تفسير سورة القدر

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة القدر من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ

﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ ﴿ إنا أنزلناه ﴾ الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله ﴿ أنزلناه ﴾ يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة ﴿ إنا أنزلناه ﴾ لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحياناً بصيغة العظمة مثل هذه الآية الكريمة ﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾، ومثل قوله تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ [ الحجر : ٩ ]، ومثل قوله تعالى :﴿ إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾ [ يس : ١١ ]. وأحياناً يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل ﴿ إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ﴾ [ طه : ١٤ ]، وذلك لأنه واحد عظيم، فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد. والضمير في قوله :﴿ أنزلناه ﴾ ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر ؛ لأن هذا أمر معلوم، ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم، أنزله الله تعالى في ليلة القدر، فما معنى إنزاله في ليلة القدر ؟ الصحيح أن معناها : ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا، ودليل ذلك قوله تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]، فإذا جمعت هذه الآية أعني ﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾ إلى هذه الآية :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ تبين أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند بعض العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له، ولا حقيقة له، فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب، وجمادى، وربيع، وصفر، ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء - رحمهم الله - يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل : فضائل الأعمال، أو الشهور، أو الأماكن، وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما، فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح، وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلّم يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلاً، وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا ما لسائر الشهور، كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن تكون في الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي الأيام البيض.
وقوله تعالى :﴿ في ليلة القدر ﴾ من العلماء من قال : القدر هو الشرف، كما يقال :( فلان ذو قدر عظيم، أو ذو قدر كبير )، أي ذو شرف كبير، ومن العلماء من قال : المراد بالقدر التقدير ؛ لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم ﴾ [ الدخان : ٣، ٤ ]. أي يفصل ويبين.
والصحيح أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم، وشرف كبير، وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك.
ثم قال جل وعلا :﴿ وما أدراك ما ليلة القدر ﴾ هذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم، وهي مطردة في القرآن الكريم، قال الله تعالى :﴿ وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين ﴾ [ الانفطار : ١٧، ١٨ ]. وقال تعالى :﴿ الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة ﴾ [ الحاقة : ١ ٣ ]. ﴿ القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ﴾ فهذه الصيغة تعني التفخيم والتعظيم، فهنا قال :﴿ وما أدراك ما ليلة القدر ﴾ أي ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها.
ثم بين هذا بقوله :﴿ ليلة القدر خير من ألف شهر ﴾ وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها، وهو قوله :﴿ وما أدراك ما ليلة القدر ﴾ الجواب :﴿ ليلة القدر خير من ألف شهر ﴾ أي من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، والمراد بالخيرية هنا ثواب العمل فيها، وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة، ولذلك كان من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال :﴿ تنزل الملائكة والروح فيها ﴾ أي تنزل شيئاً فشيئاً ؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع، فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئاً فشيئاً حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلاً على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة كالمكان الذي فيه الصور، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، يعني صورة محرمة ؛ لأن الصورة إذا كانت ممتهنة في فراش أو مخدة، فأكثر العلماء على أنها جائزة، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول المكان، لأنه لو امتنعت لكان ذلك ممنوعاً، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة، ونزولهم خير وبركة. ﴿ والروح ﴾ هو جبريل عليه السلام خصه الله بالذكر لشرفه وفضله، وقوله تعالى :﴿ بإذن ربهم ﴾ أي بأمره، والمراد به الإذن الكوني ؛ لأن إذن الله أي أمره ينقسم إلى قسمين : إذن كوني، وإذن شرعي، فقوله تعالى :﴿ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ [ الشورى : ٢١ ]. أي ما لم يأذن به شرعاً، لأنه قد أذن به قدراً، فقد شرع من دون الله، لكنه ليس بإذن الله الشرعي، وإذن قدري كما في هذه الاية ﴿ بإذن ربهم ﴾ أي بأمره القدري، وقوله :﴿ من كل أمر ﴾ قيل : إن ﴿ من ﴾ بمعنى الباء، أي بكل أمر مما يأمرهم الله به، وهو مبهم لا نعلم ما هو، لكننا نقول : إن تنزل الملائكة في الأرض عنوان على الخير والرحمة والبركة.
﴿ سلام هي ﴾ الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم، والتقدير :«هي سلام » أي هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام، لكثرة من يسلم فيها من الآثام وعقوباتها، قال النبي صلى الله عليه وسلّم :«من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه »، ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها. ﴿ حتى مطلع الفجر ﴾ أي تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، أي إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر.
Icon