ﰡ
مدنية [إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع] وهي مائة وعشرون آية [نزلت بعد الفتح] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المائدة (٥) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)يقال وفى بالعهد وأوفى به «١» ومنه: والموفون بعهدهم. والعقد: العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، قال الحطيئة:
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمِ | شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا «٢» |
(٢).
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم | شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا |
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم | ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا |
وفيه تورية في غاية الحسن.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
الشعائر جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر، أى جعل شعاراً وعلما للنسك، من مواقف الحج ومرامي الجمار، والمطاف، والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحج يعرف بها من الإحرام، والطواف، والسعى، والحلق، والنحر. والشهر الحرام: شهر الحج. والهدى: ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى اللَّه من النسائك. وهو جمع هدية، كما يقال جدي في جمع جدية السرج «١».
والقلائد: جمع قلادة، وهي ما قلد به الهدى من نعل أو عروة مزادة، أو لحاء شجر «٢»، أو غيره.
وآمّوا المسجد الحرام: قاصدوه، وهم الحجاج والعمار. وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة
(٢). قوله «أو لحاء شجر» أى قشر اه. (ع)
أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن، وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى، كقوله: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا.
والثاني أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى، على معنى:
ولا تحلوا قلائدها فضلا أن تحلوها، كما قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها وَلَا آمِّينَ ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وهو الثواب وَرِضْواناً وأن يرضى عنهم، أى لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم. قيل: هي محكمة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها «١» » وقال الحسن: ليس فيها منسوخ. وعن أبى ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ. وقيل: هي منسوخة. وعن ابن عباس:
كان المسلمون والمشركون يحجون جميعا، فنهى اللَّه المسلمين أن يمنعوا أحدا عن حج البيت بقوله (لا تُحِلُّوا) ثم نزل بعد ذلك (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) وقال مجاهد والشعبي: (لا تُحِلُّوا) نسخ بقوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وفسر ابتغاء الفضل بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأنّ المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على سداد من دينهم، وأنّ الحج يقربهم إلى اللَّه، فوصفهم اللَّه بظنهم. وقرأ عبد اللَّه: ولا آمى البيت الحرام، على الإضافة. وقرأ حميد بن قيس والأعرج: تبتغون، بالتاء على خطاب المؤمنين فَاصْطادُوا إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم، كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا. وقرئ بكسر الفاء. وقيل: هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقرئ: وإذا أحللتم، يقال حلّ المحرم وأحلّ. «جرم» يجرى مجرى «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد واثنين. تقول: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه. ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنبا. وعليه قراءة عبد اللَّه: ولا يجرمنكم بضم الياء، وأوّل المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني (أَنْ تَعْتَدُوا). وأَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة، متعلق بالشنآن بمعنى العلة، والشنآن: شدّة البغض. وقرئ بسكون النون. والمعنى:
ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدّوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه. وقرئ: إن صدوكم، على «إن»
فقلت نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. وأشار الترمذي إلى أن المراد بقولها «والفتح» إذا جاء نصر اللَّه. قال: وقد روى عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما. [.....]
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والفصيد وهو الدم في المباعر «١»، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أى رفع الصوت به لغير اللَّه، وهو قولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه وَالْمُنْخَنِقَةُ التي خنقوها حتى ماتت، أو انخنقت بسبب وَالْمَوْقُوذَةُ التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر حتى ماتت وَالْمُتَرَدِّيَةُ التي تردّت من جبل أو في بئر فماتت وَالنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح وَما أَكَلَ السَّبُعُ بعضه إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب أوداجه. وقرأ عبد اللَّه: والمنطوحة. وفي رواية عن أبى عمرو (السَّبُعُ) بسكون الباء. وقرأ ابن عباس:
وأكيل السبع وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها، تسمى الأنصاب، والنصب واحد. قال الأعشى:
وَذَا النَّصْبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَعْبُدَنَّهُ | لِعَاقِبَةٍ وَاللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا «٢» |
الأمعاء يجعل فيها الدم بعد فصده ويشوى للضيف. وقولهم «لم يحرم | الخ» جار مجرى الأمثال. و «فزد» مبنى للمجهول، أصله «فصد» فسكنت صاده تخفيفا ثم قلبت زايا. انتهى. (ع) |
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه | لعاقبة واللَّه ربك فاعبدا |
وصل على حين العشيات والضحى | ولا تحمد الشيطان واللَّه فاحمدا |
والمراد به هنا الصنم وأحد الحجارة التي كانت منصوبة حول البيت يذبحون لأجلها الهدى يتقربون به إليها. و «ذا» اسم إشارة نصب بمحذوف يفسره المذكور على طريقة الاشتغال. وجعله الجوهري على تقدير: إياك وهذا النصب فهو منصوب على التحذير ويروى لا تنسكنه بدل تعبدنه. ويروى «المثرين» بدل «الشيطان» أى الأغنياء.
ويروى بدل الشطر الثاني «واللَّه ربك فاعبدا» و «لعاقبة» أى لطلب عاقبة. وتقديم المعمول لافادة الحصر ولزيادة الفاء. ويجوز أنه على تقدير: والزم اللَّه ربك فهو نصب على الإغراء، والفاء عاطفة على المقدر. و «اعبدا» مؤكد بالنون المبدلة ألفا للوقف. و «على» بمعنى «في» وروى «سبح» بدل «صل» والمعنى واحد، أى صل الصلوات وقت الضحى والعشيات. واحمدا كاعبدا.
فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره يا لأزلام لتعرف الحال فسقاً؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوم وقال: (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) واعتقاد أنّ إليه طريقاً وإلى استنباطه «٢»، وقوله: أمرنى ربى، ونهاني ربى: افتراء على اللَّه. وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم- فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر الْيَوْمَ لم يرد به يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شابا، وأنت اليوم أشيب، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه «الآن» في قوله:
الآنَ لمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِى | وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِى عَلَى لَجذَمِ «٣» |
(٢). قوله «وإلى استنباطه» لعل بعده سقطا تقديره: سبيلا خطأ وضلال. (ع)
(٣).
الآن لما ابيض مسربتي | وعضضت من نابي على جذم |
حلبت هذا الدهر أشطره | وأتيت ما آتى على علم |
الشعرات التي تنبت وسط الصدر دقيقة مستطيلة إلى أسفل السرة، وهي آخر ما يشيب من الإنسان، فبياضها كناية عن بلوغه غاية الشيب، وأما المسربة بالفتح فقط فهي مخرج الغائط. و «من نابي» حال مقدمة. و «من» تبعيضية. و «الجذم» أصل الشيء، كأن أنيابه تفتتت حتى لم يبق إلا أصولها. ويجوز أن المعنى: أنها سقطت وبقي محلها من اللحم، وهو أيضا كناية عما تقدم توكيد له في المعنى. و «حلبت هذا الدهر» أى جمعت ما فيه من الحوادث وجربتها. و «أشطره» نواحيه وجوانبه فكأنه شبه الزمان بمكان له جوانب على طريق الكناية، وإثبات الأشطر تخييل، وهو نصب على البدلية. والشطر أيضاً: نصف ضرع الناقة: فيه خالفان، وفي النصف الآخر خالفان. فشبه الدهر بناقة على طريق المكنية، وإثبات الأشطر تخييل. وحلبها ترشيح. وهذا أوجه وأقرب من الأول. وأشطره: نصب على البدلية أيضا. ويمكن أن حلب مضاعف للتعدية لا للمبالغة. فالمعنى:
جعلت الدهر يحلب لي أشطره ويجمع لي ما فيها من الغرائب والعجائب. وقيل: المراد بأشطره أنواع الخير والشر.
وأتيت: أى فعلت لأن من يفعل الشيء لا بد من توجه جسمه وقلبه إليه. والمعنى: صارت عادتى أنى أفعل ما أفعله على علم عندي، من طول تجربتى لحوادث الدهر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
فكم من آخذ عن غيره متقن، قد ضيع أيامه وعضّ عند لقاء النحارير أنامله مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علم التكليب، لأنه إلهام من اللَّه ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه.
(٢). هو طرف من حديث أخرجه الحاكم. وسيأتى بتمامه في سورة النجم.
(٣). عاد كلامه قال: «وفي قوله تعلمونهن مما علمكم اللَّه فائدة جليلة... الخ» قال أحمد: وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم لأن تعليمها معناه لغة تحصيل العلم لها بطرقه خلافا لمنكري ذلك.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: هو ذبائحهم. وقيل: هو جميع مطاعمهم. ويستوي في ذلك جميع النصارى. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه استثنى نصارى بنى تغلب وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر «٤»، وبه أخذ الشافعي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس «٥». وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة
(٢). لم أجده.
(٣). حديث سلمان أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن سلمان في الكلب يرسل على الصيد إن أكل ثلثيه فكل الثلث الباقي. وحديث أبى هريرة كذلك رواه ابن أبى شيبة من طريق الشعبي عنه قال «إذا أرسلت كلبك فأكله فكل وإن أكل ثلثه» وحديث سعد ابن أبى وقاص كذلك أخرجه ابن أبى شيبة من رواية بكر بن الأشج عن حميد بن مالك عن سعد في الصيد يرسل عليه الكلب قال: كله وإن لم يبق منه إلا بضعة منه.
(٤). أخرجه ابن أبى شيبة من رواية إبراهيم النخعي عن على. وهو منقطع. وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق موصولا من رواية عبيدة عن على رضى اللَّه عنه.
(٥). أخرجه في الموطأ عن ثور عن ابن عباس بهذا. وهو منقطع. ثور لم يلق ابن عباس. وإنما أخذه عن عكرمة فحذفه مالك. وروى ابن أبى شيبة من طريق عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس. قال «كلوا ذبائح بنى تغلب وتزوجوا نساءهم».
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) فان لقائل أن يقول في تلك الآية: نفى الحكم ليس بحكم، ولا يستطيع ذلك في آية المائدة هذه: لأن الحكم فيها مثبت واللَّه أعلم. ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة، أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أى لا جناح عليكم أيها المسلمون أن تطعموا أهل الكتاب، كما رأيته في كلامه أيضا. [.....]
لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه، فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أى لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: (نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) يعنى إنا كنا قادرين على الإعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأنّ الفعل مسبب عن القدرة والإرادة، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما، ولإيجاز الكلام ونحوه من إقامة المسبب مقام السبب قولهم: كما تدين تدان، عبر عن الفعل المبتدأ الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه. وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة قصدتموها لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له لا محالة، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة «٢» محدث وغير محدث، فما وجهه؟ قلت: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والخلفاء بعده، أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة «٣». وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من توضأ على طهر كتب اللَّه له عشر حسنات «٤». وعنه عليه السلام: أنه كان يتوضأ لكل صلاة «٥». فلما كان يوم الفتح مسح
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم... الخ» قال أحمد: الزمخشري أنكر أن يراد بالمشترك كل واحد من معانيه على الجمع، وقد سبق له إنكار ذلك ومن جوز إرادة جميع المحامل أجاز ذلك في الآية، ومن المجوزين لذلك الشافعي رحمه اللَّه تعالى. وناهيك بإمام الفن وقدوته. هذا إذا وقع البناء على أن صيغة «أفعل» مشتركة بين الوجوب والندب صح تناولها في الآية للفريقين المحدثين والمتطهرين، وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، واللَّه أعلم.
(٣). أخرجه البخاري من رواية عمرو بن عامر عن أنس بلفظ «عند كل» وزاد «قلت: كيف كنتم تصنعون قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث، والترمذي من رواية حميد عن أنس نحوه، وزاد «طاهرا وغير طاهر» ولمسلم من حديث يزيد «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: قد فعلته يا عمر» وسيأتى بعد قليل، ولأبى داود والحاكم وأحمد من حديث أسماء بنت زيد بن الخطاب عن عبد اللَّه بن حنظلة بن الغسيل «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً أو غير طاهر. فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك» وقوله: «وكان الخلفاء بعد النبي صلى اللَّه عليه وسلم يتوضئون لكل صلاة: أخرجه ابن أبى شيبة والطبري من رواية أبى عوانة عن محمد بن سيرين قال: «كان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى اللَّه عنهم يتوضئون لكل صلاة».
(٤). أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما. قال الترمذي: إسناده ضعيف.
(٥). تقدم التنبيه عليه وأن مسلماً أخرجه دون ذكر المسح. وكذلك أخرجه أصحاب السنن.
«عمداً فعلته يا عمر» يعنى بياناً للجواز؟ فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم، لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب. قلت: لا، لأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض، ثم نسخ. (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقاً. فأما دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) لأن الإعسار علة الإنذار. وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً. وكذلك (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله إِلَى الْمَرافِقِ و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه «١». وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ المراد إلصاق المسح بالرأس. وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح، كلاهما ملصق للمسح برأسه. فقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ما روى: أنه مسح على ناصيته «٢».
وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب «٣»، فدل على أن الأرجل مغسولة
(٢). أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة في قصة فيها «ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه» وللطبراني من حديثه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته».
(٣). قال محمود: «قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب... الخ» قال أحمد: ولم يوجه الجر بما يشفى الغليل.
والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما إمساس بالعضو فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم، كقوله:
متقلدا سيفاً ورمحا و | علفتها تبناً وماء باردا |
وعن الحسن: أنه جمع بين الأمرين. وعن الشعبي: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة. وقرأ الحسن:
وأرجلكم، بالرفع بمعنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين. وقرئ (فَاطَّهَّرُوا أى
(٢). أخرجه ابن ماجة وأحمد وابن أبى شيبة وإسحاق وأبو يعلى من رواية أبى إسحاق عن سعيد بن أبى كريب عن جابر وهي عند مسلم من حديث أبى هريرة. وللنسائى في حديث عبد اللَّه بن عمرو المذكور ولأبى يعلى من حديث عائشة. ولسعيد بن منصور من حديث أبى ذر رضى اللَّه عنه
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية أبى قلابة «أن عمر رأى رجلا يتوضأ فبقى في رجله قدر ظفر. فقال: أعد الوضوء» وهو منقطع. ورواه البيهقي موصولا من طريق الثوري عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر «أن عمر رأى رجلا» فذكره بلفظ «لمعة» وقد روى مرفوعا. أخرجه أحمد وأبو داود من رواية خالد بن معدان عن بعض الصحابة «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم رأى رجلا وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وقال الأثرم عن أحمد: إسناده جيد. وقال أبو داود: هو مرسل. وتعقبه ابن دقيق العبد بأن عدم ذكر اسم الصحابي حدثه. وهو موصوف بكثرة الإرسال (تنبيه) قوله «تغليظاً عليه» من كلام صاحب الكشاف. وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بقوله «أعد الوضوء» أى اغسل رجليك من إطلاق الكل وإرادة البعض. وأما الذي في المرفوع فيحتمل أن يكون الأمر المذكور بعد أن أحدث الرجل
(٤). أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية من رواية القاسم عنها دون قوله «بغير خفين» وفي إسناده محمد ابن مهاجر البغدادي، رادعي ابن الجوزي أنه وضعه.
(٥). لم أجده.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهي نعمة الإسلام وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أى عاقدكم به عقداً وثيقاً هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا. وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨ الى ١٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
عدّى يَجْرِمَنَّكُمْ بحرف الاستعلاء مضمنا معنى فعل يتعدّى به، كأنه قيل: ولا يحملنكم. ويجوز أن يكون قوله: (أَنْ تَعْتَدُوا) بمعنى على أن تعتدوا، فحذف مع أن ونحوه قوله عليه السلام:
«من اتبع على مليء فليتبع «١» » لأنه بمعنى أحيل. وقرئ (شَنَآنُ بالسكون. ونظيره في المصادر «ليان» والمعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما «٢» في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى نهاهم أوّلا أن تحملهم البغضاء
(٢). قوله «وتتشفوا بما في قلوبكم» لعله مما. (ع)
وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
روى أن المشركين رأوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا، وذلك بعسفان في غزوة ذى أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم، فقالوا: إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف «١». وروى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أتى بنى قريظة ومعه الشيخان وعلىّ رضى اللَّه عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، اجلس حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في
كان فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علوا بكم قال قائل منهم: فان لهم صلاة أخرى» والباقي نحوه. وأصله في مسلم من رواية أبى الزبير عن جابر «غزونا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم قوما من جهينة فقاتلونا قتالا شديداً فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم لاقتطعناهم فقالوا: إنهم سيأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولى فأخبر جبريل النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وذكر ذلك لنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فلما حضرت العصر صففنا صفين- الحديث» وللترمذي والنسائي من طريق عبد اللَّه بن شقيق عن أبى هريرة نحوه.
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ فمنعها أن تمدّ إليكم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
(٢). قوله «فشام الأعرابى السيف» في الصحاح. شمت السيف أغمدته. وشمته: سللته وهو من الأضداد. (ع)
(٣). متفق عليه من رواية أبى سلمة عن جابر نحوه. وللبخاري من وجه آخر.
والنقيب: الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها، كما قيل له: عريف، لأنه يتعرفها إِنِّي مَعَكُمْ أى ناصركم ومعينكم عَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم ومنعتموهم من أيدى العدوّ. ومنه التعزير، وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد. وقرئ بالتخفيف يقال: عزرت الرجل إذا حطته وكنفته. والتعزير والتأزير من واد واحد. ومنه: لأنصرنك نصراً مؤزراً، أى قويا. وقيل معناه: ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والتوحيد وبعثنا منهم اثنى عشر ملكا يقيمون فيهم العدل ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. واللام في لَئِنْ أَقَمْتُمُ موطئة للقسم وفي لَأُكَفِّرَنَّ جواب له، وهذا الجواب سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعا بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم. فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السبيل. قلت:
أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم، لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى لَعَنَّاهُمْ طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا. وقيل:
مسخناهم. وقيل: ضربنا عليهم الجزية وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم. أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست. وقرأ عبد اللَّه: قسية، أى ردية مغشوشة، من قولهم: درهم قسىّ وهو من القسوة لأنّ الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وصلابة، والقاسي والقاسح- بالحاء- أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة وقرئ: قسية، بكسر القاف للإتباع يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ بيان لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوة أشدّ من الافتراء على اللَّه وتغيير وحيه وَنَسُوا حَظًّا وتركوا نصيبا جزيلا وقسطا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة، يعنى أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو قست قلوبهم وفسدت فحرّفوا التوراة وزالت أشياء منها عن حفظهم. وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه:
قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية «١». وتلا هذه الآية. وقيل تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ | لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مَضَلَّ الْأُصْبُعِ «١» |
[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى، أى مثل ميثاقهم بالإيمان باللَّه والرسل وبأفعال الخير. وأخذنا من النصارى ميثاق أنفسهم بذلك. فإن قلت:
فهلا قيل: من النصارى؟ «٢» قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة اللَّه، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار اللَّه، ثم اختلفوا بعد: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية. أنصارا
أقرين إنك لو رأيت فوارسى | بعمايتين إلى جوانب صلفع |
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن | للغدر خائنة مضل الأصبع |
ويروى مغل الأصبع بالغين وغل وأغل إذا سرق شيئاً تافها، كأنه جعل أصبعه غالا، أى سارقا، للاشارة به.
(٢). قال محمود: «فان قلت: فهلا قيل من النصارى... الخ» قال أحمد: وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فالوجه في ذلك واللَّه أعلم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة اللَّه تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا اللَّه ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة، وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها، واللَّه أعلم.
ومنه الغراء الذي يلصق به بَيْنَهُمُ بين فرق النصارى المختلفين. وقيل: بينهم وبين اليهود.
ونحوه (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً)، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ من نحو صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومن نحو الرجم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية، ولم يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته «٢» مما لا بدّ من بيانه، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يريد القرآن، لكشفه ظلمات الشرك والشك، ولإبانته ما كان خافياً عن الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ من آمن به سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة والنجاة من عذاب اللَّه أو سبل اللَّه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
قولهم إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ معناه بت القول، على أن حقيقة اللَّه هو المسيح لا غير. قيل:
كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل: ما صرّحوا به ولكن مذهبهم يؤدّى إليه، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيى ويميت ويدبر أمر العالم فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ من دعوه إلها من المسيح وأمّه دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد. وأراد بعطف (مَنْ فِي الْأَرْضِ) على: (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما
(٢). قوله «إلا اقتضاء حكم وصفته» لعل هنا سقطاً أو تحريفاً أوجب خفاء المعنى فليحرر. (ع)
[سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
أَبْناءُ اللَّهِ أشياع ابني اللَّه عزير والمسيح «٢»، كما قيل لأشياع أبى خبيب وهو عبد اللَّه بن الزبير «الخبيبون» وكما كان يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء اللَّه. ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه: نحن الملوك. ولذلك قال مؤمن آل فرعون: لكم الملك اليوم فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فإن صحّ أنكم أبناء اللَّه وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياما معدودات على زعمكم. ولو كنتم أبناء اللَّه، لكنتم من جنس الأب، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب. ولو كنتم أحباءه، لما عصيتموه ولما عاقبكم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ من جملة من خلق من البشر يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وهم أهل الطاعة وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وهم العصاة «٣».
[سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
يُبَيِّنُ لَكُمْ إما أن يقدّر المبين وهو الدين والشرائع، وحذفه لظهور ما ورد الرسول
(٢). قال محمود: «معنى قولهم أبناء اللَّه أشياع ابني اللَّه عزير... الخ» قال أحمد: ومنه قول الملائكة لأنهم خواص عباد اللَّه (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ) إلى قوله: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) فأضافوا التقدير إليهم، وفي الحقيقة المقدر اللَّه «وكذلك قول الدابة- لأنها من خواص آيات اللَّه-: (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) فيمن جعله من قول الدابة، واللَّه أعلم.
(٣). قال محمود: «يعنى أهل الطاعة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) قال: يعنى العصاة» قال أحمد رحمه اللَّه: بل مشيئة اللَّه تعالى تسع التائب المنيب، والعاصي المصر إذا كان موحداً. والزمخشري أخرج هذا التفسير على قاعدته المتكررة في غير ما موضع، وهي القطع بوعيد العصاة المصرين الموحدين، وأن المغفرة لهم محال.
ثلاث من بنى إسرائيل، وواحد من العرب: خالد بن سنان العبسي. والمعنى: الامتنان عليهم، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحى أحوج ما يكون إليه، ليهشوا إليه ويعدّوه أعظم نعمة من اللَّه، وفتح باب إلى الرحمة، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن غفلتهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لأنه لم يبعث في أمّة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء «١»
هذا هو الباعث على تفسير الملك بذلك، واللَّه أعلم. وهذا المعنى وإن لم يثبت لكل واحد منهم إلا أنه كان ثابتا لملوكهم وهم منهم، إذ إسرائيل لأب الأقرب يجمعهم، فلما كانت ملوكهم منهم وهم أقرباؤهم وأشياعهم وملتبسون بهم، جاز الامتنان عليهم بهذه الصنيعة، والمعنى مفهوم. وهذا بعينه هو التقرير السالف آنفا في قول اليهود والنصارى (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وما بالعهد من قدم. فان قلت: فلم لم يقل إذ جعلكم أنبياء لأن الأنبياء منهم كما قلت في الملوك؟ قلت: النبوة مزية غير الملك. وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا، ولا كذلك النبوة فان درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك، واللَّه أعلم. [.....]
الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار. وقيل: من له بيت وخدم. وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، وإغراق العدوّ، وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الأمور العظام، وقيل: أراد عالمى زمانهم الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعنى أرض بيت المقدس. وقيل: الطور وما حوله. وقيل:
الشام. وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن. وقيل: سماها اللَّه لإبراهيم ميراثا لولده حين رفع على الجبل، فقيل له. انظر، فلك ما أدرك بصرك، وكان بيت المقدس قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قسمها لكم وسماها، أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً، وقيل: لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر. وقالوا: تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر. ويجوز أن يراد:
لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم: فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة. الجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد قالَ رَجُلانِ هما كالب ويوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ من الذين يخافون اللَّه ويخشونه، كأنه قيل: رجلان من المتقين. ويجوز أن تكون الواو لبنى إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف تقديره: من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون، وهما رجلان منهم أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان فآمنا، قالا لهم: إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم، يشجعانهم على قتالهم.: وقراءة من قرأ: يخافون، بالضم شاهدة له: وكذلك أنعم اللَّه عليهما، كأنه قيل: من الخوفين. وقيل: هو من الإخافة، ومعناه من الذين يخوفون من اللَّه بالتذكرة والموعظة. أو يخوّفهم وعيد اللَّه بالعقاب. فإن قلت: ما محل أنعم اللَّه عليهما؟ قلت: إن انتظم مع قوله «من الذين يخافون» في حكم الوصف لرجلان فمرفوع.
والباب: باب قريتهم لَنْ نَدْخُلَها نفى لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس.
وأَبَداً تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول. وما دامُوا فِيها بيان للأبد فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب «١» ولكن كما تقول: كلمته فذهب يجيبنى، تريد معنى الإرادة والقصد للجواب، كأنهم قالوا: أريدا قتالهم. والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة باللَّه ورسوله وقلة مبالاة بهما واستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية اللَّه عز وجل جهرة. والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم ويحكى أنّ موسى وهرون عليهما السلام خرّا لوجوههما قدّامهم لشدّة ما ورد عليهما، فهموا برجمهما. ولأمر مّا قرن اللَّه اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا).
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
لما عصوه وتمرّدوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق به إلا هرون قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ لنصرة دينك «٢» إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي وهذا من البث والحزن والشكوى إلى اللَّه والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة
(٢). عاد كلامه. قال محمود: «قال رب إنى لا أملك لنصرة دينك إلا نفسي... الخ» قال أحمد: وفي قول موسى عليه الصلاة والسلام ليلة الاسراء لنبينا عليه الصلاة والسلام: إنى جربت بنى إسرائيل وخبرتهم، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فان أمتك لا تطيق ذلك. وتكريره هذا القول مراراً مصداق لما ذكره الزمخشري. وأما إن كان المراد بالرجلين غير يوشع وكالب- وكانا من العماليق الذين خافهم بنو إسرائيل- ويكون معنى يخافون أى يخافهم بنو إسرائيل- فالضمير على هذا يرجع إلى بنى إسرائيل، والعائد محذوف وهو المفعول. فعلى هذا لا شك أن هذين الرجلين ليسا من بنى إسرائيل المكتوب عليهم قتال العمالقة. وإنما عنى موسى عليه السلام: إنى لا أملك من بنى إسرائيل المفروض عليهم القتال أمر أحد إلا نفسي وأخى، واللَّه أعلم.
. وعن على رضى اللَّه عنه أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء «١». ودعا لهما وقال: أين تقعان مما أريد؟ وذكر في إعراب «أخى» وجوه: أن يكون منصوبا عطفا على نفسي أو على الضمير في «إنى»، بمعنى: ولا أملك إلا نفسي «٢» وإن أخى لا يملك إلا نفسه. ومرفوعا عطفاً على محل إن واسمها، كأنه قيل: أنا لا أملك إلا نفسي، وهرون كذلك لا يملك إلا نفسه أو على الضمير في لا أملك. وجاز للفصل. ومجروراً عطفا على الضمير في نفسي، وهو ضعيف لقبح العطف على ضمير المجرور «٣» إلا بتكرير الجار. فإن قلت: أما كان معه الرجلان المذكوران؟
قلت: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره.
ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد: ومن يؤاخينى على دينى فَافْرُقْ فافصل بَيْنَنا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله: (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) على وجه التسبيب، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم «كقوله: (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فَإِنَّها فإن الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونها، فان قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل: فإنها محرمة عليهم. والثاني: أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، فإذا مضت الأربعون كان ما كتب، فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بنى إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء اللَّه ثم قبض صلوات اللَّه عليه. وقيل: لما مات موسى بعث يوشع نبياً، فأخبرهم بأنه نبىّ اللَّه، وأن اللَّه أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبنى إسرائيل. وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) وهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذرّياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها والعامل في الظرف إما (مُحَرَّمَةٌ) وإما (يَتِيهُونَ) ومعنى يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً. والتيه: المفازة التي يتاه فيها. روى أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظللهم
(٢). قوله «بمعنى لا أملك إلا نفسي» لعله بمعنى إنى لا أملك. وعبارة النسفي. أى إنى لا أملك... الخ. (ع)
(٣). قوله «على ضمير المجرور» لعله على الضمير. (ع)
قلت: اختلف في ذلك، فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقابا، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم. وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحا لهما وسلامة، لا عقوبة، كالنار لإبراهيم، وملائكة العذاب. وروى أن هرون مات في التيه، ومات موسى بعده فيه بسنة.
ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر. ومات النقباء في التيه بغتة، إلا كالب ويوشع فَلا تَأْسَ فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم، فقيل: إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب، فلا تحزن ولا تندم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
أو اتل عليهم وأنت محق صادق. وإِذْ قَرَّبا نصب بالنبإ، أى قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت.
ويجوز أن يكون بدلا من النبأ، أى اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف.
والقربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللَّه من نسيكة أو صدقة، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى أى يعطى.
يقال: قرّب صدقة وتقرّب بها، لأن تقرّب مطاوع قرّب: قال الأصمعى: تقربوا قرف القمع «١» فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. فإن قلت: كيف كان قوله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ جوابا لقوله: (لَأَقْتُلَنَّكَ) ؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟
ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى اللَّه التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أنّ اللَّه تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد اللَّه: أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إنى أسمع اللَّه يقول (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه تخرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من اللَّه لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت. قاله مجاهد وغيره إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي. فإن قلت: كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت: المراد بمثل إثمى على الاتساع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره.
هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر، كأنه قال: إنى أريد أن تبوء بمثل إثمى لو بسطت يدي إليك. وقيل (بِإِثْمِي) بإثم قتلى (وَإِثْمِكَ) الذي من أجله لم يتقبل قربانك. فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه «٢» بالنار؟ قلت: كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد.
ألا ترى إلى قوله تعالى وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ وإذا جاز أن يريده اللَّه، جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن «٣». والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب. فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل «٤» والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله:
(٢). قال محمود: «إن قلت: كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه... الخ» قال أحمد: وهذا من دسه للمعتقد الفاسد في بيان كلامه، والفاسد من هذا اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مرادا للَّه تعالى وتلك القبائح بجملتها، فإنها على زعمه واقعة على خلاف المشيئة الربانية، وهذا هو الشرك الخفي فإياك أن تحوم حول شركه والعياذ باللَّه فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إنى لا أريد أن أقتلك فأعاقب، ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين: إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذاً إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل ولم تكن حينئذ مشروعة فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل اللَّه رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة، وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر، وبين أن يختم له بالايمان فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا، أعنى بقي الإثم على قاتله أو حبط عنه إذ ذلك لا ينقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصوداً لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه فدل على أنه أمر لازم تبع لا مقصود. واللَّه أعلم.
(٣). قوله «لأنه لا يريد إلا ما هو حسن» هذا مذهب المعتزلة أما عند أهل السنة، فاللَّه يريد كل كائن حسنا كان أو قبيحا كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(٤). عاد كلامه. قال: «فان قلت: لم جاء الشرط بصيغة الفعل والجزاء باسم الفاعل... الخ» قال أحمد:
وإنما امتاز اسم الفاعل عن الفعل بهذه الخصوصية من حيث أن صيغة الفعل لا تعطى سوى حدوث معناه من الفاعل لا غير. وأما اتصاف الذات به فذاك أمر يعطيه اسم الفاعل. ومن ثم يقولون: قام زيد فهو قائم، فيجعلون اتصافه بالقيام ناشئا عن صدوره منه، ولهذا المعنى قوله تعالى: (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) عدولا عن الفعل الذي هو لنرجمنك إلى الاسم تغليظا. يعنون أنهم يجعلون هذه لثبوتها ووقوعها به كالسمة والعلامة الثابتة، ولا يقتصرون على مجرد إيقاعها به.
(ما أَنَا بِباسِطٍ) ؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع. ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع. وقرأ الحسن: فطاوعت. وفيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أنّ قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك:
حفظت لزيد ماله. وقيل: قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً روى أنه أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بنى آدم. ولما قتله تركه بالعراء لا يدرى ما يصنع به، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث اللَّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. وروى أنّ آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك» وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. لِيُرِيَهُ ليريه اللَّه. أو ليريه الغراب، أى ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز سَوْأَةَ أَخِيهِ عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. والسوأة: الفضيحة لقبحها. قال:
يَا لَقَوْمِ لِلسَّوْأةِ السَّوْآء «١»
أى للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها فَأُوارِيَ بالنصب على جواب الاستفهام. وقرئ بالسكون على: فأنا أوارى. أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه، وتلمذه للغراب، واسوداد لونه وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسبب ذلك وبعلته. وقيل: أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلا. ومنه قوله:
وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالحٍ ذَاتُ بَيْنِهِمْ | قَدم احْتَرَبُوا فِى عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ «٢» |
(٢).
وأهل خباء صالح ذات بينهم | قد احتربوا في عاجل أنا آجله |
فأقبلت في الباغين أسأل عنهم | سؤالك بالأمر الذي أنت جاهله |
وقيل: قطع الطريق وَمَنْ أَحْياها ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك. فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت:
لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على اللَّه وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على اللَّه وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأنّ المتعرّض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها. وعن مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم، وغضب اللَّه، والعذاب العظيم. ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك. وعن الحسن: يا ابن آدم، أرأيت لو قتلت الناس جميعاً أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازى ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سوّلته لك نفسك والشيطان، فكذلك إذا قتلت واحداً بَعْدَ ذلِكَ بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات لَمُسْرِفُونَ يعنى في القتل لا يبالون بعظمته
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
الوسيلة: كل ما يتوسل به أى يتقرّب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى اللَّه تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. وأنشد للبيد:
أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أمْرِهِمْ | أَلَا كُلُّ ذّ لُبٍ إلىَ اللَّهِ وَاسِلُ «٢» |
(٢).
ألا تسألان المرء ماذا يحاول | أنحب فيقضى أم ضلال وباطل |
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم | ألا كل ذى لب إلى اللَّه واسل |
ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل | وكل نعيم لا محالة زائل |
وكل أناس سوف تدخل بينهم | دويهية تصفر منها الأنامل |
وعلى كل فلا ينبغي: وقوله «ما قدر أمرهم» أى ما الذي هم فيه من شئون الدنيا وسرعة فنائها. و «ألا» استفتاحية «كل ذى لب» أى عقل «واسل» إلى اللَّه لا إلى غيره، أى متوسل به ومتلجئ إليه من شر الدنيا وشر من لا يعقل، أو متقرب إليه بما ينفعه. ويروى «بلى كل» وهي أوقع معنى، لأنها رد لدعوى تعميم السابقة. ويروى «واصل» بالصاد، أى صائر أو متوجه بكليته. ويجوز فيه وفي واسل أنهما بمعنى متقرب إلى اللَّه بالطاعة، لا مشتغل بالدنيا الفانية كغيره من الجهال. و «باطل» خبر كل شيء. و «زائل» خبر كل نعيم. و «لا محالة» اعتراض مؤكد.
و «الدويهية» تصغير الداهية وهي المنية، بقرينة ما بعد. وتصغيرها للتعظيم والتهويل، أو للتحقير على زعم الغافلين المتهاونين،
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)لِيَفْتَدُوا بِهِ ليجعلوه فدية لأنفسهم. وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدى به، فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك «١» » و «لو» مع ما في حيزه خبر «أن». فإن قلت: لم وحد الراجع في قوله: (لِيَفْتَدُوا بِهِ) وقد ذكر شيئان؟ قلت: نحو قوله:
فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ «٢»
(٢).
دعاك الهوى والشوق لما ترنحت... هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوبها ورق أصخن لصوتها... فكل لكل مسعد ومجيب
فمن يك أمسى بالمدينة رحله... فانى وقيار بها لغريب
لضابئ بن الحرث البرجمي حين حبسه عثمان بن عفان لما هجا بنى نهشل. والترنح: التمايل. ويروى «ترنمت» أى تغنت بحسن صوتها. وهتفت الحمامة إذا غردت، فهي هتوف أى مفردة. و «بين» ظرف للترنح. و «طروب» مبالغة في الطرب، يوصف به المذكر والمؤنث، كهتوف. وهو فاعل، وهتوف حال وإضافته لا تفيده التعريف في المعنى. ويجوز رفعه على أنه فاعل، وطروب نعته لأنه وصف مضاف فلا تعريف له في اللفظ أيضا.
و «الورق» جمع ورقاء نوع من الحمام. و «أصخن» ملن واستمعن. ويروى «أرعن» ولم أجد في كتب اللغة «رعن» إلا بمعنى زكى ونمى، فلعل معناه نشطن على المجاز. وروى «ومن يك» بالواو. ومرفوع «أمسى» ضمير «من».
وجملة «بالمدينة رحله» خبره، والجملة خبر يكن. ويجوز أن مرفوعه هو رحله، وجواب الشرط محذوف، أى ومن أمسى رحله بالمدينة حسن حاله، بخلاف حالى، فانى غريب لأن رحلي- أى منزلي- ليس فيها، وإنما فيها أنا وفرسي فقط. و «قيار» اسم فرسه. وقيل جمله. وقيل غلامه. وهو مبتدأ أو معطوف على محل اسم «إن» حذف خبره اختصاراً لدلالة المذكور عليه، فالعطف من عطف الجمل أو المفردات. وفيه العطف قبل تمام المعطوف عليه، لكنه على نية التقديم والتأخير، وهو سماعي لا يجوز القياس عليه، ولا يجوز جعل الغريب خبراً عنهما لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، ولا جعله خبرا عن قيار لأن لام الابتداء لا تدخل على الخبر المؤخر. والبيت لفظه خبر، ومعناه إنشاء التحسر والتحزن، لكونه غريباً وحيداً.
بما يستدعيه «لو» من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض. قرأ أبو واقد (أن يخرجوا) بضم الياء من أخرج. ويشهد لقراءة العامّة قوله: (بِخارِجِينَ). وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما يخرجون من النار «١» وقد قال اللَّه تعالى: (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال: ويحك «٢»، اقرأ ما فوقها. هذا للكفار.
فمما لفقته المجبرة «٣» وليس بأول تكاذيبهم وفراهم. وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق ابن عمّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش وأنضاده «٤» من بنى عبد المطلب وهو حبر الأمّة وبحرها ومفسرها، بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا، ويرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
(٢). لم أجده. وقد أنكره صاحب الكشاف وقال: هذا مما لفقه المجبرة. وليس أول تكاذيبهم إلى آخر كلامه
(٣). قوله «فمما لفقته المجبرة «يعنى أهل السنة القائلين بخروج صاحب الكبيرة من النار لأنه مؤمن خلافا للمعتزلة القائلين لا مؤمن ولا كافر بل واسطة. وتحقيق المبحث في علم التوحيد. (ع)
(٤). قوله «وأنضاده» في الصحاح: أنضاد الرجل، أعمامه وأخواله المتقدمون في الشرف. (ع)
وفيما فرض عليكم السارق والسارقة أى حكمهما. ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط، لأنّ المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما، والاسم الموصول يضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأنّ «زيداً فاضربه» أحسن من «زيد فاضربه» (أَيْدِيَهُما) يديهما، ونحوه (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف. وأريد باليدين
وسيبويه يحاشى من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح، واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن. ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل. قال سيبويه- في ترجمة باب الأمر والنهى، بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب-: وملخصها أنه متى بنى الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال: كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب. وأما قوله عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا... ) الآية وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا... ) فان هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثال قوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ثم قال بعد (فِيها أَنْهارٌ) فيها كذا... قلت: يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيها مبنيا على الفعل. وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه، فلا يلزم فيه اختيار النصب. عاد كلامه. قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكر بعده فذكر أخباراً وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار واللَّه أعلم. وكذلك الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) قال في جملة الفرائض (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم جاء (فَاجْلِدُوا) بعد أن مضى فيها الرفع. قلت: يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بنى على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا. عاد كلامه. قال: كما جاء
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وفيما فرض عليكم السارق والسارقة، فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، قلت: يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل، غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعنى أنه قوى بالنسبة إلى الرفع حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فانه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف. وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب فالنصب أرجح من الرفع، حيث ينبنى الاسم على الفعل والرفع متعين، لا أقول أرجح حيث بنى الاسم على كلام متقدم، ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء ويجعل الأمر خبره كما أعربه الزمخشري، فالملخص على هذا أن النصب على وجه واحد وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر قوى بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع وأحدهما قوى والآخر ضعيف، تعين حمل القراءة على القوى كما أعربه سيبويه رضى اللَّه عنه. واللَّه تعالى أعلم.
من سرق من الحرز: والمقطع. الرسغ. وعند الخوارج: المنكب. والمقدار الذي يجب به القطع عشرة دراهم عند أبى حنيفة، وعند مالك والشافعي رحمهما اللَّه ربع دينار. وعن الحسن درهم وفي مواعظه: احذر من قطع يدك في درهم جَزاءً ونَكالًا مفعول لهما فَمَنْ تابَ من السرّاق مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ من بعد سرقته وَأَصْلَحَ أمره بالتفصى عن التبعات فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ويسقط عنه عقاب الآخرة. وأمّا القطع فلا تسقطه التوبة عند ابى حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه مَنْ يَشاءُ من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين. وقيل: يسقط حدّ الحربي إذا سرق بالتوبة، ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا يسقطه عن المسلم «١» : لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). فإن قلت: لم قدّم التعذيب على المغفرة «٢» ؟ قلت: لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤١]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
قرئ (لا يحزنك) بضم الياء. ويسرعون. والمعنى: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين فِي الْكُفْرِ أى في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين، فإنى ناصرك عليهم وكافيك شرّهم. يقال: أسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد، بمعنى: وقع
(٢). قال محمود: «فان قلت لم قدم التعذيب على المغفرة... الخ» قال أحمد: هو مبنى على أن المراد بالمغفور لهم التائبون، وبالمعذبين السراق. ولا يجعل المغفرة تابعة للمشيئة إلا بقيد التوبة، لأن غير التائب على زعمه لا يجوز أن يشاء اللَّه المغفرة له، فلذلك ينزل الإطلاق على المتقدم ذكره. ونحن نعتقد أن المغفرة في حق غير التائب من الموحدين تتبع المشيئة، حتى أن من جملة ما يدخل في عموم قوله: (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) السارق الذي لم يتب. وعلى هذا يكون تقديم التعذيب لأن السياق للوعيد فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
لِلسُّحْتِ كل ما لا يحل كسبه، وهو من- سحته- إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) والربا باب منه. وقرئ (لِلسُّحْتِ) بالتخفيف والتثقيل. والسحت بفتح السين على لفظ المصدر من سحته. والسحت، بفتحتين. والسحت، بكسر السين. وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بنى إسرائيل إذا أتاه
(٢). أخرجه ابن إسحاق في المغازي حدثني ابن شهاب سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبى هريرة- فذكره، دون أوله، ودون قوله فيه: فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور، يسكن فدك. ودون ما في آخره. وكذا أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري مطولا- زاد فيه قصة الملك الذي كان زنى منهم فلم يرجموه، وأصله في الصحيحين من حديث أبى هريرة وغيره مختصرا.
(٣). قال محمود: «معنى ومن يرد اللَّه فتنته: ومن يرد تركه مفتونا... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: كم يتلجلج والحق أبلج هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن اللَّه تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الايمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها، لو أراد اللَّه أن يطهر قلوبهم من وضر البدع. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها. وما أبشع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد اللَّه أن يمنحهم ألطافه، لعلمه أن ألطافه لا تنجع فيهم ولا تنفع، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا لم تنجع ألطاف اللَّه تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع وإرادة من تنجع؟ وليس وراء اللَّه للمرء مطمع. [.....]
(٤). قوله «تركه مفتونا وخذلانه» قدر هذا بناء على أنه تعالى لا يريد الشر عند المعتزلة لكن عند أهل السنة يريد الشر والخير كما حقق في محله. (ع)
كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مخيراً- إذا تحاكم إليه أهل الكتاب- بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. وعن عطاء والنخعي والشعبي: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاءوا حكموا وإن شاءوا أعرضوا. وقيل: هو منسوخ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) وعند أبى حنيفة رحمه اللَّه: إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وإن زنى منهم رجل بمسلمة أو سرق من مسلم شيئا أقيم عليه الحدّ. وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم الحدود. ويقولون: إنّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم، كالجلد مكان الرجم. فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم، شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه، فأمن اللَّه سربه بِالْقِسْطِ بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من تحكيمهم
ويقال: اشتر عراضة لأهلك، أى هدية وشيأ تحمله إليهم. (ع)
(٢). أخرجه الحاكم من رواية زيد بن أرقم عن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» وأخرجه ابن عدى في ترجمة عبد الواحد بن زمعة وضعف به وفي الباب عن معمر عند الطبراني وابن عدى في أثناء حديث وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي. وهو ضعيف.
وعن حذيفة أخرجه إسحاق بن راهويه من طريق كردوس قال «خطب حذيفة بالمدائن- فذكر الخطبة. وفيها الحديث، بلفظ «ليس لحم ينبت من سحت فيدخل الجنة» وأخرجه الطبراني في الأوسط من رواية أيوب بن سويد عن الثوري عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة بلفظ «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به» قال أبو حاتم في العلل: أخطأ أيوب بن سويد فيه. والصواب موقوف. وعن ابن عمر أخرجه الطبراني والحارثي في الغريب.
وابن مردويه في الغريب من طريق عمر بن حمزة عنه. ورجاله ثقات إلا أن عمر لم يسمع من ابن عمر. وعن ابن عباس أخرجه الطبراني والبيهقي من وجهين ضعيفين. وروى الترمذي من حديث كعب بن عجرة في حديث طويل في آخره «يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا وكانت النار أولى به، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وسألت محمدا عنه فاستغربه. وقال أبو يعلى من وجه آخر عن كعب بن عجرة، وله شاهد فيه ابن حبان من رواية عبد اللَّه بن خيثمة عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد اللَّه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال:
يا كعب بن عجرة- فذكر مثله سواء» وأخرجه أحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى والحاكم من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة. فذكر مثل حديث كعب بن عجرة «أنه صلى اللَّه عليه وسلم خاطب به عبد الرحمن» وسعيد بن بشير ضعيف.
عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت: لم أنثت التوراة؟ قلت:
لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب. فإن قلت: علام عطف ثم يتولون؟
قلت: على يحكمونك.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
فِيها هُدىً يهدى للحق والعدل وَنُورٌ يبين ما استبهم من الأحكام الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح «١»، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة
والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فان أقل متبعيه كذلك. فالوجه واللَّه أعلم أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون تنويها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة، قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وأمثاله، تنويهاً بمقدار الصلاح إذ جعل صفة الأنبياء وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فأخبر عن الملائكة المقربين بالايمان تعظيما لقدر الايمان، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنين ليس إلا، ولهذا قال: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعنى من البشر لثبوت حق الاخوة في الايمان بين الطائفتين، فكذلك- واللَّه أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به. ولقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام
فلئن مدحت محمداً بقصيدتي | فلقد مدحت قصيدتي بمحمد |
شمس ضحاها هلال ليلتها | در تقاصيرها زبرجدها |
و (مِنْ) في: (مِنْ كِتابِ اللَّهِ) للتبيين وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبىّ وعيسى للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد. وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب اللَّه والقضاء بأحكامه، وبسبب كونهم عليه شهداء. ويجوز أن يكون الضمير في: (اسْتُحْفِظُوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا ويكون الاستحفاظ من اللَّه، أى كلفهم اللَّه حفظه وأن يكونوا عليه شهداء فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ نهى للحكام عن خشيتهم غير اللَّه في حكوماتهم وإدهانهم «١» فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء وَلا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا (بآيات الله) وأحكامه ثَمَناً قَلِيلًا وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرّف أحبار اليهود كتاب اللَّه وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرئاسة فهلكوا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ والظالمون والفاسقون: وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات اللَّه بالاستهانة. وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين: أهل الكتاب.
وعن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل: لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة «١»، غير أنى لا أدرى أتعبدون العجل أم لا؟
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
في مصحف أبىّ: وأنزل اللَّه على بنى إسرائيل فيها. وفيه: وأن الجروح قصاص. والمعطوفات كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل أن النفس، لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة. تقول: كتبت الحمد للَّه، وقرأت سورة أنزلناها.
ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: إن النفس بالنفس، بالكسر لكان صحيحاً. أو للاستئناف.
والمعنى: فرضنا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ مأخوذة بِالنَّفْسِ مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق وَكذلك الْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ مصلومة بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ذات قصاص، وهو المقاصة، ومعناه: ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت فَمَنْ تَصَدَّقَ من أصحاب الحق بِهِ بالقصاص وعفا عنه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فالتصدق به كفارة للمتصدق يكفر اللَّه من سيئاته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وعن عبد اللَّه بن عمرو يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به، وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه، وفي قراءة أبىّ: فهو كفارة له يعنى فالمتصدق كفارته له أى الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل، كقوله تعالى: (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وترغيب في العفو.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
فإن قلت: أى فرق بين التعريفين في قوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ وقوله لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ؟ قلت: الأول تعريف العهد، لأنه عنى به القرآن. والثاني تعريف الجنس، لأنه
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٩]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
فإن قلت: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ معطوف على ماذا؟ قلت: على: (الْكِتابَ) في قوله (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن احكم على أنّ «أن» وصلت بالأمر، لأنه فعل كسائر الأفعال: ويجوز أن يكون معطوفا على: (بِالْحَقِّ) أى أنزلناه بالحق وبأن احكم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أن يضلوك عنه ويستزلوك: وذلك أن كعب بن أسيد وعبد اللَّه بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضى لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدّقك، فأبى ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فنزلت. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم بما أنزل اللَّه إليك وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا «١»
أراد نفسه: وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفسا كبيرة، ونفساً أىّ نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض لَفاسِقُونَ المتمرّدون في الكفر معتدون فيه، يعنى أنّ التولي عن حكم اللَّه من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ فيه وجهان، أحدهما: أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى: وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لهم «القتلى بواء» فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك «٢» فنزلت: والثاني: أن يكون تعبيراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحى من اللَّه تعالى: وعن الحسن: هو عامّ في كل من يبغى غير حكم اللَّه: والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم اللَّه، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية: وقرئ:
تبغون، بالتاء والياء: وقرأ السلمى: أفحكم الجاهلية يبغون، برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع يبغون خبراً وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في: (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) وعن الصفة في: الناس رجلان: رجل أهنت، ورجل أكرمت. وعن الحال في «مررت بهند يضرب زيد» وقرأ قتادة (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما
تراك أمكنة إذا لم أرضها | أو يرتبط بعض النفوس حمامها |
بل ربما ادعى أنها كل النفوس مبالغة.
(٢). لم أجده هكذا، وفي ابن أبى شيبة من طريق الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال- فذكر قصة فيها: فارتفعوا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «القتلى بواء» أى سواء.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهى بقوله بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أى إنما يوالى بعضهم بعضا لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من اللَّه وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» «١» ومنه قول عمر رضى اللَّه عنه لأبى موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم اللَّه، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم اللَّه، ولا تدنوهم إذ أقصاهم اللَّه «٢» : وروى أنه قال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعنى هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعنى الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر «٣» يمنعهم اللَّه ألطافه ويخذلهم مقتا لهم يُسارِعُونَ فِيهِمْ ينكمشون في موالاتهم
قال: لا تراءى ناراهما» وصله أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عنه. وأرسله غيره من أصحاب إسماعيل كعبدة بن سليمان ووكيع وهشيم ومروان وتابعه حجاج بن أرطاة عن إسماعيل موصولا. وحجاج ضعيف ورجح البخاري وغيره المرسل. وخالف الجميع حفص بن غياث فرواه عن إسماعيل عن قيس عن خالد بن الوليد أخرجه الطبراني.
(٢). أخرجه البيهقي في أدب القاضي من السنن الكبير مطولا دون ما في آخره، فلينظر.
(٣). قوله «بموالاة الكفر» لعله الكفرة. (ع)
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
(٢). قوله «يقطع شأفة اليهود» في الصحاح «الشأفة» قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، فضرب بها المثل في الاستئصال اه باختصار. (ع)
وقصة الأسود العنسي قد أخرجها مطولة جميع من صنف في الردة كابن إسحاق والواقدي وسيف بن عمر.
وسيمة بن الفرات. وأخرجها الحاكم في الإكليل والبيهقي في الدلائل، قال الواقدي: اسم الأسود ذو الخمار. وقال غيره: اسمه عبهلة ولقبه ذو الخمار، لأنه كان يلقى على وجهه قناعا ويهمهم. وكان له شيطانان أحدهما سحيق والآخر بشقيق، قال الواقدي: وملك الأسود نجران وأقام بها ستة أشهر ثم خرج في ستمائة ممن تبعه إلى صنعاء فحاصر الأساورة منهم باذان. وفيروز ودادويه في آخرين. وكانوا أسلموا. وأرسلوا بإسلامهم فروة بن مسيك المرادي. فاقتتل الفريقان حتى غلب الأسود فقتل منهم طائفة. وخير طائفة بين أن يخرجوا من صنعاء إلى بلد آخر ويقيموا بها ويضرب عليهم الخراج ويصيروا عبيداً له. واصطفى الأسود المرزبانة امرأة باذان لنفسه. وكانت جميلة. وكان يشرب الخمر ويقع عليها ولا يغتسل ولا يصلى، فكرهته المرزبانة وراسلت الأساورة وفيهم فيروز، وواعدتهم البستان في الوقت الذي يسكر فيه الأسود. فدخل عليه فيروز ودادويه وقيس بن مكشوح وهو سكران. فقالت المرزبانة:
لفيروز وهو أحدثهم سناً: دونك الرجل. قال فيروز: كنت قد أنسيت سيفي من الدهش. فوقعت على الأسود فخنقته حتى حولت وجهه إلى قفاه. ثم دخل صاحباه فحزوا رأسه. واجتمع الأساورة بباب المدينة يقتلون أصحاب العنسي. فذكر تمام القصة، إنما اختصرناها. وروى النسائي من حديث عبد اللَّه بن فيروز الديلمي عن أبيه قال «أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلم برأس الأسود العنسي» قال عبد الحق لا يصح في هذا الباب شيء. وتعقبه ابن القطان بأن إسناد النسائي صحيح. ولا يعارضه ما جاء إن الخبر بقتله إنما جاء إثر موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم لأن رواية النسائي ليس فيها التصريح أنه صادف النبي صلى اللَّه عليه وسلم. نعم في رواية الطبري زيادة تدل على ذلك. [.....]
فبايعه أهل اليمامة فلما قدمت وفود العرب على النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعد الفتح قدم مسيلمة في وفد بنى حنيفة، فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته. فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فسأله أن يشركه في الأمر، وأن يجعل له الخلافة بعده فأبى. ثم إن وفد بنى حنيفة أظهروا الإسلام. وأجازهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمثل جوائز الوفود ورجع مسيلمة معهم مظهرا النبوة. وشهد له الدجال بن عنعوة أن محمدا أشركه في الأمر. وتمادى مسيلمة على ضلاله. إلى خلافة أبى بكر فكثر تابعوه. فجهز إليه أبو بكر في جمع من الصحابة، فالتقوا باليمامة فاقتتلوا قتالا شديدا من طلوع الشمس إلى العصر: وكثر القتل والجراح في الفريقين ووقعت النوبة في المسلمين.
ثم تراجع المهاجرون والأنصار. فدفعوا بنى حنيفة دفعة عظيمة حتى ألجؤهم إلى حديقة فيها مسيلمة فاعتصموا بها.
وأغلقوا الباب فحاصرهم المسلمون. وقال لهم أبو دجانة ألقونى على المدينة حتى أصعد إلى أعلى الحديقة ففعلوا فهبط عليهم فقتل منهم حين فتح باب الحديقة وقتل هو وولج المسلمون الحديقة. فقتلوهم حين انتهى القتال إلى مسيلمة فطعنه عبد اللَّه بن زيد الأنصارى. وزرقه وحشى بن حرب فاشتركا في قتله.
(٢). قوله «خالداً» في أبى السعود «أبا بكر» اه. (ع)
أمَّتْ سجَاحٌ وَوَالاهَا مُسَيْلِمَةٌ | كَذَّابَةٌ فِى بَنِى الدُّنْيَا وَكَذَّابُ «١» |
(٢). قوله «نصرته اللطمة» لعلها اللطيمة وهي العير التي تحمل الطيب وبز التجار، فحرر.
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والحاكم والطبراني. والطبري من طريق سماك بن حرب. عن عياض الأشعرى. قال: لما نزلت هذه الآية فذكره. ورواه البيهقي في الدلائل من وجه آخر عن سماك عن عياض عن أبى موسى قال تلوت عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ) الآية. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قومك يا أبا موسى. أهل اليمن.
(٤). قوله «من أفناء الناس» في الصحاح «فناء الدار» ما امتد من جوانبها. والجمع أفنية. ويقال: هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. (ع)
(٥). هكذا رواه. وهو وهم منه فان. هذا الكلام إنما ورد في آية الجمعة من طريق أبى العيث عن أبى هريرة وهو متفق عليه. وفي آية القتال رواه الترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه
(٦). قال محمود: «محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه. ومحبة اللَّه لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى عليهم ويرضى عنهم. وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها اللَّه، وفي مراقصهم عطلها اللَّه، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى يوم دك الطور، فتعالى اللَّه عنه علواً كبيراً. ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته، فان الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات» انتهى كلامه. قال أحمد: لا شك أن تفسير محبة العبد للَّه بطاعته له على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب والمجاز الذي لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها، فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لينظر أهى ثابتة للعبد متعلقة باللَّه تعالى أم لا، إذ المحبة لغة: ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس، كلذة الذوق في المطعوم، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة، ولذة الشم في الروائح العطرة، ولذة السمع في النغمات الحسنة، وإلى لذة تدرك بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجرى مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها، فليس اللذة برئاسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرئاسة على أقاليم معتبرة.
وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث، فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن. وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الايمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم. وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد للَّه بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها.
ألا ترى إلى الأعرابى الذي سأل عن الساعة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «ما أعددت لها» قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب اللَّه ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام «أنت مع من أحببت» فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة للَّه غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابى نفاها وأثبت الحب وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك، ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد للَّه تعالى على حقيقتها لغة، فالمحبة في اللغة إذا تأكدت سميت عشقاً، فمن تأكدت محبته للَّه تعالى وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته، فلا يمنع أن تسمي محبته عشقاً إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة. وما أردت بهذا الفصل إلا تخليص الحق والانتصاب لأحباء اللَّه عز وجل من الزمخشري، فانه خلط في كلامه الغث بالسمين، فأطلق القول كما سمعته بالقدح الفاحش في المتصوفة من غير تحر منه، ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه، ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمى طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله، ثم ارتكابهم ما نقل عنهم مما ينافي حال المسمين به حقيقة، أن يؤاخذ الصالح بالطالح (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وهذا كما أن علماء الدين قد انتسب إليهم قوم سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، ثم خلعوا الربقة فجحدوا صفات اللَّه تعالى وقضاءه وقدره وقالوا: إن الأمر أنف، وجعلوا لأنفسهم شركا في المخلوقات وفعلوا وصنعوا، فلا يسوغ لنا أن نقدح في علماء أصول الدين مطلقاً لأنهم قد انتسب إليهم من لا حيلة لهم في نفيه عن التسمي بنعتهم، ولا يكلف اللَّه نفسا إلا وسعها، ولا شك أن في الناس من أنكر تصور محبة العبد للَّه إلا بمعنى طاعته له لا غير، وهو الذي يحاز إليه الزمخشري. وقد بينا تصور ذلك وأوضحناه. والمعترفون بتصور ذلك وثبوته ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا، كما أن الصبى ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو شبه ذلك، وكل طائفة تسحر بمن فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء. قال الغزالي: والمحبون للَّه يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٥]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)
عقب النهى عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ومعنى «إنما» وجوب اختصاصهم بالموالاة. فإن قلت: قد ذكرت جماعة، فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام: إنما وليكم اللَّه، فجعلت الولاية للَّه على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل: إنما أولياؤكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد اللَّه: إنما مولاكم. فإن قلت: الَّذِينَ يُقِيمُونَ ما محله؟ قلت: الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على: هم الذين يقيمون. أو النصب على المدح. وفيه تمييز للخلص من الذين
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٦]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ من إقامة الظاهر مقام المضمر «٤». ومعناه: فإنهم هم الغالبون، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاما لكونهم حزب اللَّه. وأصل الحزب؟ القوم يجتمعون لأمر حزبهم. ويحتمل أن يريد بحزب اللَّه: الرسول والمؤمنين. ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزب اللَّه، واعتضد بمن لا يغالب.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
(٢). قوله «كأنه كان مرجا» أى قلقا غير ثابت. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «لا يقبل» لعله «لا يفعل». (ع)
(٤). قال محمود: «هذا من إقامة الطاهر مقام المضمر ومعناه... الخ» قال أحمد: ومقابله قوله تعالى: (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) فوضع الظالمين موضع ضمير الأول ليزيدهم سمة الظلم إلى الخسران.
ومن الكفار وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاة الكفار وغيرها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقاً لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين اتَّخَذُوها الضمير للصلاة أو للمناداة. قيل كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول «أشهد أنّ محمداً رسول اللَّه» قال: حرّق الكاذب، فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو «١» وأهله. وقيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده لا يَعْقِلُونَ لأنّ لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة، فكأنه لا عقل لهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
قرأ الحسن. هل تنقمون بفتح القاف. والفصيح كسرها. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالكتب المنزلة كلها وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ. فإن قلت: علام عطف قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟ قلت: فيه وجوه: منها أن يعطف على أن آمنا، بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى واعتقاد أنكم فاسقون. ومنها أن يعطف على المجرور، أى وما تنقمون منا إلا الإيمان باللَّه وبما أنزل وبأنّ أكثركم فاسقون. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أى وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم
كان رجل من النصارى... فذكره.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
وروى أنه أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟
فقال «أو من باللَّه وما أنزل إلينا إلى قوله: ونحن له مسلمون» فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام: ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شراً من دينكم «١». فنزلت.
وعن نعيم بن ميسرة: وإنّ أكثركم، بالكسر. ويحتمل أن ينتصب (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون، أى: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف، أى وفسقكم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا ذلِكَ إشارة إلى المنقوم، ولا بدّ من حذف مضاف قبله، أو قبل «من» تقديره: بشرّ من أهل ذلك، أو دين من لعنه اللَّه. ومَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ في محل الرفع على قولك: هو من لعنه اللَّه، كقوله تعالى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) أو في محل الجر على البدل من شرّ. وقرئ: مثوبة. ومثوبة. ومثالهما: مشورة، ومسورة. فإن قلت:
المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «٢»
وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فذكر نحوه. وفيه فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته. وقالوا لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به. [.....]
(٢). مر شرح هذا الشاهد ص ٦٠ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
أَبَنِى لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ... أَمَةٌ وَإنَّ أبَاكُمُو عَبْدُ «٣»
وعبد، بوزن حطم. وعبيد. وعبد- بضمتين- جمع عبيد: وعبدة بوزن كفرة. وعبد، وأصله عبدة، فحذفت التاء للإضافة. أو هو كخدم في جمع خادم. وعبد «٤» وعباد. وأعبد.
وعبد الطاغوت، على البناء للمفعول، وحذف الراجع، بمعنى: وعبد الطاغوت فيهم، أو بينهم.
وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون اللَّه، كقولك «أمر» إذا صار أميراً.
وعبد الطاغوت، بالجر عطفاً على: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ). فإن قلت: كيف جاز أن يجعل اللَّه منهم
(٢). قال محمود: «وعبد الطاغوت عطف عل صلة من... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: السؤال يلزم القدرية لأنهم يزعمون أن اللَّه تعالى إنما أراد منهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن عبادتهم للطاغوت قبيحة واللَّه تعالى لا يريد القبائح بل تقع في الوجود على خلاف مشيئته، فلذلك يضطر الزمخشري إلى تأويل الجعل بالخذلان أو بالحكم، وكذلك أول قوله تعالى: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) بمعنى حكمنا عليهم بذلك. هذا مقتضى قاعدة القدرية. وأما على عقيدة أهل السنة الموحدين حقا، فالآية على ظاهرها، واللَّه تعالى هو الذي أشقاهم وخلق في قلوبهم طاعة الطاغوت وعبادته، ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن. وإذا روجع القدري في تحقيق الخذلان أو الحكم الذي يستروح إلى التأويل به، لم يقدر منه على حقيقة، ولم يفسره بغير الخلق إن اعترف بالحق وترك ارتكاب المراء، والتذبذب مع الأهواء، واللَّه ولى التوفيق.
(٣).
أبنى لبينى لست معترفا... ليكون ألأم منكم أحد
أبنى لبينى إن أمكم... أمة وإن أباكم عبد
لأوس بن حجر. وقيل لطرفة بن العبد، والهمزة للنداء، والعبد كالحذر البليغ في العبودية. ورواه الفراء بالضم، لكن قال: إن ضم الباء ضرورة. وقال السيوطي: إنه بالضم اسم جمع لعبد بالسكون، لكن ظاهر البيت يخالفه. يقول: يا بنى لبينى، لست معترفا لأن يكون أحد أشد لؤما منكم، فان أبويكم رقيقين. وتخصيص الأمة بالرقيقة والعبد بالرقيق: عرف شائع في اللغة. وأداهم نداء الغريب، لأنه أغيظ للمواجهة بالذم. وكرر النداء مع هذه الاضافة للاستخفاف بهم.
(٤). قوله «وعبد» لعله بفتح العين وضم الباء كندس. أفاده الصحاح. (ع)
أطاعوا الكهنة، وكل من أطاع أحداً في معصية اللَّه فقد عبده. وقرأ الحسن: الطواغيت.
وقيل: وجعل منهم القردة أصحاب السبت، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى. وقيل: كلا المسخين من أصحاب السبت، فشبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير. وروى أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله. وفيه مبالغة ليست في قولك: أولئك شر وأضل، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز.
نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره اللَّه تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات اللَّه ومواعظك. وقوله: (بِالْكُفْرِ) و (بِهِ) حالان، أى دخلوا كافرين «٢» وخرجوا كافرين. وتقديره: ملتبسين بالكفر. وكذلك قوله: (وَقَدْ دَخَلُوا) (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) ولذلك دخلت (قَدْ) تقريبا للماضي من الحال. ولمعنى آخر: وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم متوقعاً لإظهار اللَّه ما كتموه، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله: (قالُوا آمَنَّا) أى قالوا ذلك وهذه حالهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
الإثم الكذب «٣» بدليل قوله تعالى: (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ). وَالْعُدْوانِ الظلم. وقيل: الإثم
(٢). قال محمود: «المجروران حالان أى دخلوا كافرين... الخ» قال أحمد: وفي تصدير الجملة الثانية بالضمير تأكيد لاتحاد حالهم في الكفر، أى وقد دخلوا بالكفر وخرجوا وهم أولئك على حالهم في الكفر، كما تقول:
لقيت زيدا بعد عوده من سفره وهو هو، أى على حاله. وفي المثل «وعبد الحميد عبد الحميد» أى حالته باقية، واللَّه أعلم.
(٣). قال محمود: «الإثم الكذب... الخ» قال أحمد: وقوله: (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) يدل على أن الإثم الأول مقول، فيحتمل أن يكون المراد الكذب مطلقا. ويحتمل أن يراد كلمة الشرك، واستدلال الزمخشري على أن المراد الكذب لا يتم، وإنما يدل على أنه مقول فيحتمل الأمرين، واللَّه أعلم.
والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير «١» لأن كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالا من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقذ السامع «٢» وينعى على العلماء توانيهم. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: هي أشدّ آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود «٣» ومنه قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد
(٢). قوله «مما يقذ السامع» يعنى يخففه وينشطه. وهذا إن كان مشدد الذال من القذ. أو يضربه حتى يسترخى ويشرف على الموت. وهذا إن كان مخففا من الوقد. (ع)
(٣). قال محمود: «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود... الخ» قال أحمد: والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن فلما كان الجود وللبخل معنيين لا يدركان بالحس ويلازمهما صورتان تدركان بالحس وهو بسط اليد للجود وقبضها للبخل، عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات، واللَّه أعلم.
جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلِ | شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُه وَوِهَادُهُ «٢» |
إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا «٣»
ويقال بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان.
ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به. فإن قلت: قد صح أن قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ عبارة عن البخل «٤». فما تصنع بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت: يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق اللَّه وأنكدهم، ونحوه بيت الأشتر:
(٢). جاد الحمى أى أمطر فيه وبسط اليدين فاعل وأصله مصدر أريد به المنبسط ضد المنقبض ويروى سبط بتقديم السين صفة مشبهة كضخم وهو بمعنى المسترسل المنبسط كناية عن الكريم كما أن منقبض اليدين كناية عن البخيل فشبه السحاب بإنسان كريم على سبيل المكنية وإثبات اليدين تخييل. والتلعة: الأرض المرتفعة. والوهدة: الأرض المنخفضة. وشبه أعالى الحمى وأسافله بطلاب الرزق وشكرها تخييل والندى بمعنى العطاء ترشيح للأولى. ويجوز أنه حقيقة لا بمعنى العطاء ويجوز أن الشكر تخييل للأولى أيضا. يقول: أمطر السحاب أرض الحما بمصر كثير فأنبتت وأزهرت. وهذا معنى شكرها. ويجوز أن التلاع والوهاد مجار عن أهلهما النازلين فيهما.
(٣).
وغداة ريح قد كشفت وقرة | إذ أصبحت بيد الشمال زمامها |
(٤). عاد كلامه. قال: «فان قلت قد صح أن قولهم يد اللَّه مغلولة عبارة عن البخل... الخ» قال أحمد: لقد نقص فضيلته التي أوردها في هذا الفصل بما ضمنه هذا السؤال والجواب من القاعدة الفاسدة في أن اللَّه تعالى يستحيل عليه أن يريد من عباده شيئا مما نعاه عليهم، وبنى على ذلك استحالة أن يدعو عليهم بالبخل لأنه لم يرده منهم، ويستحيل أن يريده منهم فوجه هذا النص بالتأويل والتمسك بالأباطيل. والحق أن اللَّه يدعو عليهم بالبخل ودعاؤه عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، فهو الداعي والخالق، لا خالق إلا هو يخلق لهم البخل ويتقدس عنه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فليت الزمخشري لم يتحدث في تفسير القرآن إلا من حيث علم البيان، فانه فيه أفرس الفرسان، لا يجارى في ميدانه ولا يماري في بيانه.
بَقِيتُ وَفْرى وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا | وَلَقِيتُ أضْيَافِى بِوَجْهِ عَبُوسِ «١» |
يقال: يده بسط بالمعروف. ونحوه مشية شحح «٣» وناقة صرح يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد
بقيت وفرى وانحرفت عن العلى | ولقيت أضيافى بوجه عبوس |
إن لم أشن على ابن حرب غارة | لم تخل يوما من نهاب نفوس |
(٢). عاد كلامه. قال: فان قلت: لم ثنيت اليد في: (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في قولهم (يَدُ اللَّهِ)... الخ» قال أحمد: ولما كان المعهود في العطاء أن يكون بإحدى اليدين وهي اليمين، وكان الغالب على اليهود- لعنت- اعتقاد الجسمية، جاءت عبارتهم عن اليد الواحدة المألوف منها العطاء فبين اللَّه تعالى كذبهم في الأمرين في نسبة البخل وفي إضافته إلى الواحدة، تنزيلا منهم على اعتقاد الجسمية، بأن ينسب إلى ذاته صفة الكرم المعبر عنها بالبسط، وبأن أضافه إلى اليدين جميعاً لأن كلتا يديه يمين، كما ورد في الحديث تنبيها على نفى الجسمية، إذ لو كانت ثابتة جل اللَّه عنها لكانت إحدى اليدين يمينا والأخرى شمالا ضرورة. فلما أثبت أن كلتيهما يمين نفى الجسمية وأضاف الكرم إليهما، لا كما يضاف في الشاهد إلى اليد اليمنى خاصة، إذ الأخرى شمال وليست محلا للتكريم، واللَّه أعلم.
(٣). قوله «شحح» في الصحاح «الشحشحة» الطيران السريع. و «قطاة شحشح» أى سريعة اه فلعل الشحح مثله وفيه أيضا «الصرح» بالتحريك: الخالص من كل شيء. (ع)
يد اللَّه مغلولة، ورضى بقوله الآخرون فأشركوا فيه وَلَيَزِيدَنَّ أى يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات اللَّه وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ فكلمهم أبداً مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من اللَّه على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل:
خالفوا حكم التوراة فبعث اللَّه عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم فطرس الرومىّ، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نصر عليهم. وعن قتادة رضى اللَّه عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس وَيَسْعَوْنَ ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من كتبهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ مع ما عددنا من سيئاتهم آمَنُوا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبما جاء به، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة اللَّه تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجى «١»
وإن كانت التقوى على أصل موضعها الخوف من اللَّه عز وجل، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر.
وحينئذ لا يتم للزمخشري منه غرض. وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام من قال لا إله إلا اللَّه دخل الجنة، وإن زنى أو سرق» كررها النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرارا، ثم قال: وإن رغم أنف أبى ذر، لما راجعه رضى اللَّه عنه في ذلك. ونحن نقول. وإن رغم أنف القدرية.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ جميع ما أنزل إليك وأى شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً «٣»، ولا خائف أن ينالك مكروه وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك
(٢). قوله «أمم» أى يسير. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود: «معناه بلغ غير مراقب في التبليغ أحداً، ولا خائف أن ينالك مكروه. (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) معناه:
وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك فما بلغت رسالته، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط. وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من البعض، فكأنك أغفلت أداءها جميعها، كما أن من يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لادلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونها كذلك في حكم الشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن، إلى أن قال: «فان قلت وقوع قوله: (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم تمثل... الخ» قال أحمد: وهذا الاتحاد بين الشرط والجزاء ظاهر لأن حاصله إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة، باتحاد المبتدأ والخبر، حتى لا يزيد الخبر عليه شيئا في الظاهر كقوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
فجعل الخبر عن المبتدإ بلا مزيد في اللفظ، وأراد: وشعري شعري المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أفهم بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين، لاشتهاره بها، وأنه غنى عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول، فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما بقوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ولم يقل وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة، حتى يكون اللفظ متغايراً، وهذه المغايرة اللفظية وإن كان المعنى واحداً أحسن رونقاً وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدإ بلفظ الخير، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحته المعجز فلا يعاب عليه في ذلك، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان، واللَّه الموفق.
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «بعثني اللَّه برسالاته فضقت بها ذرعا، فأوحى اللَّه إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك. وضمن لي العصمة فقويت «٣». فإن قلت: وقوع قوله فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر اللَّه في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا كان أمراً شنيعاً لا خفاء بشناعته، فقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله: (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) والثاني: أن يراد: فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام «فأوحى اللَّه إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ عدة من اللَّه بالحفظ والكلاءة والمعنى: واللَّه يضمن لك العصمة من أعدائك، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت: أين ضمان العصمة وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته «٤» صلوات اللَّه عليه؟ قلت: المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه: أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات اللَّه، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت بعد يوم أحد، والناس الكفار بدليل قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
(٢). قوله «وكونها كذلك» لعله «لذلك». (ع)
(٣). أخرجه إسحاق في مسنده. أخبرنا كلثوم بن محمد بن أبى سدرة، حدثنا عطاء الخراساني عن أبى هريرة ولم يذكر وضمن لي العصمة فقويت وذكره الواحدي في الوسيط والأسباب عن الحسن بغير سند.
(٤). متفق عليه من حديث سهل. وقد تقدم في تفسير آل عمران،
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أى على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء فَلا تَأْسَ فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
وَالصَّابِئُونَ رفع على الابتداء وخبره «٢» محذوف، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً له:
(٢). قال محمود: «فيه الصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف... الخ» قال أحمد: صدق، لا ورود للسؤال بهذا التوجيه، ولكن ثم سؤال متوجه، وهو أن يقال: لو عطف الصابئين ونصبه كما قرأ ابن كثير لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى، ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا والعطف إفرادى، فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين، وهل يمتاز بفائدة على النصب والعطف الافرادى؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه عطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف، لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الافرادى وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل تقديره مثلا، والصابئون كذلك فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها وهو بهذه المثابة، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا، مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر. وفائدة التقديم على الخبر أن يكون توسط هذا المبتدإ المحذوف الخبر بين الجزئين، أدل على الخبر المحذوف من ذكره بعد تقضى الكلام وتمامه، واللَّه أعلم. [.....]
وَإلّا فَاعْلمُوا أنَّا وأنْتُمْ | بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِى شِقَاقِ «١» |
إذا جزت نواصي آل بدر | فأدوها وأسرى في الوثاق |
وإلا فاعلموا أنا وأنتم | بغاة ما بقينا في شقاق |
فأدوها، أى الأسرى التي جزت نواصبها. أو أدوا النواصي نفسها. ويجوز أنه مجاز عن قتل كبرائهم. وقوله «فأدوها» أى دماء القتلى وأسرى عطف على الضمير المفعول. وإلا، أى وإن لا تفعلوا فاعلموا أنا وأنتم بغاة.
وبغاة: خبر إنا. وخبر أنتم محذوف، أى بغاة أيضا. ولم يجعل المذكور خبراً عنه أيضا، لأنه ليس عطفا على اسم إن، وإلا لقال: إنا وإياكم، بل هو من عطف الجمل. ولا يقال فيه العطف على الجملة قبل تمامها، لا نقول:
سمع العطف قبل المعطوف عليه بالكلية في قوله: عليك ورحمة اللَّه السلام. و «في شقاق» خبر ثان، أى في خلاف ما بقينا، أى مدة بقائنا، يعنى وأنتم تعلمون بأسنا في الحرب.
يستهزيون. والصابون. وهو من صبوت، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع. وفي قراءة أبىّ رضى اللَّه عنه: والصابئين، بالنصب. وبها قرأ ابن كثير. وقرأ عبد اللَّه: يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٠]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
لَقَدْ أَخَذْنا ميثاقهم بالتوحيد وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ جملة شرطية وقعت صفة لرسلا، والراجع محذوف أى رسول منهم بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع. فإن قلت: أين جواب الشرط «١» فإن قوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخى أخاك أكرمت؟ قلت:
هو محذوف يدل عليه قوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه، وقوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا) جواب مستأنف لقائل يقول: كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيا «٢» وبالآخر مضارعا؟ قلت: جيء يقتلون على حكاية
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت لم جيء بأحد الفعلين ماضيا... الخ» قال أحمد: أو يكون حالا على حقيقته لأنهم داروا حول قتل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في البقرة.
وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي وتمثيله بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فعدل عن فأصبحت إلى فتصبح، تصويراً للحال واستحضاراً لها في ذهن السامع. ومنه:
بأنى قد لقيت الغول يسعى... بسبب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربها فخرت... صريعاً لليدين وللجران
وأمثاله كثيرة واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧١]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
فإن قلت: كيف دخل فعل الحسبان على «أن» التي للتحقيق؟ قلت: نزل حسبانهم لقوّته في صدورهم منزلة العلم: فإن قلت: فأين مفعولا حسب؟ قلت: سدّ ما يشتمل عليه صلة أن وأنّ من المسند والمسند إليه مسدّ المفعولين، والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم من اللَّه فتنة، أى بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة فَعَمُوا عن الدين وَصَمُّوا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عن عبادة العجل ف تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كرة ثانية بطلبهم المحال غير المعقول في صفات اللَّه وهو «١» الرؤية. وقرئ: عموا وصموا، بالضم على تقدير عماهم اللَّه وصمهم، أى رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: تركته إذا ضربته بالنيزك «٢» وركبته إذا ضربته بركبتك كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير: أو على قولهم: أكلونى البراغيث، أو هو خبر مبتدإ محذوف أى أولئك كثير منهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم، وهو احتجاج على النصارى إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادته، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحدين أى حرّمه دخولها ومنعه منه، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ من كلام اللَّه على أنهم ظلموا «٣» وعدلوا
(٢). قوله «إذا ضربته بالنيزك» هو الرمح القصير، وهو فارسى معرب، أصله نيزه، فأبدلت الهاء كافا. كذا بهامش، وأصله في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «على أنهم ظلموا» لعله على معنى أنهم. (ع)
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
من في قوله وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ للاستغراق وهي القدرة مع «لا» التي لنفى الجنس في قولك (لا إله إلا الله) والمعنى: وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثانى له، وهو اللَّه وحده لا شريك له: و «من» في قوله لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ للبيان كالتي في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) فإن قلت: فهلا قيل (لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ). قلت في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير والذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.
والمعنى: ليمسنّ الذين كفروا من النصارى خاصة عَذابٌ أَلِيمٌ أى نوع شديد الألم من العذاب كما تقول: أعطنى عشرين من الثياب، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون. ويجوز أن تكون للتبعيض، على معنى: ليمسنّ الذين بقوا على الكفر منهم، لأنّ كثيراً منهم تابوا من النصرانية أَفَلا يَتُوبُونَ ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر. وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه. وفيه تعجب من إصرارهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صفة لرسول، أى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من اللَّه كما أتوا بأمثالها، أن أبرأ اللَّه الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر، وطمس على يد موسى «١». وإن خلقه من غير ذكر، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى
ما معنى التراخي في قوله ثم انظر؟ «٢» قلت: معناه ما بين العجبين، يعنى أنه بين لهم الآيات بياناً عجيباً، وأنّ إعراضهم عنها أعجب منه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٦]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
ما لا يَمْلِكُ هو عيسى، أى شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به اللَّه من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، ولأنّ كل ما يستطيعه البشر من المضارّ والمنافع فبإقدار اللَّه وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئاً. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً.
وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ متعلق ب أتعبدون، أى أتشركون باللَّه ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز واللَّه هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حى قادر.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٧]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
(٢). قال محمود: «فان قلت ما معنى التراخي في قوله ثم انظر... الخ» قال أحمد: ومنه (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) وقوله: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) وهي في سائر هذه المواضع منقولة من التراخي الزمانى إلى التراخي المعنوي في المراتب.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
نزّل اللَّه لعنهم في الزبور عَلى لِسانِ داوُدَ وفي الإنجيل على لسان عيسى. وقيل إن أهل أيلة، لما اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير
قلت: معناه لا يتناهون عن منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن يراد: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ هم منافقو أهل الكتاب، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو المخصوص بالذمّ، ومحله الرفع، كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط اللَّه عليهم. والمعنى: موجب سخط اللَّه. وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين أَوْلِياءَ يعنى أنّ موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وأنّ إيمانهم ليس بإيمان وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون في كفرهم ونفاقهم. وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون باللَّه وموسى كما يدّعون، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)وصف اللَّه شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق «١» ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» «٢» وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً أى علماء وعباداً وَأَنَّهُمْ قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك. وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في الضعفاء من رواية يحيى بن عبيد اللَّه عن أبيه. عن أبى هريرة وفي رواية ابن حبان «يهودى» على الافراد.
(٢). عاد كلامه. قال: «إن قلت ما معنى قوله: (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ... ) الخ» قال أحمد: وهذه العبارة من أبلغ العبارات، وأنهاها وهي ثلاث مراتب، فالأولى: فاض دمع عينه، وهذا هو الأصل. والثانية:
محولة من هذه. وهي قول القائل: فاضت عينه دمعا حولت الفعل إلى العين مجازا ومبالغة، ثم نبهت على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز. والثالثة: فيها هذا التحويل المذكور، وهي الواردة في الآية، إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح المنبهة على الأصل وعدم نصب التمييز، وإبرازه في صورة التعليل واللَّه أعلم. وإنما كان الكلام مع التعليل أبعد عن الأصل منه مع التمييز لأن التمييز في مثله قد استقر كونه فاعلا في الأصل في مثل:
تصبب زيد عرقا، وتفقأ عمرو شحما، واشتعل الرأس شيبا، وتفجرت الأرض عيونا. فإذا قلت: فاضت عينه دمعا، فهم هذا الأصل في العادة في أمثاله. وأما التعليل فلم يعهد فيه ذلك. ألا تراك تقول: فاضت عينه من ذكر اللَّه كما تقول فاضت عينه من الدمع، فلا يفهم التعليل ما يفهم التمييز واللَّه الموفق.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى لا تُحَرِّمُوا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم. أو لا تقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً
الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع. (ع)
(٢). قوله «ويلبسوا المسوح» المسوح: أكسية غلاظ تعمل منها الغرائر للتبن. أفاده الصحاح في مادة لبس
(٣). ذكره الواحدي هكذا في أسبابه بغير إسناد. لكن قال المفسرون- فذكره سواه، وقد أورده الطبري من طريق السدى في هذه الآية قال «وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جلس يوما. فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف فقام ناس من أصحابه فذكره بمعنى ما تقدم» وهو منتزع من أحاديث، وأصله في الصحيحين عن عائشة» أن ناسا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سألوا أزواجه عن عمله في السر. فقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ولكنى أصوم وأفطر. وأنام وأقوم. وآكل اللحم وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس منى» وفي الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص قال «رد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل. ولو أذن له لاختصينا» وفي الصحيحين عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص في قصة مراجعته النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الصوم والصلاة فقال صلى اللَّه عليه وسلم «صم وأفطر، وقم ونم. فان لنفسك عليك حقا- الحديث» وروى الطبري من طريق ابن جريج عن مجاهد قال «أراد رجال، منهم عثمان بن مظعون وعبد اللَّه ابن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح» ومن طريق ابن جريج عن عكرمة «أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أبى طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبى حذيفة، في جماعة من الصحابة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس. وهموا بالاختصاء. واجتمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) - الآية قال: فبعث اليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وصلوا وناموا. فليس منا من ترك سنتنا»
(٤). هذا منتزع من أحاديث. أما أكل الدجاج فمتفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى في قصة له. وأما أكله الفالوذ فرواه الحاكم من حديث عبد اللَّه بن سلام قال «كنت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم في أناس من أصحابه إذ أقبل عثمان بن مظعون ومعه راحلة عليها غرارتان فذكر الحديث- وفيه فطبخ الدقيق والسمن والعسل حتى نفح ثم أكل» وهو من رواية الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة مضعفا وأعله ابن الجوزي بضعف الوليد. وأما «كان يعجبه الحلوى والعسل» فمتفق عليه من حديث همام عن أبيه عن عائشة رضى اللَّه عنها. وأما الأخير فذكره الديلمي في الفردوس عن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه.
نعم. قال: إنه جاهل، إن نعمة اللَّه عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ. وعنه أن اللَّه تعالى أدّب عباده فأحسن أدبهم. قال اللَّه تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ما عاب اللَّه قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه (وَلا تَعْتَدُوا) ولا تتعدوا حدود ما أحل اللَّه لكم إلى ما حرّم عليكم. أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات. أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهى عن تحريمها دخولا أوليا لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أى من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا حَلالًا حال مما رزقكم اللَّه وَاتَّقُوا اللَّهَ تأكيد للتوصية بما أمر به. وزاده تأكيداً بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر وعما نهى عنه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم: واختلف فيه، فعن عائشة رضى اللَّه عنها أنها سئلت عنه فقالت: هو قول الرجل «لا واللَّه، بلى واللَّه» «١» وهو مذهب الشافعي. وعن مجاهد:
هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وهو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية. وروى أن الحسن رضى اللَّه عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال: يا أبا سعيد، دعني أجب عنك فقال:
وَلَسْتُ بِمَأْخُوذٍ بِلَغوٍ تَقُولُهُ | إذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ «١» |
قدوة في قدوة، وأسوة في إسوة، والكسوة ثوب يغطى العورة، وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه كانت العباءة تجزئ يومئذ. وعن ابن عمر: إزار أو قميص أو رداء أو كساء. وعن مجاهد: ثوب جامع. وعن الحسن: ثوبان أبيضان. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني: أو كأسوتهم، بمعنى: أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا. لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم، ولكن تواسون بينهم وبينهم. فإن قلت: ما محل الكاف؟ قلت: الرفع، تقديره: أو طعامهم كأسوتهم، بمعنى:
كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ شرط الشافعي رحمه اللَّه الإيمان قياسا على كفارة القتل. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد جوّزوا تحرير الرقبة الكفارة في كل كفارة سوى كفارة القتل. فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت: التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على الإطلاق، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إحداها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ متتابعات عند أبى حنيفة رحمه اللَّه، تمسكا بقراءة أبىّ وابن مسعود رضى اللَّه عنهما: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وعن مجاهد: كل صوم متتابع إلا قضاء رمضان. ويخير في كفارة اليمين ذلِكَ المذكور «٣» كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ولو قيل: تلك كفارة أيمانكم، لكان صحيحا بمعنى تلك الأشياء
وهذا في معنى الاستثناء المنقطع. وعاقدات العزائم: الجازمات. ونسبة الجزم إليها مجاز عقلى.
(٢). قوله «على محل من أوسط» قد يقال هذا إنما يناسب القراءة الآتية أو كأسوتهم ولكن عبارة النسفي عطف على إطعام أو على محل من أوسط. ووجهه أن (مِنْ أَوْسَطِ) بدل من (إِطْعامُ) والبدل هو المقصود في الكلام اه (ع)
(٣). قال محمود: «المشار إليه هو المذكور فيما تقدم ولو قيل... الخ» قال أحمد: بل في هذه الآية وجه لطيف المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث وهو المشهور من مذهب مالك، وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفا لوقوع الكفارة المعتبرة شرعا، حيث أضاف «إذا» إلى مجرد الحلف.
وليس في الآية إيجاب الكفارة حتى يقال: قد اتفق على أنها إنما تجب بالحنث، فتعين تقديره مضافا إلى الحلف، بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار، إذ لا يعطي قوله: (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) إيجابا، إنما يعطى صحة واعتبارا، واللَّه أعلم. وهذا انتصار على من منع التكفير قبل الحنث مطلقا، وإن كانت اليمين على بر والأقوال الثلاثة في مذهب مالك، إلا أن القول المنصور هو المشهور.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)
أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد «٢» منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «شارب الخمر كعابد الوثن» «٣» ومنها أنه
(٢). قال محمود: «أكد اللَّه تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد منها... الخ» قال أحمد: ويجوز عود الضمير إلى الرجس الذي انطوى على سائر ما ذكر واللَّه أعلم.
(٣). أخرجه البزار من حديث مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو بهذا. رواه الحرث بن أسامة وأبو نعيم في الحلية من رواية الحسن عن عبد اللَّه بن عمرو به. وفيه الخليل بن زكريا وفي الذي قبله ثابت بن محمد وهو أصلح حالا من الخليل. ولابن ماجة من حديث أبى هريرة، بلفظ «مدمن خمر كعابد وثن» وإسناده جيد، قال: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا محمد بن سليمان الأصبهانى عن سهيل عن أبيه عنه به. ورواه ابن حبان من حديث ابن عباس بهذا اللفظ. وقال الشبه أن يكون فيمن استحلها. وفي مسند إسحاق ومن رواية عمر بن عبد العزيز عن بعض أصحابه، بلفظ «من شرب الخمر فمات مات كعابد وثن» وللطبراني في الأوسط من حديث أنس بلفظ «المقيم على الخمر كعابد وثن» وإسناده ضعيف
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٢]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب... الخ» قال أحمد: ويرشد إلى أن المقصود الخمر والميسر خاصة، لأنهم إنما كانوا يتعاطونهما خاصة الآية الأخرى وهي قوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فخصهما بالذكر ولم يثبت النهى عنهما، فلذلك ورد أن قوما تركوها لما فيها من الإثم، وقوما بقوا على تعاطيها لما فيها من المنافع، ثم نزلت هذه الآية جازمة بالنهى، واللَّه أعلم. [.....]
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
رفع الجناح عن المؤمنين في أى شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها إِذا مَا اتَّقَوْا ما حرم عليهم منها وَآمَنُوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثم ثبتوا على التقوى والإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس: واسوهم بما رزقهم اللَّه من الطيبات. وقيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول اللَّه، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر «١» فنزلت. يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، على معنى: أنّ أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح؟
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
نزلت عام الحديبية ابتلاهم اللَّه بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده، أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ
ليتميز من يخاف عقاب اللَّه وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقى الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه فَمَنِ اعْتَدى فصاد بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء فالوعيد لاحق به، فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير «١» في قوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) ؟ قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه. وقرأ إبراهيم:
يناله، بالياء.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
والظاهر- واللَّه أعلم- أن المراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتصغير، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور اللَّه تعالى، وأنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول، وأنه مهما اندفع عنهم مما هو أعظم في المقدور، فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل، لطفا بهم ورحمة: ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال، والذي يرشد إلى أن هذا مراد أن سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه، فيكون أيضا باعثا على تحمله، لأن مفاجاة المكروه بغتة أصعب، والانذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه، وحاصل ذلك لطف في القضاء، فسبحان اللطيف بعباده. وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا، وجد المندفع عنه منها أكثر إلى ما لا يقف عند غاية، فنسأل اللَّه العفو والعافية واللطف في المقدور.
فليجز جزاء مثل ما قتل. وقرأ الحسن: من النعم، بسكون العين، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه يَحْكُمُ بِهِ بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ حكمان عادلان من المسلمين. قالوا: وفيه دليل على أن المثل القيمة، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة. وعن قبيصة أنه أصاب ظبياً وهو محرم فسأل عمر، فشاور عبد الرحمن بن عوف، ثم أمره بذبح شاة، فقال قبيصة لصاحبه: واللَّه ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، فأقبل عليه ضرباً بالدرّة وقال: أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم. قال اللَّه تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن «١». وقرأ محمد بن جعفر ذو عدل منكم، أراد يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة.
وقيل أراد الإمام هَدْياً حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل، لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من المعرفة، أو بدل عن مثل فيمن نصبه، أو عن محله فيمن جرّه. ويجوز أن ينتصب حالا عن الضمير في به. ووصف هدياً ب بالِغَ الْكَعْبَةِ لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدّق به فحيث شئت عند أبى حنيفة، وعند الشافعي في الحرم. فإن قلت: بم يرفع (كَفَّارَةٌ) من ينصب جزاء؟ قلت: يجعلها خبر مبتدإ محذوف، كأنه قيل: أو الواجب عليه كفارة.
أو يقدر: فعليه أن يجزى جزاء أو كفارة. فيعطفها على أن يجزى. وقرئ: أو كفارة طعام مساكين على الإضافة. وهذه الإضافة مبينة، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مسكين، كقولك: خاتم فضة، بمعنى خاتم من فضة. وقرأ الأعرج: أو كفارة طعام مساكين. وإنما وحد، لأنه واقع موقع التبيين، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس. وقرئ: أو عدل ذلك، بكسر العين. والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه، كالصوم والإطعام. وعدله ما عدل به في المقدار، ومنه عدلا الحمل، لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا، كأن المفتوح تسمية بالمصدر، والمكسور بمعنى المفعول به، كالذبح ونحوه، ونحوهما الحمل والحمل. وذلِكَ إشارة إلى الطعام صِياماً تمييز للعدل كقولك: لي مثله رجلا. والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبى حنيفة وأبى يوسف. وعند محمد إلى الحكمين لِيَذُوقَ متعلق بقوله: (فَجَزاءٌ) أى فعليه أن يجازى أو يكفر، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، كقوله تعالى: (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) ثقيلا. والطعام الوبيل: الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتسألوه عن جوازه. وقيل: عما سلف لكم في الجاهلية منه، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً وَمَنْ عادَ إلى قتل الصيد وهو محرم بعد
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
صَيْدُ الْبَحْرِ مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وَطَعامُهُ وما يطعم من صيده والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر «١»، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبى حنيفة. وعند ابن أبى ليلى جميع ما يصاد منه، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه مَتاعاً لَكُمْ مفعول له، أى أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) في باب الحال، لأن قوله (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له مختص بالطعام، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب، يعنى أحل لكم طعامه تمتيعاً لتنائكم «٢» يأكلونه طريا، ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً، كما تزوّد موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام. وقرئ: وطعمه. وصيد البر: ما صيد فيه، وهو ما يفرّخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات، كطير الماء عند أبى حنيفة. واختلف فيه «٣» فمنهم من حرّم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد، وهو قول عمرو ابن عباس، وعن أبى هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير: أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال، وإن صاده لأجله، إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رحمه اللَّه، وعند مالك والشافعي وأحمد رحمهم اللَّه: لا يباح له ما صيد لأجله. فإن قلت: ما يصنع
(٢). قوله «تمتيعا لتنائكم يأكلونه» أى للمتوطنين منكم. يقال: تنأ بالبلد توطئه، فهو تانئ، وهم تناه.
أفاده الصحاح، وسيأتى للمفسر في قوله تعالى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أن الأناس اسم جمع غير تكسير، نحو رحال وتناء وتؤام. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسر والتكسير، والضمة بدل من الكسرة. (ع)
(٣). قال محمود «اختلف في المراد بالتحريم... الخ» قال أحمد: وتخصيص عموم الآية لازم على كلتا الطائفتين لأن مالكا رضى اللَّه عنه يجيز أكل المحرم لصيد البر، إذا صاده حلال لنفسه، أو لحلال، فلا بد إذا على مذهبه من تخصيص العموم المخصوص، غاية ذلك أن صورة التخصيص على مذهب أبى حنيفة، تكون أكثر منها على مذهب مالك، لأنه يجيز أكل ما صاده الحلال من أجل المحرم كما نقل عنه، فيزيد على مذهب مالك بهذه الصورة، واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك قِياماً لِلنَّاسِ انتعاشاً لهم «١» في أمر دينهم ودنياهم، ونهوضاً إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم، وأنواع منافعهم. وعن عطاء ابن أبى رباح: لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا وَالشَّهْرَ الْحَرامَ الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة، لأنّ لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد عرّفه اللَّه تعالى. وقيل عنى به جنس الأشهر الحرم وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ والمقلد منه خصوصاً
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٩]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩)
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٠]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
البون بين الخبيث والطيب بعيد عند اللَّه تعالى «١» وإن كان قريبا عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازى النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم فَاتَّقُوا اللَّهَ وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر. ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة «٢» إذا افتخروا بالكثرة كما قيل:
ومن هم المعتزلة حتى يترامى طمعهم على هذا الحد؟ وهذا الاستنباط الذي استنبطه الزمخشري من أن المراد بالطيب هذا النفر المعتزلي. من قبيل القول بأن المراد في قوله تعالى: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أهل الحديث وأصحاب الرأى، يعنى الحقيقة. وقد أغلظ في تفسير هذه الآية على من قال ذلك وعده من البدع، وما هو قد ابتدع قريبا منه في حمله الطيب في هذه الآية على الفريق المعتزلي، بل واللَّه شراً من تلك المقالة، لأنه حمل الخبيث على من عداهم من الطوائف السنية، نعوذ باللَّه من ذلك، ونبرأ من تجريه على السلف والخلف.
(٢). قوله «أن تكفح بها وجوه المجبرة» يعنى أهل السنة. وهذا غلو من العلامة في التعصب للمعتزلة، وما كان ينبغي أن يكون منه، لعدم الداعي إليه هنا. (ع)
وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إنَّ سَعْداً كَثِيرَةٌ | و، لَا تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاء وَلَا نَصْرَا «١» |
لَا يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ | فَإنَّ جُلَّهُمُ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ «٢» |
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعنى قوله إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ صفة للأشياء. والمعنى: لا تكثروا مسألة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها. وذلك نحو ما روى أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال:
يا رسول اللَّه، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرّات، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «ويحك! ما يؤمنك أن أقول نعم؟ واللَّه لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» «٣» (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) وإن تسألوا عن هذه
(٢).
لم يبق من جل هذا الناس باقية | ينالها الوهم إلا هذه الصور |
لا يدهمنك من دهمائهم عدد | فان جلهم بل كلهم بقر |
(٣). هذا السياق لم أجده لا عن سراقة ولا عن عكاشة. فأما سراقة فروى مسلم من حديث جابر الطويل في صفة الحج «فقال سراقة بن مالك: بن جعشم يا رسول اللَّه، لعامنا هذا. أم للأبد؟ قلت: وهو عند البخاري ايضا من وجه آخر عن جابر، وللنسائى وابن ماجة من حديث سراقة بن مالك نفسه أنه قال للنبي صلى اللَّه عليه وسلم «يا رسول اللَّه، عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: لا، بل للأبد. دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وأما عكاشة بن محصن فرواه الطبري وابن مردويه من طريق محمد بن زياد: سمعت أبا هريرة رضى اللَّه عنه يقول «خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج، فقال عكاشة بن محصن الأسدى: أفي كل عام يا رسول اللَّه؟ فقال: أما أنا لو قلت نعم لوجبت. ولو وجبت ثم تركتم لضللتم. اسكتوا عنى ما سكت عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فأنزل اللَّه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) الآية وهو أقرب إلى سياق المصنف، دون ما في آخره مما ذكره المصنف فهو في الحديث الآتي. وأخرج الطبري من طريق أبى إسحاق الهجري عن ابن عباس عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «إن اللَّه كتب عليكم الحج فقال رجل: كل عام يا رسول اللَّه؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا. فقال: من السائل؟
فقيل فلان. فقال: والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموه. ولو تركتموه لكفرتم. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) وأخرج أيضا من طريق معاوية بن يحيى عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبى أمامة أنه سمعه يقول «قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الناس وقال: كتب عليكم الحج فقام رجل من الأعراب- فذكر الحديث، وفيه فقال: ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم، واللَّه لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم. وأما بقيته ففيما أخرجه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبى هريرة «خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: أيها الناس فرض اللَّه عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أفي كل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت حتى قالها ثالثا. فقال لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وقد سأل عن الحج الأقرع بن حابس فعند بعض السنن من حديث ابن عباس «أن الأقرع بن حابس سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال: مرة واحدة. فما زاد فهو تطوع» وأخرجه الطبري من هذا الوجه. فسمى الرجل محصنا الأسدى، وعند غيره عكاشة بن محصن.
تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم، وتؤمروا بتحملها، فتعرّضون أنفسكم لغضب اللَّه بالتفريط فيها عَفَا اللَّهُ عَنْها. عفا اللَّه عما سلف. من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته. فإن قلت: كيف قال: (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ثم قال: قَدْ سَأَلَها ولم يقل. قد سأل عنها؟ قلت: الضمير في: (سَأَلَها) ليس براجع إلى أشياء حتى تجب تعديته بعن، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها (لا تَسْئَلُوا) يعنى قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها أى بمرجوعها أو بسببها كافِرِينَ وذلك أنّ بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٣]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، بحروا أذنها، أى شقوها
وكان يقول الرجل: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضى فناقتى سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبداً قال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. ومعنى ما جَعَلَ ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك، ولكنهم بتحريمهم ما حرّموا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فلا ينسبون التحريم إلى اللَّه حتى يفتروا، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
الواو في قوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار. وتقديره:
أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ والمعنى أنّ الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتوّ والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يَضُرُّكُمْ الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم. فهو مخاطب به، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه، وعن ابن مسعود: أنها قرئت عنده فقال: إن هذا ليس بزمانها «١» إنها اليوم مقبولة. ولكن يوشك أن يأتى زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم،
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية قال: أما واللَّه لقد سألت عنها خبيراً سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر- وذكره: وقال فيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام- وقال في آخره: مثل عملكم» قال ابن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يا رسول اللَّه أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: لا، بل منكم» وأخرجه ابن حبان والحاكم وإسحاق وأبو يعلى والطبراني. [.....]
(٢). قوله «لا يضركم، وفيه وجهان» يعنى بالرفع، وهو يفيد أن القراءة الأصلية بالنصب. (ع)
شهادة بينكم بالتنوين. وقرأ الحسن: شهادة، بالنصب والتنوين على: ليقم شهادة اثنان. وإِذا حَضَرَ ظرف للشهادة. وحِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه، إبداله منه دليل على وجوب الوصية، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها مسلم ويذهل عنها. وحضور الموت: مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل مِنْكُمْ من أقاربكم. ومِنْ غَيْرِكُمْ من الأجانب إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح «١» وهم له أنصح. وقيل مِنْكُمْ من المسلمين، ومِنْ غَيْرِكُمْ من أهل الذمة. وقيل: هو منسوخ لا تجوز شهادة الذمي على المسلم، وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر. وعن مكحول: نسخها قوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وروى أنه خرج بديل بن أبى مريم مولى عمرو بن العاصي وكان من المهاجرين، مع عدى بن زيد وتميم بن أوس- وكانا نصرانيين- تجاراً إلى الشام، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه، وأمرهما أن يدفعاً متاعه إلى أهله، ومات ففتشا متاعه، فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشاً بالذهب، فغيباه، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء، فجحدا فرفعوهما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «٢»، فنزلت تَحْبِسُونَهُما تقفونهما وتصبرونهما للحلف «٣» مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وعن الحسن: بعد صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وفي حديث بديل: أنها لما نزلت صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
(٢). أخرجه الترمذي من رواية ابن إسحاق عن أبى النضر وهو محمد بن السائب الكلبي عن بادار، يعنى أبا صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري رضى اللَّه عنهم. فذكره وقال: ليس إسناده بصحيح وأخرجه البخاري وأبو داود مختصراً
(٣). قوله «وتصبرونهما للحلف» أى تحبسونهما. أفاده الصحاح. (ع)
إنا اشتريناه من تميم وعدى. وقيل: هي صلاة أهل الذمّة، وهم يعظمون صلاة العصر إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراض بين القسم والمقسم عليه. والمعنى: إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما. وقيل: إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما. وعن علىّ رضى اللَّه عنه: أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما «١» والضمير في مُصِيبَةُ للقسم. وفي كانَ للمقسم له يعنى: لا نستبدل بصحة القسم باللَّه عرضاً من الدنيا، أى لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريباً منا، على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). شَهادَةَ اللَّهِ أى الشهادة التي أمر اللَّه بحفظها وتعظيمها. وعن الشعبي أنه وقف على شهادة، ثم ابتدأ اللَّه بالمدّ، على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروى عنه بغير مدّ على ما ذكر سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام، فيقول: اللَّه لقد كان كذا.
وقرئ: لملاثمين بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون من فيها، كقوله: عاد لولى: فإن قلت: ما موقع تحبسونهما؟ قلت: هو استئناف كلام، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما، فكيف نعمل إن ارتبنا بهما، فقيل: تحبسونهما فإن قلت: كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت: لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها، أغنى ذلك عن التقييد، كما لو قلت في بعض أئمة الفقه: إذا صلى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر. ويجوز أن تكون اللام للجنس، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفاً في النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). فَإِنْ عُثِرَ فإن اطلع عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أى فعلا مّا أوجب إثما، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين فَآخَرانِ فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أى من الذين استحق عليهم الإثم. معناه من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي قصة بديل: أنه لما ظهرت خيانة الرجلين، حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما، وأنّ شهادتهما أحق من شهادتهما. والْأَوْلَيانِ الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما. وارتفاعهما على: هما الأوليان كأنه قيل ومن هما؟ فقيل: الأوليان. وقيل: هما بدل من الضمير في يقومان، أو من آخران.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
يَوْمَ يَجْمَعُ بدل من المنصوب «٣» في قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) وهو من بدل الاشتمال، كأنه
(٢). قوله «أن تكر أيمان شهود» في الصحاح «الكر» الرجوع. يقال: كره، وكر بنفسه يتعدى ولا يتعدى. (ع)
(٣). قال محمود: «يوم يجمع بدل من المنصوب... الخ» قال أحمد: ويكون انتصابه إذاً انتصاب المفعول به لا الظرف على حكم المبدل منه.
وماذا منتصب بأجبتم «٢» انتصاب مصدره، على معنى: أى إجابة أجبتم. ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم. فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد. فإن قلت: كيف يقولون لا عِلْمَ لَنا وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم «٣» وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهاراً للتشكى واللجإ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ اللَّه وتشكى أنبيائه عليهم. ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به، يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بى تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، واظهاراً للشكاية، وتعظيما لما حل به منه. وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون «٤» عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم. وقيل: معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به، لأنك علام الغيوب. ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم، فكأنه لا علم لنا إلى جنب علمك. وقيل: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة. وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين. وقرئ (علام الغيوب) بالنصب «٥» على أنّ الكلام قد تم بقوله إِنَّكَ أَنْتَ أى إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص، أو على النداء، أو هو صفة لاسم أنّ إِذْ قالَ اللَّهُ بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ) والمعنى: أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتعديد
(٢). عاد كلامه. قال: «وماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أى إجابة... الخ» قال أحمد:
والتعظيم في هذا نحو التعظيم بالسكوت عن الصلة في مثل: ما حصل إلا بعد التي واللتيا.
(٣). قوله «بما منوا به منهم» أى ابتلوا. وفي الصحاح «منيته» و «منوته» إذا ابتليته. (ع)
(٤). عاد كلامه. قال: «وقيل من الهول والفزع يذهلون عن الجواب... الخ» قال أحمد: وأيضا فالمسئول عنه إجابتهم عند دعائهم إياهم إلى اللَّه، لا ما حدث بعد ذلك مما لا يتعلق به علم الرسل، واللَّه أعلم.
(٥). عاد كلامه. قال: «وقرئ علام الغيوب بالنصب... الخ» قال أحمد: ويكون هذا من باب
أنا أبو النجم وشعري وشعري
وقد مر قبل بآيات. وإنما ذكرت هذه الثلاثة من الاعراب لالتباسها إلا على الحذاق وقليل ما هم.
جبريل عليه السلام، أيد به لتثبيت الحجة. فإن قلت: ما معنى قوله: (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) ؟ قلت:
معناه تكلمهم في هاتين الحالتين، من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحدّ الذي يستنبأ فيه الأنبياء وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة. وقيل (الْكِتابَ) الخط. و (الْحِكْمَةَ) الكلام المحكم الصواب كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ هيئة مثل هيئة الطير بِإِذْنِي بتسهيلى فَتَنْفُخُ فِيها الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى عليه السلام وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا من نفخه في شيء. وكذلك الضمير في فتكون تُخْرِجُ الْمَوْتى تخرجهم من القبور وتبعثهم. قيل: أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعنى اليهود حين هموا بقتله. وقيل:
لما قال اللَّه تعالى لعيسى (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول: مع كل يوم رزقه، لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١١ الى ١١٥]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
أَحَارِ بْنَ عَمْرٍو كَأَنِّى خَمِرْ | وَيَبْدُو عَلّ الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ «١» |
أحار بن عمرو كأنى خمر | ويعدو على المرء ما يأتمر |
ولا وأبيك ابنة العامري | لا يدعى القوم أنى أفر |
(٢). قال محمود: فان قلت كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم- في قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) - قال: قلت ما وصفهم بالايمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما... الخ» قال أحمد: وقيل إن معنى (هَلْ يَسْتَطِيعُ) هل يفعل، كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم: مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن، فعلى هذا يكون إيمانهم سالما عن قدح الشك في القدرة، فان استقام التعبير عن الفعل بالاستطاعة فذاك- واللَّه أعلم- من باب التعبير عن المسبب بالسبب، إذ الاستطاعة من جملة أسباب الإيجاد وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل، تسمية بالسبب الذي هو الارادة، باسم المسبب الذي هو الفعل، في مثل قوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقد مضى أول السورة. وفي هذا التأويل الحسن تعضيد لتأويل أبى حنيفة، حيث جعل الطول المانع من نكاح الأمة وجود الحرة في العصمة. وعدمه أن لا يملكك عصمة الحرة وإن كان قادراً على ذلك، فتباح له حينئذ الأمة. وحمل قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) على معنى: ومن لم يملك منكم، وحمل النكاح على الوطء، فجعل استطاعة الملك المنفية هي الملك كما ترى، حتى أن القادر غير المالك عادم الطول عنده فينكح الأمة. وقد مضى ذكر مذهبه، وكنت أستبعد إنهاضه لأن يكون تأويلا يحتمله اللفظ ويساعده الاستعمال، حتى وقفت على تفسير الحسن هذا واللَّه أعلم.
هل تستطيع ربك، أى هل تستطيع سؤال ربك، والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله. والمائدة: الخوان «١» إذا كان عليه الطعام، وهي من «مادّه» إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل، أو نكون من الشاهدين للَّه بالوحدانية ولك بالنبوّة، عاكفين عليها، على أن عليها في موضع الحال، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الايمان والإخلاص. وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا. وقرئ: ويعلم، بالياء على البناء للمفعول. وتعلم. وتكون، بالتاء. والضمير للقلوب اللَّهُمَّ أصله يا اللَّه، فحذف حرف النداء، وعوضت منه الميم. ورَبَّنا نداء ثان تَكُونُ لَنا عِيداً أى يكون يوم نزولها عيدا. قيل: هو يوم الأحد. ومن ثم اتخذه النصارى عيداً، وقيل: العيد السرور العائد، ولذلك يقال: يوم عيد، فكأنّ معناه: تكون لنا سروراً وفرحا. وقرأ عبد اللَّه: تكن، على جواب الأمر. ونظيرهما، يرثني، ويرثني لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لنا بتكرير العامل، أى لمن في زماننا من أهل ديننا، ولمن يأتى بعدنا. وقيل: يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم: ويجوز المقدّمين منا والأتباع. وفي قراءة زيد: لأولانا وأخرانا، والتأنيث بمعنى الأمّة والجماعة عَذاباً بمعنى تعذيباً. والضمير في: (لا أُعَذِّبُهُ) للمصدر. ولو أريد بالعذاب ما يعذب به، لم يكن بدّ من الباء. وروى أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا، ثم قال: اللهم أنزل علينا، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهم اجعلنى من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، وقال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم اللَّه عليها ويأكل منها. فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم اللَّه خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما. وعند
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٦]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)
سُبْحانَكَ من أن يكون لك شريك ما يَكُونُ لِي ما ينبغي لي أَنْ أَقُولَ قولا لا يحق لي أن أقوله فِي نَفْسِي في قلبي: والمعنى: تعلم معلومى ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه، فقيل فِي نَفْسِكَ لقوله في نفسي إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير للجملتين معاً، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهى إليه علم أحد.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٧ الى ١١٨]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
«أن» في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ «١» إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر. والمفسر إما
ما قلت لهم إلا اعبدوا اللَّه. وأما فعل الأمر، فمسند إلى ضمير اللَّه عز وجل. فلو فسرته باعبدوا اللَّه ربى وربكم لم يستقم لأن اللَّه تعالى لا يقول: اعبدوا اللَّه ربى وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل «١» لم تخل من أن تكون بدلا من ما أمرتنى به، أو من الهاء «٢» في به، وكلاهما غير مستقيم لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه. ولا يقال: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا اللَّه، بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال. وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء «٣» لأنك لو أقمت (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) مقام الهاء، فقلت: إلا ما أمرتنى بأن اعبدوا اللَّه، لم يصح، لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. فإن قلت: فكيف يصنع؟ «٤» قلت يحمل فعل
مرهم بعبادتي، أو قال لهم على لسان عيسى: اعبدوا اللَّه رب عيسى وربكم، فلما حكاه عيسى عليه السلام قال: اعبدوا اللَّه ربى وربكم، فكنى عن اسمه الظاهر بضميره، كما قال اللَّه تعالى حكاية عن موسى (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فانظر كيف جاء أول الكلام حكاية لقول موسى، وموسى لا يقول: فأخرجنا، ولكن فأخرج اللَّه، فلما حكاه اللَّه تعالى عن موسى رد الكلام إليه تعالى، وأضاف الإخراج إلى ذاته على طريقة المتكلم لا الحاكي، وكذلك قوله تعالى: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إلى قوله: (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) ونظائره كثيرة. وقد قدمت نحواً من هذا البحث عند قوله تعالى حكاية عن اليهود (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) لما استبعد الزمخشري أن تصفه اليهود بهذه الصفات المنافية لاعتقادهم فيه.
(٢). عاد كلامه. قال: «وإن جعلت أن موصولة مع فعل الأمر... الخ» قال أحمد: أى فلا يقدر بالعبادة ولكن بالأمر بها، كأنه قيل: ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة للَّه، والأمر مقول لقلت، على أن جعل العبادة مقولة ليس ببعيد، على طريقة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أى للوطء الذي قالوا قولا يتعلق به. وكقوله تعالى: (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) وسيأتى له تصحيح هذا الاستعمال لوروده كثيراً في القرآن الكريم.
(٣). عاد كلامه. قال: «وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا غير مانع من البدل، وإنما يواجه المصنف بما لا يسعه إنكاره، فقد قال في مفصله ما هذا نصه: وقولهم: إن البدل في حكم تنحية الأول، إيذان منهم باستقلاله بنفسه ومفارقته للتأكيد والصفة في كونهما اسمين لما يتبعانه، لا أن يعنوا إهدار الأول وإطراحه. ألا تراك تقول: زيداً رأيت غلامه رجلا صالحا، فلو ذهبت إلى إهدار الأول لم يسند كلامك. فانظر كيف يرد كلامه في المفصل وهو الحق ما ارتكبه من رد البدل في هذه الآية، للزوم طرح الأول فتخلو الصلة من الضمير: ولم يجعل هذا القدر مانعا في المثال المذكور. مع أنك لو طرحت الأول لخلا الخبر من الضمير العائد ولم يسند الكلام. فهذه وجوه أربعة منعها في إعراب «أن» وكلها مسندة حسبما بينا. وهذه المساجلة في هذا الاعراب من الغرر والحجول في صناعة الاعراب وعلم البيان. وفرسان هذا المضمار قليل.
(٤). عاد كلامه. قال: فان قلت كيف يصنع؟ قلت: يحمل فعل... الخ» قال أحمد: هذا التأويل لتوقع أن المفسرة بعد فعل في معنى القول، وليس قولا صريحا. وحمل القول على الأمر مما يصحح المذهب الآخر في إجازة وقوعها بعد القول، فانه لولا ما بين القول والأمر من التفاوت المعنوي، لما جاز إطلاق إحداهما وإرادة الأخرى.
والعجب أن الأمر قسم من أقسام القول، وما بينهما إلا عموم وخصوص. وليس في هذا التأويل الذي سلكه إلا كلفة لا طائل وراءها. ولو كانت العرب تأبى وقوع المفسرة بعد القول. لما أوقعتها بعد فعل ليس بقول. ثم عبرت عن ذلك الفعل بالقول لأن ذلك كالعود إلى ما وقع الفرار منه وهم بعداء من ذلك.
أنا ابن التارك البكري بشر
لأنه لو جعله بدلا للزم تكرير العامل، وإضافة اسم الفاعل العرف بالألف واللام إلى العلم ولم يفصل بينهما في غير هذا المثال ومن حيث المعنى أن المعتمد في عطف البيان الأول. وأما الثاني فللتوضيح. والمعتمد في البدل الثاني.
وأما الأول فبساط لذكره، لا على أنه مطرح مهدر.
(٢). قال محمود «إن قلت المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال وإن تغفر لهم... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: تذبذب الزمخشري في هذا الموضع فلا إلى أهل السنة ولا إلى القدرية. أما أهل السنة، فالمغفرة للكافر جائزة عندهم في حكم اللَّه تعالى عقلا، بل عقاب المتقى المخلص كذلك غير ممتنع عقلا من اللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فهذا الكلام خرج على الجواز العقلي، وإن كان السمع ورد بتعذيب الكفار وعدم الغفران لهم، إلا أن ورود السمع بذلك لا يرفع الجواز العقلي. وأما القدرية فيزعمون أن المغفرة للكافر ممتنعة عقلا، لا تجوز على اللَّه تعالى لمناقضتها الحكمة، فمن ثم كفحتهم هذه الآية بالرد، إذ لو كان الأمر كزعمهم لما دخلت كلمة «إن» المستعملة عند الشك في وقوع الفعل بعدها لغة في فعل لا شك في عدم وقوعه عقلا، ولكان ذلك من باب التعليق بالمحال، كأن يبيض القار وأشباهه. وليس هذا مكان. فقول الزمخشري إذاً (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لم يعدم وجها من الحكمة في المغفرة لأن العفو عن المجرم حسن عقلا لا يأتلف بقواعد السنة، إذ لا يلتفت عندهم إلى التحسين العقلي، ولا يأتلف أيضا بنزغات القدرية، لأنهم يجزمون بأنه لا وجه من الحكمة في المغفرة للكافر، ويقطعون بمنافاتها الحكمة، فكيف يخاطب اللَّه تعالى به، فعلم أن عيسى عليه السلام يبرأ إلى اللَّه من هذا الإطلاق ومما اشتمل عليه من سوء الأدب، فان قول القائل لمن يخاطبه: ما فعل كذا فلن يعدم فيه عذراً ووجهاً من المصلحة كلام مبذول وعبارة نازلة عن أوفى مراتب الأدب، إنما يطلقها المتكلم لمن هو دونه عادة، فنسأل اللَّه إلهام الأدب وتجنب ما في إساءته من مزلات العطب.
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٩]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)
قرئ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ بالرفع والإضافة. وبالنصب إما على أنه ظرف لقال. وإما على أنّ (هذا) مبتدأ، والظرف خبر. ومعناه، هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع يوم ينفع. ولا يجوز أن يكون فتحا، كقوله تعالى: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) لأنه مضاف إلى متمكن، وقرأ الأعمش: يوم ينفع، بالتنوين، كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) فإن قلت: ما معنى قوله يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ؟ إن أريد صدقهم «١» في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت: معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم. وعن قتادة:
متكلمان تكلما يوم القيامة. أمّا إبليس فقال: إنّ اللَّه وعدكم وعد الحق، فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا، فلم ينفعه صدقه. وأما عيسى عليه السلام فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
فإن قلت: في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فهلا غلب العقلاء، فقيل: ومن فيهنّ؟
قلت: «ما» يتناول الأجناس كلها تناولا عاما. ألا تراك تقول إذا رأيت شبحاً من بعيد: ما هو؟
قبل أن تعرف أعاقل هو أم غيره، فكان أولى بإرادة العموم.
عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودى ونصراني يتنفس في الدنيا» «٢»
(٢). تقدم إسناده إلى أبى بن كعب في تفسير آل عمران.