ﰡ
والبهيمةُ في اللغة يتناولُ كلَّ حَيٍّ لا يُميِّزُ، اسْتَبْهَمَ عليه الجوابُ؛ أي اسْتَغْلَقَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي إلاّ ما يُقْرَأ عليكم في القُرْآنِ مِمَّا حُرِّمَ عليكم في هذه السورة من الْمِيْتَةِ والدَّمِ ولحمِ الخنْزيرِ والموقُوذةُ والمتَردِّيَةُ والنَّطيحَةُ الآيةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ ﴾؛ نُصِبَ على الحالِ من الكافِ والميم التي في قولهِ: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ ﴾ كما يقالُ: جاءَ زيدٌ راكباً؛ وجاءَ غيرُ راكبٍ. والمعنى: أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ؛ أي من أنْ تَسْتَحِلُّوا قتلَ الصَّيدِ وأنتُم مُحْرِمُونَ. وَقِيْلَ: نُصِبَ على الحالِ من قوله ﴿ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ ﴾ أي أوْفُوا بالمعقُودِ غيرِ مُحِلِّي الصَّيْدِ، هذا قولُ الأخفشِ، والأوَّلُ قولُ الكسائيِّ. ومعنى الآيةِ: أحِلَّتْ لكمُ الأنعامُ إلاَّ ما كان وَحْشِياً، فإنَّهُ صَيْدٌ لا يحلُّ لكم إذا كنتم مُحْرِمِيْنَ، فذلكَ قولهُ: ﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾؛ أي يقضِي على عبادهِ بما شاءَ من التحليل والتحريْمِ على ما تُوجِبُهُ الحكمةُ.
وكان في ابتداءِ الإسلامِ لا تجوزُ المُحَارَبَةُ في الأشهرِ الْحُرُمِ كما قالَ تعالى:﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾[البقرة: ٢١٧]، ثم نُسِخَ حرمةُ القتال في الشهرِ الحرام بقولهِ تعالى:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ ﴾؛ أي لا تُحِلُّوا الْهَدْيَ؛ أي لا تَذْبَحُوهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ؛ ولا تنتفِعُوا بهِ بعدَ أن جعلتموهُ للهِ، ولا تَمنعوهُ أن يَبْلُغَ البيتَ. قَوْلُهَ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ ﴾ أي ولا تُحِلُّوا القلائدَ التي تكونُ في أعناقِ الهدايا؛ أي لا تقطعُوها قبلَ الذبْحِ وتصدَّقوا بها بعدَ الذبحِ كما قالَ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه:" تَصَدَّقُوا بجَلاَلِهَا وَخِطَامِهَا، وَلاَ تُعْطِي الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئاً "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾؛ معناهُ: ولا تسْتَحِلُّوا القَتْلَ والغارةَ على القاصدينَ المتوجِّهين نحوَ البيتِ الحرامِ، وعنِ ابن عبَّاس رضي الله عنه:" أنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ في شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ هِنْدِ الْيَمَامِيِّ، دَخَلَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالْمَدِيْنَةِ وَقَالَ: أنْتَ مُحَمَّدٌ النَّبيُّ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: إلاَمَ تَدْعُو؟ قالَ: " أدْعُو إلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ ". فَقَالَ: إنَّ لِي أمَرَاءَ أرْجِعُ إلَيْهِمْ وَأشَاورُهُمْ، فَإنْ قَبلُوا قَبلْتُ. ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بعَقِبَي غَادِرٍ ". فَمَرَّ بسَرْحٍ لأَهْلِ الْمَدِيْنَةِ فَاسْتَاقَهَا، وَانْطَلَقَ نَحْوَ الْيَمَامَةِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ يَقُولُ:* بَاتُوا نِيَاماً وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ * بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزُّلَمْ ** خَدَلَّجُ السَّاقَينَ خَفَّاقُ الْقَدَمْ * قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ** لَيْسَ برَاعِي إبلٍ وَلاَ غَنَمْ * وَلاَ بجزَّار عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ ** هَذا أوَانُ الْحَرْب فَاشْتَدِّي زَلَمْ *وَقَدْ كَانَ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى النَّّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَلَّفَ خَيْلَهُ خَارجَ الْمَدِيْنَةِ وَدَخَلَ وَحْدَهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابلِ؛ خَرَجَ شُرَيْحُ نَحْوَ مَكَّةَ فِي تِجَارَةٍ عَظِيْمَةٍ فِي حُجَّاجِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أهْلِ الْيَمَامَةِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُغِيْرُ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإذا كَانَ أشْهُرُ الْحَجِّ أمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعضاً، وَإذا سَافَرَ أحَدُهُمْ فِي غَيْرِ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ نَحْوَ مَكَّةَ قَلَّدَ هَدْيَهُ مِنَ الشَّعْرِ وَالْوَبَرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَدْيٌ قَلَّدَ رَاحِلَتَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَاحِلَةٌ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ قِلاَدَةً، وَكَانُوا يَأْمَنُونَ بذلِكَ، فَإذا رَجَعُوا مِنْ مَكَّةَ جَعَلُوا شَيْئاً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فِي عُنُقِ الرَّاحِلَةِ فَيْأْمَنُوا، فَلَمَّا سَمِعَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بخُرُوجِ شُرَيْحٍ وَأصْحَابهِ اسْتَأْذنُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾؛ في موضعِ نَصْبٍ على الحالِ، معناهُ: قَاصِدِيْنَ طالِبينَ رزْقاً بالتِّجارةِ.
﴿ وَرِضْوَاناً ﴾ أي رضىً مِن اللهِ تعالى عَلَى عَمَلِهِمْ، وَلاَ يرضَى عنهم حتَّى يُسْلِمُوا. وقال الحسنُ وقتادةُ: (مَعْنَى رضْوَاناً؛ أيْ يَرْضَى اللهُ عَنْهُمْ؛ فَيُصْلِحُ مَعَاشَهُمْ وَيَصْرِفُ عَنْهُمْ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا إذا كَانُوا لاَ يُقِرُّونَ بالْبَعْثِ، ثُمَّ نُسِخَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذلِكَ تَعَرُّضَ الْمُشْرِكِيْنَ بقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾[التوبة: ٥] كَافَّةً، وَبقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾[التوبة: ٢٨]). وقرأ الأعمشُ (وَلاَ آمِّينَ) أي البيتَ الحرامَ بالإضافةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴾؛ أي لا يحملَنَّكم ويكسبنَّكم بُغْضُ قومٍ وعداوتُهم بأن صرفوكُم عامَ الْحُدَيْبيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على أن تَظْلِمُوهُمْ، وتتجاوزُوا الحدَّ للمكافأةِ. وموضع: ﴿ أنْ تَعْتَدُوا ﴾ نَصْبٌ لأنه مفعولٌ، و ﴿ أَنْ صَدُّوكُمْ ﴾ مفعولٌ لهُ، كأنهُ قال: لا يَكْسِبَنَّكُمْ بغضُ قومٍ الاعتداءَ عليهم بصدِّهم إيَّاكم. قرأ أهلُ المدينةِ إلاَّ قالون ابنَ عامرٍ والأعمش: (شَتْآنُ) بجزمِ النُّون الأُولى. وقرأ الآخرون بالفَتْحِ وهُما لُغتان؛ إلاّ أنَّ الفتحَ أجودُ لأنه أفْهَمُ اللُّغتين، ولأنَّ المصادِرَ أكثرُ ما تجيءُ على (فَعَلاَنُ) مثل النَّفَيَانِ وَالرَّتَقَانِ والعَسَلاَنِ ونحوُ ذلك. قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ أيْ وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمْ). وقال الفرَّاءُ: (وَلاَ يَكْسِبَنَّكُمْ)، قال: (يُقَالُ: فُلاَنٌ جَرِيْمَةُ أهْلِهِ؛ أيْ كَاسِبُهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو بكسرِ الألفِ على الاستئناف والجزاءِ، وقرأ الباقون بالفتحِ؛ أي لئن صَدُّوكُمْ، والفتحُ أجودُ؛ لأن الصَدَّ كان وَاقِعاً من الكفَّار يومَ الحديبيةِ قبل نُزُولِ هذه السورةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ﴾؛ أي تَحَاثُّوا على الطَّاعةِ وترك المعصيةِ، قال أبو العاليَةِ: (الْبِرُّ: مَا أمِرْتَ بهِ، وَالتَّقْوَى: تَرْكُ مَا نُهِيْتَ عَنْهُ). وظاهرُ الأمرِ يقتضي وجوبَ المعاونةِ على الطَّاعةِ، وظاهرُ الأمرِ على الوُجُوب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾؛ أي لا يُعِنْ بعضُكم بعضاً على شيءٍ من المعاصي والظُّلْمِ، وقال بعضُهم: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإثْمِ وَالْبرِّ؛ فَقَالَ:" الْبرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ أي اخْشَوْهُ وأطيعوهُ فيما أمرَكم به ونَهاكم عنه.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ إذا عَاقَبَ، فعقابهُ شديدٌ.
واختلفُوا في معنى النُّصُب ها هنا؛ قال ابن جُريج ومجاهدُ وقتادة: (كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسُتُّونَ حَجَراً، وَكَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا، ويُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَيَعْبُدُونَهَا وَيذْبَحُونَ لَهَا، وَكَانُوا مَعَ هَذا يُبْدِلُونَهَا إذا رَأوا حِجَارَةً هِيَ أعْجَبُ إلَيْهِمْ مِنْهَا). وَقَالُوا: (لَيْسَتْ أصْنَاماً إنَّمَا الصَّنَمُ مَا يُنْقَشُ). وقال آخرون: النُّصُبُ هي الأصنامُ الْمَنْصُوبَةُ. قال الأعشَى: وَذا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لاَ تَنْسُكَنَّهُ وَلاَ تَعْبُدِ الأَوْثَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَاقال قُطْرُبُ: (مَعْنَى الآيَةِ: وَمَا يُذْبَحُ لِلنُّصُب؛ أيْ لأَجْلِهَا، وَاللاَّمُ وَ (علَى) يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلاَمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ فَسَلاَمٌ لَّكَ ﴾[الواقعة: ٩١] أيْ عَلَيْكَ، وَقَالَ تَعَالَى:﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾[الاسراء: ٧] أيْ فَعَلَيْهَا). وقال بعضُهم: معناهُ: وما ذُبحَ على اسمِ النُّصُب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ﴾؛ وهي القِدَاحُ؛ أي حُرِّمَ عليكم الاسِتِقْسَامُ؛ وهُوَ طَلَبُ الْقَسَمِ بالأَزْلاَمِ؛ وَهِيَ الْقِدَاحُ الَّتِي كَانُوا يَجلِبُونَهَا عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْمَيْسِرِ ويقتسمونَ بها لَحْمَ الْجَزُور على ما تقدم ذكره في قوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾[البقرة: ٢١٩].
وقال الحسنُ: (كَانُوا يَتَّخِذُونَ السِّهَامَ؛ فَإذا أرَادَ الرَّجُلُ أنْ يَخْرُجَ إلَى سَفَرِ أوْ تِجَارَةٍ أوْ سَرُوحٍ؛ أجَالَ السِّهَامَ بيَدِهِ، وَكَانَ مَكْتُوباً عَلَى بَعْضِهَا: أمَرَنِي رَبي، وَعَلَى بَعْضِهَا: نَهَانِي رَبي، فَإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ: أمَرَنِي رَبي؛ قَالَ: قَدْ أُمِرْتُ بالْخُرُوجِ وَلاَ بُدَّ لِي مِنْ ذلِكَ؛ فَيَخْرُجُ، وَإنْ كَرِهَ الْخُرُوجَ خَرَجَ غَيْرَ بَعِيْدٍ ثُمَّ رَجَعَ، ولاَ يَدْخُلُ مِنْ بَاب بَيْتِهِ، وَلَكِنْ يَنْقُبُ ظَهْرَ بَيْتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ وَمِنْهُ يَخْرُجُ إلَى أنْ يَتَّفِقَ لَهُ الْخُرُوجُ. وَإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ: نَهَانِي رَبي، قَالَ: قَدْ نُهِيْتُ عَنِ الْخُرُوجِ، وَلاَ يَسْعُنِي. فَنَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ). فعلى هذا لا يجوزُ أن يكونَ معنى الاسْتِقْسَامِ طلبَهم في الخروجِ والجلوسِ، والخروج في قَسْمِ الرِّزْقِ والحوائجِ، وظاهرُ هذه الآية يقتضِي أنَّ العملَ على قولِ الْمُنَجِّمِيْنَ: لا تخرجُ من أجلِ نَجْمِ كذا؛ وَاخْرُجْ من أجلِ نَجْمِ كَذا؛ فِسْقٌ لأنَّ ذلكَ دُخُولٌ فِي عِلْمِ الْغَيْب، وَلاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلاّ اللهُ. وَمَعْنَى الفِسْقُ: الخروجُ من الطاعةِ؛ وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ﴾؛ إشارةٌ إلى ما تقدَّم ذكرهُ من المعاصي والحرامِ. قُوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ ﴾ في موضعِ رَفْعٍ؛ أي وَحُرِّمَ عليكُم الاستقسامُ بالأزلامِ، والأزْلاَمُ: هِيَ الْقِدَاحُ الَّتِي لاَ ريْشَ لَهَا وَلاَ نَصْلَ، وَاحِدُهَا زُلَمٌ، مثلُ عُمَرَ وَزُفَرَ، وَقِيْلَ: زَلَمٌ مثلُ قَلَمٍ. وقال ابنُ جُبير: (هِيَ حَصَى بَيْضَاءَ كَانُوا يَضْرِبُونَ بهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَوْمَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ ومَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ يَوْمُ الْفَتْحِ، يَئِسَ الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ مِنْ رُجُوعِ الْمُسْلِمِيْنَ إلَى دِيْنِهْم بمَا ظَهَرَ مِنْ عُلُوِّ الإسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِيْنَ عَلَى سَائِرِ الأَدْيَانِ). وقال بعضُهم: أراد به يَوْمَ حَجَّةِ الوداعِ، وقال الحسنُ: (أرَادَ بالْيَوْمِ جَمِيْعَ زَمَانِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصْرِهِ، كَمَا يُقَالُ: كَانَتْ حَادِثَةُ كَذا فِي يَوْمِ فُلاَنٍ، يُرَادُ بهِ عَصْرُهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِْ ﴾؛ أي لِيَكُنْ خوفكُم للهِ وحدَه؛ فقد أمِنْتُمْ، وحوَّلَ الله الخوفَ الذي كان يلحقُكم إليهم بإظهار الإسلامِ. وَقِيْلَ معناهُ: لا تَخْشَوْهُمْ بإظهار تحريم ما كانوا يُبيْحُونَهُ، وأسرِعُوا في تركِ إظهار الْمُحَرَّمَاتِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ وَالنَّاسُ وُقُوفٌ رَافِعُونَ أيْدِيَهُمْ بالدُّعَاءِ، فَبَرَكَتْ نَاقَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ثِقَلِ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ أنْ كَادَ عَضُدُهَا يَنْدَقُّ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةُ حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ، وَعَاشَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهَا وَاحِداً وَثَمَانِيْنَ يَوْماً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ تَعَالَى إلَى رَحْمَتِهِ). قال طارقُ بنُ شِهابٍ: (جَاءَ يَهُودِيٌّ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ! آيَةٌ تَقْرَأونَهَا لَوْ أنْزِلَتْ عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا يَوْمَ نُزُولِهَا عِيْداً، فَقَالَ: وَأيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ الآيَةُ، قَالَ عُمَرُ: هَلْ عَلِمْتَ فِي أيِّ يَوْمٍ نَزَلَتْ وَفِي أيِّ مَكَانٍ نَزَلَتْ؟ إنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ، وَكِلاَهُمَا بحَمْدِ اللهِ لَنَا عِيْدٌ، وَلاَ يَزَالُ ذلِكَ الْيَوْمُ عِيْداً). قال ابنُ عبَّاس: (إنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيْدَيْنِ: يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ عَرَفَةَ)." رويَ عن عمرَ رضي الله عنه أنَّهُ بَكَى يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَا يُبْكِيْكَ يَا عُمَرُ؟! " قَالَ: أبْكَانِي أنَّا كُنَّا فِي زيَادَةٍ مِنْ دِيْنِنَا، فَأمَّا إذا أكْمِلَ، فَإنَّهُ لاَ يَكْمَلُ شَيْءٌ إلاّ نَقُصَ، قَالَ: " صَدَقْتَ "واختلفُوا في معنىَ الآيةِ؛ قال بعضُهم: معناها: اليومَ أكملتُ لكم شَرَائِعَ دِيْنِكُمْ من الفرائضِ والسُّنَنِ والأحكامِ والحدود والحلال والحرام، فلم يَنْزِلْ بعدَها حلالٌ ولا حرامٌ ولا شيء من الفرائضِ، وثَبَتَ لكم جميع ما كنتُ أريدُ أن أبَيِّنَهُ لكم في الأزَلِ، فأمَّا دينُ اللهِ فلم يَزَلْ كامِلاً لا يُنْقَصُ فيهِ، وهذا قولُ ابنِ عبَّاس والسُّدِّيُّ. وقال قتادةُ وسعيدُ: (مَعْنَاهُ: أكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ؛ فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ). ويحتملُ أن يكون المرادُ بالأكملِ للدين أظْهَرَهُ على سائرِ الأديان بالنُّصْرَةِ والغَلَبَةِ، و (الْيَوْمَ) نُصِبَ على الظَّرفِ، كما يقالُ: الآنَ، وفِي هذا الزَّمانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ أي أتْمَمْتُ عليكم مِنَّتِي بإظهار الدِّينِ حتى لم يَحُجَّ معكم مُشْرِكٌ، وَقِيْلَ: نِعْمَةُ اللهِ بَيَانُ فَرَائِضِهِ، وَقِيْلَ: هي إيجابُ الجنَّةِ، وَقِيْلَ: معناهُ: وأنجزتُ لَكُمْ وَعْدِي في قَوْلِي:﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ١٥٠]، فكان من تَمَامِ نِعْمَتِهِ أنْ دَخَلُوا مكَّةَ آمنينَ وعليها ظاهرين، وحَجُّوا مطمئنِّين، ولم يخالِطْهم أحدٌ من المشركينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً ﴾ أي اخْتَرْتُ لكمُ الإسلامَ من الأديانِ كلِّها دِيناً، فمن دَانَ بالإسلام، فقد اسْتَحَقَّ ثَوَابي ورضَاي. والدِّينُ: اسْمٌ لِجَمِيْعِ مَا يَعْبُدُ اللهَ بهِ خَلْقُهُ، وأمرَهم بالإقامةِ عليه، وهو الذي أمِرُوا أن يكونَ ذلك عادتُهم والذي به يجزونَ، فإن الدِّينَ في اللغة: الْعَادَةُ، والدِّين الْجَزَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي مَنْ دَعَتْهُ الضرورةُ إلى أكلِ شيء مِمَّا حَرَّمَ اللهُ عليه في مجاعةٍ غَيْرِ مائلٍ إلى إثْمٍ؛ أي زَائِدٍ على ما يَسُدُّ به رَمَقَهُ ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أباحَ ذلك رحمةً منه وتسهيلاً على خَلْقِهِ. وَالْمَخْمَصَةُ: مَأْخُوذةٌ مِنَ الْمَخْصِ وَهُوَ شِدَّةُ ضُمُور الْبَطْنِ، وَالْمُتَجَانِفُ مِنَ الْجَنَفِ وَهُوَ الْمَيْلُ.
﴿ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾، أو كنتم مسافرين.
﴿ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ ﴾؛ معناهُ: وجاءَ أحدٌ منكُم مِن قضاءِ الحاجةِ، لأنهُ لا خَلاَءَ، وأنَّ المريضَ والمسافرَ إذا لم يكونا مُحْدِثَيْنِ لا يلزمُهما الوضوءُ ولا التَّيَمُّمُ، وقد تذكرُ (أو) بمعنى (الواو) مثلُ قولهِ تعالى:﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات: ١٤٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَْ ﴾؛ معناهُ: أو جَامَعْتُمْ النِّسَاءَ. ﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً ﴾؛ أي تَقْدِرُونَ على ما تَتَطَهَّرُونَ بهِ من الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ.
﴿ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ﴾؛ أي اقْصُدُوا تُرَاباً نَظِيفاً.
﴿ فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ ﴾؛ اختلفَ العلماءُ في قولهِ (مِنْهُ)؛ قال أبو يوسف: (مَعْنَاهُ التَّبْعِيْضُ؛ أي امْسَحُواْ بوُجُوهِكُمْ وأيدْيكُمْ مِنْ بَعْضِ الصَّعِيْدِ وَهُوَ التُّرَابُ). وقال أبُو حَنِيْفَةَ ومحمدُ: (مَعْنَى (مِنْ) هَا هُنَا ابْتِدَاء الْغَايَةَ؛ أيْ فَانْقُلُوا الْيَدَ بَعْدَ وَضْعِهَا عَلَى الصَّعِيْدِ إلَى الْوُجُوهِ وَالأَيْدِي مِنْ غَيْرِ أنْ يَتَخَلَّلَهَا مَا يُوْجِبُ الْفَصْلَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾؛ أي ما يريدُ الله أنْ يجعلَ عليكم بتكليفِ العباداتِ تَضْييقاً في الدِّينِ.
﴿ وَلَـٰكِن ﴾، وإنَّما.
﴿ يُرِيدُ ﴾، بذلكَ.
﴿ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾، أن يُطَهِّرَكُمْ من الذُّنوب وَالأحْدَاثِ وَالْجَنَابَةِ، كما رويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" أيَّمَا رَجُلٍ قَامَ إلَى وُضُوئِهِ يُرِيْدُ الصَّلاَةَ ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ نَزَلَتْ خَطِيْئَةُ كَفَّيْهِ مَعَ أوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإذا تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ نَزَلَتْ خَطِيِئَةُ لِسَانِهِ وَشَفَتَيْهِ مَعَ أوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإذا غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ سَلِمَ مِنْ كُلِّ ذنْبٍ هُوَ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّهُ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ قال الحسنُ: (بإدْخَالِ الْجَنَّةِ)، وقال ابنُ عبَّاس: (بجَوَاز التَّيَمُّمِ لَكُمْ بالتُّرَاب فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ). ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾؛ أي لِكَي تَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ فِي رُخْصَتِهِ لَكُمْ وَتَخْفِيْفِهِ عَلَيْكُمْ فِي التَّكْلِيْفِ. قال عثمانُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" مَا تَوَضَّأَ عَبْدٌ فَأَسْبَغَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلاَةِ إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الأُخْرَى "
﴿ وَمِيثَاقَهُ ﴾ أي عهده الذي عاهَدَكُم به. قال ابنُ عبَّاس والحسنُ: يَعْنِي الْمِيْثَاقَ الَّذِي أخَذهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِيْنَ أخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبهِ، وقال:﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ ﴾[الأعراف: ١٧٢].
وقال السُّدِّيُّ: (أرَادَ بالْمِيْثَاقِ هُنَا مُبَايَعَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَا أمَرَ بهِ أوْ نَهَى فِي حَالِ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالرِّضَا وَالْكُرْهِ). وَهَذا أقْرَبُ إلَى ظَاهِرِ الآيَةِ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ الميثاقَ وهم لا يحفظونَ الميثاقَ الذي من وَقْتِ آدمَ. وَقِيْلَ: أرادَ به العهدَ الوثيقَ الذي أخَذهُ اللهُ على جميعِ عبادهِ في أوامرهِ ونواهيه فَسَمِعُوهُ وقَبلُوهُ وآمَنُوا به على ما فَسَّرَ اللهُ بقولهِ: ﴿ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ أي اخْشَوا عِقَابَهُ في نقضِ الميثاقِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾؛ أي بما في القلوب من الوَفَاءِ والنَّقْضِ، وذاتُ الصُّدُور ما تَضَمَّنَتْهُ الصُّدورُ وهي القلوبُ.
﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ﴾؛ أي لاَ يحملنَّكم بُغْضُ الكفَّار على تركِ العدلِ فيه مُكَافَأَةٌ لِما سَلَفَ منهم، ويقالُ: لا يَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَةُ المشهودِ لهُ على كِتْمَانِ مالهِ عندَكم من الشهادةِ، ولا عداوةُ المشهودِ عليه على إقامةِ الشَّهادةِ عليه بغيرِ حَقٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾؛ أي اعْدِلُوا في جميعِ أقوالِكم وأفعالكم فيما لكُم وعليكُم، فإنَّ العدلَ أقربُ للتَّقوَى؛ أي أقربُ إلى أن تَصِيروُا به مؤمنينَ، وَقِيْلَ: أقربُ إلى تقوَى عذاب الله. ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ والعدلِ والْجَوْر.
﴿ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾؛ بالمنعِ عن قَتْلِكُمْ.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ في جميعِ أمُورهم وأحوالِهم.
﴿ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾؛ أي تَصَدَّقْتُمْ مِن أموالِكم تطوُّعاً صدقةً حسَنَةً؛ وهي أن تكونَ من حَلاَلِ المالِ وخِيَارهِ برغبةٍ وإخلاصٍ لا يَشُوبُهَا رياءٌ ولا سُمعةٌ وَلا يُكَدِّرُهَا مَنٌّ ولا أذًى.
﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ من تحت شَجَرِهَا ومساكِنها؛ ﴿ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾؛ العَهْدِ والميثاقِ؛ ﴿ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ اي أخْطَأَ قصدَ الطريقِ وهو طريقُ الجنَّةِ، فمَنْ أضَلَّهُ وقعَ في طريقِ النَّار إذ لا طريقَ سواهُما.
قرأ السلَّمي والنخعيُّ: يحرِّفونَ الكلامَ باللَّفِّ؛ أي يُغَيِّرُونَ ألفاظَهُ ولا يُقِرُّونَهُ على ما هو عليه في التَّوراةِ، كما أخبرَ الله تعالى عنهُم مِن لَيِّ ألسِنَتِهم بالكتاب، وَقِيْلَ: يُغَيِّرُونَ تَأْويْلَه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ﴾؛ أي وَتَرَكُوا نصِيباً مِمَّا أُمِرُوا به في كتابهم من نَعْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصفتهِ، ومِنْ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وأصلُ النِّسيَانِ التَّرْكُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾؛ أي لا تَزَالُ يا مُحَمَّدُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ ومعصيةٍ مِنْهُمْ، وفَاعِلَةٌ من أسماءِ المصادرِ مثل: عَاقِبَةٍ وَكَاذِبَةٍ، وقد تكونُ الخائنةُ من أسماءِ الجماعةِ كما يقالُ: رَافِضٌ ورافِضَةٌ، فيكون المعنى: ولا تزالُ تَطَّلِعُ على فِرْقَةٍ خائنةٍ منهم مثلَ كعب بن الأشرف وأصحابهِ من بني قُريظةَ حين نَقَضُوا العهدَ، ورَكِبُوا إلى أبي سُفيانَ بمكة، ولَقُوهُ وعاهَدوهُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ما سَبَقَ ذِكْرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ﴾؛ لم ينقُضُوا العهدَ، وهم عبدُالله بنُ سَلامٍ وأصحابُه. وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى (خَائِنَةٍ) أيْ مَعْصِيَةٌ)، وقال بعضُهم: أي كَذِبٌ وفجورٌ، وكانت خيانتُهم بنَقْضِ العهدِ، ومظاهرتُهم المشركينَ على حَرْب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهَمُّهُمْ بقتلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ ﴾؛ أي أعْرِضْ عنهُم ولا تعاقِبْهُم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي الْمُتَجَاوزيْنَ، وهذا مَنْسُوخٌ بآيةِ السَّيفِ بقولهِ:﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾[التوبة: ٢٩].
﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ أي هَيَّجْنَا بين فِرَقِ النَّصَارَى، وهم النَّسْطُوريَّةُ وَالْيَعْقُوبيَّةُ وَالْمَلْكَانِيَّةُ، وألْقَيْنَا بينَهم العداوةَ في الدِّينِ. وذلك أنَّ اللهَ رَفَعَ الأُلْفَةَ بينَهم وألقَى بينهم العداوةَ والبغضاءَ، فَهُمْ يَقْتَتِلُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وأصلُ الإغْرَاءِ: الإلْصَاقُ مَأَخُوذٌ مِنَ الغِرَاءِ الَّذِي يُلْصَقُ بهِ الأَشْيَاءُ، وَالْعَدَاوَةُ: تَبَاعُدُ الْقُلُوب وَالنِّيَّاتِ، والْبَغْضَاءُ: الْبُغْضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾؛ أي يخبرُهم في الآخرةِ بما كانوا يصنعونَ من الجِنَايَةِ والمخالفةِ وكِتْمَانِ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصِفَتِهِ. ثم خاطبَ اللهُ تعالى الفريقين من اليهودِ والنَّصارَى فقالَ تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾؛ يعني التَّوراةَ والإنجِيْلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تُخْفُونَ ﴾ يعني صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وآيةَ الرَّجْمِ، وإضافةُ اليهودِ والنَّصارَى إلى الكِتَابِ تَعْييْرٌ لَهم، كما يقالُ: يَا عَاقِلُ لَمْ تَعْلَمْ؛ أي يا جاهلُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾؛ يعني بالنُّور مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لكم كثيراً مِمَّا كنتم تَكْتُمُونَ من الإسلامِ، وآيةِ الرَّجمِ، وتحريمِ الزِّنَا وغيرِ ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي يتجاوزُ عن كثيرٍ مِمَّا كنتُم تكتمونَهُ ولا يعاقبُكم عليهِ، يعني مِمَّا لم يُؤْمَرْ ببَيَانِهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ يعني الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الحلالَ والحرامَ والأمرَ والنَّهيَ.
﴿ بِإِذْنِهِ ﴾؛ أي بإذنِ الله ومشيئتِه، وسُمِّيَ الإيْمانُ نوراً؛ لأنَّ الإنسانَ إذا آمَنَ أبْصَرَ بهِ طريقَ نَجاتِهِ فَطَلَبَهُ، وطريقَ هَلاَكِهِ فَحَذِرَهُ. قَوْلُهُ تعالَى: ﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي ويُرْشِدُهُمْ إلى طريقِ الحقِّ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾؛ نزلَتْ في نَصَارَى نَجْرَانَ وهم الماريعقوبية أو اليعقوبية، قالُوا: إنَّ اللهَ هو المسيحُ بن مريَمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: مَن يَقْدِرُ أن يدفعَ شيئاً من عذاب الله؛ ﴿ إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾؛ أي إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ عيسَى ابن مريم وأمَّهُ، وهذا احتجاجٌ من اللهِ تعالى على النَّصارَى بما لا يَملكون دَفْعَهُ، إذِ المسيحُ وأمُّهُ بَشَرانِ يأكُلانِ الطعامَ ويحتاجَان إلى ما يحتاجُ إليه الناسُ، وقد عَلِمُوهُ ضرورةً أنَّهما كَانَا بعدَ أن لَم يَكُونَا، وشاهدَ كثيرٌ منهم ميلادَ عِيْسَى وحالَهُ مِن الطفولةِ والشَّباب والكُهُولَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ﴾ أي إذا أرادَ اللهُ إهلاكَ عيسَى وأُمَّهُ لَمَا أعجزَهُ ذلكَ، ولا هناكَ دافعٌ، وكيفَ يكون إلَهاً مَن لا يقدرُ على دفعِ الْهَلاكِ عن نفسهِ ولا عن غيرِه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾؛ أي مَنْ مَلَكَ السَّماواتِ والأرضَ لا يُوصَفُ بالولادةِ. وَقِيْلَ: مَن كان مَالِكُ السَّماواتِ والأرضَ يقدرُ على خَلْقِ وَلَدٍ بلا وَالِدٍ، كما قال تعالى: ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾؛ أي كما يشاءُ، بأَبٍ وبغيرِ أبٍ، ولو كان خَلْقُ عيسَى من غيرِ أبٍ مُوجِباً كونه إلَهاً وابنَهُ لكانَ خَلْقُ آدمَ من غيرِ أبٍ ولا أمٍّ أوْلَى بذلكَ؛ لأنه أعجَبُ وأبْدَعُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ مِن خَلْقِ عيسَى وغيرِه قادرٌ على عقوبَتِكم.
﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ ﴾؛ يُبَشِّرُكُمْ بالجنَّةِ إنْ أطعتمُوهُ.
﴿ وَنَذِيرٌ ﴾؛ يُنْذِرُكُمْ بالنار إنْ عصيتموهُ.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ مِن إرسالِ الرُّسُلِ والثواب والعِقَاب. وقولهُ تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾؛ فَاذْكُرُوا يا أهلَ الكِتَاب إذ قالَ مُوسَى لِبَنِي إسرائيلَ احْفَظُوا مِنَّةَ اللهِ عليكُم إذْ أكرمَ بعضَكم بالنُّبُوَّةِ، وهم السَّبعُونَ الذين اختارَهم موسَى وانطلَقُوا معهُ إلى الجبلِ. وإنَّما مَنَّ اللهُ عليهِم بذلكَ، لأنَّ كثرةَ الأشرافِ والأفَاضِلِ في القومِ شرفٌ وفضلٌ لَهم، ولا شرفَ أعظمَ من النُّبُوَّةِ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ أي أحْرَاراً تَملِكُونَ أمرَ أنفسِكم بعدَ أن كانت تَسْتَعْبدُكُمُ القِبْطَةُ في مملكةِ فرعونَ، وَقِيْلَ: مُلُوكاً ذوي خَدَمٍ، وأهلِ مَنَازلَ لا يدخلُ عليكم فيها إلاَّ بإذنٍ. قَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ ﴾؛ أي أعطاكُم من عالِمِي زمانِكم، ويقالُ: أرادَ بذلكَ جميعَ العالمين، فإنه تَعَالَى أنزلَ عليهم الْمَنَّ والسَّلْوَى، وظَلَّلَهُمْ بالغَمَامِ، ولم يُؤْتِ أحداً مِثْلَ هذه النِّعَمِ قبلَهم. ولا يدخلُ المستقبلُ في اللفظِ؛ لأنَّ اللفظَ خَبَرٌ عن ما مَضَى، ولا يدخلُ ذلكَ على أنهُ لم يُؤْتِ أمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مثلَ الفَضِيْلَةِ التي آتاهُمْ أو أكْثَرَ، والغرضُ من هذه الآيةِ أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أن يُكَلِّفَهُمْ دخولَ الأرضِ المقدَّسة، وكان يَشُقُّ ذلكَ عليهم فَقَدَّمَ ذِكْرَ نِعَمِهِ عليهم ليكونَ بأمتثالِهم مثالٌ على امتثالِ أمرِ الله تعالى.
وأمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾ قال ابنُ عبَّاس: (هِيَ أرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ). ويقال: هي دمشقُ وفلسطين وبعضُ الأردنِّ، وسُميت (الْمُقَدَّسَةَ)؛ لأنَّها طُهِّرَتْ من الشِّرْكِ، وجُعِلَتْ مَسْكَناً وقَراراً للأنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ ﴾ أي أمَرَكُم بدخولِها. وَقِيْلَ: التي كتبَ اللهُ لكم في اللَّوحِ الْمحفوظِ أنَّها لكُم مساكنُ، ويقال: التي وَهَبَ اللهُ لأبيكُم إبراهيمَ عليه السلام، وجعلَها مِيراثاً لكم، وذلكَ أنَّ إبراهيمَ حين ارتفعَ على الجبلِ، قِيْلَ لهُ: أنْظُرْ؛ فَلَكَ ما أدركَ بصرُكَ وهو ميراثٌ لولدِكَ مِن بعدكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾؛ أي لا تَرْجِعُوا وراءَكم وتَجْبُنُوا من عدوِّكم منهزمينَ منهم فتنصرفُوا مغبونينَ بفَوْتِ الظَّفَرِ في الدُّنيا والعقوبةِ في الآخرة.
﴿ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾؛ حينئذٍ.
﴿ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ﴾؛ أي هَدَاهُمَا لقَبُولِ أمرهِ ومعرفة صدقِ وَعْدِهِ: ﴿ ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ ﴾؛ أي بابَ قرية الجبَّارينَ وهي أريْحَا.
﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ ﴾؛ أي فإذا دخلتُم ذلكَ البابَ؛ ﴿ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ﴾؛ عليهم؛ لأنَّهم إذا رَأوا كثرتَكم انكسرت قلوبُهم فَتَغْلِبُوهُمْ.
﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ ﴾؛ أي فَوِّضُوا أمرَكُم إليهِ.
﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ أي مُصَدِّقِيْنَ بوعدِ الله. وفي الآيةِ ثناءٌ على الرَّجُلَيْنِ إذ لم يَمْنعهُما الخوفُ من العدوِّ عن قولِ الحقِّ. وقد رويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:" لاَ يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ مَخَافَةَ النَّاسِ أنْ يَقُولَ الْحَقَّ إذا رَآهُ أوْ عَمِلَهُ، فَإنَّهُ لاَ يُبْعِدُ مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ يُدْنِي مِنْ أجَلٍ "
﴿ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾؛ مُنْتَظِرِيْنَ، فقولُهم: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ، احتملَ أنَّهم قالوا ذلكَ على وجهِ الْمَجَاز على معنى: وَرَبُّكَ مُعِيْنٌ لكَ، وكان هذا القولُ فِسقاً منهم مِن امتناعِهم عن الْمُضِيِّ إلى أمرِ الله. وَقِيْلَ: يحتملُ أنَّهم عَنَوا بذلكَ الذهابَ ذهابَ النُّقْلَةِ، وهذا تشبيهٌ وكُفْرٌ مِن قائلهِ، وهو أقربُ إلى معنى كلامِهم؛ لأنَّ كلامَ اللهِ تعالى خَرَجَ مخرجَ الإنكار عليهم، والتَّعَجُّب من جَهْلِهِمْ. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ لَمَّا أرَادَ الْخُرُوجَ إلَى بَعْضِ الْغَزَوَاتِ اسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مَعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ذلِكَ؛ فَقَالاَ: (إنَّا لَنْ نَقُولَ لَكَ مِثْلَ مَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيِلَ لِمُوسَى: إذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَإنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنَّّا نَقُولُ: إذْهَبْ فَقَاتِلْ عَدُوَّكَ إنَّا مَعَكَ مُقَاتِلُونَ). وفِي بعضِ الرِّواياتِ قالُوا: (أقْعُدْ أنْتَ فَإنَّا بأَمْرِكَ مُقَاتِلُونَ). وقال الْمِقْدَادُ ابنُ الأَسْوَدِ: ((إنَّا وَاللهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيْلَ لِمُوسَى: (إذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) وَلَكِنَّا نَقُولُ: نُقَاتِلُ عَنْ يَمِيْنِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ، وَلَوْ خُضْتَ بنَا الْبَحْرَ لََخُضْنَاهُ مَعَكَ، وَلَوْ عَلَوْتَ جَبَلاً لَعَلَوْنَاهُ مَعَكَ. فَأَشْرَقَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِذلِكَ وَسَرَّهٌ)).
﴿ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ أي اقْضِ وَافْصِلْ بيننا وبينَ القوم العَاصِيْنَ. وكَانَتْ عَجَلَةً عَجَّلَهَا مُوسَى عليه السلام، فأوحَى الله إلى موسى: إلَى مَتَى يَعْصِيني هذا الشعبُ وإلى متَى لا يُصَدِّقُونَ بالآياتِ، لأُهْلِكَنَّهُمْ وَاجْعَلَنَّ لكَ شَعْباً أشَدَّ وأكثرَ منهم. فقال: إلَهِي لو أنَّكَ أهلكتَ هذا الشَّعبَ من أجْلِ أنَّهم لن يستطيعُوا أن يدخلوا هذه الأرضَ فتقتلُهم في البَرِّيَةِ وأنت عظيمٌ عَفْوُكَ كثيرٌ نِعْمَتُكَ وأنتَ تغفرُ الذنوبَ، فَاغْفِرْ لَهم. فقال اللهُ تَعَالَى: قد غَفَرْتُ لَهم بكلمتِكَ، ولكن بَعْدَمَا سَمَّيتَهُمْ فاسِقينَ، وَدَعَوْتَ عليهم في عجلة لأُحَرِّمَنَّ عليهم دخولَ الأرضِ المقدَّسةِ، فذلك قولهُ: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ ﴾؛ يَتَحَيَّرُونَ؛ ﴿ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾.
وَقِيْلَ: إنَّ قولهم لموسَى: ﴿ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ كان سُؤَالاً منه الفَرْقَ في الحقيقةِ دون القضاء، وكان دعاؤُه مُنْصَرِفاً إلى الآخرةِ، أي أدْخِلْنَا الجنَّةَ إذا أدخلتَهم النارَ، ولم يَعْنِ بذلك في الدُّنيا؛ لأنه لو عَنَى ذلكَ لأجاب الله تعالى دُعَاءَهُ وأهلكَهم جميعاً؛ لأنَّ دعاءَ الأنبياءِ لا يُرَدُّ من أجلِ أنَّهم يدعونَ بأمرِ الله تعالى. ويقالُ: كان هذا دعاءً راجعاً إلى الدُّنيا، وقد أجابَ اللهُ تعالى دعاءَه؛ لأنَّهُ عاقبَ قومَهُ في التِّيْهِ، ولم يكن موسَى وهارون محبوسَين في التِّيْهِ؛ لأن الأنبياءَ علَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يعذبون. قال الحسنُ: (لاَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوسَى مَعَهُمْ فِيْهَا لاَ حَيّاً وَلاَ مَيِّتاً، ولاَ يجُوزُ إذا عَذبَ اللهُ بنَبيٍّ إلاَّ أنْ يُنَجِّيَ ذلِكَ النَّبيَّ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ). ويقالُ: إنَّ هذا الدُّعاء كان مِن موسى عليه السلام عندَ الغَضَب؛ لأنه عنى به الحقيقة، ألا ترى أنه نَدِمَ على دعائه وجزِعَ من تحريم قرية الجبارين عليهم جزعاً شديداً حتى قيل له: لا تأس على القوم الفاسقين. قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ أي قال اللهُ تعالى: فإنَّ الأرضَ المقدَّسةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ؛ أي هم مَمْنُوعُونَ من دخولِها أربعينَ سنةً، وأصْلُ التَّحْرِيْمِ الْمَنْعُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾[القصص: ١٢] وأرادَ: به الْمَنْعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي يَتَحَيَّرُونَ. قال ابنُ عبَّاس: (يَتَحَيَّرُونَ فِي سِتَّةِ فَرَاسِخَ أرْبَعِيْنَ سَنَةً، كَانُوا يَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ النَّهَار فَيُمْسُونَ فِي مَكَانِهِمْ، وَيَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ اللَّيْلِ، فَتَدُورُ بهِمُ الأَرْضُ فَيُصْبحُونَ فِي مَكَانِهِمْ). قال الحسنُ: (عَمِيَ عَلَيْهِمُ السَّبيْلَ وَأخْفِيَ عَلَيْهِمُ الأعْلاَمُ الَّتِي يَهْتَدُونَ إلَى الطَّرِيْقِِ فَلَمْ يَسْتَطِيْعُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا). وذهبَ بعضُهم أنَّ قولَهُ: ﴿ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ منصوب بـِ ﴿ يَتِيهُونَ ﴾، قالوا: كانتِ الأرضُ المُقدَّسةُ حراماً على أولئِكَ القومِ الذينَ عَصَوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أبداً، ولم يَبْقَ منهُم أحدٌ بعد أربعين سنةً، إنَّما بَقِيَ يُوشُعُ بنُ نُون وكَالِبُ. وَقِيْلَ: ماتَ من النُّقباءِ العشرةِ الذين فَشَوا الخبرَ وهم ثمانيةٌ، ومعهم سبعُمائة ألفِ مقاتلٍ، فكان كلُّ مَن دخلَ التِّيْهَ مِمَّنْ جاوزَ عشرينَ سنةً ماتَ في التِّيْهِ غيرَ يوشعِ وكالب، ولم يدخُلْ أريْحا ممن قالُوا إنَّا لن ندخُلها، وماتَ موسَى وأخوهُ هارون حين انقضاءِ التِّيْهِ. وَفَاةُ هَارُونَ عليه السلام: قال السُّدِّيُّ: (أوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى: أنِّي مُتَوَفٍّ هَارُونَ فَأْتِ بهِ جَبَلَ كَذا. فَانْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونَ نَحْوَ ذلِكَ الجَبَلِ، فَإذا هُمَا بشَجَرَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَإذا سَرِيْرٌ عََلَيْهَا فُرُشٌ وَريْحٌ طَيِّبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إلَى ذلِكَ أعْجَبَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى إنِّي أحِبُّ أنْ أنَامَ عَلَى هَذا السَّرِيْرِ، قَالَ لَهُ: نَمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَامَ عَلَيْهِ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: يَا مُوسَى خَدَعْتَنِي. فَلَمَّا تُوُفِّيَ ذَهَبَ إلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَرُفِعَ السَّرِيْرُ إلَى السَّمَاءِ. فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى عليه السلام إلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ وَلَيْسَ مَعَهُ هَارُونُ قَالُوا: فَإنَّ مُوسَى قَتَلَ هَارُونَ وَحَسَدَهُ عَلَى حُب بَنِي إسْرَائِيْلَ. فَقَالَ مُوسَى: وَيْلَكُمْ أفَتَرونِي أقْتُلُ أخِي! فَلَمَّا كَثُرُوا عَلَيْهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا، فَنَزَلَ السَّرِيْرُ حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ فَصَدَّقُوهُ). وقال عُمَرُ بنُ مَيْمُونٍ: (مَاتَ هَارُونُ فِي بَعْضِ الْكُهُوفِ، فَدَفَنَهُ مُوسَى فَرَجَعَ إلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ؛ فَقَالُوا: أيْنَ هَارُونُ؟ قَالَ: مَاتَ، قَالُوا: لاَ؛ وَلَكِنَّكَ قَتَلْتَهُ لِحُبنَا إيَّاهُ. فَتَضَرَّعَ مُوسَى إلَى رَبهِ وَشَكَى مَا قَالَ بَنُو إسْرَائِيْلَ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ: انْطَلِقْ بهِمْ إلَى قَبْرِهِ فَأنَا بَاعِثُهُ حَتَّى يُخْبِرَهُمْ بأنَّهُ مَاتَ. فَانْطَلَقَ بهِمْ إلَى قَبْرِ هَارُونَ؛ فَنَادَاهُ: يَا هَارُونُ! فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أنَا قَتَلْتُكَ؟! قَالَ: لاَ، وَلَكِنِّي مُتُّ، قَالَ: فَعُدْ إلَى مَضْجَعِكَ، وَانْصَرَفَ). وَفَاةُ مُوسَى عليه السلام: قَالَ أبُو هُرَيْرَةَُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إلَى مُوسَى عليه السلام فَقَالَ لَهُ: أجِبْ رَبَّكَ، فَلَطَمَ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، فَرَجَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ: يَا رَب! إنَّكَ أرْسَلْتَنِي إلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيْدُ الْمَوْتَ، فَقَأَ عَيْنِي، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إلَى عَبْدِي وَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ تُرِيْدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْر فَمَا دَارَتْ عَلَيْهِ مِنْ شَعْرَةٍ فَلَكَ بهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَاذا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ مِنْ قَرِيْبٍ، قَالَ: رَب أدْنِينِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أنِّي عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلَى جَانِب الطَّرِيْقِ عِنْدَ الْكَثِيب الأَحْمَرِ "قَالَ محمدُ بنُ يَحْيَى: (قَدْ صَحَّ حَدِيْثُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمُوسَى عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَرُدُّهُ إلاَّ كُلُّ مُبْتَدِعٍ). وفي حديثٍ آخرَ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" إنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ كَانَ يَأْتِي النَّاسَ عَيَاناً، حَتَّى أتَى مُوسَى عليه السلام لَيَقْبضَهُ فَلَطَمَ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ بَعْدَ ذلِكَ خِفْيَةً "وقال وهب: (خَرَجَ مُوسَى لِبَعْضِ حَوَائِجِهِ، فَمَرَّ برَهْطٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَحْفُرُونَ قَبْراً لَمْ يُرَ أحْسَنَ مِنْهُ نَظْْرَةً وَبَهْجَةً، فَقَالَ: يَا مَلاَئِكَةَ اللهِ لِمَنْ هَذا الْقَبْرُ؟ قَالُوا: لِعَبْدٍ كَرِيْمٍ، فَقَالَ: مَا رَأيْتُ مَضْجِعاً أحْسَنَ مِنْ هَذا! قَالُوا: يَا كَلِيْمَ اللهِ أتُحِبُّ أنْ يَكُونَ لَكَ؟ قَالَ: وَدَدْتُ، قَالُوا: فَانْزِلْ وَاضْطَجِعْ فِيْهِ، فَفَعَلَ ذلِكَ، ثُمَّ تَنَفَّسَ وَقَبَضَ اللهُ رُوحَهُ، ثُمَّ سَوَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ التُّرَابَ). ورويَ: أن يوشعَ رآهُ بعد موتهِ في المنامِ؛ فقال: كيفَ وجدتَ الموتَ؟ قال: كَشَاةٍ تُسلخ وهي حيَّةٌ. وكان عُمْرُ موسَى مائةً وعشرينَ سنة، فلما ماتَ موسَى عليه السلام وكان قد استْخْلَفَ يوشعَ، سارَ يوشعُ بالناسِ حتى انتهوا إلى مدينةِ الجبَّارين وحاصرُوهم. فلما كانَ يومُ الجمُعةِ وكادتِ الشمسُ تغربُ، توضَّأَ يوشعُ وصلَّى ودعا رَبَّهُ وسألَهُ أنْ يُنْجِزَ له ما وعدَهُ. وذكرَ أنَّ الشمسَ تغربُ ليلة السَّبتِ لا يقاتلُ فيها، فَرَدَّ اللهُ الشَّمسَ حتى كانت في مقدار صلاة الظُّهر، فجمعَ يوشعُ بني إسرائيلَ وجعلَ في سِبْطٍ منهم سُوراً فصاحوا سبابيرهم، ودخلُوا مدينةَ أعدائِهم فقتلُوهم حتى أتَى الثمانينَ رَجُلاً من أصحاب يوشع كانوا يقعدونَ على الرَّجُلِ، ويحزُّون رأسَهُ فلا يطيقونَهُ من عِظَمِهِ، وكانَ طولُ كلِّ واحدٍ من الجبَّارين ثَمانين ذِراعاً، وكان موسَى عليه السلام قد قَتَلَ عِوَجَ بْنَ عُنُقٍ قبلَ ذلك، وكان طولهُ ثلاثةً وعشرين ألفَ ذراعٍ وثلاثَمائة وثلاثين ذراعاً وثلُثِ ذراع، قالهُ ابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وكان يحتجز بالسَّحاب ويشربُ منه، ويتناولُ الحوتَ من قرار البحرِ فَيَشْوِيَهُ بعينِ الشَّمسِ ويأكله. يروى أنَّ طوفانَ نُوحٍ عليه السلام غَمَرَ جميعَ جبالِ الدُّنيا وما بَلَغَ إلاّ إلى رُكبتيهِ - وعاش عوجُ ثلاثةَ آلافِ سنة وسبعمائة سنة - وأهلكه اللهُ تعالى على يَدَي موسَى عليه السلام. وسببُ ذلكَ أنه كانت محطَّةُ عسكَرِ موسى عليه السلام فَرْسَخاً في فرسخٍ، فجاء عِوَجُ حتى نَظَرَ إليهم ثم جاءَ الجبلَ وَقَدَّ مِنْهُ صخرةً على قدر العسكرِ، ثم حملَها لِيُطْبقَهَا عليهم، فبعثَ اللهُ طَيْراً حتى قَوَّرَ الصخرةَ بمنقارهِ فأنقبَها فوقعت في عُنُقِ عوجٍ فَطَوَّقتهُ فصرعته، وأقبلَ موسَى عليه السلام وطولهُ عشرةُ أذرعٍ وعصاهُ عشرة، ووَثَبَ عشرة أذرُعٍ إلى جهةِ السَّماء، فما أصابَ إلاّ كَعْبَهُ وهو مصروعٌ في الأرضِ فقتلهُ، وأقبلَ جماعةٌ كثيرة معهم سكاكينُ وخناجرُ حتى حَزُّوا رأسَهُ، وكانت أمُّهُ عُنُقاً، ويقالُ لها: عِنَاقٌ، وكانت إحدَى بناتِ آدمَ عليه السلام وهي أوَّلُ امرأةٍ زنت على وجهِ الأرضِ، وكان كل إصْبَعٍ من أصابعِها طولهُ ثلاثةُ أذرع وعرضُها ذراعين، في كلِّ إصبعٍ ظُفْرَانِ مثل المخلَبين، فلما زَنَتْ بعثَ اللهُ عليها أسوداً كالفيلة، وذُباباً كالإبلِ، ونُموراً كالْحُمُرِ، وسلَّطََهم عليها فَأَكَلُوهَا.
فَنَزَلُوا الْجَبَلَ وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَ آدَمُ عليه السلام مَعَهُمْ، فَذَهَبَ هَابيْلُ إلَى غَنَمِهِ، وَقَابِيْلُ إلَى زَرْعِهِ غَضْبَانَ وَأظْهَرَ الْحَسَدَ لِهَابِيْلَ، وَقَالَ: يَا هَابيْلُ لأقْتُلَنَّكَ! قَالَ: وَذَلِكَ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى تَقَبَّلَ قُرْبَانَكَ وَرَدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي، وَتَنْكِحُ أخْتِي الْحَسَنَةَ، وَأنْكِحُ أخْتَكَ الْقَبِيْحَةَ، فَيُحَدِّثُ النَّاسَ أنَّكَ خَيْرٌ مِنِّي. ﴿ قَالَ ﴾؛ هَابِيْلُ: مَا ذنْبي فِي ذلِكَ؟!). ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي من الزَّاكيةِ قلوبُهم الذين يخافونَ على حسناتِهم أن لا تُقْبَلَ، ولم تَكُنْ أنتَ زَاكِيَ القَلْب، فردَّ اللهُ قربانَكَ حيث نِيَّتَكَ. وَقِيْلَ: أرادَ بالمتَّقين الذين يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ قَابيْلُ كَافِراً) وَفي أكثرِ الرِّواياتِ أنَّهُ كانَ رَجُلَ سَوْءٍ. قال الحسنُ: (كَانَ الرَّجُلُ إذا أرَادَ أنْ يُقَرِّبَ الْقُرْبَانَ؛ تَعَبَّدَ وَتَابَ وَتَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوب وَلَبسَ الثَّيَابَ الْبيْضَ، ثُمَّ قَرَّبَ وَقَامَ يَدْعُو اللهَ، فَإنْ قَبلَ اللهُ قُرْبَانَهُ جَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، وذلِكَ عَلاَمَةُ الْقَبُولِ، وَإنْ لَمْ تَجِئْ نَارٌ فَذلِكَ عَلاَمَةُ الرَّدِّ).
﴿ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ ﴾؛ في الآخرةِ؛ ﴿ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي وذلكَ عقوبةُ مَن لَمْ يَرْضَ بحكمِ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾؛ أي طَاوَعَتْهُ نفسهُ، وَقِيْلَ: زَيَّنَتْ لهُ قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ. قال السُّدِّيُّ: (لََمَّا قَصَدَ قَابيْلُ قَتْلَ هَابيْلُ أتَاهُ فِي رَأسِ جَبَلٍ وَهُوَ نَائِمٌ وَغَنَمُهُ تَرْعَى، فَأَخَذ صَخْرَةً فَشَدَخَ بهَا رَأسَهُ فَمَاتَ). وقال الضحَّاك: (كَانَ قَابيْلُ لاَ يَدْرِي كَيْفَ يَقْتُلُهُ حَتَّى جَاءَ إبْلِيْسُ وَبيَدِهِ حَيَّةٌ فَوَضَعَهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَرَضَخَ رَأسَهَا بالْحَجَرِ وَقَابيلُ يَنْظُرُ، فَلَمَا نَظَرَ ذلِكَ جَاءَ إلَى هَابيلَ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بالْحِجَارَةِ عَلَى رَأسِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَكَانَ لِهَابيلَ يَوْمَ قُتِلَ عُشْرُونَ سَنَةً). واختلفوا في موضعِ قتله، قِيْلَ: قُتِلَ على جبلِ ثور. وقِيْلَ: بالبصرةِ. فلمَّا مات هابيلُ قصَدتْهُ السِّباعُ لتأكلَهُ، فحملَهُ قابيلُُ على ظهرهِ حتى انتنَّ ريحهُ، فعكفَ الطُّيور والسِّباع حوالَيهِ تنتظرُ متى يُرمَي به فتأكلَهُ.
﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ﴾؛ فبعثَ الله غُرابين فاقتَتلا، فقَتل أحدُهما صاحبه، ثم حفرَ له بمنقارهِ ورجله، ثم ألقاهُ في الحفيرةِ ووارَاهُ، وقابيلُ ينتظرُ إليه فـ؛ ﴿ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ ﴾.
وعن ابنِ عباس قالَ: (لَمَّا قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ رَجَعَ إلَى أبيهِ قَبْلَ أنْ يَدْفِنَهُ، فَلَمَّا أبْطَأَ هَابيلُ قالَ آدَمُ عليه السلام: يَا قَابيلُ أينَ أخُوكَ؟ قالَ: مَا رَأيْتُهُ؛ وَكَأَنَّنِي بهِ أرْسَلَ غَنَمَهُ فِي زَرْعِي فَأَفْسَدَهُ، فَلَعَلَّهُ خَافَ أنْ يَجِيءَ مِنْ أجْلِ ذلِكَ، قَالَ: وَحَسَّتْ نَفْسُ آدَمَ، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مَحْزُوناً، فَلَمَّا أصْبَحَ قَابيلُ غَدَا إلَى ذلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإذا هُوَ بغُرَابٍ يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ عَلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ لِيُواريَهُ). وَقِيْلَ: بعثَ اللهُ الغرابَ إكراماً لهابيل، وكان الغرابُ يحثِي الترابَ على هابيل ليُرِيَ قابيل كيف يُواريه؛ أي كيف يغطِّي عورتَهُ. وفي الخبرِ: أنَّهُ لَمَّا قتله سلبَهُ ثيابه، وتركه عُرياناً. وَقِيلَ: أرادَ بالسَّوْءَةِ جسَدَ المقتولِ، سماه سَوْءَةً لأنه لَمَّا بقي على وجهِ الأرض تغيَّرَ وَنَتَنَ، والسوءَةُ في اللغة: عبارةٌ عن كل شيء مستنكرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ ﴾؛ الخاسرين، أي صارَ من المغبونِين بالوزر والعقوبة. قال الكلبيُّ: (كَانَ قَابيلُ أوَّلَ مَنْ عَصَى اللهَ فِي الأَرْضِ مِنْ ولْدِ آدَمَ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ يُسَاقُ إلَى النَّارِ). وقال مقاتلُ: (كَانَ قَبْلَ ذلِكَ تَسْتَأْنِسُ الطُّيُورُ وَالسِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ بهِ، فَلَمَّا قَتَلَ قَابيلَ نَفَرُواْ، فَلَحِقَتِ الطُّيُورُ بالْهَواءِ؛ وَالْوُحُوشُ بالْبَرِّيَّةِ؛ وَالسِّبَاعُ فالفيَافِي وشَاكَ الشَّجَرُ، وَتَغَيَّرَتِ الأَطْعِمَةُ وَحَمِضَتِ الْفَوَاكِهُ وَاغْبَرَّتِ الأَرْضُ). وقال عبدُالله المخزوميُّ: (لَمَّا قُتِلَ هَابيلُ رَجَفَتِ الأَرْضُ بمَا عَلَيْهَا سَبْعَةَ أيَّامٍ). وقال سالِمُ بن أبي الجعد: (مَكَثَ آدَمُ عليه السلام حَزِيناً عَلَى قَتْلِ وَلَدِهِ هَابيلَ مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَضْحَكُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ﴾ أي أرسلَ اللهُ غراباً يثيرُ الترابَ على غرابٍ آخر ميْتٍ بمنقارهِ وبرجله، فلما أبصرَ قابيل الغرابَ يبحثُ في الأرض دعَا بالويلِ على نفسه، فقال: (يَا وَيْلَتَا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذا الْغُرَاب) والوَيْلُ: كلمةٌ تستعمَل عند الوقوعِ في الشدَّة والهلَكةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ ﴾ يحتملُ أنه نَدِمَ نَدَمَ توبةٍ عن جميع ما قالَ وفعل، ويحتمل أنه نَدِمَ على تركِ مُواراةِ سَوْءَةِ أخيه، فإن كانت الأُولى فاللهُ توَّابٌ رحيم، وإنْ كانت الثانيةُ فإثْمُ القتلِ في عُنقه. قال ابنُ عبَّاس: (لَوْ كَانَتْ نَدَامَتُهُ عَلَى قَتْلِهِ لَكَانَتْ تَوْبَةً مِنْهُ). وَقِيْلَ: إنه إنما نَدِمَ لأنه لم ينتفِعْ بقتلهِ ولم يحصُلْ له مرادهُ، فكان ندمهُ لأجلِ ذلك لا بقُبحِ فعلهِ، ولو كان ندمهُ تقرُّباً إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. قال ابنُ عبَّاس: (فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِقَابيلَ: كُنْ خَائِفاً لاَ تَرَى شَيْئاً إلاَّ خِفْتَ مِنْهُ أنْ يَقْتُلَكَ، قَالَ: وَكَانَ كُلُّ مَنْ رَأى قَابيلَ رَمَاهُ بالْحِجَارَةِ، فَأَبْصَرَهُ بَعْضُ وَلَدِ وَلَدِهِ فَرَمَاهُ بالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلَهُ) ويقالُ: كان على جبلٍ فنطحَهُ ثورٌ فوقعَ إلى سفحِ الجبل فتفرَّقت أوصالهُ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ "قال مقاتلُ: (وَتَزَوَّجَ شِيثٌ بإقْلِيمَا). وقال الضحَّاك: (لَمَّا قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَلَمْ يَدْر كَيْفَ يَصْنَعُ بهِ، فَمَكَثَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ لاَ يَدْرِي مَاذا يَصْنَعُ بهِ، فَبَعَثَ اللهُ غُرَابَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ، فَقَتَلَ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ أخَذ يَحْفُرُ فِي الأرْضِ، وَأخَذ برِجْلِ الْغُرَاب الْقَتِيلِ وَألْقَاهُ فِي الْحَفِيرَةِ) فذلك قوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾.
﴿ أَوْ ﴾؛ بغَيرِ؛ ﴿ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ نحوَ الشِّرك وقطعِ الطريق والزِّنا عند الإحصان.
﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً ﴾؛ أي استوجبَ النار بقتلِ النفس الواحدة، كما يستوجبُها مَن قَتَلَ الناس جميعاً، وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ على الناس كلهم معونةُ ولِيِّ القتيلِ حتى يفتدوهُ، ويكونوا كلُّهم خَصماً للقاتلِ حتى يُقَادَ. وَقِيْلَ: إن المرادَ به استحقاقُ القتلِ عليه بقتلِ النفس الواحدة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾؛ أي من استنقذ نفساً من غَرَقٍ أو من حَرْقٍ أو مما يُميتها لا محالةَ، أو استنقذها من كفرٍ أو ضلالة فأحياها بالنعيمِ الدائم في الجنَّة، أو عفَى عن دمها بعد ما وجبَ عليها القصاصُ استوجبَ الجنَّة، كما استوجبَها مَن أحيَا الناس جميعاً. وعن ابنِ عبَّاس قالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَقَا مُؤْمِناً شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فَكَأَنَّمَا أعْتَقَ سَبْعِينَ رَقَبَةً، وَمَنْ سَقَاهَا فِي غَيْرِ مَوْطِنِهَا فَكَأَنَّمَا أحْيَا نَفْساً، وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ﴾؛ أي لقد جاءت بني إسرائيلَ رسُلنا بالأوامر والنواهِي والعلامات الواضِحات.
﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾؛ بعدَ أن جاءَتهم الدلائلُ والمعجزات.
﴿ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾؛ مُشرِكون تاركُو أمرَ اللهِ تعالى.
﴿ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ ﴾ اليدُ اليمين من الرِّسغ، والرِّجل اليُسرى من الكعب إن أخَذُوا المالَ ولم يقتُلوا أحَداً.
﴿ أَوْ يُنفَوْا مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾ إن أخَافُوا الطريقَ ولم يفعَلُوا سِوَى ذلك. واختلَفُوا في معنى النَّفي، قال بعضُهم: يعني الحبسَ، وقال بعضُهم: هو الطلبُ حتى لا يستقرَّ بهم مكانٌ. والتوفيقُ بين القولَين: أنَّهم إنْ أخِذُوا بعد ما أخَافُوا الطريقَ؛ أودعَهم الإمامُ السِّجن حتى يتوبُوا أو يموتوا، وإنْ لم يُؤخَذوا أمَرَ بطلبهم، وأمرَ أن يُنادى في الناسِ: أنَّ مَن قتلَهم لا سبيلَ عليه. وإنما سُمي الحبسُ نَفياً؛ لأنه يمنعُ المحبوسين من التردُّد والتصرُّف في الأرضِ، ويكون ذلك بمنزلةِ النَّفيِ من الأرض. واختلَفُوا في كيفيَّة الصَّلب مع القتلِ. قال أبو حَنيفة: (يُصْلَبُ حَيّاً لِيَرَى النَّاسَ وَيَرَوهُ؛ وَيَكُونُ ذلِكَ زيَادَةً عُقُوبَةٍ لَهُ، ثُمَّ تُبْعَجُ بَطْنُهُ بالرُّمْحِ؛ يُطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حَتَّى يَمُوتَ). وقال أبو يُوسف والشافعيُّ: (يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي فضيحةٌ في الدنيا.
﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ أعظَمُ من هذا. وقال مقاتلُ وسعيد بن جُبير: (نَزلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي عُرَيْنَةَ، قَدِمُوا الْمَدِيْنَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلاَمِ، وَهُمْ كَذبَةٌ وَلَيْسَ يُرِيدُونَ الإسْلاَمَ، فَاجْتَوَواْ الْمَدِيْنَةَ وَعَظُمَتْ بُطُونُهُمْ وَاصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَخْرُجُوا إلَى إبلِ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُواْ مِنْ أبْوَالِهَا وَألْبَانِهَا، فَفَعَلُوا ذلِكَ حَتَّى صَحُّوا، ثُمَّ قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَاسْتَاقُوا الإبِلَ وَارْتَدُّواْ عَنِ الإسْلاَمِ. فَصَاحَ الصَّائِحُ: يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي. فََرَكِبُوا لاَ يَنْتَظِرُ فَارسٌ فَارساً، فَأَسْرَعُوا فِي طَلَبهِمْ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي طَلَبهِمْ، فَجَاءوا بهِمْ، فَقَطََّعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَّلَ أعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتُواْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَصَارَتْ عَامَّةً فِي قُطَّاعِ الطُّرُقِ نَاسِخَةً لِتَسْمِيلِ الْعَيْنِ). وقال الليثُ بنُ سعدٍ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْلِيماً لَهُمْ عُقُوبَتَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ ﴾ وَلَمْ يَكُنْ جَزَاؤُهُمْ هَذِهِ الْمُثْلَةَ الَّتِي هِيَ السَّمْلُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ خَطِيباً وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ).
﴿ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ لعبادهِ.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم بعدَ التوبةِ. روى الشعبيُّ: أنَّ حَارثَةَ بْنَ زَيْدٍ خَرَجَ مُحَارباً فِي عَهْدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَأَخَافَ السُّبُلَ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ وَأخَذ الأَمْوَالَ، ثُمَّ جَاءَ تَائِباً فَأَتَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَطَلَبَ إلَيْهِ أنْ يَسْتَأْمِنَ لَهُ عَلِياً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فَأَبَى، فَأَتَى عَبْدَاللهِ بْنَ جَعْفَرَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَتَى سَعْدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمَدَانِيَّ فَقَبلَهُ وَضَمَّهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلِيٌّ رضي الله عنه صَلاَةَ الْغَدَاةِ، أتَى سَعْدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمَدَانِيُّ وَقَالَ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِيْنَ؛ مَا جَزَاءُ الَّّذِينَ يُحَاربُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: أنْ يُقَتَّلُواْ أوْ يُصَلَّبُواْ أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ. قَالَ: مَا تَقُولُ فِيْمَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: أقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ قَيْسٍ: وَإنْ كَانَ حَارثَةَ بْنَ زَيْدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَاءَ بهِ إلَيْهِ، فَبَايَعَهُ وَأمَّنَهُ وَكَتَبَ لَهُ أمَاناً مَنْشُوراً، فَقَالَ حَارثَةُ: ألاَ أبْلِغَنَّ هَمَدَان إمَّا لَقِيتَهَا عَلَى النَّأْي لاَ يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَالَعَمْرُو أبيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِى الـ إلَهَ وَيَقْضِى بالكِتَاب خَطِيبُهَا
﴿ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ﴾؛ أعداءَ الله في طاعتهِ.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾؛ أي لعلَّكم تظفَرُون بعدوِّكم في الدنيا، وتنجُوا من النار في العُقبى. والوسيلةُ: القُرْبَةُ: وهي فَعِيلَةٌ من: توَسَّل إلى فلانٍ بكَذا؛ أي تقرَّبَ إليه، وجمعُها وسَائِلُ. قال الشاعرُ: إذا غَفِلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا وَعَادَ التَّصَافِى بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُوقَال عطاءُ: (الْوَسِيْلَةُ: أفْضَلُ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ)، قال صلى الله عليه وسلم:" سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيْلَةَ، فَإنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ يَنَالُهَا إلاَّ عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَأرْجُو مِنَ اللهِ أنْ أكُونَ أنَا هُوَ "
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ وجيعٌ يخلُصُ وجعهُ إلى قلوبهم.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾؛ أي يتجاوزُ عنه ولا يؤاخذهُ في الآخرةِ، ولا تقطعُ يده إذا ردَّ المالَ قبل المرافعةِ إلى الحاكمِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ بمن ماتَ على التوبةِ. وأما إذا رُفع إلى الحاكمِ ثم تابَ فالقطعُ واجبٌ، فإنْ كانت توبتهُ حقيقةً كان ذلك زيادةَ درجاتٍ له، كما أنَّ الله تعالى ابتلَى الصالحين والأنبياءَ بالبلايا والْمِحَنِ والأمراضِ زيادةً لهم في درجاتِهم، وإنْ لم تكن توبتهُ حقيقةً كان الحدُّ عقوبةً له على ذنبهِ، وهو مؤاخَذٌ في الآخرةِ إن لم يتُبْ. وعن عبدِالله بن عامر قال:" سَرَقَتِ اْمَرَأةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءُوا بهَا إلَيْهِ، قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ سَرَقَتْنَا، فَقَالَ قَوْمُهَا: نَحْنُ نَفْدِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " اقْطَعُوا يَدَهَا " قَالُواْ: نَحْنُ نَفْدِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ: " اقْطَعُوا يَدَهَا " فَقُطِعَتْ يَدُهَا الْيُمْنَى، فَقَالَتِ الْمَرْأةُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ إنَّ التَّوْبَةَ تُخْرِجُكِ عَنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أمَّكِ " "فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾.
وعن عائشةَ قالت:" كَانَتِ امْرَأةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيْرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقَطْعِ يَدِهَا، فَأَتَى أهْلُهَا أسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ، فَكَلَّمَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ لاَ أرَاكَ تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ " ثُمَّ قَامَ خَطِيباً فَقَالَ: " إنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بأَنَّهُمْ كَانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " "أعَاذهَا اللهُ مِنْ ذلِكَ، فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي لا يحزِنُكَ يا مُحَمَّدُ فعلُ الذين يسارعُ بعضهم بعضاً في الإقامةِ على الكفرِ والحثِّ عليه. قرأ نافعُ: (يُحْزِنُكَ) بضمِّ الياء، ومعناهما واحدٌ. وقرأ السلميُّ: (يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْرِ)، وقولهُ تعالى: ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ وهم المنافقون ﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾؛ أي ومن يهودِ المدينة الذين هم أهلُ الصُّلح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وتثبيتٌ لفؤادهِ بوعد النُّصرَةِ والظفرِ، وإعلامٌ أنَّ اليهود والنصارَى والمنافقين لا يضرُّونَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾؛ أي قابلون للكذب، يعني بني قُريظة هم سَمَّاعون لقومٍ آخَرين لم يأتُوكَ، يعني يهودَ خيبر، وذلك: أنَّ رَجُلاً وَامْرَأةً مِنْ أشْرَافِ أهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا، وَكَانَتْ خَيْبَرُ حَرْباً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ الزَّانِيَانِ مُحْصِنَيْنِ، وَكَانَ حَدَّهُمَا الرَّجْمُ فِي التَّوْرَاةِ، فَكَرِهَتِ الْيَهُودُ رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا، وَقَالُواْ: إنَّ هَذا الرَّجُلَ الَّذِي فِي يَثْرِبَ لَيْسَ فِي كِتَابِهِ الرَّجْمُ وَلَكِنَّهُ الضَّرْبُ، فَأَرْسِلُوا إلَى إخْوَانِكُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإنَّهُمْ صُلْحٌ لَهُ وَجِيراَنُهُ فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ ذلِكَ، فَبَعَثُوا رَهْطاً مِنْهُمْ مُسْتَخْفِينَ، وَقَالُواْ لَهُمْ: اسْأَلُوا مُحَمَّداً عَنِ الزَّانِيَينِ مُحْصِنَينِ مَا حَدُّهُمَا؟ فَإنْ أمَرَكُمْ بالْجَلْدِ فَاقْبَلُواْ مِنْهُ، وَإنْ أمَرَكُمْ بالرَّجْمِ فَاحْذرُوهُ وَلاَ تَقْبَلُواْ مِنْهُ، وَأرْسَلُواْ الزَّانِيَيْنِ مَعَهُمْ. فَقَدِمَ الرَّهْطُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَذَكَرُوا لَهُمْ ذلِكَ وَقَالُواْ: اسْأَلُوا لَنَا مُحَمَّداً عَنْ قَضَائِهِ، فَقَالَ لَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ: إذاً وَاللهِ يَأْمُرُكُمْ بمَا تَكْرَهُونَ، ثُمَّ انْطَلَقَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مِثْلُ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ وَكَعْب بْنِ أسَدٍ وَسَبْعَةَ بْنِ عُمَرَ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَعَازُورَاءَ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُواْ: يَا مُحَمَّدُ أخْبرْنَا عَنِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي إذا أحْصَنَا مَا حَدُّهُمَا وَكَيْفَ تَجِدُ فِي كِتابكَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَهَلْ تَرْضَوْنَ بقَضَائِي فِي ذلِكَ؟ " قَالُواْ: نَعَمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بالرَّجْمِ، فَأَخْبَرَهُمْ فَأَبَوا أنْ يَأْخُذُواْ بهِ. فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ ابْنَ صُوريَّا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " هَلْ تَعْرِفُونَ شَابّاً مِنَ الرِّبيِّينَ أعْوَرَ سَكَنَ فَدَكْ؟ " قَالُواْ: نَعَمْ، قَالَ: " فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيْكُمْ؟ " قَالُواْ: هُوَ أعْلَمُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ الْيَهُودِ بالتَّوْرَاةِ، قَالَ: " فَأَرْسِلُواْ لَهُ "، فَفَعَلُواْ، فَأَتَاهُمْ ابْنُ صُوريَّا، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أنْتَ ابْنُ صُوريَّا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " أنْتَ أعْلَمُ الْيَهُودِ؟ " قَالَ: كَذلِكَ يَزْعُمُونَ، قَالَ: " أتَجْعَلُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؟ " قَالُواْ: نَعَمْ قَدْ رَضِينَا بهِ إذا رَضِيْتَ بهِ. فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أنْشِدُكَ باللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْقَوِيُّ، إلَهُ بَنِي إسْرَائِيلَ الَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالَّذِي فَلَقَ لَكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَاكُمْ وَأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي ظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ، وَأنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أحْصَنَ؟ " قَالَ ابْنُ صُوريَّا: نَعَمْ وَالَّذِي ذكَّرْتَنِي بهِ؛ وَلَوْلاَ خِشْيَةَ أنْ تُحْرِقَنِي التَّوْرَاةُ إنْ كَذبْتُ أوْ غَيَّرْتُ لَمَا أعْرَفْتُ لَكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ فِي كِتَابكَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: " إذا شَهِدَ أرْبَعَةٌ عُدُولٌ أنَّهُ أدْخَلَ فِيْهَا، كَمَا يَدْخُلُ الْمِيْلُ فِي الْمِكْحَلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ "، قَالَ ابْنُ صُوريَّا: وَالَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى لَهَكَذا أنْزِلَ عَلَى مُوسَى. فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: مَا أسْرَعَ مَا صَدَقْتَهُ، أمَا كُنْتَ لَمَّا أتَيْنَا عَلَيْكَ بأَهْلٍ وَمَا أنْتَ بأَعْلَمِنَا، فَقَالَ لَهُمْ: أنْشَدَنِي بالتَّوْرَاةِ، وَلَوْلاَ خِشْيَةَ التَّوْرَاةِ أنْ تُهْلِكَنِي لَمَا أخْبَرْتُهُ، وَخِفْتُ إنْ كَذبْتُهُ أنْ يَنْزِلَ بنَا عَذابٌ شَدِيدٌ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم برَجْمِ الْيَهُودِيَّين الزَّانِيَينِ، وَقَالَ: " أنَا أوَّلُ مَنْ يُحيْي سُنَّةً إذا أمَاتُوهَا "، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ فَلاَ يُخْبرُكُمْ بهِ. فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا: أنْشِدُكَ باللهِ يَا مُحَمَّدُ أنْ تُخبرَنَا بالْكَثِيرِ الَّّذِي أمِرْتَ أنْ تَعْفُو عَنْهُ، فَأَعْرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا: أخْبرْنَا عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ، قَالَ: " مَا هُنَّ؟ " قَالَ: أخْبرْنِي عَنْ نَوْمِكَ؟ قَالَ: " تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبي يَقْظَانٌ "، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبرْنِي عَنْ شَبَهِ الْوَلَدِ بأَبيهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أمِّهِ شَيْءٌ، وَعَنْ شَبَهِ أمِّهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أبيهِ شَيْءٌ، قَالَ: " أيُّهُمَا عَلاَ وَسَبَقَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ "، قَالَ: صَدَقْتَ. فَأَسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا حِينَئِذٍ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بالْوَحْيِ؟ قَالَ: " جِبْرِيْلُ " قَالَ: صِفْهُ لِي، قَالَ: فَوَصَفَهُ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أشْهَدُ أنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا قُلْتَ، وَإنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَلَمَّا أسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا شَتَمُوهُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾؛ أي من يُرِدِ الله بَليَّتَهُ وعقوبتَهُ وفضيحته، فلن تقدِرَ يا مُحَمَّدُ أن تدفعَ عنه شيئاً مما أرادَ اللهُ به. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفة لم يردِ اللهُ أن يفتحَ قلوبَهم ليُبصِروا الحقَّ. وَقِيْلَ: معناهُ: لم يطهِّرْ قلوبَهم من علاماتِ الكفر، مثلَ الختمِ والطَّبع والضِّيق، كما شرحَ صُدورَ المؤمنين، وطهَّرَ قلوبَهم بكتابةِ الإيمان فيها. وقال الحسنُ: (لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ؛ أيْ لاَ يُبَرِّئُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَهُمْ مُقِيمِينَ عَلَى دِينِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ) ﴿ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾؛ أي فضيحةٌ بما أظهرَ الله من كذبهم، وَقِيْلَ: أرادَ بالخزيِ القتلَ والسَّبي والجزيةَ.
﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ أعظمُ مما في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ﴾؛ لإعراضِكَ عنهم.
﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ ﴾؛ أي بالعدلِ؛ ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾؛ أي العادِلين.
﴿ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾؛ من بعدِ البيان الذي في كتابهم.
﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ ليسوا بمصدِّقين بما عندَهم، يزعُمون أنَّهم مؤمنون بالتوراةِ وهم كاذِبون. وفي هذه الآية بيانٌ على أنَّ هؤلاء اليهود كانوا لا يحكِّمون النبيَّ صلى الله عليه وسلم بحكم رضًى وانقيادٍ، ولولا طلبُهم الترخُّص واتِّباع ما لا يُغني في كتابهم لما جَاءوه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ ﴾؛ هم العُلماء العامِلون، يَرُبُّونَ العلمَ؛ أي يقُومون به.
﴿ وَٱلأَحْبَارُ ﴾؛ سائرُ العلماء دون الأنبياءِ والربَّانيِّين، وإنما سُمي العالِمُ حَبراً لكثرةِ ما يكتبُ بالحبرِ، ويقال: هو مِن التحبيرِ وهو تحسينُ العلمِ، وتقبيحُ الجهلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾؛ من الرَّجمِ وسائر الأحكامِ.
﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ﴾؛ إنه كذلك، ومعنى (اسْتُحْفِظُوا): استَودَعُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ ﴾؛ خطابٌ لعلماء اليهودِ؛ أي لا تخشَوُا السَّفلةَ والْجُهَّالَ في إظهار نعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآيةِ الرَّجم، واخشَوا عِقَابي في كتمانِها.
﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾؛ أي لا تختَارُوا عَرَضاً يَسيراً من الدُّنيا، فإن الدُّنيا ما فيها قليلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾؛ ذهبَ الخوارجُ إلى أنَّ معنى الآيةِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بخِلاَفِهِ كَانَ كَافِراً بفِعْلِ ذلِكَ، اعْتِقَاداً كَانَ أوْ غَيْرَ ذلِكَ)، وَكَفَّرُوا بذلك كلَّ مَن عصَى اللهَ تعالى بكبيرةٍ أو صغيرة، وأدَّاهم ذلك إلى الضَّلال والكُفرِ تكفيرِهم الأنبياءَ صلواتُ الله عليهم بصغائرِ ذُنوبهم!وأما عامَّةُ أهلِ الإسلام قالوا: إن المرادَ بهذه الآية: أنَّ مَنْ جَحَدَ شيئاً مما أنزلَ اللهُ مثلَ ما فعلَهُ اليهودُ من التحريفِ والتبديل وإنكار بعض آياتِ الله تعالى.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفة بمنزلةِ الكافر بالكُتب وبالرُّسل كلِّها. يدلُّ على هذا أنه لا خلافَ أنَّ مَن لم يَقْضِ بينهم بما نزَّلَ اللهُ لا يكفرُ بأنْ لم يحكُمْ؛ لأنَّ أكثرَ الناس بهذه الصِّفةِ، والحاكمُ بين الناس في كثيرِ حالاته لا يحكمُ، فإذا صَلُحَ الخوارجُ أن يَزِيدُوا في ظاهرِ اللفظ فيقولوا معناهُ: (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ) صَلُحَ لغيرِهم أن يقولوا معناهُ: ومَن لم يحكُمْ بصحَّة ما نزَّلَ اللهُ ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾، وهذا عامٌّ في اليهودِ وغيرهم.
﴿ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ ﴾ بفَقْئِهِمَا.
﴿ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ ﴾ يُجدع بهِ.
﴿ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ ﴾ يُقطَعُ به ﴿ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ ﴾ يُقلَعُ بهِ، وخفَّفَ نافعُ الأُذُنَ في جميعِ القرآن، وثقَّلَهُ غيرهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾؛ أي يجزئُ فيها القصاصُ، والقِصَاصُ: عبارةٌ عن الْمُسَاوَاةِ، وهذا مخصوصٌ فيما يُمكن القِصَاصُ فيه، فأمَّا ما كان من رضَّةٍ أو هَشْمَةٍ لعظمٍ، وهذه ركنٌ لا يحيطُ العلمُ به، ففيه أرْشٌ أو حكومةٌ. قرأ الكسائيُّ: (وَالْعَيْنُ) رَفعاً إلى آخرهِ، وكذلك قولهُ (وَالْجُرُوحُ) رفعَهُ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ، ونصَبُوا سائرَ الحروفِ قبلَهُ، قالوا: لأَنَّ لَهَا نَظَائِرَ فِي الْقُرْآنِ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾[التوبة: ٣] و﴿ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[الأعراف: ١٢٨] و﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ ﴾[الجاثية: ٣٢].
وقرأ نافعُ وعاصم وحمزة وخلفُ كلها بالنصب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾؛ أي مَن عفَا عن مَظْلَمَةٍ في الدُّنيا، فهو كفَّارةٌ للجراحِ لا يؤاخَذُ به في الآخرة، كما أنَّ القصاصَ كفَّارةٌ له، وأما أجرُ العَافِي فعلى اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ ﴾[الشورى: ٤٠] وهذا قولُ إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، وروايةٌ عن ابنِ عباس. وَقِيْلَ: معناهُ: فهو كفَّارة للمجروحِ وولِيِّ القتيلِ، وهو قولُ ابنِ عمرَ والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد. ودليلُ هذا قولهُ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بشَيْءٍ كَفَّرَ اللهُ بقَدْرهِ مِنْ ذُنُوبهِ "فمَن عفا كان عفوهُ كفارةً لذُنوبِه يعفو عنه الله ما أسلفَ من ذُنوبه، وأما الكافرُ إذا عفَا لا يكون عفوهُ كفارةً له مع إقامتهِ على الكفر. وقال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أُصِيبَ بشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَتَرَكَهُ للهِ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ "ورُوي: أنَّ رجلاً طَعَنَ رَجُلاً على عهدِ معاويةَ رضي الله عنه؛ فأعطَوهُ دِيَتَيْنِ على أن يرضَى، فلم يَرْضَ، فحدَّث رجُلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" مَنْ تَصَدَّقَ بدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ بهِ "فَتَصَدَّقَ بهِ. وقال صلى الله عليه وسلم:" " ثَلاَثٌ مَنْ جَاءَ بهِنُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الإيْمَانِ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أيِّ أبْوَابهَا شَاءَ، وَتَزَوَّجَ مِنَ الْحُور الْعِينِ حَيْثُ شَاءَ: مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلِهِ، وَمَنْ قَرَأ دُبُرَ كُلَّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ ﴿ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ﴾ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَمَنْ أدَّى دَيْناً خَفِيّاً " قَالَ أبُو بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه: أوْ إحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " أوْ إحْدَاهُنَّ " ". فأما القصاصُ في العينِ، فلا يجبُ إلاَّ إذا ضربَهَا رجلٌ فأذهبَ ضوءَها وهي قائمةٌ، فإنه يسدُّ العينَ الأُخرى وحولَ إلى العينِ التي يجبُ فيها القصاصُ من الضَّارب بثوبٍ أو قُطنٍ مُبْتَلٍّ، ويُحمَى مَرَهٌ ويقرَّبُ إلى العينِ حتى يذهبَ ضوءُها. وأما إذا قلعَها فلا قصاصَ فيه؛ لتعذُّر استيفائها على المماثَلة؛ لأنَّا لا نعلمُ للقلعِ حَدّاً معلوماً ينتهي إليه، وهذا كمَن قطعَ لحماً من فخذِ رجُل أو ذراعَهُ، فإنه لا يجبُ القصاص. وأما الأنفُ؛ فمعناهُ: إذا قطعَ الْمَارنَ؛ وهو مَا لاَنَ منه وجبَ فيه القصاصُ؛ أما إنْ قطعَهُ من أصلهِ فلا قصاصَ فيه؛ لأنه عَظْمٌ لا يمكن استيفاؤهُ على المساواةِ، كمن قطعَ يد رجُلٍ من نصفِ الساعد. وعن أبي يوسف: (إنَّ الأَنْفَ إذا اسْتَوْعَبَ فَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَكَذلِكَ الذكَرُ وَاللِّسَانُ). وأما الأُذن؛ فمعناه: إذا استُوفِيت بالقطعِ، وأما إذا قُطِعَ بعضُها فلا قصاصَ فيها. وأما السنُّ؛ فمعناهُ: القلعُ وكسرُ البعضِِ، لأن القلعَ يمكن استيفاؤهُ على المساواةِ، ولا يجوز استيفاءُ اليُمنَى باليُسرَى، ولا اليسرى باليُمنى، وإن تراضَيا على ذلك لأنه لا مساواةَ بينهما. وأمَّا المساواةُ في النفسِ فلا يشترطُ، ألا ترَى أن الرجُلَ يُقْتَلُ بالمرأةِ، فعُلِمَ أن التساوي من الرجُلِ والمرأةِ في الأنفُسِ غيرُ معتبرٍ في القصاص، وفي الأطرافِ معتبرٌ، ولهذا لا يُجزِئُ عندَنا بين الرجُلِ والمرأةِ في الأطراف قصاصٌ، ولا بين الحرِّ والعبدِ لعدم التساوي بين الطرفَين في البدلِ، وكذلك بين العبدِ والعبد لا يمكن معرفةُ التساوي بين أطرافهما في البدلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ يعني التي لها حدٌّ معلومٌ مثلَ الْمُوَضِحَةِ ونحوها، وأما ما ليس له حدٌّ معلوم لا يمكن مراعاةُ التساوي فيه، ففيه الأرْشُ دونَ القصاصِ.
﴿ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى ﴾؛ أي بَياناً لنعتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصفته.
﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي نَهياً للذين يتَّقون الفواحشَ والكبائر.
﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾؛ أي أميناً ومُؤتَمناً على ما قبلهِ من الكتب. ويقال: شَاهداً على الكُتب كلِّها، وهذا وصفٌ خاصٌّ للقرآن دون ما سواهُ. وأصلُ مُهَيْمِنٍ: مُؤْتَمَنٍ، على وزن مُفَيْعِلٍ من الأمانةِ، إلاّ أن الهاءَ أبدلت من الهمزةِ كما قالوا: أرَقْتُ الماءَ وهرَقْتُ الماءَ، وأنَاكَ وَهُنَاكَ، وهَيْهَاتَ وأيْهَاتَ، ونظيرُ المهيمنِ: مُسَيطِرٌ. قال الشعبيُّ والكسائي ورواية الكلبي عن ابنِ عباس معنى قوله ﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ أي شَاهداً، قال الشاعرُ: إنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبيِّنَا وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذوُو الأَلْبَابأي شَاهداً. وقال ابنُ جبير وأبو عبيد والحسن: (أمِيناً)، وهي روايةُ العوفي عن ابنِ عباس. وأمانةُ القرآن أنه أمينٌ على ما قبلَهُ من الكتب وهي فيما أخبرَ به أهل الكتاب في كُتبهم، فإنْ كان ذَلك في القرآنِ فصَدَّقوا وإلاّ كَذبوا. وقال الضحاكُ: (مُهَيْمِناً؛ أيْ قَاضِياً). وقال عكرمةُ: (دَالاًّ). وقال ابنُ زيدٍ: (مُصَدِّقاً). وقال الخليلُ: (رَقِيباً وَحَافِظاً). ويقالُ: هَيْمَنَ فلانٌ على كذا إذا شاهدَهُ وحَفِظَهُ. تقولُ العرب للطائرِ إذا طارَ، وحوَّلَ وَكْرَهُ، ورفرفَ على فَرْخِهِ صيانةً له: هَيْمَنَ الطَّيرُ يهَيْمِنُ، وكذلك يقالُ للطائرِ إذا أرخَى جناحَيهِ يسَعُهما بيضُهُ وفرخُهُ ورفرفَ على فرخهِ صيانةً له. ومنه قيلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ: الْمُهَيْمِنُ، أي الرقيبُ الرحيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾؛ أي فاحكم في الزانِي والزانية بالرَّجم، ويقال: احكُمْ بين بني قُريظة وبني النضير في الجراحاتِ التي بينهم في التَّسوية بين الفريقين.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾؛ أي لا تتَّبع مرادَهم.
﴿ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾؛ أي جعلنا لكلِّ نبيٍّ منكم يا معشرَ الأنبياءِ فرائضَ وسُنناً، والشِّرْعَةُ والشَّرِيعَةُ: هو التخلُّص إلى الجنَّة كشريعةِ الأنْهَار والحياضِ في الدُّنيا، وهو التخلُّص إلى الشرب والاستقامة، وأصلُ الشِّرْعَةِ من قولهم: شَرَعَ فلانٌ يَشْرَعُ شُروعاً إذا دخلَ في الأمرِ دخولاً ظاهراً، ويقالُ: الشِّرْعَةُ والمنهاجُ كِلاَهُمَا الطريقُ، والطريقُ ها هنا الدِّينُ، وقد يعبَّرُ عن الشيءِ الواحد بلَفظَين مختلفين تأكيداً للكلامِ. وقال المبرِّدُ: (الشِّرْعَةُ: ابْتِدَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْمِنْهَاجُ: الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ). ويقالُ: عنى المنهاجِ: الدلائلُ الواضحة التي يستدلُّ بها على الفرائضِ من كتابٍ وسُنَّة، وَقِيْلَ: معناهُ: لكلٍّ جَعلنا منكم سَبيلاً وسُنَّة. والمنهاجُ: الطريقُ الْمُبينُ الواضحُ. قال المفسِّرون: عنَى بذلك جميعَ أهلِ الْمِلَلِ المختلفةِ، جعلَ الله لكل ملَّةٍ شِرعَةً ومنهاجاً، فلأَهْلِ التوراةِ شريعةٌ، ولأهلِ الإنجيل شريعةٌ، ولأهلِ القرآن شريعةٌ، يُحِلُّ فيها ما شاءَ ويحرِّمُ فيها ما شاءَ، فالدِّينُ واحدٌ والشريعةُ مختلفة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾؛ أي لجعلَكم على أمرٍ واحد في دعوةِ جميع الأنبياء.
﴿ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ ﴾؛ أي ولكن ليختبرَكم.
﴿ فِي مَآ آتَاكُم ﴾؛ فيما أعطَاكُم من الكتب، وفيما أمرَكم من السُّنن والشرائعِ المختلفة، فيتبيَّنُ من يطيعُ اللهَ ومن يعصيه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾؛ أي بَادِرُوا يا أمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بالخيراتِ والطاعاتِ والأعمال الصالحة قبل الفَوْتِ والموتِ. قال صلى الله عليه وسلم:" اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾؛ أي إلى اللهِ مرجعُ مَنْ آمَنَ، وَمن لم يؤمِنْ.
﴿ فَيُنَبِّئُكُم ﴾؛ فيجزيَكُم يومَ القيامةِ.
﴿ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾؛ من أمرِ الدِّين والشريعة.
﴿ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾؛ أي أن يَستَزِلُّوكَ عن بعضِ ما بيَّن اللهُ في كتابهِ. قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِير مِثْلَ ابْنِ صُوريَّا وَكَعْب بْنِ أسَدٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا فِيْمَا بَيْنِهِمْ: اذْهَبُوا بنَا إلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَإنَّمَا هُوَ بَشَرٌ! فَأَتَوْهُ فَقَالُواْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أنَّا أحْبَارُ الْيَهُودِ وَأشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَإنَّا إنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ كُلُّهُمْ وَلَنْ يُخَالِفُونَا، وَإنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْكَ فَاقْضِ لَنَا عَلَيْهِمْ فَنُؤْمِنُ بكَ، فَأَبَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ حَرِيصاً عَلَى إسْلاَمِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ ). قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم ﴾؛ أي إنْ أعرَضُوا عن حُكمِكَ، فاعلم إنَّما يريدُ الله أنْ يُعَاقِبَهم بالقتلِ في بني قُريظَةَ، وَبالْجَلاَءِ إلَى الشَّامِ فِي بَنِي النَّضِيرِ.
﴿ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾؛ أي بمَا سلَفَ من ذُنوبهم، وهو جُحودهم لدِينِكَ ونَعْتِكَ وصفتِكَ والتوراةِ والإنجيلِ.
﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾؛ أي خارجون عن الطاعةِ ناقِضُون للعهدِ.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾؛ إذا تولاَّهُ لأجلِ كُفرهِ صارَ كافراً مثلَهُ، وأمَّا إذا تولاَّهُ لا لأجلِ كُفرهِ صارَ مِن جُملة المستحقِّين العذابَ لمخالفةِ أمر الله ولِمُوالاَتِهِ مَن أوجبَ الله عليه أن يُعذِّبَهُ. وقال عكرمةُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ رَضُوا بحُكْمِ سَعْدٍ: إنَّهُ الذبْحُ). قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي لا يُرشِدُ اليهودَ والنصارى إلى دِينه، وحُجَّتهِ ما دامُوا على كُفرِهم.
﴿ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾؛ شدَّةٌ وجُدُوبَةٌ. ويقال: أرادَ بهذا القولِ أنَّهم يخشَون أن لا يَتِمَّ أمرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بأن يدورَ الأمرُ على الحالةِ التي هم عليها فيحتاجون إلى الكفَّار. يقول اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ ﴾؛ أي عسَى أن يَظهَرَ المسلمون، و ﴿ عَسَى ﴾ من اللهِ واجبةٌ. وسَمَّى النصرَ فتحاً؛ لأن فيه الأمرِ المغلَقِ. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾؛ معناه: أو يقضِي بالخصب لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ، ويقال هو أن يُؤْمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإظهار أمر المنافقين وقَتلِهم.
﴿ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآأَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾؛ فيصبحَ المنافقون على ما أضمَرُوا في أنفُسِهم من ولايةِ رؤوس اليهود والنصارَى إليهم نَادِمين، فلا تنفعُهم الندامةُ حينئذٍ.
﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾، بَطَلَ ما أظهروهُ من الإيمانِ والأعمال الصالحةِ، ﴿ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ﴾؛ فصاروا مَغبُونين في الوِزْر والعقوبةِ. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ تفسيرٌ للقَسَمِ باللهِ تعالى، فإنَّ مَن يحلفُ باللهِ فقد بذلَ جُهد يَمينهِ، إذ لا يمينَ أعظمُ من اليمينِ بالله، ولا حرمةَ أكبرُ من حرمةِ الله. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (فَجَاءَ اللهُ بالْفَتْحِ وَنَصَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، وجاءَ أمرُ الله من عنده بإجلاءِ بني النضيرِ، وقتل مقاتِلة بني قُريظة وسَبيِ ذراريهم)، فنَدِمَ المنافقون حين ظهرَ نفاقُهم، وقال المؤمنون: ﴿ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي أشدَّاءَ أقوياءَ غُلَظَاءَ على الكافرِين، يُغَازُونَ الكفارَ ويغالبونَهم، ونظيرُ هذه الآية قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾[الفتح: ٢٩] قال عطاءُ: (أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: كَانُوا كَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَكَالْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، أعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ: كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ). وقال السديُّ: (مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ يَعْنِي الأَنْصَارَ)." ورُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَضَرَبَ بيَدِهِ عَلَى عَاتِقِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فَقَالَ: " هَذا وَذْوُوهُ "، ثُمَّ قَالَ: " لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقاً بالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رجَالٌ مِنْ أبْنَاءِ فَارسَ " ". قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ﴾؛ أي يُقاتلون العدوَّ في طاعةِ الله، ولا يخافون ملامةَ اللائمين.
﴿ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾؛ أي ذلك التمكينُ والتوفيق فضلٌ من اللهِ يُكرِمُ به من يشاءُ مَن كان أهلاً لذلك.
﴿ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾؛ الفضلِ والرحمة.
﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ مَن يصلُح للهدَى.
فَأَنْزَلْتَ عَلَيْهِ ﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ ﴾، اللَّهُمَّ وَأنَا مُحَمَّدٌ نَبيُّكَ وَصَفِيُّكَ، اللَّهُمَّ فَاشْرَحْ لِي صَدْري، وَيَسِّرْ لِي أمْرِي، وَاجْعَلْ لِي وَزيراً مِنْ أهْلِي عَلِيّاً اشْدُدْ بهِ ظَهْرِي "قَالَ أبُو ذرٍّ: فَمَا اسْتَتَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْكَلاَمَ حَتَّّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بهَذِهِ الآيَةِ ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾.
﴿ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ ﴾؛ فإن جُند اللهِ.
﴿ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ ﴾.
﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾، وأراد بهم مُشركي العرب، ومن خفضَهُ فمعناهُ: مِن الذين أوتوا الكتابَ ومن الكفار. وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ أي اخشَوهُ في ولايةِ الكافرين إنْ كُنتم مُؤمنين باللهِ وبرسوله.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾؛ ثوابَ الله تعالى في إقامةِ الصَّلاة، ولا عِقابَهُ في إضاعتهِ. ورُوي: ((أنَّ يَهودياً كان إذا سمعَ المؤذِّنَ يقولُ: (أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ) قالَ: أحرقَ اللهُ الكاذبَ، فدخلَ خادمهُ البيتَ بنارٍ، فوقعت شرارةٌ منها في البيتِ فالتهبَ، واحترقَ اليهوديُّ هو وأهلهُ، واستُجيب دعاؤهُ على نفسهِ)). وفي الآيةِ دليلٌ أنَّ للصلاة أذاناً يدعو به الناسَ إليها، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ ﴾[الجمعة: ٩].
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" ثَلاَثَةٌ لاَ يَكْتَرِثُونَ مِنَ الْحِسَاب، وَلاَ تُفْزِعُهُمْ الصَّيْحَةُ، وَلاَ يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ: حَامِلُ الْقُرْآنِ الْعَامِلُ بهِ، يَقْدُمُ عَلَى اللهِ سَيِّداً شَرِيفاً، وَمُؤَذِّنٌ أذنَ سَبْعَ سِنِينَ لاَ يَأْخُذُ عَلَى أذانِهِ طَعَاماً، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أحْسَنَ عِبَادَةَ رَبهِ وَأدَّى حَقَّ مَوْلاَهُ "وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أذنَ سَنَةً مِنْ نِيَّةٍِ صَادِقَةٍ، أجْلِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَقِيلَ لَهُ: إشفَعْ لِمَنْ شِئْتَ "وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه: قالَ ابنُ عبَّاس: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أذنَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ إيْمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ "وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" الْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ كَالشَّهِيدِ الْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ مَا دَامَ فِي أذانِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابسٍ، فَإذا مَاتَ لَمْ يُدَوِّدْ فِي قَبْرِهِ "قال عمرُ رضي الله عنه: لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّناً لَكَمُلَ أمْرِي، وَمَا بَالَيْتُ أنْ لاَ أتنصب لِقِيَامٍ وَلاَ لِصِيَامٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ "
﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾؛ أي إنَّما كَرِهتُم إيمانَنا وأنتم تعلمون أنَّنا على حقٍّ؛ لأنَّكم فسَقتُم بأنْ أقَمتُم على دِينكم لمحبَّتكم الرئاسةَ وكسبكم بها الأموالَ، فهل تَدرون شيئاً يُعاب علينا إلاَّ هذا؟ فَلِمَاذا تطعَنون. وأما قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾، قال بعضُهم: أرادَ بالأكثرِ كلَّهم، وأكثرُ الشيءِ يقومُ مقامَ الكلِّ. وَقِيْلَ: إنما ذكرَ لفظ الأكثرِ؛ لأن الآيةَ خرجت مخرجَ التلطُّف للدعاءِ إلى الإيمانِ، وكان في سابقِ علم اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنَّ فيهم من يُسلِمُ، وكان في القومِ من يطعنُ بنفسهِ في دين الإسلام، وإنْ كان سكتَ عن طعنِ الطاعنين.
﴿ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي أبعدَهُ عن رَحمتهِ، وسَخِطَ عليه وهم اليهودُ، فيكون موضعُ ﴿ مَن لَّعَنَهُ ﴾ رَفعاً على معنى (هُوَ) ويجوز أن يكون خَفضاً بَدلاً من (شَرٍّ) على معنى: هل أنَبِّئُكُم بمَن لعنَهُ اللهُ. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ ﴾؛ أي مَسَخَ بعضَهم قردةً في زمنِ داوُدَ عليه السلام بدُعائه عليهم حين اعتَدَوا في السَّبت واستحلُّوهُ، ومسخَ بعضَهم خنازيرَ في زمنِ عيسى عليه السلام بعدَ أكلِهم من المائدة حين كفَرُوا بعدَ ما رأوا الآياتِ البيِّنة. ورُوي: أنه لَمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المسلمون لليهودِ: (يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ) فنَكَّسُوا رؤُوسَهم وفضَحَهم اللهُ تعالى. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ ﴾؛ فيهِ عشرُ قراءاتٍ، قرأ العامة (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بفتحِ العين والباءِ والدالِ على الفعلِ؛ ومعناها: وجعَلَ منهم مَن عَبَدَ الطاغوتَ؛ أي بالغَ في طاعةِ الشَّيطان والكُهَّان ورؤساءِ المعصية. وقرأ ابنُ مسعود: (وَعَبَدُوا الطَّاغوتَ) أي ومَن عَبَدَ الطاغوتَ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وحمزةُ: بفتحِ العين وضمِّ الباء وكسر التاء من الطاغوتِ، وهو لغةٌ في عبَدَ، مثل سَبْع وَسَبُع. وقرأ أبو جعفرٍ الفرَّاء: (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) على الفعلِ المجهول، وقرأ الحسنُ: (وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ) على الواحدِ. وقرأ يزيدُ الأسلمي: (وَعَابدَ الطَّاغُوتِ) بالأف، وقرأ ابنُ عباس: (وَعَبيدَ الطَّاغُوتِ) بالجمعِ، وقرأ أبو واقدٍ الليثيِّ: (وَعُبَّادَ الطَّاغُوتِ) مثل كُفَّار، وقرأ عَوْنُ العقيلي وإبَانُ بن ثعلبٍ: (وَعُبَّدَ الطَّاغُوتِ) مثل رَاكِعْ ورُكَّع، وقرأ عبيدُ بن عمير: (أعْبَدَ الطَّاغُوتِ) مثل كلب وأكلَبٍ، وقرأ الأعمشُ: (وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ) بضمِّ العين والباء وكسرِ التاء من الطاغوتِ. قال الشاعرُ: انْسُبِ الْعَبْدَ إلَى آبَائِهِ أسْوَدُ الْجِلْدِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ﴾ فإن قِيْلَ: كيف معنى هذا ليس في الإيمانِ شرٌّ وضلالٌ؟ قِيْلَ: سِمَةُ المشركين شرٌّ مَكاناً لا يوجبُ أن يكون في الإيمانِ شرٌّ وتطيُّر. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾[الفرقان: ٢٤] ومعلومٌ أنه لا خيرَ في مستقرِّ الكُفَّار ومُنقَلَبهم، فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المسلمون ليَهُودَ: (يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ) فَسَكَتُوا وأفحِمُوا، وفيهم يقولُ الشاعرُ: فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ إنَّ الْيَهُودَ إخْوَةُ الْقُرُودِ
﴿ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ ﴾؛ وأكلِ الرِّشوَةِ والحرامِ في تغيير الأحكامِ.
﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ من المعصيةِ ومجاوزة الحدِّ.
وقولهُ: ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ أي بئسَ ما يصنعُ علماؤهم من كتمانِهم الحقَّ، وتركِهم النهيَ عن المعصيةِ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا والضحاك: (إنَّ هَذِهِ الآيَةَ أشَدُّ الآيَاتِ فِي تَخْوِيفِ مَنْ تَرَكَ الأَمْرَ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ رَجُلٍ يُجَاورُ قَوْماً فَيَعْمَلُ بالْمَعَاصِي بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فَلاَ يَأْخُذُونَ عَلَى يَدَيْهِ، إلاَّ أوْشَكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُمُّهُمْ مِنْهُ بعِقَابٍ "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾؛ عبارةٌ عن الجودِ وكثرة العطيَّة لِمَن يشاءُ، كما يقالُ: فلان بَسْطُُ اليدَين، وبَاسِطُ اليدين إذا كان جَواداً يعطي يَمنَةً ويَسرَةً، وعن ابنِ عباس: (أنَّ مَعْنَاهُ: بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وأرادَ نعمةَ الدينِ والدنيا، وَقِيْلَ: نعمتهُ الظاهرةُ ونعمته الباطنة. وَقِيْلَ: أراد بالتثنيةِ في هذا للمبالغةِ في صفة النعمةِ. قال الأعشى: يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ وَكَفٌّ إذا مَا ضَنَّ بالْمَالِ تُنْفِقُوهذا كلُّه لأنَّ اليهود قصَدُوا تبخيلَ اللهِ، فحوسِبُوا على قدر كلامهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾؛ دليلٌ على أن المرادَ بجواب اليهود بيانُ بسطِ النعمة، وأنَّ اللهَ يرزقُ كيف يشاءُ بحسب المصالحِ، فربَّما كان الصلاحُ في أن يعتَبروا، وربَّما كان في أن يُوسِّع، ولا يخلو حُكمه عن الحكمةِ. واعلم أن اليدَ في اللغة تتصرفُ على وجوهٍ؛ منها: الجارحةُ وهي معروفةٌ، وتعالَى اللهُ عن الجوارحِ. ومنها: النعمةُ كما يقال: لفلانٍ علَيَّ يدٌ؛ أي نعمةٌ. ومنها: القوةُ كما قال تعالى:﴿ أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ ﴾[ص: ٤٥] وقال تعالى:﴿ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ ﴾[الذاريات: ٤٧].
ومنها: الْمُلْكُ﴿ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ ﴾[البقرة: ٢٣٧] أي يملِكُه. ومنها: القدرةُ كقوله﴿ بِيَدَيَّ ﴾[ص: ٧٥] أي تولَّيتُ خلقَهُ، وفائدتهُ التشريف. ومنها التصرُّف كما يقالُ: هذه الدارُ في يدِ فلان؛ أي هو يتصرَّفُ فيها بالسُّكنى والإسكان، وقد يقالُ: أسلمَ فلانٌ على يدِ فلان؛ أي كان سَبباً في إسلامهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾؛ معناهُ: ليزيدنَّ القرآنُ الذي أنزل إليكَ، وما فيه من الإسلام، وحُكمِ الرجمِ كثيراً من اليهود طُغياناً وكُفراً؛ أي كلَّما أنزِلَ عليكَ شيءٌ من القرآنِ كفَرُوا به فيزيدُ كُفرُهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ أي جعَلناهم مختلِفين في دِينهم متباغِضين كما قال تعالى:﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ﴾[الحشر: ١٤].
وقولهُ تعالى: ﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ ﴾؛ أي كلَّما أجمعوا على قتالِكم وأعَدُّوا للحرب، فرَّقَ اللهُ جمعَهم وأطفأَ مكرَهم وخالفَ بين كلمتِهم. وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً ﴾؛ أي يجتَهدون في دفعِ الإسلام ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾؛ أي لا يرضَى عملَ أهلِ الفساد.
﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾؛ أي لوسَّعنا عليهم الرزقَ بإنزالِ المطر من السماءِ، وإخراجِ النبات من الأرضِ والشجر والنباتِ. وفي الآيةِ بيانُ أن التُّقَى سببٌ لتوسعةِ الرزق، واستقامةِ الأمر في الدُّنيا والآخرة، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الأعراف: ٩٦] وقولهُ تعالى:﴿ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾[الطلاق: ٢-٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾؛ أي من أهلِ الكتاب أمَّةٌ عادلة، يعني جماعةٌ عادلة في القولِ، وهم الذين أسلَمُوا منهم، وهم ثمانيةٌ وأربَعون رجُلاً: النجاشيُّ وأصحابهُ من النَّصارى، وبَحِيرَا الراهبُ وأصحابهُ، وسَلمان الفارسيُّ وأصحابهُ، وعبدُالله بن سَلام وأصحابهُ، وجَبْرٌ مولَى قريشٍ.
﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي كثيرٌ من أهلِ الكتاب ساءَ ما يعمَلون من كتمانِ نعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتكذيبهِ، وهم: كعبُ بن الأشرفِ وأصحابهُ وسوف تسوؤُهم أعمالهم يومَ القيامةِ إذا رأوا وبَالَها.
﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي ليس عليكَ إلاَّ تبليغُ الرسالةِ فلا تحزَنْ عليهم إن كذبوكَ؛ أي لا تحزَنْ على هلاكِهم إذا أهلكنَاهم.
وقال بعضُهم: إنَّ المؤمنين يخافون ويحزَنون لقولهِ تعالى:﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾[الحج: ٢] وقولهُ تعالى:﴿ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾[عبس: ٣٤-٣٥].
وقال صلى الله عليه وسلم:" " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً " فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاسَوْأتَاهُ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أمَا سَمِعْتِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ " "قالُوا: وإنما نفَى اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الحزنَ عن المؤمنين؛ لأن حزنَهم لِما كان يعرض الزوالَ، ولم يكن له بقاءٌ معهم لم يعتدَّ بذلك.
﴿ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ ﴾؛ أي كلَّما جاءَهم رسولٌ بما لا يوافقُ هوَاهم ولا ما هُم عليهِ.
﴿ فَرِيقاً كَذَّبُواْ ﴾؛ أي كذبوا جماعةً من الرُّسل مثلَ عيسى ومُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمَا.
﴿ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾؛ مثلَ زكريَّا ويحيى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ.
﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾؛ عن الحقِّ؛ أي عَمِلُوا معاملةَ الأعمى الذي لا يُبصر، والأصمَّ الذي لا يسمعُ، فصاروا كالعُمْيِ والصُّمِّ. ﴿ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي تجاوزَ عنهم بأن أرسلَ إليهم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يُعلِمُهم أنه قد تابَ عليهم إن آمَنُوا وصدَّقُوا فلم يؤمِنْ أكثَرُهم، ويقال: دَانُوا بعد ذلك وتابُوا من الكفرِ فقَبلَ اللهُ توبتَهم، فلمَّا بعثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وجاءَهم ما عرَفُوا كفَرُوا بهِ، فذلك قولهُ: ﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ أي عَمُوا عن الهدَى، وصَمُّوا عن الحقِّ بعد أنِ ازدادَ لهم الأمرُ وضوحاً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾؛ بدلٌ من الواوِ في قوله ﴿ عَمُوا ﴾ كأنه قالَ: عَمِيِ وصَمَّ كثيرٌ منهم، وهذا كما يقالُ: جاءَني قومُكَ أكثرُهم، وقوله: ﴿ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ يقتضي في المرة الثانيةِ أنَّهم لم يكفُروا بأكملِهم، وإنما كفَرَ أكثرُهم، كما قالَ تعالى:﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾[آل عمران: ١١٣] وقال تعالى:﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾[المائدة: ٦٦].
ويُحكى عن بعضِ أهل اللُّغة جوابَ جمعِ الفعل متقدِّماً على الاسمِ، كما يقالُ: أكَلُونِي البراغيثُ، ويجوزُ أن يكون ﴿ كَثِيرٌ ﴾ خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ معناهُ: العميُ والصمُّ كثيرٌ منهم. وقوله: ﴿ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي بما تعمَلون من التكذيب ونقضِ الميثاق وتحريف الكلام.
﴿ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ ﴾؛ ومصيرهُ في الآخرة النارُ.
﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾؛ أي ما للمشرِكين من مانعٍ يمنعُهم من عذاب الله. ثم بيَّن اللهُ كُفرَ الفريقِ الآخر من النَّصارى، وهم المرقُوشيَّة، فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾؛ أي أحدُ ثلاثةٍ: أبٌ؛ وابنٌ؛ وروحُ قدسٍ.
﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ ﴾؛ أي المنافقون؛ ﴿ عَمَّا يَقُولُونَ ﴾؛ من مقالتِهم الأُولى والثانية.
﴿ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي ليُصِيبَنَّ الذين أقَامُوا على مقالةِ الكفر.
﴿ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ وجيعٌ يخلصُ وجعه إلى قلوبكم.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَن تابَ وآمَنَ.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بمَن ماتَ على التَّوبة.
﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾؛ أي كَثيرَةُ الصِّدق والتصدُّقِ، وذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام أتَاها فقالَ لها: إنَّمَا أنَا رَسُولُ رَبكِ؛ فصدَّقَتْهُ، كما قال تعالى:﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾[التحريم: ١٢].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ﴾؛ بيانُ أنَّهما كانا مُحدَثَين محتاجَين، وهذا احتجاجٌ بيِّنُ على القومِ في أنه لم يكن إلَهاً؛ لأنَّ اللهَ تعالى وَصَفَهُ في الآيةِ بصفاتٍ تُنافِي الآلهيَّة، منها: أنَّهُ رسولٌ بعدَ أن لم يكُنْ، ومنها: أنه كسائرِ الرُّسل فيما ظَهرت منه وعليه، ومنها: أنه مولودٌ من أمٍّ، ومنها: أنَّهما كَانا يعِيشان بالغداءِ كما يعيشُ سائر الآدميِّين، وكيف يكون إلَهاً مَن تكون حياتهُ بالحيلةِ ولا يقيمهُ إلاّ أكلُ الطعامِ. ومنها ما قالوا: إنَّ أكلَ الطعامِ في الآية كنايةٌ عن قضاءِ الحاجة؛ لأن الذي يأكلُ الطعامَ لا بدَّ له من قضاءِ الحاجة. فكلُّ هذه الصفاتِ دلالةٌ على كونهِ عَبداً مخلوقاً مربُوباً مستحيلاً أن يكون إلَهاً قَديماً، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيراً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ﴾؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف نبيِّنُ لهم العلاماتِ في أمر عيسَى أن لم يكُنْ إلَهاً ولا ابناً له ولا ثالثَ ثلاثةٍ.
﴿ ثُمَّ ٱنْظُرْ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ.
﴿ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي مِن أين يُصرَفون عن الحقِّ الواضح إلى الباطلِ. وَالإفْكُ: هو الصَّرْفُ، كلُّ شيء صَرَفْتَهُ فهو مأْفُوكٌ، تقولُ: أفَكْتُهُ عَنْهُ أفَكَهُ إفكاً، ويسمَّى الكذبُ إفْكاً؛ لأنه يصرفُ عن الحقِّ.
﴿ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾؛ لِمقالتِكم فِي عيسى عليه السلام وأمِّه.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بكم وبعقوبتِكم.
﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً ﴾؛ من السَّفلة الذين أطَاعُوهم.
﴿ وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ وأصَرُّوا على ضلالتِهم عن قصدِ الطريق.
﴿ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ ﴾؛ أي بدُعائه عليهم حين اعتَدوا في السَّبتِ، فمسخَهم اللهُ قردةً. ﴿ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ﴾، أي ولُعِنُوا بدُعاء عيسى حين كفَرُوا بعد ذلكَ بالمائدةِ فمسخَهم اللهُ خَنازيرَ.
﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾؛ ذلك اللَّعنُ والتعذيبُ بعصيانِهم واستحلالِهم المعاصي وقتلِهم الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ بغيرِ حقٍّ. ثم بيَّن اللهُ تعالى سببَ المعصية والكفرِ، فقال تعالى: ﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾؛ أي لا ينهَى بعضُهم بعضاً عن قبيحٍ يعملونَهُ، واصطَلَحوا على الكفِّ عن نَهي المنكرِ.
﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾؛ ودخولُ اللامِ في (لَبئْسَ) للقسَمِ والتوكيدِ.
﴿ لبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ ﴾؛ أي بئْسَ ما عمِلُوا لأنفسهم حين.
﴿ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾؛ وموضعُ (أنْ سَخِطَ) نَصْبٌ على تأويلِ بئسَ الشيءُ ذلك لإن أكسبَهم السُّخْطَ، فانتصبَ (أنْ) بلامِ (كَيْ)، ويجوزُ أن يكون موضعهُ رَفعاً على إضمار (هُوَ) تقديرهُ: هُوَ أنْ سَخِطَ اللهُ عليهم.
﴿ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾؛ أي مُقيمون دائمون.
﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ﴾؛ أي والقرآنِ الذي أنزل إليه؛ ﴿ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾، ما اتَّخذوا كفارَ قُرَيشٍ وسائرَ عَبَدَةِ الأوثانِ أحبَّاءَ في العونِ والنُّصرة على حربِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾؛ من اليهودِ؛ ﴿ فَاسِقُونَ ﴾؛ خارجون عن الطاعةِ، ناقِضُوا العهدِ.
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾ ووفدُ النجاشيِّ الذين قَدِمُوا مع جعفرَ وهم سَبعُونَ. وقال مقاتلُ والكلبيُّ: (كَانُوا أرْبَعِينَ رَجُلاً، اثنَانِ وَثَلاَثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٌ مِنْ أهْلِ الشَّامِ). وقال عطاءُ: (ثَمانُونَ رَجُلاً، أرْبَعُونَ مِنْ أهْلِ نَجْرَانَ، وَاثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٌ مِنْ أهْلِ الرُّومِ مِنْ أهْلِ الشَّامِ). قال قتادةُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي النَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ مُتَمَسِّكُونَ بشَرِيعَةِ عِيسَى عليه السلام) يعني أنَّ النصارَى كانوا أقلَّ مظاهرةً للمشركين من اليهودِ، فقوله: (وَإذا سَمِعُوا) على هذا التأويلِ معناهُ: وإنَّ منهم مَن إذا سَمعوا، أو منهم قومٌ إذا سَمعوا. وفي الآيةِ ما يشهدُ لهذا القولِ أيضاً؛ لأن اللهَ تعالى وصفَهم بقُرب مودَّتِهم للمسلمين، ولم يصِفْهُم بأنَّهم يُوادُّون المسلمين، ولا يجوزُ أن يعتقدَ أحدٌ أنَّ في الآيةِ مَدحاً للنَّصارى، وإخباراً أنَّهم خيرٌ من اليهودِ إلاّ في معنى شدَّة العداوةِ، لأن مَن أمعنَ النظرَ في مقالةِ اليهود والنصارى عَلِمَ أن مقالةَ النصارى أظهرُ فَساداً من مقالةِ اليهود، لأنَّ اليهودَ يقرُّون بالتوحيدِ في الجملةِ، وإن كانت فيهم مُشَبهَةٌ تنقضُ القولَ بالتوحيدِ بالشَّبه، والنصارَى لا يكونون مقرِّين بالتوحيدِ بوجهٍ من الوُجوهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ﴾؛ معناهُ: إن قُرْبَ مودَّة النصارى للمسلمين، ؛ وقلَّةَ مظاهرتِهم للمشركين بأنَّ مِن النصارى قسِّيسِينَ؛ أي عُلماء وعُبَّاد أصحابَ الصوامعِ.
﴿ وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾؛ عن اتِّباع الحقِّ إذا تبيَّن لهم. والقسِّيسين في اللغة مأخوذٌ من القَسِّ وهو الشَّرُّ، يقال: قسَّ فلانٌ الأذى إذا تَبعَهُ، والقَسُّ: النميمةُ أيضاً. والرُّهبان: العُبَّادُ أصحابُ الصوامعِ. وقال قطربُ: (الْقِسِّيسُ: الْعَالِمُ) بلُغَةِ الرُّومِ، والرُّهْبَانُ: جَمْعُ رَاهِبٍ مِثْلَ فَارسٍ وَفُرْسَانٍ وَرُكْبَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ رُهْبَانٌ وَاحِدٌ وَجَمْعُهُ رَهَابينُ مِثْلُ قُرْبَانٍ وَقَرَابينَ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ رَهَبَ اللهَ أيْ خَافَهُ.
﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا ﴾؛ أي صدَّقنا بوحدانيَّتِكَ وكتابكَ ورسولِكَ.
﴿ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾؛ أي مَع مَن شَهِدَ من أنبيائِكَ ومؤمنِي عبادِكَ بأنَّكَ واحدٌ لا إلهَ غيرك؛ أي اجعَلنا في جُملتهم. قال ابنُ عبَّاس: فَلَمَّا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ لاَمُوهُمْ عَلَى الإيْمَانِ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن وَقَالَوا لَهُمْ: تَرَكْتُمْ مِلَّةَ عِيسَى عليه السلام وَدِينَ آبَائِكُمْ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ أي نحن نرجو أن يُدخِلَنا ربُّنا في الآخرةِ مع صالِحي أمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ تجري من تحت شجرِها ومساكنها وغُرَفِها أنْهَارُ الماءِ والعسل والخمرِ واللبن.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي ذلك الثوابُ جزاءُ الموحِّدين المخلصين.
﴿ أَصْحَٰبُ ﴾، أهل.
﴿ ٱلْجَحِيمِ ﴾؛ النار الشَّديدة الوقودِ.
﴿ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ ﴾؛ أي لا تُجاوزوا حدودَ اللهِ بتحريم حلالهِ، فإن مُحَرِّمَ ما أحلَّ اللهُ، كمُحِلِّ ما حرَّمَ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ ﴾؛ أي لا يرضَى عمل المعتدِين على أنفُسِهم المتجاوزين حدودَ الله.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾.
وَقِيْلَ:" أنَّهُ لما بلغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُهم؛ أتَى دَارَ عُثْمَانَ بْنَ مَضْعُونٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَ لامْرَأةِ عُثْمَانَ بْنِ مَضْعُونٍ - أمِّ حَكِيمٍ بنْتِ أمَيَّةَ وَاسْمُهَا الْخَوْلَةُ وَكَانَتْ عَطَّارَةً -: " أحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْ زَوْجِكِ وَأصْحَابهِ؟ " فَكَرِِهَتْ أنْ تَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَكَرِهَتْ أنْ تُبْدِيَ خَبَرَ زَوْجِهَا؛ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنْ كَانَ أخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا جَاءَ عثْمَانُ أخْبَرَتْهُ زَوْجَتُهُ بذلِكَ، فَعَنِيَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ عليه السلام: " أمَّا أنَا؛ فَلَمْ أوْمَرْ بذلِكَ، إنَّ لأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً؛ فَصُومُوا وَأفْطِرُواْ؛ وَقُومُواْ وَنَامُواْ، فَأَنَا أقُومُ وَأنَامُ، وَأصُومُ وَأفْطِرُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ وَالدَسَمَ، وآتِي النِّسَاءَ، مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ". ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: " مَا بَالُ قَوْمٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ الطَّيِّبَ وَالنَّوْمَ، أمَّا أنَا فَلاَ آمُرُكُمْ أنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ أوْ رُهْبَاناً، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ، وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، فَإنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الصَّوْمُ، وَرَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجِهَادُ، فَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُواْ وَأقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَاسْتَقِيمُوا لِيَسْتَقِيمَ لَكُمْ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُواْ عَلَى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ " ". وعن سعيدِ بن المسيِّب؛ قال:" جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ مَضْعُونٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فََقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بأَنْ أخْتَصِي، قَالَ: " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! إنَّ اخْتِصَاءَ أمَّتِي الصِّيَامُ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أتَرَهَّبَ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ، قَالَ: " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ لانْتِظَار الصَّلاَةِ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ. قَالَ: " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ صَدَقَتَكَ يَوْمٌ بيَوْمٍ، وَتَعِفُّ بنَفْسِكَ وَعِيَالِكَ، وَتَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ وَالْيَتِيْمَ، فَتُعْطِيهِمَا أفْضَلُ مِنْ ذلِكَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدَّثُنِي أنْ أطَلِّقَ امْرَأتِي خَوْلَةَ. قَالَ: " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ الْهِجْرَةَ فِي أمَّتِي مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، أوْ هَاجَرَ إلَيَّ فِي حَيَاتِي، أوْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي، أوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأةٌ أوْ امْرَأتَانِ أوْ ثَلاَثٌ أوْ أرْبَعٌ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَإنْ نَهَيْتَنِي أنْ لاَ أطَلِّقَهَا فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ أغْشَاهَا. قَالَ: " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ الْمُسْلِمَ إذا غَشِيَ امْرَأتَهُ أوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ رَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، كَانَ لَهُ وَصِيْفَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَإنْ كَانَ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، فَمَاتَ قَبْلَهُ كَانَ لَهُ فَرْطاً وَشَفِيعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإنْ مَاتَ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ آكُلَ اللَّحْمَ. قَالَ: " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنِّي أحِبُّ اللَّحْمَ وَآكُلُهُ إذا وَجَدْتُهُ، وَلَوْ سَأَلْتُ رَبي أنْ يُطْعِمَنِيَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَطْعَمَنِيَهُ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ أمَسَّ الطَّيبَ. قَالَ: " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أمَرَنِي بالطَّيب غَبّاً "، وَقَالَ: " يَوْمَ الْجُمُعَةِ لاَ تَرْكَهُ، يَا عُثْمَانَ لاَ تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي، فَإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ، صَرَفَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ". عن أبي موسَى الأشعريِّ رضي الله عنه قال:" رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ، وَرَأَيْتُهُ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَالْبَطِّيخَ "وعن ابنِ عبَّاس؛ قال: (كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أخْطَأَتْكَ ثِنْتَانِ: سَرَفٌ وَمَخْيَلَةٌ). وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:" " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَأْكُلُ الدَّجَاجَ وَالْفَالُوذجَ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ الْحَلْواءُ وَالْعَسَلُ "؛ وقال: " إنَّ الْمُؤْمِنَ حُلْوٌ يُحِبُّ الْحَلاَوَةَ " "وقال:" إنَّ فِي بَطْنِ الْمُؤْمِنِ زَاويَةٌ لاَ يَمْلأُوهَا إلاَّ الْحَلْوَاءُ ". وروي: أن الحسنَ كان يأكلُ الفالوذجَ، فدخل عليه فرقدُ السبخي، فقال: (يَا فَرْقَدُ، مَا تَقُولُ فِي هَذا؟) قال: لا آكلهُ ولا أحبُّ أكلَهُ، فأقبلَ الحسن على مَن عندَهُ كالمتعجِّب؛ فقالَ: (لُعَابُ النَّحْلِ وَلُبَابُ الْقَمْحِ، وَسَمْنُ الْبَقَرِ أحِلَّ بعَيْنِهِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ). وجاءَ رجلٌ إلى الحسنِ فقال له: إنَّ لي جاراً لا يأكلُ الفالوذجَ، قال: (وَلِمَ؟) قال: لا يؤدِّي شُكرَهُ، قال: (أفَيَشْرَبُ الْمَاءَ البَاردَ؟) قال: نعم، قال: (إنَّ جَارَكَ هَذا جَاهِلٌ، إنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْمَاءِ الْبَاردِ أكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَالُوذجِ).
﴿ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾؛ أي مِنْ أعدل مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ غداءً وعشاء ولا وكَسَ ولا شَطَطَ. وَقِيْلَ: معناهُ: من أوسَطهِ في الشَّبع، ولا تفرطُ في الأكلِ، ولا يكون دون المغنى عن الجوعِ، فإن أرادَ أن يُطعِمَهم الطعامَ أعطَى لكلِّ مسكين نصفَ صاعٍ من حنطة عند أصحابنا، هكذا رُوي عن عمرَ وعليٍّ وعائشة. وقال الشافعيُّ ومالك: (مُدّاً بمُدِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم). وَالْمُدُّ: رَطْلٌ وَثُلُث، وهكذا رُوي عن زيدِ بن ثابت وابنِ عبَّاس وابن عمرِو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أجمعين. وأما غدَاؤهم وعشاؤهم فلا عبرةَ بمقدار الطعام، إلا أن يكون فيهم صبيٌّ صغير لا يستوفِي الأشياءَ يسيراً فلا يعتدُّ به حينئذ، وإنما قال: يُغَدِّيهِمْ ويُعَشِّيهم؛ لأن ذلك أوسطُ طعامِ الأهل؛ لأن أكثرَ الأكلِ ثلاثُ مرات، وأقلُّه وجبة، والغالبُ الأوسط؛ والأوسطُ الغالب مرَّتان. وقال سعيدُ بن جبير: (يُعْطِي لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ؛ مُدٌّ لِطَعَامِهِ وَمُدٌّ لإدَامِهِ). وسُئل شريح عن الكفَّارة؛ فقال: (الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ). فقال له السائلُ: رأيتَ إن أطعمتُ الخبزَ واللحم، فقال: (ذَلِكَ أرْفَعُ طَعَامِ أهْلِكَ وَطَعَامِ النَّاسِ). وعن ابنِ مسعود وابن عمرو: (أنَّ أعْلاَ مَا بطَعَامِ الأَهْلِ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ، والأَدْوَنُ الْخُبْزِ الْبَحْتُ بغَيْرِ إدَامٍ، وَالأوْسَطُ الْخُبْزُ مَعَ السَّمْنِ وَنَحْوُهُ). ظاهرُ الآية يقتضي أنه إذا أعطَى مسكيناً واحداً طعامَ العشرةِ لا يقعُ إلا عن الواحدِ، إلا أنَّ أصحابَنا إنَّما اختَاروا دفعَ ذلك إلى الواحدِ في العشرة أيَّام على أعشارٍ، والمعنى: لأنه جُوِّزَ على الحانث سدُّ عشرِ خِلات، ولا فرقَ بين سدِّ خلة الواحدِ في عشرة أيام، وسدِّ خلَّة العشرةِ في يوم واحدٍ. قَوْْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ﴾؛ قرأ السُّلَّمي (أوْ كُسْوَتُهُمْ) بضمِّ الكاف وهما لُغتان. ومعنى الآية: أو كسوةُ عشرةِ مساكين، وأدنَى ما يجوزُ في الكسوة ثوبٌ واحد أو رداء أو قميص أو إزارٌ وقبَاءٌ أو كِسَاءٌ. وأما القلُنسوة والْخُمُرُ والعمامَةُ والسراويلُ، فلا تجوز عن الكسوةِ في ظاهرِ الرواية. وروي عن مُحمد أن السراويلَ تُجزئ لجواز الصلاة فيها للرجُل. وعند الشافعيِّ تجوزُ السراويل والعِمامة. وعند سعيد بن المسيَّب والضحاك: (يَجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَانِ). قَوْْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾؛ معناهُ: أو إعتاقُ مملوكٍ يستوي فيه الذكر والأُنثى؛ والصغيرُ والكبير. وظاهر اللفظِ يقتضي رقبةً مُسَلَّمَةً من العاهاتِ؛ لأن اسمَ الشخص بكمالهِ، إلا أنَّ الفقهاءَ اتَّفقوا أن النقصَ اليسيرَ لا يمنعُ جوازَها. ولا يجوزُ عِتْقُ أمِّ الولد، والمعتَقُ بعضهُ بالإجماعِ، وأما المدبَّرُ فالخلافُ فيه كالخلافِ في بيعه، وأما المكاتَب فيجوزُ عِتقهُ عن الكفارةِ إذا لم يؤَدِّ شيئاً من الكتابةِ عندنا. وقال الشافعيُّ: (لاَ يَجُوزُ). ويجوزُ عندَنا عتقُ الرقبة الكافرةِ والمؤمنة في كفَّارة اليمينِ والظِّهار؛ لأن الرقبةَ مُبهَمة فيهما، إلا العبدَ المرتدَّ؛ فإنه لا يجوزُ؛ لأنه غير محقونِ الدم. وقال الشافعيُّ: (لاَ يَجُوزُ قِيَاساً عَلَى كَفَّارَةِ القَتْلِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾؛ معناهُ: إذا لم يكن له فضلٌ عن كَسبهِ وثياب بدَنهِ وما يقتات به في منزلهِ مقدارَ ما يطعمُ عشرةَ مساكين أو يكسُوهم ويعتقُ رقبةً، فعليه صيامُ ثلاثة أيَّام. وظاهرُ الآية: يقتضي أنه يجزئُ في الصيام التفريقُ، وهو قول مالكِ والشافعيُّ. وفي قراءةِ ابن مسعود وأبَي بن كعب: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ). وعن ابن عبَّاس ومجاهد وإبراهيمَ وقتادة وطاووس؛ أنَّهم قالوا: (هِيَ مُتَتَبعَاتٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾؛ أي ذلك الذي ذكرتُ لكم، وأمَرتُكم به كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذا حَلَفْتُمْ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ ﴾؛ أي احفَظُوها من الحنثِ، وهذا إذا لم يقعِ اليمينُ على منعِ واجب أو فعلِ معصية، أما إذا كان اليمينُ على منعِ واجب أو فعلِ معصية، فعلى الحالف أن يحنثَ نفسه ويكفِّرَ عن يمينهِ. ويقال: معناه: (احْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) رَاعُوا ألفاظَ إيْمانِكم ليعلمَ الرجلُ ما حلفَ عليه فيكفِّرهُ إذا حنثَ. ويقال: معناهُ: لا تَحلِفُوا، كما قال الشاعرُ: قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ إذا بَدَرَتْ مِنْهُ الأَلْيَةُ بَرَّتِوالتأويلُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ الآية؛ لأن الإنسانَ لا يؤمَرُ بحفظ شيءٍ معدوم، لا يقالُ لِمَن لا مالَ له: احفَظْ مالَكَ. وقولهُ تعالى: ﴿ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾؛ أي هكذا يبيِّنُ الله لكم أمرَهُ ونَهيَهُ كما بيَّنَ كفارةَ اليمين؛ لكي تشكُروا إنعامَهُ وبيانه.
﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾؛ أي أعرَضتُم عن طاعةِ الله وطاعة الرسولِ.
﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾؛ أي تبليغُ الرسالة عن اللهِ بأوامره ونواهيه بلُغَة تعرفونَها. وأما التوفيقُ والخذلان والثواب والعقابُ، فإلى الله عَزَّوَجَلَّ. فلمَّا نزلَ تحريمُ الخمرِ والميسر قال الصحابةُ: (يَا رَسُولَ اللهِ! فَكَيْفَ بإخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟) حتى قال المهاجِرون: (يَا رَسُولَ اللهِ! قُتِلَ أصْحَابُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَاتُوا فِيْمَا بَيْنَ بَدْر وأحُدٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؛ فَمَا حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ؟) فأنزل اللهُ قَولَهُ تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ ﴾؛ أي فيما شَرِبوا من الخمرِ.
﴿ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ ﴾؛ الشِّركَ.
﴿ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾؛ وصدقوا واجتنبوا الخمرَ والميسرَ بعد تحرِيمها.
﴿ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾؛ ما حرَّمَ الله كلَّهُ.
﴿ وَّأَحْسَنُواْ ﴾.
وَقِيْلَ: معناه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا - بالله ورسوله - وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني الطاعاتِ (جُنَاحٌ) أي حرَجٌ ومَأْثَمٌ (فيمَا طَعِمُوا) من الحرامِ وشربوا من الخمرِ قبل تحريمها، وقبل العلمِ بتحريمها إذا ما اجتَنبوا الكفرَ والشِّركَ وسائرَ المعاصي فيما مضى.
﴿ وَآمَنُوا ﴾ أي وصدَّقوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ ﴿ وَعَمِلُواْ ﴾ الطاعات ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ شربَ الخمرِ بعد التحريم ﴿ وَآمَنُوا ﴾ أي أقَرُّوها بتحريمها ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ﴾ أي ثم دَاوَمُوا على ذلك وضَمُّوا إلى ذلك الإحسانَ في العملِ. وَقِيْلَ: أرادَ بالاتقاءِ الأول: اتقاءُ جميع المعاصِي فيما مضَى، وأراد بالثانِي: اتقاءُ المعاصي في المستقبلِ، وأراد بالثالثِ: اتقاءُ ظُلمِ العباد في المعاملاتِ. وَقِيْلَ: أرادَ بقوله: (إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ) إذا ما اجتَنبوا شُربَ الخمرِ بعد تحريمها وصدَّقوا بتحريمها.
﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ سائرَ المعاصي، وأقرُّوا بتحريم ما يحدُثُ تحريمهُ من بعد مجانبته، ثم جَمعوا بين اتِّقاء المعاصي وإحسانِ العمل والإحسان إلى الناسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي يرضَى عمل الذين يفعَلُون الأفعالَ الحسَنة، ويجتنبون قبائحَها. ورُوي عن ابن عبدالرحمن السلَمي أنه قالَ: (شَرِبَ نَفَرٌ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ الْخَمْرَ وَعَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ يَزِيدُ بْنُ أبي سُفْيَانَ، وَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلاَلٌ! وتَأَوَّلُواْ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ ﴾ إلَى آخِرِ الآيَةِ. وَكَتَبَ يَزِيدٌ بذلِكَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَكَتَبَ عُمَرُ: ابْعَثْهُمْ إلَيَّ مِنْ قَبْلِ أنْ يُفْسِدُوا مَنْ مَعَكَ، فَبَعَثَهُمْ إلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمُواْ، جَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ الله عنه جَمَاعَةً " مِنَ الصَّحَابَةِ " فَقَالَ لَهم: مَا تَرَوْنَ فِيهِمْ؟ قَالُواْ: إنَّهُمُ افْتَرَواْ عَلَى اللهِ، وَشَرَعُواْ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يَأْذنْ؛ فَاضْرِبْ أعْنَاقَهُمْ. وَكَانَ فِي الْقَوْمِ عَلِيٌّ كَرَمَّ اللهُ وَجْهَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أرَى أنْ تَسْتَتِيبَهُمْ، فَإنْ تَابُواْ فَاضْرِبُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَإنْ لَمْ يَتُوبُواْ فَاضْرِبْ أعْنَاقَهُمْ. فَاسْتَتَابَهُمْ فَتَابُوا، فَضَرَبَهُمْ ثَمَانِينَ وَأرْسَلَهُمْ). ورُوي: (أنَّ قَوْماً شَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَضْعُونٍ أنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَرَادَ عُمَرُ أنْ يَجْلِدَهُ؛ فَقَالَ قُدَامَةُ: لَيْسَ لَكَ ذلِكَ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ ﴾ وَقَرَأ الآيَةَ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إنَّكَ أخْطَأْتَ التَّأْويلَ يَا قُدَامَة؛ لَوِ اتَّقَيْتَ اللهَ مَا شَرِبْتَ). وفي بعضِ الروايات: (لَوْ اتَّقَيْتَ اللهَ لاَجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكَ. ثُمَّ أمَرَ بإقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ). وإنما لم يَحكُموا بكُفرِ قُدامة ولم يستتيبوهُ؛ لأنه كان يتأوَّلُ الآيةَ على الحالِ الذي هو فيها، ووجودُ الصِّفة التي ذكرَها اللهُ تعالى في هذه الآيةِ مكفَّرَةٌ لذُنوبه، وأنه لا يستحقُّ العقوبةَ على شُربها مع اعتقادهِ بتحريمها، وإنَّ إحسانَهُ كفَّرَ سيِّئاتهِ، فرَدَّت الصحابةُ عليه هذا التأويلَ، فأُقيمَ عليه الحدُّ.
﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ يعني التعزيرَ والكفَّارة في الدُّنيا؛ يفرق الضربُ على أعضائهِ كلِّها ما خلاَ الوجهَ والرأس والفرجَ، فيضربُ ضَرباً وجيعاً ويؤمر بالكفَّارة، ويكون هذا المتعدِّي مأخوذاً بعذاب الآخرة إن ماتَ قبل التوبة.
﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ هَدْياً ﴾؛ منصوبٌ على الحالِ؛ أي يَحكُمان بقدر أن يهدي. وقولهُ تعالى: ﴿ بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ ﴾؛ لفظه لفظُ المعرفةِ ومعناهُ النَّكِرَةُ، كأنه قال: بَالغاً الكعبةَ، إلا أن التنوينَ حُذف استخفافاً، وكنَّى بالكعبةِ عن الحرَمِ؛ لأن حُرمتَهُ لأجلِ الكعبة. في ذكرِ بُلوغ الكعبة بيانُ اختصاصٍ من هذا الجزاءِ بالحَرَمِ، وأنه لا يجوزُ ذبحهُ إلا فيه. ومعنى قولهِ تعالى: ﴿ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ ﴾ أي فعلَى القاتلِ الفداءُ مثل المقتولِ من النعم. والنَّعَمُ في اللغة: من الإبلِ والبقر والغنمِ، فإذا انفردَت الإبلُ قِيْلَ: إنَّها نَعَمٌ، وإذا انفردت البقرُ والغنم لم تسمَّ نَعَماً. واختلفَ أهلُ العلم في كيفيَّة الجزاء، فقال أبو حَنيفة وأبو يوسف: (يَنْظُرُ الحَكَمَانِ الْعَدْلاَنِ مِنْ أهْلِ الْمَعْرِفَةِ إلَى الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ، فَيُقَوِّمَانِهِ حَيّاً فِي ذلِكَ الْمَكَانِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإذا عُرِفَتِ الْقِيمَةُ خُيِّرَ الْقَاتِلُ، فَإنْ شَاءَ اشْتَرَى بتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْياً مِنَ النَّعَمِ فَذبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، وَإنْ شَاءَ اشْتَرَى بهَا طَعَاماً فَأَطْعَمَهُ مَسَاكِينَ الْحَرَمِ وَغَيْرَهُمْ؛ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أوْ شَعِيرٍ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ. وَإنْ شَاءَ صَامَ مَكَانَ كُلِّ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ نِصْفَ يَوْمٍ، وَإنْ لَمْ يَبْلُغْ قِيمَةُ الصَّيْدِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ، صَامَ يَوْماً كَامِلاً إذا اخْتَارَ الصَّوْمَ؛ لأَنَّ الصَّوْمَ مِمَّا لاَ تَبْعِيضَ فِيْهِ). وقال مُحَمد والشافعيُّ: (إنْ كَانَ لِلصَّيْدِ الْمَقْتُولِ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ، كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ النَّظِيرُ فِي الْخِلْقَةِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ؛ وَفِي بَقَرِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ؛ وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ؛ وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ؛ وَفِي الأَرْنَب عَنَاقٌ؛ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ. وَإنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّيْدِ مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ، كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ). وعن محمَّد الخيار في هذا إلى الحكَمين دون التعيين، وهو قولُ مالكٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ أي يحكمُ بالجزاءِ فقيهان عَدْلانِ ينظُران إلى أشبهِ الأشياء به، فيحكُمان به. ورُوي عن قُبَيصة بن جابرِ قال: (خَرَجْنَا حُجَّاجاً، وَكُنَّا إذا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ أوْقَدْنَا نَاراً، وَأَحَلْنَا بشَيْءٍ وَنَتَحَدَّثُ، فَبَيْنَمَّا نَحْنُ ذاتَ يَوْمٍ إذْ سَنَحَ لَنَا ظَبْيٌ، فَابْتَدَرْتُهُ وَرَمَيْتُهُ بحَجَرٍ فَأَصَبْتُ حَشَاهُ، فَوَكَبَ دِرْعَهُ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ سَأَلْنَا عُمَرَ رضي الله عنه وَكَانَ حَاجّاً، وَكَانَ عَبْدُالرَّحمَنِ بْنُ عَوْفٍ جَالِساً عِنْدَهُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذلِكَ فَقَالَ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ: مَا تَرَى؟ قَالَ: عَلَيْهِ شَاةٌ، قَالَ: وَأنَا أرَى ذلِكَ، قَالَ: فَاذْهَبْ فَاهْدِ شَاةً. قَالَ: فَخَرَجْتُ إلَى صَاحِبي فَقُلْتُ: إنَّ أمِيرَ الْمُؤْمِنِيْنَ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ، قَالَ: فَلَمْ يَفَجَأْنَا إلاَّ عُمَرُ وَمَعَهُ الدُّرَّةُ، فَعَلاَنِي بالدُّرَّةِ، قَالَ: أتَقْتُلُ فِي الْحَرَمِ وَتُغْمِضُ الْفَتْوَى؟! قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ فَأَنَا عُمَرُ، وَهَذَا عَبْدُالرَّحْمَنِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾؛ فيه قراءتان؛ أحدُهما: الرفعُ والتنوين في (كَفَّارَةٌ)، والرفعُ في (طَعَامُ) من غيرِ تنوين. والأُخرى: الرفعُ في (كَفَّارَةُ) بغير تنوينٍ، والخفض في (طَعَامِ) على الإضافةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾؛ أي ليذوقَ عقوبة صُنعهِ. والوَبَالُ: تقبُّل الشيءِ في المكروه، مأخوذٌ من الوبيلِ، يقال: طعامٌ وبيلٌ؛ وماء وبيلٌ؛ إذا كانا ثَقيلين، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾[المزمل: ١٦] أي ثَقيلاً شديداً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف ﴾؛ أي تجاوزَ اللهُ عما مضَى من قتلِ الصيد قبل التحريم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ ﴾؛ أي من عادَ إلى قتلِ الصيد بعد العلمِ بالتحريم متعمِّداً لقتلهِ يعذِّبهُ الله في الآخرة ويعاقبهُ على فعلهِ. وأصلُ الانتقامِ: الانتصارُ والانتصاف، وإذا أضيفَ إلى الله تعالى أريدَ به المعاقبةُ والمجازاة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ ﴾؛ أي منيعٌ بالنقمة ينتقمُ مِمَّن عصاهُ.
﴿ وَطَعَامُهُ ﴾؛ أي ما لَفَظَهُ البحرُ وحسَرَ عنه الماءُ، وهذا قول أبي بكرٍ وعمر وأبي هريرةَ. وقال بعضُهم: (طَعَامُهُ) هو الملحُ؛ وهو قولُ سعيدِ بن جُبير وعكرمة والنخعي وقتادة. وقولهُ تعالى: ﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ ﴾؛ أي منفعةً لكم. وهو مصدرٌ مؤكِّد للكلامِ؛ أن تَمتَّعوا مَتاعاً لكم. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾؛ أي ومنفعةٌ للمارَّة في السفر. قال ابن عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي مُدْلَجٍ، كَانُوا أهْلَ صَيْدِ الْبَحْرِ، أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: إنَّا نَصْطَادُ فِي الْبَحْرِ، وَرُبَّمَا يَعْلُو الْبَحْرُ وَرُبَّمَا مَدَّ الْبَحْرُ، فَيَعْلُو الْمَاءُ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَيَبْقَى السَّمَكُ بالأَرْضِ، وَيَذْهَبُ الْمَاءُ عَنْهُ فَنُصِيبُهُ مَدّاً، فَحَلاَلٌ لَنَا أكْلُهُ أمْ لاَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾؛ أي وحرَّمَ عليكم اصطيادَ ما في البرِّ. ويقالُ: عَينُ صيدِ البر ما دُمتم مُحرِمين، ولا خلافَ في الاصطيادِ أنه حرامٌ على الْمُحْرِمِ في البرِّ، فأما عينُ الصيدِ فإن صادَهُ حلالٌ بأمرِ الْمُحْرمِ أو بإعانتهِ أو دلالته وإشارتهِ حَرُمَ على المحرمِ تناولهُ، وإنْ صادَهُ حلالٌ بغيرِ أمر المحرمِ حلَّ للمحرم تناولهُ كما رُوي في حديث أبي قتادةَ؛ قالَ:" كُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُحْرِمِينَ وَأَنَا حَلاَلٌ، فَبَصُرْتُ بحِمَارِ وَحْشٍ فَقُلْتُ: نَاوِلْنِي الرُّمْحَ، فَأَبَواْ، فَأَخَذْتُهُ وَأتَيْتُ الصَّيْدَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أكْلِهِ فَقَالَ: " هَلْ أعنْتُمْ؟ هَلْ أشَرْتُمْ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ؟ " فَقَالُوا: لاَ؛ فَقَالَ: " إذاً فَكُلُوا " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾؛ أي اتَّقوا اللهَ في أخذِ الصَّيد في الإحرامِ الذي إلى موضعِ جزائه تُبعثون.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ لمن تابَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ﴾؛ أي ما على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلاّ تبليغُ الرسالة في أمرِ الثواب والعقاب.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾؛ أي ما تُظهِرون من القولِ والعمل.
﴿ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾؛ وليس على مُحَمَّدٍ طلبُ سرائرِكم، ولا يعلمُ السرائرَ إلاّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ ﴾؛ ولو أعجبكَ كثرةُ الحرامِ، فمثقالُ حبَّة من الحلالِ أرجحُ عندَ الله من جبالِ الدُّنيا من حرامِ. وَقِيْلَ: مَعناهُ: ولا يستوِي الكافرُ والمؤمن ولو أعجبكَ كثرةُ الكافرِ، والعدلُ والفاسقُ وإنْ كان في الفُسَّاقِ كثرةٌ، ولا يباركُ في الحرامِ وإنما يباركُ في الحلالِ.
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾؛ أي اخشَوا عذابَ الله في أخذِ الحرام يا ذوي العقولِ، لكي تفوزُوا بالنجاةِ والسَّعادات في الآخرةِ.
﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ﴾؛ أي عن مسأَلتِكم لم يؤاخذكم بالبحثِ عنها. ويقال: أراد بالعفوِ السترَ عليهم.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾؛ أي متجاوزٌ عن العباد، حليمٌ عن الجهَّال لا يعجِّلُ عليهم بالعقوبةِ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾، ولكنَّهم هم الذين جعَلوا من ذاتِ أنفسهم، واختلقوا على اللهِ بأنه حرَّم هذه الأشياء.
﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ وهم السَّفَلَةُ والعوَامُّ لا يعقِلون، بل يُقلِّدُون رُؤساءَهم فيما يقولون. وأما تفسيرُ البَحِيرَةِ: كانت الناقةُ إذا نتَجت خمسةَ أبطُنٍ نظَرُوا، فإنْ كان البطنُ الخامس ذكراً ذَبَحوهُ لآلهتِهم، وكان لَحمهُ للرِّجال من سَدَنَةِ آلهتِهم ومن أبناءِ السَّبيل دونَ النِّساء، وإن ماتَ قبل الذبحِ أكلَهُ الرجالُ والنِّساء، وإن كان الخامسُ أنثى نَحَرُوا أذُنَها؛ أي شَقُّوها شَقّاً وَاسعاً وهي البَحِيرَةُ: لا تُركَبُ ولا تذبَحُ ولا تطرَدُ من ماءٍ ولا أكلٍ، وألبانُها ومنافعُها للرِّجال من السَّدَنَةِ وأبناءِ السبيلِ دون النِّساء حتى تموتَ، فاذا مَاتت اشتركَ فيها الرجالُ والنساء. وأما السَّائبة: فكان إذا قَدِمَ الرجلُ من سَفَرٍ أو بَرِئَ من مرضٍ أو بنى بناءً، سَيَّبَ شيئاً من إناثِ الأنعام وسلَّمها إلى سَدَنَةِ آلهتهم، فيُطعمون منه أبناءَ السَّبيل من ألبانِها وأسمانِها إلاّ النساءَ، فإنَّهم كانوا لا يُطعمونَهن منها شيئاً حتى تموتَ، فإذا ماتت أكلَها الرجالُ والنساء جميعاً. وأما الوَصِيلَةُ: فهي من الغَنم كانت الشاةُ إذا نَتجت سبعةَ أبطُن، فإنْ كان البطنُ السَّابع ذكراً ذبَحوهُ لآلهتهم، وإنْ كانت أنثى صَنَعوا بها ما يصنَعون بالأُنثى من البَحِيرَةِ، وإنْ كان ذكراً وأنثى قالوا: إنَّها وصَلَتْ أخَاها، فلم تَذبح الذكرَ لمكانهِ منها، وكان منافعُهما للرِّجال دون النساءِ من السَّدَنَةِ وأبناءِ السَّبيل الى أن يموتَ واحدٌ منهما فيشتركُ فيه الرجالُ والنساء. وأما الْحَامِي: فهو الفحلُ إذا رَكِبَ ولدُ ولدهِ قالوا: قد حَمَى ظهرَهُ فلا يُركب ولا يحمل عليه ولا يُمنع من ماءٍ ولا مرعَى حتى يموتَ، فيأكلهُ الرِّجالُ والنساء. وقد رُوي عن زيدِ بن أسلمَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" " إنِّي لأَعْرِفُ أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَأوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ خَلِيل اللهِ "، قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " عَمْرُو بْنُ لَحِي، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّار يُؤْذِي أهْلَ النَّار برِيحِ قُصْبهِ. وَإنِّي لأَعْرِفُ أوَّلَ مَنْ بَحَّرَ الْبَحَائِرَ "، قَالُوا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: " رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلَجَ، كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فَجَدَعَ أذُنَيْهِمَا وَحَرَّمَ ألْبَانَهَا، ثُمَّ شَرِبَهُ بَعْدَ ذلِكَ، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النَّار يَعَضَّانِهِ بأَفْوَاهِهِمَا وَيَخْبطَانِهِ بأَخْفَافِهِمَا " ". وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَكْثَمَ الْخُزَاعِيَّ: " رَأيْتُ عَمْرَو ابْنَ لُحَي يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّار، فَمَا رَأيْتُ مِنْ رَجُلٍ أشْبَهَ برَجُلٍ مِنْهُ بكَ وَلاَ بكَ مِنْهُ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَنَصَبَ الأَوْثَانَ، وبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِي، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النَّار يُؤْذِي أهْلَ النَّار بريحِ قُصْبهِ "، قَالَ أكْثَمُ: يَا رَسُولَ اللهِ أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ؟ فَقَالَ: " إنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ " ".
﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾؛ الطريقَ المستقيمَ.
﴿ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ جَمِيعاً ﴾؛ البرُّ والفاجرُ، والمؤمنُ والكافر.
﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ ﴾؛ فيجزيكم؛ ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ من خيرٍ أو شرٍّ. ورُوي عن السَّلف في تأويلِ هذه الآية أحاديثُ مختلفة الظواهرِ، وهي متفقةٌ في المعنى، فمِنها ما رُوي عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال على المنبرِ: أيُّها النَّاسُ، إنِّي أرَاكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" مَا مَنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ بالْمَعَاصِي فَلَمْ يُغَيِّرُوهَا إلاَّ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابِهِ "وعن أبي أمَامَةَ قالَ: سَأَلْتُ أبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبيراً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي:" يَا أبَا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإذا رَأيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً وَشُحّاً مُطَاعاً، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ برَأيهِ، فَعَلَيْكَ بنَفْسِكَ، فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ، وَالصَّابرُ فِيهَا كَالْقَابضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَالصَّبْرُ فِيْهَا كَالْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَالْمُتَمَسِّكُ فِيهَا بمِثْلِ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِِ خَمْسِينَ عَامِلاً مِنْكُمْ ". ففي هذه الأخبار دليل على أنَّ فرضَ الأمرِ بالمعروف والنهيَ عن المنكرِ لا يسقطُ إلاَّ عند العجزِ عن ذلك. كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إذا رَأى أحَدُكُمْ مُنْكَراً وَاسْتَطَاعَ أنْ يُغَيِّرَهُ فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلْبهِ، وذَلِكَ أضْعَفُ الإيْمَانِ "وحكي: أنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ قَالَ الْحَسَنُ رضي الله عنه: (اللَّهُمَّ أنْتَ أمَتَّهُ فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ، فَإنَّهُ أتَانَا أخَيْفِشُ أعَيْمِشُ، يَمُدُّ بيَدٍ قَصِيرَةٍ، وَاللهِ مَا عَرِقَ فِيهَا فِي سَبيلِ اللهِ عَنَانٌ، يَرْجُلُ جُمَّتَهُ وَيَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْدِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلاَةُ، لاَ مِنَ اللهِ يَتَّقِي وَلاَ مِنَ النَّاسِ يَسْتَحْيي، فَوْقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَحْتَهُ مِائَةُ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ، لاَ يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ: الصَّلاَةُ أيُّهَا الرَّجُلُ. ثُمَّ جَعَلَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هَيْهَاتَ، وَاللهِ حَالَ دُونَ ذلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ). وفي هذا الخبرِ دليلٌ أن السَّلفَ كانوا مَعذُورينَ في ذلك الوقتِ في تركِ الإنكار باليدِ واللِّسان.
﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ إن أنتم سافَرتُم في الأرضِ.
﴿ فَأَصَابَتْكُم ﴾؛ في السَّفرِ.
﴿ مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾؛ ولم يكن يحضرُكم مسلمون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ ﴾؛ أي تَقِفونَهما وهما النصرانيَّان، والمرادُ بقوله: ﴿ بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ ﴾ بعد صلاةِ العصر كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقضي بعدَ صلاة العصرِ وهو وقتُ اجتماعِ الناس، وأهلُ الكتاب يعظِّمونَهُ.
﴿ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾؛ أي الشَّاهدان النصرانيان يَحلفان باللهِ إذا ادَّعى عليهما ورثةُ الميِّت بسبب شأنِهم في جِنايتهما، ويقولان في اليمينِ: لاَ نشتري بهذا القول الذي نقولهُ بأنا دفَعنا المالَ جميعه إليكم عَرَضاً يَسِيراً من الدُّنيا.
﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ﴾؛ أي وإن كان الميْتُ ذا قرابةٍ منَّا في الرَّحِمِ؛ أي لم نَخُنْ في التِّركة لقرابته منَّا. رُوي أنه كان بين الميْتِ المسلمِ وبين هذين النصرانيين قرابةٌ في الرَّحِم، ومعنى قوله: ﴿ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ ﴾ أي شَكَكْتُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ويقولون في اليمينِ: ولا نكتمُ شهادةَ اللهِ.
﴿ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ ﴾؛ أي العاصِين إنْ كتَمنَاهما كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾[البقرة: ٢٨٣].
وإنَّما أضافَ الشهادة إلى اللهِ تعالى تَعظيماً لها وتَهويلاً لأمرِها، وقرأ بعضُهم: (شَهَادَةً اللهَ) بتنوينِ (شَهَادَةً) ونصب اسم (اللهَ) على معنى: لا نكتمُ للهَ شهادةً، وقرأ الشعبيُّ: (شَهَادَةً اللهِ) بتنوينِ (شَهَادَةً)، وخفض الهاءِ من اسم (اللهِ) موصولاً على القسَمِ، تقديرهُ: إي واللهِ. وقرأ أبو جعفرٍ (شَهَادَةً) بالتَّنوينِ (اللهِ) بقطع الألف وكسرِ الهاء على معنى: ولا نكتمُ شهادةَ اللهِ، بالاستفهام وكسرِ الهاء فجعلَ الاستفهام عِوَضاً عن حرفِ القسَمِ. قال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْعَصْرِ وَحَلَّفَهُمَا بَعْدَ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ بالَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ أنَّهُمَا لَمْ يَخْتَانَا - يَخُونَا - شَيْئاً مِمَّا دَفَعَ إلَيْهِمَا بَدِيلٌ، فَحَلَفَا، فَخَلَّى عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ سَبيلَهُمَا. فَمَكَثَا بَعْدَ ذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ ظَهَرَ الإنَاءُ، فَبَلَغَ الْوَرَثَةَ ذلِكَ، فَسَأَلُوا الَّذِي بيدِهِ الإنَاءُ فَقَالَ: اشْتَرَيَتُهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ). قِيْلَ: إنَّهُ لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةَ أظْهَرَا الإنَاءَ وَلَمْ يَبيعَاهُ، فَقَالَ لَهُمَا الْوَرَثَةُ: إنَّمَا حَلَفْتُمَا فَمَا بَالُ الإنَاءِ مَعَكُمَا؟ فَقَالاَ: إنَّا كُنَّا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا بَيِّنَةٌ، فَكَرِهْنَا أنْ نُقِرَّ بهِ لَكُمْ فَتَأْخُذُوهُ. فَاخْتَصَمُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ ﴾.
معناهُ: فإن اطلعَ على أن الوصيَّين استوجبَا ذنباً بالخيانةِ واليمين الفاجرةِ حيث قالاَ: إنَّ الميتَ لم يبعْ شَيئاً من متاعهِ، ثم قالا بعدَ ظُهور الإناءِ في أيديهما أنَّهما ابتاعاهُ منه، فآخَران من أولياءِ الميْت وهما عمرُو بن العاصِ والمطَّلب بن أبي وداعةَ، يقومَان مقامَ النصرانيِّين الخائنَين في اليمينِ، فيحلِفان باللهِ.
﴿ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ ﴾؛ بأنَّ الإناءَ لصاحِبنا، وأنَّهما لا يَعلمان بأن الميتَ باعَهُ في حياتهِ.
﴿ مِن شَهَادَتِهِمَا ﴾؛ أي أعدلُ وأحقُّ بالقبولِ من شهادة النصرانيَّين.
﴿ وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ ﴾؛ فيما ادَّعينا وحلَفنا.
﴿ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ على أنفسنا لو اعتدينا. وقوله: ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ ﴾ راجعٌ إلى قوله ﴿ فَآخَرَانِ ﴾، و ﴿ ٱلأَوْلَيَانِ ﴾ بدلٌ من (آخَرَانِ) كأنه قال: وآخَرَانِ مِن الَّذين استحقَّ عليهم الوصيةُ، وهم ورثةُ الميْت وأولياؤهُ، وهما الأَولَيَانِ بالميْت. ويقال: الأولَيان باليمينِ يقومان مقامَ النصرانيِّين في اليمينِ، ويقالُ: معنى ﴿ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ ﴾ أي استحقَّ فيهم الإثمَ وهم الورثةُ، استحقَّ النصرانيَّان الإثمَ بسببهم، وقد تُقام على مقام (فِي)، كما في قولهِ تعالى:﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ ﴾[طه: ٧١].
واحدُ الأَولَيان: الوَلَى، والجمعُ: الأَوْلَون، والأُنثى الْوَلْيَاءُ، والجمع الْوَلَيَاتُ والولي. وقرأ الحسنُ وحفص: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ) بفتحِ التاءِ والحاء؛ أي وجبَ عليهم الإثْمُ، ثم قال ﴿ ٱلأَوْلَيَانِ ﴾ راجعٌ إلى قوله ﴿ فَآخَرَانِ ﴾ الأوليان، ولم يرتفِعُ بالاستحقاقِ. وقرأ الباقون (اسْتُحِقَّ) بضمِّ التاء وكسرِ الحاء على المجهولِ، يعني الذين استُحِقَّ فيهم ولأَجلِهم الإثمُ وهم ورثةُ الميت، استُحِق الحالِفان بسببهم وفيهم الإثم. وقرأ الحسنُ: (مِنَ الَّّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلاَنِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ﴾ أي يَمينُنا من يمينِهما، ونظيرهُ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ ﴾[النور: ٦] أراد الأَيمانَ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ حَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ أبي وَدَاعَةَ، فَحَلَفَا فَدَفَعَا الْمَتَاعَ إلى أوْلِيَاءِ الْمَيْتِ. قال ابنُ عبَّاس: (فَذَكَرْتُ هَذِهِ الآيَةَ لِتَمِيمَ بَعْدَ مَا أسْلَمَ فَقَالَ: صَدَقَ اللهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ، أنَا أخَذْتُ الإنَاءَ، فَأَتُوبُ إلَى اللهِ وَأسْتَغْفِرُهُ). وإنَّما نُقلت اليمين إلى الأولياءِ؛ لأن الوصيِّين صحَّ عليهما الإناءُ، ثم ادعيا أنَّهما ابتاعاهُ، وكذلك إذا ادَّعى رجلٌ على رجلٍ مالاً، فأقرَّ المدعَى عليه بذلكَ، وادَّعى أنه قضاهُ، فالقولُ قول صاحب المال مع يَمينه، وكذلك إذا ادَّعى سلعةً في يدِ رجُلٍ فاعترفَ بذلك، ثم ادَّعى أنه اشتَراها من المدَّعي أو وهبَهُ منه المدعي. وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (عن تَميم الداريِّ قَالَ: بعْنَا الإنَاءَ بأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاقْتَسَمْنَاهُ أنَا وَعَدِيٍّ، فَلَمَّا أسْلَمْتُ تأَثَّمْتُ مِنْ ذلِكَ بَعْدَمَا حَلَفْتُ كَاذِباً، فَأَتَيْتُ أوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ فَأَخْبَرْتُهُمْ أنَّ عِنْدَ صَاحِبي مِثْلَهَا، فَأَتَوا بهِ إلَى النَّبيِّ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، فَأَمَرَ الأَوْلِيَاءَ أنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفُوا، فَأَخَذْتُ الْخَمْسَمِائَة مِنْ عَدِيٍّ وَرَدَدْتُ أنَا الْخَمْسَمِائَةَ). فلذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ ﴾؛ أي ذلك لكم أقربُ إلى أن تقومَ شهودُ الوصيَّة على وجهِها.
﴿ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾؛ وأقربُ إلاَّ أن يخافوا أن تُرَدَّ عليهم أيمانُهم بعد أيمانِ المسلمين، ويقال: أن يُرَدُّ الأيمانُ إلى المدَّعين المسلمين بعد أيمانِ المدعى عليهم الكفَّار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ ﴾؛ أي اخشَوهُ أن تحلِفُوا أيماناً كاذبةً أو تخُونوا أمانةً.
﴿ وَٱسْمَعُواْ ﴾؛ أي أقبَلُوا الموعظةَ.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾؛ أي لا يصلحُ أمرَ الخائنين عن طاعةِ الله. رُوي عن مجاهد أنه أخذ بظاهرِ الآية وقال: (إذا مَاتَ الْمُؤْمِنُ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَحْضُرُهُ إلاَّ كَافِرٌ، إنْ أشْهَدَهُمَا عَلَى ذلِكَ، فَإنْ رَضِيَ وَرَثَتُهُ بذلِكَ، وَإلاَّ حَلَفَ الشَّاهِدَانِ أنَّّهُمَا صَادِقَانِ، فَإنْ ظَهَرَا أنُّهُمَا خَانَا، حَلَفَ اثْنَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَأبْطِلَتْ أيْمَانُ الشَّاهِدَينِ). وعن هذا قال شُريح: (لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ إلاَّ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي السَّفَرِ إلاَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ). وذهبَ أكثرُ الفقهاء إلى أنَّ شهادةَ الكافر لا تُقبل على المسلمِ بوجهٍ من الوجوه؛ لأنه رُوي أنَّ آيةَ الدَّين من آخرِ ما نَزَلَ من القرآنِ، وتلك الآيةُ تقتَضِي جوازَ نسخِ شهادة الكافرِ على المسلمين لا محالةَ؛ لأن قولَهُ تعالى:﴿ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾[البقرة: ٢٨٢] يتناولُ المؤمنين؛ لأن الخطابَ في تلك الآيةِ يوجَّهُ إليهم باسم الإيمانِ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾.
قال الكلبيُّ: (مَكَثَ فِي رسَالَتِهِ بَعْدَ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً ثَلاَثِينَ شَهْراً، ثُمَّ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ). وَقِيْلَ: ثلاثَ سنين، ثم رُفع إلى السَّماء وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سَنة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾؛ أي علَّمتُكَ كُتبَ الأنبياء قبلَك والفهمَ، ويقال: أرادَ بالكتاب الخطَّ بالقلمِ، وأرادَ بالحكمةِ كلَّ صوابٍ منهنَّ من قول أو فعلٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي ﴾؛ معناهُ: إذ تُصوِّرُ من الطينِ كَشِبهِ الْخُفَّاشِ بأمرِي.
﴿ فَتَنفُخُ فِيهَا ﴾؛ أي في الهيئةِ.
﴿ فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ﴾؛ يطيرُ بين السَّماء والأرضِ بأمرِ الله، ويكون النفخُ كنفخِ الرَّاقِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي ﴾؛ الأكمَهُ: الذي وُلد أعمَى، والأَبْرَصُ: الذي لا تعالِجهُ الأطبَّاء، وهو الذي إذا غُرزَ الإبرةَ لا يخرجُ منه الدَّم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ ﴾؛ أي الموتَى تخرِجُهم من قُبورهم احياءَ بإرادتِي، والمرادُ أنَّ الله تعالى كان يأذنُ له في المسألةِ والدُّعاء، فيقعُ ذلك عن اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ ﴾؛ معناه وإذ صَنعتُ (صَرَفْتُ) أولادَ يعقوب عنكَ حين هَمَّوا بقتلِكَ.
﴿ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾؛ أي بالمعجزاتِ الدالَّة على رسالتِكَ.
﴿ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا ﴾؛ أي ما هذا الذي يُرينا عيسى.
﴿ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾؛ سحرٌ ظَاهِرٌ. ومن قرأ (سَاحِرٌ مُبينٌ) أراد به عيسَى عليه السلام.
﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾؛ وصدَّقنا.
﴿ وَٱشْهَدْ ﴾؛ يا عيسَى.
﴿ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾؛ أي مُخْلِصُون بالعبادة والتوحيدِ.
قرأ الكسائيُّ (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) بالتاءِ بإدغام ونصب الباءِ من رَبَّكَ، أي هل تقدرُ أن تسأَلَ رَبَّكَ؟. وقد رُوي عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت: (كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أعْلَمَ باللهِ مِنْ أنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ؟) وفيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدهم: أنَّ هذا السؤالَ كان في ابتداءِ أمرهم قبل أن تَستحكِمَ معرفتُهم باللهِ تعالى ولذلك أنكرَ عليهم عيسَى عليه السلام فقال: (اتَّقُوا اللهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأنه لم يُسْتَكْمَلَ إيمانُهم في ذلك الوقتِ. والقولُ الثاني: أنَّ معناهُ: هل يفعلُ ذلك كما يقول الرجلُ لآخرَ: هل تستطيعُ أن تقومَ معي في أمرِ كذا؟ أي هل أنتَ فاعلهُ؟والقولُ الثالث: أنَّ معناهُ: هل يستجيبُ لكَ ربُّكَ؟ وهل يُطِيعُكَ إنْ سألتَهُ؟ كما تقولُ: استجابَ بمعنى أجابَ. وَالْحَوَاريُّونَ: خواصُّ أصحاب عيسى عليه السلام. قال الحسنُ: (كَانُوا قَصَّارينَ) وقال مجاهدُ: (كَانُوا صَيَّادِينَ) وَقِيْلَ: كانوا مَلاَّحِينَ. وقال قتادةُ: (الْحَوَاريُّونَ: الْوُزَرَاءُ) وقال عكرمة: (هُمُ الأَصْفِيَاءُ) وكانوا اثنَى عشرَ رجُلاً.
﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾؛ بأنَّكَ رسولُ الله، وَقِيْلَ: صَدَقْتَنَا في دُعائك، وفيما دَعوتَنا من كفايةِ الله تعالى إيانا.
﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا ﴾؛ على المائدةِ؛ ﴿ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾؛ إذا رجَعنا إلى قومِنا.
﴿ تَكُونُ لَنَا عِيداً ﴾ أي نتَّخذُ اليومَ الذي تنْزِلُ فيه المائدةُ يومَ سُرورٍ لأزمَانِنا ولمن يكون خلفَنا. ورُوي: (أنَّ نُزُولَ الْمَائِدَةِ كَانَ في يَوْمِ الأَحَدِ، فَاتَّخَذتِ النَّصَارَى ذلِكَ الْيَوْمَ عِيداً). وقرأ زيدُ ابن ثابت: (لأُوْلاَنَا وَأخْرَانَا). وقولهُ تعالى: ﴿ وَآيَةً مِّنْكَ ﴾؛ أي تكون المائدةُ دَلالة وحجةً لِمَنْ آمنَ على مَن كفرَ.
﴿ وَٱرْزُقْنَا ﴾؛ أي اجعَلْ ذلك رزقاً لنا، وَقِيْلَ: ارزُقنا الشُّكرَ عليه.
﴿ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾؛ وأنتَ أفضلُ الْمُعْطِينَ والموفِّقين.
﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾؛ عندي وما في ضَمِيري، وما كان منِّي في الدُّنيا.
﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾؛ غَيبكَ.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾؛ لا يعلمُ الغيبَ أحدٌ غيرُكَ. وَقِيْلَ: معناهُ: تعلمُ ما أريدُ، ولا أعلمُ ما تريدُ.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ أي ما كانَ وما يكون. وأمَّا ذِكْرُ النفسِ في قوله: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ فعلى من أوجُه الكلامِ: بأن الغيبَ من اللهِ تعالى في حُكمِ الضميرِ من الآدميِّين، والنَّفْسُ في كلامِ العرب على ضُروب؛ تُذكَرُ ويرادُ بها ذاتُ الشيءِ، كما يقالُ: جاءَني زيدٌ نفسُه؛ أي ذاتهُ، وقتَلَ فلانٌ نفسَهُ، وأهلَكَ فلان نفسَهُ، ويرادُ بذلك الذاتُ بكمالِها. وتُذكَرُ ويرادُ بها الروحُ، كما يقالُ: خرَجت نفسُ فلانٍ؛ أي روحهُ. وتُذكَرُ ويراد بها ما في القلب، كما يقالُ: أضمَرَ فلانٌ ما في نفسهِ كذا وكذا. فإذا احتمل اللفظُ هذه الوجوهَ كلَّها وجبَ حملُ الآية على أصحِّ الوُجوهِ؛ لقيامِ الدَّلالة على وجوب تَنزيه صفاتِ الله تعالى عما لا يجوزُ. ولو كانت النفسُ لا تستعمل إلاَّ في أمرٍ كائن في غيرهِ لوجبَ في قولهِ تعالى:﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾[النحل: ١١١] أنْ يقالَ: إن النفسَ نَفساً، فإذا بطَلَ ذلك صحَّ أن المرادَ به الجملةُ والذاتُ، كأنه قالَ: يومَ يأتِي كلُّ أحدٍ يجادلُ عن نفسهِ، فكان المرادُ بقوله: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ جُملةَ الأمرِ، وحقيقيةَ ما عندِ الله تعالى. فإن قِيْلَ: ليس في النَّصارى مَن اتخذ مريم إلَهاً فما معنى هذا القولِ؟ قِيْلَ: إنْ لم يكن فيهم مَن يقولُ هذا القولَ اليومَ، فلا بدَّ أن يكونَ فيهم مَن قال ذلك؛ لأن هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّهم قد قالوا ذلك، وتصديقٌ لكتاب الله تعالى أوجبَ من التصديقِ لنقل ناقلٍ.
﴿ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾؛ أو وحِّدوهُ وأطيعوهُ.
﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾؛ معناهُ: فلمَّا قبَضتَني إليك من بينِهم، ورفَعتَني إلى السَّماء كنتَ أنتَ الحفيظَ عليهم.
﴿ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾؛ من مقالَتي ومقالتِهم، مطَّلعٌ عالِمٌ مشاهدٌ. وذهبَ بعضُ المفسرين إلى أن معنى قولهِ: ﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ﴾ أمَتَّني، وقالوا: إنَّ عيسى ليس بحيٍّ في السَّماء. إلاّ أنَّ القولَ الأولَ أشهرُ، ويحتمل أنَّ الله تعالى أمَاتَهُ، ثم أحياهُ ورفعَهُ إلى السَّماء. وقال الحسن: (الْوَفَاةُ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى عَلَى ثَلاَثَةِ أوْجُهٍ: وَفَاةُ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا ﴾[الزمر: ٤٢]، وَوَفَاةُ النَّوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ﴾[الأنعام: ٦٠] أيْ يُنِيمُكُمْ، وَوَفَاةُ الرَّفْعِ كَقَوْلِهِ:﴿ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾[آل عمران: ٥٥].
﴿ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾؛ للَّذين أسلَمُوا وتابوا.
﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ لأنه قالَ:﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ﴾[المائدة: ١١٦]، وما قلتُ لهم، وفيهم المسلمون والمشركون، فقوله: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ ﴾ راجعٌ إلى الكافرين، وقوله: ﴿ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ راجعٌ إلى المؤمنِين. عن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في معنى هذه الآيةِ: (وَإنْ تُعَذِّبْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي أجْزَمُوهَا فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإنْ يَتُوبُوا فَتَغْفِرَ لَهُمْ). قولهُ: ﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾، أي المنيعُ في مغفرتِكَ لهم لا يمنعُكَ أحدٌ مما تريدُ، الحكيمُ في أمرِكَ. فإنْ قيلَ: ظاهرُ الآية يقتضي سؤالَ المغفرةِ للكفَّار، واللهُ لا يغفِرُ أن يُشركَ به، فما معنى هذا السؤالِ؟ قِيْلَ: يحتملُ أنه لم يكن في كتابهِ: إنَّ الله لا يغفرُ أن يُشركَ بهِ، ويحتملُ أن يكون معناهُ: إنْ تغفِرْ لهم كَذِبَهم الذي قالوا عليَّ. وَقِيْلَ: إنَّ عيسى عَلِمَ أنه منهم مَن آمنَ، ومنهم من أقامَ على الكفرِ، فكأنه قالَ: إن تعذِّب الكفارَ منهم فإنَّهم عبادُكَ، وأنت القادرُ عليهم، وإنْ تغفِرْ لِمَن تابَ منهم فذلك تفضُّلٌ منكَ؛ لأنه كان لكَ أن لا تفعلَ ذلك بهم بعد عظيمِ فِريَتِهم عليكَ، وكان هذا القولُ من عيسَى عليه السلام على وجهِ الخضوع والانقيادِ والاستسلام على معنى أنَّكَ أنتَ المالكُ والقادر على كلِّ شيء، فلذلك قالَ: ﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ ولو كان قالَ: فإنك أنتَ الغفورُ الرحيم، لأوْهَمَ الدعاءُ بطلب المغفرة والرحمةِ. ورُوي: أنه لَمَّا نزَلت هذه الآيةُ،" أحْيَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَهُ بهَا، وَكَانَ بهَا يَقُومُ وَبهَا يَقْعُدُ وَبهَا يَسْجُدُ، ثُمَّ قَالَ: " أمَّتِي أمَّتِي يَا رَب "، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ: " إنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءَكَ ".
﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾؛ أي إلى الأبدِ.
﴿ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾؛ بإيمانِهم وطاعتهم.
﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾؛ بإكرامِهم في الجنَّة النجاةَ الوافرة. وحقيقةُُ الفوز نيلُ المرادِ. قوله عزّ وَجَلَّ: ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ أي بما أكرمهم به من الثواب.
﴿ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي ذلكَ الثوابُ والخلود في الجنَّة النجاةُ الوافرة، وحقيقةُ الفوز نيلُ المرادِ.
﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ مما يريدُ بعبادهِ من المغفرةِ والعذاب قادرٌ. والغرضُ من هذه الآيةِ نفيُ الربُّوبية عن عيسَى عليه السلام، وبيانُ أنَّ الله تعالى هو المستحقُّ للعبادةِ دونَ غيره، فإنه هو القادرُ على كلِّ شيءٍ من الجزاء؛ تَرغيباً في الطاعةِ؛ وتَحذيراً عن المعصيةِ. وعن أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْمَائِدَةِ أعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ كُلِّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ "