مكية وهي خمس آيات
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي عليه السلام قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت ﴿ إنّا أعطيناك الكوثر ١ ﴾ ونزلت :﴿ إنّا أنزلناه في ليلة القدر ١ وما أدراك ما ليلة القدر ٢ ليلة القدر خير من ألف شهر ٣ ﴾ يملكها بني أمية، قال القاسم بن الفضل الهمداني فعددنا فإذا هي ألف شهر لا يزيد ولا ينقص١ قال الترمذي : غريب. وقال المزني وابن كثير : منكر جداً، وأخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن المجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس من السلاح في سبيل الله ألف شهر فحجب المسلمون من ذلك، فنزلت ﴿ إنّا أنزلناه في ليلة القدر ١ وما أدراك ما ليلة القدر ٢ ليلة القدر خير من ألف شهر ٣ ﴾ التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله فيها، وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر، فأنزل الله تعالى :﴿ ليلة القدر خير من ألف شهر ٣ ﴾ عملها ذلك الرجل، وروى مالك في الموطأ أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاصر في أعمار أمته لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر، قلت : هذا مرسل ؛ لكنه أصح ما ورد في الباب، وهذا يدل على أن ليلة القدر من خصائص هذه الأمة، وبه جزم ابن حبيب من المالكية، ونقله عن الجمهور صاحب العدة من الشافعية، ويرد عليه حديث أبي ذر عند النسائي حيث قال : قلت : يا رسول الله أيكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت ؟ قال : بل هي باقية. ورجح الحافظ ابن حجر كونها في الأمم الماضية، وقال ما رواه مالك بلاغاً يحتمل التأويل، فلا يدفع الصريح، قلت : ما رواه مالك أصرح في الدلالة من المرفوع في حديث أبي ذر، فإن لفظ المرفوع " بل هي باقية " يحتمل أن يكون معناه بل هي باقية بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن حديث أبي ذر يدفع قول من قال : إنها لم تكن إلا في سنة واحدة في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، وما قيل : إنها رفعت بعده صلى الله عليه وسلم، وكذا يدل على تأييده ما روي عن أبي هريرة قيل : زعموا أن ليلة القدر رفعت، قال : كذب من قال ذلك، رواه عبد الرزاق. قال الراوي : قلت : هي في كل شهر رمضان استقبله، قال : نعم، قوله تعالى :﴿ إنّا أنزلناه في ليلة القدر ﴾.
ﰡ
فائدة :
اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر على نحو من أربعين قولاً، والصحيح أنها ليلة منتقلة في العشر الأواخر من كل رمضان، جمعا بين الأحاديث الصحاح، وإعراضاً عما يخالفها :
منها حديث سلمان الفارسي قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال :( يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر )٥ وقد مر هذا الحديث في سورة البقرة وفضائل رمضان، وهذا الحديث يدفع ما قيل : إنها تكون في رمضان وغيره، كذا ذكر قاضيخان مذهب أبي حنيفة، لا يقال : لعلها كانت في سنة نزول القرآن، أو كما حكى عنه سلمان خاصة في رمضان، فلا يدفع بهذا الحديث، ولا بالآية، لأنا نقول ورد في حديث سليمان نعوت شهر رمضان مطلقا، حيث قال :( جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوع، ومن تطوع فيه كان كمن أدى فريضة في غيره، ومن أدى فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة، وإنه شهر الصبر، وشهر المواساة ) وغير ذلك، وليس شيء من تلك النعوت مختصا برمضان تلك السنة، فكذا هذا.
ومنها حديث عائشة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )٦ رواه مسلم، وقالت :( كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله )٧ متفق عليه. وقالت :( كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه بعده ) متفق عليه. وقالت :( كان يجاور العشر الأواخر من رمضان، ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) رواه البخاري.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال : إني أعتكف العشر الأول التمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر، فمن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فإني أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في الماء والطين من صبيحتها، فالتمسوها في كل وتر، قال : فمطر السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فيضرب عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين )٨ متفق عليه في المعنى، وروى مسلم من حديث أبي سعيد قال اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر، فلما انقضين أمر بالبناء فوقض ثم أنسيت، وإنها في العشر الأواخر، فأمر بالبناء فأعيد، ثم خرج على الناس فقال :( يا أيها الناس إنها كانت أريت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم فجاء رجلان معهما شيطان فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، والتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ) قال : قلت : يا أبا سعيد إنكم أعلم بالعدد منا، قال : أجل، نحن أحق بذلك منكم، قال : التاسعة والسابعة والخامسة، قال : إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنتان وعشرون، فهي التاسعة، وإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، وإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة، وروى الطيالسي عن أبي سعيد مرفوعا : ليلة القدر ( ليلة أربع وعشرين ).
ومنها حديث عبد الله بن أنيس مرفوعا :( أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبيحتها أسجد في الماء والطين، قال : فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الفجر، فانصرف وأثر الماء والطين على جبهته وأنفه )٩ رواه مسلم وأبو داود عنه، قال : قلت : يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها، فمرني بليلة أنزل، فقال : انزل ليلة ثلاث وعشرين، وفي رواية عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر صبيحة إحدى وعشرين، فقال : كم الليلة ؟ قلت : ليل اثنين وعشرين، قال : هي الليلة، أو القابلة ).
ومنها حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من كان متحريا فليتحرها ليلة سبع وعشرين )، رواه أحمد وابن المنذر بمعناه، وحديث جابر بن سمرة نحوه أخرجه الطبراني، وحديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، قال :( ليلة الدرة سبع وعشرين )، رواه أبو داود. بأحاديث ليلة سبع وعشرين أخذ أحمد، وهي رواية عن أبي حنيفة، وبه جزم أبي كعب، وحلف عليه، فقيل لأبي : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالعلامة التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنها - يعني الشمس - تطلع يومئذ لا شعاع لها )١٠ رواه مسلم، وروى هذا القول ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وأناس من الصحابة، ويستدل بهذه المقالة بما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : تذاكرنا ليلة القدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يذكركم حين طلع القمر كأنه شق جفنه )، قال أبو الحسن الفارسي : أي ليلة سابع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة، قال : المراد به كما وقته وذا بالسابع والعشرين، وهذا الاستدلال ضعيف ؛ لأن الظاهر من الحديث أنه كما أن الشمس من صبيحتها تطلع بلا شعاع كذلك القمر في تلك الليلة يطلع بلا شعاع، لا لأجل كمال وقته ؛ بل لمعنى آخر، فهذه الأحاديث لا تدل إلا على كون ليلة القدر تارة ليلة سابع وعشرين، لا على أنها لا تكون إلا تلك الليلة.
ومنها حديث ابن عمر : رأى رجل ليلة القدر ليلة السابعة وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أرى رؤياكم في العشرة الأواخر، فاطلبوها في الوتر فيها ) رواه مسلم.
ومنها حديث ابن عمر مرفوعا :( فليتحرها ليلة السابعة ) رواه عبد الرزاق، وروى أحمد عن ابن عباس نحوه، يعني السابعة بعد العشرين، أو السابعة من الليالي الباقية.
ومنها حديث النعمان بن بشير مرفوعا : سابعة تمضي، أو سابعة تبقى، رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعا : هي في العشرة الأواخر في تسع يمضين، أو سبع يبقين، وفي لفظ : تسع يمضين، رواه البخاري، وفي لفظ للبخاري : التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى.
ومنها حديث عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال : خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، عسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة، أو سبع يبقين ).
ومنها حديث أبي بكر فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( التمسوها - يعني ليلة القدر - في تسع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث، أو آخر ليلة )١١ رواه الترمذي، وروى أحمد من حديث عبادة بن الصامت نحوه.
ومنها حديث ابن عمر أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأى ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى الله عليه وسلم :( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريا فليتحرها في السبع الأواخر ) متفق عليه، وفي رواية أن ناساً أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وأن ناساً أروا في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( التمسوها في السبع الأواخر ).
ومنها عن علي مرفوعا :( إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي ) رواه أحمد، وحديث ابن عمر مرفوعا :( التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم، أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي ) رواه مسلم.
ويظهر من هذه الأحاديث كلها أن ليلة القدر تكون في العشرة الأواخر من رمضان، فتارة تكون ليلة إحدى وعشرين كما ثبت من حديث أبي سعيد نحوه، وتارة تكون ثلاث وعشرين كما ثبت بحديث عبد الله بن أنيس، وتارة ليلة أربع وعشرين التي أنزل فيها القرآن، وتارة ليلة سبع وعشرين كما ظهر على أبي بن كعب بالعلامة، وتارة ليلة تاسع تبقى يعني الثانية والعشرين، أو خامسة تبقى وهي السادسة والعشرين، أو ثلاث تبقين وهي الثامنة والعشرين، أو تسع تمضين وهي التاسعة والعشرين، أو آخر ليلة وهي الثلاثين، فلا
٢ سورة الزمر، الآية: ٦٧..
٣ سورة الواقعة، الآية: ٧٥..
٤ رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عمران بن داود القطان ضعفه يحيى ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد في كتاب: العلم، باب: التاريخ (٩٥٩)..
٥ رواه خزيمة والبيهقي في شعب الإيمان والأصبهاني في الترغيب، قال الحافظ ابن حجر، مداره على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
انظر: كنز العمال (٢٣٧١٤)..
٦ أخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر ومن شهر رمضان (١١٧٥)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: فضل ليلة القدر، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان (٢٠٢٤)، وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان (١١٧٤)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الاعتكاف، باب: من خرج من اعتكافه عند الصبح (٢٠٤٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: الاعتكاف، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها (١١٦٨)..
٩ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: فيمن قال ليلة إحدى وعشرين (١٣٨١)..
١٠ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (٧٦٢)..
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في ليلة القدر (٤٩٧)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (٧٦٠)..