تفسير سورة سورة المائدة من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
.
لمؤلفه
الصاوي
.
المتوفي سنة 1241 هـ
ﰡ
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ العبرة بعموم اللفظ، وإن كان الخطاب لأهل المدينة. قوله: ﴿ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ ﴾ أي ما عقده الله وعهده عليكم من التكاليف والأحكام الدينية، ومن هنا قالوا أمور الدين أربعة: الصحة في العقد، والصدق في القصد، والوفاء بالعهد، واجتناب الحد. قوله: (العهود) أشار بذلك إلى أن المراد بالعقد، العقد المعنوي، وهو العهد المشبه بعقد الحبل، وقوله: (المؤكدة) أخذ ذلك من قوله العقود، لأن معنى العقد هو العهد المؤكد. قوله: (التي بينكم وبين الله) أي كالمأمورات والمنهيات، فالوفاء بالمأمورات فعلها، والوفاء بالمنهيات تركها، ودخل في قوله: (وبين الله) العهد الواقع بين العبد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على الإنسان الوفاء به، بأن يؤمن به، ويصدق بما جاء به، ويعظمه ويحترمه، ولا يخالف مات أمره به أصلاً. قوله: (وبين الناس) أي كالمعاملات: من بيع وشراء ونكاح وطلاق وتمليك وتخيير وعتق ودين ووديعة وصلح، ومن ذلك أيضاً: احترام المؤمنين وتعظيمهم وعدم غيبتهم وإيذائهم والنميمة والكذب عليهم، ومن ذلك أيضاً: احترام المؤمنين وتعظيمهم وعدم غيبتهم وإيذائهم والنميمة والكذب عليهم، ومن ذلك أيضاً: وفاء المريدين بعهود المشايخ على مصطلح الصوفية. قوله: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان امتنان الله علينا، حيث أحل لنا أشياء لم تكن لليهود، وبنى الفعل للمجهول للعلم بفاعله وهو الله، وإضافة بهيمة للأنعام على معنى من كثوب خز، لأن البهيمة كما في القاموس كل ذات أربع قوائم، ولو من حيوان الماء أو كل حي لا يميز. قوله: (بعد الذبح) مراده ما يشمل النحر، ولو قال بعد التزكية لكان أشمل. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ أي وهو عشرة أشياء، أولها الميتة، وآخرها ما ذبح على النصب فقوله: (الآية) أي إلى قوله وما ذبح على النصب. قوله: (فالاستثناء منقطع) أي لأن ما قبل إلا فيما أحل، وما بعدها فيما حرم، وقوله: (والتحريم لما عرض) أي فهو كان حلالاً بحسب الأصل، فهو استثناء حلال من حلال، هكذا يؤخذ من عبارة المفسر، وفيه أنه يلزم عليه أن كل استثناء منقطع لأن ما بعد إلا دائماً مخالف لما قبلها، منقطعاً أو متصلاً، مع أنهم قالوا أن الاستثناء المتصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، والمنقطع أن يكون من غير جنسه، والمخالفة في الحكم لا بد منها على كل، فالأحسن أن يقال إن الانقطاع من حيث أن المستثنى منه، والمنقطع أن يكون من غير جنسه، والمختلفة في الحكم لا بد منها على كل، فالأحسن أن يقال إن الانقطاع من حيث إن المستثنى لفظ وهو قوله: ﴿ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ المستثنى منه ذات وهو بهيمة الأنعام، ولا شك أنه من غير جنسه، ويمكن أن يكون متصلاً بتقدير مضاف، والتقدير إلا محرم ما يتلى. قوله: ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ ﴾ أي غير محلين للصيد بمعنى معتقدين حله، وقوله: (أي محرمون) أي أو في الحرم، فيحرم صيد النعام الوحشية، بل الصيد مطلقاً أنعاماً أو غيرها، وهو تقييد لقوله: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ ﴾ كأن الله قال أحل الله لكم بهيمة الأنعام كلها، والوحشية أيضاً، من الظباء والبقر والحمر، إلا صيد الوحشي منها أو من غيرها وأنتم محرمون، فلا يجوز فعله ولا اعتقاد حله. قوله: (ونصب غير على الحال من ضمير لكم) أي وقوله: ﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ حال من الضمير في ﴿ مُحِلِّي ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ كالعلة لما قبله، أي فالأحكام صادرة من الله على حسب إرادته، فلا اعتراض عليه، ولا معقب لحكمه، وهذا مما يرد على المعتزلة القائلين بوجوب الصلاح والأصلح. قوله: (أي معالم دينه) أي العلامات الدالة على دينه من مأمورات ومنهيات، والمعنى لا تتهاونوا بمعالم دينه، وقوله: (بالصيد في الإحرام) خصه لقرينة ما قبله وما بعده، وإلا فاللفظ عام كقوله: (أوفوا بالعقود) فأولاً أمرنا بالوفاء بها، وثانياً نهانا عن التفريط والتهاون بالشعائر، وهي كناية عن معالم الدين والإحلال، تارة يكون بالفعل أو الاعتقاد.
قوله: ﴿ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ ﴾ هو وما بعده من عطف الخاص على العام، اعتناء بشأن تلك الأمور. قوله: (بالقتال فيه) سيأتي للمفسر أنه منسوخ بآية براءة، وإن حمل على غير القتال كالظلم مثلاً فليس بمنسوخ، قال تعالى:﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾[التوبة: ٣٦].
قوله: (ما أهدى إلى الحرام) إن حمل على هدايا الكفار فهو منسوخ بقوله تعالى:﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾[التوبة: ٢٨] وبقوله:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥] وسبب ذلك" أن رجلاً من ربيعة يقال له الحطم سريح بن هند أتى المدينة وترك خيله وجيوشه، وجاء رسول الله بنفسه، وقد كان أخبرهم النبي به فقال: الوجه وجه كافر والقفا قفا غادر، فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا محمد ما تأمرنا به؟ فقال: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة "فقال حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، فلما خرج استاق جملة من غنم أهل المدينة وإبلهم، فلما كان في العام القابل، جاء ومعه تلك الإبل والغنم قد ساقها وهو مع بني بكر، وهم أصحاب حلف للنبي عليه الصلاة والسلام، فأحب أصحاب رسول الله أن يأخذوها منه، فنزلت الآية. قوله: (أي فلا تعترضوا لها) أي للقلائد، وهي ما قلد به من شجر الحرم، وقوله: (ولا أصحابها) أي الهدايا المقلدات، والنهي عن التعرض للقلائد مبالغة عن التعرض للهدايا على حد، ولا يبدين زينتهن، لأنه إذا نهى عن إبداء الزينة، فما بالك بالجسم الموضع فيه الزينة، ويحتمل أن معنى قوله أو لأصحابها أي الرجال المقلدين، لأنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم، قلدوا أنفسهم بخشبة من شجر الحرم فلا يعترض لهم، فتحصل أن المعنى لا تتعرضوا للهدي وإن لم يكن مقلداً، ولا للقلادة من المقلد، بل وللمقلد من الهدايا أو الرجال. قوله: ﴿ آمِّينَ ﴾ أي قوماً آمين. قوله: ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً ﴾ حال من الضمير في آمين. قوله: (وهذا منسوخ) أي قوله: ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، ولا آمين البيت الحرام. وقوله: (بآية براءة) أي جنسها، إذ الناسخ أكثر من آية، فالمنسوخ ما عدا قوله: ﴿ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ ﴾ فليست منسوخة إن حملت على معالم دينه كما تقدم، وأما إن حملت على شعائر الكفار وإحرامهم، بمعنى لا تبطلوه ولا تهدموه كان أيضاً منسوخاً، وليس في المائدة منسوخ غير هذه الآية. قوله: (أمر إباحة) دفع بذلك ما يقال إن الأمر يقتضي الوجوب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد. قوله: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ هذه الآية نزلت عام الفتح حين تمكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة وأهلها، فنهاهم الله تعالى عن التعرض للكفار بالقتال والإيذاء، والمعنى لا تعاملوهم مثل ما كانوا يعاملونكم به، ولذا ورد أن رسول الله لما دخل مكة قال: " اذهبوا أنتم الطلقاء. أنا قائل لكم كما قال أخي يوسف لإخوته:﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ ﴾[يوسف: ٩٢].
وبسبب ذلك صاروا مؤمنين، ولذا قال البوصيري: وَلَوْ أنَّ انْتِقَامَهُ لَهَوَى النَّفْـ ـسَ لَدَامَتْ قَطِيعَة وَجَفَاءوقرأ الجمهور بفتح الياء من جرم الثلاثي واختلفوا في معناه، فقيل معناه لا يكسبنكم، وقيل معناه لا يحملنكم. قوله: (بفتح النون وسكونها) أي فهو مصدر شنئ كعلم فهو سماعي، ومن المادة قول العرب: مشنوء من ينشؤك، أي مبغوض من يبغضك، وقوله تعالى:﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ ﴾[الكوثر: ٣] أي باغضك. قوله: (لأجل) ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ أشار بذلك إلى أنه مفعول لأجله، فهو علة للشنآن، أي لا يحملنكم بغضكم لقوم لأجل صدهم إياكم عن المسجد الحرام. قوله: ﴿ أَن تَعْتَدُواْ ﴾ أي بأن تعتدوا وعلى أن تعتدوا، فمتى أسلموا فهم إخوانكم فلا تتعرضوا لهم. قوله: (فعل ما أمرتم به) قال ابن عباس: البر متابعة السنة. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ في الآية وعيد وتهديد عظيم.
قوله: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ ﴾ هذا شروع في بيان ما أجمل أولاً في قوله:﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾[المائدة: ١] وذكر في هذه الجملة العظيمة أحد عشر كلها محرمة، منها عشرة مطعومة وواحد غير مطعوم، وهو قوله وأن تستسقموا بالأزلام. قوله: ﴿ ٱلْمَيْتَةُ ﴾ فيه رد على جاهلية العرب حيث قالوا كما حكى الله عنهم، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، وعلى المشركين حيث أحلّوا أكلها مطلقاً. قوله: (أي المسفوح) أي السائل. قوله: (كما في الأنعام) أي في قوله تعالى:﴿ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ﴾[الأنعام: ١٤٥] الآية، وأما غير المسفوح كالكبد والطحال والدم الباقي في العروق فهو طاهر، ويجوز أكله. قوله: ﴿ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ ﴾ أي ولو ذكي وهو نجس كله، ما عدا الشعر إن جز، عند مالك، فهو طاهر ويجوز استعماله. قوله: ﴿ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾ الإهلال رفع الصوت، والأظهر أن اللام بمعنى الباء، والباء بمعنى عند، والمعنى وما رفع الصوت عند ذكاته بغير الله، أي باسم غير الله، كما إذا قال باسم اللات أو العزى، قال تعالى:﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾[الأنعام: ١٢١] فإن جمع بين اسم الله واسم غيره غلب اسم الله وتؤكل، لأنه يعلو ولا يعلى عليه، والموضوع أن ذلك وقع من كتابي، وأما من مسلم فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته، وهذا مذهب مالك بن أنس، ومراد مالك بأهل الكتاب الذين تؤكل ذبيحتهم، إن لم يذكروا اسم غير الله عليه اليهود والنصارى، ولو غيروا وبدلوا. قوله: (بأن ذبح على اسم غيره) المناسب أن يقول بأن صرح عند ذبحها باسم غيره، ليندفع التكرار بين ما هنا وبين ما يأتي في قوله: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾.
قوله: ﴿ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ ﴾ كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها، فحرم الله ذلك. قوله: ﴿ وَٱلْمَوْقُوذَةُ ﴾ كانوا في الجاهلية يضربون الشاة بنحو العصا حتى تموت ويأكلونها. قوله: ﴿ وَٱلنَّطِيحَةُ ﴾ فعيلة بمعنى مفعولة. قوله: ﴿ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ ﴾ كانوا في الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً وأكل منه أكلوا ما بقي، والسبع اسم لكل ما يفترس من ذي الناب، كالأسد والذئب ونحوهما وقوله: (أي أدركتم فيه الروح) أي مع بقاء الحياة المستقرة، بحيث يتحرك بالاختيار أو يبصر بالاختيار، ولو نفذت مقاتله، وهذا مذهب الشافعي، ومذهب مالك لا بد من استقرار الحياة مع عدم إنفاذ المقاتل، فما أدرك بذكاة وهو مستقر الحياة، وكان قبل إنفاذ مقتله أكل، وإلا فلا يؤكل، ولو ثبتت له حياة مستقرة، والمقاتل هي: قطع النخاع، ونثر الدماغ، وفري الودج، وثقب المصران، ونثر الحشوة. وفي شق الودج قولان، والاستثناء راجع للمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع وهو متصل على كلا المذهبين مع مراعاة الشرط المتقدم عند كل. قوله: ﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾ أي ذكر اسم الصنم على ذلك المذبوح، فإن فعل ذلك مسلم لولي، وقصد التقريب له كما يتقرب لله فهو مرتد لا تؤكل ذبيحته، وأما إن قصد أن الذبح لله وثوابه للولي فلا بأس بذلك، فإن نذر ذبيحته لولي ميت كالسيد البدوي مثلاً، فإن قصد انتفاعه بها كالحي فهو نذر باطل، وأما إن قصد أنها تذبح في محله من غير قصد فقراء ذلك المحل، فلا يسوقها لذلك المحل، بل يذبحها بأي محل شاء، قال مالك: سوق الهدايا لغير مكة ضلال، وأما إن قصد بسوقها ذلك المحل لزمه سوقها. قوله: (وهي الأصنام) سميت الأصنام نصباً، لأنها تنصب وترفع لتعظم وتعبد. قوله: (تطلبوا القسم) بالكسر ما قسم لكم من خير أو شر، وبالفتح أي تمييزه، لأن القسم بالفتح تمييز الأنصباء، وبالكسر الحظ والنصيب. قوله: (مع فتح اللام) راجع لكل منهما. قوله: (وكانت سبعة) أي وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية، مكتوب على واحد منها أمرني ربي، وعلى واحد منها نهاني ربي، وعلى واحد منكم، وعلى واحد من غيركم، وعلى واحد ملصق، وعلى واحد العقل، وواحد غفل، أي ليس عليه شيء، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا أمراً من سفر أو غيره، جاؤوا إلى هبل، وهو أعظم صنم بمكة، وكان في الكعبة، وأعطوا صاحب القداح مائة درهم، فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا، وإذا كان ذلك لنسب، فإن خرج منكم، ألحقوا بهم، وإن خرج من غيركم لم يلحقوه، وإن خرج ملصق، كان على حاله، وإن اختلفوا في العقل وهو الدية، فمن خرج عليه العقل تحمله، وإن خرج الغفل فعلوا ثانياً حت يخرج المكتوب، فنهاهم الله عن ذلك. قوله: (عند سادن الكعبة) أي خادمها. قوله: (عليها أعلام) أي كتابة. قوله: (وكانوا يحكمونها) في نسخة يجيبونها أي يجيبون حكمها. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ أي الاستقسام المذكور خروج عن طاعة الله. إن قلت: إن هذه بعينها هي القرعة الجائزة في الإسلام. أجيب بأن تحريم هذا إنما جاء من إحالتها للصنم وتفويض الأمر له، ولذا وقعت القرعة بحضرة ولي ميت مثلاً، وفوض الأمر له، لكان الحكم الحرمة، كالاستقسام بالأزلام، واسم الإشارة مبتدأ، وفسق خبر، وهو راجع إلى الاستقسام بالأزلام، واسم الإشارة مبتدأ، وفسق خبر، وهو راجع إلى الاستقسام بالأزلام، كما هو مروي عن ابن عباس، وقيل راجع إلى جميع ما تقدم، وكل صحيح. قوله: (ونزل يوم عرفة) أي والنبي قائم يخطب بها فأل في اليوم للعهد الحضوري، والمعنى اليوم الحاضر، وهو يوم عرفة، وكان يوم جمعة، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها أحداً وثمانين يوماً. قوله: ﴿ يَئِسَ ﴾ اليأس ذد الرجاء، والمعنى انقطع طمع الكفار في إبطال دينكم لما شاهدوا من دخول الناس فيه أفواجاً، وذلك أن قبل الوداع حجة أبو بكر بالناس، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً خلفه ينادي: لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ففي حجة الوداع تفرد النبي وأصحابه بالحج، فحينئذ نزلت الآية المشرفة. قوله: (لما رأوا) علة لقوله يئس، وقوله: (بعد طمعهم) متعلق بيئس أيضاً. قوله: ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾ أي لا تخافوهم لا ظاهراً ولا باطناً. قوله: ﴿ وَٱخْشَوْنِ ﴾ بحذف الياء وصلاً ووقفاًن بخلاف واخشوني في البقرة فإنها بثبوت الياء وصلاً ووقفاً اتفاقاً، وبخلاف الآية في﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ﴾[المائدة: ٤١] ففيها الحذف والإثبات، والمعنى لا تخافوا من الكفار وخافون، لأني مالك الدنيا والآخرة عزاً وذلاً، ولا يملك ذلك غيري، فمن شهد ذلك وكمل دينه، فلا يخاف إلا مولاه، ولا يرجو سواه، فإنه المعطي المانع، الضار النافع. قوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ بدل من اليوم قبله. قوله: (أحكامه وفرائضه) دفع بذلك ما يقال إنه قد نزل بعدها﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٨١] فيكون حينئذٍ الكمال نسبياً. فأجاب بأن المراد إكمال الأحكام والفرائض التي أرسل بها رسول الله، وأما آية ﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً ﴾ فهي موعظة ولا حكم فيها. إن قلت إن قوله: ﴿ يقتضي نقصانه قبل ذلك. وأجيب: بأن القرآن نزل جملة في بيت العزة في سماء الدنيا، وصار ينزل بعد ذلك متفرقاً، فحين نزول هذه كأن الله تعالى يقول لا تنتظروا بعد ذلك حكماً، فإني قد أتممت لكم ما قدرته لكم وادخرته عندي، ولذلك" حين نزلت بكى عمر، فقال له رسول الله: " ما يبكيك "؟ فقال: إذا تم شيء بدا نقصه. فقال له: صدقت، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم "روي عن عمر بن الخطاب أن رجلاً يهودياً قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال له: أي آية؟ قال: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ الآية، فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة بعد العصر ١ هـ. وقد تضمن جواب عمر أنهم جعلوا صبيحتها عيداً. قوله: (بإكماله) أي الدين، والأحسن أن يراد بإتمام النعمة ما هو أعم. قوله: ﴿ وَرَضِيتُ ﴾ هذه الجملة مستأنفة لبيان الحال، وليس معطوفة على أكملت، لأنه يقتضي أنه لم يرض الإسلام ديناً إلا اليوم، ولم يرضه قبل ذلك، وليس كذلك، لأن الإسلام لم يرض مرضياً لله وللنبي وأصحابه منذ أرسله، ورضي متعد لواحد، الإسلام مفعوله وديناً تمييز. قوله: ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ مفرع على حرمت عليكم الميتة، فقوله اليوم: ﴿ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ دِيناً ﴾ معترض بينهما لبيان أن الإسلام حنيفية سمحاء لا صعوبة فيه كالأديان المتقدمة، ومن اسم شرط، واضطر فعل الشرط، وجوابه محذوف تقديره فلا إثم عليه، وقد صرح به في آية البقرة. قوله: (إلى أي شيء) أي بقدر الضرورة وسد الرمق، وبذلك قال الشافعي، وقال مالك: يأكل المضطر من الميتة ويشبع ويتزود، فإن استغنى عنها طرحها وقدم مال الغير على الميتة، عند مالك إن لم يخف الضرر وقدم المختلف فيه على المتفق على حرمته. قوله: ﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ﴾ أي بأن كان اضطراره ناشئاً عن إثمه، فلا يجوز له الأكل، هكذا حمل الآية مالك، وقال الشافعي غير متجانف لإثم، بأن كان عاصياً بسفره كالآبق وقاطع الطريق، فقول المفسر كقاطع الطريق والباغي أي المسافرين. وأما الحاضرون فيباح لهم أكل الميتة، وأما عند مالك فلا فرق بين العاصي بالسفر والطائع به فإنهما كالحاضر، فيأكلان منها إذا اضطرا، حيث لم يكن إصراره على المعصية موقعاً له في الاضطرار.
قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ هذه الآية مرتبة على قوله: (حرمت عليكم الميتة الخ) فلما بين المحرمات سألوا عن الحلال، وصورة السؤال ماذا أحل الله لنا، وروي في سبب نزولها أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فأذن له، فلم يدخل، فقال له النبي: قد أذنا لك يا رسول الله، قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب، فأمر صلى الله عليه وسلم أبا رافع بقتل كل كلب في المدينة ففعل، حتى انتهى إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركه رحمة لها، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بقتله فرجع إلى الكلب فقتله، فجاؤوا إلى رسول الله فقالوا له: ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، قال: فسكت رسول الله، فنزل ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ﴾ الآية، فعند ذلك أذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أمسك كلباً فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط "، وفي رواية قيراطان، إلا كلب حرث أو ماشية، ويؤخذ هذا الحديث أن قتل غير النافع من الكلاب مندوب، إن لم يكن عقوراً يخشى منه الضرر ولا يندفع إلا بالقتل، وإلا وجب قتله عند مالك. قوله: (المستلذات) أي الشرعية وهي ما لم يثبت تحريمها بكتاب أو سنة، فلا يرد لحم الخنزير مثلاً إذا أتقن طبخه. قوله: ﴿ وَ ﴾ (صيد) ﴿ مَا عَلَّمْتُمْ ﴾ قدره إشارة إلى أن ما معطوف على الطيبات لكن على حذف مضاف، وصيد بمعنى مصيد، ومن الجوارح بيان لما. قوله: ﴿ مُكَلِّبِينَ ﴾ حال أي من التاء في علمتم. قوله: (من كلبت) أي مأخوذ من كلبت. قوله: (أرسلته على الصيد) أي فمعنى مكلبين مرسلين بمعنى قاصدين إرساله احترازاً عما لو ذهبت من غير إرسال وأتى بصيد فلا يؤكل، وفسره غيره بالتعليم، فيكون حالاً مؤكدة لعاملها، وما قاله المفسر أوجه، وإن رد بأنه لا مستند له في ذلك، لأن المفسر حجة، وعبر عن الإرسال بالتكليب، أما إشارة إلى أن ذلك غالب في الكلاب، أو أن الكلب يطلق على ما يصاد بع سبع وطير. قوله: (حال من ضمير مكلبين) أي مؤكدة إن فسر مكلبين بمعلمين، ومؤسسة إن فسر بمرسلين، ويصح أن يكون جملة مستأنفة موضحة لما قبلها. قوله: ﴿ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ من للتبعيض، وقوله: (من آداب الصيد) بيان لما. قوله: ﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ نتيجة قوله: ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ ﴾ وقوله: ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ أي لكم قوله: (بأن لم يأكلن منه) أي فإن أكلن منه فلا يؤكل وهو داخل في قوله ما أكل السبع، وهذا الشرط اعتبره الشافعي، وعند مالك يؤكل، ولو أكل منه الجارح، فإن أدرك حياً فلا بد من ذكائه الشرعية، فقوله: (بأن لم يأكلن) تفسير لقوله: ﴿ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ لأنه إن أكمل منه فليس ممسكاً لصاحبه بل لنفسه، وقد علمت أن هذا التقييد مذهب الشافعي، وسيأتي إيضاحه في آخر عبارة المفسر، قوله: (وعلامتها الخ) ذكر أربع علامات وهي معتبرة في الكلب والسبع، وأما في الطير كالصقر فلا يعتبر فيه إلا قيدان، أن لا يأكل منه، وأنه إذا أرسل استرسل. والحاصل أن المدار عند مالك في الصقر أنه إذا أرسل استرسل، وزاد الشافعي فيه أن لا يأكل مما أمسك، وأما في الكلب والسبع ففيه القيود الأربعة التي ذكرها المفسر، ما عدا الأكل عند مالك قوله: (كما في الحديثين الصحيحين) أي ولكن هذا الحديث لم يأخذ به مالك قوله: (وفيه) أي في الحديث قوله: (وذكر اسم الله عليه) أي وهو سنّة عند الشافعي، وعند مالك واجب مع الذكر والقدرة، وأما النية فلا بد منها لأنها شرط صحة قوله: (كصيد المعلم من الجوارح) ألحق مالك بالسهم ما صيد ببندق الرصاص، لأن قوته تقوم مقام حد السهم. قوله: ﴿ عَلَيْهِ ﴾ اختلف في مرجع الضمير، فقيل عائد على ما علمتم من الجوارح، وإليه يشير المفسر بقوله عند إرساله، وقيل عائد على ما أمسكن عليكم، أي سموا الله إذا أدركتم ذكاته. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، حيث بيّن لكم الحلال والحرام قوله: ﴿ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ ورد أنه يحاسب الخلق في قدر نصف يوم من أيام الدنيا. قوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ يحتمل أن المراد باليوم المتقدم في قوله:﴿ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾وهو يوم عرفة، ويحتمل أن المراد يوم نزولها، ويحتمل أن المراد به الزمن مطلقاً. قوله: (أي ذبائح اليهود والنصارى) أي إن ذبح ما هو حل لهم في شرعنا، ولم يذكر اسم غير الله عليه وتؤكل ذبائحهم، ولو غيروا اليهودية بالنصرانية وعكسه عند مالك، واشترط الشافعي عدم التغيير والتبديل. قوله: ﴿ وَطَعَامُكُمْ ﴾ (إياهم) أي بمعنى إطعامكم إياهم، ومعنى (حل لهم) أي لا يحرم عليهم بشرعهم، ولا يحرم علينا أن نطعمهم من ذبائحنا. قوله: ﴿ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ﴾ أي الحرائر منهن، وأما الإماء فتقدم أنهن حل بالشروط. قوله: (الحرائر) أي وأما الإماء فلا يحل نكاحهن إلا بالملك، وأما حرارئنا فلا يحل لهم نكاحهن، بل ولا إماؤنا، فتحصل أن طعامنا حل لهم، وطعامهم حل لنا، ونساؤهم حل لنا، ونساؤنا لسن حلالهم. قوله: ﴿ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ بيان للأكمل، واحترز عن الدخول على إسقاطه فلا يحل، والظرف متعلق بالخبر المحذوف الذي قدر المفسر بقوله حل لكم. قوله: ﴿ مُحْصِنِينَ ﴾ حال من ﴿ ءاتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ أي حال كونكم محصنين، وقوله: ﴿ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ ﴾ نعت لمحصنين. قوله: ﴿ أَخْدَانٍ ﴾ جمع خدن وهو الخليل والصاحب الذي يزني بالمرأة سراً. قوله: ﴿ بِٱلإِيمَٰنِ ﴾ الباء بمعنى عن، والكفر بمعنى الردة، أي يرتد عن الإيمان. قوله: ﴿ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ (الصالح) أي والسيء إن عاد للإسلام بمعنى بطل كل منهما، فلو عاد للإسلام فلا عقاب عليه في السيء، ولا ثواب له في الصالح، والمرتد لا يقضي الصلاة ولا الصوم ولا الزكاة، إذا فاته جميع ذلك في زمن الردة أو قبل زمنها ما لم يرتد بقصد إسقاط ذلك، ولا يقضي إلا ما أسلم في وقته لعموم آية﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾[الأنفال: ٣٨] عند مالك، وعند الشافعي يقضي جميع ذلك، وأما الحج فوقته وهو العمر باق فيقضيه. قوله: (إذا مات عليه) أي الكفر وهو راجع لقوله: ﴿ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ ﴾ لا لما قبله، فإنه يحبط عمله زمن الردة مطلقاً، مات على الكفر أو الإسلام.
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ إنما وجه الخطاب للمؤمنين، وإن كان الكفار مخاطبين بفروع الشريعة أيضاً على الصحيح لعدم صحتها منهم إلا بالإسلام. قوله: ﴿ إِذَا قُمْتُمْ ﴾ أي اشتغلتم بها قولاً وفعلاً من قيام أو غيره. قوله: (أي أردتم القيام) دفع بذلك ما يقال إن مقتضى الآية أن الطهارة لا تجب إلا بعد الشروع في الصلاة، فأجاب بأن المراد أردتم القيام، أي قصدتموه وعزمتم عليه، وشرعت الطهارة قبل الصلاة، لأن المصلي يناجي ربه وهو في حضرته، فيحتاج قبل ذلك للنظافة من الحدثين الأصغر والأكبر، ومن الخبيثين الحسي والمعنوي كالذنوب، ليرتب على ذلك قبول طاعته. قوله: (وأنتم محدثون) أي حدثاً أصغر، وأخذ المفسر هذا من قوله فيما يأتي ﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً ﴾ وفيه إشارة للجواب عن إِشكال البيضاوي حيث قال ظاهر الآية أن كل قائم إلى الصلاة يجب عليه الوضوء وإن لم يكن محدثاً، وقوله: (وأنتم محدثون) أي ممنوعون من الصلاة لعدم وجود الطهارة فيشمل من ولد، ولم يحصل منه ما يوجب الوضوء إلى أن بلغ فيجب عليه الوضوء، لأنه كان ممنوعاً من الصلاة قبل ذلك لعدم وجود الطهارة، ولذا علق الوضوء بالقيام للصلاة. قوله: ﴿ وُجُوهَكُمْ ﴾ أي ليغسل كل منكم وجهه ولو تعدد وحده، طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد لآخر الذقن، وعرضاً ما بين وتدي الأذنين، ويخلل لحيته إن كانت خفيفة وإلا غسل ظاهرها فقط، ويتتبع أسارير جبهته والوترة ولا يلزمه غسل داخل العينين، وأما المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين فسنة. قوله: (أي معها) أشار بذلك إلى أن إلى بمعنى مع، وهذا أسهل ما قيل، وقيل إن إلى عاد بابها من الانتهاء، والغاية داخلة، وقيل خارجة، وقيل إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخلت وإلا فلا، والأصح أن إلى لا يدخل ما بعدها فيما قبلها عكس حتى، قال سيدي علي الأجهوري: وَفِي دُخُولِ الْغَايَةِ الأَصَحّ لاَ تَدْخُل مَع إلَى وَحَتَّى دَخَلاَوأما في الآية فإما أن يقال إنها بمعنى مع، أو الغاية داخلة على خلاف القاعدة لوجود القرينة، فغسل المرافق واجب لذاته، وليس من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قوله: (كما بينته السنة) أي فبينت السنة أن المرافق تغسل مع الأيدي، ويجب تخليل أصابع الأيدي عند مالك لوجوب الدلك عنده. قوله: (الباء للإلصاق) وقيل للتبعيض لدخولها على متعدد، وأما في وليطوفوا بالبيت فللإلصاق، لدخولها على غير متعدد، وأورد على ذلك آية التيمم، فإن قيل إنها للإلصاق يقال أي فرق بينهما، ولما كان هذا المعنى معرضاً، عدل عنه المفسر وجعلها للإلصاق في كل، وأحال بيان ذلك للسنّة. قوله: (أي ألصقوا المسح بها) لعل في كلام المفسر تسامحاً، لأن المسح معنى من المعاني لا يلصق، لأن الإلصاق لا يكون إلا بين جسمين، إلا أن يقال المراد بالمسح آلته وهو اليد. قوله: (من غير إسالة ماء) بيان لحقيقة المسح من حيث هو، لا لما لا يكفي في الوضوء، فإن الغسل يكفي أيضاً. قوله: (وهو) أي المسح. قوله: (وهو مسح بعض شعره) وقال أبو حنيفة يجب مسح ربع الرأس، وقال مالك وأحمد يجب مسح الجميع، كما يجب مسح الوجه في التيمم. قوله: (بالنصب) أي لفظاً وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم، وقوله: (والجر) أي وهي لباقي السبعة. قوله: (على الجوار) أي فهو في المعنى منصوب بفتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة، واعتض هذا الحمل بأنه لم يرد الجر بالمجاورة إلا في النعت، ومع ذلك فهو ضعيف، والأولى أن يقال إنه مجرور لفظاً، ومعنى معطوف على الرؤوس والمسح مسلط عليه، ويحمل على حالة لبس الخف، أو يقال إن المراد بالمسح الغسل الخفيف، وسماه مسحاً رداً على من يتبع الشك ويسرف في الماء وهو بعيد. قوله: (وهما) أي الكعبان. قوله: (عند مفصل) بفتح الميم وكسر الصاد، وأما بكسر الميم وفتح الصاد فهو اللسان، ويجب على الإنسان في غسل رجليه أن يتتبع العقب بالغسل لما في الحديث: " ويلٌ للأعقاب من النار " وتسن الزيادة على محل الفرض عند الشافعي، وفسر بها الغرة والتحجيل الواردين في الحديث، وكره مالك ذلك، وفسر الغرة والتحجيل بإدامة الطهارة. قوله: (والفصل) هو مبتدأ وخبره (يفيد) وقصده بذلك تتميم الفرائض السنة عند الشافعي، ومحصل ذلك أن الواو إن كانت لا تقتضي ترتيباً لكن وجدت قرينة تفيد الترتيب وهو الفصل بين المغسولات بالرأس الممسوح، لكن يقال إن ذلك ظاهر في غير الوجه مع الأيدي، وعند مالك ليس الترتيب فرضاً. وإنما هو سنة إبقاء للواو على ظاهرها ولم يعتبر تلك القرينة. قوله: (وجوب النية) أي لأنه عبادة، وكل عبادة تحتاج لنية، فتحصل أن فرائض الوضوء عند الإمام الشافعي ستة: الأربعة القرآنية، والنية، والترتيب. وعند مالك سبعة: الأربعة، والنية، والموالاة بأن لا يفرق بين أجزائه تفريقاً متفاحشاً، والتدليل وهو إمرار باطن الكف على الأعضاء. وعند الحنفية الأربعة القرآنية لا غير. قوله: ﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً ﴾ أي بمغيب الحشفة، أو خروج المني بلذة معتادة في اليقظة، أو مطلقاً في النوم، أو الحيض، أو النفاس، لأن الخطاب عام للذكور والإناث. قوله: (أي أحدث) أي فالمجيء من الغائط كناية عن الحدث، وعبر عنه بالغائط، لأن العادة قضاء الحاجة في الغائط، بمعنى المكان المنخفض. قوله: (سبق مثله) أي فيقال هنا جامعتم أو جسستم باليد. قوله: (مع المرفقين) أي فهو فرض عند الشافعي حملاً على آية الوضوء، وعند مالك مسح المرفقين سنّة، وإنما الفرض للكوعين. قوله: (بضربتين) أي فهما فرض عند الشافعي، وعند مالك الأولى فرض والثانية سنّة. قوله: (وبينت السنة الخ) جواب من الشافعية والحنفية عن التعارض الواقع بين آية الوضوء وآية التيمم. قوله: (من الوضوء والغسل والتيمم) أي فأوجب ما ذكر عند القدرة عليه، ووجود الماء أو الصعيد، فإن فقدا معاً سقطت عنه الصلاة، وقضاؤها على المعتمد عند مالك، ويصلي ويقضي عند الشافعي. قوله: (من الأحداث والذنوب) أي فإذا تطهر الإنسان فقد خلص من الحدث والذنوب، لأنه ورد أن الذنوب تتساقط مع غسل الأعضاء. قوله: (بالإسلام) الباء للتعدية، والجار والمجرور متعلق بنعمة، فهو أعظم النعم، لأنه به ينال كل خير. قوله: ﴿ إِذْ قُلْتُمْ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ وَاثَقَكُم بِهِ ﴾.
قوله: (حين بايعتموه) أي عند العقبة سنة الهجرة، لما جاءه سبعون من الأنصار، ورئيسهم إذ ذاك البراء بن معرور، وكان له اليد البيضاء في الميثاق، حتى أنه قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب كابراً عن كابر، وبايعوه على أن يقاتلوا معه الأسود والأبيض، وكذلك بيعة الرضوان تحت الشجرة، حين صده المشركون عن البيت، أشاع إبليس أن عثمان قتل، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على عدم الرجوع حتى يقتلوا أو يدخلوا مكة، وهكذا حمل المفسر على عهد النبي أصحابه، ويحتمل أن المراد العهد الواقع يوم ألست بربكم، فيكون المعنى: اذكروا نعمة الله عليكم، حيث خلقكم على التوحيد في عالم الأرواح، وجعل عالم الأجساد موافقاً له، فالإيمان نعمة عظيمة لموافقته للإجابة الواقعة يوم ألست بربكم، وكل صحيح، لكن إن كان المراد عهد الله الأزلي فالنسبة له ظاهرة، وإن كان المراد عهد النبي لأصحابه، فإسناد العهد لله، لأنه هو المعاهد حقيقة، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ ﴾[الفتح: ١٠] الآية. قوله: ﴿ سَمِعْنَا ﴾ أي سماع قبول. قوله: (مما نحب) أي بأن كان موافقاً لما تهزاه نفوسهم، وقوله: (ونكره) أي بأن لك يكن موفقاً، كالجهاد وأداء الزكاة مثلاً. قوله: (بما في القلوب) أي من الإخلاص وغيره، فذات الصدور صفة لموصوف محذوف تقديره الأمور الخفية صاحبات الصدور التي لا يطلع عليها إلا الله.
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ شروع في بيان الحقوق الواجبة على العباد، وهي قسمان: متعلق بالخالق وهو قوله: ﴿ قَوَّامِينَ للَّهِ ﴾ وبالمخلوق وهو قوله: ﴿ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ﴾، وقد تقدمت هذه الآية في النساء، وكررها اعتناء بشأنها، فإن مقام القيام بحق الله وحق عباده عظيم، وهو حقيقة التوفيق، فليس كل من آمن قام بالحقين، وقوله قوامين خبر لكونوا، وشهداء خبر ثان. قوله: (بحقوقه) أي الخاصة به، كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك. قوله: ﴿ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ﴾ أي فلا تشهدوا بخلاف الواقع، بل بما في نفس الأمر، وهو المراد بقوله: (بالعدل). قوله: (يحملنكم) هو بمعنى ﴿ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ ومن ثم عداه بعلى، ويجوز أن يفسر بيكسبنكم وهما متقاربان. قوله: ﴿ شَنَآنُ ﴾ بفتح النون وسكونها سبعيتان. قوله: (أي الكفار) أشار إلى أنها نزلت في قريش لما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، ولكن العبرة بعموم اللفظ. قوله: ﴿ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بعلى، أي على عدم العدل، كنقض العهد، وإيذاء من أسلم منهم. قوله: (فتنالوا منهم) أي مقصودهم من القتل وأخذ المال. قوله: (في العدو والولي) أي فسووا بين المحب والمبغض في العدل، ولا تؤثروا المحب. قوله: ﴿ ٱعْدِلُواْ ﴾ تصريح بما علم من النهي عن ترك العدل، اعتناء بشأن العدل. قوله: (أي العدل) أي المأخوذ من قوله: ﴿ ٱعْدِلُواْ ﴾ فإن الضمير لا بد أن يرجع لمذكور، ولو ضمناً كما هنا. قوله: ﴿ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ أي أقرب ما يدل على التقوى لأنها في القلب، والعدل أكبر دليل عليها، فعند القدرة يظهر الحال، فمن ظهر العدل على يديه، كان دليلاً على تقواه، ومن لا فلا، ومنه ما ورد: الظلم كمين في النفس، القوة تظهره، والعجز يخفيه. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي امتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ فيه وعد ووعيد، وبين الوعد بقوله: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، وبين الوعيد بقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ تفصيل لما أجمل في قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ والذين مفعول أول لوعد، وقدر المفسر المفعول الثاني بقوله: (وعداً حسناً) أي موعوداً، فأطلق المصدر، وأراد اسم المفعول. وقوله: (لهم مغفرة وأجرٌ عظيم) جملة مستأنفة بيان للموعود به الحسن. قوله: (الجنة) تفسير للأجر العظيم، فيكون عطف الأجر العظيم على المغفرة من عطف المسبب على السبب. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ أُوْلَـۤئِكَ ﴾ مبتدأ ثان، و ﴿ أَصْحَابُ ﴾ خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والجملة مستأنفة لبيان وعيد الكفار، ولم يقل في جانب الكفار لهم عذاب الجحيم مثلاً قطعاً لرجائهم، لأن صاحب الشيء لا ينفك عنه.
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأصحابه لعسفان في غزوة ذي أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع، قاموا إلى الظهر جميعاً، فلما صلوا ندم المشركون على عدم المكر بهم في الصلاة، فقالوا إن لهم ببعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون بها صلاة العصر، وهموا أن يقعوا بهم إذا قاموا إليها، فرد الله كيدهم بنزول آية صلاة الخوف، وقيل ما" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة، ومعه أبو بكر وعمر وعلي، يستقرض منهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ بحسبهما مشركين، فقالوا: يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما سألت، فأجلسوه في صفة وهموا بالفتك به، وعمد عرم بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك الله تعالى يده ونزل جبريل عليه وأخبره، فخرج هو وأصحابه ونقض عهدهم حينئذٍ، وأقام الحرب عليهم، وقيل هو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً، وتفرق أصحابه في الشجر يستظلون به، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق سيفه بها ونام، فجاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة وسله، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فوجده في يده، فقال له الأعرابي: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: " من يمنعك مني "؟ فقال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله "، والأحسن أن يراد بقوله: ﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ﴾ ما هو أعم فيشمل هذه الوقائع وغيرها كواقعة السم. قوله: ﴿ أَن يَبْسُطُواْ ﴾ الخ، يقال بسط إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، والمراد مدوا إليكم أيديهم بالقتل. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي دوموا على امتثال أوامره واجتناب نواهيه. قوله: ﴿ أَن يَبْسُطُواْ ﴾ أي لا على غيره، فلا يعتمد الإنسان على سبب ولا غيره، بل يثق بالله ويفوض أمره إليه.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان تحريض المؤمنين على الوفاء بالعقود، فإن المقصود من ذكر الأمم السابقة، ونقضهم عهود أنبيائهم، تذكير هذه الأمة بأن الوفاء بالعهود أمره عظيم وأجره جسيم، ونقضه فيه الوبال الكبير، ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي: فالويل لمن لم يعرفك، بل الويل ثم الويل لمن أقر بوحدانيتك ولم يرض بأحكامك. قوله: (بما يذكر بعد) أي من قوله: ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ ﴾ الخ، فعهد الله هو امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والدال على ذلك تجب مطاوعته، فالشيخ المتمسك بشرع رسول الله، القائم بحقوق الله وحقوق عباده، إذا أخذ العهد بذلك على إنسان، وجب عليه اتباعه ونقض عهده، إما كفر إذا قصد نقض ما هو عليه من التوحيد وغيره، أو ضلال مبين إذا قصد عدم الالتزام بأوراده، وأما من خالف الشرع، واتبع هوى نفسه، فالواجب نقض عهده، لأن من لا عهد له مع الله، لا عهد له مع خلقه، قال تعالى:﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ﴾[البقرة: ٢٥٦] هكذا ينبغي. قوله: (فيه التفات عن الغيبة) أي وكان مقتضى الظاهر وبعث، وإنما التفت اعتناء بشأن البعث قوله: (أقمنا) أشار بذلك إلى أن المراد بالبعث الجعل والإقامة، لا الإرسال، إلا لكانوا معصومين من النقض. قوله: ﴿ مِنهُمُ ﴾ إما متعلق ببعثنا، أي بمحذوف حال من اثني عشر، وقوله: ﴿ نَقِيباً ﴾ تمييزه، والنقيب فعيل، إما بمعنى فاعل لأنه يفتش على أحوال القوم، أو بمعنى مفعول لأنهم فتشوا عليه، واختاروه نقيباً عليهم مشتق من التنقيب وهو التفتيش، ومنه فنقبوا في البلاد، سمي بذلك لأنه يفتش عن أحوال القوم ويسعى في مصالحهم. قوله: (من كل سبط نقيب) أي فالنقباء على عدد الأسباط، وهم أولاد يعقوب، وكانوا اثني عشر كل واحد منهم سبط. قوله: (توثيقة عليهم) أي تأكيداً عليهم. قوله: ﴿ وَقَالَ ﴾ (لهم) أي للنقباء، وعهد النقباء هو عهد بني إسرائيل، أو الضمير عائد على بني إسرائيل عموماً، وسبب ذلك أن بني إسرائيل لما رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون، أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحا بأرض الشام، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال لهم: إني كتبتها لكم داراً وقراراً، فأخرجوا من فيها وإني ناصركم، وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان، بعث النقباء إليهم يتجسسون أحوالهم، فرأوا خلقاً أجسامهم عظيمة، ولهم قوة وشوكة فهابوهم فرجعوا، وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون من أحوال الكنعانيين، فنكثوا الميثاق وتحدثوا، إلا اثنين منهم، قيل لما توجه النقباء لتجسس أحوال الحبارين، لقيهم عوج بن عنق، وعنق أمه إحدى بنات آدم لصلبه، وكان عمره ثلاثة آلاف سنة، وطوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثين ذراعاً، وكان على رأسه حزمة حطب، فأخذ النقباء وجعلهم في الحزمة، وانطلق بهم إلى امرأته، فطرحهم على يديها، وقال اطحنيهم بالرحى، فقالت لا بل نتركهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، فجعلوا يتعرفون أحوالهم، وكان من أحوالهم أن عنقود العنب عندهم لا يحمله إلا خمسة رجال منهم، وأن قشرة الرمانة تسع خمسة منهم، فلما خرج النقباء من أرضهم، قال بعضهم لبعض: إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، ولكن اكتموه إلا عن موسى وهارون، ثم انصرفوا إلى موسى، وكان معهم حبة من عنبهم، فنكثوا عهدهم، وجعل كل واحد منهم ينهي سبطه عن القتال ويخبره بما رأى، إلا كالب ويوشع، وكان عسكر موسى فرسخاً في فرسخ، فجاء عوج بن عنق حتى نظر إليهم، فجاء إلى جبل وأخذ منه صخرة على قدر عسكر موسى، ثم حملها على رأسه ليطبقها عليهم، فبعث الله الهدهد فنقر وسط الصخرة المحاذي لرأسه، فوقعت في عنقه وطوقته فصرعته، وأقبل موسى فقتله، فأقبلت جماعة حتى حزوا رأسه، وهذه القصة ذكرها كثير من المفسرين، قال المحققون: إنه لا عوج ولا عنق، وإنما الصحيح من القصة وجود الجبارين وقريتهم، وأنهم عظام الأجسام، وبالجملة فالصحيح هو ما قصه الله علينا فيما يأتي في هذا الربع. قوله: (لام قسم) أي والله، وجوابه هو قول لأكفرن، وحذف جواب الشرط لتأخره عن القسم اكتفاء بجواب القسم، قال ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم، جواب ما أخرت. قوله: ﴿ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي ﴾ أخره عن الصلاة والزكاة، مع أنهما من الفروع، لأن بعضهم كان يفعلهما مع كونه يكذب ببعض الرسل، فأفاد الله تعالى أن عدم الإيمان لا ينفع مع فعل الطاعات قوله: ﴿ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾ من التعزيز، يطلق على التعذيب، وعلى التعظيم والتوفير والنصرة، وهو المراد هنا. قوله: (بالإنفاق في سبيله)، أي واجباً أو مندوباً، وهو أعم من الزكاة. قوله: (فنقضوا الميثاق) أي بتكذيبهم الرسل، وقتلهم الأنبياء، وتضييعهم الفرائض.
قوله: ﴿ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ ﴾ بيان لقسوة قلوبهم. قوله: (تركوا) أشار بذلك إلى أن المراد بالنسيان، الترك من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. قوله: (خيانة) أشار بذلك إلى أن خائنة بمعنى خيانة، فالتاء للتأنيث بدليل القراءة الأخرى خيانة. قوله: (وهذا) أي الأمر بالعفو والصفح، منسوخ إن أريد مع بقائهم على الكفر، وأما إن أريد إن تابوا فلا نسخ. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾ شروع في بيان قبائح النصارى إثر بيان قبائح اليهود، والحكمة في قوله قالوا، ولم يقل ومن النصارى، أن هذه التسمية واقعة منهم لأنفسهم، ولم يسمهم الله تعالى بذلك، والجار والمجرور متعلق بأخذنا، والأصل وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم وهو الأحسن، ولذلك مشى عليه المفسر، وقدم الجار والمجرور على قوله: ﴿ مِيثَاقَهُمْ ﴾ هروباً من عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، وهو غير جائز إلا مواضع ليس هذا منها، ونصارى نسبة للنصر، لأنهم يزعمون أنهم أنصار الله، ومفرده نصران ونصرانة، ولكن ياء النسب لا تفارقه، وقيل نسبة لقرية اسمها نصرة، فيكون مفرده نصرى، ثم أطلق على كل من تعبد بهذا الدين. قوله: ﴿ مِيثَاقَهُمْ ﴾ أي عهدهم المؤكد. قوله: ﴿ فَنَسُواْ حَظّاً ﴾ أي تركوه. قوله: (من الإيمان) أي بمحمد وبجميع الأنبياء، وقوله: (وغيره) أي غير الإيمان كبشارة عيسى بمجيء محمد بعده رسولاً. قوله: (ونقضوا الميثاق) أي تكذيب الأنبياء، وتحريف ما في الإنجيل، وهذا مرتب على قوله: ﴿ فَنَسُواْ حَظّاً ﴾ وكذا قوله: ﴿ فَأَغْرَيْنَا ﴾ وهو من غرا بالشيء إذا لصق به، يقال غروت الجلد ألصقته بالغراء، وهو كناية عن إيقاع العداوة بينهم، والتعبير بالإغراء أبلغ كأن العداوة لاصقة بهم كالغراء اللاصق بالجلد. قوله: ﴿ بَيْنَهُمُ ﴾ متعلق بأغرينا والضمير عائد على اليهود والنصارى، أي ألقينا العداوة بين اليهود والنصارى، فكل من الفرقتين تلعن الأخرى، وقيل الضمير عائد على النصارى فقط باعتبار فرقهم، لأنهم ثلاث فرق: الملكانية واليعقوبية والنسطورية فكل فرقة تلعن الأخرى، وإنما لم يظهروا ذلك بين المسلمين، خوفاً من الشماتة بهم فكل فرقة تكفر الأخرى، أي في الدنيا وفي الآخرة﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾[الأعراف: ٣٨].
قوله: ﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ (وفي الآخرة) أي بقوله يوم القيامة:﴿ وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾[يس: ٥٩] الآية.
قوله: ﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ خطاب للفريقين جميعاً، بعد أن ذكر كل فرقة على حدة. قوله: (كآية الرجم وصفته) أي فقد أخفوهما، وأطلع الله نبيه على أنهما في التوراة، فبين ذلك وأظهره، وهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يقرأ كتابهم، ولم يجلس بين يدي معلم، وهذا مثال لما في التوراة، ولم يمثل لما في الإنجيل، ولو مثل له لقال: وكبشارة عيسى بمحمد. قوله: ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي من قبائحهم كسبه فيما بينهم، والكلام في شأنه هو والقرآن، فلك يتعرض لهم في ذلك. قوله: (هو نور النبي) أي وسمي نوراً لأنه ينوّر البصائر ويهديها للرشاد، ولأنه أًل لكل نور حسي ومعنوي. قوله: ﴿ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ﴾ أي من سبق في علم الله أنه يتبع رضوانه. قوله: (طرق السلامة) أي من العذاب والنجاة من العقاب، و ﴿ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ ﴾ منصوب بنزع الخافض وإنما حقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى أو باللام، قال تعالى:﴿ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾[الإسراء: ٩].
قوله: (وهم اليعقوبية) أي القائلون بالاتحاد. قوله: ﴿ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ هذا ترق في الرد عليهم. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ ترق في الرد عليهم أيضاً. قوله: (شاءه) أي تعلقت به إرادته وهي الممكنات، خرج بذلك ذاته وصفاته والمستحيلات فلا تتعلق القدرة والإرادة بشيء من ذلك. قوله: (أي كأبنائه في القرب) أي فالمعنى على التشبيه، وهذا هو الصحيح، وقيل المعنى أبناء أنبياء الله، فالكلام على حذف مضاف. وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام، وخوّفهم بعقاب الله تعالى، فقالوا: كيف تخوفنا به ونحن أبناء لله وأحباؤه؟ وهذه مقالة اليهود، وأما النصارى فقالوا مثلهم، زاعمين أن الله قال في الإنجيل: إن المسيح قال لهم إني ذاهب إلى أبي وأبيكم.
قوله: ﴿ قُلْ ﴾ (لهم يا محمد) أي إلزاماً وتبكيتاً، إن صح ما زعمتم، فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والمسخ، وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياماً بعدد أيام عبادة العجل، ولو كان الأمر كما زعمتم، لما صدر منكم ما صدر، ولما وقع عليكم ما وقع. قوله: (لا اعتراض عليه) أي لأنه القادر الفعال بالاختيار. قوله: ﴿ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ ﴾ أي في وقت لا تعرفون فيه توحيداً، فعليكم باتباعه. قوله: (إذا لم يكن بينه وبين عيسى رسول الخ) هذا هو الصحيح، وقيل كان بين محمد وعيسى أربعة رسل، ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من حمير، وهو خالد بن سنان. قوله: (ومدة ذلك خمسمائة وستون سنة) وقيل خمسمائة وخمسة وستون، وقيل خمسمائة وأربعون، وقيل أربعمائة وبضع وثلاثون، والصحيح أنها ستمائة ومدة ما بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة، لكنها ليست فترة لبعثة كثيرين من الأنبياء بينهما ويتعبدون بشريعة موسى، كداود وسليمان وزكريا ويحيى. قوله: ﴿ أَن ﴾ (لا) ﴿ تَقُولُواْ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ أَن ﴾ المصدرية دخلت عليها اللام ولا النافية مقدرها بعدها، والتقدير لعدم قولكم ما جاءنا الخ. قوله: (زائدة) أي في فاعل جاء.
قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) ﴿ إِذْ قَالَ مُوسَىٰ ﴾ أشار بذلك إلى أن إّ ظرف لمحذوف، قدره المفسر بقوله اذكر، والمقصود من ذلك توبيخ اليهود الذين في زونه صلى الله عليه وسلم وتسليته على عدم إيمانهم به وبيان نقضهم العهد تفصيلاً، والمعنى تسل ولا تحزن من عدم إيمانهم بك ومن تكذيبك، فإنهم كذبوا من يدعون أنه نبيهم إلى الآن. قوله: و ﴿ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ أي تذكّروها واشكروا عليها. قوله: ﴿ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ ﴾ أي بكثرة ولم تكن في غيركم. قوله: ﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾ أي يبسط الدنيا لكم، وذلك بعد إغراق فرعون، قوله: (خدم) جمع خادم، وهو صادق بالذكر والأنثى، وقوله: (وحشم) هم الخدم لكن منم الرجال، ورد أن أول من ملك الخدم بنو إسرائيل، وكان يقال عندهم من كانت عنده دابة وجارية وزوجة فهو ملك، وقيل الملك من اتسعت داره وكان فيها النهر يجري، وقيل جعلكم ملوكاً أي أحراراً بعد استرقاق فرعون لكم. قوله: ﴿ مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ ﴾ أي مطلقاً، لأن فلق البحر والمن والسلوى لم يكن لأحد غيرهم، ولا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة هنا للتأويل بعالمي زمانهم. قوله: (من المن والسلوى) بيان لما. إن قلت: إن هذه المقالة وقعت حين أخذ الميثاق عليهم في قتال الجبارين، فلا يظهر قول المفسر من المن والسلوى، لأنه لم ينزل عليهم إلا في التيه، وذلك بعد توجههم من مصر لقتال الجبارين، فحينئذٍ كان المناسب للمفسر أن يقول من النبوة والملك وفلق البحر، وقد يجاب: بأنه لا مانع من ذكر هذه الكلمة في التيه أيضاً. قوله: ﴿ يَٰقَوْمِ ﴾ الجمهور على كسر الميم من غير ياء، وقرئ بضم الميم إجراء له مجرى المفرد، وبالباء مفتوحة لأنه منادى مضاف لياء المتكلم، قال ابن مالك: واجْعَلْ مُنَادِي صَحّ أَنْ يَضِف ليَا كَعَبْدَ عَبْدِي عَبْدَ عَبْداً عَبْدياقوله: (المطهرة) إنما سميت مطهرة لسكنى الأنبياء المطهرين فيها، فشرفت وطهرت بهم، فالظرف طاب بالمظروف، إن قلت: إن الجبارين كانوا فيها وهم غير مطهرين أجيب: بأن الخير يغلب الشر، والنور يغلب الظلمة. قوله: (أمركم بدخولها) دفع بذلك ما يقال: كيف الجمع بين الكتابة التي تفيد تحتم الدخول، وبين قوله قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، فأجاب: بأن المراد بالكتب الأمر بالدخول، وأجيب أيضاً بأن قوله التي كتب الله لكم أي قدرها في اللوح المحفوظ، إن لم تقع منكم مخافة، وقد وقعت فحرمت عليهم أربعين سنة، فهو قضاء معلق. قوله: ﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ ﴾ أي ترجعوا إلى مصر، فإنهم لما سمعوا بأخبار الجبارين، قالوا تجعل لنا رئيساً ينصرف بنا إلى مصر، وصاروا يبكون ويقولون ليتنا متنا بمصر. قوله: ﴿ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ ﴾ أي لأن الفرار من الزحف من الكبائر.
قوله: ﴿ قَالَ رَجُلاَنِ ﴾ وصفهما بصفتين: الأولى قوله: ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾ والثانية قوله: ﴿ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ﴾ وهو حسن، لأن فيه الوصف بالجملة بعد الوصف بالجار والمجرور، وهو من قبيل المفرد. قوله: (وهما يوشع) أي ابن نون وهو الذي نبئ بعد موسى، وقوله: (وكالب) بكسر اللام وفتحها ابن يوقنا. قوله: (بقية النقباء) أي الاثني عشر، وقوله: (فأفشوه) أي خبر الجبارين، وقوله: (فجبنوا) أي بنو إسرائيل. قوله: ﴿ ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ ﴾ أي امنعوهم من الخروج، لئلا يجدوا في أنفسهم قوة للحرب، بخلاف ما إذا دخلتم عليهم القرية بغتة، فإنهم لا يقدرون على الكر والفر. قوله: (بلا قلوب) أي قوية نافعة. قوله: (تيقنا بنصر الله) أي فإنهما مصدقان بذلك، لإخبار موسى لهما بذلك. قوله: ﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ ﴾ أي بعد ترتيب الأسباب، ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة. قوله: ﴿ مَّا دَامُواْ فِيهَا ﴾ مدة إقامتهم فيها. قوله: ﴿ أَنتَ وَرَبُّكَ ﴾ قيل إن الواو للعطف، وربك معطوف على الضمير المستتر في اذهب، وقد وجد الفاصل بالضمير المنفصل، قال ابن مالك: وَإنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلٍ عَطَفْت فَافْصل بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِأي ليذهب ربك، واختلف في الرب، فقيل هو المولى جل وعلا، فإسنادهم الذهاب إليه على حقيقته، لأنهم كانوا يعتقدون التجسيم، وقيل المراد به هارون وسموه رباً لأنه كان أكبر من موسى بسنة، وهو الأحسن، ويدل عليه السياق، وقيل الواو للحال، وربك مبتدأ خبره محذوف تقديره يعينك. قوله: (لا أملك غيرهما) إن قلت: إن يوشع وكالب كانا في طاعته أيضاً. أجيب بأنه لم يثق بهما. قوله: ﴿ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا ﴾ أي احكم لنا بما نستحقه، واحكم لهم بما يستحقونه، وكان الأمر كذلك، فصار التيه رحمة لموسى وهارون، وعذاباً على بني إسرائيل. قوله: ﴿ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ يصح أن يكون ظرفاً لقوله: ﴿ يَتِيهُونَ ﴾ وعلى هذا فهي محرمة عليهم أبداً لأنهم انقرضوا، وما دخلها إلا من لم يبلغ العشرين حيث الميثاق، وقيل ظرف لقوله: ﴿ مُحَرَّمَةٌ ﴾ وعلى هذا فالتحريم مقيد بتلك المدة، وقيل ظرف لهما معاً. قوله: (وهي تسعة فراسخ) أي عرضاً، وطولها ثلاثون فرسخاً. قوله: ﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ أي وذلك أنه ندم على دعائه عليهم، فقيل له لا تأس فإنهم أحق بذلك. قوله: (ومات هارون وموسى في التيه) ومات موسى بعد هارون بسنة، وقيل إن موسى هو الذي ملك الشام، وكان يوشع على مقدمته، وعاش فيها زمناً طويلاً، ومات ولم يعلم له قبر، وهما طريقتان: قيل إن موسى وهارون توجها إلى البرية، فمات هارون فدفنه أخوه موسى، ثم رجع إلى قومه فقالوا قتله لحبنا إياه، فتضرع موسى إلى ربه، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى هارون فإني باعثه، فانطلق بهم إلى قبره، فناداه هارون فخرج من قبره بنفض رأسه، قال: أنا قتلتك؟ قال: لا، ولكنني مت، قال: فعد إلى مضجعك. وروي أن موسى خرج ليقضي حاجته، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً أحسن منه، ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لِمَ تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد كريم على ربه، فقال: إن هذا العبد لمن الله بمنزلة ما رأيت كاليوم أحسن منه مضجعاً، فقالت الملائكة: يا صفي الله أتحب ان يكون لك؟ قال: وددت، قالوا فانزل واضطجع فيه وتوجّه إلى ربك، قال: فنزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه، ثم تنفس أسهل نفس، فقبض الله تعالى روحه، ثم سوت عليه الملائكة التراب، وقيل إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمّها فقبض الله روحه، ثم سوت عليه الملائكة التراب، وقيل إنه روي أن ملك الموت جاءه وقال له: أجب أمر ربك، فلطم موسى علين ملك الموت ففقأها، فقال ملك الموت: يا رب إنك أ { سلتني إلى عبد لا يرد الموت وفقد فقأ عيني، قال فرد الله تعالى عينه وقال له ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بكل شعرة سنة، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، قال: رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطور عند الكثيب الحمر. ورواية فقء عين ملك الموت متكلم فيها، وعلى فرض ورودها، ففقء عين الملك من خصوصيات موسى، لأن الملك لا تحكم عليه الصورة، ولا يقال إن هذا جناية حرام، لأننا نقول إن فقأ عين الصورة المتشكل فيها، لا الصورة الأصلية، وقصده بتلك الفعلة نهيه عن أن يأتي للمؤمن في صورة فظيعة، كما قرره أشياخنا قوله: (وكان رحمة لهما) أي وكذا يوشع وكالب، وذلك كنار إبراهيم، فإنها جعلت عليه برداً وسلاماً. قوله: (وعذاباً لأولئك) أي من حيث السير، وقد أنعم الله عليهم في التيه بنعم عظيمة، منها أنهم شكوا لموسى حالهم من الجوع والعري، فدعا الله تعالى فأنزل عليهم المن والسلوى، وأعطاهم من الكسوة ما يكفيهم كل واحد على مقدار هيئته، وشكوا له العطش، فأتى موسى بحجر من جبل الطور، فكان يضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عيناً، وشكوا الحر، فأرسل الله عليهم الغمام يظلمهم، وكان يطلع عمود من نور يضيء لهم بالليل ولا تطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليهم الغمام يظلهم، وكان يطلع عمود من نور يضيء لهم بالليل ولا تطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر، يطول بطوله ويتسع بقدره. قوله: (أن يدنيه) أي يقربه من الأرض المباركة، أي يدفن بقربها لكونها مطهرة مباركة، ويؤخذ من ذلك، أن الإنسان ينبغي له أن يتحرى الدفن في الأرض المباركة بقرب نبي أو ولي، وإنما لم يسأل الدفن فيها خوفاً من أن يعرف قبره فيفتتن به الناس. قوله: (بعد الأربعين) أي مدة التيه. قوله: (بمن بقي) أي وهم أولادهم الذين لم يبلغوا العشرين سنة حيث أخذ الميثاق. قوله: (وقاتلهم) روي أن الله نبأ يوشع بعد موت موسى، وأخبرهم أن الله قد أمرهم بقتال الجبابرة فصدقوه وبايعوه، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوق الميثاق، وأحاط بمدينة أريحا ستة أِهر، وفتحوها في الشهر السابع ودخلوها، فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها، وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فقال: الههم أردد الشمس علي، وقال للشمس: إنك في طاعة الله، وأنا في طاعة الله، فسأل الشمس أن تقف، والقمر أن يقيم، حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت، فردت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين، ثم تتبع ملوك الشام فقتل منهم إحدى وثلاثين ملكاً، حتى غلب على جميع أرض الشام، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرق عمالة في نواحيها، ثم مات يوشع ودفن بجبل إبراهيم، وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة، وتدبيره أمر بني إسرائيل بعد موت موسى سبعاً وعشرين سنة. قوله: (لم تحبس على بشر) أي قبل يوشع، وإلا فقد حبست لنبينا مرتين يوم الخندق، حين شغل هو وأصحابه عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فردها الله عليه حتى صلى العصر، وصبيحة ليلة الإسراء حين انتظر قدوم العير، وزيد في رواية مرة لعلي بن أبي طالب حين كان النبي نائماً على فخذه، ولم يكن صلى العصر، فلما استيقظ حتى غربت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم علياً في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس حتى يصلي العصر "قوله: (ليالي سار) أي أيام سيره، أي توجهه لقتالهم.
قوله: ﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ ﴾ معطوف على العامل المحذوف في قوله:﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ﴾عطف قصة على قصة، أي اذكر ما وقع من بني إسرائيل، واتل عليهم نبأ ابني آدم الخ. قوله: (على قومك) أي سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مشركين. قوله: (خبر) ﴿ ٱبْنَيْ ءَادَمَ ﴾ أي قصتهما وما وقع لهما. قوله: (هابيل) هو السعيد المقتول، وقابيل هو الشقي القاتل، وظاهر الآية أنهما من أولاد آدم لصلبه وهو التحقيق، ويؤيده قوله فيما يأتي، فبعث الله غراباً، وقيل لم يكونا لصلبه بل هما رجلان من بني إسرائيل، بدليل قوله في آخر القصة،﴿ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾[المائدة: ٣٢]، والأول هو الصحيح، وقابيل هو أول أولاده، وهابيل بعده بسنة، وكلاهما بعد هبوطه إلى الأرض بمائة سنة، وقيل إن قابيل هو وأخته ولدا في الجنة، ولم تر حواء لهما وحماً ولا وصباً ولا دم نفاس، وأما بقية أولاده فبالأرض، وذلا كان يفتخر قابيل على هابيل ويقول له: إني ابن الجنة وأنت ابن الأرض، فأنا خير منك، وحاصل ذلك أن حواء ولدت لآدم عشرين بطناً في كل بطن ذكر وأنثى، فصار الذكور عشرين والإناث كذلك، فلما قتل قابيل هابيل، نقصت الذكور عن الإناث فرزقه الله بشيت ومعناه هبة الله، فتماثل الذكور مع الإناث. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ الجار والمجرور ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقديره اتل تلاوة ملتبسة بالحق، أو حال من فاعل أتل عليهم حال كونك ملتبساً بالحق أي الصدق أو حال من المفعول وهو نبأ أي اتل نبأهما حال كونه ملتبساً بالحق، وكل صحيح، والمقصود من ذكر هذه القصص الأخبار بما في الكتب القديمة، لتقوم الحجة على أربابها وغيرهم، فالأخبار بها من جملة المعجزات. قوله: ﴿ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً ﴾ أي قرب كل واحد قرباناً، والقربان ما يقرب به إلى الله. وذلك أنه كان في شرع آدم، إذا كبر أولاده زوج ذكر هذه البطن لأنثى بطن أخرى، فأمره الله أن يزوج قابيل أخت هابيل وكانت دميمة، وهابيل أخت قابيل وكانت جميلة، فرضي هابيل وأبي قابيل، وقال: إنك تأمرنا برأيك لا من عند الله. فقال لهما: قرباً قرباناً، فأيكما تقبل منه فهو أحق بالجميلة، فذهب هابيل وأخذ كبشاً من أحسن غنمه وقربه، وذهب قابيل لصبرة قمح من أردأ ما عنده، وقيل قت رديء، حتى أنه وجد سنبلة جيدة ففركها وأكلها، وكان علامة قبول القربان نزول نار من السماء تحرقه، فنزلت على كبش هابيل فأحرقته، وقيل رفع إلى السماء حتى نزل فداء للذبيح ولم يتقبل من قابيل. قوله: (فغضب) أي لأمرين: فوزه بالجميلة وبقبول قربانه. قوله: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ أي ولم يكن عندك تقوى لعقوقك لأبيك، وعدم إخلاصك في القربان. قوله: ﴿ لِتَقْتُلَنِي ﴾ اللام للتعليل أي لأجل قتلي. قوله: ﴿ مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ ﴾ جواب للقسم لتقدمه، وحذف جواب الشرط لتأخره، قال ابن مالك: وَاحْذُفْ لَدَى اجْتِمَاع شَرْط وقَسَمٍ جَوَابَ مَا أَخرت فهُوَ مُلْتَزَموالباء في بباسط زائدة في خبر ما، على أنها حجازية، وفي خبر المبتدأ على أنها تميمية. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ ﴾ أي فالمانع لي من قتلك خوف الله، وكان في شرعهم لا يجب دفع الصائل بل يجب الاستسلام له، وما في شرعنا فعد الشافعي يسنّ الاستسلام للمسلم الصائل، ويجب قتل الكافر، وعند مالك دفع الصائل واجب ولو بالقتل مسلماً أو كافراً. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي ﴾ هذا تخويف من هابيل لقابيل لعله ينزجر. إن قلت: إنه لا تحل إرادة المعصية من الغير. أجيب بأجوبة منها: أن الهمزة محذوفة والاستفهام للإنكار. والأصل إني أريد، والمعنى لا أريد، ويؤيده هذا قراءة أني بفتح النون بمعنى كيف. ومنها: أن لا محذوفة أي أن لا تبوء على حد:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ ﴾[فاطر: ٤١].
قوله: (والذي ارتكبته) أي كالحسد ومخالفة أمر أبيه. قوله: ﴿ وَذَلِكَ ﴾ أي المذكور وهو النار. قوله: (زينت) أي سهلت عيه القتل. قوله: ﴿ فَقَتَلَهُ ﴾ قيل ملا قصد قتله لم يدر كيف يقتله، فتمثل له إبليس وقد أخذ طيراً فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر، وقابيل ينظر فتعلم القتل، فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو صابر، واختلف في موضع قتله، فقيل على عقبة حراء، وقيل بالبصرة عند مسجدها الأعظم. قوله: (فحمله على ظهره) أي في جراب، قيل أربعين يوماً وقيل سنة، روي لما قتل ابن آدم أخاه، رجفت بمن عليها سبعة أيام، وشربت الأرض دم المقتول كما تشرب الماء، فناداه الله: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ فقال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً، فقال الله له: إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟ فقال: فأين دمه إن كنت قتلته، فحرم الله على الأرض من يومئذٍ أن تتشرب دماً بعده أبداً. ويروى أنه لما قتل قابيل وهابيل كان آدم بمكة، فاشتاك الشجر أي ظهر له شوك، وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه، واغبرت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حادث، فلما رجع آدم سأل قابيل عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً، فقال: بل قتلته ولذلك اسود جلدك، فغضب عليه فذهب قابيل مطروداً، فأخذ أخته وهرب بها إلى عدن، فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت من النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار، فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت النار فهو أول من عبج النار، وكان قابيل لا يمر بأحد إلا رماه بالحجارة، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابنهن فقال ابن الأعمى لأبيه: هذا أبوك قابيل، فرماه بحجارة فقتله، فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك قابيل، فرفع الأعمى لأبيه: هذا أبوك قابيل، فرماه بحجارة فقتله، فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك قابيل، فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات، فقال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي، وابني بلطمتي، واستمرت ذرية قابيل يفسدون الأرض، إلى أن جاء طوفان نوح فأغرقهم جميعاً، فلم يبق منهم أحد ولله الحمد، وأبقى الله ذرية شيت إلى يوم القيامة، وما مات آدم حتى رأى من ذريته أربعين ألفاً. قوله: (ويثيره على غراب ميت معه) أي بعد وضعه في الحفرة التي نبشها.
قوله: ﴿ قَالَ يَاوَيْلَتَا ﴾ كلمة تحسر، والألف بدل من ياء المتكلم، أي هذا أوانك فاحضري. قوله: ﴿ أَعَجَزْتُ ﴾ تعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب. قوله: ﴿ فَأَصْبَحَ ﴾ أي صار من النادمين على حمله، أي أو على عدم اهتدائه للدفن أولاً، فلا يقال إن الندم توبة، فيقتضي أنه تاب فلا يخلد في النار. قوله: (الذي فعله قابيل) أي من الفساد. قوله: ﴿ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ إنما خصهم بالذكر، وإن كان القصاص في كل ملة، لأن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة، أقدموا على قتل الأنبياء والأولياء، وذلك يدل على قسوة قلوبهم. قوله: ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا ﴾ أي تسبب في بقائها، إما بنهي قاتلها عن قتلها، أو بإطعامها وحفظها من الأسباب المهلكة. قوله: (أي من حيث انتهاك حرمتها) أي النفوس المقتولة، ولذا ورد في الحديث: " من سنّ سنة حسن فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فقابل عليه وزر كل من وقع منه القتل من بني آدم لتسببه في ذلك، فإنه أول من وقع منه القتل. قوله: (ونزل) وجه المناسبة بينها وبين قصة ابني آدم ظاهرة، لأن قابيل قتل وأفسد في الأرض هو وذريته. قوله: (في العرنيين) جمع عرني نسبة لعرينة قبيلة من العرب، كجهني نسبة لجهينة، وكانوا ثمانية رجال قدموا المدينة وأظهروا الإسلام وكانوا مرضى، فاشتكوا له صلى الله عليه وسلم من مرضهم، فأمرهم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وكانت خمسة عشر ترعى في الجبل مع عتيق للمصطفى يقال له يسار النوبي، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام، فقد وقع منهم المحاربة والقتل والسرقة والارتداد، فبلغ رسول الله خبرهم، فأرسل خلفهم نحو عشرين فارساً، فأتوا بهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم أي كحلهم بالنار، وتركهم بالحرة يعضون الحجارة ويستقون فلم يسقهم أحد. إن قلت: تسمير الأعين وموتهم بالجوع والعطش مثلة ورسول الله نهى عنها. أجيب بأجوبة منها: أنهوا فعلوا بالراعي كذلك، ومنها أن ذلك خصوصية له صلى الله عليه وسلم فيهم، ومنها أن ذلك كان جائزاً ثم نسخ. قوله: (ويشربوا من أبوالها) أخذ مالك من ذلك طهارة فضله مأكول اللحم. قوله: (بمحاربة المسلمين) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف تقديره يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون، وأفاد به أن هذا الأمر مستمر إلى يوم القيامة.
قوله: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ هذا تصوير للمحاربة، وقوله: ﴿ فَسَاداً ﴾ مفعول لأجله، أي يسعون لأجل الفساد. قوله: (بقطع الطريق) أي لأخذ المال أو هتك الحريم أو قتل النفوس. قوله: ﴿ أَن يُقَتَّلُوۤاْ ﴾ أي من غير صلب، وقوله: ﴿ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ ﴾ أي مع القتل في محل مشهور لزجر غيره، والتفعيل للتكثير لكثرة المحاربين. قوله: ﴿ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾ أي إلى مسافة القصر فما فوقها. قوله: (أو لترتيب الأحوال) أي التقسيم فيها، والمعنى أن هذه العقوبات على حسب أحوال المحاربين، وبيّن المفسر ذلك، قال بعض العلماء أوفى جميع القرآن للتخيير إلا هذه الآية. قوله: (وعليه الشافعي) أي موافقاً في الاجتهاد لابن عباس لا مقلداً له، وعند مالك أو على بابها للتخيير لكن بحسب ما يراه الحاكم، فحدد المحارب أربعة لا يجوز الخروج عنها، وإنما الإمام مخير في فعل أيها شاء بالمحارب ما لم يقتل المحارب مسلماً مكافئاً ولم يعف وليه فإنه يتعين قتله، فإن عفا الولي رجع التخيير للإمام، فما أوجبه الشافعي استحسنه مالك للإمام وجاز غيره، مثلاً يجب على الإمام قتل القاتل، ولا يجوز غيره من الصلب والقطع من خلاف الشافعي، واستحسنه مالك للإمام ويجوز غيره من الحدود. قوله: (إن الصلب ثلاثاً) أي لا أقل إلا أن يخاف التغيير، وقيل يطال به حتى ينقطع جسده. قوله: (وقيل قبله قليلاً) أي بحيث يحصل الزجر به، وهذا مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وعليه فقتل وهو مصلوب. قوله: (ويلحق بالنفي ما أشبهه) أي لأن المقصود من النفي البعد عن الخلق، وذلك كما يحصل بإبعاده من الأرض التي هو بها يحصل بحبسه، ولو في الأرض التي هو بها، وهذا مذهب الشافعي ووافقه أبو حنيفة، وقال مالك النفي إبعاده من الأرض على مسافة القصر، ولا يكفي حبسه بأرضه. قوله: ﴿ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، ولهم خبر مقدم، وخزي مبتدأ مؤخر، والجملة خبر المبتدأ، و ﴿ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ صفة الخزي، وهذا أحسن الأعاريب. قوله: ﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ هذا محمول على من مات كافراً، وأما حدود المسلمين فالمعتمد أنها جوابر. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ استثناء منقطع أي لكن التائب يغفر له. قوله: (ليفيد إنه لا يسقط الخ) حاصل ذلك أنه إن كان كافراً أو تاب، سقطت عنه جميع التبعات حدوداً أو غيرها، وأما إن كان مسلماً سقط عنه حقوق الله لا حقوق الآدميين، مثلاً إن قتل وجاء تائباً، فالنظر للولي إن شاء عفا وإن شاء اقتص. قوله: (كذا ظهر لي) أي فهمه من الآية، وقوله: (ولم أر من تعرض له) أي من المفسرين وإن كان مذكوراً في كتب الفقه. قوله: (يقتل ويقطع) هذا سبق قلم والمناسب حذف قوله ويقطع، والحاصل عند الشافعي أنه إذا قتل وتاب، فإن عفا الولي سقط القتل وإلا فيقتل فقط، وأما وأما إن كان أخذ المال وتاب، فإنه يؤخذ منه المال ولا يقطع، خلافاً لما ذكره المفسر من أنه إذا قتل وأخذ المال ثم تاب فإنه يجمع له بين القتل والقطع، وإنما المنفي عنه الصلب، وما ذكرناه من المعتمد عند الشافعي يوافقه مالك. قوله: (وهو أصح قولي الشافعي) أي ومقابله أنه يصلب.
قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ لما ذكر سبحانه وتعالى أن التوبة من الذنوب نافعة، وكانت التوبة من جملة التقوى حث على طلبها هنا. قوله: ﴿ إِلَيهِ ﴾ متعلق بابتغوا. قوله: (ما يقربكم إليه) أي يوصلكم إليه، وقوله: (من طاعته) بيان لما، سواء كانت تلك الطاعة فرضاً أو نقلاً لما في الحديث: " وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به " الحديث. فالتقوى هنا ترك المخالفات، وابتغاء الوسيلة فعل المأمورات، ويصحّ أن المراد بالتقوى امتثال المأمورات الواجبة وترك المنهيات المحرمة، وابتغاء الوسيلة ما يقربه إليه مطلقاً، ومن جملة ذلك: محبة أنبياء الله وأوليائه، والصدقات، وزيارة أحباب الله، وكثرة الدعاء، وصلة الرحم، وكثرة الذكر وغير ذلك، فالمعنى كل ما يقربكم إلى الله فألزموه، واتركوا ما يبعدكم عنه، إذا علمت ذلك، فمن الضلال البين والخسران الظاهر، تكفير المسلمين بزيارة أولياء الله، زاعمين أن زيارتهن من عبادة غير الله، كلا بل هي من جملة المحبة في الله التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا لا إيمان لمن لا محبة له والوسيلة له التي قال الله فيها وابتغوا إليه الوسيلة ". قوله: ﴿ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ﴾ عطف خاص على عام، إشارة إلى أن الجهاد من أعظم الطاعات، وهو قسمان: أصغر وهو قتال المشركين، وأكبر وهو الخروج عن الهوى والنفس والشيطان، وكان قتال المشركين جهاداً أصغر لأنه يحضر تارة ويغيب أخرى، وإذا قتلك الكافر كنت شهيداً، وإن قتلته صرت سعيداً، بخلاف النفس فلا تغيب عنك وإذا قتلتك صرت من الأشقياء، نسأل الله السلامة. قوله: (تفوزون) أي تظفرون بسعادة الدارين. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هذا كالدليل لما قبله، كأن الله يقول الزموا التقوى ليحصل لكم الفوز، لأن من لم تكن عنده التقوى كالكفار، لا ينفعه الفداء من العذاب الخ. قوله: ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ﴾ لو شرطية، وفعل الشرط محذوف قدره المفسر بقوله: (ثبت) ﴿ أَنَّ ﴾ وما دخلت عليه فاعل ثبت، و ﴿ لَهُمْ ﴾ خبر أن مقدم، و ﴿ مَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ اسمها مؤخر، و ﴿ جَمِيعاً ﴾ توكيد له أو حال منه، و ﴿ مِثْلَهُ ﴾ معطوف على اسم ﴿ أَنَّ ﴾ وقوله: ﴿ لِيَفْتَدُواْ ﴾ علة له، وقوله: ﴿ بِهِ ﴾ أي بما ذكر وهو ﴿ مَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ ومثله أو حذفه من الأول لدلالة الثاني عليه على حد: فإني وقيار بها لغريب، والتقدير لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ليفتدوا به، ومثله معه ليفتدوا به، وقوله: ﴿ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ﴾ جواب الشرط، و ﴿ لَوْ ﴾ مع مدخولها في محل رفع خبر أن الأولى. والمعنى لو ثبت أن للكفار ما في الأرض جميعاً، ومثله معه، ويريدون الافتداء بذلك من العذاب ما نفعهم ذلك، وهو كناية عن عدم قبولهم، وعدم نفع عز الدنيا لهم. قوله: (يتمنون) أي حيث يقولون يا مالك ليقض علينا ربك. قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ دفع بذلك ما يتوهم من قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أنه ربما ينقطع.
قوله: ﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ ﴾ جمهور القراء على الرفع على الابتداء، ولا يصح النصب على الاشتغال، لأن ما بعد فاء الجزاء لا يعمل فيما قبلها، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً، وهذه الفاء تشبه فاء الجزاء، وصرح بالسارقة لكون السرقة معهودة منهن أيضاً، وقدم سبحانه وتعالى السارق على السارقة هنا، وقدم الزانية على الزاني في سورة النور، لأن الرجال في السرقة أقوى من النساء، والزنا من النساء أقوى من الرجال. قوله: (أل فيهما موصولة) أي وصلتها الصفة الصريحة، أي الذي سرق والتي سرقت. قوله: (مبتدأ) أي وهو مرفوع بضمة ظاهرة، لأن إعرابهما ظهر فيما بعدها. قوله: (دخلت الفاء في خبره وهو) ﴿ فَٱقْطَعُوۤاْ ﴾ أي فجملة ﴿ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ خبر المبتدأ، ولا يضر كونه جملة طلبية على المعتمد، وقيل الخبر محذوف وتقديره مما يتلى عليكم حكمهما، وما بعد الفاء تفصيل له. قوله: (ربع دينار) أي أو ثلاثة دراهم شرعية، أو مقوم بهما، ويشترط في القطع إخراجه من حرز مثله، غير مأذون له في دخوله، ويثبت القطع ببينة أو بإقراره طائعاً، فإن أقر ثم رجع لزمه المال دون القطع، فإن سرق ولم تثبت عليه السرقة، وجب عليه الستر على نفسه ورد المال والتوبة منه، وكذا كل معصية، فمن الجهل قول بعض من يدعي التصوف: لو اطلعتم علي لرجمتموني، وبالجملة من ستر على نفسه ستره الله. قوله: (نصب على المصدر) أي والعامل محذوف تقديره جازاه الله جزاء، ويصح أن يكون مفعولاً لأجله، أي اقطعوا أيديهما لأجل الجزاء، وقوله: ﴿ بِمَا كَسَبَا ﴾ الباء سببية أي بسبب كسبهما، وقوله: ﴿ نَكَالاً ﴾ علة للعلة فالعامل فيه جزاء. قوله: (غالب على أمره) أي فلا معقب لحكمه، لأن القاهر على كل شيء. قوله: (حكيم) أي يضع الشيء في محله، فلا يحكم بقطع يده ظلماً لأن السارق لما خان هان، ولذا أورد بعض اليهود على القاضي عبد الوهاب البغدادي سؤالاً حيث: يَدٌ بِخَمْس مئين عَسْجَدٍ وديت مَا بَالَها قطعَت فِي رُبْعِ دِينارفأجابه رضي الله عنه بقوله: عِزُّ الأَمَانَةُ أَغْلاَهَا وَأَرْخَصَهَا ذلُّ الخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ البَارِيقوله: ﴿ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ ﴾ أي من بعد تعديه وأخذه المال وظلمه للناس. قوله: (في التعبير بهذا) أي قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ دون أن يقول فلا تحدوه. قوله: (وعليه الشافعي) أي وعند مالك فلا ينفع عفوه عنه مطلقاً قبل الرفع أو بعده، حيث ثبتت السرقة ببينة أو إقرار، ولم يرجع بل يقطع لأنه حق الله، وقوله: (قبل الرفع) أي وأما بعده فلا بد من قطعه اتفاقاً. قوله: ﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي إن لم يتب فالميت المصر على الذنب تحت المشيئة خلافاً للمعتزلة. قوله: (ومن التعذيب والمغفرة) أي من الشيء المقدور عليه.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ ﴾ أل للعهد الحضوري، أي الرسول الحاضر وقت نزول القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يخاطب بيا أيها الرسول إلا في موضعين هذا وما يأتي في هذه السورة. قوله: ﴿ لاَ يَحْزُنكَ ﴾ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والمقصود نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن الناشئ عن مسارعتهم إلى الكفر، رفقاً وتسلية له. قوله: (إذا وجدوا فرصة) أي زمناً يتمكنون فيه من الظفر بمطلوبهم، فالكفر حاصل منهم على كل حال، غير أنهم إذا وجدوا زمناً أو مكاناً يتمكنون فيه من إظهار فعلوا قال تعالى:﴿ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾[آل عمران: ١١٨] قوله: ﴿ مِنَ ﴾ (للبيان) أي لقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ ﴾ على حد:﴿ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ ﴾[الحج: ٣٠].
قوله: (متعلق بقالوا) أي لا بآمنا، والمعنى أن إيمانهم لم يجاوز أفواههم، وقوله: ﴿ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ الجملة حالية. قوله: (وهم المنافقون) أي ويسمون الآن زنادقة. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ يحتمل أنه معطوف على ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ فيكون بياناً للذين يسارعون في الكفر أيضاً وهو الأقرب، وعليه فقوله: ﴿ سَمَّاعُونَ ﴾ حال من الذين ﴿ هَادُواْ ﴾ ويحتمل أنه خبر مقدم، وقوله: ﴿ سَمَّاعُونَ ﴾ صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ المؤخر، فيكون كلاماً مستأنفاً، وقد مشى عليه المفسر، وعلى كل فقوله: ﴿ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ الخ راجع للفريقين. قوله: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ أي من أحبارهم، وسبب نزولها" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وقع بينه وبين قريظة صلح، فصاروا يترددون عليه، وبينه وبين يهود خيبر حرب، فاتفق أنه زنى منهم محصنان شريف بشريفة، فأفتوهم الأحبار بأنهما يجلدان مائة سوط، ويسودان بالفحم، ويركبان على حمار مقلوبين، ثم إنهم بعثوا قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن ذلك، وقالوا لهم: إن قال لكم مثل ذلك فهو صادق، وقوله حجة لنا عند ربنا، وإلا فهو كذاب. فأتوه فأخبرهم بأنهما يرجمان، وفي التوراة كذلك، فقالوا إن أحبارنا أخبرونا بأنهما يجلدان، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تعرفون شاباً أبيض أعور يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما في التوراة، قال: فأرسلوا إليه فأحضروه، ففعلوا فأتاهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت ابن صوريا؟ قال: نعم، قال: وأنت أعلم اليهود؟ قال: كذلك يزعمون، قال النبي: أترضون به حكماً؟ قالوا: نعم، قال النبي: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون؛ هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال: نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: أنا خفت إن كذبت ينزل علينا العذاب، ثم سأل النبي عن أشياء كان يعرفها من أعلامه، فأجابه عنها فأسلم، وأمر النبي بالزانيين فرجما عند باب المسجد. هكذا ذكر شيخنا الشيخ الجمل عن أبي السعود ولم نرها فيه، ولكن تقدم لنا أن ابن صوريا أتى بالتوراة وقرأ ما قبل آية الرجم وما بعدها ووضع يده عليها ولم يقرأها، فنبهه عليها عبد الله بن سلام فافتضح هو وأصحابه "، فلعلهما روايتان في إسلامه وعدمه. قوله: (أي يبدلونه) أي بأن يضعوا مكانه غيره. قوله: ﴿ يَقُولُونَ ﴾ أي يهود خيبر، وقوله: (لمن أرسلوهم) أي وهم يقظة، قوله: (الحكم المحرف) أي في الواقع وليس المراد أنهم يقولون لهم ذلك، بل التحريف واقع من الأحبار سراً. قوله: ﴿ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾ فيه رد على المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعال نفسه. قوله: (ذل بالفضيحة) أي للمنافقين بظهور نفاقهم بين المسلمين، وقوله: (والجزية) أي لليهود. قوله: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هم وكرره تأكيداً. قوله: (بضم الحاء وسكونها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وسمي سحتاً لأنه يسحت البركة أي يمحقها ويذهبها. قوله: (كالرشا) أي والربا. قوله: ﴿ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ أي بأن تردهم لأهل دينهم. قوله: (منسوخ الخ) وليس في هذه السورة منسوخ إلا هذا، وقوله:﴿ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾[المائدة: ٢].
قوله: (وهو أصح قولي الشافعي) أي ومقابله التخيير باق وليس بمنسوخ، وهو مشهور مذهب مالك. قوله: (مع مسلم) أي بأن كانت الدعوى بين مسلم وكافر. قوله: (وجب إجماعاً) أي بإجماع الأئمة. قوله: ﴿ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ﴾ أي لأن الله عاصمك وحافظك من الناس. قوله: ﴿ وَعِنْدَهُمُ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ ٱلتَّوْرَاةُ ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة حال من الواو في ﴿ يُحَكِّمُونَكَ ﴾.
قوله: (استفهام تعجيب) أي إيقاع للمخاطب في العجب. قوله: (بل ما هو أهون عليهم) أي وهو الجلد. قوله: ﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي لا بكتابهم لإعراضهم عنه وتحريفه، ولا بك لعدم الانقياد لك في أحكامك.
قوله: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان فضل التوراة، وأنها كتاب عظيم كله هدى ونور. قوله: ﴿ فِيهَا هُدًى ﴾ أي لمن أراد الله هدايته، وأنا من أراد الله شقاوته فلا تنفعه التوراة ولا غيرها، قال البوصيري: وإذا ضلت العقول على علـ ـم فماذا تقوله النصحاءقوله: ﴿ وَنُورٌ ﴾ في الكلام استعارة مصرحة، حيث شبهت الأحكام بالنور بجامع الاهتداء في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وحيث أريد بالنور الأحكام، فالمراد بالهدى التوحيد، فالعطف مغاير. قوله: ﴿ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ﴾ كلام مستأنف لبيان المنتفع بالتوراة، وهم الأنبياء والعلماء والمراد بالأنبياء ما يشمل المرسلين، فحكم المرسلين ظاهر، وحكم الأنبياء بالقضاء لا على أنها شرع لهم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ أي كمل إسلامهم، وهو وصف كاشف، لأن كل نبي منقاد لله، وحكمة الوصف بذلك التعريض باليهود، حيث افتخروا بأصولهم ولم يسلموا، بل حرفوا التوراة وبدلوها. قوله: ﴿ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ اللام للاختصاص، أي أحكام التوراة مختصة بالذين هادوا، أعم من أن تكون أحكاماً لهم أو عليهم. قوله: ﴿ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ ﴾ معطوف على ﴿ ٱلنَّبِيُّونَ ﴾.
قوله: (العلماء منهم) وقيل الزهاد، وقيل الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذا لا ينافي كلام المفسر، بل يقال سموا ربانيين لكونهم منسوبين للرب لزهدهم ما سواه، أو للتربية لكونهم يربون الخلق. قوله: ﴿ وَٱلأَحْبَارُ ﴾ جمع حبر بالفتح والكسر، وأما المداد فبالكسر لا غير من التحبير وهو التحسين، يقال حبره إذا حسنه، سموا بذلك لأنهم يزينون الكلام وبحسنونه، وهو عطف على النبيون أيضاً، وقد وسط بين المعطوفات الذين هم الحكام بالمحكوم لهم، وذكر الأحبار بعد الربانيين من ذكر العام بعد الخاص، لأن الحبر العالم كان ربانياً أو لا. قوله: (أي بسبب الذي) أشار بذلك إلى أن الباء سببية، وما اسم موصول بمعنى الذي، والعائد محذوف أي بسبب الذي استحفظوه، وفاعل الحفظ هو الله أي بسبب الشرع الذي أمرهم الله بحفظه، وقوله: ﴿ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ بيان لما فالأنبياء والعلماء أمناء الله على خلقه، يحكمون بين الناس بأحكام الله التي عملها الله لهم، ومن لم يحكم بذلك فقد خان الله في أمانته وكذب على ربه، فحينئذٍ يستحق الوعيد. قوله: ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ ﴾ تفريع على قوله: ﴿ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ ﴾ والخطاب لعلماء اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم. قوله: (وغيرهما) أي كقوله تعالى:﴿ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ ﴾[المائدة: ٤٥] فغيروها وقالوا ما لم يكن القاتل شريفاً وإلا فلا يقتل بالوضيع. قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ نزلت في بتي قريظة وبني النضير، فكان الواحد من بني النضير إذا قتل واحداً من قريظة أدى إليهم نصف الدية، وإذا قتل الواحد من قريظة واحداً من بني النضير أدى إليهم الدية كاملة، فغيروا حكم الله الذي أنزله في التوراة، وكل آية وردت في الكفار تجرّ بذيلها على عصاة المؤمنين.
قوله: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ ﴾ هذا شرع من قبلنا وهو شرع لنا ولم يرد ما ينسخه، ففي هذه الآية دليل لمذهب مالك حيث قال: شرع من قبلنا شرع لنا ما لا يرد ناسخ. قوله: ﴿ أَنَّ ٱلنَّفْسَ ﴾ أن حرف توكيد ونصب، والنفس اسمها، وقوله: ﴿ بِٱلنَّفْسِ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر أن، قدره المفسر بقوله: (تقتل) وهو حل معنى لا حل إعراب، لأن الخبر يقدر كوناً عاماً لا خاصاً، فالمناسب تقديره تؤخذ ليصلح للجميع، والجملة من أن واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية بكتبنا، واعلم أنه قرئ بنصب الجميع وهو ظاهر لأنه معطوف على اسم أن، وقرئ برفع الأربعة مبتدأ وخبر معطوف على جملة أن واسمها وخبرها ويؤول كتبنا بقلنا، فالجمل كلها في محل نصب مقول القول وهو الأحسن، وقرئ بنصب الجميع ما عدا الجروح فبالرفع مبتدأ وخبر معطوف على أن واسمها وخبرها. قوله: ﴿ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ ﴾ بضم الذال وسكونها قراءتان سبعيتان. قوله: (بالوجهين) أي الرفع والنصب عند نصب الجميع، وأما عند رفع ما قبله فبالرفع لا غير. قوله: (وما لا يمكن) ما اسم موصول مبتدأ، وقوله: (فيه الحكومة) أي بأن يقدر رقيقاً سالماً من العيوب، ثم ينظر لما نقصه فيؤخذ بنسبته من الدية، وظاهر المفسر أن كل ما لا يمكن فيه القصاص فيه الحكومة ولعله مذهبه، وإلا فمذهب مالك الحكومة في كل ما لم يرد فيه شيء مقرر في الخطأ، وإلا ففيه ما قرر في الخطأ كرض الأنثيين وكسر الصلب ففيه الدية كاملة، وفي نحو الجائفة والآمة ثلثها على ما هو مبين في المذاهب. قوله: (بأن مكن) أي القاتل من نفسه للقصاص، ويحتمل أن المعنى فمن تصدق به أي القصاص بأن عفا الولي عن القاتل فهو كفارة لما عليه من الذنوب، والحاصل أن القاتل تعلق له ثلاث حقوق: حق لله وحق للولي وحق للمقتول، فإن سلم القاتل نفسه طوعاً تائباً سقط حق الولي ويرضي الله المقتول من عنده، وأما إن أخذ القاتل كرهاً وقتل من غير توبة فقد سقط حق الولي وبقي حق الله وحق المقتول، هكذا ذكره ابن القيم وهو مبني على أن الحدود زواجر، أما على ما مشى عليه مالك من أن الحدود جوابر، فمتى قتل ولو من غير توبة فقط سقطت الحقوق كلها، لأن السيف يجب ما قبله. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي لمخالفة شرع الله مع عدم استحلاله لذلك، وعبر فيما تقدم بالكافرون لتبديلهم وتغييرهم ما أنزل الله واستحلالهم لذلك.
قوله: ﴿ وَقَفَّيْنَا ﴾ شروع في ذكر ما يتعلق بفضل عيسى وكتابه، بعد ذلك فضل موسى وكتابه، وقفينا من التفقيه وهي الإتيان في القفا، ومعناه العقب، وقد ضمن قفينا معنى جئنا فلا يقال يلزم عليه أن التضعيف كالهمزة، فمقتضاه أن يتعدّى لمفعولين، بأن يقال مثلاً وقفيناهم عيسى. قوله: (أتبعنا) أي جئنا بعيسى تابعاً لآثارهم. قوله: (أي النبيين) أي المتقدم ذكرهم في قوله يحكم بها النبيون، فالأنبياء الذين بين موسى وعيسى يعملون بالتوراة ويحكمون بها بين الناس، فلما جاء عيسى نسخ العمل بالتوراة، وصار الحكم للإنجيل قوله: ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ حال من عيسى، وقوله: ﴿ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ ﴾ بيان لما. قوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ ﴾ معطوف على قفينا. قوله: ﴿ فِيهِ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ هُدًى ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿ وَنُورٌ ﴾ معطوف عليه، والجملة حال من الإنجيل، والمراد بالهدى التوحيد، وبالنور الأحكام، فالعطف مغاير. قوله: ﴿ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي معترفاً بأنها من عند الله وإن نسخت أحكامها، لأن الله سبحانه وتعالى كلف أمة كل عصر بأحكام تناسبها، فالنسخ في الأحكام الفرعية لا الأصول، كالتوحيد فلا نسخ فيه، بل ما كان عليه آدم من التوحيد، هو ما عليه باقي الأنبياء. قوله: ﴿ وَهُدًى ﴾ أي ذو هدى، أو يولغ فيه حتى جعل نفس الهدى مبالغة، على حد زيد عدل، وعبر أولاً بقوله فيه هدى وثانياً بقوله وهدى مبالغة. قوله: ﴿ وَمَوْعِظَةً ﴾ أي أحكام يتعظون بها، والحكمة في زيادة الموعظة في الإنجيل دون التوراة، لأن التوراة كان فيها الأحكام الشرعية فقط، وإنما المواعظ كانت في الألواح وقد تكسرت، وأما الإنجيل فهو مشتمل على الأحكام والمواعظ. قوله: ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ خصهم لأنهم المنتفعون بذلك. قوله: ﴿ وَ ﴾ (قلنا) قدره المفسر إشارة إلى أن الواو حرف عطف، والمعطوف محذوف، وقوله: ﴿ لْيَحْكُمْ ﴾ اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها، والجملة مقول القول، والمحذوف معطوف على آتينا، والمعنى آتينا عيسى ابن مريم الإنجيل وأمرناه ومن تبعه بالحكم به. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (بنصب يحكم) أي بأن مضمرة بعد لام كي. قوله: (عطفاً على معمول آتيناه) فيه شيء لأنه إن أراد معموله الذي هو الإنجيل فهو غير ظاهر، وإن أراد معموله الذي هو قوله هدى وموعظة، والمعنى آتيناه الإنجيل لأجل الهدى والموعظة، ولحكم أهل الإنجيل فهو صعب التركيب، والحسن أن قوله ليحكم متعلق بمحذوف، والواو للاستئناف، والمعنى وآتيناه ذلك ليحكم. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ عبر بالفسق هنا لأنه خروج عن أمره تعالى وطاعته، لأنه تقدمه أمر وهو قوله ليحكم، وفي الحقيقة الفسق يرجع للظلم لأنه مخالفة الأمر، فتعبيره بالظلم أولاً، وبالفسق ثانياً تفنن.
قوله: ﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ﴾ معطوف على أنزلنا التوراة. قوله: (متعلق بأنزلنا) المناسب أن يقول متعلق بمحذوف حال من الكتاب، وقوله: ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ حال ﴿ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أيضاً. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ بيان لما وأل في الكتاب للجنس، فيشمل جميع الكتب السماوية. قوله: ﴿ وَمُهَيْمِناً ﴾ المهيمن معناه الحاضر الرقيب، فالقرآن شاهد على سائر الكتب، وعلى من آمن من أصحابها ومن كفر. قوله: (والكتاب بمعنى الكتب) أي فأل للجنس. قوله: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ الخطاب للنبي والمراد غيره، والمعنى لا يميل الحاكم بين الناس لأهوائهم بأن يحكم بها ويترك ما أنزل الله. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ بيان لما. قوله: (أيها الأمم) أي من لدن آدم إلى محمد، فكل أمة لها شرع مختص بها، والاختلاف إنما هو في الفروع لا الأصول، فكل ما ورد دالاً على اختلاف الشرائع كهذه الآية، فباعتبار الفروع وما ورد دالاً على الاتحاد، كقوله:﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً ﴾[الشورى: ١٣] وقوله:﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ ﴾[الأنعام: ٩٠] فمحمول على الأصول، قوله: ﴿ شِرْعَةً ﴾ أي أحكاماً شرعها وبيَّنها للتعبد بها، والشريعة في كلام العرب مورد الماء الذي يقصد للشرب منه، استعير للطريقة الإلهية، قال بعضهم: للشريعة والمنهاج عبارة عن معنى واحد، التكرار للتأكيد. قوله: ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي جماعة متفقة على دين واحد من غير نسخ. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ ﴾ هذا هو حكمة تفرق الشرائع في الفروع. قوله: (لينظر المطيع) أي ليظهر أمر المطيع من العاصي. قوله: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾ أي بادروا إلى وجوه البر والطاعات قوله: (جميعاً) حال من الكاف في مرجعكم، ولا يقال هو حال من المضاف إليه وهو لا يجوز، لأنه يقال المضاف مقتض للعمل في المضاف إليه، قال ابن مالك: وَلاَ تَجْزِ حَالاً مِنَ المُضَافِ لَهُ إلاَّ إذَا اقْتَضَى المُضَافُ عَمَلَهُقوله: ﴿ فَيُنَبِّئُكُم ﴾ أي يخبركم بالذي كنتم تختلفون فيه، فيترتب على ذلك الثواب للمطيع والعقاب للعاصي.
قوله: ﴿ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ ﴾ الواو حرف عطف، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر معطوف على الكتاب، التقدير وأنزلنا إليك الكتاب والحكم والفعل وإن كان أمراً لفظاً، إلا أنه في معنى المضارع ليفيد استمرار الحكم، وليس هذا مكرراً مع قوله فاحكم بينهم بما أنزل الله، لأن ما تقدم في شأن رجم المحصنين، وما هنا في شأن الدماء والديات، لأن سبب نزولها، أن بني النضير أعطوهم مائة وأربعين وسقاً، فقال لهم رسول الله: " أنا أحكم أن آدم القرظي كدم النضري، ليس لأحدهم فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة "، فغضب بنو النضير وقالوا لا نرضى بحكمك فإنك تريد صغارنا. قوله: ﴿ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ﴾ سبب نزولها، أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك، فاقض لنا عليهم نؤمن بك ونصدقك، فأبى رسول الله، فنزلت الآية، وقوله: ﴿ أَن يَفْتِنُوكَ ﴾ مفعول لأجله على تقدير لام العلة ولا النافية، وهو ما مشى عليه المفسر، ويحتمل أنه بدل اشتمال من الهاء في احذرهم، والمعنى احذرهم فتنتهم، والخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره لعصمته من الفتنة. قوله: ﴿ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ أي لا بجميعها، فعقابهم في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء، إنما هو ببعض ذنوبهم، وأما في الآخرة فيجازيهم على الجميع كما قال المفسر، لأن العذاب المنقضي وإن طال لا يكفي جزاء لذنوب الكافر جميعها، كما أن نعيم الدنيا وإن كثر ليس جزاء لأعمال المؤمن الصالحة، وإن عذب في الدنيا بمرض أو غيره، فهو جزاء لأعمال المؤمن السيئة، والنعيم في الدنيا للكافر قد يكون جزاء لما عمل من الصالحات كالصدقات مثلاً. قوله: (ومنها التولي) أي الإعراض عن حكمه صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ أي خارجون عن دائرة الحق، وتقدم أن بعث النار من كل ألف واحد ناج، والباقي خارج عن حدود الله، والمعنى تسل يا محمد فإن الغالب في الناس الفسق، فلا خصوصية لليهود بذلك. قوله: ﴿ أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أيتولون عند فيبتغون حكم الجاهلية، فحكم مفعول ليبغون. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (استفهام إنكاري) أي فهو بمعنى النفي، والمعنى لا يبغون حكم الجاهلية منك على سبيل الظفر به لعصمتك. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والآية كالدليل لما قبلها. قوله: (عند قوم) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى عند. قوله: ﴿ بِهِ ﴾ قدره إشارة إلى أن مفعول يوقنون محذوف، والضمير عائد على حكم الله. قوله: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ﴾ الخ، النهي لكل من أظهر الإيمان وإن كان في الباطن خالياً من الإيمان، وسبب نزولها" أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين اختصما فقال عبادة إن لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود ولا مولى لي إلا الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي إني لا أبرأ من ولاية اليهود، فإني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت هو لك دونه "، فقال إذاً أقبل "فنزلت، واتخذ بنصب مفعولين: اليهود والنصارى مفعول أول، وأولياء مفعول ثان. قوله: ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ جملة مستأنفة، والمعنى بعض كل فريق أولياء البعض الآخر من ذلك الفريق، لأن بين اليهود والنصارى العداوة الكبرى. قوله: ﴿ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ أي لأنه لا يوالي أحد أحداً إلا وهو عنه راض، فإذا رضي عنه وعن جينه صار من أهل ملته، وأما معاملتهم مع كراهتهم فلا ضرر في ذلك. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ علة لكون من يواليهم منهم. قوله: (كعبد الله بن أبي) أي وأصحابه. قوله: (معتذرين عنها) أي الموالاة.
قوله: ﴿ دَآئِرَةٌ ﴾ أي أمر مكروه، فالدوائر هي حوادث الدهر وشروره، والدولة هي العز والنصر، فالمؤمن لا ينتظر إلا الدولة لا الدائرة. قوله: (أو غلبة) أي للكفار على المسلمين. قوله: (فلا يميرونا) أي يعطونا الميرة وهي الطعام. قوله: (قال تعالى) أي رداً لقول المنافقين: ﴿ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾ وبشارة للمؤمنين لاعتقادهم أن الله ناصرهم، ففي الحديث: " أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما يشاء ". قوله: ﴿ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾ أو مانعة خلو تجوز الجمع، وقد حصل الأمران معاً، فقد روي أن رسول الله أمر وهو على المنبر بإخراجهم من المسجد واحداً واحداً، ونزلت سورة براءة بفضيحتهم وذمهم ظاهراً وباطناً، ولذا تسمى الفاضحة وعسى وإن كانت للترجي إلا أنها في كلام الله للتحقيق، لأن كلامه موافق لعلمه وهو لا يتخلف. قوله: ﴿ فَيُصْبِحُواْ ﴾ عطف على يأتي، وفاء للسببية مغنية عن الربط. قوله: ﴿ نَادِمِينَ ﴾ أي على تخلف مرادهم وحسرتهم، من أجل نصر محمد وأصحابه، وخذلان الكفار، وليس المراد نادمين على ما تقدم منهم من الذنوب، تائبين من ذلك، وإلا فيكون حينئذٍ ندماً محموداً لغلبة رحمة الله على غضبه. قوله: (بالرفع استئنافاً) أي نحوياً أو بيانياً واقعاً في جواب سؤال مقدر تقديره ماذا يقول المؤمنون حينئذٍ بناء على جواز اقتران البياني بالواو، وأما على قراءة عدم الواو فيكون بيانياً لا غير قوله: (عطفاً على يأتي) أي مسلط عليه عسى، والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح.
ويقول: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ تعجباً من كذب المنافقين، هكذا ذكر المفسر، والمناسب أن يقول عطفاً على فيصبحوا، لأنه نتيجة ما قبله، لأن تعجب المؤمنين ناشئ عن الفتح لهم والفضيحة للمنافقين. قوله: ﴿ أَهُـۤؤُلاۤءِ ﴾ الهمزة للاستفهام التعجبي، والهاء للتنبيه، وأولاء اسم إشارة مبتدأ، و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ خبره، و ﴿ أَقْسَمُواْ ﴾ صلته، وقوله: ﴿ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ﴾ جملة تفسيرية لمعنى أقسموا، لأن يمينهم إنا معكم. قوله: (غاية اجتهادهم) أشار بذلك إلى أن جهد صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق لأقسموا، والتقدير إقساماً. ﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ أي أغلظها. قوله: (تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ من كلامه تعالى إخبار عن المنافقين، لا من كلام المؤمنين، لأنهم لا علم لهم بذلك. قوله: (الصالحة) أي بحسب الظاهر.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا تحذير عام لكل مؤمن من موالاة الكفار، وبيان عاقبة من والاهم ومال إلى دينهم. قوله: ﴿ مَن يَرْتَدَّ ﴾ من اسم شرط جازم، ويرتد فعل الشرط، وجوابه قوله: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ ﴾ الخ، والجملة خبر المبتدأ. قوله: (بالفك والإدغام) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (قد ارتدّ جماعة بعد موت النبي) أي وهم ثمان فرق: سبعة في خلافة أبي بكر، وفرقة في زمن عمر، وارتد ثلاث فرق أيضاً في زمن رسول الله، بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار لقب به لأنه كان له حماراً يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، وهو الأسود العنسي بفتح العين وسكون النون، وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله، فكتب الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الديلمي فبيته وقتله، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الديلمي فبيته وقتله، فأخبر رسول الله بقتله ليلة قتله، فسرَّ المسلمون بذلك، وقبض رسول الله من الغد، وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول، وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب، تنبأ وكتب إلى رسول الله: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن الأرض نصفها لي، ونصفها لك، فكتب إليه رسول الله: من محمد إلى رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، وهلك في خلافة أبي بكر على يد وحشي غلام مطعم بن عدي قاتل حمزة فكان يقول قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام، وبنو أسد وهم قوم طلحة بن خويلد تنبأ، فبعث إليه رسول الله خالد بن الوليد فقاتله، فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، والسبع اللاتي في خلافة أبي بكر الصديق هم: فزارة قوم عيينة بن حصن الفزاري، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم يربوع قوم مالك بن بريدة اليربوعي، وبعض تميم وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر بن وائل، فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق حين خرج لقتالهم حيث منعوا الزكاة، فكره ذلك الصحابة وقالوا هم أهل القبلة فكيف نقاتلهم؟ فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره، فقال ابن مسعود: كرهنا ذلك في الابتداء وحمدناه في الانتهاء، وقال بعض الصحابة: ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة. والفرقة التي ارتدت في زمن عمر بن الخطاب هم غسان، فكفى الله أمرهم على يد عمر رضي الله عنه. قوله: (بدلهم) أي بدل المرتدين، فالضمير عائد على من باعتبار معناها، وأشار بع إلى الرابط بين المبتدأ وخبره، وهذا لا يحتاج له إلا على قول بأن الجزاء وحده هو الخبر، وأما على القول بأن الخبر هو مجموع فعل الشرط والجزاء أو الفعل وحده، فلا حاجة لتقديره، لأنه موجود في يرتد. قوله: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ معنى محبة الله لهم إقامتهم له في خدمته مع الرضا والإثابة، ومعنى محبتهم لله موالاة طاعته وتقديم خدمته على كل شيء، ولما كانت محبتهم لله ناشئة عن محبة الله لهم، قدم محبة الله لهم. قال العارف رضي الله عنه على لسام الحضرة العلية: أَيُّهَا المعْرِضُ عَنَّا إنَّ أَعْرَاضَكَ مِنَّالَوْ أَرَدْنَاكَ جَعَلْنَا كُلّ مَا فِيكَ يُرِدْنَاقوله: (وأشار إلى أبي موسى الأشعري) أي فالقوم الأشعريون، وقيل هم أبو بكر وأصحابه الذين باشروا قتال المرتدين، والأقرب أن الآية عامة لأصحاب رسول الله ومن كان على قدمهم إلى يوم القيامة بقرينة التسويف. قوله: ﴿ أَذِلَّةٍ ﴾ جمع ذليل وقوله: (عاطفين) أشار به إلى أن أذلة مضمن معنى عاطفين لتعديته بعلى، والمعنى متواضعين لأنهم مغلظين على الكفار، ومن هذا المعنى قوله تعالى:﴿ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾[الفتح: ٢٩].
قوله: ﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي لإعلاء دينه. قوله: ﴿ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ﴾ تعريف بالمنافقين، فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أوليائهم اليهود لئلا يحصل منهم اللوم لهم. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ (المذكور) أي من الأوصاف الستة. قوله: (ونزل لما قال ابن سلام الخ) أي لما أسلم هجره قومه قريظة وبنو النضير. قوله: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ﴾ الخطاب لعبد الله بن سلام وأتباعه الذين هداهم الله إلى الإسلام، فلما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن سلام: رضيت بالله رباً، وبرسوله نبياً، وبالمؤمنين أولياء، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من انتسب لله فهو وليه، قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾[البقرة: ٢٥٧].
قوله: ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ أي لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة، وقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي لكونهم الإخوان، فمن تخلى عنه رسول الله أو المؤمنون فهو هالك، لأن موالة الثلاثة شرط في صحة الإيمان. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ بدل من الذين قبله، ومعنى إقامة الصلاة أداؤها بشروطها وأركانها وآدابها. قوله: ﴿ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ ﴾ أي الحقوق التي عليهم في أموالهم. قولهم: ﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ الجملة حالية من يقيمون ويؤتون، وقوله: (خاشعون) أي فأطلق الركوع وأراد لازمه وهو الخشوع. قوله: (أو يصلون صلاة التطوع) أي فالمراد بالركوع صلاة النوافل وخصها بالذكر، لأن نفل الصلاة أفضل من نفل غيرها، وعليه فجملة وهم راكعون معطوفة على ما قبلها، فتحصل أنه وصفهم بأوصاف ثلاثة: إقامة صلاة الفرائض، وإيتاء الزكاة، وصلاة النوافل، وقيل قوله وهم راكعون حال من فاعل يؤتون الزكاة، والمراد بها ما يشمل صدقة التطوع والركوع على حقيقته، والمراد كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه، روي أنها نزلت في علي كرّم الله وجهه حين سأله سائل وهو في الصلاة فنزع خاتمه وأعطاه له.
قوله: ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ من اسم شرط، يتول فعله، والله مفعول يتول والمعنى يختار الله ولياً يعبده ويلتجئ إليه، ويختار رسوله ولياً بأن يؤمن به ويتوسل به ويعظمه ويوقره، ويختار الذين آمنوا أولياء بأن يعينهم وينصرهم ويوقرهم إذا حضروا ويحفظهم إذا غابوا، وقوله: ﴿ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ ﴾ الخ، يحتمل أنها جواب الشرط، وإنما أوقع الظاهر موقع المضمر لنكتة التشريف، ويؤخذ ذلك من عبارة المفسر، ويحتمل أنها دليل الجواب، والجواب محذوف تقديره يكن من حزب الله. قوله: ﴿ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ ﴾ أي القاهرون لأعدائهم. قوله: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ﴾ لا ناهية، وتتخذوا مجزوم بلا الناهية، والذين مفعول أول للاتتخذوا الأولى، واتخذوا الثانية صلة الذين، ومفعولها الأول إلى قوله دينكم، ومفعولها الثاني هزواً ولعباً، وقوله: ﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ مفعول ثان للاتتخذوا الأولى. قوله: ﴿ مِن ﴾ (للبيان) أي فهو بيان للذين اتخذوا دينكم، فالمعنى لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً وهم الذين أوتوا الكتاب. قوله: (المشركين) إنما اقتصر عليهم وإن كان الجميع كفاراً، لتحصل المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. قوله: (بالجر) أي عطف على مجرور من، وقوله: (والنصب) أي عطف على الذين الواقع مفعولاً به، فعلى الأول الاستهزاء واقع من الفريقين، وعلى الثاني واقع من أهل الكتاب فقط، وثبوت الاستهزاء لغيرهم مأخوذ من آية أخرى له. قوله: ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي فاتركوا موالاتهم، فيؤخذ من الآية أن من والاهم فليس بمؤمن، فهو وعيد عظيم لمن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين. قوله: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ ﴾ يحتمل أنه معطوف على الذين المجرور بمن، وعليه فالمستهزؤون ثلاث فرق، ويحتمل أنه معطوف على الذين الواقع مفعولاً به، فيكون من جملة أوصاف الفريق الأول. قوله: (بالأذان) ورد أن المنافقين والكفار كانوا إذا سمعوا الأذان ضحكوا وقالوا: يا محمد لقد ابتدعت شيئاً لم يسمع بمثله فيما مضى قبلك من الأمم، فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك، ولو كان فيك خير لكان أولى الناس به الأنبياء، فمن أين لك صياح العير، فما أقبح هذه الصوت وهذا الأمر، فنزلت آية﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ﴾[فصلت: ٣٣] وهذه الآية. قوله: ﴿ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ أي لا يعون ولا يتأملون جلال الله وهيبته، ولو عقلوه ما ساعهم الاستهزاء، ولذا ورد أن رسول الله كان إذا نودي بالصلاة تغيرت حالته، قال بعض الصحابة، كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، وكان علي إذا سمع للنداء ينتقع لونه، وهذا الوعيد يجر بذيله على من يتعاطى الضحك وأسبابه في الصلاة، ولذلك جعله أبو حنيفة من مبطلات الوضوء والصلاة، وجعله غيره من مبطلات الصلاة فقط، وإنما لم يكفروا فاعله، لأنه لم يكن مستهزئاً بأمر الله حقيقة، وإلا كان كافراً إجماعاً وداخلاً في عموم الكفار. قوله: (ونزل لما قال اليهود) أي سبب نزولها، قول طائفة من اليهود، كأبي يسار ورافع بن أبي رافع وآزر بن آزر، وقصدهم بهذا السؤال اختباره صلى الله عليه وسلم، قل هو مؤمن بعيسى فيخالفوه، أولاً فيتبعوه لكراهتهم له. قوله: (بمن تؤمن من الرسل) أي بأي رسول تؤمن؟ قوله: (فقال بالله) متعلق بمحذوف تقديره أؤمن بالله، وقوله: (الآية) أي إلى قوله: (مسلمون) وتلك الآية هي آية البقرة التي أولها (قولوا آمنا) الآية.
قوله: ﴿ هَلْ تَنقِمُونَ ﴾ جمهور القراء على كسر القاف من نقم بفتحها وهو الفصيح، وقرئ شذوذاً بفتح القاف، وماضيه نقم بكسرها، وهو في الأصل النقض، ثم أطلق على الكراهية والإنكار، ولذا عدى بمن دون على. قوله: ﴿ مِنَّآ ﴾ أي من أوصافنا وأخلاقنا. قوله: ﴿ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا ﴾ استثناء مفرغ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لتنتقموا، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والمعنى لا تنكرون ولا تكرهون من أوصافنا إلا إيماننا بالله الخ. قوله: ﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ ﴾ أي من سائر الكتب السماوية. قوله: ﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ ﴾ قرأ الجمهور بفتح الهمزة، وقرئ شذوذاً بكسرها على الاستئناف. قوله: (عطف على أن آمنا) أي فهو في محل نصب على حذف مضاف تقديره واعتقادنا أن أكثركم فاسقون، وإنما قدرنا المضاف لصحة العطف، فإن المعطوف على الصفة صفة، وكون أكثرهم فاسقين وصف لهم لا لنا، فقدر المضاف لذلك، ويصح أنه منصوب على المعية، والمعنى إلا إيماننا مع كون أكثركم فاسقين، مع تقدير المضاف، أي مع اعتقادنا أن أكثركم فاسقون، ويحتمل أنَّ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف تقديره وفسق أكثركم ثابت عندنا، ويحتمل أنه في محل جر معطوف على لفظ الجلالة مسلّط عليه آمنا، التقدير وما تكرهون منا إلا إيماننا بالله، وإيماننا بأن أكثرهم فاسقون. قوله: (المعنى ما تنكرون الخ) إنما أتى بذلك جواباً عن سؤال مقدر، تقديره إن. قوله: ﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ وصف لهم، وأما الإيمان فهو وصف لنا، فيشكل عطف ما ليس وصفاً لنا على ما هو وصف لنا، فلذلك حول المفسر العبارة. قوله: (ومخالفتكم) من إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف تقديره مخالفتنا إياكم. قوله: (المعبر عنه بالفسق) أي فأطلق اللازم وهو الفسق، وأراد الملزوم وهو عدم قبول الإيمان، ثم أطلق وأريد لازمه، وهو مخالفتنا لهم في اتصافنا بقبول الإيمان وهم بعدمه، وقوله: (في عدم قبوله) أي الإيمان. قوله: (وليس هذا مما ينكر) تتميم للكلام، إشارة إلى أن الاستفهام إنكاري.
قوله: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ ﴾ هذا الكلام من باب المقابلة، لأنه في مقابلة اليهود لا نعلم ديناً شراً من دينكم. قوله: (الذي تنقمونه) أي وهو ديننا. قوله: ﴿ مَثُوبَةً ﴾ تمييز لشر. قوله: (بمعنى جزاء) أي بالعقاب، وكان على المفسر أن يزيده، فتسمية الجزاء بالعقاب ثواباً تهكم بهم على حد (فبشرهم بعذاب أليم). قوله: (هو) ﴿ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله من لعنه خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هو، وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره ومن الأشر. قوله: ﴿ وَغَضِبَ عَلَيْه ﴾ أي انتقم منه على سبيل الأبد. قوله: (بالمسخ) أي فجعل شبابهم قردة ومشايخهم خنازير. قوله: (الشيطان) تقدم أن أحد تفاسير في الطاغوت، وقيل هو كل ما أوقع في الضلال، وعابده هو التابع له في الضلال. قوله: (وفيما قبله) أي وهو لعنه وغضب عليه، وكذلك راعى لفظها في ﴿ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ ﴾.
قوله: (وفي قراءة) أي سبعية لحمزة، وقوله: (اسم جمع لعبد) أي لا جمع له بل جمعه أعبد، قال ابن مالك: لفعل اسماً صح عيناً أفعل. قوله: (ونصبه بالعطف على القردة) أي فتكون الصلات ثلاثاً وهي: لعنه، وغضب عليه، وجعل الرابعة على القراءة الأولى عبد. قوله: (تمييز) أي تمييز نسبة، ونسب الشر للمكان، وحقه لأهله كناية عن نهايتهم في ذلك. قوله: (وذكر شر) أي المجرور في قوله بشر، والمرفوع في قوله أولئك شر، وقوله: (في مقابلة قولهم الخ) جواب عن سؤال مقدر، تقديره كيف ذلك مع أن المؤمنين لا شر عندهم، فأجاب بما ذكر، وأجيب أيضاً بأن شر المؤمنين باعتبار تعبهم في الدنيا، فعذاب الآخرة للكفار، أشر من ضيق الدنيا على المؤمنين، وأجيب أيضاً: بأن المفضل عليه جماعة من الكفار، فيكون المعنى: هؤلاء المتصفون بتلك الأوصاف، شر من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال. قوله: ﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ ﴾ الخطاب للنبي، فجمعه للتعظيم أوله، ومن عنده من المؤمنين، فالجمع ظاهر. قوله: ﴿ وَقَدْ دَّخَلُواْ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ قَالُوۤاْ ﴾، وكذا. قوله: ﴿ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾.
قوله: (متلبسين) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ بِٱلْكُفْرِ ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل دخلوا، وكذا قوله به حال من فاعل خرجوا. قوله: ﴿ وَتَرَىٰ كَثِيراً ﴾ رأى بصرية تنصب مفعولاً واحداً وهو قوله كثيراً، وقوله: ﴿ يُسَارِعُونَ ﴾ حال من قوله كثيراً. قوله: (كالرشا) بضم الراء وكسرها من الرشوة بضم وكسر، فالمضموم للمضموم، والمكسور للمكسور، وأدخلت الكاف الربا. قوله: (عملهم هذا) قدره إشارة للمخصوص بالذم. قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن لولا للتخضيض والتوبيخ لعلمائهم، حيث لم ينهوهم عما ارتكبوه من المخالفات.
قوله: ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ عبر في جانب العوام بيعملون، وفي جانب العلماء بيصنعون، لأن الصنع أبلغ من العمل، إذ هو عمل مع إتقان، فذمهم بأبلغ وجه، وكل آية وردت في الكفار فإنها تجر بذيلها على عصاة المؤمنين، قال ابن عباس: هذه أشد آية في القرآن، يعمي في حق العلماء. وقال الضحاك: ما في القرآن أخوف آية عندي منها.
قوله: ﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ ﴾ أي بعضهم وهو فنحاص بن عازوراء، وإنما نسب القول لهم عموماً لرضاهم به ولم ينهوا عنه. قوله: (بتكذيبهم) الباء سببية. قوله: (بعد أن كانوا أكثر الناس مالاً) أي وأخصب أرضاً. قوله: (مقبوضة) أي ممسوكة عن بسط العطاء لنا. قوله: (كنوا به عن البخل) أي لأنه يلزم من قبض اليد عن الإعطاء للمستحقين البخل. قوله: (تعالى الله عن ذلك) أي تنزه سبحانه عن ما وصفوه من البخل، لأن البخل هو منع المستحق من حقه، وليس لأحد حق على الله تعالى، بل هو الكريم الحقيقي الذي عم عطاؤه والطائع والعاصي لا لغرض ولا لعوض. قوله: (دعاء) إما بالرفع خبر لمحذوف والتقدير هو دعاء، أي طلب من نفسه بنفسه غلول أيديهم، ويصح النصب على أنه مفعول لأجله، أي قال تعالى الدعاء عليهم. قوله: ﴿ وَلُعِنُواْ ﴾ معطوف على ﴿ غُلَّتْ ﴾ فهو في حين الدعاء، فسبب هذه المقالة صاروا أشقياء آيسين من رحمة الله، فلم يوفقوا لفعل خير بعد ذلك أبداً، وطردوا عن رحمة الله في الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ بَلْ يَدَاهُ ﴾ إضراب إبطالي، ويداه مبتدأ، و ﴿ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ خبره، وجملة ينفق: إما خبر ثان أو استئناف بياني، وكيف اسم شرط، ويشاء فعل الشرط، ومفعوله محذوف تقديره الإنفاق له، وجوب الشرط محذوف دل عليه قول ينفق. قوله: (مبالغة في الوصف بالجود) أي الإعطاء الكثير الذي عم الطائع والعاصي، واعلم أن معاملة الله للمؤمنين بالفضل إعطاء أو منعاً، لأنه ما منعهم عطاء الدنيا إلا لكونه ادخر لهم ما هو أعظم منه في الآخرة، وأما معاملته للكفار، فبالفضل عند الإعطاء، وبالعدل عند المنع، يكون لأحد حق عليه. قوله: (وثني اليد الخ) أي فذكر اليدين مشاكلة، والتثنية كناية عن كثرة العطاء، لكن على مراده هو، لا على مراد عبيده، لأنه ليس لأحد حق عليه يطلبه منه، ثم في إطلاق اليد على الله طريقتان: طريقة السلف أن اليد صفة من صفاته أزلية، كالسمع والبصر، ينشأ عنها الخير لا الشر، فهي أخص من القدرة، لأن القدرة ينشأ عنها جميع الممكنات، إيجاداً وإعداماً، خيراً أو شراً، ولا يعلمها إلا هو، ويشهد لما قلنا. قوله:﴿ قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾[ص: ٧٥] أي اصطفيته، ولم يقل بقدرتي، وطريقة الخلف أن اليد تطلق بمعنى الجارحة، وهي مستحيلة على الله، وتطلق على القدرة والنعمة والملك، ويصح إرادة كل منهما في حق الله. إن قلت: على تفسيرها بالقدرة أو النعمة، فلم ثنيت ثانياً بعد إفرادها أولاً؟ أجيب: بأن التثنية لإفادة كثرة الكرم والعطاء كما قال المفسر إن قلت: على تفسيرها بالنعمة فمقتضاه جمعها لأن النعم كثيرة، قال تعالى:﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ ﴾[النحل: ١٨، إبراهيم: ٣٤] أجيب: بأن التثنية بحسب الجنس، لأن النعم جنسان مثل: نعمة الدنيا ونعمة الدنيا، ونعمة الظاهر ونعمة الباطن، ونعمة الإعطاء ونعمة المنع، وتحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة، وما قلناه عقائد المؤمنين، وعقيدة اليهود أنها الجارحة لأنهم مجسمة. قوله: (فكل فرقة منهم) أي اليهود كالجبرية والقدرية والمشبهة والمرجئة، والنصارى كذلك فرق كالملكانية والنسطورية واليعقوبية والماردانية. إن قلت: إن المسلمين فرق أيضاً؟ أجيب: بأن افتراق المسلمين في الفروع لا الأصول، وكلهم على خير مسلمين لبعضهم، وأما من خرج عن ذلك فهو ضال مضل. قوله: ﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ ﴾ أي بتعاطي أسبابه ومبادئه. قوله: (ردهم) أي قهرهم وجعلهم أذلة خاشعين. قوله: (أي مفسدين) أشار بذلك إلى أنه خال من فاعل يسعون، ويصح أن يكون مصدراً مؤكداً ليسعون من معناه. قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ بيان لحالهم في الآخرة، فهو تردد لهم لعلهم يهتدون، ومن هنا لا يجوز لعن كافر معين حي، لأنه يحتمل أنه يهتدي. قوله: (من الكتب) أي ككتاب شعياء، وكتاب دانيال، وكتاب أرمياء، ففي هذه الكتب أيضاً ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فالمراد بإقامة الكتب الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن، لأنهم مأمورون بالإيمان به، لأنهم من جملة أمته صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا هو الأقربز قوله: (بأن يوسع عليهم الرزق) أي بأن يفيض عليهم بركات السماء والأرض، ويؤخذ من هذه الآية أن طاعة الله سبب في الرزق، ومعاصيه سبب في قبضه، قال تعالى:﴿ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾[الطلاق: ٢-٣] وقال تعالى:﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾[النحل: ٩٧].
وقال عليه الصلاة والسلام:" إذا رأيت قساوة في قلبك وحرماناً في رزقك ووهناً في بدنك فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك ".
قوله: ﴿ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾ أي معتدلة ليست مفرطة ولا مفرطة، وقوله: (تعمل به) أي بالقرآن أو بما ذكر من التوراة وما بعدها. قوله: (ومنهم من آمن) الأوضح أن يحذف قوله ومنهم من آمن، ويقتصر على قوله كعبد الله الخ، كما قال غيره من المفسرين، وفي نسخة وهم من آمن وهي الصواب. قوله: ﴿ وَكَثِيرٌ ﴾ مبتدأ وجملة ﴿ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ خبره، وساء كلمة ذم. وما مميز وقيل فاعل. وجملة يعملون: إما صلة إن جعلت ما موصولة أو صفة إن جعلت نكرة، والعائد محذوف قدره المفسر.
قوله: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ ﴾ سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث ضاق ذرعاً لعلمه أن قوماً يكذبونه ولا بد، فنزلت الآية تسلية له، وفي ندائه بيا أيها الرسول شهادة له بالرسالة، وأل في الرسول للعهد الحضوري، أي الرسول الحاضر وقت نزولها، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (جميع) قدره إشارة إلى أن ما اسم موصول بمعنى الذي، ولا يصح تقديره نكرة، لأنه يصدق بتبلي البعض مع أنه غير مكلف، واعلم أن ما أوحي إلى رسول الله، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ما أمر بتبليغه وهو القرآن والأحكام المتعلقة بالخلق عموماً فقد بلغه ولم يزد عليه حرفاً ولم يكتم منه حرفاً ولو جاز عليه الكتم لكتم آيات العتاب الصادرة له من الله، كآية عبس وتولى، وآية ما كان لنبي أن يكون له أسرى، وسورة تبت يدا أبي لهب، ولفظ قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقد شهد الله له بتمام التبليغ، حيث أنزل قبيل وفاته﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[المائدة: ٣] وورد أنه قال لعزرائيل حيث قبض روحه: اقبض فقد بلغت، وما أمر بكتمه فقد كتمه ولم يبلغ منه حرفاً، وهو جميع الأسرار التي لا تليق بالأمة، وما غير في تبليغه وكتمه، فقد كتم البعض وكتم وبلغ البعض، وهو الأسرار التي تليق بالأمة، ولذا ورد عن أبي هريرة أنه قال: أعطاني حبيبي جرابين من العلم، لو بثثت لكم أحدهما لقطع مني هذا الحلقوم. قوله: (خوفاً أن تنال بمكروه) أي يمنعك عن مطلوبك، كالقتل والأسر ومنع الخلق عنك فإنك معصوم من ذلك، وأنا مثل السب فتحمله، ولا يكن مانعاً لك من التبليغ، وهذا إخبار من الله بأن رسوله لم يكتم شيئاً، فهو معصوم من الكتمان لاستحالته عليه. قوله: (بالإفراد والجمع) أي فهما قراءتان سبعيتان، وعلى كل فهو مفعول لبلغت، فعلى الإفراد منصوب بالفتحة الظاهرة، وعلى الجمع منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم، والمعنى واحد على كل، لأن المفرد المضاف يفيد العموم. قوله: (لأن كتمان بعضها الخ) أشار بذلك إلى دفع سؤال ورد على الآية. وحاصله أن ظاهر قوله: ﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ اتحاد الشرط، والجواب لأنه ينحل المعنى إن لم تبلغ فما بلغت. وحاصل الجواب أن المعنى وإن تركت شيئاً مما أمرت تبليغه ولو حرفاً، فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به، لأن كتمان بعضه ككتمان كله. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ ﴾ أي يحفظك وهو من تمام الأمر بالتبليغ. قوله: (أن يقتلوك) دفع ما قيل إنه أوذي أشد الإيذاء قولاً فأجاب بأن المراد العصمة من القتل، وما في معناه من كل ما يعطل عليه التبليغ وهكذا كل نبي أمر بالقتال، وما ورد من قتل بعض الأنبياء، فلم يكونوا مأمورين بالقتال. قوله: (وكان صلى الله عليه وسلم يحرس الخ)" عن عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة المدينة ليلة فقال: " ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة "، قال فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، قال من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ فقال وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله ثم نام، وفي رواية إن الذي جاء سعد وحذيفة بن اليمان قالا: جئنا نحرسك، فنام عليه السلام حتى سمعت غطيطه "، ونزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة آدم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله، ورد أنه كان يحفظه سبعون ألف ملك، لا يفارقونه في نوم ولا يقظة. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي لبلوغ مطلوبهم فيك لعصمتك منهم، ولذلك في بعض الغزوات حين احتاطت به الأعداء صار يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ويرميهم بالتراب في وجوههم، وكان يمر بين صفي القتال على بغلة لا تصلح لكر ولا فر. قوله: ﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي اليهود والنصارى. قوله: (معتد به) أي عند الله وهو الهدى والخير، وهذا جواب عن سؤال: كيف يقول لستم على شيء، مع أنهم على شيء وهو الدين الباطل. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ أي تأتمرون بأمرهما وتنتهون بنهيهما، لأن فيهما بيان أن دينه هو الدين القيم، وأن وجوده ناسخ لجميع الشرائع. قوله: ﴿ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ أي كعلمائهم ورؤسائهم، وأما القليل منهم كعبد الله بن سلام والنجاشي وأضرابهما، فقد زادهم القرآن اهتداء ونوراً. قوله: و ﴿ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ نسب الإنزال أولاً إليهم، لأنهم مأمورون بإتباعه، ونسب الإنزال ثانياً إليه، لأنه منزّل إليه حقيقة، فيصح نسبة الإنزال إليهم باعتبار أنهم مأمورون بالعمل به وإليه باعتبار أنه يبلغه. قوله: ﴿ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ قيل الطغيان والكفر مترادفان، وقيل الطغيان أعم لأنه مجاوزة الحد. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ إن حرف توكيد ونصب، والذين اسمها، وآمنوا صلته، وخبرها محذوف دل عليه قوله: ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الخ، وقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ الواو للاستئناف أو عطف جمل، والذين مبتدأ ﴿ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾ معطوفان عليه، وقوله: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ بدل من الذين هادوا، وما عطف عليه بدل بعض من كل، وقوله: ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ خبر المبتدأ، وهذا أحد أوجه تسعة وهو أحسنها، ولذا درج عليه المفسر. قوله: ﴿ آمَنُواْ ﴾ أي حقيقة بقلوبهم وألسنتهم خرج المنافقون. قوله: (فرقة منهم) أي اليهود، وقيل من النصارى، وقيل طائفة يعبدون الكواكب السبعة، وقيل يعبدون الملائكة. قوله: (وعمل صالحاً) أي فإن مات ولم يكن عمل صالحاً غير الإيمان فهو تحت المشيئة. قوله: (منهم) قدره إشارة إلى أن العائد محذوف.
قوله: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ أي في التوراة، والمقصود من ذلك إقامة الحجة على من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وتقدم أن الميثاق هو العهد المؤكد باليمين. قوله: ﴿ وَأَرْسَلْنَآ ﴾ معطوف على أخذنا. قوله: ﴿ رُسُلاً ﴾ أي كشعباء وأرمياء ويوشع. قوله: ﴿ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ ﴾ كلما شرطية وجاءهم فعل الشرط، وقوله: ﴿ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ ﴾ متعلق بجاء وما اسم موصول، وقوله: ﴿ لاَ تَهْوَىٰ ﴾ صلته، والعائد محذوف تقديره لا تهواه، وجواب الشرط محذوف قدره المفسر بقوله: (كذبوه) والأوضح له أن يقول عادوه وعصوه، وقوله: ﴿ فَرِيقاً كَذَّبُواْ ﴾ الخ مستأنف بيان لوجه العصيان والمعاداة. قوله: (منهم) قدره إشارة إلى أن الجملة الشرطية صفة لرسلاً، والعائد محذوف ولو جعلت استئنافية لما احتيج لتقديره. قوله: (من الحق) بيان لما. قوله: ﴿ كَذَّبُواْ ﴾ أي غير قتل، كداود وسليمان ويوشع وعيسى ومحمد. قوله: (كزكريا ويحيى) أي وشعياء. قوله: (دون قتلوا) أي لمراعاة كذبوا. قوله: (حكاية للحال الماضية) أي كأنها حاصلة الآن. قوله: (للفاصلة) أي المحافظة على رؤوس الآي وتناسبها مع بعضها، ولعل فيه حذف الواو ويكون على ثانية.
قوله: ﴿ وَحَسِبُوۤاْ ﴾ سبب هذا الحسبان، أنهم كانوا يعتقدون أنهم يقربون لكونهم من ذرية الأنبياء، فلا يضرهم تكذيب الأنبياء وقتلهم إياهم، بل سلفهم يدفعون عنهم عذاب الآخرة. قوله: (بالرفع فأن مخففة) أي واسمها محذوف تقديره أنه، وقوله: ﴿ أَلاَّ تَكُونَ ﴾ خبرها، قال ابن مالك: وَإنْ تُخفّف أَنْ فَاسْمَهَا اسْتَكَن وَالخَبَر اجْعَلِ جُمْلَةً مِنْ بَعْدَ أَنْقوله: (والنصب) أي فهما قراءتان سبعيتان. واعلم أن أن إن وقعت بعد ما يفيد اليقين، كانت مخففة من الثقيلة لا غير، نحو علم أنه سيكون، وإن وقعت بعد ما يفيد الظن، كانت ناصبة لا غير، نحو﴿ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾[التوبة: ١١٨]، وإن وقعت بعد ما يحتملهما كان فيه الأمران كهذه الآية، فالرفع على تأويل حسب بمعنى علم، والنصب على تأويلها بالظن. إن قلت: مقتضى هذه القاعدة أن كل ما يفيد الأمرين يجوز فيه الرفع والنصب، مع أنه لم يسمع في أحسب الناس أن يتركوا الرفع ولا النصب في أفلا يرون أن لا يرجع. أجيب بأن القراءة سنَّة متّبعة، لأنه ليس كلما جاز نحواً جاء قراءة، وجملة ﴿ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ في محل نصب سدت مسد مفعولي حسب على كلا القراءتين عند جمهور البصريين، وقيل مسد مفعولها الثاني محذوف تقديره حاصلة. قوله: ﴿ فِتْنَةٌ ﴾ بالرفع فاعل تكون لأنها بمعنى توجد فهي تامة. قوله: ﴿ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ معطوف على حبسوا، وهذه إشارة إلى ما وقع منهم في المرة الأولى من الفساد والقتل في زمن شعياء وأرمياء، حتى قتلوا شعباء وحبسوا أرمياء، فسلط الله عليهم بختنصر، ففرق جمعهم وأسرهم، وخرب بيت المقدس، وصاروا في غاية الذل والهوان، فلما تابوا توجه ملك من ملوك فارس، فعمر بيت المقدس، وقتل بختنصر، وردهم إلى وطنهم، فكثروا وكانوا أحسن ما كانوا عليه، فمكثوا ثلاثين سنة ثم عموا وصموا ثانياً وقتلوا زكيرا ويحيى، وإلى هذه القصة الإشارة بقوله تعالى في سورة الإسراء﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ﴾[الإسراء: ٤] الآيات، وهذا هو الصحيح، فالمراد ببني إسرائيل من كان في زمن شعياء وأرمياء، لا من كان في زمن موسى وهارون قوله: (بدل من الضمير) أي قوله: و ﴿ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ والضمير هو الفاعل، وهذا هو هروب من تخريج الآية على لغة أكلوني البراغيث فإنها ضعيفة، ودفع بقوله ﴿ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ ما يتوهم أنهم عموا وصموا جميعهم وعطف قوله ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ بثم المفيدة للتراخي، لأن بين التوبة والعمى ثلاثين سنة. قوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ﴾ وهم اليعقوبية من النصارى، وهو شروع في ذكر قبائح النصارى بعد ذكر قبائح اليهود. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ﴾ معنى ذلك عندهم أن الله حل في ذاته عيسى واتحد بها، قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ ﴾ الجملة حالية من الواو في قالوا، وهو رد لما ادعوه من ألوهيته، أي فلا عذر لهم في تلك الدعوة، فإن تبرأ منها وبين لهم طريق الهدى. قوله: ﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾ كالعلة لقوله: ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾.
قوله: (منعه أن يدخلها) أي فالمراد بالتحريم مطلق المنع. قوله: ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ أي المشركين. قوله: ﴿ أَنصَارٍ ﴾ أي أعوان يحفظونهم من غضب الله. قوله: (والآخران عيسى الخ) هذا وجه في التثليث عندهم، وهناك وجه آخر عندهم وهو أن الإله مركب من ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، فمرادهم بالأب ذات الله، وبالابن صفة الكلام، وبروح القدس الحياة، فاختلطت صفة الكلام بجسد عيسى كاختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد. واعلم أن النصارى في اعتقاد التثليث على أربع فرق، واحدة تقول: كل من ذات الله تعالى وذات عيسى وذات مريم إله، وأخرى تقول: الإله مجموع صفات ثلاث: الوجود والعلم والحياة وعيسى ابنه، وأخرى تقول: الإله مجموع ذات وصفتين، ذات الله ويسمونها الأب وصفة كلامه ويسمونها الابن وصفة الحياة ويسمونها روح القدس، والكل إله واحد، وأخرى تقول: الإله مجموع ذاتين وصفة الله وذات عيسى والحياة الحالة في جسد عيسى. قوله: (وهم فرقة من النصارى) أي وهم النسطورية والمرقوسية.
قوله: ﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ الواو إما حالية أو استئنافية، وما نافية، ومن زائدة لاستغراق النفي، وإله مبتدأ والخبر محذوف تقديره كائن في الوجود، وإلا ملغاة، وإله بدل من الضمير في الخبر نظير لا إله إلا الله، والمقصود من ذلك التشنيع والرد عليهم في دعواهم التثليث، لأن حقيقة الإله هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، وليس شيء من ذلك وصفاً لعيسى ولا لأمه، ولا لأحد أبداً سواه سبحانه وتعالى. قوله: ﴿ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ جواب لقسم محذوف، وجواب الشرط محذوف لدلالة هذا عليه، والتقدير إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا الخ، نظير قوله تعالى:﴿ وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[الأعراف: ٢٣].
قوله: (أي ثبتوا على الكفر) أشار بذلك إلى أن من في ﴿ مِنْهُمْ ﴾ للتبعيض لأن كثيراً منهم تابوا. قوله: (توبيخ) أي وإنكار وهذا استدعاء لهم إلى التوبة. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ الجملة حالية كالتعليل لما قبلها. قوله: ﴿ مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾ الخ، هذا استئناف مسوق لبيان إقامة الحجة عليهم وبطلان دعاويهم الباطلة، وما نافية والمسيح مبتدأ، وإلا أداة حصر ورسول خبره، وهو من حصر المبتدأ في الخبر، أي أن عيسى محصور في وصف الرسالة وليس بإله، فالمقصود من ذلك نفي الألوهية عنه. قوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ أي ذهبت وفنيت. قوله: ﴿ صِدِّيقَةٌ ﴾ أي ملازمة للصدق، وهذان الوصفان لعيسى وأمه، مختصان بهما شرفهما الله بهما، ثم وصفهما بعد ذلك بوصف البشر الذين لا يميزهم عن الحيوانات الغير العاقلة فضلاً عن العاقلة. قوله: ﴿ كَيْفَ نُبَيِّنُ ﴾ كيف معمول لنبين لا لأنظر، لأن اسم الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله لأن له الصدارة: قوله: ﴿ ثُمَّ ٱنْظُرْ ﴾ هذا ترق في التعجب، ولذا أتى بثم المفيدة للتراخي. قوله: (مع قيام البرهان) أي الدليل الواضح على باهر قدرتنا وكمال صفاتنا. قوله: ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ ﴾ هذا تبكيت لهم وإلزامهم الحجة. قوله: ﴿ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾ أي وهو عيسى، والمعنى لا يملك بذاته شيئاً أصلاً لا ضراً ولا نفعاً، وأما إجراء النفع أو الضر على يديه فبخلق الله لذلك ولو شاء لم يخلقه. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ أي فهو أحق بالعبادة. قوله: (للإنكار) أي مع التوبيخ.
قوله: ﴿ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ شروع في ذكر قبائحهم جميعاً، بعد أن ذكر كل فريق منهم على حدة. قوله: (غلوا) قدره المفسر إشارة إلى أن غير الحق صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق لقوله ﴿ تَغْلُواْ ﴾، ويصح أن يكون غير الحق حالاً من فاعل تغلوا. قوله: ﴿ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ﴾ أي وأما الغلوا في الحق كالتشديد على النفس، بأن يصوم النهار ويقوم الليل مثلاً فليس بحرام ولا ضلال. قوله: (بأن تضعوا عيسى) أي تنقضوه عن مرتبته، كقول اليهود إنه ابن زنا. وقوله: (أو ترفعوه فوق حقه) كقول النصارى إنه ابن الله، أو هو الله، فكل من الفريقين قد غلا في دينه غير الحق. قوله: ﴿ أَهْوَآءَ قَوْمٍ ﴾ الأهواء جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه، وما ذكر في القرآن إلا على وجه الذم، لأنه لا يقال فلان يهوى الخير، وإنما يقال يحبه ويريده، قوله: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لمن كان في زمنه. قوله: (بغلوهم) الباء سببية أي بسبب غلوهم في عيسى حيث رفعوه جداً ووضعوه جداً. قوله: (وهم أسلافهم) جمع سلف وهو المتقدم عليهم في الزمن وهم اليهود والنصارى. قوله: ﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً ﴾ بهذا الاعتقاد الفاسد. قوله: ﴿ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ﴾ السواء في الأصل الوسط، والسبيل الطريق، والمراد الدين الحق، فشبه التمسك بالدين الحق بالمشي في وسط الطريق بجامع أن كلاً سالم من العطب. قوله: (عن طريق الحق) أي وهو دين الإسلام. إن قلت: إنه قد تقدم ضلالهم في قوله: ﴿ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ﴾ أجيب: بأنه يحمل الضلال الأول على الكفر بموسى وعيسى، والضلال الثاني على الكفر بمحمد. قوله: ﴿ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي اليهود والنصارى، فلعن اليهود على لسان داود، ولعن النصارى على لسان عيسى. قوله: ﴿ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ ﴾ اختلف في المراد باللسان، فقيل هو الجارحة فداود وعيسى صرحا بلعنهم وقيل هو الكتاب، والمعنى أنزل الله لعنتهم في كتاب داود وعيسى وهو الأقرب، وكلام المفسر يفيد الأول. قوله: (فمسخوا قردة) أي وخنازير. وقوله: (وهم أصحاب أيلة) الذين اعتدوا في السبت واصطادوا السمك فيه، وستأتي قصتهم في سورة الأعراف. قوله: (فمسخوا خنازير) أي وقردة، فقد حف من كل نظير ما أثبته في الآخر، وهذا على المشهور من أن كلاً مسخوا قردة خنازير، وقيل أصحاب السبت مسخوا قردة، وأصحاب المائدة مسخوا خنازير وهو ظاهر المفسر. قوله: (وهم أصحاب المائدة) أي وسيأتي أنهم ثلثمائة وثلاثون رجلاً. قوله: ﴿ بِمَا عَصَوْا ﴾ الباء سببية وما مصدرية، وقوله: ﴿ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ معطوف على عصوا، والمعطوف على الصلة صلة، والمعنى ذلك بسبب عصيانهم وكونهم معتدين. قوله: ﴿ عَن ﴾ (معاودة) ﴿ مُّنكَرٍ ﴾ إنما قدر المفسر هذا المضاف لدفع ما أورد بأن المنكر الذي فعل لا معنى للنهي عنه، لأن رفع الواقع محال، فأجاب بأن المعنى النهي عن المعاودة. قوله: (فعلهم) هذا هو المخصوص بالذم.
قوله: ﴿ تَرَىٰ ﴾ أي تبصر وقوله: ﴿ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ أي أهل الكتاب. قوله: ﴿ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي يوالونهم ويصادقونهم. قوله: (بغضاً لك) مفعول لأجله أي من أجل بغضك. قوله: ﴿ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ ﴾ اللام موطئة للقسم وبئس كلمة ذم وما فاعل قدمت صلته، والعائد محذوف أي قدمته، وأنفسهم فاعل قدمت، وقوله: ﴿ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ هو المخصوص بالذم، لكن على حذف مضاف تقديره موجب أن سخط الله، والمعنى أن ما قدمت لهم أنفسهم من الضلال تسبب عن سخط الله، وتسبب عن سخط الله الخلود في النار. قوله: (من العمل) بيان لما. قوله: ﴿ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة أن سخط الله عليهم، فهي من جملة المخصوص بالذم، فالمعنى موجب سخط الله والخلود في النار. قوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ﴾ أي وهو القرآن، قوله: ﴿ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أنصاراً يوالونهم وقد فعلوا ذلك، فكانوا يأخذون الهدايا لكفار مكة ويصادقونهم ويتوددون إليهم خوفاً من زوال عزهم ورياستهم. قوله: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً ﴾ كلام مستأنف سيق للتقبيح على اليهود والتشنيع عليهم، واللام موطئة لقسم محذوف، وأشد مفعول أول لتجدن، وعداوة منصوب على التمييز، و ﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ متعلق بعداوة أو بمحذوف صفة لعداوة، واليهود مفعول ثان هكذا أعربوا، والأقرب أن أشد مفعول ثان مقدم، واليهود مفعول أول مؤخر. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ معطوف على اليهود. وقوله: (لتضاعف كفرهم) علة لقوله أشد. وقوله: (وجهلهم) أي وتضاعف جهلهم. قوله: (وانهاكهم في اتباع الهوى) عطف على تضاعف عطف علة على معلول، والعزى بالقصر ما نهواه النفس وتميل إليه. قوله: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ ﴾ يقال في إعرابه ما قيل في الذي قبله من أن أقرب مفعول ثان، والذين قالوا مفعول أول، ومودة تمييز، وللذين صفة للمودة أو متعلق به. قوله: ﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾ أي أنصار دين الله. إن قلت: مقتضى الآية مدح النصارى وذم اليهود، مع أن كفر النصارى أشد لأنهم ينازعون في الربوبية واليهود أخف منهم لأنهم ينازعون في النبوة، أجيب بأن مدح النصارى من جهة قرب مودتهم للمسلمين، وذم اليهود من حيث إنهم أشد عداوة للمسلمين، وذلك لا يقتضي شدة الكفر ولا عدمها، وأيضاً الحرص في اليهود دون النصارى، أنه حرام. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، وإن ﴿ بِأَنَّ مِنْهُمْ ﴾ خبر، و ﴿ قِسِّيسِينَ ﴾ اسم إن، ومنهم متعلق بمحذوف خبر إن ﴿ وَرُهْبَاناً ﴾ معطوف على قسيسين وقوله: ﴿ وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ معطوف على قسيسين. قوله: (أي قرب مودتهم) أشار بذلك إلى مرجع اسم الإشارة. قوله: (بسبب) أشار بذلك إلى أن الباء سببية. قوله: ﴿ قِسِّيسِينَ ﴾ جمع قسيس من يقيس الشيء إذا تتبعه، يقال في قس الأثر وقصه فهو أعجمي معرب، ويقال قس، وقس بفتح القاف وكسرها وهو عالم النصارى. قوله: ﴿ وَرُهْبَاناً ﴾ جمع راهب وهو الزاهد التارك للدنيا وشهواتها. قوله: (نزلت في وفد النجاشي) أي واسمه أصحمة وقيل صحمة. وحاصل ذلك: أنه سنة خمس من البعثة، اشتد أذى الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن أسلم، ولم يكن أمر بجهاد، فأمر الصحابة الذين لا غزوة لهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وهي الهجرة الأولى، وقال إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم عنده أحد، فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً، فخرج إليها أحد عشر رجلاً وأربع نسوة سراً، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا إلى البحر، وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة، وذلك في رجب، ثم تتابع المسلمون فكانوا اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان، فلما كانت وقعة بدر وقتل فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده لتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش وأحلامهم وزعم أنه نبي، وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم، وإن قومنا يسألونك أن تردهم إليهم، فقال: حتى نسألهم، فأمر بهم فأحضروا، فلما أتوا باب النجاشي قالوا يستأذن أولياء فقال: ائذنوا لهم فمرحباً بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين أيها الملك ألا ترى أنا صدقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها، فقال لهم الملك: ما منعكم أن تحيوني؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم النجاشي: ما يقول صاحلكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء، ويقول في مريم إنها العذراء البتول، قال فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم، فقال: هل تعرفون شيئاً مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا نعم، قال: اقرؤوا فقرأ جعفر سورة مريم، وهناك قسيسون ورهبانيون وسائر النصارى، فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فأنزل الله تعالى فيهم ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ﴾ الخ الآيتين، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون، وفي بعض الروايات أن عمراً أسلم على يد النجاشي. وبذلك يلغز فيقال صحابي أسلم على يد تابعي، لأن النجاشي لم يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو اجتمع به بعد مقدمه من الحبشة، وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار، إلى أن هاجر رسول الله إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه، وذلك سنة ست من الهجرة، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها ومات عنها، فأرسل النجاشي جارية يقال لها أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله قد خطبها فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحاً كانت لها، وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها فأنكحها لرسول الله على صداق مبلغه أربعمائة دينار، وكان الخاطب لرسول الله النجاشي، فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة، فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين ديناراً فلم تأخذها وقالت إن الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئاً، وقالت أنا صاحبة ذهب الملك وثيابه، وقد صدَّقت بمحمد وآمنت به، وحاجتي إليك مني أن لا تقرئيه مني السلام، قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر خيبر، قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله بخيبر، فخرج من قدم معي وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله فدخلت عليه، فكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك، فرد رسول الله عليها السلام، وأنزل الله﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾[الممتحنة: ٧] يعني أبا سفيان وذلك بتزوج رسول الله أم حبيبة ولما بلغ أبا سفيان تزوج رسول الله بأم حبيبة قال: ذلك الفحل لا يجدع أنفه، وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى رسول الله ابنه أزهى في ستين من أصحابه وكتب إليه: يا رسول الله، إني أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفراً وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني أزهى، وإن شئت أن آتيك بنفس فعلت، والسلام عليك يا رسول الله، فركبوا في سفينة أثر جعفر. حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله وهو بخيبر، ووافى جعفر في سبعين رجلاً، عليهم الثياب الصوف، منهم اثنان وستون رجلاً من الحبشة وثمانية من الشام، فقرأ عليهم رسول الله سورة يس إلى آخرها، فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله هذه الآية فيهم، ولذلك قال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء بها عيسى عليه السلام، فلما بعث صلى الله عليه وسلم آمنوا به وصدقوه فأثنى الله عليهم.
قوله: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ صنيع المفسر يقتضي أنه مستأنف حيث قال: قال تعالى ولذلك جعله بعضهم أول الربع، ويصح أن يكون عطفاً على لا يستكبرون. قوله: ﴿ تَفِيضُ ﴾ أي تمتلئ بالدمع حتى يسيل. قوله: ﴿ مِنَ ٱلدَّمْعِ ﴾ من ابتدائية. قوله: ﴿ مِمَّا عَرَفُواْ ﴾ من تعليلية و ﴿ مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ بيانية. قوله: ﴿ يَقُولُونَ ﴾ استئناف مبني على سؤال، كأنه قيل فماذا يقولون. قوله: ﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ جملة مستأنفة جواباً للسؤال الوارد عليهم. قوله: ﴿ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ معطوف على لفظ الجلالة، أي لا مانع لنا من الإيمان بالله وبما جاءنا من الحق، ويراد بالحق القرآن. قوله: (عطف على تؤمن) أي مسلطة عليه لا على سبيل الاستفهام الإنكاري، والمعنى أي شيء ثبت لنا في كوننا لا نؤمن بالله ولا بالقرآن، ولا نطمع في أن يدخلنا ربنا الخ، مع وجود مقتضى ما ذكر.
قوله: ﴿ بِمَا قَالُواْ ﴾ أي بسبب قولهم: ورتب الثواب على القول، لأنه قد سبق بما يدل على إخلاصهم فيه. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ لما ذكر الله تعالى الوعد لمؤمني النصارى، وذكر الوعيد لمن بقي منهم على الكفر جمعاً بين الترغيب والترهيب. قوله: (ونزل لما هم قوم) أي وهم عشرة اجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وسبب اجتماعهم" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظ الناس يوماً حتى أبكاهم، فرقت أفئدتهم وعزموا على الترهب، وهم: أبو بكر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون، فتتشاوروا واتفقوا على أنهم يلبسون المسوح، ويجبون مذاكيرهم، ويصومون الدهر، ويقومون الليل، ولا ينامون على الفراش، ولا يأكلون اللحم والودك ولا يقربون النساء ولا الطيب، وأن يسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادقه، فقال لامرأته: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب، وكرهت أن تفشي سر زوجها، فقالت: يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء عثمان أخبرته بذلك فأتى هو وأصحابه العشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ألم أخبر أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ فقالوا: يا رسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله: " إني لم أؤمر بذلك ثم قال صلى الله عليه وسلم: " إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وافطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، ثم جمع الناس وخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا، وإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي ورهبانيتهم الجهاد، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحجوا واعتمروا، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الديارات والصوامع "، فنزلت تلك الآية. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا هو فاعل نزل. قوله: ﴿ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي لا تجعلوها حراماً على أنفسكم، فمن حرم حلالاً فلا يحرم عليه إلا الزوجة، لأن الله جعل بيده تحريمها وتحليلها دون ما سواها، واعتقاد التحريم من غير إنشاء منه كفر. قوله: (تتجاوزا أمر الله) أي ونهيه فلا تفعلوا ما نهى الله عنه، ولا تفرطوا فيما أمر به. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ ﴾ أي المتجاوزين الحد، ومن جملة ذلك قطع المذاكير والشهوة والإسراف في المطاعم والمشارب قال تعالى:﴿ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ ﴾[الأعراف: ٣١].
قوله: (حال) أي من حلالاً لأنه في الأصل نعت نكرة قدم عليها وطيباً صفته. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فتقوى الله لا تتوقف على الرهبانية كما كان في الأمم السابقة.
قوله: ﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ ﴾ هذا مرتب على قوله:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾[المائدة: ٨٧] لأن بعض الصحابة حلف على الترهب لظن أنه قربة، فلما نزلت الآية شكوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمين، فنزلت هذه الآية. قوله: (هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف) أي بل بقصد التبرر أولا قصد له وهذا مذهب الشافعي، وأما عند مالك وأبي حنيفة فاللغو أن يحلف على ظنه فيتبين خلافه. وهذا في غير الطلاق وأما هو فلا ينتفع ففيه اللغو واللغو عند مالك وأبي حنيفة تكفر إن تعلقت بمستقبل فقط، لا إن تعلقت بحال أو ماض. والحاصل أنه إن قصد باليمين التبرر فهو لغو عند الشافعي لا عند مالك وأبو حنيفة، وأما إن سبق لسانه باليمين من غير قصد أصلا فهو لغو اتفاقاً، والحلف على ظن شيء فتبين خلافة اتفاقاً أيضاً. قوله: (وفي قراءة عاقدتم) والثلاث سبعيات، فالتخفيف ظاهر، والتشديد للمبالغة، وما مصدرية أي بتعقيدكم الأيمان. قوله: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ ﴾ مبتدأ، و ﴿ إِطْعَامُ ﴾ خبره وهو مضاف لمفعوله الأول، والمفعول الثاني قوله: ﴿ مِنْ أَوْسَطِ ﴾ والفاعل محذوف قياساً يعود على الحالف تقديره إطعامه عشرة مساكين. قوله: (أي اليمين) إن قلت: إن اليمين مؤنثة فلم عاد الضمير عليها مذكراً؟ أجيب: بأنها تذكر بمعنى الحلف. قوله: (إذا حنثتم فيه) أي وهو الخلف بالله أو بصفة من صفاته القديمة، وأما الحلف بغير ذلك فلا حنث فيه، ثم هو إن كان مما يعظم شرعاً كالكعبة والنبي فقيل مكروه وقيل حرام، وإلا فهو ممنوع لما في الحديث: " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ". قوله: ﴿ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾ المراد ما يشمل الفقراء، والفقير هو من لا يملك قوت عامه، والمسكين من التصقت بيده بالتراب عند مالك. قوله: (لكل مسكين مد) أي وهو رطل وثلث بالبغدادي، وبالمصري رطل وأوقيتان وربع أوقية. قوله: ﴿ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾ قدر المفسر المفعول الثاني بقوله منه والأوضح أن يقدره متصلاً به وأهليكم مفعول الأول. قوله: (أغليه) هذا تفسير لأوسط، فإن كان القمع غالب اقتياتهم مثلاً أخرج منه. ولو كان هو يفتات ذرة مثلاً. وهل المراد بالغالب وقت الإخراج وهو مذهب مالك أو في السنة وهو مذهب الشافعي. وقوله: (لا أعلاه ولا أدناه) أي لا تفهم أن المراد بالأوسط ما قابل الأعلى كالقمح. والأدنى كالدخن. بل المراد به الغالب في الاقتيات. كان هو في نفسه أعلى أو أدنى أو أوسط. ويكفي بدل الإمداد عند مالك، لكل واحد رطلان من خبز، أو إطعام العشرة غداء وعشاء. أو غداءين أو عشاءين. قوله: (بما يسمى كسوة) أي وإن لم يكن من غالب كسوة الناس لأن قيد الأوسطية مخصوص بالإطعام. واشترط مالك كون الكسوة تستر البدن للرجل ثوب، وللمرأة درع وخمار. قوله: (وعمامة وإزار) الواو بمعنى أو، ويكفي المنديل عند الشافعي. قوله: (وعليه الشافعي) أي ومالك. قوله: (كما في كفارة القتل والظهار) أي كما ثبت عند الفقهاء في كفارة القتل بالتصريح بمؤمنة، والظهار بحمل المطلق على المقيد، وهذا مذهب مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة لا يحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد السبب، وأما هنا فقد اختلف السبب فلا حمل فيكفي في اليمين والظهار عند عنق الكافرة. قوله: ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ أي بأن لم يكن عنده ما يباع على المفلس بأن لم يكن عنده أزيد من قوت يومه، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم، وقال في الجديد ينتقل للصيام إن لم يكن عنده ما يكفيه العمر الغالب. قوله: ﴿ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾ أي فالكفارة مخير فيها ابتداء في الثلاثة مرتب انتهاء في الصيام، وأفضلها في التخيير عند مالك الإطعام ثم الكسوة ثم العتق، وعند الشافعي العتق ثم الكسوة ثم الإطعام. قوله: (كفارته) أشار بذلك إلى أن صيام مبتدأ خبره محذوف، والأوضح أن يقدر المحذوف هو المبتدأ. قوله: (وعليه الشافعي) أي ومالك خلافاً لأبي حنيفة في اشتراطه التتابع. قوله: (ما لم يكن على فعل بر) أي فالحنث أفضل. قوله: (كما في سورة البقرة) أي في قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾[البقرة: ٢٢٤] فمن حلف على شيء، وكان فعله خيراً من تركه، فالأفضل حنثه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. قوله: (ما ذكر) أي وهو حكم اليمين. قوله: (على ذلك) أي البيان فإنه من أعظم النعم.
قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ سبب نزولها دعاء عمر رضي الله عنه بقوله: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، وذلك أنه لما نزل قوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾[البقرة: ٢١٩] الآية أحضر رسول الله عمر وقرأها عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ثم نزلت﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ ﴾[النساء: ٤٣] فأحضره رسول الله وقرأها عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية، فأحضره وقرأها عليه فقال: انتهينا يا رب، وذكرت عقب ما قبلها، لأنه لما نهي فيما قبلها عن تحريم الطيبات مما أحلّ الله، وكانت الخمر والميسر مما يستطاب عندهم، ربما يتوهم أنهما داخلان في جملة الطيبات، فأفاد أنهما ليسا كذلك. قوله: (الذي يخامر العقل) أي يستره ويغطيه ولو كان متخذاً من غير العنب. قوله: (القمار) من المقامرة وهي المغالبة، لأم كلاً يريد المغالبة لصاحبه، والمراد بالقمار اللعب بالملاهي، كالطاب والطولة والمنقلة، فيحرم اللعب بذلك إذا كان بمال إجماعاً، وبغيره ففيها الخلاف بين العلماء بالكراهة والحرمة ما لم يضيع بسببها الفرائض، وإلا فحرام إجماعاً، وسمي ميسراً، لأن فيه أخذ المال بيسر. قوله: ﴿ وَٱلأَنصَابُ ﴾ جمع نصب، سميت بذلك لأنها تنصب وترفع للعبادة. قوله: (قداح الاستقسام) تقدم أنها سبعة. قوله: ﴿ رِجْسٌ ﴾ خبر عن كل واحد مما تقدم من الخمر وما بعده، وحيث قرن الخمر والميسر بالأنصاب والأزلام، فهو دليل على أنهما من الكبائر، وقوله: (خبيث مستقذر) تفسير للرجس، وأما الرجز فهو العذاب، وأما الركس فهو العذرة والشيء النتن. قوله: (الذي يزينه) أي يأمر به ويحسنه، وليس المراد من عمل يده. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ الترجي في كلام الله تعالى للتحقيق. قوله: ﴿ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾ إنما أعادهما ثانياً لأنهما اللذان كانا في المسلمين، بخلاف الأنصاب والأزلام، وذكرهما أولاً لمزيد التنفير عنهما، وأكد التحريم بأمور، وإنما جمعهما مع الأنصاب والأزلام، وكونهما رجساً من عمل الشيطان، وكون اجتنابهما موجباً للفلاح، وكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقعان في العداوة والبغضاء والاستفهام التهديدي. قوله: (خصهما بالذكر) أي الصلاة مع دخولها في الذكر. قوله: (أي انتهوا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام بمعنى الأمر، وهو استفهام تمهيدي، وهو أبلغ من الأمر صريحاً كأنه قيل: قد بينت لكن ما في هذه الأمور من القبائح، فهل أنتم منتهون عنها، أم أنتم مقيمون عليها فلكم الوعيد. قوله: ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ ﴾ معطوف على معنى الاستفهام، أي انتهوا وأطيعوا. قوله: ﴿ وَٱحْذَرُواْ ﴾ (المعاصي) أي فإنها تجر إلى الكفر. قوله: ﴿ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾ أي وقد فعله، فلم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى، حتى بلغ ما أمر بتبليغه، ففي الحديث:" تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ونهارها كليلها، لا يضل عنها إلا هالك "قوله: (وجزاؤكم علينا) أشار بذلك إلى أن جواب الشرط محذوف.
قوله: ﴿ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ سبب نزولها أنه لما نزل تحريم الخمر والميسر، قال أبو بكر وبعض الصحابة: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت. قوله: (أكلوا من الخمر والميسر) أي تناولوا ذلك شرباً للخمر وانتفاعاً بمال القمار عاشوا أو ماتوا. قوله: ﴿ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ﴾ والحاصل أنه كرر سبحانه وتعالى قوله اتقوا ثلاثاً، فقيل الأول محمول على مبدأ العمر، والثاني على وسطه، والثالث على آخره، وقيل الأول اتقوا المحرمات خوف الوقوع في الكفر، والثاني الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، والثالث بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات. وقيل الأول تقوى العبد بينه وبين ربه، والثاني تقوى العبد بينه وبين نفسه، والثالث تقوى العبد بينه وبين الناس، لأن العبد لا يكمل إلا إذا كان طائعاً فيما بينه وبين ربه، مجاهداً فيما بينه وبين نفسه، محافظاً على حقوق العباد. قوله: (ثبتوا على التقوى) هذا إشارة للمعنى الأول، وهو أن المراد بالأول التقوى في أول العمر الخ. قوله: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ نزلت عام الحديبية حين أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ألفاً وأربعمائة بالعمرة من ذي الحليفة، وأرسل عثمان لأهل مكة يخبرهم بأن رسول الله قاصد زيارة بيت الله، فجلسوا ينتظرون عثمان، فكانت وحوش البر والطيور تأتي إليهم من كل فج، فنزلت الآية. قوله: (ليختبرنكم) أي يعاملكم معاملة المختبر. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلصَّيْدِ ﴾ أي المصيد وهو وحوش البر والطيور، وهذا الابتلاء نظير ابتلاء قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت، ولكن الله حفظ الأمة المحمدية من الوقوع فيما يخالف أمر ربهم، فتم له السعد والعز في الدنيا والآخرة، وأما أمة موسى فتعدوا واصطادوا فمسخوا قردة وخنازير، قوله: ﴿ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ هو على التوزيع، فالأيدي راجع للصغار والرماح راجع للكبار. قوله: (بالحديبية) أي سنة ست، وقوله: (وهم محرمون) أي بالعمرة، وأشيع قتل عثمان فبايع النبي أصحابه تحت الشجرة على أنهم يدخلون مكة حرباً ثم حصل صلح بين الكفار وبين رسول الله، فأمرهم رسول الله بالتحلل من العمرة بالحلاق وذبح الهدايا. قوله: (علم ظهور) أي للخلق أي ليظهر لهم المطيع من العاصي. قوله: (حال) أي من فاعل يخاف، أي حال كون العبد غائباً عن الله أي محجوباً عنه لم يره. قوله: ﴿ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ (النهي) أي المستفاد من قوله: ﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ﴾ مع علته التي هي قوله: ﴿ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ﴾.
قوله: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ لما كان قتل الصيد في حال الإحرام مشدداً في النهي عنه، كرر في هذه الصورة أربع مرات أولها في قوله:﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾[المائدة: ١] ثانيها﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ ﴾[المائدة: ٩٤] الآية. ثالثها ﴿ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾.
رابعها ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ ﴾.
الآية. قوله: ﴿ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ ﴾ أتى به وإن علم من قوله:﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[المائدة: ٩٤] ليرتب عليه قوله: ﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً ﴾ الآية. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ الجملة حالية من فاعل تقتلوا، وحرم جمع حرام، يقع على المحرم وإن كان في الحل، وعلى من في الحرام وإن كان حلالاً، فهما سيان في النهي عن قتل الصيد. َقوله: ﴿ وَمَن قَتَلَهُ ﴾ من اسم شرط جازم، وقتل فعل الشرط، وقوله: ﴿ فَجَزَآءٌ ﴾ مبتدأ خبره محذوف قدره المفسر بقوله: (فعليه) وقوله: ﴿ مِّثْلُ ﴾ خبر لمحذوف تقديره هو مثل، والجملة جواب الشرط، والمعنى أن ما قتله المحرم أو من في الحرم، أول مدخل في قتله، فعليه جزاؤه، وهو ميتة لا يجوز أكله، ويقدم المضطر ميتة غيره عليه. قوله: ﴿ مُّتَعَمِّداً ﴾ سيأتي للمفسر أنه لا مفهوم وله، بل الخطأ والنسيان كذلك، إلا أن الحرمة مختصة بالمتعمد. قوله: ﴿ مِنَ ٱلنَّعَمِ ﴾ أي الإنسية وهي الإبل والبقر والغنم، والجار والمجرور حال من مثل أو صفة له. قوله: (وفي قراءة) وهي سبعية أيضاً. قوله: (بإضافة جزاء) إن قلت على هذه القراءة يقتضي أن الجزاء لمثل المقتول لا المقتول نفسه مع أنه ليس كذلك. أجيب بأجوبة منها: أن الإضافة بيانية، ومنها أن مثل زائدة، ومنها أن جزاء مصدر مضاف لمفعوله، أي أن يجازى القاتل مثل المقتول حال كون المصل من النعم. قوله: (رجلان) قدره إشارة إلى أن ذوا صفة لموصوف محذوف. قوله: ﴿ ذَوَا عَدْلٍ ﴾ أي عدل شهادة. قوله: (يميزان بها) أي بتلك الفطنة أي العقل الزكي قوله: (وقد حكم ابن عباس) أي وحكم الصحابة المذكور بين أصول المماثلة، وأما جزئيات الوقائع، فلا بد لكل واحد من حكم إلى يوم القيامة، لاختلاف الصيد بالكبر والصغر، ولا بد من كون الجزاء المحكوم به يجزئ ضحية عند مالك. قوله: (في النعامة) أي ومثلها الزرافة والفيل، وقوله: (في الظبي) أي ومثله الضب. قوله: (لأنه يشبهها في العب) أي شرب الماء بلا مص، وهذا التعليل للإمام الشافعي، وقال مالك بوجوب الشاة في خصوص حمام مكة ويمامة تعبداً، فإن لم يكن شاة فصيام عشرة أيام من غير تقويم ولا حكم، وحمام غيرها وسائر الطيور ليس فيه إلا قيمته طعامناً أو عدله صياماً. قوله: (حال من جزاء) ويصح أن يكون تمييزاً، وأن يكون مفعولاً مطلقاً والتقدير يهديه هدياً. قوله: (فعليه) أي طعاماً لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يوماً، فهو مخير بين أمرين فيما لا مثل له، وبين ثلاثة فيما له مثل. قوله: (وإن وجده) أي الجزاء وهو مبالغة في الكفارة، أي الكفارة عليه، هذا إذا لم يجد الجزاء، بل وإن وجده. قوله: (لكل مسكين) أي من مساكين المحل الذي هو به، وأما الصيام فلا يختص بزمان ولا مكان. قوله: (وجب ذلك) أي الجزاء بأقسامه الثلاثة، وقوله: ﴿ لِّيَذُوقَ ﴾ متعلق بقوله: (وجب) وكان المناسب أن يأتي بالواو ليفيد أنه كلام مستأنف، وليس جواباً لقوله فإن وجده لفساد ذلك. قوله: ﴿ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾ أي جزاء ذنبه الصادر منه، ويؤخذ من ذلك أن قتل الصيد متعمداً للمحرم أو من في الحرم كبيرة، ولو أخرج الجزاء فيحتاج لتوبة. قوله: (ثقل جزاء) ﴿ أَمْرِهِ ﴾ أي لأن إخراج المال ثقيل على النفس، والصوم فيه إنهاك للبدن فهو ثقيل أيضاً. قوله: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف ﴾ أي لا يؤاخذ به، فلا يرد أن ما قبل التحريم لا ذنب في قتله. قوله: ﴿ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ ﴾ أي يعاقبه. قوله: (فيما ذكر) أي في لزوم الجزاء، وإن كان لا إثم فيه. قوله: (الخطأ) أي الغلط والنسيان. قوله: (كالسمك) أي وغيره من دواب البحر، وإن كان على صورة آدمي أو خنزير. قوله: (كالسرطان) أي والضفدع والتمساح. قوله: (وهو ما يعيش فيه) الأولى ما لا يعيش إلا فيه. قوله: (من الوحش) استثنى الشارع الفأرة والحية والعقرب والكلب العقور والحدأة والعادي من السباع. قوله: (فلو صاده حلال) أي لنفسه أو لحلال، وأما ذبحه لمحرم من غير دلالة من المحرم عليه فميتة عند مالك، وعند الشافعي ليس بميتة. قوله: (كما بينته السنة) أي كما روي عن أبي قتادة الأنصاري قال: كنت جالساً مع رجال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم، وذلك عام الحديبية، فأبصروا حماراً وحشياً، وأنا مشغول أخصف النعل، فلم يؤذوني وأحبوا لو أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت، ونسيت السوط والسرع والرمح، فقلت لهم: ناولوها لي، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه، فغضبت ونزلت فأخذتهما ثم ركبت، فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلون، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا وخبأت العضد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال: هل معكم شيء منه؟ فقلت نعم، فناولته العضد فأكل منه وهو محرم، زاد في رواية أن النبي قال لهم إنما هي طعمة أطعمكموها الله. قوله: ﴿ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ أي لا إلى غيره، فلا أحد غير الله يُلتجأ إليه حتى يتوهم الفرار من وعيد الله.
قوله: ﴿ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ ﴾ يحتمل أن جعل بمعنى صير، فيكون قوله الكعبة مفعول أول، وقياماً مفعول ثاني، ويحتمل أنها بمعنى خلق فيكون قياماً حالاً، والبيت الحرام عطف بيان على الكعبة. إن قلت.. إن عطف البيان إنما يكون مبيناً موضحاً، وهنا ليس كذلك، إذ من المعلوم أن الكعبة هي البيت الحرام. أجيب بأنه للاحتراز عن بيت خثعم الذي سموه الكعبة اليمانية، فهو هنا للتوضيح لدفع الإلباس بغيره. وأجيب أيضاً بأنه جيء به لمجرد المدح، إذ الكعبة عند العرب لا تنصرف إلاّ للبيت الحرام على حد﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الفاتحة: ١] إذ من المعلوم أن الله هو رب العالمين. إن قلت: إن البيت جامد والمدح لا يكون إلا بمشتق. أجيب بأنه وصف بمشتق وهو الحرام، والكعبة لغة بيت مربع، فسميت الكعبة بذلك. قوله: ﴿ قِيَٰماً ﴾ أصله قواماً وقعت الواو بعد كسرة قلبت ياء. قوله: (بالحج إليه) أي فهو أحد أركان الدين، فلا يكمل إلا به، لأن من أتى بأركان الدين ما عداه مع القدرة عليه، فلم يكمل دينه، وقد حرم نفسه من الرحمات المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:" ينزل من السماء كل يوم وليلة مائة وعشرون رحمة، ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين "قوله: (بأمن داخله) أي الحرم لا خصوص الكعبة. قوله: (وعدم التعرض له) أي للتداخل عاقلاً أو غيره. قوله: (وجبي ثمرات كل شيء إليه) أي نقلها له وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حين قال:﴿ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾[إبراهيم: ٣٧] وقال تعالى في مقام الامتنان﴿ يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[القصص: ٥٧].
قوله: (وفي قراءة) وهي سبعية أيضاً. قوله: (قيماً) أي على وزن عنب. قوله: (مصدر قام) أي أيضاً إذ قياماً مصدر له أيضاً. قوله: (غير معل) أي الآن بقلب واوه ياء، فلا ينافي أن أصله معل وهو قياماً، فالياء الثابتة في قياماً هي الموجودة في قيماً غير أن ألفه حذفت، فيلاحظ أن قيماً فرع عن قياماً، فلم يحصل فيه تغير إلا حذف الألف. قوله: ﴿ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ ﴾ معطوف على الكعبة، وأل فيه للجنس فيشمل الأشهر الأربعة، ولهذا أشار المفسر بقوله: (يعني الأشهر الخ). قوله: (قياماً) قدره إشارة إلى أنه محذوف من الثاني لدلالة الأول عليه. قوله: (بأمنهم القتال فيها) أي فكانت العرب يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، إلا في الأشهر الحرم. قوله: ﴿ وَٱلْهَدْيَ ﴾ أي فهو من مصالح الدين لجبره نقص الحج، والدنيا لحصول البركة فيما بقي من ماله بسبب إنفاقه الهدي في سبيل الله، وهكذا كل صدقة بها مصالح الدين بتكفير الذنوب، ومصالح الدنيا بنمو المال، ووقاية صاحبها مصارع السوء. قوله: ﴿ وَٱلْقَلاَئِدَ ﴾ أي التي كانوا يقلدون بها أنفسهم إذا خرجوا من مكة لمصالحهم، فكانوا يأخذون من شجر الحرم شيئاً ويضعونه في عنقهم إذا خرجوا، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم. قوله: ﴿ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، ولتعلموا خبره، وأن اسمها وخبرها في محل نصب سدت مسد مفعولي تعلموا، وقوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ معطوف على أن الأولى من عطف العام على الخاص. قوله: (فإن جعله ذلك) أي المتقدم ذكره وهو الكعبة الشهر الحرام والهدي والقلائد. قوله: (لجلب المصالح) علة لما قبله، وقوله: (دليل الخ) خبر إن. قوله: (وما هو كائن) أي الآن أو في المستقبل.
قوله: ﴿ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ (لأعدائه) أي الذين بطروا نعمته، وسماهم أعداء لمخالفتهم أمره، فكل من خالفه فهو كالعدو له، والمعنى يعامله معاملة العدو. قوله: (لأوليائه) أي أحبابه الذين يشكرون نعمه، وإنما قدم شديد العقاب لأنه تقدم ذكر النعم، فحذر من الاغترار بها والطغيان فيها، لأن الفقر مع الشكر خير من الغنى والبطر. قوله: ﴿ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ﴾ هو بالرفع فاعل لفعل محذوف، أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله، والمعنى ليس على الرسول إلا تبليغ أمر دينكم لا جزاؤكم. قوله: (الإبلاغ) أشار بذلك إلى أنه استعمل مصدر المجرد موضع المزيد في الآية لمزيد البلاغة، أن زيادة البنية تدل على زيادة المعنى، ففيه الإشارة إلى أنه بلغ البلاغ الكامل. قوله: (فيجازيكم به) أي إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قوله: ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ ﴾ معطوف على محذوف تقديره فلا يستويان، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والمقصود من ذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك أمته، فليس الخطاب له، لأنه قد زهد الحلال، فضلاً عن كونه يعجبه كثرة الحرام. قوله: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ (في تركه) أي ولا تتعرضوا لأخذ الحرام، فإنه يورث غضب الله، ولا لأخذ الشبهات أيضاً، فإنها تورث قسوة القلب. قوله: (تفوزون) أي تظفرون برضا الله، فإن العز كل العز للمتقي. قوله: (ونزل لما أكثروا سؤاله) أي عن أمور لو أجابهم عنها لشق عليهم، وعن أمور لو أجابهم بها لساءتهم. فالأول كسؤالهم عن الحج، هل هو واجب في العمر مرة أو كل عام مرة؟ والثاني كسؤال رجل عن أبيه بعد موته أي هو؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه في النار.
قوله: ﴿ عَنْ أَشْيَآءَ ﴾ أصله شيآء على وزن فعلاء كحمراء استثقلت العرب النطق في كلمة يكثر استعمالها بألف همزتين، خصوصاً قبل الهمزة الأولى ياء فقلبوها قلباً مكانياً، فقدموا الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة قبل الشين فصار وزنه لفعاء، وهو ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة. قوله: (لما فيه المشقة) علة لقوله: ﴿ تَسُؤْكُمْ ﴾ والمشقة إما لحصول التكليف بها، أو لحصول الإساءة والفضيحة بها ففي الحديث:" إن الله أحل لكم أشياء وحرم أشياء وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ". قوله: ﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا ﴾ إن حرف شرط، وتسألوا فعل الشرط، وعنها متعلق بتسألوا، والضمير عائد على الأشياء المتقدمة، وقوله: ﴿ حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ ﴾ ظرف متعلق بتسألوا، وقوله: ﴿ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ جواب الشرط. قوله: (المعنى إذا سألتم الخ) حاصل ما أفاده المفسر أن هنا جملتين شرطيتين ونهي، فالأصل تأخير النهي عن الجملتين، وتأخير الجملة الأولى عن الثانية، وإنما قدم النهي ونتيجته وهي الإساءة اعتناء بزجر عباده، وهذا التقديم والتأخير باعتبار المعنى، وإلا قالوا ولا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً. قوله: (إذا سألتم عن أشياء) هو معنى الجملة الثانية، وقوله: (متى أبداها ساءتكم) هو معنى الجملة الأولى، وقوله: (فلا تسألوا عنها) هو معنى النهي، وما ذكره المفسر أحد احتمالات في الآية وهو أحسنها، قوله: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ﴾ أي لم يؤاخذكم بذلك. قوله: (عن مسألتكم) أي عن جوابها، والمعنى لم يجبكم بالتشديد مع استحقاقكم إياه بالسؤال عما لا يعينكم، فضلاً منه ولطفاً بكم. قوله: (فلا تعودوا) أي لمثل هذه الأسئلة. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ في معنى العلة لقوله: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ﴾ أي عفا عنها، لأنه غفور يستر الذنوب ويمحوها، حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. قوله: (قد سألها) هذا امتنان من الله تعالى على هذه الأمة، حيث لم يشدد عليهم كما شدد على من قبلهم، رحمة منه وزجراً لهم عن وقوع مثل ذلك منهم. قوله: (أي الأشياء) أي نوع من الأشياء وهو ما فيه الإساءة، كسؤال قوم صالح أن يأتي لهم من الجبل بناقة، وكسؤال قوم عيسى المائدة، وكسؤال قوم موسى رؤية الله جهرة، فأجاب سؤالهم بالتشديد عليهم في التكاليف فخالفوا فحل بهم ما حل من العذاب، وإنما قال هنا قد سألها ولم يقل عنها إشارة إلى أن السؤال كما يتعدى بالحرف يتعدى بنفسه. قوله: (بيان أحكامها) أي أحكام الأشياء التي سألوها مع التشديد عليهم. قوله: (بتركهم العمل) أشار بذلك إلى أن الكفار إنما هو بترك العمل لا بنفس تلك الأشياء، فالكلام على حذف مضاف.
قوله: ﴿ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ ﴾ رد إبطال لما كان عليه الجاهلية. قوله: (شرع) إن قلت إنه لم يرد في اللغة بمعنى شرع، فالمناسب أن يفسرها بصير، ويكون المفعول الذاتي محذوفاً، والتقدير مشروعاً. قوله: ﴿ مِن بَحِيرَةٍ ﴾ من زائدة في المفعول، ووجد شرطها، وهو كون مدخولها نكرة في سياق نفي. قوله: (درها) أي لبنها، وقوله: (للطواغيت) أي خدمتها وهذا أحد أقوال في تفسير البحيرة وما بعدها وهو أصحها، وقيل البحيرة هي الناقة متى تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكر، فتشق أذنها وترك، فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء، وإذا لقيها الضعيف لم يركبها، وقيل هي الأنثى الخامسة في النتاج، وقيل هي بنت السائبة، وسبب هذا الاختلاف اختلاف العرب في البحيرة، فبعضهم يطلقها على واحد من الأمور المتقدمة، وبعضهم على واحد آخر منها وهكذا. قوله: (والسائبة كانوا الخ) وقيل الناقة تنتج عشر إناث، فلا تركب ولا يشرب لبنها إلا ضعيف أو ولد، وقيل هي الناقة تترك ليحج عليها حجة. قوله: (والوصيلة الناقة البكر الخ) وقيل هي الشاة التي تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين، فإذا ولدت في آخرها عناقاً وجدياً قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة وقيل هي الشاة تنتج سبعة أبطن، فإذا كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت، فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فيتركونها معه، فلا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء، وقالوا خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وقيل هي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمسة أبطن، ثم ما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث، وقيل غير ذلك. قوله: (والحام فحل الإبل) وقيل هو الفحل ينتج له سبع أناث متواليات فيحمي ظهره، وقيل هو الفحل الذي ينتج من بين أولاده ذكورها وإناثها عشر إناث، وقيل غير ذلك، وقد علمت أن اختلاف تلك الأقوال لاختلاف اصطلاح الجاهلية فيها، ولم يجعل الله سبحانه وتعالى شيئاً منها في دين الإسلام على جميع الأقوال. قوله: (الضراب المعدود) أي وهو عشر مرات ينشأ عن كل مرة حمل. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي علماؤهم، وقوله: ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي عوامهم، فهم كالأنعام بل هم أضل.
قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ الضمير عائد على قوله وأكثرهم الذين هم عوامهم، والقائل يحتمل أنه النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه. قوله: ﴿ تَعَالَوْاْ ﴾ فعل أمر بمعنى أقبلوا، وأصله تعالوون، تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فصار تعالاون التقى ساكنان حذفت الألف لالتقائهما، وحذفت النون لأن فعل الأمر يبنى على ما يجزم به مضارعه وهو يجزم بحذف النون، وهو بفتح اللام لكل مخاطب ولو أنثى، قال تعالى:﴿ فَتَعَالَيْنَ ﴾[الأحزاب: ٢٨].
قوله: ﴿ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ أي إلى الذي أنزله الله وهو القرآن، وقوله: ﴿ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ معطوف على ما، أي وتعالوا إلى الرسول، أي ليبين لكم أحكام الله. قوله: (أي إلى حكمه) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ على حذف مضاف، وقوله: (من تحليل ما حرمتم) بيان لحكمه، وهو البحيرة والسائبة والصيلى والحام ومثل ذلك في الحرمة ما يفعله بعض سفهاء العوام، من كونهم يرسلون عجلاً أو شاة على اسم ولي من الأولياء تأمل من أموال الناس ولا يتعرض لهما أحد، فإذا نصحهم إنسان وقال لهم إن ذلك حرام، أساؤوا الظن وقالوا إنه لا يحب الأولياء، فإذا اعتقدوا أن ذلك قربة وطاعة فقد كفروا، وإلا فهو من جملة المحرمات ويحسبون أنهم على شيء إلا أنهم هم الكاذبون. قوله: ﴿ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا ﴾ حسبنا مبتدأ وما وجدناه خبره. قوله: ﴿ أَ ﴾ (حسبهم ذلك) ﴿ وَلَوْ كَانَ ﴾ الخ الواو في أولو للحال، وهمزة الإنكار الواقعة قبلها داخلة على محذوف قدره المفسر والمعنى أكافيهم دين آبائهم ولو كانوا الخ، ويصح أن تكون للعطف على جملة شرطية مقدرها قبلها، والتقدير أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم يعلمون شيئاً ويهتدون، بل ولو كانوا لا يعلمون الخ، نظير أحسن إلى فلان وإن أساء إليك، أي أحسن إليه في حال عدم إساءته، بل ولو في حال إساءته. قوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ عبر هنا بيعلمون، وفي البقرة بيعقلون، وقال هنا ما وجدنا، وهناك ما ألفينا تفنناً. قوله: (للإنكار) أي والتوبيخ.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ قيل إنه مرتبط بما قبله فيكون قوله لا يضركم من ضل يعني من أهل الكتاب، والمعنى أن الله كلفنا بقتال الكفار حتى يسلموا أو يؤيدوا الجزية، فإذا أدوها كففنا أنفسنا عنهم ولا يضرنا كفرهم، وقيل مستأنفة نزلت في العصاة، فالمعنى عليك بحفظ نفسك ولا تتعرض لغيرك، فلا يضرك ضلال من ضل. إن قلت: إن هذا يوهم أن المدار على هدى الإنسان في نفسه، ولا يلزمه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، وهو خلاف النصوص الشرعية من الآيات والأحاديث النبوية. وأجيب: يحمل ذلك على من عجز عن ذلك، وإلى هذين القولين أشار المفسر فيما يأتي بقوله قيل المراد الخ، وفي الحقيقة المراد ما هو أعم، فإذا امتثل العبد ما أمره الله به وترك ما نهاه عنه فلا يضره مخالفة من خالف. قوله: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ بنصب أنفسكم على الإغراء، لأن عليكم اسم فعل بمعنى الزموا، والفاعل مستتر وجوباً تقديره أنتم، والمعنى الزموا حفظ أنفسكم وهدايتها ووقايتها من النار، والكاف في عليكم ونظيره من أسماء الأفعال كإليك ولديك، قيل في محل جر بعلى بحسب الأصل، وقيل في محل نصب ولا وجه له، وقيل في محل رفع توكيد للضمير المستتر، وذهب ابن بأبشاذ إلى أنها حرف خطاب، وقرئ شذوذاً برفع أنفسكم، وخرجت على أحد وجهين: الأول كونها مبتدأ وعليكم خبر مقدم، والمعنى على الإغراء على كل حال، فإن الإغراء جاء بالجملة الابتدائية، ومنه قراءة بعضهم ﴿ ﴾.
والرفع الثاني أنه توكيد للضمير المستتر في عليكم وإن كان خلال القياس، لأن القياس لا يؤكد بالنفس الضمير المتصل إلا بعد الضمير المنفصل لقول ابن مالك: وَإنْ تُؤكّد الضَّمِيرَ المُتَّصِل بِالنَّفْسِ وَالعَيْنِ فَبعْد المُنْفَصِلقوله: (وقيل المراد غيرهم) أي غير أهل الكتاب من العصاة، ليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ قد ورد أن الصديق قال يوماً على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها في غير موضعها، ولا تدرون ما هي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه عمهم الله بعقاب، فأمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر، ولا تغتروا بقول الله عز وجل: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ فيقول أحدكم علي نفسي، والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليستعملن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لهم "وقال الصديق أيضاً أن هذه الآية تعدونها رخصة، والله ما أنزل آية أشد منها. قوله: (سألت عنها) أي عن هذه الآية، وقوله: (فقال) أي في بيان معناها. قوله: (شحاً مطاعاً) الشح نهاية البخل، وقوله مطاعاً أي يطيعه صاحبه. قوله: (وهوى) بالقصر ما تميل إليه النفس من القبائح. قوله: (متبعاً) أي يتبعه صاحبه. قوله: (ودنيا مؤثرة) بهمزة ودونها، أي يقدمها صاحبها على الآخرة. قوله: (وإعجاب كل ذي رأي برأيه) أي فلا يعجبه رأي غيره، ولا يقبل نصيحته، زاد الخائن في تلك الرواية بعد قوله فعليك لنفسك: ردع العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم ١ هـ. قوله: ﴿ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ فيه وعد لمن أطاع ووعيد لمن اغتر وعصى.
قوله: ﴿ يِآ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لما بين سبحانه ما يتعلق بمصالح الدين شرع يبين ما يتعلق بمصالح الدنيا، إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يضبط مصالح دينه ودنياه لأنه مكلف بحفظهما. قوله: ﴿ شَهَادَةُ ﴾ مبتدأ، وبينكم مضاف إليه، إذا ظرف بشهادة، وحضر فعل ماض، واحكم مفعول مقدم، والموت فاعل مؤخر، وحين بدل من الظرف قبله، وقوله اثنان خبره. إن قلت: إن الذات لا يخبر بها عن المعنى ولا عكسه. أجيب: بأن الكلام على حذف مضاف، أما في الأول تقديره ذوا شهادة أحدكم اثنان أو في الثاني تقديره شهادة اثنين، وقوله ذوا عدل صفة لاثنان، والعدل هو الذكر البالغ غير مرتكب كبيرة ولا صغيرة خسة وغير مصر على صغيرة غيرها. قوله: (خبر بمعنى الأمر) أي فهي جملة خبري لفظاً إنشائية معنى. قوله: (أي ليشهد) بضم الياء من أشهد الرباعي، وتلك الشهادة يحتمل أن تكون حقيقية، واشتراط العدالة ظاهرة، ويحتمل أن المراد بالشهادة الوصية، أي كونه عدلاً في الوصية، بأن يحسن التصرف فيما ولي عليه، وأما كونهما اثنين فشرط كمال، ولكون سبب النزول كذلك كما سيأتي. قوله: (على الاتساع) أي التسمح والتجوز، وكان حقها أن تضاف إلى الأموال، وإنما أضيفت إلى البين لأن الشهادة على الأموال تمنع فساد البين. قوله: (بدل من إذا) أي فكل منهما ظرف لشهادة، وقوله: (أو ظرف لحضر) أي فقوله إذا ظرف لشهادة، أي فعلى هذا تغاير متعلق الظرفين. قوله: ﴿ أَوْ آخَرَانِ ﴾ معطوف على اثنان، أي فإن لم يجد العدلين لكون رفقته في السفر كفاراً كما هو سبب النزول فليشهد أو يوص آخرين، وحاصله لأجل اتضاح المعنى، أن بزيلا السهمي مولى عمرو بن العاص وقيل بديل بالدال، وعدي بن بداء، وتميماً الداري، سافروا من المدينة إلى الشام بتجارة، فحضرت بزيلا السهمي الوفاة وكان مسلماً، وعدي وتميم نصرانيان، فكتب متاعه في وثيقة، ومن جملة ما كتب في الوثيقة: جام من الفضة قدره ثلثمائة مثقال مخوص بالذهب، وأمرهما أن يسلما متاعه لورثته فوجدوا فيه صحيفة مكتوباً فيها جميع المتاع، ومن جملته جام من فضة، ففتشوا عليه فلم يجدوه، فجاؤوهما فقالوا لهما صاحبنا قد تمرض وأنفق على نفسه، قالا ل، قالوا: فهل باع من متاعه شيئاً، قالا: لا قالوا: فأين الجام؟ قالا: لا علم لنا به، فارتفع أقارب بزيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالواقعة، فأحضر عدياً وتميماً فسألهما عنه فقالا: لا علم لنا به، فنزلت الآية، فأحضرهما بعد صلاة العصر عند المنبر وحلفهما، ثم بعد ذلك ظهر الجام، قيل بمكة مع رجل وقيل بيدهما، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت الآيتان الأخيرتان، فأحضر رسول الله عمر بن العاص والمطلب بن أبي وداعة وحلفهما، فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا، فأعطي الجام لهما. قوله: ﴿ إِنْ أَنتُمْ ﴾ شرط في المعطوف، وقوله أنتم فاعل بفعل محذوف يفسره قوله: ﴿ ضَرَبْتُمْ ﴾ فجملة ضربتم لا محل لها من الإعراب، لأنها مفسرة للمحذوف، وقوله: ﴿ فَأَصَابَتْكُم ﴾ معطوف على ضربتم. قوله: (صفة آخران) أي وجملة الشرط، وجوابه معترضة بين الصفة والموصوف. قوله: (أي صلاة العصر) أي فأل للعهد لأن وقت العصر معظم في جميع الملل، وإنما كان معظماَ لأنه وقت نزول ملائكة الليل وصعود ملائكة النهار. قوله: ﴿ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ ﴾ شرط في تحليفهما. قوله: (ويقولان) ﴿ لاَ نَشْتَرِي ﴾ الخ، بيان لكيفية يمينهما. قوله: (بأن نحلف به أو نشهد الخ) أشار بذلك إلى قولين: قيل قالوا لا علم لنا به، وقيل قالوا أوصى به لغيركم وأعطيناه له، وسياق الآية في يمينهما يشهد للثاني. قوله: (كاذباً) المناسب كذباً. قوله: ﴿ ﴾ معطوف على لا نشتري. قوله: (بأن وجد عندهما) أي وقيل عند رجل مكي باعاه له بألف درهم كما سيأتي. قوله: (وادعيا أنهما ابتاعاه الخ) إشارة لوجهين في دعواهما، وسيأتي الثالث في قوله ودفعه إلى شخص زعما أن الميت أوصى له به.
قوله: ﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ﴾ أي لهم ونائب الفاعل قدره المفسر بقوله الوصية أي الإيصاء. قوله: ﴿ ٱلأَوْلَيَانِ ﴾ تثنية أولى بمعنى أقرب كما قال المفسر. قوله: (جمع أول) بمعنى أسبق وهي بمعنى أسبق، وهي بمعنى القراءة الأولى من حيث إنهم أقارب الميت. قوله: ﴿ فَيُقْسِمَانِ ﴾ عطف على ﴿ يَقُومَانِ ﴾.
قوله: (يميننا) أي فالمراد بالشهادة اليمين. قوله: ﴿ وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ ﴾ هذا من جملة اليمين. قوله: (المعنى) أي معنى الآيتين. قوله: (أو يوصي) إشارة إلى التفسير الثاني. قوله: (إن فقدهم) أي أهل دينه. قوله: (بأخذ شيء) أي وقد ادعيا أنهما اشترياه من الميت أو أنه أوصى لهما به. قوله: (دافعاً له) أي لما الشهود ادعى عليهما به من الخيانة. قوله: (منسوخ في الشاهدين) أي عند من يشترط الشاهد في الإسلام، ولو عند فقد المسلمين، وأما عند من لم يشترط ذلك عند الفقد فلا نسخ. قوله: (للتغليظ) أي لأن اليمين تغلظ بالزمان ككونها بعد العصر، والمكان ككونها في المسجد في الحقوق المهمة من الأموال وغيرها. قوله: (وتخصيص الحلف في الآية باثنين) أي مع أنه يصح من واحد أو أكثر ممن يظن به العلم من المستحقين. قوله: (أنّ رجلاً) تقدم أن اسمه بزيل وقيل بديل بالزاي أو الدال. قوله: (مع تميم) أي وقد أسلم بعد ذلك، وصار من مشاهير الصحابة، وكان يحدث بالواقعة. قوله: (وعدي بن بداء) ولم يثبت إسلامه، وبداء بفتح الموحدة والدال المشددة بعدها ألف ثم همزة. وقوله: (جاماً) الجام في الأصل الكأس، ولكن المراد به هنا إناء كبير من فضة وزنه ثلثمائة مثقال. قوله: (مخوصاً بالذهب) أي منقوشاً به. قوله: (فأحلفهما) أي بعد العصر عند المنبر. قوله: (فقال) أي الرجل، وقوله: (ابتعناه) أي بألف درهم. قوله: (فقام رجلان) سيأتي في الرواية الأخرى اسم أحدهما وهو عمرو بن العاص، والثاني هو المطلب بن وداعة. قوله: (من رد اليمين على الورثة) أي توجهها عليهم بعد أن حلف تميم وعدي وظهر كذبهما.
قوله: ﴿ أَن يَأْتُواْ ﴾ المقام للتثنية، وكذا قوله: ﴿ أَوْ يَخَافُوۤاْ ﴾ أيضاً وإنما جمع لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما، وإنما ردت اليمين على الوارث، مع أن حقها أن تكون من الوصي لا غير، لأنه مدعى عليهما، إما لظهور خيانتهما فبطل تصديقهما باليمين، أو لتغير الدعوى أي انقلابها لأنه صار المدعى عليه مدعياً حيث ادعى الملك. قوله: (فلا يكذبوا) أي فلا يأتوا باليمين كاذبة، والمعنى أنه إنما شرع الله رد اليمين على الورثة في مثل هذه الواقعة، ليتحفظ الشاهد أو الوصي من اليمين الكاذبة أو يبنى على حصول الفضيحة. قوله: (إلى سبيل الخير) متعلق بيهدي، وفي بعض النسخ إلى سبيل الشر، فيكون متعلقاً بالخارجين.- تنبيه - ما كتبناه في تفسير تلك الآيات الثلاث هو جهل المقل، وإلا فلم يزل العلماء يستشكرونها، إعراباً وتفسيراً وأحكاماً، وقالوا إنها من أصعب آي القرآن وأشكله. قوله: (اذكر) قدره المفسر إشارة إلى أن يوم ظرف متعلق بمحذوف. قوله: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ ﴾ أي الثلثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر، أو خمسة، والحق أنه لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. قوله: ﴿ فَيَقُولُ ﴾ مقتضى الآية أنه يجمعهم في سؤال واحد، ولكن يرى كل واحد منهم أنه المسؤول لا غيره، وترى كل أمة أن رسولها هو المسؤول، ولا مانع من ذلك، فإن الله يحول بين المرء وقلبه. قوله: (توبيخاً لقومهم) دفع بذلك ما يقال: كيف يسأل الله الرسل مع أنه العالم بالحقيقة؟ فأجاب: بأن حكمة السؤال توبيخ الأمم على ما وقع منهم من الكفر والعصيان، وليس المقصود أن الله يعلم شيئاً لم يكن عالماً به من قبل، تنزه الله عن ذلك، يوضح هذا الجواب قوله تعالى:﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾[النساء: ٤١] إلى أن قال:﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً ﴾[النساء: ٤٢].
قوله: (أي الذي) أشار بذلك إلى أن ما اسم استفهام مبتدأ، وذا اسم موصول خبر، وأجبتم صلته، والعائد محذوف قدره المفسر بقوله به، قال ابن مالك: وَمِثْل مَاذَا بَعْد مَا اسْتِفْهَام أَوْ مَنْ إذَا لَمْ تُلْغَ فِي الكَلاَمِقوله: (بذلك) أي بما أجبنا به. قوله: ﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ علة لما قبله، أي فعلمنا في جانب علمك كل شيء، لأنك تعلم ما غاب عنا وما ظهر، وأما علمنا فهو قاصر على بعض ما ظهر، قوله: (وذهب عنهم علمه الخ) جواب عما يقال كيف يقولون لا علم لنا مع أنهم عالمون بذلك، فيلزم عليه الإخبار بخلاف الواقع. فأجاب: بأن في ذلك الوقت يتجلى الله بالجلال على كل أحد حتى ينسى الرسل العصمة والمغفرة، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وأما قوله تعالى﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ ﴾[الأنبياء: ١٠٣] أي انتهاء، وأما في ابتداء الموقف فلشدة الهول يكونون جثياً على الركب يقولون رب سلم سلم ثم يحصل لهم ذهول ونسيان لما أجيبوا به، فإذا آمنوا وسكن روعهم شهدوا على أممهم فلا منافاة، وأجيب أيضاً: بأن معنى قولهم: ﴿ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾ تفويض الحكم والعلم لله تعالى، كأنهم يقولون: أنت الحكم العدل وهم عبيدك فلا علاقة لنا بهم، وأجيب أيضاً: بأن المراد نفي العلم الحقيقي، إذ هو لا يكون إلا لله تعالى، لأنه المطلع على السرائر والظواهر، وأما نحن فإنما نعلم منهم ما ظهر، وما ذكره المفسر من أن الأنبياء يحصل لهم الفزع ابتداء حتى يذهلوا عن جواب أممهم لهم ثم يسكنون أحد الطريقين، والطريق الثانية وعليها المحققون أن الرسل حينئذ نفسي نفسي لا أملك غيرها، فلا يقتضي حصول الفزع، وإنما معنى ذلك أنه يقول ليست الشفاعة العظمى لي وإنما هي لغيري، فلا أملك إلا نفسي، ولم يجعل الله لي الشفاعة العامة، وذهاب الأمم للرسل وردهم إياهم إنما هو إظهار لفضله صلى الله عليه وسلم وذلك هو المقام المحمود، فالأحسن الجواب الثاني أو الثالث. قوله: (اذكره) قدره إشارة إلى أن ظرف متعلق بمحذوف وليس متعلقاً بما قبله، لأن هذه قصة مستقلة.
قوله: ﴿ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ يا حرف نداء، وعيسى منادى مبني على ضم مقدر على الألف منع من ظهوره التعذر في محل نصب، وابن نعت له باعتبار المحل. قوله: ﴿ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي ﴾ المقصود من ذلك توبيخ الكفرة حيث فرطوا في حقه وأفرطوا، وليس المراد تكليفه بالشكر في ذلك اليوم لانقطاع التكليف بالموت. قوله: (قويتك) ﴿ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ﴾ أي فكان يسير معه حيث سار، يعينه على الحوادث التي تقع ويلهمه العلوم والمعارف. قوله: ﴿ فِي ٱلْمَهْدِ ﴾ تقدم أن المهد فراش الصبي، ولكن المراد منه الطفولية، فتكلم بقوله﴿ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ ﴾[مريم: ٣٠] إلى آخر ما في سورة مريم. قوله: ﴿ وَكَهْلاً ﴾ إنما ذكر ذلك إشارة إلى أن كلامه على نسق واحد في ذكاء العقل وغزارة العلم. قوله: (كما سبق في آل عمران) الذي سبق له فيها أنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو سن الكهولة، لأن من الثلاثين للأربعين هو سن الكهولة، فقول الله تعالى: ﴿ وَكَهْلاً ﴾ صادق بكلامه قبل الرفع وبعده، فلا يصح قوله هنا لأنه رفع قبل الكهولة، ولكن الذي تقدم لنا أنه بعث على رأس الأربعين كغيره، ومكث ثمانين بعد البعثة، ورع وهو ابن مائة وعشرين سنة، فإذا نزل عاش أربعين، فيكون مدة عمره مائة وستين سنة، فيكون معنى قوله: ﴿ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً ﴾ صغيراً أو كبيراً، فعلى هذا ليس في الآية دليل على نزوله، وإنما نزوله مأخوذ من غير هذا المحل. قوله: ﴿ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي الكتابة، وقوله: ﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾ أي العلم النافع، وقوله: ﴿ وَٱلتَّوْرَاةَ ﴾ أي كتاب موسى ﴿ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ كتابه هو، وهو ناسخ لبعض ما في التوراة، وهو مكلف بالعمل بما في التوراة، ما عدا نسخه الإنجيل منها، فيكون العمل بما في الإنجيل. قوله: ﴿ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ ﴾ تقدم أنه الخفاش. قوله: ﴿ ٱلأَكْمَهَ ﴾ هو من خلق من غير بصر. قوله: ﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ ﴾ تقدم أنه أحيا سام بن نوح ورجلين وامرأة قيل وجارية، فيكون جميع من أحياهم خمسة. قوله: (حين هموا) أي اليهود بقتلك، فرفعتك إلى السماء، وألقيت شبهك على صاحبهم فقتلوه. قوله: (الذي جئت به) أي ويحتمل أن اسم الإشارة عائد على عيسى مبالغة على حد زيد عدل. قوله: (أمرتهم على لسانه) دفع بذلك ما يقال إلا الإيحاء لا يكون إلا للرسل، والحواريون ليسوا رسلاً، فأجاب بأن المراد بالوحي الأمر على لسان عيسى، وأجاب غيره بأن المراد بالوحي الإلهام على حد وأوحينا إلى أم موسى. قوله: ﴿ أَنْ آمِنُواْ ﴾ أن تفسيرية بمعنى أي لأنه تقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه.
قوله: ﴿ إِذْ قَالَ ﴾ ظرف لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر، وهو كلام مستأنف لا ارتباط له بما قبله، لأن المقصود مما تقدم تعداد النعم على عيسى، والمقصود مما هنا إعلام هذه الأمة بما وقع لأمة عيسى من التعنّي في السؤال وما ترتّب عليه، وإن كان فيها نعمة لعيسى أيضاً، لكنها غير مقصودة بالذكر. قوله: ﴿ ٱلْحَوَارِيُّونَ ﴾ هم أول من آمن بعيسى. قوله: (أي يفعل) أي فأطلق اللازم وهو الاستطاعة، وأراد الملزوم وهو الفعل، ودفع بذلك ما يقال إن الحواريين مؤمنون، فكيف يشكون في قدرة الله تعالى. وشذ من قال بكفرهم كالزمخشري. قوله: (وفي قراءة) وهي سبعية أيضاً. قوله: (ونصف ما بعده) أي على التعظيم، قوله: (أي تقدر أن تسأله) أي فالكلام على حذف مضاف في هذه القراءة الثانية، والتقدير هل تستطيع سؤال ربك، وإنما قالوا ذلك خوفاً من أن تكون هذه المسألة كسؤال موسى الرؤية فلم تحصل، وكسؤال قومه الرؤية أيضاً فأخذتهم الصاعقة، وهذه القراءة للكسائي وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بها وتقول جل الحواريون عن كونهم يشكون في قدرة الله تعالى. قوله: ﴿ مَآئِدَةً ﴾ هي ما يبسط على الأرض من المناديل ونحوها، وأما الخوان فهو ما يوضع على الأرض وله قوائم، وأما السفرة فهي ما كانت من جلد مستدير، فالخوان فعل الملوك، والمناديل فعل العجم، والسفرة فعل العرب، والمقصود هنا الطعام الذي يؤكل كل على خوان أو غيره، والمائدة إما من الميد وهو التحرك كأنها تميد بما عليها من الطعام، وعليه فهي اسم فاعل على أصلها، أو من مادة بمعنى أعطاه فهي فاعلة بمعنى مفعولة أي معطاة. قوله: ﴿ ٱتَّقُواْ ﴾ أي تأدبوا في السؤال، ولا تخترعوا أموراً خارجة عن المادة، فإن الأدب في السؤال أن تسأل أمراً معتاداً، ومن هنا حرم العلماء الدعاء بما تحيله العادة. قوله: (في اقتراح الآيات) أي اختراعها. قوله ﴿ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ جواب الشرط محذوف دل عليه قوله: ﴿ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾.
قوله: ﴿ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾ قيل اقتياتاً وقيل تبركاً وهو المتبادر. قوله: (بزيادة اليقين) أي لأن الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين أقوى في الإيمان. قوله: (أي أنك) ﴿ قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ قدر المفسر اسم أن غير ضمير شأن وهو شاذ، فالمناسب أن يقول أن أن إذا خففت كان اسمها ضمير شأن. قوله: ﴿ قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ متعلق بالشاهدين والمعنى ونكون من الشاهدين عليها عند من لم يحضرها ليزداد من آمن بشهادتنا يقيناً وطمأنينة. قوله: ﴿ عَلَيْهَا ﴾ أي حين أبدوا هذه الأمور، فقام واغتسل وليس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره وقال اللهم ربنا الخ، وهذه الآداب لا تخص عيسى، بل ينبغي لكل داع فعلها، لأن إظهار الذل والفاقة في الدعاء من أسباب الإجابة. قوله: (أي يوم نزولها) أي وقد نزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً. قوله: ﴿ عِيداً ﴾ هو مشتق من العود وهو الرجوع لأنه يعود، وجمعه أعياد، وتصغيره عبيد، وكان قياسه أعواداً وعويداً، وإنما فعلوه ذلك فرقاً بينه وبين عود الخشب. قوله: (بدل من لنا) أي بدل كم كل. قوله: ﴿ وَٱرْزُقْنَا ﴾ أي انفعنا بها، وهو مغاير لما قبله لأنه لا يلزم من الإنزال انتفاعهم بها. قوله: ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾ تتميم لما قبله على وجه الاستدلال، كأنه قال وارزقنا لأنك خير الرازقين، واسم التفضيل على بابه من حيث إن أسباب الرزق كثيرة والله خير من يأتي بالرزق لأنه الخالق والموجد له، وأما غيره فهو رازق باعتبار أنه سبب في الرزق وجار على يديه. قوله: ﴿ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ أي على لسان ملك أو إلهاماً له. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بَعْدُ ﴾ مبني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. قوله: (بعد نزولها) إشارة إلى تقدير المضاف إليه. قوله: ﴿ لاَّ أُعَذِّبُهُ ﴾ الضمير عائد على العذاب، والمعنى لا يكون ذلك العذاب لأحد من العالمين من حيث شدته وقبحه، والجملة صفة لعذاباً. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي عالمي زمانهم أو مطلقاً، والشدة في الدنيا والآخرة، لما قيل إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. قوله: (فنزلت الملائكة) روي أنها نزلت سفرة حمراء مدورة وعليها منديل بين غمامتين: غمامة من فوقها، وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين كلوا مما سألتم، فقالوا يا روح الله كن أنت أول من يأمل منها، فقال معاذ الله أن آكل منها يأكل منها ما سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا له أهل الفاقة والمرض والبرص والجذام والمقعدين فقال: كلوا من رزق الله، لكم الهناء ولغيركم البلاء، فأكلوا منها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة، وفي رواية سبعة آلاف وثلثمائة، فلما أتموا الأكل طارت المائدة وهم ينظرون حتى توارت عنهم، ولم يأكل منها مريض أو زمن أو مبتلي إلا عوفي، ولا فقيراً إلا استغنى، وندم من لم يأكل منها، فمكثت تنزل أربعين صباحاً متوالية، وقيل يوماً بعد يوم. قوله: (عليها سبعة أرغفة الخ) هذه أشهر الروايات، وفي رواية خمسة أرغفة، على واحد زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد وسمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك، تسيل دسماً، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها من أصناف البقول ما خلا الكراث، فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال ليس منهما، ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية، وفي رواية نزلت سمكة من السماء فيها طعم كل شيء. قوله: (خبزاً ولحماً) جمع بأن اللحم لحم سمك. قوله: (فخانوا وادخروا الخ) أي فسبب مسخهم خيانتهم وادخارهم أي مع كفرهم، وفي رواية أن سبب مسخهم أنه بعد تمام الأربعين يوماً من نزولها، أوحى الله إلى عيسى أن اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء، فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا للفقراء. قوله: (فمسخوا) أي فمسخ الله منهم ثلثمائة وثلاثين رجلاً باتوا ليلتهم مع نسائهم ثم أصبحوا خنازير، فلما أبصرت الخنازير عيسى بكت وجعل يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ولا يقدرون الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل أربعة ثم هلكوا.
قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ معطوف على قوله:﴿ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ ﴾[المائدة: ١١٢] عطف قصة على قصة، وفي الحقيقة هو من أفراد سؤال الرسل فهو داخل تحت قوله﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ ﴾[المائدة: ١٠٩] الخ، وإنما خصه بالذكر تقبيحاً وتشنيعاً عليهم لبشاعة عقيدتهم في نبيهم. قوله: (في القيامة) مشى المفسر والجمهور على أن ذلك القول إنما يقع يوم القيامة، وعليه فإذا بمعنى إذا، وقال بمعنى يقول، وإنما عبر بالماضي لاستواء الأزمان في علمه حالها وماضيها ومستقبلها، لأنه أحاط بكل شيء علماً، فلذا أتى بالماضي الذي يدل على تحقق الحصول، وقيل إن السؤال وقع في الدنيا بعد رفعه إلى السماء، وعليه فإذ، وقال على بابهما. قوله: (توبيخاً لقومه) جواب عما يقال إن الله تعالى عالم بكل شيء، فلم كان هذا السؤال؟ فأجاب بأن المقصود منه توبيخ من كفر، وهذا يؤيد ما قاله الجمهور، ويضعف الاحتمال الثاني. قوله: ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بمحذوف صفة لإلهين، أي إلهين كائنين من غير الله، فالله ثالثهما، وليس المعنى أن عيسى وأمه إلهان فقط، والله ليس بإله، فإنهم لم يقولوا ذلك. قوله: ( قد أرعد) أي أخذته الرعدة حتى خرج من كل شعرة عين دم كما في رواية. قوله: (من الشريك وغيره) أي كالصاحبة والولد. قوله: ﴿ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ ما نافية، ويكون فعل مضارع، ولي جار ومجرور خبرها مقدم، وأن أقول في محل رفع اسمها مؤخر، وما اسم موصول وليس فعل ماض ناقص، واسمها مستتر هو عائد الموصول تقديره هو، وبحق خبرها، ولي للتبيين على حد سقيا لك ورعياً، والمعنى لا ينبغي ولا يجوز علي لأنك عصمتني أن أقول ما ليس حقاً منسوباً لي، وهذا أحسن الأعاريب. قوله: ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ إن قلت: إن مدخول إن لا بد من كونه مستقبلاً، والقول والعلم متعلقهما ماض. أجيب: بأن الكلام على التقدير والمعنى أن يثبت أني قلته فقد تبين وظهر أن علمك متعلق به، لأنه يستحيل وقوع شيء لم يتعلق علم الله به، فحيث لم يتعلق علمه بما قال فلم يحصل ذلك منه، لأنه لا يقع شيء في ملكه إلا وهو عالم به. قوله: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾ ليست علم هنا عرفانية، لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل فهي هنا على بابها، ومفعولها الثاني محذوف تقديره منطوياً وثابتاً، والنفس بمعنى الذات، والمعنى تعلم حقيقة ذاتي وما انطوت عليه. قوله: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ أي لا أعلم حقيقة ذاتك وما احتوت عليه من الصفات، لأن من جهل ما قام بالذات فقد جهل الذات، فلا يعلم الله إلا الله، واعلم أنهم اختلفوا في إطلاق النفس على الله تعالى، فقيل لا يجوز إطلاقها في غير المشاكلة، قال تعالى:﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ﴾[الأنعام: ٥٤]﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾[آل عمران: ٢٨] قوله: (أي ما تخفيه من معلوماتك) أذ كذاتك وصفاتك، فإن معلومات الله منها ما هو ظاهر لنا كالحوادث، منها ما هو خفي عنا، ولا يحيط بجميع ذلك إلا الله تعالى. قوله: ﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ دليل لمدليل، لأن قوله: ﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ دعوى من عيسى ثم استدل عليها بقوله: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ ودليل هذا أنه غلام الغيوب، وأكد هذه الجملة بأن والضمير المنفصل وصيغة المبالغة والجمع من أل الاستغراقية.
قوله: ﴿ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ هذا استثناء مفرغ، وما اسم موصول في محل نصب هي وصلتها بالقول. قوله: (وهو) ﴿ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله أن اعبدوا الله في محل رفع خبر لمحذوف تقديره وهو أن اعبدوا. وقوله: ﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾ الجملة حالية. قوله: (أمنعهم مما يقولون) ما مصدرية ظرفية تقدر بمصدر مضاف إلى زمان وصلتها دام، ويجوز فيها التمام والنقصان، فإن كانت تامة كان معناها الإقامة، وفيهم متعلق بها وإن كانت ناقصة يكون قوله فيهم خبرها، فعلى الأول يصير المعنى وكنت عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، وعلى الثاني وكنت عليهم شهيداً مدة دوامي مستقراً فيهم. قوله: ﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ﴾ يستعمل التوفي في أخذ الشيء وافياً أي كاملاً، والموت نوع منه، قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا ﴾[الزمر: ٤٢] وليس المراد الموت، بل المراد الرفع كما قال المفسر. قوله (قبضتني بالرفع إلى السماء) حاصل ما في المقام، أن هذه العقيدة، وقعت منهم بعد رفعه إلى السماء وتستمر إلى نزوله، ولم منهم قبل رفعه، وأما بعد نزوله فلم يبق نصراني أبداً، بل إما الإسلام أو السيف، فتعين أن يكون معنى توفيتني رفعتني إلى السماء، ولو على القول بأن هذا السؤال واقع يوم القيامة، بل ذلك مما يؤيده تأمل. قوله: (أي لمن آمن منهم) دفع بذلك ما يقال إن المغفرة لا تكون للمشركين، فأجاب بأن المعنى وإن تغفر لمن آمن منهم، ولذا قال عيسى فيما تقدم: بأنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. قوله: ﴿ يَوْمُ يَنفَعُ ﴾ قرأ الجمهور يرفعه من غير تنوين، وقرأ نافع بنصبه من غير تنوين، ونقل عن الأعمش النصب مع التنوين، وعن الحسن الرفع مع التنوين، فتوجيه القراءة الأولى: أن هذا مبتدأ، ويوم خبره، وجملة ينفع الصادقين صدقهم في محل جر بإضافة يوم إليها، وكذا القراءة الثانية، غير أن الظرف مبني لإضافته إلى الجملة الفعلية، وهو مذهب الكوفيين، ومذهب البصريين أنه منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف خبره تقديره يقع يوم ينفع، وأما قراءة التنوين فالرفع على الخبرية والنصب على الظرفية كما قال البصريون، والجملة في محل رفع على الأول أو نصب على الثاني صفة لما قبلها. قوله: ﴿ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ (في الدنيا) أي فالصدق في الدنيا نافع في الآخرة، وأما الصدق في الآخرة فلا يفيد شيئاً، لتقدم الكذب في الدنيا كما سيأتي. قوله (بطاعته) أي بإقامته لهم في الطاعة، أو بسبب تلبسهم بامتثال مأموراته واجتناب منهياته، فالطاعة سبب لرضا الله ودليل عليه. قوله: ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ أي بأن شكروا على نعمائه وصبروا على بلوائه، فرضا الله على عبد، توفيقه لخدمته في الدنيا وإدخاله جنته في الآخرة، ورضا العبد عن ربه في الدنيا صبره على أحكام ربه، وفي الآخرة قناعته بما أعطاه له من النعيم الدائم. قوله: (بثوابه) أي برؤية ثوابه لهم في الجنة، حيث أعطاهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال بشر. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ اسم الإشارة يعود على الجنات وما بعدها. قوله: (لما يؤمنون الخ) أي كما في قوله تعالى:﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ ﴾[غافر: ٨٤].
قوله: ﴿ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ تنبيه على فساد زعم الكفار أن لله شريكاً، فالمعنى أن الله مالك للسماوات والأرض وما فيهن فأين الشريك له، ولا يليق أن يكون شيء من ملكه شريكاً له. قوله: (تغليباً لغير العاقل) أي وإشارة إلى أن ما سواه في رتبة العبودية سواء﴿ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً ﴾[مريم: ٩٣] فلا فرق بين عاقل وغيره في كونه مملوكاً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً. قوله: (وخص العقل ذاته الخ) دفع بذلك ما يقال إن من جملة الأشياء ذاته فيقتضي أنه قادر على ذاته. فأجاب بذلك لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات لا بالواجبات ولا بالمستحيلات، فالمراد بالشيء الموجود الممكن.