ﰡ
٢ :﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ﴾٢.
٤٥٥- مفهومه أنها كانت قبل ذلك محرمة، فدل على أن حكم الأشياء كلها كانت على الحظر. ( شرح التنقيح : ٩٢ )
٤٥٦- قال جماعة من العلماء : " ﴿ ما يتلى عليكم ﴾ هو الميتة والدم ولحم الخنزير ". ( الاستغناء : ٨٨ )
وأما التقليد، فلقوله تعالى :﴿ ولا الهدي ولا القلائد ﴾ قالت عائشة رضي الله عنها : " أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلدها هو بيده " ٦.
وقال أبو حنيفة : الإشعار بدعة لنهيه عليه والسلام عن تعذيب الحيوان وعن المثلة.
وجوابه : أن ما ذكرناه خاص، فيقدم على عموم ما ذكره. سلمنا له التساوي في العموم، لكن حديث مسلم السابق عام الوداع، وحديث المثلة عام أحد، فيكون منسوخا وينتقض عليه بالكي والوسم في أنعام الزكاة والجزية لتمييزها عن غيرها. والغرض هاهنا أيضا أن لاختلط بغيرها، وأن يتوقاها اللص، وأن ينحرها من وجدها في محلها، فإن التقليد قد يقع فلا يكفي. ثم هذه الشعيرة أظهر في الإسلام من احتياجها لسند. ( الذخيرة : ٣/٣٥٥- ٣٥٦ )
* قوله تعالى :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ :
٤٥٨- إذا ورد لفظ الأمر بعد الحظر اقتضى الوجوب عند الباجي ومتقدمي أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والإمام فخر الدين. وعند جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي الإباحة، كقوله تعالى :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ بعد قوله تعالى :﴿ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾٧. ( تنقيح الفصول، المطبوع مع الذخيرة : ١/٨٠ )
* قوله تعالى :﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ :
٤٥٩- قال اللخمي : تحرم العارية إذا كانت تستعمل في محرم لقوله تعالى :﴿ وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ فلا تعار الدابة لمن يركبها لضرر مسلم. ( الذخيرة : ٦/٢٠٠ )
٤٦٠- قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم : " لا يعلم اليهود والنصارى الكتابة لأنهم يستعينون بها على الباطل، والله تعالى يقول :﴿ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾. ( نفسه : ١٣/٣٤٣ )
٢ - خرجه مسلم في صحيحه: كتاب الحج، باب تقليد الهدي وإشعاره. عن ابن عباس. ولفظ الرواية أن الإشعار كان في الجانب الأيمن لا الأيسر..
٣ - ذو الحليفة مكان ميقات أهل لمدينة. يبعد عن مكة بحوالي ٤٥٠ كلم شمالها. ن: فقه السنة: ١/٥٥٠..
٤ - "جل الدابة: الذي تلبسه لتصان به... وتجليل الفرس: أن تلبسها الجل". ن: اللسان: ١١/١١٩..
٥ - الموطأ: كتاب الحج، باب العمل في الهدي حين يساق، عن نافع مولى ابن عمر..
٦ - خرجه البخاري في صحيحه: كتاب الحج باب في تقليد الغنم. ومسلم في صحيحه: كتاب الحج باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم..
٧ - سورة المائدة: ٩٥..
٤٦١- مقتضى اللغة أن يكون المحرم هذه الأعيان. ( العقد المنظوم : ١/٤٠٠ )
٤٦٢- المدلول مطابقة في هذه الآية غير مراد، فإن الأعيان لا تحرم، بل الأفعال المتعلقة بها وهي والأكل والتناول فقد قصدت بالتحريم من غير لفظ، يدل على ذلك مقارن، بل الأدلة الخارجة أفادتنا ذلك. وهذه الأفعال إن كانت لازمة حصل المقصود لوجود تصر النية فيها بإضافة التحريم إليها دون غيرها، ولا سيما أن النية تعين في كل عين الفعل المناسب لها، فتعين في الخمر الشرب، وفي الميتة الأكل، وكذلك جميع الأعيان الواردة في النصوص. ( الفروق : ٣/٦٨ )
٤٦٣- الجميع محتاج إلى تقدير مضاف، تقديره : " أكل الميتة وشرب الدم وأكل لحم الخنزير " وإن أردت أن تقدر مضافا واحدا يشمل الجميع قلت : " تناول الميتة والدم ولحم الخنزير ". فالتناول يشمل الجميع، وحينئذ يصح إسناد التحريم لهذا المضاف، وإلا فالميتة ليست حراما إجماعا، والدم والخنزير ليسا بحرامين إجماعا، وإنما الحرام تناولهما. وكذلك الخمر لا يحرم ( تناولها )١ إجماعا بل شربها، وهو فعل يتعلق بالمكلف غير عين الخمر وعين الميتة وما ذكر معهما. ( العقد المنظوم : ١/٤٠١ )
٤٦٤- يقتضي أنه مهما وجدت ميتة أو فرد من هذه الأفراد المذكورة، فإن التحريم يتعلق به، وقبل وجوده لا يحرم، ومهما وصلنا إلى غاية فإنه لا يجب الوقوف عندها، بل نتجاوزها إلى ما يوجد بعدها. ( نفسه : ١/٣٣٧ )
٤٦٥- فكل ميتة محرمة وكذلك جميع الميتات في جميع الأحكام بمقتضى الوضع خاص بصيغة العموم.
٤٦٦- هذه الأشياء لا تحرم، لما تقدم من تقرير أن الذوات لا تحرم، فيقدر في كلامه ما يليق به من الحد، كما ينتظم التكليف كما تقدم ذلك مقتضى الوضع، لكن صار هذا اللفظ المركب منقولا لتحريم أكل هذه الحقائق وتناولها ولا يحتاج مع هذا النقل إلى مضاف مقدر البتة لأن الوضع الثاني صار يفيده. ( الذخيرة : ٤/١٢٦ )
٤٦٧- قاعدة : " النادر ملحق بالغالب في الشرع ". فمن لاحظ هذه القاعدة أسقط ما يعيش في البر من دواب البحر نظرا لغالبه، ومن لاحظ القاعدة الأولى٢ وأن ميتة البحر على خلاف الأصل لم يسقطها، ويؤيده قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ أو يحمله على سبب وروده وهو الميتة التي كانوا يأكلونها من البر ويقولون : " تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ". ( العقد المنظوم : ٢/٤٥٣ )
* قوله تعالى :﴿ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ﴾ :
٤٦٨- قال اللخمي : " المنخنقة والموقوذة- بالذال المعجمة- وهي التي تضرب حتى تموت. والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، ما مات منها فحرام وما لو ترك لعاش يذكى وغير المرجو، والذي حدث به في موضع الذكاة لم تؤكل وفي غيره يذكى ويؤكل عند مالك٣. قال ابن القاسم : ولو انتثرت الحشوة، لأن قوله تعالى :﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ بعد ذكر هذه الأقسام استثناء متصل، لأنه الأصل. وقيل : لا يؤكل، لأنه منقطع، أي من غيرهن، لأنه لولا ذلك لكان قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ يغني عنه. ( الذخيرة : ٤/١٢٨ )
٤٦٩- قيل : الاستثناء منقطع، وتقديره : " لكم ما ذكيتم من غير المذكور ". وقيل : الاستثناء متصل، يعود على المنخنقة وما بعدها، أي : " إلا ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات ". ( الاستغناء : ٥٧٣. شرح التنقيح : ٢٥٢. العقد المنظوم : ٢/٣٤٥-٣٤٦ )
* قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ :
٤٧٠- كيف يمكن أن يقال : إن الله تعالى جعل لأحد أن ينشئ حكما على العباد ؟ وهل ينشئ الأحكام إلا الله تعالى ؟ فهل لذلك نظير وقع في الشريعة أو ما يؤنس هذا المكان ويوضحه ؟
جوابه : لا غرو في ذلك ولا نكير، بل الله تعالى قرر الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات والمباحات على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾. ( الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام : ٣٨ )
٢ - قال القرافي: قاعدة: "الذكاة شرعت لاستخراج الفضلات المحرمات من الأجساد الحلال بأسهل الطرق على الحيوان". ن: الذخيرة: ٤/١٢٦..
٣ - ن: هذه الأقوال في: الموطأ: ٢/٤٩٠ وأحكام القرآن لابن العربي: ٢/٥٤١. والجامع للقرطبي: ٦/٥٠..
٤٧١- مفهومه أن المتقدم قبل الحل هو التحريم. ( شرح التنقيح : ٩٢ )
* قوله تعالى :﴿ قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ﴾ :
٤٧٢- هو عام في الخلق، ولا يؤكل صيد المجوسي، والمراد في ذلك ما مات بالاصطياد. ( الذخيرة : ٤/١٧٠ )
٤٧٣- المعلم من الحيوان هو الذي إذا زجر انزجر، وإذا أرسل أطاع، والسلالقة وغيرها سواء. ( نفسه : ٤/١٧١ )
٤٧٤- فائدة : الجوارح جمع جارحة، وقيل : مأخوذ من الجرح بضم الجيم، وقيل : من الجرح بفتحها، وهو الكسب لقوله تعالى :﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾١. ( نفسه : ٤/١٧٣ )
٤٧٥- خصص ابن عمر رضي الله عنهما الحيوان المصيد به بالكلاب لقوله تعالى :﴿ مكلبين ﴾ ورآه مأخوذا من الكلَب – بتحريك اللام- الذي هو الحرص، لأن المعلم يزداد حرصه بالزجر. وقيل : التكليب : التسليط. وقيل : التعليم.
سلمنا أنه من الكلب، لكن السباع كلاب لقوله عليه السلام في تبة بن أبي لهب٢ : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " ٣ فافترسه الأسد. ( نفسه : ٤/١٧٢ )
* قوله تعالى :﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾
٤٧٦- الضمير في ﴿ أمسكن ﴾ عام، فيقول المالكي : الكلب طاهر لاندراجه فيها مع جواز أكل ما أمسك، ولو كان نجسا لحرم حتى يغسل، والأصل عدم ذلك. ويقول الشافعي : يلزم جواز أكل كل ما امسك بعد القدرة عليه من غير ذكاة، وليس كذلك، فيلزم التخصيص، بل هاهنا إضمار تقديره : " كلوا من حلال ما أمسكن عليكم ". وكون موضع فمه حلالا محل نزاع٤. ( شرح التنقيح : ١٢٤ )
٤٧٧- الآية إنما أشارت إلى منع الأكل بغير إرسال. ( الذخيرة : ٤/١٧٢ )
٢ - هو عتبة بن أبي لهب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. وأمه أم جميل بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان (حمالة الحطب) أسلم هو وأخوه معتب يوم الفتح، وشهد حنينا. ن: أسد الغابة: ٣/٤٦٥..
٣ - رواه البيهقي في "دلائل النبوة": ٢/٣٣٨. عن عروة بن الزبير. وأورده السيوطي في "الخصائص الكبرى": ١/٣٦٦..
٤ - ن- بداية المجتهد: ٤/١٤١- ١٤٢..
قوله تعالى :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ﴾ :
٤٧٩- الآية متأخرة في النزول عن قوله تعالى :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ١ ﴾ فأبيحت الأمة الكتابية قياسا على الحرائر بجامع الشرف بالكتاب وتسوية بين المناكح والأطعمة. ( نفسه : ٤/٣٢٣ )
٤٨٠- المراد بالمحصنات هاهنا الحرائر٢، وهذا لا يناقض العموم الأول، لأن النكاح جائز بمجموع النصين٣ في حالة الحرية، ويبقى في حالة الرق لا يقع فيها جواز النكاح. وإذا جاز نكاح كل مشركة في حالة الحرية وكونها من الكتاب، وهنا المجموع حالة خاصة، فقد جاز نكاحهن في مطلق الحالة لاستلزام الخاص العام، فالعموم باق على عمومه، ولم تحصل منافاة بين النصين.
نعم لو كان بعض المشركات لا يجوز نكاحه في جميع الأحوال حصل التناقض والتخصيص لمنافاة السابقة الكلية الموجبة الجزئية، بل الحاصل من هذه النصوص٤- كلها التي يتوهم أنها مخصصات- التقييد لتلك الحالة المطلقة، فإنها تصير مخصوصة معينة، والتقييد ليس بتخصيص :
* لأن التقييد زيادة على مدلول اللفظ. والتخصيص نقيض لمدلول اللفظ.
* والتخصيص أيضا مخالفة الظاهر. والتقييد ليس مخالفة الظاهر.
* فالتقييد ليس بتخصيص ضرورة. ( العقد المنظوم : ٢/٣٨٨ )
٤٨١- في الجواهر٥ : " الكفار ثلاثة أصناف : الكتابيون، يحل نكاح نسائهم وضرب الجزية عليهم، وإن كرهه في الكتاب لسوء تربية الولد، ولأمر عمر رضي الله عنه الصحابة بمفارقة الكتابيات ففعلوا إلا حذيفة٦ وقاله ابن حنبل، وأجازه الشافعي من غير كراهة٧ لقوله تعالى :﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ والمراد بالمحصنات هاهنا : الحرائر.
والزنادقة والمعطلة٨ لا يناكحوا، ولا تؤخذ منهم الجزية. والمجوس لا يناكحوا، تؤخذ منهم الجزية لمفهوم الآية المتقدمة، ولقوله عليه السلام : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي أطعمتهم ولا ناكحي نسائهم " ٩. ( الذخيرة : ٤/٣٢٢ )
٤٨٢- تنبيه : لما تشرف أهل الكتاب بالكتاب ونسبتهم إلى المخاطبة من رب الأرباب أبيح نساؤهم وطعامهم، وفات غيرهم هذا الشرف بحرمانهم. وأما الأمة الكتابية فلا، لأن الله تعالى حرم الأمة المؤمنة إلا بشرطين صيانة للولد عن الرق، والأمة الكافرة تجمع بين الإرقاق وتلقين الكفر وتغذية الخمر والخنزير، فحرمت مطلقا. وقاله الشافعي ابن حنبل، وأجازها أبو حنيفة تسوية بين الحرائر والإماء، عكس المجوس. والفرق عندنا اجتماع المفسدتين. ( الذخيرة : ٤/٣٢٣ )
٢ - هذا التفسير مروي عن مجاهد أيضا. ن: تفسير ابن كثير: ٢/٣٢..
٣ - يقصد هذا النص مع الآية ٢٢٠ من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن﴾..
٤ - قال الإمام القرافي: "استدل الأصحاب بوقوع تخصيص الكتاب بالكتاب على جوازه بقوله تعالى: ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ (البقرة: ٢٢٥). مع قوله تعالى: ﴿وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن﴾ (الطلاق: ٤). وبقوله تعالى: ﴿ولا تنكحوا المشركات﴾ (البقرة: ٢٢٠). مع قوله تعالى: [والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب] (المائدة: ٦). ن: العقد المنظوم: ٢/٣٨٨..
٥ - الجواهر الثمينة: ٢/٥٣-٥٤ بتصرف..
٦ - هو حذيفة بن اليمان بن جابر بن عمرو. أبو عبد الله العبسي، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين. شهد حرب نهاوند وهمذان وغيرهما. (ت: ٣٦ هج). ن: أسد الغابة: ١/٤٦٨. ميزان الاعتدال: ٣/٤٣٠..
٧ - ن: بداية المجتهد: ٤/٢٩٠-٢٩١..
٨ - الزنادقة: فرقة مشبهة مبطلة. والزنديق هو الثنوي القائل بوجود إلهين اثنين. وهما اللذان يعبر عنهما بإله النور وإله الظلمة... ن: كشاف اصطلاحات الفنون: ١/٩١٣
أما المعطلة فهم ثلاثة أصناف: -منكرو الخالق والبعث والإعادة. ومنكرو البعث والإعادة. ومنكرو الرسل. ن: الملل والنحل: ٢/٥٨٢- ٥٨٣. وقد وردت تعاريف أخرى لهاتين الفرقتين. ن: التنبيه والرد على أهل الأهواء للملطي: ٩٥ إلى ٩٧..
٩ - رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما. كتاب النكاح، والبيهقي في "السنن الكبرى" عن الحسن بن محمد (ابن الحنفية) بن علي، مرسلا بسند ضعيف كما قال ابن حجر في "تلخيص الحبير": ٣/١٧٢..
٤٨٣- عام في جنس الصلاة، ولهذا يشترط الوضوء للنافلة. ( نفسه : ١/٢٥٧ )
٤٨٤- ﴿ إذا قمتم ﴾ : شرط لغوي. والشروط اللغوية أسباب. والأصل ترتيب جملة المسبب على السبب من غير تأخير. ( نفسه : ١/٢٧٠ )
٤٨٥- قال زيد بن أسلم١ : معناه : " قمتم من المضاجع ". فجعل النوم سببا. واختار هذا التفسير مالك٢ رحمه الله وجماعة من أصحابنا، لأن الله تعالى لم يذكر النوم في نواقض الوضوء فوجب حمل هذا عليه. ( نفسه : ١/٢٣١ )
٤٨٦- مثال تعارض الإضمار والمجاز قوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾ الآية. يقول المالكي والشافعي : تقديره : " إذا قمتم محدثين "، ولولا هذا الإضمار لكان الأمر بالطهارة بعد الصلاة. يقول السائل : هذا المحذور يزول بجعل القيام مجازا عبر به عن إرادة القيام. ( شرح التنقيح : ١٢٤ )
٤٨٧- ﴿ فاغسلوا وجوهكم ﴾ : الفاء للتعقيب، فيجب تعقيب المجموع للشرط وهو المطلوب. ( الذخيرة : ١/٢٧ )
٤٨٨- ﴿ وأيديكم إلى المرافق ﴾ : المرفق : يقال– بفتح الميم وكسر الفاء، وبكسر الميم وفتح الفاء. ( نفسه : ١/٢٥٦ )
٤٨٩- اختلف العلماء في قوله تعالى :﴿ إلى المرافق ﴾، فقيل : " إلى " بمعنى " مع " كقوله تبارك وتعالى– حكاية عن عيسى عليه السلام- :﴿ مَنْ أنصَاريَ إلى الله ﴾٣، أي : " مع الله ". وكذلك :﴿ لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾٤. وقيل : هي للغاية. ( نفسه : ١/٢٥٥ )
٤٩٠- ثم اختلفوا في الغاية التي في الآية٥ : فمنهم من جعلها غاية للمغسول المذكور في الآية السابق للفهم. ومنهم من يقول : اليد اسم للعضو، والمغيا لابد أن تقرر حقيقته قبل الغاية ثم ينبسط إلى الغاية، وهاهنا لا تكمل حقيقة المغيا الذي هو غسل اليد إلا بعد الغاية، فيستحيل أن يكون غاية له فيتعين أن يكون غاية للمتروك، ويكون العامل فيها فعلا مضمرا حتى يبقى معنى الآية : " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم واتركوا من آباطكم إلى المرافق ". والغاية لا تدخل في المغيا على الخلاف. فتبقى الغاية وهي " المرافق " مع المغسول. وعلى هذا المأخذ يتخرج الخلاف هناك في الكعبين. ( نفسه : ١/٢٥٦ )
٤٩١- إن المرفق لا يدرك الفصل فيه بالحس، بل بالعقل بناء على مجاري العادات، فإن الإنسان إذا ثنى ساعده على عضده يدرك بالحس اجتماعهما وحركة الساعد للعضد، أما أن عظم الساعد غير عظم العضد فهو أمر لا يدرك بالحس بال بالعقل. يقال : جرت العادة بأن العظم الواحد لا ينثني لصلابته، فحيث انتهى دل انثناؤه على أنهما عظمان.
أما البهيمة التي ليس لها إلا الحس فإنها تقتصر على المقام الأول وهو إدراك الحركة والالتصاق بين الساعد والعضد، ولا يعرف أن هناك فصلا بين الساعد والعضد أم لا.
وعلى هذا المذهب يجاب عن قول القائل : لم كانت الغاية مندرجة في الوضوء دون الصوم ؟ ٦ بأن الغاية غير معلومة بالحس في الصوم دون الوضوء، فإنه لما لم يكن المرفق منفصلا بمنفصل معلوم بالحس لم يمكن تعيين بعض المفاصل لذلك أولى من بعض، فوجب دخولها في حكم ما قبل الغاية. ( العقد : ٢/٣٧٠ )
٤٩٢- فائدة : قال الفضلاء والأصوليون والنحاة : من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية ويتكرر حتى يصل إليها، كقولنا : " سرت من مصر إلى مكة "، فالسير الذي هو المغيا ثابت قبيل مكة، ويتكرر في طريقها. وعلى هذه القاعدة يمتنع أن يكون قوله :﴿ وأيديكم إلى المرافق ﴾ غاية لغسل اليد لأن غسل إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط، فليس ثابتا قبل المرفق الذي هو الغاية، فلا ينتظم غاية له.
نعم لو قال الله تعالى : " فاغسلوا إلى المرافق " ولم يقل : " أيديكم " انتظم، لأن مطلق الغسل ثابت قبل المرفق ومتكرر إليه بخلاف غسل جملة اليد. فلهذه القاعدة قال بعض فضلاء الحنفية : " يتعين أن يكون مغيا غير الغسل المتقدم ذكره، ويتعين إضمار فعل آخر يكون عاملا في المجرور ب " إلى "، ويكون التقدير : " اتركوا من آباطكم إلى المرفق " فيكون مطلق الترك ثابتا قبل المرفق ومتكررا إليه، ويكون الغسل نفسه لم يغني به. وفرع هذا القائل على أن الغاية لا تندرج في حكم المغيا.
قلت : وفي هذا المقام يتعارض المجاز والإضمار، فإن لنا أن نتجوز بلفظ اليد إلى جزئها حتى يثبت المغيا قبل الغاية ولا يحتاج إلى إضمار، أو لا يجوز بلفظ اليد إلى جزئها فيضمر ما قاله الحنفي. والمجاز أولى من الإضمار على ما قاله الإمام فخر الدين، لأن المجاز أكثر، والكثرة دليل الرجحان أو هما سواء على ما قاله في المحصول٧، لأن كل واحد منهما يحتاج لقرينة. ( العقد : ٢/٣٧٢-٣٧٣ ).
* قوله تعالى :﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾ :
٤٩٣- قال سيبويه : " الباء للتأكيد " ٨. معناه : رؤوسكم أنفسها. ( الذخيرة : ١/٢٦٨ ).
٤٩٤- القائلون بالتبعيض اشترطوا أن تكون مع فعل يتعدى بنفسه حتى لا تكون للتعدية، وزعموا أن من ذلك قوله تعالى :﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾ فإن العرب تقول : " مسحت رأسي، ومسحت برأسي " فلم يبق فرق إلا التبعيض. وليس كذلك. بل تقول : " مسح " له مفعولان يتعدى لأحدهما بنفسه، والآخر بالباء. ولم تخير العرب بين المفعولين في هذه الباء، بل عينتها لما هو آلة المسح. فإذا قلت : " مسحت يدي الحائط " فالرطوبة الممسوحة على يدك، والحائط هو الآلة التي أزلت بها عن يدك، وإذا قلت : " مسحت الحائط بيدي " فالشيء المزال هو على الحائط، ويدك هي الآلة المزيلة. وكذلك : " مسحت يدي بالمنديل " المنديل آلة، والمنديل بيدي، فالتنظيف إنما وقع في المنديل لا في يدك. هذه قاعدة عربية، ولم تخير العرب في ذلك. وحيث قالت العرب : " مسحت رأسي " فالشيء المزال إنما هو عن الرأس. وحيث قالت : " برأسي " فالشيء المزال عن غيرها، وقد أزيل.
ولنا قاعدة أخرى إجماعية، وهي : أن الأئمة أجمعت على أن الله تعالى لم يوجب علينا إزالة شيء عن رؤوسنا ولا عن جميع الأعضاء، بل وجب علينا أن ننقل رطبة أيدينا لرؤوسنا وجميع أعضاء الوضوء. وعلى هذا يتعين أن يكون الرأس آلة مزيلة عن غيرها، لا أنها مزال عنها. فيتعين الباء فيها للتعدية لأن العرب لا تعدي مسح الآلة بنفسها، بل بالباء.
فالباء ليست للتبعيض في الآية بل للتعدية لأنها على زعمهم لا تكون للتبعيض إلا حيث يتعدى الفعل نفسه. ( شرح التنقيح : ١٠٤-١٠٥ ).
٤٩٥- مثال الاشتراك والإضمار قوله تعالى :﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾. يقول الشافعي : " يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس " ٩، لأن الباء مشتركة بين الإلصاق في الفعل القاصر وبين التبعيض في الفعل المتعدي. فتكون هاهنا للتبعيض، لأنه فعل متعد. فلو قال : " امسحا رؤوسكم " لصح.
يقول المالكي : هاهنا مضمر، تقديره : " امسحوا ماء أيديكم برؤوسكم ". فالرأس ممسوح بها، والفعل لا يتعدى للآلة بغير باء. ( شرح التنقيح : ١٢٣ )
٤٩٦- حجة المشهور- في مسح جميع الرأس- الكتاب والسنة والقياس :
أما الكتاب : فقوله تعالى :﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾، وجه التمسك به من وجوه :
أحدهما : أن هذه الصيغة تؤكد بما يقتضي العموم، لقولهم : " امسح برأسك كله ". والتأكيد تقوية لما كان ثابتا في الأصل.
وثانيها : أنها صيغة يدخلها الاستثناء، فيقال : " امسح برأسك إلا نصفه أو إلا ثلثه " والاستثناء عبارة عما لولاه لاندرج المستثنى تحت الحكم، وما من جزء إلا يصح استثناؤه من هذه الصيغة، فوجب اندراج جملة الأجزاء تحت وجوب المسح، وهو المطلوب.
وثالثها : أن الله تعالى أفرده بذكره، ولو كان المراد أقل جزء من الرأس لاكتفى بذكر الوجه، لأنه لابد معه من ملامسة جزء من الرأس.
وأما السنة : فما روي عنه عليه السلام وسلم أن مسح بناصيته وعمامته١٠ ولو كان الاقتصار على مسح بعض الرأس جائزا لما جمع بينهما لحصول المقصود بالناصية.
وأما القياس : فنقول : عضو شرع المسح فيه بالماء، فوجب أن يعمه حكمه قياسا على الوجه في التيمم. أو نقول : لو لم يجب الكل لوجب البعض، ولو وجب البعض لوجب البعض الآخر قياسا عليه. وهذا قياس يتعذر معه الفارق لعدم تعيين المقيس عليه.
وأما قول الشافعية : عن الفعل في الآية متعد فيستغنى عن الباء فتكون للتبعيض صونا لكلام الله تعالى عن اللغو، قلنا : الجواب عنه من وجوه :
أحدها : لا نسلم أنه مستغن عن الباء. وتقريره : أن فعل المسح يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بنفسه، والثاني بالباء إجماعا، كقولنا : " مسحت يدي بالمنديل " فالمنديل المزيل عن اليد. وإذا قلنا : مسحت المنديل بيدي " فاليد المزيلة والمنديل المزال عنه. والرطوبة في الوضوء إنما هي في اليد فتزال عنها بالرأس. فيكون معنى الآية : " فامسحوا أيديكم برؤوسكم " فالمفعول الأول هو لمحذوف، وهو المزال، والرأس هو المفعول الثاني المزال به. فالباء على بابها للتعدية.
الثاني : سلمنا أنها ليست للتعدية، فلم لا يجوز أن تكون للمصاحبة ؟ كقوله تعالى :﴿ تنبت بالدُّهن ﴾١١ بضم التاء، يدل على أنه عدي بالهمزة، فتتعين الباء للمصاحبة، لأنه لا يجتمع على الفعل معديان. وكقولنا : " جاء زيد بمائة دينار "، والباء في هذا القول للمصاحبة دون التعدية، لأنها لو كانت للتعدية لحسن أن تقوم الهمزة مقامها، فيقال : " أ جاء زيد مائة دينار " وليس كذلك.
الثالث : سلمنا أنها ليست للمصاحبة، فلم لا يجوز أن تكون زائدة للتأكيد ؟ فإن كل حرف يزاد في كلام العرب فهو للتأكيد قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى. والتأكيد أرجح مما ذكرتموه من التبعيض، فإنه مجمع عليه، والتبعيض منكر عند أئمة العربية حتى أن ابن جني شنع عليه وقال : " لا يعرف العرب الباء للتبعيض " ١٢، فضلا عن كونه مجازا مرجوحا. وحمل كتاب الله تعالى على المجمع عليه أولى من المختلف فيه، فضلا عن المنكر. ( الذخيرة : ١/٢٥٩-٢٦٠ )
٤٩٧- إذا راعينا الاشتقاق من التراوس، وهو كل ما علا فيتناول اللفظ الشعر لعلوه والبشرة عند عدمه لعلوها من غير توسع ولا رخصة. وإن قلنا : إن الرأس العضو، فيكون ثم مضاف محذوف تقديره : " امسحوا شعر رؤوسكم " فعلى هذا يكون المسح على البشرة لم يتناوله النص، فيكون المسح عليها عند عدم الشعر بالإجماع لا بالنص. وعلى كل تقدير يكون الشعر أصلا في الرأس فرعا في اللحية، والأصل الوجه. ( الذخيرة : ١/٢٦٨ )
* قوله تعالى :﴿ وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ :
٤٩٨- حرف " إلى " يوجب امتداد ما قبلها من الحكم إلى آخر الغاية، كقوله : " يعتد من هاهنا إلى هاهنا "، وقوله تعالى :﴿ إلى المرافق- إلى الكعبين ﴾. ( نفسه : ٣/١١١ )
٤٩٩- لو كان المراد الناتئ في ظهر القدم لكان للرجل واحد، فكان يقول : " إلى الكعاب " كما قال :﴿ إلى المرافق ﴾ لتقابل الجمع بالجمع، فلما عدل عن ذلك إلى التثنية دل ذلك على أن مراده الكعبان اللذان في طرف الساق، فيصير معنى الآية : " اغتسلوا كل رجل إلى كعبيها ". ( نفسه : ١/٢٦٩ )
٥٠٠- قوله تعالى :﴿ وأرجلكم ﴾، قرئ بالرفع والنصب والخفض١٣. أما الرفع فتقديره مبتدأ خبره محذوف، تقديره : " اغسلوها ". والنصب عطف على اليدين. والخفض اختلف الناس فيه : فحمله ابن جرير الطبري وداود على التخيير بين الغسل والمسح جمعا بين القراءتين١٤. وحمله الشيعة على تعيين المسح، وتأولوا قراءة لنصب بأن الرجل معطوف على الرأس قبل دخول حرف الجر عليه، كقول الشاعر :
معاوي إننا بشر فأسجح١٥*** فلسنا بالجبا
٢ - ن: الموطأ، كتاب الطهارة باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة..
٣ - سورة آل عمران: ٥٢..
٤ - سورة النساء: ٣..
٥ - ن. بداية المجتهد: ١/٣٦٦ وما بعدها..
٦ - لعله يشير إلى قوله تعالى: ﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾. البقرة: ١٨٦..
٧ - المحصول: ١-١/٥٠٠..
٨ - ذكر سيبويه مثالا للباء التي تفيد التأكيد فقال: "إن قلت: مررت برجل حسبك به من رحل. زعم الخليل رحمه الله أن "به" هاهنا بمنزلة "هو". ولكن هذه الباء دخلت هاهنا توكيدا". ن: "الكتاب": ٢/٢٦..
٩ - ن: بداية المجتهد: ١/٣٦٨-٣٦٩..
١٠ - الحديث خرجه مسلم في صحيحه: ١/٢٣٠. كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة. وأحمد في مسنده: ٤/٢٤٤. وأبو داود في سننه: كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين ح: ١٥٠. وغيرهم..
١١ - سورة المؤمنون: ٢٠..
١٢ - هذا ما قرره ابن مالك في ألفيته حين حصر معاني الباء الجارة في: الاستعانة، والتعدية، والتعويض، والإلصاق، بقوله:
بالبا استعن، وعد، عوض، ألصق***ومثل "مع" و"من" و"عن" بما أنطق
ن: شرح ابن عقيل: ٣/٢٢..
١٣ - قال مكي: "قرأه نافع وابن عامر وابن عامر والكسائي وحفص بالنصب. وقرأ الباقون بالخفض. وحجة من خفضه أنه حمله على العطف على "الرؤوس" لأنها أقرب إلى الأرجل من الوجوه". ن: الكشف عن وجوه القراءات: ١/٤٠٦. وقال أيضا: "وحجة من نصب أنه عطف على الوجوه والأيدي...". نفسه: ١/٤٠٧..
١٤ - ن: جامع البيان: ٤/٤٧١..
١٥ - الإسجاح: حسن العفو، ومن المثل السائر في العفو عند المقدرة: "ملكت فأسجح". ن: اللسان: ٢/٣٧٥..
٥٠٣- في الجواهر١ : قال أبو عبد الله : عماد الدين وقوامه هو المطعم وطيبه، فمن طيب مطعمه زكى عمله، وإلا خيف عليه عدم القبول لقوله تعالى :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾.
قال العلماء : القبول الذي يختص بالمتقين هو ترتب الثواب ورفع الدرجات بها وفيض الإحسان، وهو غير الإجزاء، لأن الإجزاء معناه أنه صار غير مكلف بتلك العبادة، وهذا عدم المؤاخذة، ولا يلزم من عدم المؤاخذة حصول الدرجات والمثوبة. ( الذخيرة : ١٣/٣٢٣ )
٥٠٤- قوله تعالى حكاية عن ابني آدم :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، مع أن قربانه كان على وفق الأمر، ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى، ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له : " إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح "، لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول، فحيث عدل عنه دل ذلك على أن الفعل كان صحيحا مجزئا، وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى، فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه. ( الفروق : ٢/٥١ )
٥٠٥- الظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء. والتقوى هاهنا ليس محمولا على المعنى اللغوي، وهو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة، فإن الفسقة في عرف الشرع لا يسمون أتقياء ولا من المتقين، ولو اعتبرنا المعنى اللغوي لقيل لهم ذلك، بل التقوى في عرف الشرع : " المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات حتى يكون ذلك الغالب على الشخص "، هذا هو الظاهر، وإذا حصل الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم، بل المحل قابل له لحصول الشرط وأن القبول مشروط بالتقوى، ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط.
ويدل على أن المحل يبقى قابلا للقبول من غير لزومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقبول مع أنه سيد المتقين، وكذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام٢، والمدعو به لابد وأن يكون بصدد الوقوع وعدمه، وإذ لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل، وهو غير جائز، فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله. ( نفسه : ٢/٥٤ )
* قوله تعالى :﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ﴾ :
٥٠٦- لم يدفعه عن نفسه لما أراد قتله، وعلى ذلك اعتمد عثمان رضي الله عنه على أحد الأقوال٣، ولأنه تعارضت مفسدة أن يقتل أو يمكن من القتل، والتمكين من المفسدة أخف مفسدة من مباشرة المفسدة نفسها، فإذا تعارضتا سقط اعتبار المفسدة الدنيا بدفع المفسدة العليا. ( نفسه : ٤/١٨٤ )
* قوله تعالى :﴿ إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ﴾ :
٥٠٧- مقصوده : إنما السلامة من القتل لا من أن يقتل ويصدر منه معصية القتل وإن لزم عن ذلك معصية أخيه بمباشرة القتل لا يضره ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " ٤ فأمره أن يريد أن يقتله غيره ولا يعزم هو على القتل، فإن المقصود بالذات إنما هو السلامة، ووقع غير ذلك تبعا. ( الفروق : ٤/٢٩٥ )
٢ - قولهما عليهما السلام: ﴿ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم﴾ البقرة: ١٢٦..
٣ - وفي رواية الأعمش عن أبي هريرة أن عثمان رضي الله عنه تأول الآية ٣٤ من سورة المائدة وفيها: ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ ن: تفسير ابن كثير: ٢/٧٥..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ٥/١١٠.
٥٠٣- في الجواهر١ : قال أبو عبد الله : عماد الدين وقوامه هو المطعم وطيبه، فمن طيب مطعمه زكى عمله، وإلا خيف عليه عدم القبول لقوله تعالى :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾.
قال العلماء : القبول الذي يختص بالمتقين هو ترتب الثواب ورفع الدرجات بها وفيض الإحسان، وهو غير الإجزاء، لأن الإجزاء معناه أنه صار غير مكلف بتلك العبادة، وهذا عدم المؤاخذة، ولا يلزم من عدم المؤاخذة حصول الدرجات والمثوبة. ( الذخيرة : ١٣/٣٢٣ )
٥٠٤- قوله تعالى حكاية عن ابني آدم :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، مع أن قربانه كان على وفق الأمر، ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى، ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له :" إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح "، لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول، فحيث عدل عنه دل ذلك على أن الفعل كان صحيحا مجزئا، وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى، فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه. ( الفروق : ٢/٥١ )
٥٠٥- الظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء. والتقوى هاهنا ليس محمولا على المعنى اللغوي، وهو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة، فإن الفسقة في عرف الشرع لا يسمون أتقياء ولا من المتقين، ولو اعتبرنا المعنى اللغوي لقيل لهم ذلك، بل التقوى في عرف الشرع :" المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات حتى يكون ذلك الغالب على الشخص "، هذا هو الظاهر، وإذا حصل الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم، بل المحل قابل له لحصول الشرط وأن القبول مشروط بالتقوى، ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط.
ويدل على أن المحل يبقى قابلا للقبول من غير لزومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقبول مع أنه سيد المتقين، وكذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام٢، والمدعو به لابد وأن يكون بصدد الوقوع وعدمه، وإذ لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل، وهو غير جائز، فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله. ( نفسه : ٢/٥٤ )
* قوله تعالى :﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ﴾ :
٥٠٦- لم يدفعه عن نفسه لما أراد قتله، وعلى ذلك اعتمد عثمان رضي الله عنه على أحد الأقوال٣، ولأنه تعارضت مفسدة أن يقتل أو يمكن من القتل، والتمكين من المفسدة أخف مفسدة من مباشرة المفسدة نفسها، فإذا تعارضتا سقط اعتبار المفسدة الدنيا بدفع المفسدة العليا. ( نفسه : ٤/١٨٤ )
* قوله تعالى :﴿ إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ﴾ :
٥٠٧- مقصوده : إنما السلامة من القتل لا من أن يقتل ويصدر منه معصية القتل وإن لزم عن ذلك معصية أخيه بمباشرة القتل لا يضره ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " ٤ فأمره أن يريد أن يقتله غيره ولا يعزم هو على القتل، فإن المقصود بالذات إنما هو السلامة، ووقع غير ذلك تبعا. ( الفروق : ٤/٢٩٥ )
٢ - قولهما عليهما السلام: ﴿ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم﴾ البقرة: ١٢٦..
٣ - وفي رواية الأعمش عن أبي هريرة أن عثمان رضي الله عنه تأول الآية ٣٤ من سورة المائدة وفيها: ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ ن: تفسير ابن كثير: ٢/٧٥..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ٥/١١٠.
٥٠٣- في الجواهر١ : قال أبو عبد الله : عماد الدين وقوامه هو المطعم وطيبه، فمن طيب مطعمه زكى عمله، وإلا خيف عليه عدم القبول لقوله تعالى :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾.
قال العلماء : القبول الذي يختص بالمتقين هو ترتب الثواب ورفع الدرجات بها وفيض الإحسان، وهو غير الإجزاء، لأن الإجزاء معناه أنه صار غير مكلف بتلك العبادة، وهذا عدم المؤاخذة، ولا يلزم من عدم المؤاخذة حصول الدرجات والمثوبة. ( الذخيرة : ١٣/٣٢٣ )
٥٠٤- قوله تعالى حكاية عن ابني آدم :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، مع أن قربانه كان على وفق الأمر، ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى، ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له :" إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح "، لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول، فحيث عدل عنه دل ذلك على أن الفعل كان صحيحا مجزئا، وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى، فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه. ( الفروق : ٢/٥١ )
٥٠٥- الظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء. والتقوى هاهنا ليس محمولا على المعنى اللغوي، وهو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة، فإن الفسقة في عرف الشرع لا يسمون أتقياء ولا من المتقين، ولو اعتبرنا المعنى اللغوي لقيل لهم ذلك، بل التقوى في عرف الشرع :" المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات حتى يكون ذلك الغالب على الشخص "، هذا هو الظاهر، وإذا حصل الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم، بل المحل قابل له لحصول الشرط وأن القبول مشروط بالتقوى، ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط.
ويدل على أن المحل يبقى قابلا للقبول من غير لزومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقبول مع أنه سيد المتقين، وكذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام٢، والمدعو به لابد وأن يكون بصدد الوقوع وعدمه، وإذ لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل، وهو غير جائز، فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله. ( نفسه : ٢/٥٤ )
* قوله تعالى :﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ﴾ :
٥٠٦- لم يدفعه عن نفسه لما أراد قتله، وعلى ذلك اعتمد عثمان رضي الله عنه على أحد الأقوال٣، ولأنه تعارضت مفسدة أن يقتل أو يمكن من القتل، والتمكين من المفسدة أخف مفسدة من مباشرة المفسدة نفسها، فإذا تعارضتا سقط اعتبار المفسدة الدنيا بدفع المفسدة العليا. ( نفسه : ٤/١٨٤ )
* قوله تعالى :﴿ إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ﴾ :
٥٠٧- مقصوده : إنما السلامة من القتل لا من أن يقتل ويصدر منه معصية القتل وإن لزم عن ذلك معصية أخيه بمباشرة القتل لا يضره ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " ٤ فأمره أن يريد أن يقتله غيره ولا يعزم هو على القتل، فإن المقصود بالذات إنما هو السلامة، ووقع غير ذلك تبعا. ( الفروق : ٤/٢٩٥ )
٢ - قولهما عليهما السلام: ﴿ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم﴾ البقرة: ١٢٦..
٣ - وفي رواية الأعمش عن أبي هريرة أن عثمان رضي الله عنه تأول الآية ٣٤ من سورة المائدة وفيها: ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ ن: تفسير ابن كثير: ٢/٧٥..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ٥/١١٠.
٥٠٨- جعل تعالى الفساد في الأرض كالقتل في وجوب القتل. ( الذخيرة : ١٢/١٢٥ )
٥٠٩- سؤال : التشبيه في لسان العرب إنما يكون بين المتقاربين لا بين المتفاوتين جدا، وقتل الناس جميعا بعيد من قتل النفس الواحدة بعدا شديدا، وكذلك إحياؤها، بل قتل واحدة لا تشبه قتل عشرة، فما وجه التشبيه الذي في قوله :﴿ فكأنما ﴾ ؟
جوابه : قال بعض العلماء : إن المراد بالنفس إمام مقسط، أو حكم عدل، أو ولي ترجى بركته العامة، فلعموم مفسدته كأنه قتل كل من ينتفع به، وهم١ المراد بالنفس، وكذلك إحياؤه، وإلا فالتشبيه مشكل.
وقال مجاهد : " لما قال الله تعالى :﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابا عظيما ﴾٢ وقتل جميع الناس لا يزيد في العقوبة على هذا، وهو مشكل، لأن قاعدة الشرع : تفاوت العقوبات بتفاوت الجنايات، فغاصب درهم ليس كغاصب دينار، وقاتل واحد ليس كقاتل عشرة، لأنه العدل في العادة، فإذا توعد الله تعالى قاتل الواحد بالغضب والعذاب العظيم وغير ذلك. اعتقدنا مضاعفة ذلك. اعتقدنا مضاعفة ذلك في حق الاثنين، فكيف في العشرة فضلا عن جميع الناس " ٣ ( نفسه : ١٢/٢٧٢ )
٢ - سورة النساء: ٩٣..
٣ - روي عنه كلام قريب من هذا المعنى في تفسير ابن كثير: ٢/٧٥..
٥١١- يقول الشافعي رضي الله عنه : يقتلون إن قتلوا وتقطع أيديهم إن سرقوا، ونحن نقول عدم الإضمار١. ( شرح التنقيح : ١١٢ )
٥١٤- جعل حد القطع فرضا، وجميع ما يترتب عليه القطع. ( نفسه : ١٢/١٨٩ )
٥١٥- قوله تعالى :﴿ والسارق والسارقة ﴾ لم يفرق فلا يشترط الدينار٢، بل يكفي أقل المال ولو فلس، وقد قال به جماعة. وفي الصحيح : قال عليه السلام : " لعن الله السارق يسرق البيضة فيقطع " ٣ وفي الصحيح : " يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا " ٤. وفيهما : " قطع عليه السلام في مجن قيمته ثلاثة دراهم " ٥، وفي أبي داود : " قطع صلى الله عليه وسلم من سرق ترسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم " ٦.
ومذهبنا مروي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان وعائشة وغيرهم من غير نكير. فكان إجماعا٧. ( الذخيرة : ١٢/١٤٣- ١٤٤ )
٥١٦- معلوم أن سارق المال العظيم ليس مثل سارق المال الحقير، والسارق مع الغنى والسعة ليس كالسارق مع الحاجة والضرورة، ومع ذلك فلا يعتبر شيء من هذه الفوارق، بل يقطع الجميع. ( العقد المنظوم : ٢/٣٠ )
٢ - كلام في معرض الرد على ما ذهب إليه الشافعي وأبو حنيفة في تقويم نصاب السرقة بالذهب فقط..
٣ - خرجه البخاري في صحيحه: ٤/٣٩٤ كتاب الحدود. ومسلم في صحيحه: ٥/١١٣. وأحمد في مسنده: ٢/٢٥٣..
٤ - رواه الشيخان في كتاب الحدود عن عائشة رضي الله عنها..
٥ - رواه الشيخان في صحيحهما عن ابن عمر، كتاب الحدود. ومالك في الموطأ، كتاب: الحدود..
٦ - خرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب: ما يقطع فيه السارق. عن عبد الله بن عمر..
٧ - الإجماع الحاصل بين العلماء في عشرة دراهم، قال ابن حزم: "واتفقوا أنه من سرق من حرز من غير مغنم ولا من بيت المال (...) فسرق مالا ممتلكا يحل للمسكين بيعه. وسرقه من غير غاصب له، وبلغت قيمة ما سرق عشرة دراهم من الورق المحض بوزن مكة (...) فقد وجب عليه حد السرقة" ن: مراتب الإجماع: ١٣٥ بتصرف..
٥١٨- إن اتفق أهل الكتاب في التحاكم إلينا، فالحاكم مخير بين الحكم والترك، وقيل : لا يحكم بينهم إلا برضا أساقفتهم، لأنه فساد عليهم، ومستند المذهب قوله تعالى :﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾. ( نفسه : ٣/٤٥٨ )
٥١٩- وفي الكتاب : " الأفضل عدم الحكم بينهم لقوله تعالى :﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ " ٢. ( نفسه : ٤/٣٢٦ )
٥٢٠- قال في الكتاب : " يقضي بين أهل الذمة في غصب الخمر وإفسادها، ولا يقضي بينهم في تظالمهم في الربا، وترك الحكم أحب إلي لقول الله تعالى :﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾٣. ( الذخيرة : ٨/٢٨٠ )
٥٢١- وفي كتاب ابن عبد الحكم : إن رضيا بذلك٤ حكم وإن أبي الطالب والمطلوب لم يعرض لهما، فإن اتفقا خير بين الحكم بحكم الإسلام أو يترك لقوله تعالى :﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾. ( نفسه : ١٠/١١١ )
٢ - المدونة: ٤/١٩٠ بتصرف..
٣ - المدونة: ٤/١٨٩-١٩٠ بتصرف..
٤ - أي: إن رضي الخصمان من ملة واحدة بحكم الإسلام..
٥٢٣- أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عليا قاضيا ومعاذا٤ وغيرهما قضاة إلى الأمصار، وهو منصب الأنبياء أجمعين، قال الله تعالى :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ﴾. ( نفسه : ١٠/١١ )
٢ - سورة المائدة: ٤٨..
٣ - خرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأحكام، باب الاختلاف..
٤ - خرجه أبو داود في سننه: كتاب الأقضية، الباب: ٦..
وكما أن نائب الحاكم يخبر عن إلزام نفسه، كذلك الحاكم المجتهد في الشريعة يخبر عن إلزام نفسه لأنه نائب الله عز وجل في أرضه على خلقه، وفوض إليه الإنشاء للأحكام بين الخلق، ويصير ما أنشأه كنص خاص وارد الآن من قبل الله عز وجل في هذه الواقعة ولذلك لا ينقض، لأن الخاص مقدم عن العام. ( الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام : ٩٧-٩٨ )
ولعله رحمه الله إنما يريد بالتنظير النسبة في النص خاصة، دون اختصاص الحكم بالبعض. ( العقد المنظوم : ١/٤٥٦ إلى ٤٥٧ )
٢ - في قوله تعالى: ﴿أفحكم﴾ ثلاث قراءات: أ) أفحكم: قراءة الجمهور، وهي بنصب الميم، وهو مفعول ﴿يبغون﴾. ب) أفحكمُ: قراءة السلمي وابن وثاب وابن رجاء، برفع الميم على الابتداء، وخبره: يبغون، وهي قراءة شاذة، خطأها مجاهد، وليس الأمر كذلك عند ابن جني. ج) أفَحَكَمَ: قراءة قتادة والأعمش: بنصب الجميع، وهي أيضا قراءة شاذة. ن: المحرر الوجيز: ٥/١٢٤. جامع البيان: ٦/٢٧٤ وإعراب النحاس: ٢/٢٥...
٣ - يقصد بيت أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي (ت: ١٣٠ هج). ن: طبقات ابن سلام: ٢/٧٤٥. والبيت من أرجوزته، وهو من شواهد سيبويه: الكتاب: ١/٨٥-١٢٧. قال الشاعر:
قد أصحبت أم الخيار تدعي***على ذنبا كله لم أصنع.
أم الخيار: زوجته، وأراد بقوله ذنبا: ذنوبا، فجعل الواحد في محل الجمع. والذنب الذي في البيت: الصلع والشيب والشيخوخة. والشاهد في البيت: أنه حذف الضمير العائد على المبتدإ، وهو "كله". والتقدير:"لم أصنعه كله" والضمير العائد على المبتدإ من جملة الخبر يجوز حذفه قياسا عند الفراء إذا كان منصوبا.
و"كل" في البيت تروى بالرفع والنصب، وكذلك رواها سيبويه وابن هشام في المغني، واختار الفراء رواية الرفع. (ن: الكتاب ١/٨٥. معاني الفراء: ١/١٤٠ وإعراب النحاس: ٢/٧ والمغني لابن هشام: ٢٢٠.) نقلا عن محقق العقد المنظوم: ١/٤٥٥- ٤٥٧ هامشا..
٥٢٩- أمر الله تعالى بملابسة أسباب الاحتياط والحذر في غير موضع من كتابه العزيز، ورسوله صلى الله عليه وسلم، سيد المتوكلين، وكان يطوف على القبائل ويقول : " من يعصمني حتى أبلغ رسالة ربي " ١ وكان له جماعة يحرسونه٢ من العدو حتى نزل قوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾. ( نفسه : ١٣/ ٢٤٨ )
٢ - وردت روايات في هذا الشأن: ن: صحيح البخاري: ٤/٤١ وصحيح مسلم: ٧/١٢٤ ومسند أحمد: ٦/٤٠ ولباب النقول في أسباب النزول: ٨٢-٨٣..
٥٣٠- الراهب معناه : الخائف، ومنه قوله تعالى :﴿ يدعوننا رهبا ورغبا ﴾١ أي : خوفا ورجاء.
والقسيس، قال بعض الفضلاء : أصل سينيه صادان، أصله : " قصيص "، من القص لأنه يقص على النصارى سير أسلاف متقدمين. فهو " فعيل "، من القص. ( الاستغناء : ٥١٦-٥١٧ )
٥٣١- مدح النصارى بأنهم أقرب مودة وأنهم متواضعون مسلَّم، لكن هذا لا يمنع أن يكونوا كفرة مخلدين في النار وغضب الجبار لأن السجايا الجليلة والآداب الكسبية تجتمع مع الكفر والإيمان كالشجاعة والظُّرف واللطيف وجودة العقل، فليس فيه دليل على صحة دينهم.
وأما نفي الشرك عنهم٢، فالمراد : الشرك بعبادة الأصنام لا الشرك بعبادة الولد واعتقاد التثليث٣. وسببه أنهم مع التثليث يقولون : " الثلاثة واحد "، فأشاروا إلى التوحيد بزعمهم بوجه من الوجوه. ويقولون : نحن لا نعبد إلا الله تعالى، لكن الله تعالى هو المسيح، ونعبد المسيح، والمسيح هو الله. تعالى الله عن قولهم.
فهذا وجه التوحيد من حيث الجملة. ثم يعكسون ذلك فيقولون : " الله ثالث ثلاثة ". وأما عبدة الأوثان فيصرحون بتعدد الآلهة من كل وجه، ولا يقول أحد منهم : إن الصنم هو الله تعالى. وكانوا باسم الشرك أولى من النصارى، وكان النصارى باسم الكفر أولى حيث جعلوا الله تعالى بعض مخلوقاته، وعبدوا الله تعالى وذلك المخلوق، فساووا عبدة الأوثان في عبادة الله تعالى. وزادوا بالاتحاد والصاحبة والأولاد، فلا يفيدهم كون الله تعالى خصص كل طائفة من الكفار باسم هو أولى بها في اللغة مدحا، وليس ذلك تصويبا لما هم عليه. ( الأجوبة الفاخرة : ١٢٦-١٢٧ )
٢ - يقصد ما زعمه النصارى من أن الله تعالى نفى الشرك عنهم بقوله: ﴿والذين أشركوا﴾الآية، فلم يذكرهم ضمنهم..
٣ - يقول محقق كتاب "الأجوبة الفاخرة..."د- بكر زكي عوض: "قضية التثليث متأخرة في الزمن عن دعوة المسيح عليه السلام قرابة ثلاثمائة عام، وليس لها أصل تعتمد عليه، فلقد أعلن المسيح عليه السلام توحيد الله. وما زالت نصوص التوراة والإنجيل تصرح بهذا. فقد ورد في التوراة: "أنا هو الرب إلهك، الذي أخرجك من أرض مصر لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالا منحوتا...". سفر التثنية: ٥/٧-٩. كما ورد في إنجيل مرقس: ١٢/٣٠-٣١: "الرب إلهنا إله واحد وليس آخر سواه"..
٥٣٣- أنواع كفارة الحنث في اليمين أربعة، منها ثلاثة على التخيير وهي : العتق والإطعام والكسوة. والرابع مرتب بعد العجز عن الثلاثة وهو الصيام. وأصل ذلك قوله تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم... ﴾الآية. ( نفسه : ٤/٦٢ )
٥٣٤- إن الكسوة أطلقت في الآية على الكسوة الشرعية، وهي ما يجزئ في الصلاة لأن القاعدة : " جمل كلام كل متكلم على عرفه ". فأضاف الكسوة إليهم، فيعتبر حالهم. ( نفسه : ٤/٦٤ )
* قوله تعالى :﴿ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ﴾ :
٥٣٥- لم يذكر التتابع ولا عدمه، فهو مطلق وذكر الصوم متتابعا في الظهار١، ومفرقا في صيام التمتع٢. فقد دار بين قيدين متضادين، فيبقى على إطلاقه، يخير فيه أو يقاس على الظهار بجامع الكفارة، أو يقال : لا يصح، لأن الظهار معصية تناسب التغليظ بخلاف الحنث في اليمين، وأمكن القياس على صوم التمتع لأنه جابر لنقض الحج وخلله، وكفارة الحنث جابرة لما فات من البر، أو يقال : الحج من باب العبادات، وهذا من باب الكفارات، فالباب مختلف، فيختلف الحكم ولا يصح القياس. ( شرح التنقيح : ٢٦٩ )
٥٣٦- جرت عادة الفقهاء في الكفارات هل هي على التخيير أو على الترتيب، أن يقولوا : إذا ورد النص بصيغة " أو " فهي على التخيير كقوله تعالى :﴿ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ﴾، وإن كان النص بصيغة " من " الشرطية فهي على الترتيب كقوله تعالى :﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ﴾.
ولا تكاد تجد فقيها ينازع في هذا، وهو غير صحيح. وبيانه : أنه مقتضى ما ذكروه أن يكون قوله تعالى :﴿ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ﴾٣ أن لا تجوز شهادة رجل وامرأتين إلا عند عدم الرجلين، وقد أجمعت الأمة على جوازه عند وجود الرجلين، وإن عدمهما ليس شرطا. فنستفيد من هذه الآية سؤالين عظيمين :
أحدهما : أن الصيغة لا تقتضي الترتيب.
ثانيهما : لأنه لا يلزم من عدم الشرط عدم المشروط، وهو خلاف الإجماع. وهو هاهنا كذلك. ( الفروق : ١/١٠٦ )
٢ - قوله تعالى: ﴿فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة﴾ سورة البقرة: ١٩٥..
٣ - سورة البقرة: ٢٨١..
٥٣٨- إن الخمر كانت مباحة في صدر الإسلام ثم نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر... الآية ﴾ فخص بخطاب التحريم المؤمنين١. ( نفسه : ٨/٢٧٨ )
* قوله تعالى :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ :
٥٣٩- ووجه الدليل٢ والتمسك به من وجوه :
أحدها : عطف الميسر عليه وهو حرام، والعطف يقتضي التسوية، والمساوى بالحرام حرام.
ثانيها : عطف الأنصاب عليه لما سبق.
ثالثها : عطف الأزلام عليه لما تقدم.
رابعها : قوله :﴿ رجس ﴾، والرجس : النجس لغة، وهو يدل على نجاسة الجميع، خرجت الثلاثة عن النجاسة إجماعا، بقي الحكم مستصحبا في الخمر فتكون نجسة فتحرم، وهي كل ما خامر كثيره كما تقدم، أو يقول : الرجس استعمل مجازا في البعد الشرعي، والبعد شرعا محرم، والأول أولى لدوران هذا البحث بين المجاز والتخصيص، والتخصيص أولى لما علم في الأصول.
خامسها : قوله تعالى :﴿ من عمل الشيطان ﴾ فإضافته إلى الشيطان تفيد التحريم في عرف الشرع.
سادسها : قوله :﴿ فاجتنبوه ﴾ والأمر محمول الوجوب، ولأن هذه الأشربة يسكر كثيرها فيحرم قليلها قياسا على محل الإجماع، وهو من أجل الأقيسة. ( نفسه : ٤/١١٥- ١١٦ )
٢ أي الاستدلال بهذه الآية في معرض الرد على الحنفية الذين قالوا بحلية بعض أنواع المسكرات دون الخمر المصنوعة من العنب ن: الذخيرة: ٤/١١٣، حيث يقول الإمام القرافي ما نصه:"ويباح عنده- أي أبي حنيفة- ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة، ولا يحد شاربه وإن سكر، وقال أيضا: نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ حلال وإن اشتد، وإذا شرب ما يغلب على ظنه عدم السكر، وخصص اسم الخمر بما يعتصر من العنب".
٥٤١- " أو " للتخيير. ( تنقيح الفصول.. المطبوع مع الذخيرة : ١/٧٤ )
٥٤٢- لتحريم قتل الصيد سببان : الإحرام والحرم.
السبب الأول : الإحرام لقوله تعالى :﴿ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم... ﴾ الآية. والحرم جمع محرم، والمحرم من دخل في الحرم وفي الحرمات، قولنا : أصبح وأمسى وأنجد وأتهم : إذا دخل في الصباح أو المساء أو نجد أو تهامة، فتتناول الآية السببين، ومنه قوله الشاعر :
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما***فدعا فلم أر مثله مظلوما
أي : في حرم المدينة وفي الشهر الحرام، وهو ذو الحجة.
وترتيب الحكم على الوصف يدل على غلبة ذلك الوصف لذلك الحكم، فيكون الإحرام والحرم سببين. ( الذخيرة : ٣/٣١٣- ٣١٤ )
٥٤٣- إن جعلنا جزاء الصيد من باب الكفارات لظاهر قوله تعالى :﴿ أو كفارة طعام مساكين ﴾ وهو المشهور، فنجيب عن نفي الإثم بما تقدم١، وعن مفهوم قوله تعالى :﴿ ومن قتله منكم متعمدا ﴾ فإنه خرج مخرج الغالب على الصيد، إنما يقتل مع الصيد.
وإن جعلناه من باب قيم المتلفات، وهو أحد الأقوال لنا وللعلماء، سوينا بين العمد والخطإ بالقاعدة الإجماعية٢.
وقال مجاهد : " الجزاء في الخطإ دون العمد، لأن معنى الآية عنده : " ومن قتله منكم متعمدا لقتله، ناسيا لإحرامه "، وقوله تعالى :﴿ ومن عاد فينتقم الله منه ﴾ فلو كان ذاكرا للإحرام لوجبت العقوبة بدون العود، مفهومه : إذا قصد مع ذكره للإحرام لا شيء عليه " لا شيء عليه٣.
وجوابه : أن المراد بالعود، أي في الإسلام بعد ما تقدم في الكفر. ( الذخيرة : ٣/٣٢٣- ٣٢٤ )
* قوله تعالى :﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم... ﴾ :
٥٤٤- إن المراد بالمثل في الصفة دون المالية والمقدار، ألا ترى أن النعامة يحكم فيها ببدنة، وهي بعيدة جدا من ماليتها ومقدارها. ( نفسه : ٨/٢٨٧ )
* قوله تعالى : في جزاء الصيد :﴿ يحكم به ذوا عدل منكم ﴾ :
٥٤٥- اختلف العلماء فيها٤ : فقال الشافعي رضي الله عنه : لا يتصور الحكم فيما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فإن الحكم لابد فيه من الاجتهاد، ولا اجتهاد في مواقع الإجماع لأنه سعي في تخطئة المجمعين فيكون العام مخصوصا بصور الإجماع٥.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : النص باق على عمومه غير أن الواجب في الصيد إنما هو القيمة٦ على طريق الفاصل الشاهد، ويدل على ذلك أمور :
أحدها : قوله تعالى :﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾ فجعل الجزاء للمثل لا للصيد نفسه، فالنعم واجبة في المثل الذي هو القيمة لا للصيد نفسه.
ثانيها : أنه لو حمل الجزاء على الصيد نفسه لزم التخصيص وعلى ما ذكرنا لا يلزم التخصيص، وذلك لأن قوله تعالى :﴿ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ عام في جميع أنواع الصيد، فلو حمل الجزاء على الصيد خرج منه ما لا مثل له من النعم كالعصافير والنمل وغيرها، وإذا قلنا بالقيمة وجب في جميع ذلك القيمة، فلا تخصيص، فهو أولى فيجب المصير إليه.
ثالثها : أن الله تعالى اشترط الحكمين وذلك إنما يتأتى إذا قلنا بالقيمة فإنه لا يلزم من إجماع الصحابة رضوان الله عنهم على تقويم صيد أن لا نقومه نحن بعد ذلك، فإن أفراد النوع الواحد تختلف قيمتها، ولا يغني تقويم عنن تقويم فيبقى العموم على عمومه في الصحابة ومن بعدهم. وأما لو جعلنا في الصيد الجزاء مع أنهم قد أجمعوا على أن في الضبع شاة، وفي البقرة الوحشية بقرة، وفي النعامة بدنة وغير ذلك من الصور التي يفرض حصول الإجماع فيها، فإن ذلك يتعين ولا يبقى للحكم منا والاجتهاد بعد ذلك معنى البتة إلا في الصور التي لم يقع فيها إجماع كالفيل وغيره من أفراد الصيد، فيلزم التخصيص، وهو على خلاف الأصل.
رابعها : أنه متلف من المتلفات فتجب فيه القيمة كسائر المتلفات.
وقال مالك رحمه الله : الواجب في الصيد مثله من النعم بطريق الأصالة، ثم يقوم الصيد، ويقع التخيير بين المثل والإطعام والصور كما تقرر في كتب الفقه، وهذا هو الصحيح.
والجواب عما قاله الشافعي رضي الله عنه : ما تقرر من الفرق بين الفتوى والحكم وبين المفتي والحاكم من أن الحكم إنشاء لنفس ذلك الإلزام إن كان الحكم فيه أو لنفس تلك الإباحة والإطلاق إن كان الحكم فيها كحكم الحاكم بأن الموات إذا بطل إحياؤه صار مباحا لجميع الناس، والفتوى بذلك إخبار صرف عن صاحب الشرع وإن الحاكم ملزم والمفتي مخبر وإن نسبتهما لصاحب الشرع كنسبة نائب الحاكم والمترجم عنه، فنائبه ينشئ أحكاما لم تتقرر عند مستنيبه، بل ينشئها على قواعده كما ينشئها الأصل، ولا يحسن من مستنيبه أن يصدقه فيما حكم به، ولا يكذبه بل يخطئه أو يصوبه باعتبار المدرك الذي اعتمده، والمترجم يخبر عما قاله الحاكم لمن لا يعرف كلام الحاكم لعجمة أو لغير ذلك من موانع الفهم، فللحاكم أن يصدقه إن صدق ويكذبه إن كذب، وهذا المترجم لا ينشئ حكما بل يخبر عن الحاكم فقط٧. وقد وضعت في هذا الفرق كتاب سميته ب " الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام٨ وتصرف القاضي والإمام "، وفيه أربعون مسألة تتعلق بتحقيق هذا الفرق وهو كتاب نفيس.
إذا تقرر معنى الحكم، فالحكمان في زماننا ينشئان الإلزام على قاتل الصيد، فإن كانت الصورة مجمعا عليها كان الإجماع مدركا، ومع ذلك فهم منشئون. وإن لم يكن فيها إجماع فهو أظهر، ويعتمدون على النصوص والأقيسة فلا حاجة إلى التخصيص، بل يبقى النص على عمومه، والحكم في زماننا عام في الجميع.
والجواب عما قاله أبو حنيفة : أن الآية قرئت " فجزاء " – بالتنوين-٩، فيكون الجزاء للصيد و﴿ مثل ما قتل من النعم ﴾ نعت له، ويكون الواجب هو المثل من النعم.
والقراءتان منزلتان في كتاب الله تعالى. غير أن قراءة التنوين صريحة فيما ذكرناه. وقراءة الإضافة١٠ محتملة لما ذكرناه ولما ذكرتموه، فيجب حملها على ما ذكرناه جمعا بين القراءتين، وهو أولى من التعارض.
وعن الثاني : أن الضمير في قوله تعالى :﴿ ومن قتله ﴾ يحمل على الخصوص، ويبقى الظاهر على عمومه من غير تخصيص كما في قوله تعالى :﴿ إلا أن يعفون ﴾١١ خاص بالرشيدات والمطلقات على عمومه من غير تخصيص. وكذلك قوله تعالى :﴿ وبعولتهن أحق بردهن ﴾١٢ خاص بالرجعيات مع بقاء المطلقات على عمومه.
وعن الثالث : ما تقدم من أن الحكمين ينشئان الإلزام وأنه لا ينافي حكم الصحابة رضوان الله عليهم، ولولا ذلك لكان حكم الصحابة رضي الله عنهم ردا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه عليه السلام حكم في الضبع بشاة، وقد حكم فيها الصحابة أيضا، فلولا ما ذكرناه لامتنع حكمهم.
وعن الرابع : أن جزاء الصيد ليس من باب الجوابر بل من باب الكفارات لقوله تعالى :﴿ أو كفارة طعام مساكين ﴾ فسماه كفارة، فبطل القياس.
إذا تقررت المذاهب والمدارك وأجوبتها وتعين فيها الحق، وأنه إنشاء في الجميع كانت هذه المسألة من مسائل الإنشاء، فتفطن لها، فهي مشكلة جدا، ومن لم يحط علما بحقيقة حكم الحاكم ويعلم الفرق بينه وبين المفتي علما واضحا أشكلت عليه هذه المسألة وتعذر عليه الجواب عن إجماع الصحابة، وكيف يجمع بين الإجماع السابق والحكم اللاحق. ( الفروق : ١/٥٠-٥١. والذخيرة : ٣/٣٢٩ إلى ٣٣١ )
* وقوله تعالى :﴿ حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ﴾ :
٥٤٦- إن الصيد مصدر اسم فعل، تقول : صاد يصيد صيدا، واصطاد يصطاد اصطيادا، المعنى واحد، فيكون الحرام هو فعل الاصطياد، لأن الأصل في الكلام الحقيقة. ( الذخيرة : ٣/٣٢٦ )
٢ - قال ابن كثير في تفسيره: ٢/١٥٩: "والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه"..
٣ - قال مجاهد بن جبر: "المراد بالتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد، الناسي لإحرامه، فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه، فلذلك أعظم من أن يكفر، وقد بطل إحرامه"، ن: تفسير ابن كثير: ٢/١٥٩. والدر المنثور: ٢/٥٧٧-٥٧٨..
٤ - أي الاختلاف في كيفية الجمع بين الإجماع السابق والحكم اللاحق..
٥ - ن: بداية المجتهد: ٣/٣٦١..
٦ - نفسه: ٣/٣٦١..
٧ - ن: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: للقرافي: ٤٣-٤٤..
٨ - الكتاب المطبوع، وقد حققه الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، تحت عنوان: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام" ط: الأولى بجلب سنة ١٩٦٧ ط: الثانية ببيروت ١٩٩٥..
٩ - قال مكي: "قرأه الكوفيون... وحجة من نوّن أنه لما كان "مثل" في المعنى صفة ل "جزاء" ترك إضافة الموصوف إلى صفته وأجراه على بابه فرفع "جزء" بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره: "فعليه جزاء"... "ن- الكشف عن وجوه القراءات: ١/٤١٨"..
١٠ - قال مكي: "حجة من أضاف: أن العرب تستعمل في إرادة الشيء مثله، يقولون: "إني أكرم مثلك"، أي: أكرمك". نفسه: ١/٤١٨..
١١ - سورة البقرة: ٢٣٥..
١٢ - سورة البقرة: ٢٢٦..
٥٤٨- قال صاحب البيان : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أول من نصب النصب وسيب السوائب وغير عهد إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي، وقد رأيته في النار يجر نصبه يؤذي أهل النار برائحته. وأول من بحر البحائر رجل من بني مدلج، عمد على ناقتين له فجذع أذنيهما وحرم ألبانهما وظهورهما، ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما، ولقد رأيته وإياهما يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما " ١.
قال صحب البيان : كانوا إذا الناقة تابعت اثني عشر أنثى ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وما أنتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها وخلي سبيلها مع أمها في الإبل، لا يركب ظهرها ولا يشرب لبنها إلى ضيف فيه البحيرة ابنة السائبة.
والوصيلة : الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر جعلت وصيلة، وكان ما ولدته بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت فيها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم.
الحامي : الفحل يتم له عشر إناث متتابعات ليس فيهن ذكر، فيحمى ظهره فلا يركب ولا يجز وبره ويخلى في إبله يضر فيها لا ينتفع به لغير ذلك.
فالسائبة : من السياب. والبحيرة : من البحر، وهو الشق، ومنه البحر لأنه شق في الأرض. والحام : من الحمى، وهو المنبع. والوصيلة : من الصلة، لأنها وصلت أربابها بولدها.
وقال قتادة : البحيرة : الناقة تلد خمس أبطن فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء، أو أنثى شقوا أذنها وأرسلوها، لا ينحر لها ولد ولا يشرب لها لبن ولا تركب.
والسايبة : الناقة تسيب، ولا تمنع حوضا تشرب فيه ولا مرعى ترتع فيه.
والوصيلة : الشاة تلد سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت.
وقيل : الوصيلة : الشاة تلد سبعة أبطن فيذبحون السابع إن كان جديا، وإن كان عناقا فاستحيوهما كليهما.
وقالوا : الجدي وصيلة أخته فحرمت علينا، فقال الله تعالى :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ﴾.
وسر التحريم : أنهم كانوا يحرمون ما لم يحرمه الله فلا يضر الجهل بذلك وكيفيته، فمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم النار في الدنيا فرأى فيها عمرا٢ ممثلا فيها يجر قصبه– وهي مصارينه- على التي يكون عليها في الآخرة. قاله صاحب البيان٣ ". ( نفسه : ١٣/٣٢٨- ٣٢٩ )
٢ - يقصد عمرو بن لحي. ن: البيان والتحصيل: ١٧/١٨٦..
٣ - ن- هذه الروايات وغيرها في: "البيان والتحصيل": ١٧/١٨٧ بتصرف. وفي "جامع البيان": ١١/١١٧ وما بعدها. و"تفسير ابن كثير": ٢/٧٣ وما بعدها. و"الدر المنثور": ٢/٣٣٨ وما بعدها..
* قوله تعالى :﴿ تحبسونهما من بعد الصلاة ﴾ :
٥٥١- جاء في التفسير : " بعد صلاة العصر " ٢. ( الذخيرة : ١١/٧١ )
* قوله تعالى :﴿ ولا نكتم شهادة الله ﴾ :
٥٥٢- أي : التي شرعها الله وأوجب علينا أداءها، فأضافها إليه تعالى إضافة المشروعية لأنه تعالى شاهد ولا شهود عليه. ( الفروق : ٣/٣٦ )
٢ - هذا التفسير مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة. ن: تفسير ابن كثير: ٢/ ١٨٠..
وكانت هذه المائدة جسما كينونيا، عليه خبز وسمك ينزل من السماء١ يقوت القليل من الخلق الكثير العظيم العدد، فأمرهم أن يأكلوا ولا يدخروا، فخالفوا وادخروا فمسخهم الله. ونزول مثل هذا من السماء كخروج الناقة من الصخرة الصماء، فأخبر الله تعالى أن من لم يؤمن بعد نزول المائدة عجلت له العقوبة. ولا تعلق للمائدة بقربانهم البتة، بل المائدة معجزة عظيمة، وهي أمر خارق، والقربان أمر ليس فيه شيء من الإعجاز البتة. فأين حد البابين من الآخر لولا الغي والضلال. ( الأجوبة الفاخرة : ١٢٨- ١٢٩ )
وكانت هذه المائدة جسما كينونيا، عليه خبز وسمك ينزل من السماء١ يقوت القليل من الخلق الكثير العظيم العدد، فأمرهم أن يأكلوا ولا يدخروا، فخالفوا وادخروا فمسخهم الله. ونزول مثل هذا من السماء كخروج الناقة من الصخرة الصماء، فأخبر الله تعالى أن من لم يؤمن بعد نزول المائدة عجلت له العقوبة. ولا تعلق للمائدة بقربانهم البتة، بل المائدة معجزة عظيمة، وهي أمر خارق، والقربان أمر ليس فيه شيء من الإعجاز البتة. فأين حد البابين من الآخر لولا الغي والضلال. ( الأجوبة الفاخرة : ١٢٨- ١٢٩ )
٥٥٧- سمع ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يقول : " لبيك بحجة " فضرب في صدره وقال : " ﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾ " ١. ( نفسه : ٣/٢١٩ )
٥٥٨- قوله تعالى :﴿ إن كنت قلته فقد علمته ﴾ جعل الشرط وجزاءه ماضيين. والجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أنه قد قال بعض المفسرين : إن ذلك وقع منه في الدنيا، وأن سؤال الله تعالى قبل أن يدعى ذلك عليه، فيكون التقدير : " إن أكن أقوله فأنت تعلمه " فهما مستقبلان لا ماضيان. وقيل : " سؤال الله تعالى له يكون يوم القيامة. " وهذا القول هو المشهور، فيكونان مستقبلين لا ماضيين. قال ابن السراج٢ : " يجب تأويلهما بفعلين مستقبلين تقديرهما : " إن يثبت في المستقبل أني قلته في الماضي يثبت أنك تعلم ذلك " ٣. وكل شيء تقرر في الماضي كان ثبوته في المستقبل معلوما فيحسن التعليق عليه.
ويؤكد القول الأول : أن السؤال كان في الدنيا من الآية نفسها : قوله تعالى :﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم ﴾ فصيغة " إذ " للماضي، و " قال " للماضي، فإذا أخبر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذين اللفظين الماضيين دل ذلك على تقدم هذا القول في زمن عيسى عليه السلام في الدنيا.
والقول الثاني : يتأول هذين اللفظين بالمستقبل، ويقول : لما كان خبر الله تعالى واقعا في المستقبل قطعا صار من جهة تحققه يشبه الماضي، فعبر عنه بلفظ الماضي كما قال تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾٤ يريد : يوم القيامة. وتقديره : " يأتي أمر الله تعالى ". ( الفروق : ١/٨٦ )
٢ - هو محمد بن السري بن سهل، أبو بكر، ابن السراج، أحد أئمة اللغة والأدب (ت: ٣١٦هج) من مصنفاته: "الأصول" في النحو و"شرح كتاب سيبويه" و"الشعر والشعراء" ن: الوفيات: ١/٥٠٣، الأعلام: ٦/١٣٦..
٣ - أورد القرافي هذا التقدير في شرح التنقيح أيضا: ٢٦٠. أما العبارة التي أوردها ابن السراج في "الأصول في النحو": ٢/١٩١ فهي: "دلت (كنت) على (تكن) وكذلك قوله تعالى: ﴿إن كنت قلته فقد علمته﴾ أي: "إن أكن كنت (أو) إن أقل كنت قلته، أو أقول بهذا الكلام"..
٤ - سورة النمل: ١..