تفسير سورة المائدة

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة المائدة
وهي مائة وعشرون آية وستة عشر ركوعا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا١ بالعقود ﴾ أي : العهود وهو ما حد في القرآن كله ﴿ أُحلّت لكم٢ بهيمة الأنعام ﴾ تفصيل للعقود والإضافة بيانية وهي الإبل والبقر والغنم وألحق بها الظباء وبقر الوحش ﴿ إلا ما يُتلى عليكم ﴾ تحريمه أو إلا محرم ما يتلى عليكم وهو قوله :( حرمت عليكم الميتة ) ( المائدة : ٣ ) ﴿ غير محلّي الصيد ﴾ حال من ضمير٣ لكم أو من ضمير أوفوا ﴿ وأنتم حُرم ﴾ حال من ضمير محلي يعني أحلت لكم جميع الأنعام إنسيًّا ووحشيًّا وإحلالها عن عمومها مختص بحال كونكم غير محلين للصيد في الإحرام إذ معه تحريم البعض وهو الوحشي أو الأول : حال من الفاعل الحقيقي المتروك لأحلت، والثاني : حال من ضمير لكم المقدر أي : أحللنا حال كوننا غير محلين للصيد لكم في حال إحرامكم ﴿ إن الله يحكم ما يريد ﴾ : من تحليل وتحريم.
١ الوفاء والإيفاء هو القيام بمقتضى العهد/١٢ وجيز..
٢ نقله البغوي عن الحسن وقتادة ثم قال: وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: بهيمة الأنعام هي الأجنة. ومثله عن الشعبي قال: هي الأجنة التي توجد ميتا في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت، ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله، ثم ذكر حديث أبي سعيد وحديث جابر (ذكاة الجنين ذكاة أمه)/١٢ معالم..
٣ عليه كلام الجمهور وذهب إليه الزمخشري وتعقب وأجيب/١٢ فتح..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تُحلوا شعائر الله ﴾ : مناسك١ الحج أو محارم الله أو الهدايا المعلمة للذبح بمكة ﴿ ولا الشهر الحرام ﴾ بعدم تعظيمه والقتال فيه والجمهور على أنه منسوخ يجوز ابتداء القتال مع أهل الشرك في أشهر الحرم ﴿ ولا الهدي ﴾ : ما أهدي إلى الكعبة بأن تتعرضوا له ﴿ ولا القلائد ﴾ : ذوات القلائد من الهدي ذكرها لأنها أشرف الهدي، قال بعضهم : معناه لا تتركوا الإهداء إلى البيت، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها ﴿ ولا آمّين البيت الحرام ﴾ أي : لا تستحلوا قتال قوم قاصدين إلى بيت الله ﴿ يبتغون فضلا من ربهم ﴾ : رزقا بالتجارة حال من ضمير آمين ﴿ ورضوانا ﴾ بزعمهم ؛ لأن الكافرين ليس لهم نصيب من الرضوان ؛ نزلت فيمن أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر من البيت فأراد بعض الصحابة أن يتعرضوا عليه في طريقه إلى البيت، وهذا الحكم منسوخ الآن فيهم. قال بعضهم : أهل الجاهلية يقلدون أنفسهم بالشعر والوبر في سفر الحج في غير أشهره وإبلهم من لحا شجر الحرم فيأمنون به، فنهى الله التعرض لهم بقوله :( ولا القلائد ) وهو أيضا منسوخ وقيل : معناه يتقلدون من لحا شجر الحرم فنهى الله عن قطع شجرة ﴿ وإذا حللتم ﴾ : من الإحرام ﴿ فاصطادوا ﴾ إذن في الاصطياد بعد الإحرام ﴿ ولا يجرمّنكم ﴾ : يحملنكم ﴿ شنآن قوم ﴾ : بعضهم ﴿ أن صدوكم ﴾ أي : لأن صدوكم ﴿ عن المسجد الحرام ﴾ وقرئ إن فحرف الشرط معترض بين العامل والمعمول ﴿ أن تعتدوا ﴾ بالانتقام وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب، نزلت حين أراد الصحابة صد بعض المشركين عن العمرة انتقاما من أصحابهم لما صدوهم عن البيت بالحديبية ﴿ وتعاونوا على البر ﴾ المأمورات عطف على لا يجرمنكم ﴿ والتقوى ﴾ عن المنهيات ﴿ ولا تعاونوا على الإثم ﴾ : المعاصي ﴿ والعُدوان ﴾ : الظلم ﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾.
١ قاله ابن عباس ومجاهد، والثاني لعطاء، والثالث لأبي عبيدة كذا قال البغوي/١٢..
﴿ حرّمت عليكم الميتة والدم ﴾ أي : المسفوح١. ﴿ ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله٢ به ﴾ لقوله عند الذبح : بسم اللات والعزى، والإهلال : رفع الصوت ﴿ والمُنخنقة ﴾ : التي ماتت بالخنق ﴿ والموقوذة ﴾ هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، وذلك من عادات الجاهلية ﴿ والمُتردّية ﴾ التي أطيحت٣ من موضع فماتت ﴿ والنطيحة ﴾ كشاتين تناطحتا فماتتا أو ماتت إحداهما، والتاء فيها للنقل ﴿ وما أكل السبُع ﴾ : منه فمات ﴿ إلا ما ذكّيتم ﴾ إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، وفيه حياة٤ مستقرة فإنه حلال ﴿ وما ذُبح على النّصب٥ هي حجارة حول البيت يذبحون عندها وينضحونها بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فحرّم الله أكل هذا اللحم وإن ذكر عليها اسم الله لما فيه من الشرك، وقال بعضهم : هي الأصنام ومعناه : ما ذبح على النصب، وعلى هذا هو وما أهل لغير الله واحد ﴿ وأن تستقسموا بالأزلام ﴾ أي : حرم الاستقسام بالأزلام وهي عبارة عن قداح مكتوب في بعضها افعل وفي بعضها لا تفعل، وبعضها غفل لا شيء عليه، يستقسمون بها في الأمور فإذا خرج الأمر فعلوه وإذا خرج الناهي تركوه وإذا خرج الغفل أجالوها ثانيا ﴿ ذلكم فسق ﴾ أي : تعاطيه فسق وضلالة وجهالة ﴿ اليوم ﴾ أريد به الأزمان الحاضرة ﴿ يئس الذين كفروا من دينكم ﴾ : من إبطاله بأن ترجعوا إلى دينهم ﴿ فلا تخشوهم ﴾ : بعد ما أظهرت دينكم ﴿ واخشون ﴾ : أخلصوا الخشية لي ﴿ اليوم ﴾ قيل المراد يوم النزول يوم عرفة في حجة الوداع ﴿ أكملت٦ لكم دينكم ﴾ فلا زيادة بعده ولم ينزل بعده حرام ولا حلال ﴿ وأتممت عليكم نعمتي ﴾ : بالهداية وإكمال الدين ﴿ ورضيت ﴾ اخترت ﴿ لكم الإسلام دينا ﴾ من بين الأديان فلا أسخطه أبدا، ودينا، إما حال أو تمييز، ﴿ فمن اضطُرّ ﴾ إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض ﴿ في مخمصة ﴾ : مجاعة ﴿ غير مُتجانف لإثم ﴾ غير مائل لمعصية بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ حيث رخص فلا يؤاخذه به.
١ أي: المصبوب السائل/١٢..
٢ فإنه وإن ذكر معه اسم الله فقد عارض المطهر فيه المنجس مع نجاسته بالموت وإن لم يذكر فقد زيد في تنجيسه/١٢ تبصير الرحمن..
٣ تطاوحت بهم النوى: أي ترامت/١٢ صراح..
٤ قال الشوكاني: وأما البنادق المعروفة الآن وهي بنادق الحديد التي يجعل فيها البارود والرصاص ويرمي بها فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تزكيته حيًّا، والذي يظهر لي أنه حلال لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من جانب الآخر، وفي الحديث الصحيح في الصحيحين: (إذا رميت بالمعراض فخرق فكله) فاعتبر الخرق في تحليل الصيد/١٢ فتح. [أخرجه البخاري (٥٤٧٧) ومسلم (٤/٥٩٠) ط الشعب]. .
٥ وإن لم يسمع فيه إهلال غير الله وزعم صاحبه أنه ذبح لله فلا يسمع منه. هذا ما في تبصير الرحمن، والأنصاب: جمع نُصُب بضمتين أو جمع نَصْب بالفتح والسكون، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله تعالى من شجر أو حجر أو قبر أو غير ذلك، هذا في مجالس الأبرار، وقال الشيخ ولي الله الدهلوي في الترجمة الفارسية: المشهور بفتح الرحمن وحرام است انجه ذبح كرده باشيد برنشا نهائى معبود باطل مترجم كَويد يعني برصورت وقبر والله أعلم، وفي الحديث الذي رواه أبو داود: (لا عقر في الإسلام قال أبو داود: قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر يعني ببقرة أو بشيء، وقال الشوكاني: قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة؛ لأنها إما هدي أو أضحية أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع لأنه مكسب حلال فهو عبادة لا تكون إلا لله فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلا لله ودليل الكبرى قوله تعالى: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (هود: ٥٠) و(فإياي فاعبدون) (العنكبوت: ٥٦) و(وإياك نعبد) (الفاتحة: ٥) و(قضى غيره)(هود: ٥٠) و(فإياي فاعبدون) (العنكبوت: ٥٦) و(إياك نعبد) (الفاتحة: ٥) و(قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (الإسراء: ٢٣) (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (البينة: ٥) انتهى. أقول: ودليل الصغرى قوله تعالى: (فصل لربك وانحر) (الكوثر: ٢) (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (الأنعام: ١٦٢) وفي حديث مسلم: (لعن الله من ذبح لغير الله)، وأخرج أحمد عن طارق بن شهاب قال: (مر رجلا، على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئا فقالوا لأحدهم: قرّب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار قالوا للآخر قرب فقال: ما كنت أقرب لأحد غير الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة. وفي حديث آخر رواه أبو داود: (اذبحوا لله في أي شهر) كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله رجل العتيرة وفي التفسير النيسابوري قال العلماء: ولو مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا ذبيحته ذبيحة مرتد، وفي الدر المختار ذبح لقدوم الأمير ونحوه كواحد من العظماء يحرم لأنه أهل به لغير الله ولو ذكر اسم الله تعالى عليه ومثل هذا في القاضي خان والعالمكيرية وفتاوى الإبراهيم الشامي وقد ذكرنا عبارة الصراط في البقرة فارجع إليها تجدها شافية مغنية في المسألة/١٢.
.

٦ إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا وإذا حصل النص في الوقائع وفي الآية دلالة على بطلان القياس وعلى أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا، وقد أجاب مثبتو القياس عن هذا بما لا يكفي في الجواب والله أعلم بالصواب/١٢ فتح البيان..
﴿ يسألونك ماذا أُحل لهم ﴾ نزلت حين سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إن الله قد حرّم الميتة فماذا يحل لنا ؟ وماذا مبتدأ وأحل لهم خبره ﴿ قل أُحل لكم الطيبات١ أي : الذبائح الحلال، وقيل : كل ما يستطيبه العرب من غير أن ورد بتحريمه نص ﴿ وما علّمتم من الجوارح٢ يعني أحل لكم صيد ما علّمتم من كواسب الصيد على أهلها من سباع وطيور ﴿ مُكلِّبين ﴾ حال كونكم معلمين إياه الصيد وذكرها للمبالغة في التعليم ﴿ تُعلّمونهن ﴾ حال أو استئناف ﴿ مما علّمكم الله ﴾ : من طرق التأديب ﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ كثير من السلف على أن الجوارح إذا أخذت والصيد وأكلت شيئا منه ولم يدركه صاحبه حيا فيذبحه فهو حرام، وبعض آخر منهم علي وابن عباس على حلته وإن أكل منه ثلثيه ﴿ واذكروا اسم الله عليه ﴾ : على ما علمتم أي عند إرساله إلى الصيد وهذا الأمر على الندب عند الأكثرين ﴿ واتقوا الله ﴾ : في الحرام ﴿ إن الله سريع الحساب ﴾ فيؤاخذكم بما كسبت أيديكم.
١ كل ما تستطيبه العرب من غير أن ورد بتحريمه نص والعبرة في الاستطابة والاستلذاذ بأهل المروة والأخلاق الجميلة من العرب، فإن أهل البادية منهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات فلا عبرة بهم لقوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (الأعراف: ١٥٧) فإن الخبيث غير مستطاب فصارت هذه الآية الكريمة نصا فيما يحل ويحرم/١٢ فتح..
٢ والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره وبين الأسود وغيره وبين الطير وغيره ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن أبي حاتم [كذا بالأصل، والمشهور أنه عدي بن حاتم] عن صيد البازي/١٢ فتح..
﴿ اليوم أُحل لكم الطيبات ﴾ : الذبائح على اسم الله ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب ﴾ من اليهود والنصارى يعني ذبائحهم ﴿ حِلّ لكم وطعامكم حِلّ لهم ﴾ بمعنى حل وجاز لكم أن تطعموهم١ من ذبائحكم ﴿ والمحصنات ﴾ : الحرائر العفائف أو الحرائر أو العفائف ﴿ من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ أكثر السلف على أنه لا يجوز تزوج الذمية الزانية، وهو يعم كل كتابية عفيفة، وقيل : المراد بها الذميات دون الحربيات، وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- : لما نزلت ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) ( البقرة : ٢٢١ ) حجر الناس عنهن حتى نزلت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فنكح الناس نساء أهل الكتاب ﴿ إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ : مهورهن وتقيد الحل به لتأكيد وجوبها٢، وقيل المراد بإيتائها : التزامها محصنين ﴿ محصنين ﴾ أعفاء بالنكاح ﴿ غير مسافحين ﴾ مجاهرين بالزنا ﴿ ولا مُتّخذي أخدان ﴾ مسرين به والخدن : الصديق. بعض السلف ذهب إلى أنه لا يصح نكاح البغية من عفيف وعقد الفاجر على عفيفة حتى يتوبا وسيأتي الكلام٣ فيه ﴿ ومن يكفر بالإيمان ﴾ : بالله الذي يحب الإيمان به، قيل : أراد بالكفر الإنكار، وبالإيمان : الشرائع والإسلام ﴿ فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾٤.
١ فالخطاب مع المسلمين حقيقة؛ لأن أهل الكتاب كفار من زماننا لا يأمرون بحلال وحرام/١٢ وجيز..
٢ فلا ينبغي دخول زوج بزوجة إلا بعد بذل مهرها/١٢ وجيز..
٣ قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية) (النور: ٣)/١٢ منه..
٤ ولما افتتح بالأمر بإيفاء العقود وذكر تحريما وتحليلا في المطعم والمنكح اللذين هما رأسا المستلذات الجسمانية استطرد منها المعاملات الأخروية وابتدأ بالطهارة فقال: (يا أيها الذين آمنوا)/١٢..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ﴾ أي : إذا أردتم القيام إليها وهو مطلق أريد به التقييد أي : إذا قمتم إليها١ محدثين وقيل : الأمر شامل للمحدثين على الإيجاب وللمطهرين على وجه الندب وقال بعضهم : إن الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى صلاة دون غيرها من الأعمال، لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ ﴿ فاغسلوا٢ وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ﴾ أي مع المرافق فالجمهور على دخول المرفقين في المغسول، قيل : ومنه علم وجوب النية كما إذا قلنا إذا رأيت الأمير فقم أي : فقم له ﴿ وامسحوا برءوسكم ﴾ الباء للإلصاق ﴿ وأرجُلكم إلى الكعبين ﴾ نصبه نافع والكسائي وابن عامر وحفص ويعقوب عطفا على وجوهكم، وجره الباقون وعلى الإنصاف ظاهر قراءة النصب على وجوب الغسل وظاهر الثانية على وجوب٣ المسح، فإن جر الجوار وإن كان بابا واسعا فهو خلاف٤ الظاهر، والأحاديث الصحاح تدل على وجوب الغسل دلالة لا محيص عنها ﴿ وإن كنتم جُنبا فاطّهروا ﴾٥ فاغتسلوا ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ٦ مِنْهُ ﴾ قد مر تفسيره في سورة النساء ولعل فائدة التكرار بيان أنواع الطهارة هنا أيضا ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم ﴾ : بما فرض من الغسل والوضوء والتيمم ﴿ من حرج ﴾ : ضيق ﴿ ولكن يريد ليُطهّركم ﴾ : من الإحداث والذنوب ﴿ وليُتم نعمته عليكم ﴾ ببيان ما هو مطهرة للقلوب والأبدان عن الآثام والإحداث ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ : نعمتي فأزيدها عليكم.
١ والدال على هذا مقابلته بقوله: (وإن كنتم جنبا) كأنه قال: إن كنتم محدثين الحدث الكبر فاغسلوا جميع الجسد/١٢ وجيز..
٢ الفاء دال على أن أول واجب في الوضوء غسل الوجه/١٢ وجيز..
٣ وحمل قراءة الجر على الجوار للسنة الشائعة وعمل الصحابة والتحديد بقوله: (إلى الكعبين) لأن المسح غير محدود وفائدته التنبيه على منع الإسراف/تبصير الرحمن..
٤ مع أن جر الجوار إن وقع في فصيح فهو بدون الواو فظاهر القرآن المسح على قراءة الجر ونعم ما حققه الزمخشري أن الرجل من الأعضاء المغسولة مظنة إسراف الماء فعطف على الممسوح تنبيها على وجوب الاقتصاد في صب الماء، فإن المسح والغسل متقاربان فسهل عطف أحدهما على الآخر نحو: متقلدا سيفا ورمحا فعدل إلى المجاز للإيجاز وقرينة المجاز أنه يجيء بالغاية إلى الكعبين فإن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة، والمراد: فاغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا واختصر بعطفه على الممسوح، وفي باب التيمم (فامسحوا بوجوهكم) (المائدة: ٥): وجوب استيعاب جميع الوجه بالتراب، فالمسح بالماء في الأرجل كذلك والأحاديث الصحاح التي قاربت التواتر على وجوب الغسل والوعيد على تركه فالقول ما قالت حذام /١٢ وجيز.
اختلف العلماء في هذا الحكم، وهل فرض لرجلين المسح أو الغسل فروي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان ويروى ذلك عن قتادة أيضا، ويروى عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل، وعن عكرمة قال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح، وعن الشعبي أنه قال: إنما هو المسح على الرجلين ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل، ومذهب الإمامية من الشيعة أن الواجب في الرجلين المسح. وقال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم الأئمة الأربعة وأصحابهم: إن فرض الرجلين هو الغسل وقال داود الظاهري: يجب الجمع بينهما، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين الغسل والمسح، والحق ما قال الجمهور، لأنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعل النبي –صلى الله عليه وسلم– وقوله وعمل أصحابه وقولهم والتابعين وقولهم هذا ما في لباب التأويل المعروف بالخازن مع ضميمة من الفتح/١٢.
وأما من جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم واستدل بقولهم: جحر ضب الخرب وقال: الخرب نعت للجحر لا للضب، وإنما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس بجيد، لأن الكسر على المجاورة إنما يحمل لأجل الضرورة في الشعر أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، لأن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر ولأن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، أما مع حرف العطف فلم يتكلم به العرب/١٢ باب التأويل. .

٥ لما ذكر الطهارة الصغرى أعقب بالطهارة الكبرى والظاهر أن الجنب مأمور بالاغتسال، ولهذا قال ابن مسعود: لا يتيمم الجنب البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء والجمهور على أنه تيمم؛ ونقل أنه رجع إلى ما عليه الجمهور للحديث/١٢ وجيز..
٦ قد مر تفسير الآية في سورة النساء إلا أن في هذه الآية زيادة منه وهي دالة على أن يمسح بعضه ولا يتيمم بصخرة لا تراب عليه/١٢ وجيز..
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾ : من القديم والحديث لأجل الدين والدنيا ﴿ وميثاقه الذي واثقكُم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾ حين بايعوا النبي –صلى الله عليه وسلم– على السمع والطاعة في منشطهم ومكرهم أو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، وقيل : هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من العهود في متابعة محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ واتقوا الله ﴾ في نقض عهده ﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ بخفياتها فضلا عن جلياتها.
﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله ﴾ أي : قائمين بالحق لله لا للرياء ﴿ شهداء بالقسط ﴾ بالعدل لا بالجور ﴿ ولا يجرِمنّكم ﴾ يحملنكم ﴿ شنآن قوم ﴾ عداوتهم ﴿ على ألا تعدلوا ﴾ بل الزموا العدل مع العدو والصديق ﴿ اعدلوا هو ﴾ أي : العدل ﴿ أقرب للتقوى ﴾ اللام للاختصاص واستعمل أفعل التفضيل في محل ليس في الجانب الآخر منه شيء كقوله تعالى :( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر وأحسن مقيلا ) ( الفرقان : ٢٤ ) وكم مثله في كلام البلغاء ﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾ فيجازيكم به.
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾ مستأنفة مبنية لثاني مفعولي وعد أو أوعد واقع على تلك الجملة كأنه قال : وعدهم هذا القول.
﴿ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ فلا ينفكون عنها.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ ﴾ متعلق بنعمة الله ﴿ قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم ﴾ : بالقتل ﴿ فكفّ أيديهم عنكم ﴾ رد مضرتها عنكم ﴿ واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ فمن توكل عليه كفاه الله أربه، نزلت لما أراد قوم من العرب أن يكبوا على رسول الله وأصحابه صلى الله عليه وسلم إذا اشتغلوا بصلاة العصر، فأخبرهم جبريل وجاء بصلاة الخوف. أو في قوم من اليهود صنعوا طعاما ليقتلوهم فأوحى الله إليهم بشأنهم. أو في بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأسه عليه الصلاة والسلام الرحا إذا جلس تحت الجدار فأطلعه على كيدهم، أو في قوم أرسلوا أعرابيا لقصده فجاءه وهو صلى الله عليه وسلم راقد تحت شجرة فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من يمنعك مني ؟ فقال الله فأسقطه جبريل من يده وأخذه الرسول١.
١ لفظ المصنف ذكره الحافظ في (الفتح) (٧/٤٩٢) وأصل الحديث أخرجه البخاري في (المغازي)/باب: غزوة ذات الرقاع (٤١٣٦) ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها)/باب: صلاة الخوف (٤٩٣١٢)..
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ لما أمر المؤمنين بالوفاء بعهده وأمرهم بالحق والعدل وذكرهم نعمه شرع يبين لهم كيفية أخذ العهود على من كان قبلهم وطردهم ولعنهم لما نقضوها ليتعظ المؤمنون ﴿ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا١ كفيلا ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد ﴿ وقال الله إني معكم ﴾ بالنصرة ﴿ لئن ﴾ أي : والله لئن ﴿ أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسلي ﴾ صدقتموهم بما جاءوا به ﴿ وعزّرتموهم ﴾ نصرتموهم وعظمتموهم ﴿ وأقرضتم الله قرضا حسنا ﴾ بأن تنفقوا في سبيل الخيرات نصب بالمصدر أو بالمفعول الثاني ﴿ لأُكفّرن ﴾ جواب القسم سد مسد جواب الشرط ﴿ عنكم سيئاتكم ولأّدخلنّكم جنات تجري من تحتها ﴾ تحت غرفها ﴿ الأنهار فمن كفر بعد ذلك ﴾ الميثاق ﴿ منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ صراط الحق فإن الضلال بعده أظهر وأعظم وأقبح.
١ لما هلك فرعون واستقر بنو إسرائيل في مصر أمرهم الله بالمسير إلى أرض الشام والجهاد مع سكانه، وكان مسكن الجبابرة، وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا فاختار موسى اثني عشر نقيبا، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء وسار بهم فلما دنوا أرض الشام بعث النقباء لتجسس الجبابرة فرأوا أجراما عظيمة وشوكة فرجعوا ونهى أكثر قومهم عن الجهاد وخوفوهم مع أن موسى نهى النقباء أن يحدثوا قومهم بحكايات الجبابرة وأخبارهم/١٢ منه..
﴿ وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾ يابسة غليظة لا تنتفع بالمواعظ وقرئ قسية أي : مغشوشة١ ﴿ يحرّفون الكلم ﴾ كلام الله ﴿ عن مواضعه ﴾ يبدلون نعت محمد أو يأولون الآيات بسوء تأويل ﴿ ونسُوا حظا مما ذُكّروا به ﴾ تركوا نصيبهم من التوراة فلم يعملوا بها أو زلت بعض آياتها عن حفظهم ﴿ ولا تزال ﴾ يا محمد ﴿ تطّلع على خائنة منهم٢ خيانة وغدر فاعل بمعنى المصدر ﴿ إلا قليلا منهم ﴾ لم يخونوا استثناء من ضمير منهم ﴿ فاعف عنهم واصفح ﴾ نسخ بآية السيف، وقيل : معناه إن تابوا أو عاهدوا والتزموا الجزية ﴿ إن الله يحب المحسنين٣ تعليل للأمر بالعفو.
١ نحو درهم قسى من القسوة، فإن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيها يبس وصلابة/١٢ وجيز..
٢ يعني هذا دأبهم وعادة آبائهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء فهم لا يزالون يحزنونك ويظاهرون عليك أعداءك/١٢ وجيز..
٣ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) يعني لا تدعوا الإحسان في شيء حتى في القتل/وجيز. [أخرجه مسلم (٤/٦٢٢) ط الشعب]..
﴿ ومن الذين قالوا إنا نصارى١ أخذنا ميثاقهم ﴾ كما أخذنا من اليهود، سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله ﴿ فنسُوا حظا ﴾ : نصيبا وافيا ﴿ مما ذكّروا به ﴾ من اتباع محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ فأغرينا ﴾ ألصقنا وأوقعنا ﴿ بينهم ﴾ بين اليهود والنصارى أو بين فرق٢ النصارى وهم كذلك ﴿ العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبّئُهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ بشنيع صنيعهم بأقطع جزاء.
١ لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة، وظاهر سوق العبارة مشعر بأن هذا الاسم من عند أنفسهم وزعمهم أنهم أنصار الله، وأما من قال (نحن أنصار الله) (الصافات: ١٤) فهم الحواريون وهم مؤمنون حقا وليس منهم الاختلاف، وجاء الاختلاف ممن يدعي تبعيتهم/١٢ وجيز..
٢ وهو الظاهر/ وجيز..
﴿ يا أهل الكتاب ﴾ عام لكل كتابي ﴿ قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا مما كنتم تُخفون من الكتاب ﴾ كآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد ﴿ ويعفو عن كثير ﴾ لا يتعرض لكثير مما حرفوه وأخفوه لأنه لا يحتاج إلى بيانه ﴿ قد جاءكم من الله نور ﴾ أي : قرآن أو محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ وكتاب مبين يهدي به ﴾ أي : بالنور والكتاب المبين، فإنهما واحد أو في حكم الواحد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ يا أهل الكتاب ﴾ عام لكل كتابي ﴿ قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا مما كنتم تُخفون من الكتاب ﴾ كآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد ﴿ ويعفو عن كثير ﴾ لا يتعرض لكثير مما حرفوه وأخفوه لأنه لا يحتاج إلى بيانه ﴿ قد جاءكم من الله نور ﴾ أي : قرآن أو محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ وكتاب مبين يهدي به ﴾ أي : بالنور والكتاب المبين، فإنهما واحد أو في حكم الواحد.

﴿ الله من اتبع رضوانه ﴾ : من آمن منهم ﴿ سُبل السلام ﴾ طرق السلامة والنجاة ﴿ ويُخرجهم من الظلمات ﴾ : أنواع الكفر ﴿ إلى النور ﴾ إلى الإيمان ﴿ بإذنه ﴾ بإرادته وتوفيقه ﴿ ويهديهم إلى صراط مستقيم١ : يوصلهم إلى رحمة الله.
١ عليه الرب سبحانه كما ورد (إن ربي على صراط مستقيم)/١٢ وجيز..
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ١ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ اليعقوبية من النصارى قالوا : المسيح هو الله ﴿ قل فمن يملك من الله شيئا ﴾ : من يستطيع إمساك٢ شيء من قدرة الله ﴿ إن أراد أن يُهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ﴾أي : هو وجميع الخلائق مقهور تحت قدرته قابل للفناء فلا يكون إلها ﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلُق ما يشاء والله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على إيجاد شيء من غير أصل ومادة ولا أب وأم.
١ قيل: ما صرح أحد من النصارى بذلك لكن لما اعتقدوا اتصافه بصفات الله الخاصة، واعترفوا بأن الله موجود لزمهم القول بأن الله هو المسيح لا غير/١٢ منه..
٢ حقيقة الملك الضبط والحفظ عن حزم يقال: ملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما ولا أملك رأس البعير إذا لم تستطعه/١٢..
﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله ﴾ أي : هو كالأب لنا في العطوفة أو وجدوا في التوراة يا أبناء أحبارى فبدلوا بيا أبناء أبكارى، وقيل : نحن أبناء رسل الله وقيل : جمع ابن الله للابن وأشياعه والابن بزعم الفريقين عزير وعيسى كقول أقارب الملك : نحن الملوك ﴿ وأحبّاؤه قل فلم يعذّبكم بذنوبكم ﴾ : في الدنيا والآخرة، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه أقبح١ لتعذيب والوالد لا يعذب ولده بل يؤدبه ويزكيه ﴿ بل أنتم بشر ممن خلق ﴾ : كسائر المخلوقات ﴿ يغفر لمن يشاء ﴾ وهو من آمن برسله ﴿ ويعذّب من يشاء ﴾ من مات على الكفر لا مزية لكم على سائر الخلق ﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ﴾ فيجازي المحسن والمسيء.
١ فإن المسخ والخسف تعذيب البتة وليس بتأديب/١٢ منه..
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم ﴾ : الدين ﴿ على فترة١ من الرسل ﴾ أي جاء على حين فتور من الوحي أو حال من ضمير يبين ﴿ أن تقولوا ﴾ كراهة أن تقولوا ﴿ ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾ فتعتذروا به ﴿ فقد جاءكم بشير ونذير ﴾ أي : لا تعتذروا فقد جاءكم ﴿ والله على كل شيء قدير٢ فقادر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال على فترة، وعلى عقاب العاصي وثواب المطيع.
١ أما الفترة بين أحمد وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما خمسمائة وستون، وقيل: سبع مائة، وقيل غير ذلك، وذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والزمخشري عن الكلبي عن الفترة بين عيسى وموسى عليهما السلام ألف وسبعمائة وسنة/١٢..
٢ ولما ذكر تمردهم وكذبهم أخذ يذكر تمرد أسلافهم على موسى مع تذكيره إياهم بنعم الله تعالى حتى لا يطمع محمد صلى الله عليه وسلم في إخلاصهم فقال: (وإذ قال موسى لقومه) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ﴾ كما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن إبراهيم حتى ختم بعيسى ﴿ وجعلكم١ ملوكا ﴾ أصحاب خدم وحشم وهم أول من ملك الخدم أو كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم سمي ملكا، قيل : ملكوا أنفسهم بعد ما كانوا مملوكين في أيدي القبط ﴿ وآتاكم ما لم يُؤت أحدا من العالمين ﴾ من فلق البحر والمن والسلوى أو من الفضل والشرف على عالمي زمانهم.
١ فالامتنان بأن منهم سادة الدين وقادة الدنيا/١٢ وجيز..
﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة ﴾ بيت المقدس أو الطور وما حوله أو الشام، فإنه مقر الأنبياء مطهر من الشرك ﴿ التي كتب الله لكم ﴾ : وعدكموها الله أنه وراثة من آمن منكم ﴿ ولا ترتدّوا على أدباركم ﴾ لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة وجاهدوهم فإنكم غالبون ﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾ ثواب الدارين.
﴿ قالوا يا موسى إن فيها قوما جبّارين ﴾ متغلبين أقوياء ﴿ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ﴾.
﴿ قال رجلان ﴾ يوشع وكالبُ١ ﴿ من الذين يخافون ﴾ أمر الله وعقابه وقيل : هما من الجبابرة أسلما واتبعا موسى فمعناه يخافون أي بنو إسرائيل منهم ﴿ أنعم الله عليهما ﴾ بالعصمة هو الثبات صفة ثانية لرجلين أو اعتراض ﴿ ادخلوا عليهم الباب ﴾ باب قريتهم أي : ازحفوا عليهم ﴿ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ﴾ لما جربنا ضعف قلوبهم ولتيقُن إنجاز وعد الله في نصرة نبيه ﴿ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين٢ به مصدقين لوعده.
١ عن ابن عباس وغيره أنهما يوشع ابن أخت موسى وكالب ختن موسى على أخته مريم بنت عمران وهما من النقباء الكامنين ما اطلعا عليه من حال الجبابرة/١٢ وجيز..
٢ وكثيرا يأتي معمول ما بعد الفاء متقدما عليها لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا في الإقدام على الجهاد مع وعد الله في قوله: (التي كتب الله لكم) استرابا في إيمانهم فقالا (إن كنتم مؤمنين)/١٢ منه..
﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ﴾ تعليق للنفي المؤكد بالدهر١ المتطاول ﴿ ما داموا فيها ﴾ بيان للأبد ﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا ﴾ : الجبارين ﴿ إنا هاهنا قاعدون ﴾ قال بعض الصحابة يوم٢ بدر :( إنا لا نقوله كما قالت بنو إسرائيل، بل نقول اذهب أنت وربك إنا معكم مقاتلون ).
١ لا أبد الآبدين على ما هو الظاهر من التأبيد لدلالة البيان أعني: ماداموا فيها على ذلك/١٢ منه..
٢ رواه البخاري في المغازي والإمام أحمد والنسائي/١٢ وجيز. [أخرجه البخاري في (التفسير)/باب: ﴿فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾ (٤٦٠٩)..
﴿ قال ﴾ : موسى لبث الحزن إلى الله ﴿ رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي١ عطف على نفسي ﴿ فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾ اقض بيننا وبينهم بما نستحق أو خلصنا من صحبتهم٢.
١ لما رأى موسى تمردهم وسوء أدبهم وكفرهم مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون بث حزنه إلى الله تعالى والشكوى إليه وقوله (وأخي) عطف على نفسي يعني أملك أمر نفسي وأمر أخي، والباقون متمردون عني، وكأنه عليه السلام ما اعتد بالرجلين المؤمنين كما روي عن علي كرّم الله وجهه أنه خطب في الكوفة مستنجدا على قتال الشام فلم يجبه إلا رجلان فقال: أين تقعان مما أريد/١٢ وجيز..
٢ فالفرق على الأول حكمي، وعلى الثاني مكاني/١٢ منه. رحمة وروح لهما/١٢..
﴿ قال ﴾ الله ﴿ فإنها ﴾ أي : الأرض المقدسة ﴿ محرّمة عليهم ﴾ : دخولها ﴿ أربعين سنة ﴾ ظرف لمحرمة فيكون التحريم مؤقتا فقد نقل عن بعض السلف أن موسى سار بمن بقي من التيه بعد الأربعين ففتح بيت المقدس أو ظرف لقوله ﴿ يتيهون ﴾ أي : يسيرون متحيرين ﴿ في الأرض ﴾ فيكون التحريم مؤبدا وقد نقل عن كثير من السلف أن موسى وهارون ماتا في التيه١ ولم يبق أحد من أهل التيه –سوى يوشع وكالب- إلا مات فيه، ويوشع سار بأولادهم وفتح الشام ﴿ فلا تأس ﴾ : لا تحزن ﴿ على القوم الفاسقين٢ هذا تسلية لموسى فإنهم مستحقون لما عاملناهم.
١ والتيه خرق عادة فقالوا عرضه وطوله ثلاثون فرسخا، وكانوا إذا ساروا جميع الليل أصبحوا في المكان الذي رحلوا منه/١٢ وجيز..
٢ ولما كان من آخر كلامهم لموسى (اذهب أنت وربك) وهذا من جبنهم وعدم وثوقهم بقول الله تعالى، وفي قصة ابني آدم جسارة عظيمة فقابيل أول عاص بتلك المعصية التي لم تعهد وبنو إسرائيل أول من خاطب رسولهم بهذا القول الشؤم عقب قصتها بقصتهم فقال (واتل) الآية/١٢ وجيز..
﴿ واتل عليم نبأ ابني آدم ﴾ : هابيل وقابيل ﴿ بالحق ﴾ أي : تلاوة متلبسة بالصدق ﴿ إذ قرّبا قُربانا ﴾ ظرف للنبأ. والقربان : اسم لكل ما يتقرب به إلى الله من ذبيحة وغيرها ﴿ فتُقبّل من أحدهما ﴾ هابيل ﴿ ولم يُتقبّل من الآخر ﴾ قابيل كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه فبينما هما قاعدان فقالا : نقرب قربانا فقرب هابيل خير غنمه وقرب الآخر أبغض زرعه، فجاءت نار من السماء وأكلت الشاة وتركت الزرع وكان هذا علامة القبول والرد وهذا الكبش الذي فدى به إسماعيل أتى به من الجنة فحسد قابيل أخاه١ ﴿ قال لأقتُلنّك قال ﴾ هابيل ﴿ إنما يتقبّل الله من المتقين ﴾ أي : لم تقتلني ولا ذنب لي وإنما أتيت من قبل نفسك بتركك التقوى.
١ ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٢/ ٤٨٤) وعزاه لابن جرير عبد الله بن عباس –رضي الله عنه-..
﴿ لئن بسطت إليّ يدك لتقتُلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ﴾ لا أقابلك١ على صنيعك الفاشل بمثله ﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾ كان هابيل أشد وأقوى لكن منعه الورع.
١ هذا استسلام للقتل من هابيل كما ورد في الحديث (إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم) وتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية/١٢.[ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٤٨٧) أحاديث وآثار بهذا المعنى فليراجع هناك]..
﴿ إني أريد أن تبوء بإثمي ﴾ بإثم قتلي١ ﴿ وإثمك ﴾ الذي عملته قبل ذلك فلم يتقبل من أجله قربانك أي : ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما وقيل : معناه إثمي لو بسطت يدي إليك وإثمك ببسطك يدك إليّ ونحوه المستبان٢ ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد٣ المظلوم فإن على البادي إثم سبه ومثل إثم صاحبه، لأنه الباعث، والإثم محطوط عن صاحبه، لأنه دافع مكافئ عن عرضه إذا لم يخرج عن حد المكافأة ﴿ فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ﴾ وهذا الكلام من هابيل موعظة لأخيه وزجر له، قال ابن عباس رضي الله عنهما : خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر، وقيل : هو يعلم أن أخاه ظالم وإرادة جزاء الظالم حسن.
١ وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه ومثله قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (العنكبوت: ١٣)/١٢ فتح. [أخرجه مسلم ٥/٤٤٣) ط الشعب]..
٢ المستبان مبتدأ وقوله: ما قال فعلى البادي الخ جملة شرطية خبر له وقوله ما لم يعتد أي مادام لم يظلم ولم يتجاوز حد المساواة/١٢ منه..
٣ فالآية محمولة على أن ملك إثمي المقدر الذي كان يثبت ببسط اليد إلى قابيل، وأما في الحديث فكل من المستبان ساب في نفس الأمر/١٢ منه. [أخرجه مسلم (٥/٤٤٨) ط الشعب]..
﴿ فطوّعت له نفسه قتل أخيه ﴾ سهلته ووسعت له ﴿ فقتله فأصبح من الخاسرين١ : في الدنيا والآخرة.
١ ثبت في الحديث (ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها) لأنه أول من سن القتل. رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حيث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه/١٢.[أخرجه البخاري في (أحاديث الأنبياء) (٣٣٣٥) ومسلم في (القسامة) (١٦٧٧) ولفظة (لا تقتل نفس ظلما..... الحديث)]..
﴿ فبعث الله غُرابا يبحث١ في الأرض ﴾ لما قتله تحير في أمره لم يدر ما صنع به فبعث الله غرابا إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى واراه ﴿ ليُريه ﴾ : الله أو الغراب ﴿ كيف يواري سوءة أخيه ﴾ أي : جسده، فإنه مما يستقبح أن يرى، وكيف : حال من ضمير يوارى، والجملة ثاني مفعولي ليريه ﴿ قال يا ويلتي ﴾ كلمة جزع والألف بدل من ياء المتكلم أي : احضري يا هلاكي فهذا أوانك ﴿ أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأُواري ﴾ عطف على أكون أو جواب استفهام ؛ لأنه للإنكار بمعنى النفي أي : إن لم أعجز واريت ﴿ سوءة أخي فأصبح من النادمين ﴾ على قتله قيل اسود جسده وتبرأ منه أبواه، وقد ذكر أكثر المفسرين إن الله قد شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى وكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر فكانت هابيل دميمة٢ وأخت قابيل جميلة فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك، وأمرهما بأن يقربا قربانا فمن تقبل منه فهي له فتقبل من هابيل فحسد. هذا ما نقلوه والذي صح عن ابن عباس ما نقلناه أولا وهو يشعر بل يدل على أن قربناهما لا عن سبب ولا عن بداءة في امرأة، وهو ظاهر القرآن فلذلك اخترناه.
١ والبحث في الأرض: نبش التراب وإثارته/١٢ وجيز. السوءة: العورة وأراد بها الجسد/١٢ وجيز..
٢ وهذه الحكاية حكاية إسرائيلية وعبارة ابن عباس دالة على أن قربانهما لا عن سبب فلهذا تعرضنا بظاهر ما في القرآن/١٢ وجيز. [أثر ابن عباس رواه ابن جرير كما سبق وقال ابن كثير في (تفسيره) (٢/٤٤): فهذا الأثر يقتضي تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عند جماعة. وهو ظاهر القرآن]..
﴿ من أجل ذلك ﴾ أي : بسبب قتله أخاه ظلما ﴿ كتبنا على بني إسرائيل ﴾ حكمنا وقضينا١ عليهم ﴿ أنه من قتل نفسا بغير نفس ﴾ أي : بغير قتل نفس يوجب القصاص ﴿ أو فساد٢ في الأرض ﴾ أو بغير فساد فيها كالشرك وقطع الطريق ﴿ فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ أي : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس أو لأنه يقتل قصاصا كما لو قتل الجميع أو كما قتل الناس وزرا أو إثما ﴿ ومن أحياها ﴾ حرم قتلها وكف عنها أو عفا عن قاتل أو أنجاها عن هلكة ﴿ فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ حيي الناس منه جميعا وحرم قتل جميع الناس أو في الأجر والثواب والمقصود تعظيم القتل والإحياء في القلوب ﴿ ولقد جاءتهم ﴾ أي : بني إسرائيل ﴿ رُسلنا بالبينات ﴾ بالمعجزات الظاهرات على صدقهم ﴿ ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك ﴾ : إرسال الرسل مع البينات ﴿ في الأرض لمُسرفون٣ : في مثل القتل.
١ فإنهم أول أمة نزل فيهم الوعيد للقتل وغلظ عليهم الأمر بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، ومع ذلك لا يرتدعون حتى قتلوا الأنبياء وهموا بقتل النبي المصطفى صلوات الله عليه وعليهم أجمعين/١٢ وجيز..
٢ وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض فالشرك فساد في الأرض، وقطع الطريق فساد في الأرض وسفك الدماء، وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض، والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض وهدم البناء وقطع الأشجار وتغوير الأنهار فساد في الأرض فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض وهكذا الفساد الذي يأتي في قوله (ويسعون في الأرض فسادا) يصدق على هذه الأنواع، وسيآتي تمام الكلام على معنى الفساد قريبا/١٢ فتح..
٣ مجاوزون الحد في المعاصي وعدم اتباع الرسل ومنهم في موضع الصفة لكثيرا وبعد ظرف لمسرفون ولما ذكر تغليظ الإثم في القتل والفساد في الأرض أتبعه بيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل، فإن بعض الفساد لا يوجب فقال: (إنما جزاء الذين)/١٢ وجيز..
﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله١ يحاربون أولياءهما من قاطع الطريق وغيره ﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾ : مفسدين أو كأنه قال : يفسدون في الأرض فسادا أو يسعون في الفساد، والفساد يطلق على أنواع الشر قال بعضهم نزلت في بعض أهل الكتاب بينهم وبين النبي –صلى الله عليه وسلم– ميثاق فنقضوا وأفسدوا في الأرض أو في جماعة مرضوا في المدينة فداواهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم– من ألبان الإبل وأبوالها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل فلما أخذوا قطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقوا في الرمضاء حتى٢ ماتوا فعلى هذا تكون تعليما لرسول الله –صلى الله عليه وسلم– ولهذا ما سمر بعد ذلك عينا ﴿ أن يُقتّلوا ﴾ أي من غير صلب إن أفردوا القتل ﴿ أو يُصلّبوا٣ مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال ﴿ أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ﴾ أيدي اليمنى وأرجل اليسرى إن أخذوا المال فقط ﴿ أو يُنفوا٤ من الأرض ﴾ إن اقتصروا على الإخافة والنفي هو أن يطلبهم الإمام فيقام عليهم الحد أو يهربوا من دار الإسلام أو ينفى من بلد وهكذا وقال بعضهم لا يخرجون من أرض الإسلام أو المراد من النفي السجن أو يخرج من بلده إلى آخر فيسجن فيه حتى تظهر توبته وقال كثير من السلف : إن الإمام مخير بين هذه العقوبات الأربعة في كل قاطع طريق فيكون أو للتخيير لا للتفصيل ﴿ ذلك لهم خِزي ﴾ فضيحة ﴿ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ هذا يدل على أن الآية نزلت في جمع من المشركين وإلا فالجمهور على أن من أذنب ذنبا وعوقب في الدنيا فهو كفارة له.
١ والحق أن هذه الآية تعم المشترك وغيره ممن ارتكب ما تضمنته ولا اعتبار بخصوص السبب بل الاعتبار بعموم اللفظ، قال القرطبي في تفسيره ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مرتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين واليهود انتهى ومعنى قوله: مرتب أي ثابت والأولى أن تفسير محاربة الله سبحانه بمعصيته ومخالفة شرائعه ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي وحكم أمته حكمه وهم أسوته/١٢ فتح..
٢ وفي صحيح مسلم أنهم سمروا أعين الرعاء ففعل بهم قصاصا/١٢. [أخرجه البخاري في (التفسير)/باب: ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله...﴾ الآية (٤٦١٠) وفي غير موضع من صحيحه]..
٣ عند أبي حنيفة ومالك يصلب حيا ويطعن حتى يموت إن قتل وأخذ المال، وقال غيرهما يقتل ثم يصلب لعبرة الغير وعليه الشافعي/١٢ وجيز..
٤ وظاهر القرآن أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان/١٢ وجيز..
﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ على قول من قال هي في أهل الشرك فظاهر لأن من آمن ما بقي عليه شيء وأما المحاربون المسلمون إذا تابوا قبل القدرة سقط عنهم حد الله لا حقوق بني آدم وكثير من السلف يدل على أنه يسقط حقوق بني آدم، أيضا إلا إذا أخذ مالا معينا فيجب الضمان ﴿ فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا١ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ أي : القربة بطاعته ﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ بمحاربة أعداء الله ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ : لكي تفوزوا.
١ ولما ذكر جزاء المحارب أمر المؤمنين بالتقوى وابتغاء القربات إلى الله فإن ذلك هو المنجى من المحاربة وعذاب المعد للمحارب فقال: (يا أيها الذين آمنوا)/١٢ وجيز..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ١ ليجعلوه فدية لأنفسهم، واللام متعلق بثبت الدال عليه ( وإفراد ضمير لإجرائه مجرى اسم الإشارة أو لأنه من قبيل إني قيار بها لغريب لا أن ومثله مفعول٢ معه ﴿ من عذاب يوم القيامة ما تُقبّل منهم ﴾ جواب لو ولو بما في حيزه خبر إن ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ : مؤلم.
١ وإفراد ضمير به لتلازمهما كأنهما واحد كما قالت العرب: رب يوم وليلة مر بي أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة/١٢ وجيز..
٢ لأن العامل معنوي فإذا جاز العطف تعين ولأن التركيب يصير ركيكا للفظة معه/١٢ وجيز..
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ أي : أيمانهما١ وتقديره عند سيبويه : حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، فيكون جملتين وجملة عند المبرد والفاء للسببية أي : الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا. ﴿ جزاء بما كسبنا نكالا ﴾ عقوبة ﴿ من الله ﴾ منصوبان٢ على المفعول له ﴿ والله عزيز ﴾ في الانتقام ﴿ حكيم ﴾ فيما حكم من القطع.
١ أي إيمانهما وفي قراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما" وقراءته أيضا دالة على أن المقطوع يد واحد؛ لأن اليمين لا يكون إلا واحد، فالجمع باعتبار كثرة أفراد النوعين، ومثل هذا التركيب عند سيبويه جملتان تقديره حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، ودليله في كتب النحو وعند جماعة من البصريين جملة واحدة وجملة الأمر وخبر المبتدأ، والمعنى على العموم أي: الذي سرق والتي سرقت فالفاء دخل على جملة صالحة لأداة الشرط وأما نصاب السرقة ففيه خلاف كثير وعند الأكثرين ربع دينار للحديث الثابت في الصحيحين ومذهب الجمهور أن القطع من الرسغ لفعل الشارع/١٢ وجيز..
٢ وهما منصوبان على المفعول له وترك العطف بينهما للإشعار على أن القطع للجزاء على قصد النكال والمنع عن المعاودة والعبرة/١٢ وجيز..
﴿ فمن تاب من بعد ظلمه ﴾ سرقته ﴿ وأصلح ﴾ العمل ﴿ فإن الله يتوب عليه ﴾ يقبل توبته ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقط عنه١ على الأصح.
١ بالتوبة/١٢ وجيز..
﴿ ألم تعلم١ أن الله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ أي : لا تهتم بمسارعتهم فيه.
١ والخطاب في (ألم تعلم) لكل من له علم كأنه قال: إنك عاجز عن الخروج عن ملكي فلم اجترئت على ما منعتك منه اعترض نصراني على الدين الحنيفي أن في اليد المقطوع ظلما خمسين من الإبل وأنتم حكمتم بقطعه في ربع دينار وما ذلك إلا جهل فأسكته بعض عظماء العلماء بقوله: كانت ثمينة فلما خانت هانت. ولما بين أنه مالك العلويات والسفليات بيده التعذيب والغفران وله القدرة التامة العامة فعلى مذعنه تفويض الأمر إليه كما قال الله (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) (الحديد: ٢٢) إلى أن قال: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) فقال: (يا أيها الرسول) خاطبه به إشارة إلى أن الرسالة شغلك/١٢ وجيز..
﴿ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ﴾ متعلق بقالوا ﴿ ولم تؤمن١ قلوبهم ﴾ وهم المنافقون ﴿ ومن الذين هادوا ﴾ اليهود عطف على من الذين ﴿ سمّاعون ﴾ أي : هم سماعون أو تقديره : ومن اليهود قوم سماعون ﴿ للكذب ﴾ أي : قابلون له يقبلون من أحبارهم ما يفترونه وقيل : سماعون كلامك لأجل الكذب أي : ليكذبوا ويفترون عليك ﴿ سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك ﴾ : أي : يسمعون من جمع من اليهود لا يأتون مجلسك ويقبلون كلامهم أو معناه سماعون منك لأجله، وقيل : سماعون الثاني للتأكيد، ولقوم متعلق بالكذب أي : سماعون ليكذبوا لقوم لم يأتوا مجلسك تجافيا عنك وتكبرا ﴿ يُحرّفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ : من بعد أن وضعه الله مواضعه إما لفظا وإما معنى بحمله على غير مراده، الجملة صفة لقوم أو مستأنفة أو خبر محذوف، وكذلك قوله ﴿ يقولون إن أوتيتم هذا فخُذوه ﴾ أي : إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه ﴿ وإن لم تُؤتوه ﴾ بل يفتى بخلافه ﴿ فاحذروا ﴾ قبوله. ( نزلت في رجل وامرأة محصنين من اليهود زنيا وهم قد بدلوا الرجم في التوراة بمائة جلدة والتحميم٢ والإركاب على حمار مقلوبا فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتوا وقالوا : إن حكم بمثل ما قلنا اعملوا أو يكون نبي من أنبياء الله قد حكم بذلك فيكون حجة بينكم وبين الله، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه فأمر عليه الصلاة والسلام بالرجم وألزمهم أنه حكم التوراة فرجما٣ ) ﴿ ومن يُرد الله فتنته ﴾ : ضلالته ﴿ فلن تملك له من الله شيئا ﴾ في دفع الفتنة عنه ﴿ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم ﴾ من خبائث الشرك ﴿ لهم في الدنيا خزي ﴾ : فضيحة وهتك ستر للمنافقين وجزية وخذلان لليهود ﴿ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾.
١ واللسان ترجمان القلب/١٢..
٢ أي: تسويد الوجه/١٢..
٣ والحكاية في الصحيحين ومنها يعلم أن كفرهم عناد بالتوراة والقرآن/١٢. [أخرجه البخاري في (الحدود) / باب: أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام (٦٨٤١) ومسلم في (الحدود) /باب: من اعترف على نفسه بالزنى (١٦٩٩)]..
﴿ سمّاعون للكذب ﴾ كرره للتأكيد. ﴿ أكّالون١ للسُّحت ﴾ : الحرام كالرشى، فإنه مسحوت البركة ﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ تخيير في الحكم والإعراض ﴿ وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئا ﴾ فإن الله يعصمك من الناس قال كثير من السلف : الآية منسوخة٢ بقوله :( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ( المائدة : ٤٨ ) ﴿ وإن حكمت فاحكُم بينهم بالقسط ﴾ أي : العدل وإن كانوا ظلمة مستحقين للتعذيب ﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾ : يرضى عنهم ويعظمهم.
١ ولما كان معظم النفع من المال الأكل وصفهم بأكل الحرام الذي يصير جزء البدن وفي الحديث: (كل لحم نبت من الحرام فالنار أولى به)/١٢ وجيز. [وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (٤٥١٩) ولفظة (كل جسد... الحديث)]..
٢ وفي الوجيز والمراد: فإن جاءوك للحكم فأنت مخير في ذلك وقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: ٤٨) يعني: إن حكمت فلا يكون هذا منسوخا بذلك/١٢..
﴿ وكيف ﴾ حال من فاعل ﴿ يُحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ﴾ تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أن الحكم في كتابهم المؤمن به منصوص ﴿ ثم يتولّون من بعد ذلك ﴾ : التحكيم فلا يقبلون حكمك المطابق لما في كتابهم عطف على يحكمونك ﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾ : لا بك ولا بكتابك.
ثم مدح التوراة بقوله :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ﴾ : يهدي إلى الحق ﴿ ونور ﴾ : به ينكشف المبهم ﴿ يحكم به النبيّون ﴾ : أنبياء بني إسرائيل ﴿ الذين أسلموا ﴾ فيه تعريض باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء ﴿ للذين هادوا ﴾ متعلق بأنزلنا أو بيحكم أي : لأجل اليهود ﴿ والربّانيون والأحبار ﴾ عطف على ( النبيون )، وهم الزهاد والعلماء ﴿ بما استُحفظوا من كتاب الله ﴾ : بسبب أمر الله إياهم بحفظ كتابه، وإظهاره وضمير ما محذوف ومن للتبيين ﴿ وكانوا عليه شهداء ﴾ : رقباء لئلا يبدل أو بأنه من عند الله ﴿ فلا تخشوا الناس واخشونِ ﴾ نهي للحكام عن المداهنة خشية الناس ﴿ ولا تشتروا ﴾ : تستبدلوا ﴿ بآياتي ثمنا قليلا ﴾ : الرشوة والجاه ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ نزلت في أهل الكتاب١ دون من أساء من هذه الأمة أو من تركه عمدا وأجاز وهو يعلم فهو من الكافرين، فيكون في المسلمين أو ليس بكفر ينقل عن الملة والدين، ولكن كفر دون كفر.
١ صرح الحسن البصري بأن من لم يحكم منا فهو فاسق ومن لم يحكم من أهل الكتاب فهو كافر؛ لأنهم تركوا الحكم للتحريف والعناد، وقد روي هذا عن جماعة من السلف وعن حذيفة بسند صحيح أن هذه الآيات ذكرت عنده ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون، فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك [ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٥٠٧) وعزاه لابن جرير ابن أبي حاتم والحاكم في (المستدرك) وصححه]. وعن ابن عباس نحوه وأقول: هذه الآية وإن نزلت في اليهود لكنها ليست مختصة بهم؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة (من) وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله وهو الكتاب والسنة، والمقلد لا يدعي أنه حكم بما أنزل الله بل يقر أنه حكم بقبول العالم الفلاني وهو لا يدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف! فانظر يا مسكين ماذا صنعت بنفسك، فإنك لم يكن جهلك مقصورا عليك بل جهلت على عباد الله فأرقت الدماء وأقمت الحدود هتكت الحرم بما لا تدري، فقبح الله الجهل بما أنزله، ولاسيما إذا جعله صاحبه شرعا ودينا له وللمسلمين، فإنه طاغوت عند التحقيق وإن ستر من التلبيس بستر رقيق فيا أيها المقلد أخبرنا أي القضاة أنت من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :(القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار). أخرجه أبو داود وابن ماجة عن بريدة [وصححه الشيخ الألباني في (الإرواء) (٢٦١٤)]. فيا لله عليك بل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق إن قلت نعم فأنت وسائر أهل العلم يشهدون بأنك كاذب، لأنك معترف بأنك لا تعلم ما الحق، وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرق بين مجتهد ومقلد، وإن قلت بل قضيت بما قاله إمامي ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقلد على وجه الأرض فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين إما قضيت بالحق ولا تعلم أنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين إما أن يكون حقا وإما أن يكون غير حق، وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص الصادق المختار، وهذا ما أظن يتردد فيه أحد من أهل الفهم لأمرين: أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل القضاة ثلاثة، وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل والعالم والجاهل.
الثاني أن المقلد لا يدعي أنه يعلم ما هو حق من كلام إمامه وما هو باطل بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة، وأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري هو فإن وافق الحق فهو قضى بالحق ولا يدري أنه الحق وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق وهذان القاضيان اللذان في النار فالقاضي المقلد على كل حال يتقلب في نار جهنم كما قال قائل:
خذي بطن حرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق/١٢ فتح..

﴿ وكتبنا عليهم ﴾ : فرضنا على اليهود ﴿ فيها ﴾ : في التوراة ﴿ إن النفس ﴾ مقتولة ﴿ بالنفس والعين ﴾ مفقوءة ﴿ بالعين والأنف ﴾ مجدوع ﴿ بالأنف والأُذن ﴾ مصلومة ﴿ بالأُذن والسِّن ﴾ مقلوعة ﴿ بالسّن والجروح قصاص ﴾أي : ذات قصاص فيما يمكن الاقتصاص منه، وأما ما لا يمكن القصاص ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته فلا قصاص فيه، ومن قرأ والعين بالعين بالرفع وكذلك الباقي فيكون عطفا على أن وما في حيزه أي : كتبنا عليهم فيها العين بالعين ﴿ فمن تصدّق به ﴾ : بالقصاص بأن عفا عنه ﴿ فهو ﴾ أي : التصدق ﴿ كفّارة له ﴾ : للمتصدق يكفر الله به ذنوبه أو للجاني لا يؤاخذه الله به كما أن القصاص كفارة له ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾ لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم بالعدل نزلت لما١ اصطلحوا أن لا يقتل شريف بوضيع ورجل بامرأة.
١ أي اليهود/١٢..
﴿ وقفّينا على آثارهم ﴾ أي : وأتبعناهم فحذف المفعول لدلالة الظرف عليه والضمير للنبيين ﴿ بعيسى ابن مريم ﴾ مفعول ثان متعدي إليه بالباء﴿ مصدّقا لما بين يديه من التوراة ﴾ : حاكما بما فيها ﴿ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ﴾ إلى الحق ﴿ ونور ﴾ يستضاء به في إزالة الشبهات، والجملة أعني :( فيه هدى ) في موضع نصب على الحال ﴿ ومُصدّقا لما بين يديه من التوراة ﴾ لا يخالفه إلا في قليل ﴿ وهدى١ وموعظة للمتقين ﴾ زاجرا عن ارتكاب المحارم لمن اتقى الله وخاف عقابه.
١ فقوله: (فيه هدى) مبهم وهدى للمتقين مبينة أو الأول: ذكر أن فيه الهداية والنور والثاني: جعل نفس الإنجيل هاديا وواعظا/١٢ وجيز..
﴿ وليحكُم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ﴾ عطف على وآتيناه الإنجيل أي : وآتيناه الإنجيل، وقلنا لهم : ليحكم ومن قرأ ليحكم بكسر اللام وفتح الميم فتقديره وآتيناه ليحكم ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون١ : الخارجون عن طاعة ربهم.
١ وفي الآية دلالة على اشتراط الاجتهاد في القضية وإشارة إلى ترك الحكم بالتقليد، فإن قلت: إذا كان التخاصم ببلدة لا يوجد فيها مجتهد هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين؟ قلت: إذا كان يمكن وصولها إلى قاض مجتهد لم يجز للمقلد أن يقضي بينهما بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أنزل الله أو بما أراه الله، فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد متعذرا أو متعسرا فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي المقلد فصل خصوماتهما لكن يجب عليه أن لا يدعي علم ما ليس من شأنه، فلا يقول: صح أو لم يصح شرعا بل يقول قال إمامه كذا ويعرف الخصمين أنه لم يحكم بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني وفي الحقيقة: هو محكم لا حاكم، وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة كما جاء ذلك في القرآن الكريم في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج وحكم من أهل المرأة، وكما في قوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) (المائدة: ٩٥) وكما وقع في زمن النبوة والصحابة في غير قضية ومن لم يجد ماء تيمم بالتراب، والعور خير من العمي/١٢ فتح..
﴿ وأنزلنا إليك الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ بالحق ﴾ متلبسا به ﴿ مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ﴾ : من جنس الكتب المنزلة ﴿ ومهيمنا عليه ﴾ : رقيبا على سائر الكتب وشهيدا. فكل خبر يوافقه فحق وما خالفه منها فمحرف باطل أو حاكما على ما قبله من الكتب ﴿ فاحكم بينهم ﴾ بين أهل الكتاب ﴿ بما أنزل الله ﴾ إليك ﴿ ولا تتّبع أهواءهم ﴾ بالانحراف ﴿ عما جاءك من الحق ﴾ ولتضمن لا تتبع معنى الانحراف تعلق به عن أو حال عن الفاعل أي : مائلا عما جاءك ﴿ لكل جعلنا منكم ﴾ أيها الناس ﴿ شِرعة١ سبيلا :﴿ ومنهاجا ﴾ : سنة السنن هي مختلفة في التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة يحل الله فيها أشياء هي حرام في غيرها ليتميز المطيع من العاصي ﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ﴾ جماعة متفقين على دين وطريقة واحدة في جميع الأعصار ومفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه ﴿ ولكن ﴾ أراد ﴿ ليبلُوكم ﴾ : ليختبركم ﴿ في ما آتاكم ﴾ من الشرائع المختلفة في كل عصر هل تعملون بها وتعتقدون حكمتها ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ ابتدروا وسارعوا إلى الأعمال الصالحة ﴿ إلى الله مرجعكم ﴾ أيها الناس ﴿ جميعا فيُنبّئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ بالجزاء فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين.
١ الشريعة في الأصل الطريقة الظاهرة إلى الماء والمنهاج الطريق الواضح فالعطف للجمع بين الوصفين، والمراد: الأحكام العلمية، وأما أصول الدين فلا اختلاف بوجه آخر/١٢وجيز. وفي الفتح وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاجا إلا ما جاء به صلى الله عليه وسلم/١٢..
﴿ وأن احكم ﴾ عطف على الكتاب أو على الحق أي : أنزلنا إليك الحكم أو أنزلنا إليك الكتاب بأن احكم أو تقديره وأمرنا أن احكم ﴿ بينهم بما أنزل الله ﴾ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم ويردهم إلى حكامهم فأمر أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يردهم إلى حكامهم ﴿ ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم ﴾ أهل الكتاب ﴿ أن يفتِنوك ﴾ بدل اشتمال من هم أو مفعول له أي : مخافة أن يفتنوك ويضلوك ﴿ عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ نزلت حين قالت رؤساء اليهود ننطلق إلى محمد لعلنا نفتنه، فقالوا قد تعلم أنا إن ابتعناك اتبعناك الناس ولنا خصومة فاقض لنا على خصمنا إن جئنا نتحاكم إليك فنؤمن بك ﴿ فإن تولّوا ﴾ عما حكمت ﴿ فاعلم أنما يريد الله أن يُصيبهم ببعض ذنوبهم ﴾ لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت نكالهم ﴿ وإن كثيرا من الناس لفاسقون ﴾ : خارجون عن طاعة ربهم.
﴿ أفحُكم الجاهلية١ يبغون ﴾ أي : يريدون، وعن حكم الله يعدلون ﴿ ومن أحسن من الله حكما ﴾ تمييز ﴿ لقوم يوقنون ﴾ أي : عندهم فاللام للبيان أي : هذا الخطاب وهذا الاستفهام لمن له اليقين بأنه أعدل العادلين وارحم الراحمين.
١ استفهام إنكار على اليهود حيث هم أهل الكتاب ومع ذلك يعرضون عن حكم الله تعالى/١٢ وجيز..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ١ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ فلا تعاشروهم معاشرة الأجانب ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ فهم متفقون على مخالفتكم ومعاداتكم ﴿ ومن يتولّهم منكم فإنه٢ منهم ﴾ يحشر معهم ﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين٣ فاحذر عن موالاة من ظلم نفسه فإنهم الظالمون.
١ ولما بين كمال عداوتهم مع المؤمنين وقلة عقلهم خاطب المؤمنين بالنهي عن موالاة أعدائهم فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا) الآية/١٢ وجيز..
٢ فيه تشديد عظيم ومن هذا ورد (من أحب قوما فهو منهم)/١٢ وجيز..
٣ المراد من سبق في علم الله تعالى أنه يموت ظالما/١٢..
﴿ فترى الذين في قلوبهم مرض ﴾ : شك ونفاق كابن١ أبي ابن سلول وأضرابه ﴿ يسارعون فيهم ﴾ في محبتهم ﴿ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة٢ بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار ﴿ فعسى٣ الله أن يأتي بالفتح ﴾ للمسلمين على أعدائهم ﴿ أو٤ أمر من عنده ﴾ كضرب الجزية عليهم وهتك ستر المنافقين ﴿ فيصبحوا ﴾ هؤلاء المنافقون ﴿ على ما أسرّوا في أنفسهم ﴾ من النفاق ودس أخبار المسلمين على أعدائهم ﴿ نادمين ﴾.
١ رأس المنافقين/١٢ وجيز..
٢ قال الواحدي: الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تخشى كالهزيمة والحوادث المخوفة فالدوائر تدور والدوائل تدول/١٢ كبير..
٣ وعسى في كلام الله سبحانه وعد لا يتخلف والفتح ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على الكافرين/١٢ فتح..
٤ قوله :(أو أمر من عنده) يعني: لا يكون للناس فيه فعل البتة كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر/١٢ كبير..
﴿ ويقول الذين آمنوا ﴾ قرئ بالنصب عطف على يأتي بتقدير الضمير أي : عسى الله أن يقول الذين آمنوا به أو باعتبار أن قولهم لما كان مسببا عن الإتيان بالفتح أقيم مقامه مبالغة في اتحاده معه وبالرفع كلام مبتدأ وبغير أو على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذ ؟ ﴿ أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لَمعكم ﴾ يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجبا من كذبهم وحلفهم بالباطل أهؤلاء الذين أقسموا بأغلظ الأيمان إنهم أولياؤكم ومعاونوكم على الكفار أي : يجتهدون جهد أو مصدر من لفظ اقسموا لأنه بمعناه ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ بطل كل عمل خير لهم ﴿ فأصبحوا خاسرين ﴾ في الدنيا والآخرة وهو من قول الله تعالى.
﴿ يا أيها الذين١ آمنوا من يرتد منكم عن دينه ﴾ قد ارتد عن الإسلام قبائل العرب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنه ﴿ فسوف يأتي الله بقوم٢ بدلهم ومكانهم ﴿ يحبّهم٣ يهديهم ويثبتهم ﴿ ويحبّونه ﴾ هم أبو بكر وأصحابه أو أهل اليمن أو الأشعريون ﴿ أذلة على المؤمنين ﴾ : متذللين لهم عاطفين عليهم خافضين لهم أجنحتهم ﴿ أعزة على الكافرين ﴾ : شداد متغلبين عليهم ﴿ يجاهدون في سبيل الله ﴾ صفة أخرى لقوم ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾ لا كالمنافقين يخافون ويراقبون لوم الكفار ﴿ ذلك ﴾ أي : ذلك الأوصاف ﴿ فضل الله يُؤتيه من يشاء والله واسع ﴾ : كثير الفضل ﴿ عليم٤ بمن هو أهله.
١ ولما ذكر أقواما كافرين ظالمين نادمين خاسرين عقب قوما أخس منهم وأقبح فقال (يا أيها الذين آمنوا)/١٢ وجيز..
٢ وهم قوم أبي موسى الأشعري على الأصح كما في المستدرك لأبي عبد الله الحاكم/١٢ وجيز. المراد بالقوم الذين وعد الله بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن قال بعض الصحابة ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة/١٢..
٣ اعلم أن حب المحمود وبغض المذموم صفتان من صفات الكمال فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال ولا يحب صفات الكمال.
وإذا قدر موجودان أحدهما يحب العلم والصدق والعدل والإحسان والآخر لا فرق عنده بين هذه الأمور والجهل والظلم والكذب ونحو ذلك لا يحب هذا ولا يبغض هذا كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا فدل على أن هذه من صفات الكمال، والموجود إما أن لا يكون له علم كالجماد فالذي يعلم أكمل منه، والعالم إما أن يحب المحمود ويبغض المذموم وإما أن لا يحبهما، وإما أن يحبهما، ومعلوم أن الذي يحب المحمود ويبغض المذموم أكمل ممن لا يحبهما ويبغضهما. وأصل هذه المسألة هي الفرق بين محبة الله ورضائه وغضبه وسخطه وإرادته كما هو مذهب السلف، ومن ذهب إلى أنه لا فرق بينها فقوله مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإنهم متفقون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإنه لا يكون شيء إلا بمشيئته، ومجمعون على أنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول، والذين نفوا محبته بنوها على هذا الأصل الفاسد فالمحبة صفة ثابتة له تعالى فهو يحب سبيله الصادقين ويحب الصابرين ويحب المقسطين ويحب المحسنين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا، وهو يأتي بقوم يحبهم ويحبونه، والله وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، فليس لمؤمن يؤمن بكتاب الله ويصدق رسوله أن ينفي صفة أثبتها الله لنفسه وشهد رسوله أن يفسرها برأيه ثم يستحيلها؛ لأن عدم علمنا بكيفية صفة من صفاته لا يوجب نفيها، كما أن عدم علمنا بكنه ذاته لا يستلزم النفي فلا نكذب بما علمناه لعدم علمنا بما لا نعلمه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل/١٢..

٤ ولما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء بين لهم من وليهم فقال: (إنما وليكم الله)/١٢ وجيز..
﴿ إنما١ وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ أي : ليس اليهود بأوليائكم بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين ﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ بدل من الذين آمنوا أو مرفوع، أو منصوب على المدح٢ ﴿ ويؤتون الزكاة وهم راكعون ﴾ متخشعون في صلاتهم وزكاتهم، أو حال من الذين بمعنى أنهم دائمون للركوع أي لصلاة التطوع أو حال من فاعل يؤتون، فإن عليا رضي الله عنه أعطى خاتمة في ركوعه لسائل٣ فنزلت ﴿ ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا ﴾.
١ لم يقل أولياء إشارة إلى أن المجموع في حكم واحد وإلى التنبيه على أن الولاية على الأصالة لله تعالى وللباقين تبع، ولأن الولي بزنة فعيل فيستوي فيه التثنية والجمع والواحد كما صرح بمثل ذلك الزمخشري في قوله تعالى: (وما قوم لوط منكم ببعيد) (هود: ٨٩)/١٢ وجيز..
٢ لا صفة لاشتراك الموصوفين في كونهما وصفين، والوصف لا يوصف إلا إذا جرى مجرى الاسم كالمؤمن مثلا بخلاف الذين آمنوا، فإنه في معنى الحدوث/١٢ وجيز.
٣ كما رواه ابن جرير وابن مردويه بروايات مختلفات [ذكره ابن كثير في (تفسيره) (٢/٧٢) وقال: (وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها) وذكرها السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٥١٩)]، وذكر بلفظ الجمع تحريضا على المبادرة إلى الصدقة فيدخل فيه كل من يبادر/١٢ وجيز..
﴿ ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ أي : من يتخذهم أولياء ﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ﴾ أي : فإنهم الغالبون : كأنه قال فهم حزب الله وجنده وحزب الله هم الغالبون.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ﴾ قرئ والكفار بالجر فيكونون داخلين في المستهزئين، وبالنصب عطف على الذين اتخذوا ﴿ واتقوا الله ﴾ في اتخاذ هؤلاء أولياء ﴿ إن كنتم١مؤمنين ﴾ بشرعه ودينه الذي اتخذه هؤلاء هزوا.
١ ولما ذكر اتخاذهم دينكم هزوا أخذ يبين قبيح صنيعهم فقال وإذا ناديتم/١٢ وجيز..
﴿ وإذا ناديتم ﴾ الناس ﴿ إلى الصلاة اتخذوها١ أي : المناداة ﴿ هُزوا ولعبا٢ تضاحكوا فيما بينهم يحكونه ويستهزءونه ﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ فإن العقل يمنع من الاستهزاء بأمر معقول مشروع.
١ هم المنافقون يظهرون الإسلام عند المسلمين وفي قومهم يضحكون ويستهزءون/١٢ وجيز..
٢ يحكونها ويستهزءونها فليست المناداة عندهم ولا ركوع في صلاتهم/ ١ وجيز. وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع، وأما قوله تعالى في سورة الجمعة: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) (الجمعة: ٩) فهو خاص بنداء الجمعة/١٢..
﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقِمون ﴾ : تنكرون وتعيبون ﴿ منا إلا أن آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل من قبل ﴾ قيل : نزلت في اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به فقال :( نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل ) إلى قوله ( ونحن له مسلمون ) فقالوا لما سمعوا ذكر عيسى والله لا نعلم دينا شرا من دينكم١ ﴿ وأن أكثركم فاسقون ﴾ عطف على ( أن آمنا ) وحاصله : أنكم ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون عنه، أو عطف على علة محذوفة تقديره : تنكرون منا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ويجوز أن يكون حالا من فاعل تنقمون.
١ رواه محي السنة والواحدي وغيرهما/١٢ وجيز..
﴿ قل هل أُنبّئكم بشر من ذلك ﴾ : المنقوم ﴿ مثوبة عند الله ﴾ تمييز عن شر أي جاء ثابتا عنده، وهو من باب : تحيتهم بينهم ضرب وجيع. فإن المثوبة مختصة بالخير ﴿ من لعنه الله ﴾ أي : هو دين من لعنه الله فلا بد من حذف مضاف هنا أو في قوله بشر من ذلك أي : من أهل ذلك ﴿ وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ﴾ عطف على لعنه والطاغوت : العجل أو الكهنة أو الشيطان ﴿ أولئك شر مكانا ﴾ فيه مبالغة ليست في قوله أولئك شر١ قيل : لأن مكانهم سقر ﴿ وأضل عن سواء السبيل ﴾ : قصد الطريق المتوسط والمراد من صيغتي الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين.
١ كما تقول في التعظيم سلام على مجلسه ففيه مبالغة، فإن كان ذلك في الآخرة يراد بالمكان حقيقة، لأن جهنم مكانهم. وإن كان ذلك في الدنيا فالمراد المكانة/١٢ وجيز..
﴿ وإذا جاءوكم قالوا آمنا ﴾ يعني منافقي اليهود ﴿ وقد دخلوا ﴾ حال من ضمير قالوا ﴿ بالكفر ﴾ حال من فاعل دخلوا ﴿ وهم قد خرجوا به ﴾ أي : دخلوا كافرين وخرجوا كافرين لم يؤثر فيهم كلامك١ ﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾ : من الكفر وفيه وعيد.
١ واللائق بحال العاقل إن فرضنا أنه دخل متلبسا بالكفر أن لا يخرج إلا مؤمنا/١٢ وجيز..
﴿ وترى كثيرا منهم ﴾ : من منافقيهم أو من اليهود ﴿ يسارعون في الإثم ﴾ : المحارم أو الكذب ﴿ والعدوان ﴾ : الاعتداء على الناس أو مجاوزة الحد في المعاصي ﴿ وأكلهم السُّحت ﴾ : الحرام خص بالذكر للمبالغة ﴿ لبئس ما كانوا يعملون ﴾ : شيئا عملوه.
﴿ لولا ينهاهم الرّبانيون ﴾ : زهادهم ﴿ والأحبار ﴾ : علماؤهم ﴿ عن قولهم الإثم ﴾ : كذبهم وافتراءهم ﴿ وأكلهم السُّحت لبئس ما كانوا يصنعون١ : من عدم النكير عليهم التحضيض لهم على النهي عن ذلك، فإن لولا إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.
١ فيه توبيخ العلماء والزهاد على السكوت، قال السلف: ما نعلم آية أشد توبيخا للعلماء والزهاد على السكوت عن النهي عن المعاصي من هذه الآية والعمل لا يسمى صناعة إلا إذا تمكن صاحبها فيها وينسب إليه، ففيه إشارة إلى أن ترك نهي المنكر عادة خواصهم/١٢ وجيز. وبخ سبحانه الخاصة وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعلي المعاصي فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم ويفرجوا لها عن قلوبهم فإنها قد جاءت بما فيه البيان الشافي لهم بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هم أشد حالا وأعظم وبالا من العصاة فرحم الله عالما قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أعظم ما افترضه الله عليه وأوجب ما أوجب عليه النهوض به، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وأعنا على ذلك وقونا عليه ويسره لنا وانصرنا على من تعدى حدودك وظلم عبادك، إنه لا ناصر لنا سواك ولا مستعان غيرك يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين/١٢. .
﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة ﴾ مجاز عن البخل أي هو مسك كف الله عنهم نعمة الدنيا حين جحدوا القرآن بعد ما كانوا في خصب ورخاء فقالوا ذلك ﴿ غُلّت أيديهم ﴾ أي : هم البخلاء أو دعا عليهم بالبخل قيل : هي من الغل في النار ﴿ ولُعنوا بما قالوا بل١ يداه مبسوطتان ﴾ ليس له بخل أصلا وله غاية الجود وتثنية اليد تدل عليها، وقيل يداه أي : نعمة الدنيا والآخرة ﴿ ينفق كيف يشاء ﴾ تأكيد لذلك أي هو مختار يوسع ويقتر بحسب مشيئته وإرادته ﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أُنزل ﴾ فاعل يزيدن ﴿ إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ : كلما نزلت آية كفروا وازدادوا طغيانا وكفرا ﴿ وألقينا بينهم ﴾ : بين طوائف اليهود ﴿ العداوة٢ والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ فلا يتفق كلمتهم ﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب ﴾ : مع المسلمين ﴿ أطفأها٣ الله ﴾ بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم ﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾ : للفساد أو يسعون بمعنى يفسدون ﴿ والله لا يحب المفسدين ﴾ : لا يرضى عنهم ولا يعزّهم.
١ أعلم أن اليد صفة قائمة بذات الله وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء، والذي يدل عليه أن الله تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه على سبيل الكرامة، ولو كان معناه بقدرته أو بنعمته أو ملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم وامتنع كون آدم مصطفى بذلك؛ لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء ذلك يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء وبه قال أبو الحسن الأشعري على ما نقله الرازي عنه وجماعة من أهل الحديث/١٢ فتح. فلا نكذب بأصلها لعدم علمنا بوصفها وآمنا بالله كما هو بأسمائه وصفاته/١٢..
٢ لا يقال: إن هذا المعنى حاصل بين المسلمين أيضا فكيف يكون عيبا عليهم لا على المسلمين لأنا نقول: إن هذه البدع والافتراق لم يكن شيئا منها حاصلا بينهم في الصدر الأول، وإنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم فحرى جعل ذلك عيبا عليهم في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم/١٢ فتح..
٣ أي: كلما جمعوا للحرب جمعا وأعدوا له عدة شتت الله جمعهم وذهب بريحهم، وذلك بأن بعث الله عليهم بخت نصر البابلي ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس وهم أهل الفرس، ثم أفسدوا فقالوا يد الله مغلولة، فبعث الله المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبدا وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها ثم يبطل الله ذلك/١٢ فتح..
﴿ ولو أن أهل الكتاب ﴾ مع هذه الجرائم ﴿ آمنوا ﴾ : بالقرآن ﴿ واتقوا ﴾ : معاصيهم ﴿ لكفّرنا عنهم١ سيئاتهم ﴾ : الماضية ﴿ ولأدخلناهم جنات النعيم ﴾
١ قال بعض العلماء: من آمن ولم يراع التقوى لم يكفر جميع ما مضى من سيئاته في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أنؤاخذ عملنا في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم: من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام)، وأما من قال المراد من قوله من أحسن في الإسلام عدم النفاق والمراد من الإساءة النفاق فقوله تمحل يخالف ظاهر الآية/١٢ وجيز.[الحديث أخرجه البخاري في (استتابة المرتدين) (٢٩٢١) ومسلم في (الإيمان) (١/٣٢٢) ط الشعب]..
﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ﴾ : بأن يصدقوا ولا يحرفوا ويعملوا بالأحكام. ﴿ وما أُنزل إليهم من ربهم ﴾ أي : القرآن أو كتب الأنبياء مطلقا ﴿ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ : لأنزل عليهم المطر وأخرج لهم نبات الأرض، أو من الأشجار والزروع أو من غير كد وتعب قيل أراد به التوسعة كقولهم : فلان بالخير من قرنه إلى قدمه ﴿ منهم أمة مقتصدة ﴾ : جماعة غير غالية ولا مقصرة كمؤمني أهل الكتاب ﴿ وكثير منهم ﴾ : مقول في شأنه ﴿ ساء ما يعملون ﴾ : بئس ما يعملونه، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم.
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي : جميعه غير خائف من شيء ﴿ وإن لم تفعل ﴾ : ولم تبلغ جميعه وكتمت آية منه ﴿ فما بلّغت رسالته ﴾ : وماذا أديت شيئا منها كمن أضاع ركن صلاة، أو فكأنك ما بلغت شيئا منها، فإن كتمان البعض والكل سواء في الشناعة ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ أي : أنا ناصرك وحافظ روحك فلا تخف أحدا١ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس من قبل ذلك، فلما نزلت تلك الآية تركت الحراسة٢ ويجاهد الأعداء بعيب دينهم وسب آلهتهم بلا خوف. قيل : المائدة آخر ما نزل من القرآن فلا يشكل بشج رأسه الأشرف صلى الله عليه وسلم، أو المراد حفظ روحه ﴿ إن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ أي : بلغ غليهم رسالتك والله الهادي وليس عليك هداهم قيل معناه : لا يمكنهم مما يريدون بك من الهلاك. قيل : الأمر بتبليغ كل ما قصد منه اطلاع الناس فإن من الأسرار ما يحرم إفشاؤه.
١ رواه الترمذي وقال: الحاكم صحيح الإسناد/١٢ وجيز.[أخرجه الترمذي.(٣٢٥٠) من حديث عائشة –رضي الله عنها– وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح الترمذي) (٣٤٤٠)]..
٢ أخرجه الترمذي (٣٢٥٠) من حديث عائشة –رضي الله عنها- وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح الترمذي) (٣٤٤٠)..
﴿ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء ﴾ أي : دين يصح أن يسمى شيئا ﴿ حتى تُقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ﴾ أي : تؤمنوا بجميع الكتب وتصدقوها ولا تكتموا شيئا منها فمن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أُنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ كرره ليتعقب عليه قوله :﴿ فلا تأس ﴾ : لا تحزن ﴿ على القوم الكافرين ﴾ لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإنهم الأشقياء وضرر كفرهم لا يلحق بغيرهم.
﴿ إن الذين آمنوا ﴾ : باللسان كالمنافقين أو المراد منه المسلمون ﴿ والذين هادوا والصابئون ﴾ مرفوع بالابتداء وخبره محذوف أي والصابئون كذلك وهو اعتراض مشعر بأنهم مع كمال ضلالهم إن آمنوا يتاب عليهم فغيرهم من باب الأولى وهم طائفة من النصارى أو من عبدة الملائكة أو قوم يعرفون الله وحده وليست لهم شريعة، وقيل : غير ذلك ﴿ والنصارى من آمن بالله ﴾ : بقلبه أو ثبت على الإيمان مبتدأ خبره ( فلا خوف ) والجملة خبر إن وضمير اسمها محذوف أي : من آمن منهم أو بدل من اسم إن وخبره فلا خوف ﴿ واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ : على ما فات عنهم من الدنيا.
﴿ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا ﴾ : ليذكروهم ﴿ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى ﴾ : تشتهي ﴿ أنفسهم ﴾ جملة شرطية وقوله :﴿ فريقا ﴾ : من الأنبياء ﴿ كذّبوا وفريقا يقتلون ﴾ دال على وجوب الشرط وهو استكبروا، وقوله :( فريقا كذبوا ) مستأنفة كأنه قيل : كيف فعلوا برسلهم ؟ وجملة الشرط والجزاء صفة ( رسلا ) أي كلما جاءهم رسول منهم.
﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾ أي : حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم شر بما صنعوا ومن قرأ ( ألا تكون ) بالرفع يكون أن مخفف من المثقلة ﴿ فعموا ﴾ : عن الدين والدلائل ﴿ وصمّوا ﴾ : عن سماع الحق حين عبدوا العجل ﴿ ثم تاب الله عليهم ﴾ أي : ثم تابوا فقبل الله توبتهم ﴿ ثم عموا وصمُّوا ﴾ كرة أخرى ﴿ كثير منهم ﴾ بدل من ضمير الجمع ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ : فيجازيهم.
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ أي : إني مخلوق مثلكم فاعبدوا خالق الكل ﴿ إنه من يشرك بالله ﴾ : في عبادته ﴿ فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه ﴾ : منزله ﴿ النار وما للظالمين من أنصار ﴾ : ما لهم أحد ينصرهم لأنهم ظلمة.
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة١ أي : أحد ثلاثة من الآلهة هو والمسيح وأمه ﴿ وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ﴾ أي : ولم يوحدوا ﴿ ليمسّن الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ وضع الظاهر موضع الضمير ليعلم أن ترتب العذاب لكفرهم، ومن للبيان.
١ أنه أحد ثلاثة من الآلهة وهو المسيح وأمه قال الله تعالى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) (المائدة: ١١٦) وقد حكى عنهم أنه جوهر واحد وثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس والثلاثة إله واحد كالشمس يتناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة اختلطت الكلمة بجسد عيسى كالماء في الخمر فكل من الثلاثة إله ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة فلا يقال ثالث ثلاثة/١٢ وجيز..
﴿ أفلا يتوبون١ إلى الله ﴾ بالانتهاء عن تلك العقيدة الوخيمة بعد هذا التهديد ﴿ ويستغفرونه والله غفور رحيم ﴾ : يغفر لهم ويرحم عليهم بعد التوبة مع هذا الذنب الجسيم.
١ هذا من لطف الله تعالى استدعاء إلى التوبة من تلك المقالة الباطلة بعد أن كرر عليهم الشهادة بكفرهم/١٢ وجيز..
﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ﴾ : ما هو إلا رسول كالرسل السابقة ﴿ وأُمّه صدّيقة ﴾ : صدقت بكلمات ربها وكتبه ﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾ : يحتاجان إليه، فكيف يكونان إلهين ! ! ﴿ انظر كيف نُبيّن لهم الآيات ثم انظر أنّى يؤفكون١ أي : كيف يصرفون عن الحق وتدبر الآيات.
١ ودخلت ثم للتراخي ما بين العجبين، فإن الثاني أعجب من الأول فإنه الإعراض عن الآيات أعجب من التوضيح/١٢ وجيز..
﴿ قل ﴾ : يا محمد لمن يعبد غير الله ومنهم النصارى ﴿ أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ﴾ : لا يملك١ أن يدفع عنكم ضر المصائب ولا أن يوصل إليكم نفع الصحة والسعة ﴿ والله هو السميع ﴾ : بالأقوال ﴿ العليم ﴾ : بالعقائد فيجازى عنها.
١ والمراد هنا المسيح عليه السلام وإيثار (ما) على (من) لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزل من الألوهية ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا، وقدم سبحانه الضر على النفع لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية والإلهية حيث لا يستطيع ضرا ولا نفعا وصفة الرب والإله أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته وهذا في حق عيسى النبي فما ظنك بولي من الأولياء، فإنه أولى بذلك/١٢ فتح..
﴿ قل١ يا أهل الكتاب لا تغلُوا في دينكم ﴾ : لا تتجاوزوا عن الحد فيه ﴿ غير الحق ﴾ : حال كون دينكم غير الحق أي باطلا وقيل : صفة مصدر أي غلوّا باطلا فإن غلو الحق وهو التفحص عن حقائقه محمود ﴿ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ﴾ أي : أئمتهم الذين ضلوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وأضلوا ﴾ : خلقا ﴿ كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ﴾ أي : استمروا على الضلال أو بعد بعثته أو ضلوا قبل عن مقتضى العقل ثم عن مقتضى الشرع.
١ ولما سبق القول في أباطيل اليهود وشيء من ترهات النصارى جمع الفريقين في النهي فقال (قل يا أهل الكتاب) الآية/١٢ وجيز..
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وأصحاب المائدة لم يؤمنوا قال عيسى : اللهم العنهم واجعلهم١ آية فمسخوا خنازير أو ملعونون في الزبور والإنجيل٢ على لسانهما ﴿ ذلك ﴾ أي : اللعن ﴿ بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ أي : بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم.
١ وقال مجاهد والسدي وغيرهما/١٢..
٢ هذا عن ابن عباس/١٢..
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر١ فعلوه ﴾ : لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه قيل : أي لا ينتهون من تناهى عن الأمر إذا امتنع ﴿ لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ تعجيب مؤكد بالقسم.
١ يعني جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر وعدم النهي/١٢ وجيز..
﴿ ترى كثيرا منهم١ : من أهل الكتب ﴿ يتولّون ﴾ : يوالون ﴿ الذين كفروا ﴾ فإن المنافقين يوالون المشركين ﴿ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ﴾ ما بعد أن هو المخصوص بالذم كأنه قال : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم أي موجب سخطه ﴿ وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبيّ ﴾ أي : محمد عليه الصلاة والسلام.
١ إن كان المراد أهل الكتب الذين في عهد المسلمين فترى بصرية/١٢..
﴿ وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ﴾ إذ الإيمان يمنع عن ذلك ﴿ ولكن كثيرا منهم فاسقون١ : خارجون عن طاعة الله.
١ وهذا من وضع الظاهر موضع المضمر، وأصل الكلام: ولكنهم فاسقون، ولما طال الكلام أعيد كثيرا منهم بلفظه المذكور فلا يلزم أن معناه أن كثيرا من ذلك الكثير فاسقون/١٢ وجيز..
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ فإنهم١ متفقون في الانهماك في حسدهم وعنادهم ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى٢ نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ عليهم القرآن بكوا وأسلموا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبره وقيل : غير ذلك ﴿ ذلك بأن منهم قسّيسين ﴾ أي : علماء ﴿ ورهبانا ﴾ أي : عبادا ﴿ وأنهم لا يستكبرون٣ كما يتكبر المشركون واليهود.
١ فإنهما متفقان في الحسد، وفي تقديم اليهود إشارة إلى أنهم أصول في العداوة/١٢ وجيز..
٢ لم يرد به جميع النصارى؛ لأنهم في عداوتهم للمسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم بل الآية فيمن أسلم منهم كالنجاشي وأصحابه، وقيل في جميعهم؛ لأن اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود/١٢ معالم..
٣ بل هم متواضعون بخلاف اليهود فإنهم على ضد ذلك، والعموم أولى ولا وجه لتخصيص قوم دون قوم والآية الكريمة ساكتة عن قيد الإيمان، وإنما هو مدح في مقابلة ذم اليهود، وليس بمدح على الإطلاق/١٢ فتح البيان..
﴿ وإذا سمعوا ﴾ عطف على يستكبرون بيان لرقة أفئدتهم ﴿ ما أُنزل إلى الرسول ﴾ : محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ ترى أعينهم تفيض من الدمع ﴾ جعلت أعينهم من كثرة البكاء كأنها تسيل بأنفسها ﴿ مما عرفوا من الحق ﴾ من الأولى للابتداء والثانية للتبيين ﴿ يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ من الذين شهدوا بأنه حق أو من أمة محمد عليه١ الصلاة والسلام فإنهم شاهدون يوم القيامة لنبيهم أنه قد بلّغ، وللرسل أنهم قد بلغوا.
١ رواه الحاكم في مستدركه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس/١٢ وجيز. [ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٥٤٣)، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن ابن عباس –رضي الله عنه-]..
﴿ وما لنا لا نؤمن ﴾ نقل١ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فأجابوا. أي : أي شيء حصل لنا ؟ وقوله : لا نؤمن حال من ضمير ( لنا ) أي : غير مؤمنين ﴿ بالله ﴾ : بتوحيده ﴿ وما جاءنا من الحق ونطمع أن يُدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ﴾ : أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ونطمع حال وعامله عامل الحال الأولى، لكن مقيدا بالحال الأولى بتقدير : ونحن نطمع وعطف على لا نؤمن أو حال من فاعل لا نؤمن.
١ رواه الطبراني عن ابن عباس/١٢ وجيز. [ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٥٣٨) وعزاه لابن أبي شيبة وأبي الشيخ]..
﴿ فأثابهم الله ﴾ : أعطاهم ﴿ بما قالوا ﴾ : سألوا ربهم وتمنوا ﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ : من تحت غرفها ﴿ خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ﴾ : الذين أحسنوا القول والعمل.
﴿ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ التكذيب بالآيات وإن كان داخلا في الكفر لكن كفرهم لأجل تكذيبهم آيات ربهم والكلام في بيان المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أيك ما طاب ولذ منه ﴿ ولا تعتدوا ﴾ : لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليها، أو لا تجاوزوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم، أو لا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر الكفاية ﴿ إن الله لا يحب المعتدين١ : لا يرضى عمن تجاوز الحد في الأمور نزلت في جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه تبتلوا واعتزلوا النساء وطيبات الطعام واللباس وهموا بالإخصاء ولذلك قيل الاعتداء : الإخصاء.
١ ولما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا وشيمتهم الزهد عن الطيبات أوهم ذلك رغبة المسلمين في مثل تقشفهم وتبتلهم فبين أن الإسلام لا رهبانية فيه فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا) قال ابن جرير لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون [أخرجه البخاري في (النكاح) (٥٠٧٣) ومسلم في (النكاح) (٥٤٩١٣) ط الشعب]. فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حلة وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة على النساء، قال: فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وهذا ما فضل بينهما من القيامة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الردية، لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته/١٢ فتح. .
﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا١ من ابتدائية متعلقة بكلوا وحلالا مفعوله أو للتبعيض مفعول كلوا وحلالا حال من الموصول ﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴾ قيل لما نزلت الآية في منعهم عما اتفقوا عليه من الإخصاء وغيره قالوا : يا رسول الله : إنا قد حلفنا على ذلك فنزل قوله ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم٢.
١ قال ابن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه، والطيبات ما أغذى وأنمى وأما الجامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه، إلا على وجه التداوي، ثم وصاهم الله تعالى بالتقوى/١٢ فتح..
٢ وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل لا والله وبلى والله في كلامه غير معتمد لليمين وبه فسر الصحابة الآية وهم أعرف بمعاني القرآن قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة/١٢ فتح..
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم١ : هو قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله، وبلى والله، أو في الهزل أو في المعصية أو على غلبة الظن أو في الغضب أو في النسيان أو هو في ترك المأكل والملبس ﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان ﴾ : بما صممتم عليه وقصدتموه إذا حنثتم ﴿ فكفّارته ﴾ أي : كفارة نكثه التي تذهب إثمه ﴿ إطعام عشرة مساكين ﴾ : وهو من لا يجد ما يكفيه ﴿ من أوسط ﴾ صفية إطعام أو تقديره إطعاما من أوسط أو طعاما من أوسط ﴿ ما تطعمون٢ أهليكم ﴾ : أي من أعدله ومن أمثله، قال كثير من السلف : لكل واحد مد من بر ومعه إدامه، وقال بعضهم : نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما وعند الشافعي مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك أو ﴿ كسوتهم٣ عطف على إطعام أي : ما يقع عليه اسم الكسوة أو كسوة تجوز صلاته فيها وقيل غير ذلك ﴿ أو تحرير رقبة٤ : مؤمنة عند الشافعي فالحانث مخير بين هذه الثلاثة ﴿ فمن لم يجد ﴾ : واحدا منها بأن لم يفضل ما يطعم عشرة مساكين من قوته وقوت عياله في يومه وليلته ﴿ فصيام ثلاثة أيام ﴾ أي : فكفارته ذلك، والتتابع ليس بشرط عند الشافعي ﴿ ذلك ﴾ أي : المذكور ﴿ كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ يعني : حنثتم ﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾ لا تتركوها بغير تكفير أو لا تحلفوا أو عن الحنث إذا لم يكن على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن الأفضل الحنث والكفارة حينئذ ﴿ كذلك ﴾ : مثل ذلك البيان ﴿ يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ﴾ : نعمه فيزيدنكم.
١ وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل لا والله وبلى والله في كلامه غير معتمد لليمين وبه فسر الصحابة الآية وهم أعرف بمعاني القرآن قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة/١٢ فتح..
٢ والظاهر أن المراد قدر الشبع/١٢ وجيز..
٣ والظاهر ما يسمى كسوة/١٢ وجيز..
٤ مؤمنة عند الأكثرين، فالحانث مخير بين هذه الثلاثة، والعتق أفضل ثم الكسوة وبدأ بالأيسر/وجيز..
﴿ يا أيها الذين١ آمنوا إنما الخمر والميسر ﴾ : هو القمار بجميع أنواعه ﴿ والأنصاب ﴾ : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها ﴿ والأزلام ﴾ : هي قداح كانوا يستقسمون بها وقد مر ﴿ رجس٢ : سخط وإثم خبر للخمر وخبر الباقي محذوف أو تقديره تعاطي الخمر والميسر رجس ﴿ من عمل الشيطان ﴾ ؛ لأنه مسبب من تسويله ﴿ فاجتنبوه ﴾ أي : الرجس ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ : لكي تفلحوا بالاجتناب عنه.
١ ولما نهى عما حرموا على أنفسهم بين ما هو الحرام وهم يتعاطونه يعني الخمر والباقي ذكر تبعا له ليعلم أن الخمر من جنسه فقال: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر)/١٢..
٢ في الصحاح الرجس: القذر والعقاب والغضب كما قال: (إنما المشركون نجس) (التوبة: ٢٨) فلا حاجة على تقدير مضاف فإنه أبلغ/١٢ وجيز..
﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر١ ويصدّكم ﴾ : يمنعكم ﴿ عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾ ذكر الأنصاب والأزلام اللذين هما من الكفر مع الخمر والميسر كأنه للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة، ولذلك خصهما بإعادة الذكر ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ من أبلغ عبارة في النهي كأنه قال قد تلوت عليكم من أنواع الصوارف فهل أنتم معها منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه ولم ينفعكم الزجر ؟ !
١ وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر دلت أيضا على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام قال قتادة: الميسر هو القمار وقال ابن عباس: كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وعن علي بن أبي طالب قال: النرد والشطرنج من الميسر وعنه قال الشطرنج ميسر الأعاجم، وقال قاسم بن محمد كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر، وعن ابن الزبير قال: يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها نرد شير، والله يقول في كتابه (إنما الخمر والميسر) الآية إلى قوله (فهل أنتم منتهون)، وإني أحلف بالله لا أوتي بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره، وأعطيت سلبه من أتاني به، وعن أنس بن مالك قال: الشطرنج من النرد بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد وسئل أبو جعفر عنه فقال: تلك المجوسية فلا تلعبوا بها وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لعب بالنرد شير فقد عصى الله ورسوله، وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن كثير قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يلعبون بالنرد فقال: قلوب لاهية وأيد عليلة وسنة لاغية وقال ابن سيرين: ما كان من لعب فيه قمار أو صياح أو شر فهو من الميسر، وفي الباب روايات كثيرة مشتملة على الوعيد الشديد لا نطول بذكرها، وقد أشار سبحانه إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله: (إنما يريد الشيطان) الآية/١٢ فتح. [ذكر هذه الآثار السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٥٦٤)]..
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ﴾ : مخالفتهما ﴿ فإن توليتم ﴾ عن الطاعة ﴿ فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ فلا ضرر له، وإنما ضررتم به أنفسكم، ولما نزل تحريم الخمر قالوا كيف بمن كان يشربها قبل التحريم وبعض الذين قتلوا يوم أحد شهداء والخمر في بطونهم فأنزل الله تعالى ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ﴾.
﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ﴾ : إثم ﴿ فيما طعموا ﴾ : مما لم يحرم عليهم ﴿ إذا ما اتقوا ﴾ : الحرام ﴿ وآمنوا وعملوا الصالحات ﴾ : وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحات ﴿ ثم اتقوا ﴾ ما رحم عليهم بعد ﴿ وآمنوا ﴾ بتحريمه ﴿ ثم اتقوا ﴾ استمروا على اتقاء المعاصي ﴿ وأحسنوا ﴾ : العمل ومعناه في الأول : اتقوا الشرك وآمنوا ثم اتقوا أي : داموا على ذلك وآمنوا وثبتوا عليه وازدادوا إيمانا ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا العمل ﴿ والله يحب المحسنين ﴾ فلا يؤاخذهم بشيء.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ ﴾ : يختبرنكم ﴿ بشيء من الصيد ﴾ هذا في عمرة الحديبية المسلمون محرمون والصيد من الوحش والطير تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط ﴿ تناله أيديكم ﴾ : تتمكنون من أخذه باليد، لأن فيه صغارا وفراخا ﴿ ورماحكم ﴾ : تحتاجون إلى مزاولة الرمح لأن فيه الكبار ﴿ ليعلم الله ﴾ : ليرى الله وليتميز ﴿ من يخافه بالغيب ﴾ : من يخاف الله ولم يره أو من يخاف عقاب الله وهو غائب غير شاهد ﴿ فمن اعتدى بعد ذلك ﴾ : الإعلام والإنذار ﴿ فله عذاب١أليم ﴾.
١ ولله الحمد على أن لم يقعوا في مثل ما وقع فيه اليهود، ولما علم من ضمن الكلام حرمة الصيد في الإحرام أمرهم صريح فقال: (يا أيها الذين) إلخ/١٢ وجيز..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم١أي : محرمون جمع حرام ﴿ ومن قتله منكم متعمدا ﴾ : ذاكرا لإحرامه، والأصح عند السلف والخلف أن العمد والخطأ سيان في لزوم الكفارة دون الإثم والآية فيهما ولذلك قيده بمتعمد، أو يدل عليها صريحا قوله :( ومن عاد فينتقم الله ) ﴿ فجزاء ﴾ : أي فعليه أو فواجبه جزاء ﴿ مثل ما قتل ﴾ صفة جزاء ﴿ من النّعم ﴾ بيان للمثل ومن قرأ فجزاء بالإضافة فمن إضافة المصدر إلى المفعول والمثل غير زائد، لأنه بصدد بيان أن الجزاء ما هو لا بيان أن عليه جزاء ما قتل، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة على الأصح٢ المنقول عن السلف ﴿ يحكم به ﴾ : الجزاء ﴿ ذوا٣عدل ﴾ : رجلان صالحان فإن الأنواع تتشابه، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، ﴿ منكم ﴾ : من المسلمين فما حكم الصحابة بالمثلية فهو المتبع وإلا فلابد من عدلين يحكمان، هذا هو الأصح، ﴿ هديا ﴾ حال من ضمير به، ﴿ بالغ الكعبة ﴾، صفة هديا، وبالإضافة لفظية أي : واصلا إليه بأن يذبح فيه، ويتصدق به، ﴿ أو كفارة ﴾، عطف على جزاء، ﴿ طعام مساكين ﴾ بدل منه أو تقديره هي طعام وظاهره التخيير وعليه الأكثرون، وقال بعض من السلف : إن لم يجد هديا يعدل على أن يقوم مثل ما قتل، فيشتري بثمنه طعاما لكل مسكين مد فإن لم يجد يصوم، ﴿ أو عدل ذلك٤ صياما ﴾ أي : ما ساواه من الصوم فيصوم عن إطعام كل مسكين يوما وصياما تمييز للعدل، ﴿ ليذوق وبال أمره ﴾ : ثقل أمره، وجزاء معصيته أي : أوجبنا عليه ذلك ليذوق، ﴿ عفا الله عما سلف ﴾ : قبل التحريم، ﴿ ومن عاد ﴾ : إلى مثل ذلك، ﴿ فينتقم الله منه ﴾ : في الآخرة أي : فهو ينتقم الله منه ليصح دخول الفاء وعليه مع ذلك الكفارة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا كفارة عليه فإن الأمر أشد، ﴿ والله عزيز ذو انتقام ﴾ : على المصر بالمعاصي.
١ فإن الإحرام تذكرة للموت والميت لا يؤذى بوجه والحرم موطن الرفق أيضا/١٢..
٢ وعند الشافعي للمحرم قتل ما لا يؤكل، فإن الصيد لا يطلق عليه عرفا غالبا والجمهور على تحريمه إلا ما يؤمر بقتله، وظاهر القرآن على أن في غير المتعمد لا جزاء وبه قال ابن عباس في أحد قوليه وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم وبه قال أبو داود والطبري وأحد قولي الحسن البصري، ومجاهد وأحمد وأما عند مالك وأبي حنيفة والشافعي فلا إثم، ولكن وجب الجزاء ويأباه قوله (متعمدا) وقوله (ومن عاد)/١٢ وجيز..
٣ فما حكم الصحابة في المثلية فهو متبع، وإلا فلا بد من عدلين على الأصح/١٢..
٤ الظاهر أن الإشارة إلى أقرب مذكور، وهو الطعام أي: ما ساواه من الصوم، فيصوم عن إطعام كل مسكين يوما وصياما تمييز للعدل قد أجهل قدر الطعام وعدد المساكين والظاهر ما يسمى طعاما وما يطلق عليه الجمع لكن عند جمع من السلف يُقوَّم الصيد دراهم، ثم يشتري بها الطعام فيطعم كل مسكين نصف صاع، وعند بعض آخر يقوّم الهدي ثم يشتري بقيمته طعاما والآية كالصريح في التخيير بين الثلاثة كالحلف وعليه الأكثرون وهو أصح قولي الشافعي/١٢ وجيز. .
﴿ أُحل لكم صيد١ البحر ﴾ : مما لا يعيش إلا في الماء في جميع الأحوال ﴿ وطعامه ﴾ أي : ما يتزود منه يابسا مالحا أو ما لفظه ميتا، ﴿ متاعا لكم وللسّيارة ﴾ : منفعة للمقيم، والمسافر، وهو مفعول ﴿ وحُرّم عليكم صيد٢ البر ﴾ أي : مصيدها، وعن بعضهم المراد بالصيد في الموضعين فعله ﴿ ما دمتم حُرما ﴾ وأما أكل لحم صيد غير المحرم لا لأجله في حال الإحرام فالأصح الجواز بدليل الحديث، ﴿ واتقوا الله الذي إليه٣ تُحشرون ﴾.
١ وجملة حيوانات الماء على قسمين سمك وغيره أما السمك فميته حلال مع اختلاف أنواعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان السمك والجراد) [أخرجه أحمد (٢/٩٧)، وابن ماجة (٣٣١٤)، وانظر (الصحيحة) (١١١٨)]، فلا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء منه ونحو ذلك أما غير السمك فقسمان قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكله، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح فاختلف القول فيه فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك، وهو قول أبي حنيفة، وذهب قوم أن ميت الماء كلها حلال لأن كلها سمك وإن اختلف صورتها كالجريث يقال له حية الماء، وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق، وهو قول عمر وأبي بكر وابن عباس، وزيد بن ثابت وأبي هريرة وبه قال شريح والحسن وعطاء وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي، وذهب قوم على أن ما له نظير في البر يؤكل فميتته من حيوانات البحر حلال مثل بقر الماء ونحوه، و ما لا يؤكل نظيره في البر لا يحل من حيوانات البحر مثل كلب الماء والخنزير، والحمار ونحوها وقال الأوزاعي: كل شيء عيشه في الماء فهو حلال قيل فالتمساح قال: نعم قال الشعبي لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم، وقال سفيان الثوري: أرجو ألا يكون بالسرطان بأس، وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر/١٢ معالم. .
٢ والظاهر أن الصيد في الموضعين الصحيحين أن جماعة من الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكل الصيد للحرم فقال هل كان فيكم أحد أشار إلى الصيد وأعان في القتل قالوا لا فأكلوا وأكل منها/١٢ وجيز. [أخرجه البخاري في (الذبائح والصيد) (٥٤٩٢)، ومسلم في (الحج) (٣/٢٧٩) ط الشعب واللفظ له]..
٣ ذكر الحشر إذ يظهر فيه جزاء من أطاع وعصى، ولما ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه وذكر تعظيم الكعبة بقوله: (هديا بالغ الكعبة) بين بعده أن الكعبة جعل قياما للناس فقال: (جعل الله الكعبة)/١٢ وجيز..
﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام ﴾، عطف بيان للكعبة على جهة المدح. ﴿ قياما للناس ﴾ : في أمر دينهم ودنياهم به الحج وبه يلوذ الخائف، وهو ثاني مفعولي جعل، ﴿ والشهر الحرام ﴾، عطف على الكعبة جعل الأشهر الحرم قياما للناس فيه الحج، والأمن من القتال، ﴿ والهدي ﴾ : ما أهدى إلى الكعبة، ﴿ والقلائد ﴾ : ذوات القلائد من الهدي ما قلد به الهدي من نعل، أو لحاء شجر أي : علامة يعلم منها أنه هدي، وكانوا يؤمنون بتقليد الهدي فبه يحصل القيام، ﴿ ذلك ﴾ أي : الجعل وقيل إشارة إلى ما في السورة من أخبار الغيب ﴿ لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ﴾، فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل الوقوع، وجلب المنافع دليل كمال علمه أو لتعلموا أنا نعلم مصالح دينكم ودنياكم، فتستدلوا بهذا على أنه عالم بما في السماوات والأرض، ﴿ وأن الله بكل شيء عليم ﴾، تعميم بعد تخصيص.
﴿ اعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ : لمن انتهك محارمه، ﴿ وأن الله غفور رحيم ﴾ لمن حافظ عليها.
﴿ ما على الرسول إلا البلاغ ﴾ : فإذا بلغ ليس لكم عذر في التفريط، ﴿ والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون ﴾ : من تصديق وتكذيب.
﴿ قل١ لا يستوي الخبيث والطيب٢ : الحرام والحلال، ﴿ ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾ : فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ﴿ فاتقوا الله ﴾ : في الخبيث ﴿ يا أولي الألباب ﴾ : أرباب العقول السليمة، ٣ ﴿ لعلكم تُفلحون ﴾ : راجين أن تبلغوا الفلاح.
١ ولما حذر عن المعصية، ورغب في الطاعة وكرر ذلك أتبعه بنوع آخر من الترغيب والترهيب، فقال: (قل لا يستوي الخبيث) الآية/١٢ وجيز..
٢ يمكن إطلاقهما على المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والجيد والردي، والمعرفة والجهل، والطاعة والمعصية والأولى حملها على العموم/١٢ وجيز..
٣ والفلاح أقصى غاية مراد المرء العاقل، ولما كرر عدم استواء الخبيث والطيب وأشار إلى أن العقل الخالص هو المميز وبعض الأسئلة من قسم الخبيث أمر باجتنابه فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء) الآية/١٢ وجيز..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا ﴾ : رسول الله صلى الله عليه وسلم. ﴿ عن أشياء إن تُبد لكم ﴾ : تظهر لكم، ﴿ تسؤكم ﴾ : تغمكم وتضركم. الشرطية وما عطف عليها من الشرطية الأخرى صفة أشياء نزلت١ لما سئل من يطعن في نسبه من أبي فعينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال آخر أين أبي ؟ قال : في النار٢ أو نزلت لما٣ نزل وجوب الحج، فقال :( في كل عام، فقال : ولو قلت نعم لوجبت فاتركوني ما تركتكم ) ﴿ وإن تسألوا عنها حين يُنزّل القرآن تُبد لكم ﴾ أي : وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، ﴿ عفا الله عنها ﴾ أي : عما سلف من مسألتكم، فلا تعودوا لمثلها فهي استئناف أو صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها، ﴿ والله غفور حليم ﴾ : لا يعاجلكم بالعقوبة.
١ روي في الصحيحين /١٢ وجيز. [أخرجه البخاري في (التفسير)/باب: ﴿لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ (٤٦٢١) ومسلم في (الفضائل) (٢٣٥٩)]..
٢ أخرجه ابن جرير في (تفسيره) (٥/٧/٥٣) من حديث أبي هريرة. وذكره الحافظ في (الفتح) (٨/١٣١)..
٣ رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد/١٢ وجيز.[أخرجه مسلم في (الحج)/باب: فرض الحج مرة في العمر (١٣٣٧)]..
﴿ قد سألها ﴾ أي : عن الأشياء بالحذف والإيصال، وقيل الضمير إلى المسألة التي دل عليها ( لا تسألوا ) فيكون في موقع الصدر وليس من قبيل سألته درهما، لأنهم ما طلبوه، بل سألوا عنه، ﴿ قوم من قبلكم ﴾ متعلق بسألها، ﴿ ثم أصبحوا بها ﴾ : أي : بالأشياء أو بسببها ﴿ كافرين ﴾ ؛ لأنهم تركوها وهجروها وقد١ ورد ( اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ).
١ في الصحيحين/١٢ وجيز. [تقدم تخريجه]..
﴿ ما١ جعل الله من بحيرة ﴾ أي٢ ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير، فلا يطلب غلا مفعولا واحدا أو من زائدة، وهي ناقة ولدت خمسة أبطن بحروا أي : شقوا أذنها وتركوا الحمل، والركوب عليها، ﴿ ولا سائبة ﴾ : هي ناقة لا تركب، ولا تحبس عن كلاء وماء لنذر صاحبها إن حصل ما أراد من شفاء المريض، أو غيره أنها سائبة، ﴿ ولا وصيلة ﴾ : الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظر إن كان السابع ميتا فهو للرجال دون النساء، وإن كان ذكرا فهو مذبوح للرجال، وإن كان أنثى تركوها فلم يذبح، وإن كان ذكرا وأنثى خلوا الذكر أيضا من أجل أنثى، وقالوا : وصلت أخاها ولبنها للرجال ﴿ ولا حام ﴾ : هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، وقد قيل في تفسير كل واحد غير ما نقلنا، ﴿ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ﴾ : في تحريمهم هذه الأنعام، ﴿ وأكثرهم لا يعقلون ﴾ : جهلة كالأنعام، بل هم أضل أو أكثرهم مقلدون لرؤسائهم لا يعرفون أن ذلك افتراء منهم.
١ لما نهى عن بعض الأسئلة وأمر بالاكتفاء بما أمرهم علم منه بطريق الأولى عدم جواز اختراع شرع من عند أنفسهم فقال: (ما جعل الله) الآية/١٢ وجيز..
٢ قال النحاة: إن جعل يجيء بمعنى خلق وألقى وصير بمعنى أخذ في الفعل وبمعنى سمى، وأما جعل بمعنى شرع وسن فلم يسمع، والحمل على ما سمع أولى وأحرى/١٢ وجيز..
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ﴾ : في الفرائض والسنن، ﴿ قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ : من سننهم السيئة، ﴿ أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ﴾، الواو للحال والهمزة للإنكار أي : أحسبهم وجدان آبائهم على هذا المثال، ولو كان الحال أن آباءهم جهلة ضلال١.
١ فإنها حال لا ينبغي أن يتبع فيها/١٢ وجيز..
﴿ يا أيها١ الذين آمنوا عليكم أنفسكم ﴾ الجار والمجرور اسم فعل أي : الزموا صلاحها، ﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، فيه رخصة٢ في ترك الحسنة إذا علم عدم قبولها أو فيها مفسدة وإضرار له منها اتفقت كلمة السلف على ذلك، والأحاديث تدل٣ عليه أو معنى إذا اهتديتم إذا ائتمرتم بالمعروف، وأمرتم به، وانتهيتم عن المنكر، ونهيتم عنه حسب طاقتكم أو المراد المنع عن هلاك النفس أسفا على ما عليه الكفرة والفسقة كقوله :( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ( فاطر : ٨ )، وهو استئناف أو جواب للأمر أي : إن لزمتم أنفسكم لا يضركم، والقياس الفتح لكن أوثرت ضمة الراء لاتباع الضاد، ﴿ إلى الله مرجعكم جميعا فيُنبّئكم بما كنتم تعملون ﴾، وعد ووعيد للفريقين.
١ ولما رغب ورهب ونصب ولم يفد لهم، بل بقوا مصرين على فعل آبائهم وحسبوا أن تركهم لما هم عليه عار خاطب المؤمنين فقال: (يا أيها الذين آمنوا عليكم) الآية/١٢ وجيز..
٢ لما توهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والإذن في ذلك، بل الأمر به أشار إلى الجواب بأن الرخصة إذا علم عدم قبولها أو إذا كان فيها مفسدة فوقها أو المراد من الاهتداء أن ينكر، ويأمر حسب طاقته، فليس بعد ذلك شيء أو للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الفسقة/١٢ منه..
٣ قال صلى الله عليه وسلم عن تلك الآية: (ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيت دينا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك)/ ١٢ وجيز. أخرجه الترمذي، وصححه ابن ماجة وابن جرير والبغوي والحاكم وغيرهم/ ١٢ فتح. [وضعفه الشيخ الألباني في (ضعيف ابن ماجة (٨٦٩))]..
﴿ يا أيها الذين١ آمنوا شهادة بينكم ﴾ إضافة إلى الظرف على الاتساع، ﴿ إذا حضر أحدكم الموت ﴾، ظرف للشهادة، وحضوره : ظهور أماراته، ﴿ حين الوصية ﴾، بدل من الظرف وفيه دليل على أن الوصية مما لا ينبغي التساهل فيها، ﴿ اثنان ﴾، خبر شهادة أي : شهادة بينكم شهادة اثنين أو فاعلها أي : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، ﴿ ذوا٢ عدل منكم ﴾ : من المسلمين، وقيل من أقاربكم وهما صفتان لاثنان، ﴿ أو آخران ﴾، عطف على اثنان، ﴿ من غيركم ﴾ : من غير المسلمين أو من غير أقاربكم، ﴿ إن أنتم ضربتم في الأرض ﴾ : أي : شهادة غير المسلم إذا كنتم في السفر يعني : لم تجدوا مسلما، ﴿ فأصابتكم مصيبة الموت ﴾، عطف على ضربتم، وجواب الشرط محذوف أي : إن كنتم في سفر ولم تجدوا مسلمين، فيجوز إشهاد غير المسلمين، ﴿ تحسبونهما ﴾ : تقفونهما صفة للآخران، أو استئناف كأنه جواب ما قيل كيف نعمل إن ارتبنا في الشاهدين ؟ ! ﴿ من بعد الصلاة ﴾ أي : صلاة العصر، فإن أهل الكتاب أيضا يعظمونها أو بعد صلاة ما، أو بعد صلاتهم، ﴿ فيُقسمان بالله إن ارتبتم ﴾ أي : إن ارتاب أحد الوارثين فيهما حبسهما للحلف، ﴿ لا نشتري به ﴾ : بالقسم، ﴿ ثمنا ﴾، الجملة مقسم عليه أي : لا نستبدل به عرضا من الدنيا أي : لا نحلف كاذب، ﴿ ولو كان ﴾ : من نقسم له، ﴿ ذا قربى ﴾ : قريبا منا لا نحلف له كاذبا أي نحن رجال عادتنا الصدق لنا أو علينا، ﴿ ولا نكتم شهادة الله ﴾ : أي : الشهادة التي أمر الله بإقامتها، ﴿ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ : إن كتمنا.
١ اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله: (عليكم أنفسكم) أمر بحفظ المال فقال: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) الآية/١٢ كبير..
٢ قيل إن الضمير في منكم للمسلمين، وفي غيركم للكفار وهو الأنسب بسياق الآية، وبه قلل أبو موسى الأشعري، وابن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة من المسلمين في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد واحمد بن حنبل، وقيل ضمير منكم إلى القرابة وغيركم إلى الأجانب، وإليه ذهب الزهري والحسن وعكرمة، وذهب مالك والشافعي عن عكرمة وغيرهم من الفقهاء إلى أن الآية منسوخة واحتجوا بقوله: (ممن ترضون من الشهداء)، وقوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (الطلاق: ٢) والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول، وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ وأما الآيتان المذكورتان فهما عامان في الأزمان والأشخاص والأحوال وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية، ومجال عدم شهود المسلمين، ولا تعارض بين خاص وعام/١٢ فتح. .
﴿ فإن عُثر ﴾ : اطلع ﴿ على أنهما ﴾ أي : آخرين ﴿ استحقا إثما ﴾ : استوجبا إثما بيمينهما الكاذبة، ﴿ فآخران ﴾ : فشاهدان آخران، ﴿ يقومان مقامهما ﴾، خبر لقوله فآخران، ﴿ من الذين استحق عليهم ﴾ : من الذين جنى عليهم، وهم الورثة، فضمير استحق للإثم أي ارتكب الذنب بالقياس إليهم، ﴿ الأوليان ﴾ أي : أحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما استئناف كأنه قيل من هما قال : هم الأوليان، أو بدل من آخران، ومن قرأ الأولين فهو صفة، أو بدل من الذين، ومن قرأ استحق غير مجهول، فهو فاعل١ أي : من الورثة الذين استحق٢ عليهم الأوليان بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، ﴿ فيُقسمان بالله ﴾، عطف على يقومان، ﴿ لشهادتُنا أحق ﴾ : بالاعتبار، ﴿ من شهادتهما ﴾، أو أصدق، ﴿ وما اعتدينا ﴾ : ما تجاوزنا عن الحق فيها، ﴿ إنا إذا لمن الظالمين ﴾ : إن اعتدينا.
١ والمفعول محذوف، وهو أن يجردوهما للشهادة أي للحلف على أولوية شهادتهما، وهما بالحقيقة الآخران اللذان يقومان مقام الأولين على وجه الظاهر موضع المضمر، لكن لم يمكن أن يجعل فاعل استحق ضمير آخران الإفراد هذا في المنيهة، وفي الكمالين، ومفعوله محذوف قدره ابن عطية ما لهم وتركتهم، وقدره بعضهم وصيتهما وقدر الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة/١٢..
٢ استحق بضم التاء على المجهول هذا قرأة العامة، وقرأ حفص بفتح التاء والحاء وهي قراءة علي والحسن/١٢ منه..
﴿ ذلك ﴾ أي : الحكم الذي تقدم، ﴿ أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ أي : أقرب أن يأتي الشهداء بشهادتهم على نحو تلك الحادثة، فلا يغيروها، ﴿ أو يخافون أن تُردّ أيمان ﴾ : على المدعين، وهم أولياء الميت، ﴿ بعد أيمانهم ﴾ : إذا ظهر للأولياء أمارات كذب الشاهدين، فيفتضحوا أي : أقرب إلى أحد الأمرين أداء الشهادة على الصدق أو الامتناع عن أدائها بالكذب، ﴿ واتقوا الله واسمعوا ﴾ : بسمع إجابة ما أمرناكم، ﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين١ : أي إن لم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهديهم، ومحصل الآية أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد على وصيته اثنين من المسلمين أو من قرابته، فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب فيهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت أيضا، فإن اطلع بأمارة، ومظنة على كذبهما أقسم آخران من أولياء الميت، هكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآيات غير واحد من أئمة السلف والتابعين، وهو مذهب الإمام أحمد، والقاضي شريح في خاصة مثل هذه الواقعة، وقال بعضهم حكم الآية منسوخ إن أريد من الغير الكافرون فإن شهادة الكافر كانت بدأ الإسلام ثم نسخت، وقال بعضهم المراد من الشهادة الوصاية وكون الوصي اثنين للتأكيد فإنهم قالوا : لا نعلم حكما يحلف فيه الشاهد وهو خلاف الظاهر المتبادر، وسبب نزول الآية أن رجلا من المسلمين خرج مسافرا معه رجلان من أهل الكتاب، ومات بأرض ليس بها مسلم فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة مموها بالذهب، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأحلفهما بعد صلاة العصر فحلفا على أنهما اطلعا على الإناء، ثم وجد الإناء عند من اشترى منهما، فقام رجلان من أوليائه فحلفا أن الإناء لنا وأخذا.
١ لما أخبر بشاهدي الوصية بعد ما بين أمر الضالين ذكر بهذا اليوم المخوف يخوف من الشهادة من لم يتق الله فقال: (يوم يجمع)..
﴿ يوم يجمع١ الله الرسل ﴾ أي : اذكر يوم جمعهم، وقيل ظرف للايهدى، أو بدل اشتمال من مفعول اتقوا، ﴿ فيقول ﴾ : لهم، ﴿ ماذا أُجبتم ﴾ أي إجابة أجبتم، إجابة إقرار أو إنكار، ﴿ قالوا لا٢ علم لنا ﴾ : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا أو بالنسبة إلى علمك، ﴿ إنك أنت علاّم الغيوب ﴾ : فتعلم ما نعلم، وما لا نعلم، وهذا السؤال لتوبيخ الأمم.
١ اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام أتبعها إما بالإلهيات، وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيهما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولا ثم ذكر أحوال عيسى أما وصف أحوال القيامة فهو قوله: (يوم يجمع الله)/١٢ كبير..
٢ لا نعلم ما كان لهم بعد وفاتنا أو لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، والظن كان معتبرا في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن، لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب لا علم لنا إلا ما علمتنا، ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن، لأن الظن لا عبرة به يوم القيامة، وهذا الوجه هو الذي خطر ببالي وقت الكتابة/١٢..
﴿ إذ قال١ الله ﴾، بدل من يوم الجمع أو بتقدير اذكر، ﴿ يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك٢ إذ أيّدتك ﴾ : قويتك ظرف نعمتي، أو حال منهما، ﴿ بروح القُدس ﴾ : جبريل، وقيل بكلام ونفس يحيي به الدين، والموتى، ﴿ تكلم الناس ﴾ : بدعوتهم إلى الله تعالى، ﴿ في المهد وكهلا ﴾، عطف على محل في المهد فإنه حال قالوا، وما وصل إلى سن من الكهولة، ففيه إشارة إلى نزوله من السماء، وهو آية من آياته، ﴿ وإذ علّمتك الكتاب ﴾ : الخط، ﴿ والحكمة ﴾ : الفهم، ﴿ والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ﴾ : تشكله وتصوره على هيئة طائر، ﴿ بإذني ﴾ : لك في ذلك، ﴿ فتنفخ فيها ﴾ : في تلك الصورة، ﴿ فتكون طيرا ﴾ : تطير، ﴿ بإذني ﴾ : وأمري ﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تُخرج الموتى بإذني ﴾ : بأن تدعوهم فيقومون من قبورهم بإرادة الله وقدرته، ﴿ وإذ كففت بني إسرائيل عنك ﴾ أي : عن قتلك، ﴿ إذ جئتهم بالبينات ﴾، ظرف لكففت، ﴿ فقال الذين كفروا منهم إن هذا ﴾ أي : ما هذا، ﴿ إلا سحر مبين ﴾.
١ اعلم أن الغرض من قوله تعالى لرسل: (ماذا أجبتم) توبيخ من تمرد من أممهم وأشد الأمم افتقارا إلى التوبيخ والملامة النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا للأنبياء، وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله، وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به، وهو اتخاذ الزوجة، والولد فلا جرم ذكر تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة، والمقصود منه توبيخ النصارى، وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد، وليس بإله، والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى على قبح مقالتهم، وركاكة مذهبيهم واعتقادهم/١٢ كبير. .
٢ ونعمته على أمه ما هي مذكورة في مواضع من براءتها مما نسب عليها وغير ذلك/١٢ وجيز..
﴿ وإذ أوحيت ﴾ : ألهمت أو بلسانك ﴿ إلى الحواريين ﴾ : أصحابه، وأنصاره، ﴿ أن آمنوا بالله وبرسولي قالوا آمنا واشهد ﴾ : يا الله أو يا أيها الرسول، ﴿ بأننا مسلمون ﴾ : منقادون مخلصون.
﴿ إذ قال الحواريون ﴾، منصوب باذكر ﴿ يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ﴾، وهذا كما تقول : هل تستطيع أن تجيء معي ؟ عالما باستطاعته أي هل تفعل أم لا ؟ أو بمعنى هل يعطيك ربك بإجابة سؤالك فيكون أطاع واستطاع بمعنى كأجاب واستجاب، وقيل : شكوا١ أي في قدرة الله، ولذلك أجابهم عيسى عليه السلام بقوله :( اتقوا الله )، ومن قرأ هل تستطيع بالتاء، وربك بالنصب، فمعناه هل تستطيع سؤال ربك ؟ ﴿ أن ينزل علينا مائدة٢ من السماء قال ﴾ : عيسى، ﴿ اتقوا الله ﴾ : في سؤالها، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي : لا يليق اقتراح الآيات بعد الإيمان.
١ وهو الظاهر، والشك في القدرة هل هو كفر أم لا في أول من أسلم محل بحث/١٢ وجيز..
٢ هي الخوان الذي عليه الطعام/١٢ وجيز. لاقتراح آية من الله مع بشاعة اللفظ/١٢ وجيز..
﴿ قالوا نريد أن تأكل منها ﴾، فأجابوا بأن طلبها لأجل الحاجة لا أنا نطلب آية، ﴿ وتطمئن قلوبنا ﴾ : بزيادة علمنا، ﴿ ونعلم ﴾ : علم مشاهدة بعد ما علمناه علم إيمان، ﴿ أن قد صدقتنا ﴾ : فيما وعدتنا أو في نبوتك، ﴿ ونكون عليها من الشاهدين ﴾ أي : من الشاهدين على تلك المائدة الدالة على نبوتك أومن الشاهدين عليها عند من لم يحضرها من بني إسرائيل، وعليها متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين.
﴿ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا ﴾، نداء ثان فإن اللهم لا يوصف، ولا يبدل منه، ﴿ أنزل علينا مائدة ﴾ أي : خوان إذا كان فيه الطعام، ﴿ من السماء تكون لنا عيدا ﴾، العيد اسم ليوم فيه سرور مخصوص فضمير تكون للمائدة على حذف مضافين أي : تكون يوم نزولها أو اسم سرور يعود فلا حذف، لكن في الإسناد مجاز، ﴿ لأولنا ﴾، بدل من لنا، ﴿ وآخرنا ﴾ : لمتقدمينا ومتأخرينا أو يأكل منها أولنا وآخرنا ﴿ وآية منك ﴾ : على كمال قدرتك، وصحة نبوتي، ﴿ وارزُقنا وأنت خير الرازقين ﴾.
﴿ قال الله ﴾ : مجيبا له ﴿ إني منزّلها عليكم فمن يكفر بعد ﴾ : بعد نزولها، ﴿ منكم فإني أعذّبه عذابا ﴾ : تعذيبا، ﴿ لا أعذّبه ﴾، الضمير للمصدر فيكون في موقع المفعول المطلق ويقوم مقام العائد فإن لا أعذبه صفة عذابا أو من باب الحذف والإيصال أي : لا أعذب به، ﴿ أحدا من العالمين ﴾ : عالمي زمانهم والأصح أن المائدة نزلت١ وكفروا بها فمسخوا قردة٢ وخنازير قيل ما مسخ أحد قبلهم خنزيرا، فالعالمين مطلق قال عبد الله بن عمر : أشد الناس عتابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
١ وأقوال السلف بأجمعهم صريحة في نزول المائدة وكفرهم بها وكيف لا وقد قال الله: (فإني منزلها عليكم) الآية/١٢ منه..
٢ كأصحاب السبت لكن روى ابن جرير وابن أبي حاتم تعليقا وصححه عن الحسن ومجاهد أنهما خالفا الجمهور لم ينزل فإنه لما شرط عليهم الشرط [في الأصل كلمة مطموسة] وقالوا لا نريد وأما كفرهم المائدة فعلى ما أخرجه الترمذي أنه قال صلى الله عليه وسلم: نزلت المائدة خبزا ولحما وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا، فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير/١٢..
﴿ وإذ قال الله ﴾ : يوم القيامة تقريعا وتوبيخا للنصارى على رؤوس الأشهاد، ﴿ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ ١مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، صفة إلهين أو متعلق باتخذوني، ﴿ قال سبحانك ﴾ : أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك، ﴿ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ : ما ينبغي أن أقولا قولا لا يحق لي أن أقوله فمتعلق لي بحق المقدر قبله، فإن تقديم صلة الجار على المجرور ممتنع، ﴿ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ٢ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي٣ نَفْسِكَ ﴾ : تعلم ما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه، ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) ﴾.
١ ذكر أن عيسى لما سمع هذا الخطاب ارتعدت مفاصله فانفجر من أصل شعره منه عين من دم فعند ذلك قال سبحانك/١٢ وجيز. قيل لما قالوا ولدت مريم إلها لزمهم من حيث البعضية القول بإلهية من ولدته فصاروا بمثابة من قال وإلا فلم يقل أحد بإلهية مريم/١٢ وجيز..
٢ علق مستحيلا على مستحيل، وهو نفي العلم بذلك القول فانتفى القول/١٢ فتح..
٣ فيه دلالة على إطلاق لفظ النفس عليه سبحانه/١٢ فتح..
﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾، تصريح بنفي المستفهم عنه١ ﴿ أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴾، بدل من ضمير به، والمبدل ليس في حكم المطروح بالكلية أو عطف بيان له، ﴿ وكنت٢ عليهم شهيدا ﴾ : مشاهدا لأحوالهم، ﴿ ما دمت فيهم فلما توفّيتني ﴾، بالرفع إلى السماء، والتوفي أخذ الشيء وافيا،
﴿ كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ : المراقب لأحوالهم، ﴿ وأنت على كل شيء شهيد ﴾ : مطلع عليه.
١ فارغ؟؟؟؟؟؟.
٢ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم محشورون وإن ناسا يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول كما قال العبد الصالح (وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) إلى قوله: (العزيز الحكيم) رواه البخاري. [أخرجه البخاري في (التفسير) (٤٦٢٥)].
.

﴿ إن تعذّبهم فإنهم عبادك ﴾ : لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه، ﴿ وإن تغفر لهم ﴾ مع كفرهم ﴿ فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ : القوي القادر على التواب، والعقاب لا تثيب ولا تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة، والمغفرة وإن كانت قطعية الانتفاء في الكفار بحسب الوعيد، لكن يحتمل الوقوع، واللاوقوع بحسب العقل فجاز استعمال إن فيه، ومسألة الكلام أن غفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قيل معناه، إن تعذبهم أي : من يكفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم أي : من اسلم منهم.
﴿ قال الله ﴾ : مجيبا لرسوله فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى، ﴿ هذا يوم ينفع الصادقين ﴾ : المستمرين، ﴿ صدقهم ﴾ : في دنياهم إلى آخرتهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما معناه ينفع الموحدين توحيدهم، والمشار إليه يوم القيامة، ومن قرأ يوم بالنصب فيكون ظرفا لقال، والمشار إليه قوله ( يا عيسى ابن مريم أأنت ) إلخ، ﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ : هذا نفعهم، ﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾
﴿ لله ملك السماوات والأرض١ وما فيهن ﴾ : خلقا وملكا فلا شك في كذب زعم النصارى، ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ : فلا يكون إلا هو وحده إلها لأنه لو كان متعددا لا بد أن يكون كل واحد قادرا على كل شيء، وهذا محال.
١ والأصح أن (ما) يختص بغير ذوي العقول، بل يتناول الأجناس كلها من العقلاء، وغيرهم/١٢ وجيز..
Icon