاب نعامة فعليه بَدَنَة، وفي بيض النعامة عُشر ثَمن البدنة، هذا قول مالك، كما يكون في جنين الحرة (غُرَّةٌ: عَبْدٌ أو) وليدة، وقيمة الغرة خمسون ديناراً وذلك عُشر دية الأم.
وفي الظبي شاة. وفي الأرنب - عند مالك - قيمتها من طعام، وكذلك ما أشبه الأرنب، مثل اليربوع وشبهه، مثل الضب: فإن شاء أطعم كل مسكين مداً، وإن شاء صام لكل مُدٍّ يَوْماً، هو بالخيار.
وفي الحَمَام - عند مالك شاة. وفي حمام الحِلّ حكومة عند مالك، وليس كحمام الحرم، وكره مالك أن يذبح الأهلي وهو محرم.
1873
وعلى كل واحد من الجماعة - إذا اشتركوا في قتل صيد - جزاء عند مالك.
وصيد الحرم حرام على الحلال عند جميع العلماء.
ورخص مالك في إدخال الصيد من الحل إلى الحرم. ومنعه غيره، وكرهه ناس.
وإذا نتف المحرمُ من الطيرِ ما يَضُرُّ به ويخاف منه هلاكه، فعليه جزاؤه تامّاً عند مالك. وإذا أحرم وفي يده صيد فعليه أن يرسله. ويأكل المحرم لحم
1874
الصيد إلا ما اصطيد من أجله (عند مالك، فإن أكل منه وقد صيد من أجله) فعليه جزاء ذلك الصيد عند مالك.
وكفارة الصيد في قتل الصيد ككفارة الحر.
ولا يكون الجزاء إلا بمنى أو بمكة.
ويحكم في الجزاء عدلان يجتهدان. ولا يحكمان في ذلك من الإبل والبقر والغنم إلا بما يجوز في الضحايا. وإذا اختلفَ الحكمان في الجزاء، ابتدأ الحكم غيرهما. ولهما أن يحكما بغير أمر الإمام، وله أن يرجع إلى غيرهما.
1875
وعلى من قتل صيد الجزاء أن يكفر بإطعام مساكين، أو يصوم لكل مُدٍّ يَوْماً، فللحكمين أن يُقوِّما الجزاء بطعام، فإن شاء أتى بالجزاء، وإن شاء أطعم الطعام: مداً لكل مسكين، وهو قوله ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ وإن شاء صام عن كلّ مُدٍّ يَوْماً، وهو قوله: ﴿أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً﴾، هو مخير في ذلك.
ولا يطعم بعضاً ويصوم بعضاً، بل يطعم الكل أو يصوم عن الكل.
وقيل: يصوم عن كل نصف صاع يوماً، وهو قول من قال: يعطي
1876
الطعام، نصف صاع لكل مسكين. والعَدْل: المِثْلُ، والعِدْلُ (نصف) الحمل.
وقال الكسائي: هما لغتان في المثل.
وقرأ طلحة بن مصرف والجحدري: ﴿أَو عَدْلُ﴾ بالكسر، وأنكر ذلك جماعة من أهل اللغة، لأن العِدل (نصف) الحمل.
1877
وقال الكسائي: عَدل الشيء: مثله من غير جنسه، وعِدله: مثله من جنسه.
وقوله: ﴿عَفَا الله عَمَّا سَلَف﴾ أي: عفا لكم عما سلف لكم في جاهليتكم من قتل الصيد وأنتم حرم، ولكن من عاد فقتله - وهو محرم - فالله ينتقم منه في الآخرة وعليه الكفارة. وقد ذكر ابن عباس أن المعنى: من عاد مرة أخرى فقتل متعمداً، فلا حكم عليه، والله (ينتقم منه)، ومن عاد خطأ حكم عليه.
1878
وقال عكرمة: لا يحكم عليه، ذلك إلى الله.
وقيل: المعنى عفا (الله) لكم عن قتلكم الصيد قبل تحريمه عليكم، ومن عاد لقتله بعد تحريمه عليه. عالماً بقتله وبِإِحْرامِه، فالله ينتقم منه، ولا كفارة عليه.
﴿والله عَزِيزٌ﴾ / (أي): ممتنع، ﴿ذُو انتقام﴾ أي: ذو عقوبة لمن عصاه.
قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ﴾ الآية.
المعنى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ - وأنتم حرم - ﴿صَيْدُ البحر﴾ وهو حيتانه.
و ﴿مَتَاعاً﴾ مصدر، والمعنى: متعتم به متاعاً، لأن المعنى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾: متعتم بصيد البحر متاعاً.
1879
وكل نهر تسميه العرب بحراً، فالأنهار صيدها داخل في هذا، حلال بإجماع.
ومعنى ﴿وَطَعَامُهُ﴾ (أي): ما قُذِفَ ميتاً. وقيل: طعامه ما كلن مملحاً، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقيل: طعامه ما جاء به الموج. وقيل: صيده أن يصطادوه، وطعامه أن يأكلوه، فذلك حلال لهم، وهذا قول حسن، أباح الله الصيد واللحم. وقرأ ابن عباس: (وطُعْمُهُ) بضم الطاء من غير ألف.
ولم يرَ في الحوت يُطرح في النار حياً بأساً. وكرهه غيره. ودواب
1880
البحر كلها - مثل الحيتان حلال للمحرم، وتؤكل الميتة منها. ولم يُجز جماعة أكل خنزير الماء وإنسان الماء للمحرم ولغيره.
وليس في شيء يخرج من البحر ذكاة. وليس طير الماء من صيد البحر، (لأنها تعيش) في البر.
قوله: ﴿مَتَاعاً لَّكُمْ﴾: (أي منفعة لكم)، ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ أي: يأكل منها السيارةُ في أسفارهم، وهو المملح.
قوله: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ أي: حرم الله عليكم أن تصطادوا من البر ما
1881
دمتم محرمين.
وأجاز قوم للمحرم أن يشتري الصيد المذبوح من ماله، لأن النهي إنما وقع على صيده.
﴿واتقوا الله﴾ أي: احذروه فيما أمركم به، فإنه إليه تحشرون فيثيبكم بأعمالكم.
قوله: ﴿جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام﴾ الآية.
إنما سميت الكعبة كعبة لتربيعها، قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: لتربيع أعلاها.
ومعنى ﴿قياما﴾ أي: جعلها بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عن ظلم بعضهم بعضاً، وقيل: جعلها مصالح لأمورهم، كالرئيس الذي يصلح أمر من يتبعه، وكذلك ﴿الهدي والقلائد﴾ جعل ذلك أيضاً قياماً للناس.
والناس - هنا -: مَن كان في الجاهلية، كان الرجل لا يخاف إذا دخل في الحرَم
1882
ولو لَقِي من قتل أباه أو أخاه، لم يخف الفاعل في الحرَم، وإذا لَقِي الهدي لم يَعرِضْ له القاطع ولا الجائع، وكان الرجل إذا أراد الحج تقلد بقلادة من شعر، وإذا رجع تقلد بقلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يعرض له ولا يؤذى حتى يصل (إلى) أهله.
وقيل: الناس هنا: جميع الناس.
قال ابن عباس: قياماً لدينهم ومَعْلَماً لحجهم. قال ابن زيد: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك يدفع عن بعضهم (ظلم بعض)، فجعل الله لهم البيت الحرام قياماً، يدفع بعضهم عن بعض، وكذلك الشهر الحرام لا يؤذى أحد في الحرم، ولا في الشهر الحرام وإنْ كان ذا جناية، وهذا (كله منسوخ) بالحدود (و) بقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، لا يمنع الحرم من الاقتصاص من جان، ولا من إقامة حد على من وجب عليه الحد، وهذا إجماع.
1883
وقيل ﴿قياما﴾ يأتمون بها ويقومون بشرائعها. وقيل: (معنى) ﴿قياما لِّلنَّاسِ﴾: أي: بالحج يَسْلَمُون من استعجال العقوبات.
قال بعض العلماء لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما أنظِروا.
قوله: ﴿ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ الآية.
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم من قوله: ﴿جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام﴾ الآية، فالمعنى: ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما تحدثون وما تصنعون، كما يعلم ما في السموات و ﴿مَا فِي الأرض﴾، ولتعلموا أن الله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء من أموركم.
قال المبرد: كانت الجاهلية تعظم البيت الحرام و ﴿الأشهر الحرم﴾، كانوا يُسَمُّون رجباً: الاصم "، لأنه (لا) يسمع فيه وقع السلاح، فأعلم الله ما يكون منهم من إغارة بعضهم على بعض، فألهمهم (الله) ألا يقاتلوا في الأشهر الحرم، ولا
1884
عند البيت الحرام ولا مَن كان معه القلائد، ثم أعلمهم أن الذي ألهمهم هذا يعلم ما السماوات وما في الأرض.
وفي تكرير الاسم في قوله: ﴿وَأَنَّ الله﴾، ولم يقل: " وأنه "، معنى التعظيم.
قال: ﴿اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ الآية تخويفاً، والمعنى: اعلموا - أيها الناس - أن الله شديد العقاب لمن عصاه، وأنه غفور لذنوب من أطاعه، أي: ساتر لها، رحيم (به).
قوله: ﴿مَّا عَلَى الرسول﴾ الآية.
هذه الآية تحذير من الله لعباده ووعيد، والمعنى: ليس على الرسول إلا أن يبلغ الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ثم إلى الله فعل الثواب بمن أطاع، والعقاب بمن عصى، ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ أي: غير خفي عليه ما تبدون من طاعته ومعصيته، وما تخفون من ذلك.
وقيل: هذا مردود إلى قوله: ﴿مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: ٤١]، وأخبر (الله) تعالى أنه يعلم ما يبدون من ظاهر الإيمان وما يكتمون من الكفر.
قوله: ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد: لا يعتدل الصالح والطالح ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث﴾ أي: لو كثر أهل المعاصي، فإن أهل الطاعة - وإن قَلُّوا - هم أهل رضوان الله. و ﴿الخبيث﴾: المشركون، والطيب: المؤمنون. وهذا خطاب للنبي عليه السلام، (و) يراد به أمته، ودل على ذلك قوله: ﴿فاتقوا الله يا أولي الألباب﴾ أي: فاتقوه فيما أمركم يا أولي العقول واحذروا أن يستفزكم الشيطان بإعجابكم بكثرة المشركين، وتضعف نيتكم بقلة المؤمنين، فإن المؤمن لا يستوي مع المشرك.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ﴾ الآية.
هذه الآية: نزلت في سبب أقوام سألوا النبي مسائل امتحاناً له، فيقول له بعضهم: (من أبي)؟، ويقول بعضهم إذا ضَلَّت ناقته: أين ناقتي؟، فنهى الله عن ذلك.
قال أنس: " سأل الناس النبي حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم وقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينتُ لكم. فألقى الناس ثيابهم على رؤوسهم يبكون، فأنشأ رجل كان إذا لاحى دعي بغير أبيه - فقال: يا رسول الله، من أبي؟، قال: حذافة، فقام عمر فقبّل رِجلَ رسول الله فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، أعوذ بالله من شر الفتن. فقال النبي ﷺ: أما والذي
1887
نفسي بيده: لقد صُوِّرَت مثل (النار والجنة) آنفاً في عُرض هذا الحائط، فلم (أر كاليوم) في الخير والشر. قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة له: ما رأيت ولداً أعقَّ منك قط!، أكنت تأمن أن تكون أمُّك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية، فتفضحها على رؤوس الناس؟، فقال: والله لو ألحقني بعبد / أسود للحقته ".
وقال أبو هريرة: " خرج رسول الله صلى الله عليه - وهو غضبان - حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل (فقال): أين أنا؟ فقال: في النار. و (قام آخر فقال): من أبي؟، قال: (أبوك) حذافة. فقام عمر (وقال): رضينا بالله رباً
1888
وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، فنزلت هذه الآية ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " لما نزلت هذه الآية ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟، فسكت، ثم قالوا: أفي كل عام؟، فسكت، ثم قال: لا ولو قلت " نعم " لوجب، فأنزل (الله) الآية ".
وروي أنه قال " لما كرر عليه السؤال: والذي نفسي بيده، لو قلت: " نعم " لوجبت، (ولو وجبت) عليكم، ما أطعتموه، ولو تركتموه لكفرتم، فأنزل الله ﴿لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ﴾ الآية ".
وروي عنه أنه قال: " لو قلت " (نعم) " لوجبت، و (لو وجبت) ثم تركتم،
1889
لهلكتم، أسكتوا ما سكتَّ عنكم، فإنما هَلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فأنزل الله الآية ".
وهذه القصة فيها ثلاثة فصول من النظم مختلفة:
فمن قوله: ﴿يا أيها﴾ إلى قوله: ﴿تَسُؤْكُمْ﴾: نهى عن السؤال للنبي فيما لا يعنيهم، فهذا فصل.
- والثاني: قوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا﴾ إلى ﴿لَكُمْ﴾، والمعنى: وإن تسألوا عن أشياء أُخَر - غير الأول - تظهر لكم، (لأن) الله قد نهاهم عن السؤال، فكيف (يبيح لهم) ذلك؟ إنما تقديره: وإن تسألوا عن غيرها حين ينزل القرآن تظهر لكم، فيكون الكلام فصلاً ثانياً (مبيناً على حذف) المضاف وهو " غير "، إذ قد امتنع أن يقول لهم: لا تسألوا عن ذلك، وإن تسألوا عنه حين ينزل القرآن يظهر
1890
لكم، فلما امتنع هذا لم يكن بد من تقدير حذف.
والفصل الثالث: قوله: ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ﴾
فهذا سؤال لغير شيء، والسؤال الأول والثاني إنما هما سؤال عن الشيء: ما هو؟ وكيف هو؟، سؤال عن حال.
وعن ابن عباس أنهم سألوا عن البحيرة (والسائبة) والوصيلة والحامي، فأنزل الله الآية ينهى عن السؤال، قال: ألا ترى أن بعده ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] الآية، فهو جواب لمن سأل عنه.
قوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ﴾.
أي: ولكن [إن تسألوا] عنها إذ أنزل القرآن بها، فإنها تظهر لكم، قال تعالى:
1891
﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] فنهاهم أن يسألوا عما لم يُنْزِلْ به كتاباً ولا وحياً.
قوله: ﴿عَفَا الله عَنْهَا﴾ أي: ما لم يكن مذكوراً في حلال ولا حرام، فهو شيء عفا الله عنه، فلا تبحثوا عنه، فإنما هي أشياء حرَّمها الله فلا تنتهكوها، وأشياء أحلها فلا تحرموها، وأشياء عفا عنها وسكت عنها، فلا تبحثوا عنها، فلعلها إن ظَهَر لكم حكمها ساءكم ذلك، وإن سألتم عنها إذا نزل القرآن بها ظهرت لكم.
﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: ساتر لذنوبكم، ﴿حَلِيمٌ﴾ عما ترتكبون من مخالفته. ثم أخبر أن قوماً سألوا عنها من قبلنا، فلما فرض عليهم، وبيّن لهم ما سألوا عنه وأعطوا ذلك، كفروا به، وذلك كقوم صالح الذين سألوا الناقة، وقوم عيسى الذين سألوا المائدة فكفروا لما نزلت.
وقيل: المعنى: أنها نزلت فيما سئل النبي بمكة من قولهم: اجعل لنا الصفا ذهباً، فلم يلتفت إلى قولهم صلى الله عليه، فكفروا.
1892
قوله: ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ [وَلاَ سَآئِبَةٍ﴾ الآية.
أي: ما حرم الله ذلك. وقيل: المعنى: ما بحر الله بحيرة]، ولا وصل وصيلة ولا / سيب سائبة، ولا حمى حامياً، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك.
وقد تعلق قوم من الجهلة القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً﴾ [الزخرف: ٣] أنه بمعنى فعلناه، أي: خلقناه، وهذه الآية تظهر جهلهم، وهو قوله: ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ﴾، فإن كان " جعلنا " بمعنى " خلقنا " قد نفى عن نفسه هنا الجعل، فمن خلقها؟ (أَثَمَّ) خالق غير الله؟ ويدل على فساد قولهم: قوله تعالى:
1893
﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين﴾ [القصص: ٥]، فإن كان " جعل " بمعنى " خلق " فلم يكن القوم إذاً موجودين. وقد أخبر عنهم أنهم استضعفوا في الأرض، وقال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ [البقرة: ١٢٤]، فيجب على قولهم أن يكون إبراهيم غير مخلوق في ذلك الوقت وقال: ﴿وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ [الأنفال: ٣٧] فواجب - على قولهم - أن يكون قد ميز الخبيث من الطيب وهو غير موجود، وقال: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات﴾ [النحل: ٥٧] حكاية عن الكفار، (وتراهم) أيها الجهلة القدرية خلقوهم (هم)، إنما سموهم، ويلزمهم أن يكون القرآن خلق مرتين لقوله: ﴿الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ﴾ [الحجر: ٩١]، وقوله: ﴿جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ [الزخرف: ٣]، وهذا أكثر من أن يحصى. والجعل يكون بمعنى التعبير والوصف والتسمية، وقد يكون بمعنى الخلق بدلالةٍ تدل عليه، نحو قوله: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩] أي: وخلق، لكن إذا كانت " جعل " بمعنى " خلق " لم تتعد إلا على مفعول واحد.
1894
(و) روى زيد بن أسلم عن النبي ﷺ أنه قال: " قد عرفت أول من بحر البحيرة، (و) هو رجل من بني مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرم ألبانهما (وظهورهما وقال: هاتان لله: ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما) وركب ظهورهما، قال: فلقد رَأيتُه في النار، يُؤذي أهل النار (ريحُ قُصبِه) ".
والبحيرة: " فَعِيلة " بمعنى " مفعولة "، وهي الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة.
والسائبة: " فاعلة " بمعنى " مَفعِلة "، كما قيل: راضية بمعنى مَرْضِية، وهي
1895
المُخَلاَّة من المواشي، كانت الجاهلية تفعله ببعض المواشي، فيُحرِّم الانتفاع به على نفسه.
وأما الوصيلة: فإن الأنثى من نعمهم كانت - في الجاهلية - إذا أتت بذكر وأنثى، قيل: " قد وصلت أخاها "، أي: منعته من الذبح، فسموها وصيلة.
وأما الحامي: فهو الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب والانتفاع بسبب تتابع أولاد [تَحدُث] في فِحْلَتِه.
وقال قتادة: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظر إلى البطن الخامس، فإن كان ذكراً أكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء، وإن
1896
كانت أنثى بحروا أذنها - أي: شقوها - وتركت، فلا يشرب لها لبن ولا [تركب]، وكانوا يسيّبون ما شاءوا من أموالهم، فلا يُمنع من ماء ولا كلأ، ولا ينتفع به.
وكانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى البطن السابع، فإن كان ذكراً ذبح، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت ميتة أكله الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت، وإن (كانت ذكراً) وأنثى، قيل: وصلت أخاها فمنعته من الذبح. وكان الحامي هو الفحل إذا ركب من ولده عشرة، / قيل: حمى ظهره، فلا يركب ولا ينتفع به ويطلق.
ويقال: إن الناقة كانت إذا (تتابعت باثنتي عَشْرَةَ أنثى) ليس فيهن ذكر، سيبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها، فما نتجت - بعد ذلك - من أنثى شقَّ أذنها وخلاّها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، كما (فعل)
1897
بأمها، فهي البحيرة ابنة السائبة.
والوصيلة: هي الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، وقالوا: وصلت، فما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله: الذكور والإناث منهم.
والحامي: هو الفحل إذا نتج (له) عشر إناث متتابعات، ليس بينهن ذكر، حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها ولا ينتفع به لغير ذلك. فنفى الله جل ذكره عن نفسه أن يكون سمى شيئاً من ذلك أو صيّره كذلك، فقال: ﴿ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب﴾ أي: يخترقونه.
و ﴿الذين كَفَرُواْ﴾: هم اليهود، والذين ﴿لاَ يَعْقِلُونَ﴾: أهل الأوثان.
1898
وقيل: المراد بذلك أهل الجاهلية الذين سنّوا ذلك، فهم الكفار، والذين لا يعقلون: أتباعهم، أي: لا يعقلون أنه إنما سن لهم ذلك مَن تقدمهم من غير أمر (من) الله فيه، وأنه باطل كذب، وذِكْرُ أهل الكتاب - في هذا - لا معنى له، إذ ليس لهم في هذا صنع ولا سنة، وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب، فهم الذين عنوا بذلك.
وقيل: إنهم لا يعقلون (أن) الشيطان حرمه عليهم وسنَّه لهم.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: " قَد عَرَفْتُ أََوَّلَ مَن سَيَّب السُّيَّب، ونصَّب النُّصُب وغَيَّرَ عَهْدَ إِبراهيمَ: عمرو بنُ لُحَيّ، لقد رأيتُه وإِنَّه لَيَجُرَّ قُصَبه في النار يؤذي أهلَ النار بريحه " القُصْبُ: الأمعاء. روى مالك أيضاً عن زيد بن أسلم عن عطاء أن النبي قال: " قد عرفت
1899
أول من بحر البحائر: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع [آذانهما]، وحرَّم ألبانهما وظهورهما، ثم احتاج فركبهما وشرب ألبانهما، فلقد رأيتُهما وإيّاه في النار، وإنهما لتخبطانه بأخفافهما، وتعضانه بأفواههما " وفي ذلك اختلاف كثير والمعنى متقارب.
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول﴾ الآية.
المعنى: وإذا قيل لهؤلاء الذين قد سموا ما ذكر من البحيرة وغيرها: تعالوا إلى كتاب الله وإلى رسوله ليتبين لكم كذب قولكم فيما سننتم، ﴿قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ﴾ أي: يكفينا ما صنع آباؤنا، ويرضينا من تحليل وتحريم، ثم قال الله تعالى لنبيه: أولو كان - يا محمد - آباء هؤلاء القائلين لا يعلمون شيئاً ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي: ولا يهتدون، جهلوا أنهم يفترون على الله بقيلهم ما كانوا يقولون، أيتبعونهم على فعلهم،
وهذه حالهم في الجهل.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ الآية.
(والمعنى): عليكم أنفسكم [إذا] أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم.
وقال ابن عمر: هذه لأقوام يأتون بعدنا، إن قالوا لم يُقبل منهم، وأما نحن فقد قال رسول الله: ليُبَلِّغ الشاهد / الغائبَ، فكنا نحن الشهودَ وأنتم الغيب.
وحكى جبير بن نفير عن جماعة من أصحاب النبي أنهم قالوا له في هذه الآية: عسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شُحّاً مطاعاً، وهوىً متَّبعاً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يَضرُّك من ضل إذا اهتديت.
وقال ابن مسعود: لمّا يجىء تأويل هذه بعد، إن القرآن أُنزل حيث أُنزل،
1901
منه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن يَنْزِلْن، ومنه آي تأويلهن على عهد النبي، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي بيسير، ومنه آي قد وقع تأويلهن يوم الحساب، فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تُلبَسوا شيعاً، ولم (يَذُق بعضكم) بأس بعض، فأْمُروا بالمعروف وانْهُوا عن المنكر. وإذا اختلفت الأقوال والأهواء، وأُلْبِستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسَه، عند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
وقيل: هي في الكفار، لا يضر المسلمَ كفُر الكافر، عليه نفسه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. وجعلها ابن عباس وغيره عامة، وقال في معناها: إنّ العبد إذا أطاع الله فيما أمر به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده. وقال ابن المسيب وغيره: معناها: لا يضركم مَن ضل بعد أمركم إياه (بالمعروف) ونهيكم عن
1902
المنكر. وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا أيها الناس لا تَغْتَرّوا بقول الله جل وعز ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ فيقول أحدكم: " علي نفسي "، والله، لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتُنْهَوُنَّ عن المنكر [أو] لَيَسْتَعْمِلَنَّ عليكم شراركم فَلَيَسُومُنَّكم سوء العذاب، (وَلَيَدْعُنَّ) الله خيارُكم فلا يستجيب لهم. قال أبو بكر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا رأى الناس المنكر والظالم، فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يَعُمَّهم الله بعقابه.
وقال ابن جبير: معناها: لا يضرُّكُم من كَفَرَ بالله من أهل الكتاب، فإنما عليكم أنفسكم، وليس يضركم كفر الكافر.
1903
(و) قال ابن زيد: كان الرجل إذا أسلم قال له أهل دينه الذي كان عليه: سفَّهتَ آباءك وضللتهم، وفعلت [بآبائك]. كذا وكذا، وكان ينبغي لك أن تنصر [آباءك]، فأنزل الله: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم﴾ الآية، (أي) إنما عليكم أنفسكم، وليس عليكم من ضلالة آبائكم شيء.
وقد قيل: إن ذلك في الأمر، أُمِروا بأنفسهم، وأُعلِموا أنهم لا يضرهم ارتداد من ارتد، ولا كفر من كفر وقيل: الآية منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1904
والاختيار عند أهل المنظر أن يكون المعنى: لا يضرّكم من ضل بعد أمركم إياه بالمعروف ونَهيِكم عن المنكر، وإنما ذلك لأن الله أمر المؤمنين بالقيام بالقسط، وأن يتعاونوا على البر والتقوى: ومن القيام بالقسط: الأخذ على يدي الظالم، ومن التعاون على البر والتقوى: الأمر بالمعروف وليس في ذلك رخصة إلا العجز عن القيام بها. ومعنى ﴿إِذَا اهتديتم﴾: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، فليس يضركم من ضل بعد ذلك.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ [آل عمران: ١٠٤]، وذم اليهود فقال: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: ٧٩] / ولعنهم على تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع أهل العلم على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يجب على الأمراء، ويُعينُ على ذلك المؤمنون إذا احتيج (إليهم)، وبعض الناس يحمله عن بعض: كالجهاد، فهذا إجماع العلماء ويجب على الإنسان - في النظر والقياس - أن يأمر
1905
من ضيع شيئاً من الخير بما يأمر به نفسه، وينهى عن الشر كما ينهى عنه نفسه. وكل شيء وجب لك فعله، وجب عليك الأمر به [أو النهي عنه. والأمر بالمعروف هو النهي عن المنكر]، لأن ترك المنكر معروف وترك المعروف منكر.
قوله: ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ أي: إليه تردون فيحكم بينكم فيما أمرتم به فلم يقبل منكم، أو نهيتهم عنه، فينتقم من المتَعدِّي على محارمه، ويجازي الدال على مرضاته.
قوله: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ الآية.
وهذه الآية - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعراباً! ومعنى وحكماً.
1906
فقوله: ﴿شَهَادَةُ﴾ رفع بالابتداء، و ﴿اثنان﴾ الخبر، والتقدير: فيه شهادة اثنين، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وقيل: التقدير: عدد شهادة بينكم اثنان، ثم حذف، و " ما " محذوفة مع " بينكم "، تقديره: ما بينكم، و [" ما " المحذوفة] إشارة إلى التنازع والتشاجر.
وقيل: ﴿اثنان﴾ رفع بفعلهما، والتقدير: ليكن منكم أن يشهد اثنان.
1907
وقيل: ﴿إِذَا حَضَرَ﴾ خبر الشهادة: لأنها مستأنفة ليست واقعة لكل الخلق، و ﴿اثنان﴾ - على هذا - بفعلهما، تقديره أن يشهد اثنان، ودل على ذلك ﴿شَهَادَةُ﴾ المتقدم ذكرها.
قوله: ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ﴾
﴿آخَرَانِ﴾: ارتفعا بفعل مضمر، و ﴿يَقُومَانِ﴾ نعت، و ﴿الأوليان﴾ بدل من ﴿آخَرَانِ﴾ أو من المُضمر في ﴿يَقُومَانِ﴾.
روى اسحاق الأزرق عن أبي بكر عن عاصم (شهادةٌ) بالتنوين، (بينكم) بالنصب، وهي مروية عن الأعرج.
1908
ورُوي عن أبي عبد الرحمن المقريُ ﴿شَهَادَةَ﴾ بالنصب والتنوين على: " ليشهد اثنان شهادةً "، فهو مصدر.
(و) روى عبد الله بن مسلم ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ بالنصب فيهما وتنوين (شهادةً) على معنى: لا نكتم الله شهادةً. وقيل تقديره: ولا نكتم شهادة والله، فلما حذفت الواو تعدى الفعل [إلى] المُقسم به فنصب.
1909
وقرأ الشعْبي (شهادةً) بالتنوين، (اللهِ) بالخفض على القسم، أعمل الحرف وهو محذوف، وقد أجازه سيبويه، ومنع ذلك غيره.
وقرأ أبو عبد الرحمن ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ بالمد، جعل ألف الاستفهام عوضاً من حرف القسم، فخفض بها كالحرف.
وقرأ ابن محيصن: [(إنا إذاً لملاثمين)] أدغم النون في اللام، وهو بعيد في العربية، وهو مثل (عادً [لوُلَى] في قراءة نافع، وإنما بعد، لأن اللام حكمها
1910
السكون، والحركة التي عليها إنما هي للهمزة، والمدغم لا يدغم أبداً إلا في متحرك أصلي، وليست اللام بأصلية الحركة.
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ليشهد بينكم - إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم، (أي من المسلمين وقيل: من أهل الموصي. والأول أكثر.
قال الحسن: ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي: من العشيرة، لأن العشيرة أعلم بالرجل وماله وولده، وأجدر ألا ينسوا ما يشهدون عليه، فإن لم يكن من / العشيرة أحد، فآخران من غير العشيرة، فإن شهدا - وهما عدلان - مضت شهادتهما، وإن ارتيب في شهادتهما حبسا بعد صلاة العصر فيقسمان بالله {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى
1911
وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله}، فتمضي شهادتهما إذا حلفا، وإنما استُحلفا، لأنهما وصيان شاهدان، فإن اطلع - بعد ذلك - أنهما شهدا بزور، حلف وليان من الورثة، واستحقا ما حلفا عليه، وهو معنى قوله: ﴿فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً﴾ أي: (حلفاً) زوراً، ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾ أي: مقام الشاهدَيْن، ﴿فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا﴾ أي: لَيمَينُنا أحق من يمينهما، ﴿ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ﴾، أي: يأتي الشاهدان بالشهادة على حقها، ولا يغيّرانها.
وهذا منسوخ عند أكثر العلماء. وقال الحسن: يحلف الشهود، وليس بمنسوخ.
ومن قال: إن معنى ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ من المسلمين، (قال: أو) من غيركم: من غير المسلمين لتصح المحاذاة، لأن نقيض المسلم الكافر. ومن قال: معنى:
1912
﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ من قبيلتكم أو من عشيرتكم أو من أهليكم، قال: معنى: ([من] غيركم): من غير قبيلتكم أو من غير عشيرتكم أو [من] (غير) أهليكم، فهو كله (في المسلمين) لتصح المحاذاة في الطرفين، ثم يقع الاختلاف في النسخ على ما ذكرنا وما نذكر على اختلاف هذه المعاني.
والشهادة (هنا) بمعنى الإشهاد على الوصية، فالاثنان يشهدان على الوصية.
1913
وقيل: الشهادة هنا بمعنى الحضور، أي: ليشهد اثنان، أي: ليحضر اثنان حين الوصية، فهما وصيان لا شاهدان، واستدل الطبري على أنه غير الشهادة التي تؤدي للمشهود له، أنْ قال: إنا لا نعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزاً أن يصرف الشهادة في هذا، وتكون هي التي يقام بها عند الحاكم للمشهود له، (و) في حكم اله باليمين على ذوي العدل [أو] على من قام مقامهما باليمين - يقول: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله﴾ - أَوُضَحُ دليل على أنه ليس يراد به الشهادة التي يقضى بها للمشهود له.
وقوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قال ابن المسيب: معناه: من غيركم، أي: من أهل الكتاب.
وقال ابن جبير: أي: من غير أهل ملتكم، وقال الحسن: معناه: شاهدان من قومكم أو من غير قومكم. وقيل: معناه: من غير حيّكم.
1914
قوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ أي: سافرتم ذاهبين وراجعين، فنزل بكم الموت.
وقوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة﴾ هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى: إذا ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين، وفي الكلام حذف واختصار، تقديره: ودفعتم إليهما ما معكم من مال ثم متم، وذهبا إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما واتهموهما (وادعوا) عليهما خيانة، فإن الحكم في ذلك أن [تحبسوهما]، أي: تتوثقوا منهما بعد الصلاة، وفي الكلام حذف أيضاً وهو ما ذكرنا، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، (أي) لا نحلف كاذبين على عرض نأخذه من حق هؤلاء الورثة، ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ يقسمان / بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً ولو كان الذي نقسم له به ذا قرابة منا.
1915
قال ابن عباس: إنما هذا لمن حضره الموت في سفر ولم يجد مسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر: بالله لم نشتر بشهادتنا ثمناً.
فقوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة﴾ (- على قول ابن عباس - من صفة الآخرين، والمعنى: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة) إن ارتاب الورثة في مال الميت، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، ولو كان ذا قربى.
والصلاة - عند أبي موسى الأشعري وابن جبير - صلاة العصر. وقيل: هي صلاة من صلاة أهل دينهم.
قال السدي وغيره: أمر الله المؤمنين أن يُشهدوا عند الموت في الحضر شاهدْين (من المسلمين) فيما عليه وله، وأمرهم أن يشهدوا في السفر شاهدين
1916
من غير ملتهم إذا عدموا أهل ملتهم، كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً، فإذا دفع إليهما ماله، (فإن أتهمهما) أهل الميت حبسوهما بعد الصلاة وحلفا: بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى، وذلك صلاة أهل ملتهما، ويقولان بعد ذلك: ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإن هذه التركة، (ويخوفهما) الامام قبل اليمين، ف ﴿ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ﴾.
قال ابن زيد: " لا نشتري به ثمناً " لا نأخذ به رشوة.
قال: الهاء في " به " تعود على القسم، وهو اليمين، وقيل: بل تعود على الله جل ذكره.
قوله: ﴿فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً﴾ أي اطلع على أنهما خانا بعد حلفهما، وأنهما حلفا كاذبين في أيمانهما (ما خنا)، فيقوم آخران من ورثة الميت حينئذ
1917
مقامهما، فيحلفان أنه كان كذا وكذا، ويستحقون ما حلفوا عليه.
وقال ابن عباس: يحلفان: إن شهادة الكافرين كانت باطلاً، وأنّا لم نَعْتَدِ في دعوانا، إذا اطلع أنهما كذبا في يمينهما وخانا، فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة المؤمنين.
وقيل: إنما يحلف أولياء الميت إذا أدعى الشاهدان أنه أوصى بما لا يجوز في دين الإسلام، كقولهم: أوصى بماله كله "، فيحْلف اثنان من أولياء الميت: إن صاحبنا (ما كان يرضى بهذا ولا نرضى به، وإنهما) يكذبان. وشهادتنا أحق من شهادتهما.
والأكثر على أن الأولياء يحلفون إذا وجدوا خيانة بعد يمين الكافرين، أو قيل لهم (إنهما) غير مرضيين، فيحلفان: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإنه لقد ترك كذا وكذا، وما أوصى بكذا ونحوه. وقيل: إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما زعما أن الميت أوصى لهما بكذا وكذا، فإن عثر على أنهما كاذبان في ذلك، حلف آخران من أولياء
1918
الميت: لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا.
وجماعة من العلماء يقولون: كان هذا ثم نُسخ.
ولا تجوز شهادة كافر على مسلم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهي منسوخة عندهم. وقيل: ذلك جائز إذا كانت وصية، وهو قول ابن عباس وغيره.
وقيل: الآية كلها / في المسلمين، والآخران من المسلمين، وهو قول الزهري والحسن.
وقيل: الشهادة - هنا - بمعنى الحُضور، وقد تقدم ذكره.
وقيل: الشهادة - هنا بمعنى اليمين، فمعنى " شهادة أحدكم ": أي: يمين
1919
أحدكم أن يحلف اثنان، وهو اختيار الطبري.
فال ابن عباس: كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة للتجارة - نصرانيين -، فخرج معهما رجل من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم فأوصى إليهما، فوصّلا تركته إلى أهله، وحبسا جَاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب، ففقده أولياء الميت السهمي، فأتوا النبي، فاستحلفهما: " ما كتمنا ولا اطلعنا "، ثم عُرفَ الْجامُ بمكة، [فقالوا]: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي
1920
فحلفا بالله إن هذا لَجَامُ السهمي، ولشهادتُنا أحقُّ من شهادتهما وما اعتدينا، إنّا إذاً لمن الظالمين، وأخذا الْجَامَ، ففيهم نزلت الآيات. والروايات في هذا الخبر كثيرة مختلفة الألفاظ، ترجع إلى معان يقرب بعضها من بعض.
وتقدير قراءة من قرأ بضم التاء وقرأ (الأوليان) أنه أراد: فآخران من أهل الميت - الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم منهما - يقومان مقام [المُسْتَحِقَّيِ] الإثم منهما لخيانتهما.
و (من قرأ) بفتح التاء، فتقديره: فآخران يقومان [مقام] المؤتمَنيْن
1921
اللَّذَين عثر على خيانتهما.
قوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ الآية.
المعنى: " واحذروا يوم يجمع الله الرسل. ومعنى ﴿مَاذَآ أُجِبْتُمْ﴾: ما أجابتكم أممكم حين دعوتموهم؟، فذهلت عقول الرسل عليهم السلام لهول اليوم، فقالت: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ﴾، فلما سئلوا في موضع آخر ورجعت إليهم عقولهم أجابوا.
وقيل: المعنى: لا علم لنا، لأنك أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وهو اختيار الطبري، يدل على ذلك أنهم ردوا العلم إليه، فقالوا ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾.
1922
وقال مجاهد: تنزع أفئدتهم فلا يعلمون، ثم ترد إليهم أفئدتهم فيعلمون. وقيل: معناه: لا علم لنا بما عملته أُمَمُنا بعدَنا، ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾.
وقال ابن جريج: المعنى: ماذا عملت أمتكم بعدكم؟، فيقولون: لا علم لنا حقيقة، (أي لا علم لنا) بما غاب عنا، إنك أنت علام الغيوب.
وَيشُدُّ هذا التأويل قول النبي عليه السلام: " يَرِد عليَّ قومٌ الحوضَ [فَيُخْتَلَجون]، فأقول: أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
1923
وقد طُعِن في قول ابن جريج، لأن الله لا يسأل عما غاب عن الأنبياء ولم يُعلمهم به، وقد قيل: إن الرسل لا يفزعون، لانهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والمعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية، ومعنى مسألة الله الرسل [عما] أجيبوا، إنما هو بمعنى التوبيخ لمن أرسلوا إليهم، كما قال: ﴿وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * (بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)﴾ [التكوير: ٨ - ٩]، وإنما تُسأل هي على التوبيخ (لقاتلها).
وقيل: إنما سألهم الله عن السر والعلانية، فرَدّوا الأمر إليه، إذ ليس عندهم إلاّ علمُ الظاهر، والباطن عِلمُه إلى الله، لأنه يعلم الغيب، وهذا القول أحب الأقوال إليّ، لأن سؤاله لهم سؤالاً عاماً يقتضي السؤال عن سر الأمم وعلانيتها، والسر علمه إلى من يعلم / الغيوب، (وهو الله جل ذكره، فأقروا بأنهم لا علم عندهم منه، ورَدّوا
1924
العلم إلى من يعلم الغيب).
قوله: ﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي﴾ الآية.
قرأ ابن محيصن ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾، وكذلك روي عن مجاهد، وهما لغتان.
والمعنى: واحذروا يوم يجمع الله ﴿الرسل﴾، فيقول كذا وكذا، إذ قال الله يا عيسى ابن مريم.
(و) قوله: ﴿(أَيَّدتُّكَ) بِرُوحِ القدس﴾ أي: أعنتك بجبريل. وقوله: ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب﴾ هو الخط، ﴿والحكمة﴾: الفهم بمعاني الكتاب، ﴿والتوراة﴾: وهو ما أنزل على موسى، ﴿والإنجيل﴾، وهو الذي أنزل عليه، ومعنى ﴿بِإِذْنِي﴾: أي: بعوني لك.
1925
ومعنى ﴿تَخْلُقُ﴾ تعمل وقيل: تُقَدِّر.
﴿وَتُبْرِىءُ الأكمه﴾ هو الذي يولد أعمى، وقيل: يكون الأكمه أيضاً (الذي) يعمى بعد البصر.
﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى﴾ أي: تخرجهم أحياء من قبورهم، ﴿بِإِذْنِيِ﴾ أي: بعوني ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ﴾ أي: منعتهم إذ هموا بقتلك لما جئتهم بالبينات، وهذا كله تعديد نِعمِ الله على عيسى. والبينات: الأدلّة المعجزة الدّالّة على نبوتك.
﴿إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾: من قرأ ﴿سِحْرٌ﴾ فمن أجل أن بَعْدَه ﴿مُّبِينٌ﴾، والسحر مما يوصف بالبيان.
1926
ومعنى ﴿سِحْرٌ﴾ أي عمله، وما أظهره سحر. ومن قرأ: (ساحر)، فلأن المذكور في الكلام هو عيسى، وليس مما يوصف بأنه سحر، لأن الإنسان لا يكون سحراً، إنما يكون ساحراً، وكل ساحر لا يسمى بذلك حتى يعمل السحر، وكل من أضيف إليه سحر فهو ساحر فالقراءتان متقاربتان.
والكهل: ابن أربعين سنة، وقيل: ابن أربع وثلاثين سنة.
ومعنى النعمة على عيسى في أن يكلم الناس كهلاً: أنه مد في عمره إلى أن بلغ الكهولية.
قوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين﴾ الآية.
المعنى: واذكر اذ أوحيت إلى الحواريين، ومعنى ﴿أَوْحَيْتُ﴾: قذفت في قلوبهم،
قاله السدي.
وقيل: ألهمتهم، والحواريون: وزراء عيسى.
قوله: ﴿إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ﴾ الآية.
روي عن ابن عامر: (الحواريون) بالتخفيف، استخفافاً، والتشديد الأصل.
ومعنى الآية: أنهم سألوا ذلك ليثبتوا في صدقه، كما قال إبراهيم ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
وقيل: إنهم إنما سألوا (هذا) قبل أن يعلموا أن عيسى يبرئ الأكمه، ويحيي الموتى، فسألوه آية.
1928
ومعنى: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ﴾، أي: ينزل علينا ربك مائدة، كما تقول للرجل: " أتستطيع أن تنهض معي في كذا؟ "، وأنت تعلم أنه مستطيع، وإنما تريد: " أتنهض معي في كذا؟ ".
وقيل: معناه: هل يستجيب لك ربك إن سألته؟.
وقال الحسن: المعنى: هل ربك فاعل بنا ذلك؟. والعرب تقول: " ما أستطيع ذلك "، أي: ما أنا فاعل ذلك، وهو يستطيع.
وقيل: إنهم سألوه قبل أن يكونوا مؤمنين محققين، ثم آمنوا بعد ذلك، ودل على ذلك استعظام عيسى لقولهم، وقوله لهم: ﴿اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
قال ابن شهاب: قال ابن عباس: قال عيسى لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على مَن عمل له!، [ففعلوا ثم قالوا: يا معلّم الخير، قلتَ لنا: " إن أجر العامل على مَن عمل له "]، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً
1929
إلا أطعمنا - حين فرغ - طعاماً، فهل يستطيع ربك أن ينزّل / علينا مائدة من السماء؟ فقال عيسى: ﴿اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، فاعتذروا بقولهم: ﴿نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ أي: بنبوتك، ونعلم صدقك، فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة (أرغفة وسبعة أحوات) حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
قال السدي المعنى: " هل يطيعك ربك إن سألته ".
وقرأه الكسائي بالتاء، ونصب (ربَّك)، ومعناها: أن الحواريين لم يكونوا شاكين، إنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟.
قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكون أن الله قادر على أن ينزل عليهم
1930
مائدة.
(و) روي عنها أنها قالت: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾.
(و) تقدير قراءة الكسائي: هل تستطيع مسألة ربك أن ينزل علينا مائدة.
والمائدة فاعلة، من مادَ فلان القوم يميدهم: إذا أطعمهم. قال أبو عبيدة: (مائدة) من العطاء، وهي " فاعلة " بمعنى مفعولة وقال الزجاج: " مائدة: فاعلة من مادَ يميد: إذا تحرك "، ومنه ماد الرجل في البحر: إذا دار رأسه وقيل:
1931
المائدة: المطعمة، كأنها الطاعمة.
ومعنى قوله: ﴿اتقوا الله﴾ أي: اتقوه أن تَنزِل بكم عقوبة، فإن الله سبحانه لا يعجز عن شيء أراده، فلا تَشُكّوا في قدرته هذا على قراءة الجماعة.
قوله تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا﴾ الآية.
قوله: ﴿تَكُونُ لَنَا﴾: حال بمعنى: كائنة. وقرأ الأعمش (تكُن) جعله للطلب.
وقرأ الجحدري: (لأولانا وأُخرانا).
1932
فالمعنى: نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً لما ولمن بعدنا.
وقيل: معناه: نأكل منها جميعاً، قاله ابن عباس.
(و) روي أن عيسى عليه السلام قام فلبس الشعر، وكان يلبس الصوف بالنهار والشعر بالليل، فلبس جبة من شعر ورداء من شعر، ووضع يمينه على شماله ثم وضعهما على صدره، ثم صف (بين) قدميه، فألصق الكعب بالكعب، وساوى الإبهام بالإبهام، وطأطأ رأسه خاشعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فبكى حتى سالت الدموع على لحيته، فجعلت تقطر على صدره، فقال: ﴿اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها، وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها تهوي مُنْقَضّة وعيسى صلوات الله عليه يبكي ويقول: اللهم اجعلني لك من الشاكرين، إلهي اجعلها رحمة ولا تَجعلها عذاباً، إلهي كم أسألك من العجائب فتعطيني، إلهي أعوذ بك من أن تكون أنزلتها غضباً وزجراً، اللهم اجعلها عافية وسلامة
1933
ولا تجعلها مثلة ولا فتنة حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحاً طيباً، لم يجدوا مثلها قط، وخرّ عيسى ساجداً والحواريون معه، وبلغ اليهود ذلك، فأقبلوا غماً وكيداً ينظرون أمراً عجيباً، وإذا منديلٌ قد غطى السفرة، وجاء عيسى عليه السلام، فجلس وقال: من كان أَجرأَنا وأَوثَقَنا بنفسه، وأحسَنَنا يقيناً عند ربنا، فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر ونأكل ونسمي اسم ربنا ونحمد إلهنا. فقال ﴿الحواريون﴾: أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته /. فئوضاء عيسى وضؤاً جيداً، وصلى صلاة طويلة، ودعا دعاءً كثيراً، وبكى بكاءً طويلاً، ثم قام حتى جلس عند السفرة ثم قال: بسم الله خير الرازقين، وكشف المنديل، فإذا سمكة طرية مشوية، ليس عليها قشورها، وليس لها شوك، وتسيل سيلاً من الدسم، قدم نُضِّد حولها
1934
البقول ما خلا الكراث، وإذا خلٌّ عند رأسها، وملح عند ذنبها، وسبعة أرغفة، على كل واحد منها زيت، وعلى سائرها حَبَّ رمان وتمر، فقال شمعون رأس الحواريين -: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا، (أم من) طعام الآخرة؟، فقال عيسى صلى الله عليه: أو ما نُهيتم عن تفتيش المائدة؟، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا. فقال (شمعون): لا وإله إسرائيل، ما أردت سوءاً (يابن) الصديقة. قال عيسى: نزلت وما عليها من السماء شيء، وليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، هي وما عليها: شيء ابتدعه الله بالقدرة الغالبة، قال (له الله): " كن "، فكان، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمددكم ويزدكم.
قالوا: يا روح الله وكلمته، لو أَرَيْتَنا اليوم آية من هذه الآية. فقال عيسى: احْيَِيْ بإذن الله، فاضطربت
1935
السمكة حية (طرية)، تدور عيناها في رأسها، ولها وبيص تتلمط بفيها كما يتلمط الأسد، وعاد عليها قشورها، ففزع القوم، فقال عيسى: ما لكم تسألون عن أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها، ما أخوفني عليكم (أن تُعذَّبوا)، يا سمكةُ عودي كما كنت بإذن الله، فعادت السمكة مشوية كما كانت، ليس عليها قشور بإذن الله. فقالوا: كن أنت - يا روح الله - الذي يأكل منها أول مرة، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها من طلبها وسألها، ففَرِق الحواريون من أن يكون نزولها سخطاً ومثلة، فلم يأكلوا منها، فدعا عيسى أهل الفاقة والزَّمانة من العميان والمجذومين والبُرْص والمُقْعدين والمجانين وأصحاب الماء الأصفر، فقال لهم:
1936
كلوا من رزق ربكم، وادعوه يزدكم، إنه ربكم واحمدوه يكن المُهْنَأ لكم، والبلاء لغيركم، واذكروا اسم الله وكلوا. ففعلوا وصدروا عن تلك السمكة والأرغفة وهم ألف وثلاث مائة بين رجل وأمرأة، (و) من بين فقير وجائع وزَمِن، فصدروا كلهم شباعاً يَتَجَشَّؤون، فنظر عيسى صلى الله عليه فإذا المائدة كهيئتها إذ نزلت من السماء، فرفعت السفرة وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، فلم يزل غنياً حتى مات، وبرأ كل زَمِن أكل منها، وقدم الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها. ثم كانت تنزل بعد ذلك، فيأتي الناس إليها من كل مكان، فزاحم بعضهم بعضاً: الأغنياء والفقراء والرجال والنساء والأصحاء والمرضى، فلما رأى (ذلك عيسى) جعلها نُوَباً بينهم، فكانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً،
1937
كناقة صالح في الشرب، فأقاموا بذلك أربعين صباحاً تنزل عليهم ضحاً، فلا تزال موضوعة حتى إذا (فاء الفيء) طارت صاعدة ينظرون / إلى ظلها حتى تتوارى عنهم، وأوحى الله تعالى إلى عيسى (أن) اجْعل مائدتي ورزقي في اليتامى والزَّمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك، أعظمت (ذلك) الأغنياء، فادعت القبيح حتى شككوا الناس وشكوا، فوقعت الفتنة في قلوب الشاكين، حتى قال قائلهم: يا مسيح، وإن المائدة لحق؟، (و) إنها لتنزل من عند الله؟، فقال عيسى: ويلكم هلكتم، (فأبشروا) (بالعذاب) إلا أن يرحم الله. فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ شرطي من الكذابين، وقد اشترطت عليهم أن أعذب من كفر منهم بعد
1938
نزولها (عذاباً) لا أعذبه أحداً من العالمين. فقال عيسى: (رب) ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ [المائدة: ١١٨]، فمسخ الله جل ذكره ثلاثة وثلاثين رجلاً منهم خنازير من ليلتهم، فأصبحوا يأكلون العذرة والخشوش، وأصبح الناس يطوفون بعيسى (فزعاً ورهباً من عقوبة الله، وعيسى) يبكي، وأهلوهم يبكون معه، وجاءت الخنازير تسعى على عيسى حين أبصرته، فأطافوا به ينظرون إليه، ويشمّون ريحه، ويسجدون له، وأعينهم تسيل دموعاً لا يستطيعون الكلام، فقام عيسى يناديهم بأسمائهم: " يا فلان "، فيومئ إليه برأسه: " نعم "، فيقول " قد كنت أحذركم عذاب الله، وكأني كنت انظر: إليكم قد مُثّل بكم في غير صوركم.
1939
قال وهب بن منبه: كانت مائدة يجلس عليها أربعة آلاف، فقال رؤساء القوم لقوم من ضعفائهم: إن هؤلاء يُلطّخون علينا ثيابنا، فلو بنينا (لها بناء) يرفعها. فبنوا لها دكاناً، فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء، فلما خالفوا أمر الله رفعها عنهم.
قال ابن عباس: أكل منها آخرهم كما أكل أولهم، فكانت لجميعهم عيداً.
وقوله: ﴿وَآيَةً مِّنْكَْ﴾: (أي آية) على قدرتك، وعلى أني رسولك. ونزلت عليهم وعليها حوت وطعام، فأكلوا (منها)، ثم رفعت لأحداث أحدثوها.
(وقيل): كان في المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام.
1940
قال ابن عباس: نزلت المائدة مرتين وعنه: نزلت مراراً. وقال سلمان كذلك. وقيل: وكانت تنزل يوماً وتغيب يوماً.
قال الحسن: لما قال الله ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ قالوا: لا حاجة لنا إليها فلم تنزل. قال الفراء: نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرتين: غدوة وعشية، فلذلك اتخذوه عيداً.
وعن ابن عباس أنه قال: كانوا يأكلون منها أينما نزلوا إذا شاءوا.
وقال وهب بن منبه: نزلت عليهم قرصة من شعير وأحوات. وقال مجاهد: هو طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا. وقال إسحاق بن عبد الله: نزلت على عيسى
1941
سبعة أرغفة وسبعة أحوات، يأكلون منها متى شاءوا. قال فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً (فرفعت). وروي عن ابن عباس أنه قال: أُنزل على المائدة كل شيء غير اللحم. قال قتادة: لما صنعوا في المائدة ما صنعوا من الخيانة، حُوِّلوا خنازير، وكانوا أمروا ألا يخونوا ولا (يخبئوا ولا يدخروا)، فخانوا وخبؤوا وادخروا.
(و) روى عمار / عن النبي عليه السلام أنه قال: " نزلت المائدة خبزاً ولحماً، وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا و (رفعوا لغد)، فمسخوا قردة وخنازير ".
1942
قال عمار بن ياسر: لم يتم يومهم حتى خانوا وادخروا ورفعوا.
وروي عن عمار بن ياسر أنه قال: كان عليها ثمر من ثمار الجنة.
قال مجاهد: إنما هو مثل ضربه الله لينتهوا عن مسألة النبي، ولم ينزل الله عليهم شيئا. وقيل: لما قيل لهم: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ﴾ الآية، استعفوا، فلم ينزل عليهم شيء، قال ذلك الحسن. وقال مجاهد: أبوا ذلك حين عرض عليهم العذاب.
والذي عليه أكثر العلماء أن الله أنزلها عليهم، لقوله ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾، ولا يجوز
1943
أن يخبر أنه ينزلها، ثم لا ينزلها.
ومعنى ﴿مِّنَ العالمين﴾: من عالمي زمانكم.
وكان نزول المائدة يوم الأحد، فلذلك اتخذوه عيداً.
والعذاب الذي أُوعِدوا به، قيل: هو متأخر إلى الآخرة. وقيل إنَّهم عُجِّل لهم ذلك في الدنيا بأنهم مسخوا قردة وخنازير.
وروي أن المائدة لما نزلت عليهم فرقوا أن تكون عقوبة وسخطاً، فقالوا: يا روح الله، كن أنت أول من يأكل منها، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، ولكن يأكل منها الذين طلبوها. فلم يأكلوا منها خوفاً أن تكون سخطاً عليهم، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والحاجة والزمنى والعمي والبرص، وكل مَن به داء، فقال لهم: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واذكروا اسم الله. فأكلوا حتى شبعوا وهم ألف وثلاث مائة، قاله سليمان.
1944
وقال مقاتل: كانوا خمسين ألفاً، وأفاقوا من كل دائهم.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ الآية.
المعنى: واذكر إذ قال ﴿الله﴾. وجماعة من المفسرين على أن الله أخبرنا أنه قال لعيسى حين رفعه إليه، قاله السدي وغيره.
وقيل: هو خبر من الله عما يكون في القيامة، قال ابن جريج: يقول ذلك لعيسى والناس يسمعون، فيراجعه بالإقرار والعبودية، فيعلم من كان يقول في عيسى ما يقول أنه إنما كان باطلاً.
ودَلّ قوله: ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين﴾ على أنه يوم القيامة. و (إذ) - على هذا - بمعنى " إذا "، ويكون ﴿قَالَ﴾ بمعنى " يقول " كما قال: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ﴾ [سبأ: ٥١] أي:
1945
إذا (فزعوا) وإذ يفزعون.
والمسألة في قوله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ﴾ إنما هي على وجه التوبيخ للذين ادعوا عليه ذلك، وهم بنو إسرائيل.
واختار الطبري قول السدي أنه خبر قد كان حين رفعه الله إليه، لأن (إذ) ﴿فِي﴾ (الأغلب) من كلام العرب - لما مضى - فحَمْلُ الكلام على الاكثر الفاشي أولى، ولأن عيسى لا يشك - هو ولا أحد من الأنبياء - أن الله لا يغفر لمن مات على شركه، فيجوز أن يتوهم على عيسى أنه قال في الآخرة - مجيباً لربه إذ سأله عمن اتخذه (هو) وأمه إلهين ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ [المائدة: ١١٨].
1946
ووجه سؤال الله لعيسى عما قد علم أنه لم يفعله: هو على معنى تنبيه المسؤول على الاستعظام، كقولك للرجل: " أفعلت كذا وكذا؟ " - وأنت تعلم أنه لم يفعله - / ليستعظم فعل ما قد سألته عنه، وقيل: إنما سأله عن ذلك على وجه إعلامه أن أمته قد فعلت ذلك بعده، فأعلمه حالهم بعده.
ومعنى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أي: تعلم غيبي، ولا أعلم غيبك حتى تُطلِعَني عليه، ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ أي: علام الخَفِيّات من الأمور. وقيل: المعنى: تعلم حقيقتي ولا أعلم (غيبك) ولا حقيقتك.
والنفس - في كلام العرب - يجري على ضربين:
على النفس التي بخروجها يكون الموت، كقولك: " خَرَجَت نفسُ فلان " أي: مات.
ويكون جملة الشيء وحقيقته، تقول: " قَتَل فلان نفسَه "، فليس المعنى (أن) الهلاك وقع ببعضه، إنما وقع بذاته كلها وحقيقته. وأجاز بعضهم الوقف على (ما
1947
ليس ﴿لِي﴾، ويكون ﴿بِحَقٍّ﴾ متعلقاً بـ ﴿عَلِمْتَهُ﴾ على معنى: فقد علمته بحق، ورد ذلك بعضهم، لأن التقديم والتأخير لا يجوز إلا بتوقيف أو فيما ﴿لاَ﴾ يمكن إلا ذلك.
والتمام عند نافع وغيره ﴿بِحَقٍّ﴾. وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وقف عليه.
قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ الآية.
قوله: ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾: (أن) مفسرِّة لا موضع لها من الإعراب، بمنزلة (أَنِ امْشوا)، وقيل: هي في موضع نصب على معنى: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله.
قوله: ﴿مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾: (ما) في موضع نصب، ﴿وَ﴾ المعنى: مدة دوامي، فهو ظرفٌ عَمِلَ فيه ﴿شَهِيداً﴾ أي: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾، ﴿مَّا دُمْتُ﴾ أي: مدة دوامي. ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ أي: قبضتني إليك، ﴿كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: الحفيظ عليهم.
قوله: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ الآية.
المعنى: إن تعذبهم بقولهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوبتهم عما قالوا فتستر عليهم، ﴿فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز﴾ في انتقامك، ﴿الحكيم﴾ في أفعالك.
وقال السدي: المعنى: إن تعذبهم فتميتهم على نصرانيتهم فيحق عليهم العذاب
1949
فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصارنية وتهديهم إلى الإسلام، فإنك أنت العزيز الحكيم، قال: هذا قول عيسى في الدنيا.
وقال بعض أهل النظر: يكون هذا من عيسى في القيامة وإنما يقوله على التسليم لأمر الله، وقد أيقن أن الله لا يغفر لكافر، ولكنه سلم الأمر، ولم يكن يعلم ما أحدثوا بعده: أكفروا أم لا.
قال ابن الأنباري: لم يقل هذا عيسى وهو يقدّر أن الله يغفر للنصارى إذا ماتوا مصرين على الكفر، لكنه قاله على جهة تفويض الأمر إلى ربه، وإخراجِهِ نَفْسَه من حالة الاعتراض.
والمعنى: إن غفرت لهم، لم يكن ﴿لِي﴾ و ﴿لاَ﴾ لأحذ الاعتراض عليك من حكمك، وإن عذبتهم (فبعدل) منك، ذلك لكفرهم.
وقيل: الهاء في ﴿تُعَذِّبْهُمْ﴾ للبعض الذين أقاموا على الكفر، والهاء في {(وَ)
1950
إِن تَغْفِرْ لَهُمْ} للبعض الذين تابوا من الكفر. وقيل: الهاءات كلها للنصارى والكفار، والمعنى: إن تعذبهم بتركك إياهم على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوفيقك إيّاهم للإيمان والتوبة فأنت العزيز الحكيم.
قوله: ﴿قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ آية.
حكي عن المبرد أنه منع قراءة من نصب (يوماً)، قال: لأنه (خبر الابتداء) والنصب جائز عند غيره، لأن المعنى: قال الله هذا لعيسى في ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ /، ف (يوم) ظرف للقول، وهو الناصب له.
وقيل: المعنى: هذا الأمر وهذا الشأن في ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ أي: في يوم
1951
القيامة، فيكون العامل في (يوم) المضمر، وهو " الأمر " و " الشأن ".
وقيل: هذا كله مقول يوم القيامة، لقوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ [المائدة: ١٠٩] ولقوله: ﴿قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين﴾.
وقال بعض أهل النظر: لم يقصد عيسى إلى (أن الله) يغفر لمن مات مشركاً، وإنما مقصده: وإن تغفر لهم الحكاية عني (التي) كذبوا علي فيها، والحكاية كذب، ليست بكفر، والكذب جائز أن يغفره ﴿الله﴾.
وهو - عند الكوفيين - بناء: لأنه مضاف إلى غير متمكّن، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الفعل معرب، وإنما يبنى إذا أضيف إلى غير معرب كالماضي و " إذ " وشبه ذلك، والإضافة عند البصريين في هذا إنما هي (إلى المصدر).
1952
وقال أبو اسحاق: حقيقته الحكاية.
ومعنى ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾: الذي كان في الدنيا ينفعهم في القيامة، لأن الآخرة ليست بدار عمل، ولا ينفع أحداً (فيها) ما قال وإنْ أحسن، ولو صدق الكافر (وأقر) بما عمل، وقال: " كفرت " (أو أسأت)، ما نفعه. وإنما الصادق ينفعه صدقه الذي كان منه في الدنيا، (لا) في الآخرة.
قوله: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ أي: لهم في الآخرة - بصدقهم في الدنيا - جنات مخلدين فيها.
﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ إذ وفّى لهم بوعده.
قوله: ﴿للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ الآية.
المعنى: لله - أيّها النصارى - ملك السماوات والأرض وما فيهنّ، دون عيسى
1953
الذي جعلتموه وأمّه إلهين، وعيسى وأمُّه داخلان في المُلك، وهو يقدر على إفناء ذلك كما ابتدعه وأظهرَه قبل أن لم يكن شيئاً.
وفي وصل (قدير) بـ (الحمد ﴿للَّهِ﴾ خمسة أوجه:
الأول: المستعمل عند القراء: أن تكسر للتنوين، وتحذف ألف الوصل وتصل.
الثاني: أن تحذف التنوين لالتقاء الساكنين وتصل.
والثالث: أن تُلقي حركة ألف (الحمد) على التنوين فنفتحه، كأنك تنوي الابتداء بـ (الحمد).
والرابع: أن تسكن الراء وتبتدئ (الحمدُ للهِ) بالقطع، وهذا مستعمل عند القراء أيضاً.
والخامس: أن تنوّن وتقطع ألف (الحمد) لتدل على الانفصال.
1954

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام
"قال أبو محمد": روى أنس بن مالك عن النبى - ﷺ - (أن) سورة الأنعام نزلت ومعها موكب من الملائكة، سد ما بين الخافقيّن، لهم زَجَل بالتسبيح، والأرض لهم ترتج، ورسول الله يقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات.
قال ابن عباس: نزلت بمكة جملةً، ومعها سبعون ألف ملك حولها.
1955
Icon