سورة المائدة
وهي مائة وعشرون آية وستة عشر ركوعا
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ أي : العهود وهو ما حد في القرآن كله
﴿ أُحلّت لكم بهيمة الأنعام ﴾ تفصيل للعقود والإضافة بيانية وهي الإبل والبقر والغنم وألحق بها الظباء وبقر الوحش
﴿ إلا ما يُتلى عليكم ﴾ تحريمه أو إلا محرم ما يتلى عليكم وهو قوله :( حرمت عليكم الميتة ) ( المائدة : ٣ )
﴿ غير محلّي الصيد ﴾ حال من ضمير لكم أو من ضمير أوفوا
﴿ وأنتم حُرم ﴾ حال من ضمير محلي يعني أحلت لكم جميع الأنعام إنسيًّا ووحشيًّا وإحلالها عن عمومها مختص بحال كونكم غير محلين للصيد في الإحرام إذ معه تحريم البعض وهو الوحشي أو الأول : حال من الفاعل الحقيقي المتروك لأحلت، والثاني : حال من ضمير لكم المقدر أي : أحللنا حال كوننا غير محلين للصيد لكم في حال إحرامكم
﴿ إن الله يحكم ما يريد ﴾ : من تحليل وتحريم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تُحلوا شعائر الله ﴾ : مناسك الحج أو محارم الله أو الهدايا المعلمة للذبح بمكة ﴿ ولا الشهر الحرام ﴾ بعدم تعظيمه والقتال فيه والجمهور على أنه منسوخ يجوز ابتداء القتال مع أهل الشرك في أشهر الحرم ﴿ ولا الهدي ﴾ : ما أهدي إلى الكعبة بأن تتعرضوا له ﴿ ولا القلائد ﴾ : ذوات القلائد من الهدي ذكرها لأنها أشرف الهدي، قال بعضهم : معناه لا تتركوا الإهداء إلى البيت، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها ﴿ ولا آمّين البيت الحرام ﴾ أي : لا تستحلوا قتال قوم قاصدين إلى بيت الله ﴿ يبتغون فضلا من ربهم ﴾ : رزقا بالتجارة حال من ضمير آمين ﴿ ورضوانا ﴾ بزعمهم ؛ لأن الكافرين ليس لهم نصيب من الرضوان ؛ نزلت فيمن أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر من البيت فأراد بعض الصحابة أن يتعرضوا عليه في طريقه إلى البيت، وهذا الحكم منسوخ الآن فيهم. قال بعضهم : أهل الجاهلية يقلدون أنفسهم بالشعر والوبر في سفر الحج في غير أشهره وإبلهم من لحا شجر الحرم فيأمنون به، فنهى الله التعرض لهم بقوله :( ولا القلائد ) وهو أيضا منسوخ وقيل : معناه يتقلدون من لحا شجر الحرم فنهى الله عن قطع شجرة ﴿ وإذا حللتم ﴾ : من الإحرام ﴿ فاصطادوا ﴾ إذن في الاصطياد بعد الإحرام ﴿ ولا يجرمّنكم ﴾ : يحملنكم ﴿ شنآن قوم ﴾ : بعضهم ﴿ أن صدوكم ﴾ أي : لأن صدوكم ﴿ عن المسجد الحرام ﴾ وقرئ إن فحرف الشرط معترض بين العامل والمعمول ﴿ أن تعتدوا ﴾ بالانتقام وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب، نزلت حين أراد الصحابة صد بعض المشركين عن العمرة انتقاما من أصحابهم لما صدوهم عن البيت بالحديبية ﴿ وتعاونوا على البر ﴾ المأمورات عطف على لا يجرمنكم ﴿ والتقوى ﴾ عن المنهيات ﴿ ولا تعاونوا على الإثم ﴾ : المعاصي ﴿ والعُدوان ﴾ : الظلم ﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب ﴾.
﴿ حرّمت عليكم الميتة والدم ﴾ أي : المسفوح. ﴿ ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به ﴾ لقوله عند الذبح : بسم اللات والعزى، والإهلال : رفع الصوت ﴿ والمُنخنقة ﴾ : التي ماتت بالخنق ﴿ والموقوذة ﴾ هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، وذلك من عادات الجاهلية ﴿ والمُتردّية ﴾ التي أطيحت من موضع فماتت ﴿ والنطيحة ﴾ كشاتين تناطحتا فماتتا أو ماتت إحداهما، والتاء فيها للنقل ﴿ وما أكل السبُع ﴾ : منه فمات ﴿ إلا ما ذكّيتم ﴾ إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، وفيه حياة مستقرة فإنه حلال ﴿ وما ذُبح على النّصب ﴾ هي حجارة حول البيت يذبحون عندها وينضحونها بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فحرّم الله أكل هذا اللحم وإن ذكر عليها اسم الله لما فيه من الشرك، وقال بعضهم : هي الأصنام ومعناه : ما ذبح على النصب، وعلى هذا هو وما أهل لغير الله واحد ﴿ وأن تستقسموا بالأزلام ﴾ أي : حرم الاستقسام بالأزلام وهي عبارة عن قداح مكتوب في بعضها افعل وفي بعضها لا تفعل، وبعضها غفل لا شيء عليه، يستقسمون بها في الأمور فإذا خرج الأمر فعلوه وإذا خرج الناهي تركوه وإذا خرج الغفل أجالوها ثانيا ﴿ ذلكم فسق ﴾ أي : تعاطيه فسق وضلالة وجهالة ﴿ اليوم ﴾ أريد به الأزمان الحاضرة ﴿ يئس الذين كفروا من دينكم ﴾ : من إبطاله بأن ترجعوا إلى دينهم ﴿ فلا تخشوهم ﴾ : بعد ما أظهرت دينكم ﴿ واخشون ﴾ : أخلصوا الخشية لي ﴿ اليوم ﴾ قيل المراد يوم النزول يوم عرفة في حجة الوداع ﴿ أكملت لكم دينكم ﴾ فلا زيادة بعده ولم ينزل بعده حرام ولا حلال ﴿ وأتممت عليكم نعمتي ﴾ : بالهداية وإكمال الدين ﴿ ورضيت ﴾ اخترت ﴿ لكم الإسلام دينا ﴾ من بين الأديان فلا أسخطه أبدا، ودينا، إما حال أو تمييز، ﴿ فمن اضطُرّ ﴾ إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض ﴿ في مخمصة ﴾ : مجاعة ﴿ غير مُتجانف لإثم ﴾ غير مائل لمعصية بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ حيث رخص فلا يؤاخذه به.
﴿ يسألونك ماذا أُحل لهم ﴾ نزلت حين سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إن الله قد حرّم الميتة فماذا يحل لنا ؟ وماذا مبتدأ وأحل لهم خبره ﴿ قل أُحل لكم الطيبات ﴾ أي : الذبائح الحلال، وقيل : كل ما يستطيبه العرب من غير أن ورد بتحريمه نص ﴿ وما علّمتم من الجوارح ﴾ يعني أحل لكم صيد ما علّمتم من كواسب الصيد على أهلها من سباع وطيور ﴿ مُكلِّبين ﴾ حال كونكم معلمين إياه الصيد وذكرها للمبالغة في التعليم ﴿ تُعلّمونهن ﴾ حال أو استئناف ﴿ مما علّمكم الله ﴾ : من طرق التأديب ﴿ فكلوا مما أمسكن عليكم ﴾ كثير من السلف على أن الجوارح إذا أخذت والصيد وأكلت شيئا منه ولم يدركه صاحبه حيا فيذبحه فهو حرام، وبعض آخر منهم علي وابن عباس على حلته وإن أكل منه ثلثيه ﴿ واذكروا اسم الله عليه ﴾ : على ما علمتم أي عند إرساله إلى الصيد وهذا الأمر على الندب عند الأكثرين ﴿ واتقوا الله ﴾ : في الحرام ﴿ إن الله سريع الحساب ﴾ فيؤاخذكم بما كسبت أيديكم.
﴿ اليوم أُحل لكم الطيبات ﴾ : الذبائح على اسم الله ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب ﴾ من اليهود والنصارى يعني ذبائحهم ﴿ حِلّ لكم وطعامكم حِلّ لهم ﴾ بمعنى حل وجاز لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ﴿ والمحصنات ﴾ : الحرائر العفائف أو الحرائر أو العفائف ﴿ من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ أكثر السلف على أنه لا يجوز تزوج الذمية الزانية، وهو يعم كل كتابية عفيفة، وقيل : المراد بها الذميات دون الحربيات، وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- : لما نزلت ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) ( البقرة : ٢٢١ ) حجر الناس عنهن حتى نزلت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فنكح الناس نساء أهل الكتاب ﴿ إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ : مهورهن وتقيد الحل به لتأكيد وجوبها، وقيل المراد بإيتائها : التزامها محصنين ﴿ محصنين ﴾ أعفاء بالنكاح ﴿ غير مسافحين ﴾ مجاهرين بالزنا ﴿ ولا مُتّخذي أخدان ﴾ مسرين به والخدن : الصديق. بعض السلف ذهب إلى أنه لا يصح نكاح البغية من عفيف وعقد الفاجر على عفيفة حتى يتوبا وسيأتي الكلام فيه ﴿ ومن يكفر بالإيمان ﴾ : بالله الذي يحب الإيمان به، قيل : أراد بالكفر الإنكار، وبالإيمان : الشرائع والإسلام ﴿ فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ﴾ أي : إذا أردتم القيام إليها وهو مطلق أريد به التقييد أي : إذا قمتم إليها محدثين وقيل : الأمر شامل للمحدثين على الإيجاب وللمطهرين على وجه الندب وقال بعضهم : إن الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى صلاة دون غيرها من الأعمال، لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ ﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ﴾ أي مع المرافق فالجمهور على دخول المرفقين في المغسول، قيل : ومنه علم وجوب النية كما إذا قلنا إذا رأيت الأمير فقم أي : فقم له ﴿ وامسحوا برءوسكم ﴾ الباء للإلصاق ﴿ وأرجُلكم إلى الكعبين ﴾ نصبه نافع والكسائي وابن عامر وحفص ويعقوب عطفا على وجوهكم، وجره الباقون وعلى الإنصاف ظاهر قراءة النصب على وجوب الغسل وظاهر الثانية على وجوب المسح، فإن جر الجوار وإن كان بابا واسعا فهو خلاف الظاهر، والأحاديث الصحاح تدل على وجوب الغسل دلالة لا محيص عنها ﴿ وإن كنتم جُنبا فاطّهروا ﴾ فاغتسلوا ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ﴾ قد مر تفسيره في سورة النساء ولعل فائدة التكرار بيان أنواع الطهارة هنا أيضا ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم ﴾ : بما فرض من الغسل والوضوء والتيمم ﴿ من حرج ﴾ : ضيق ﴿ ولكن يريد ليُطهّركم ﴾ : من الإحداث والذنوب ﴿ وليُتم نعمته عليكم ﴾ ببيان ما هو مطهرة للقلوب والأبدان عن الآثام والإحداث ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ : نعمتي فأزيدها عليكم.
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾ : من القديم والحديث لأجل الدين والدنيا ﴿ وميثاقه الذي واثقكُم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾ حين بايعوا النبي –صلى الله عليه وسلم– على السمع والطاعة في منشطهم ومكرهم أو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، وقيل : هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من العهود في متابعة محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ واتقوا الله ﴾ في نقض عهده ﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ بخفياتها فضلا عن جلياتها.
﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله ﴾ أي : قائمين بالحق لله لا للرياء ﴿ شهداء بالقسط ﴾ بالعدل لا بالجور ﴿ ولا يجرِمنّكم ﴾ يحملنكم ﴿ شنآن قوم ﴾ عداوتهم ﴿ على ألا تعدلوا ﴾ بل الزموا العدل مع العدو والصديق ﴿ اعدلوا هو ﴾ أي : العدل ﴿ أقرب للتقوى ﴾ اللام للاختصاص واستعمل أفعل التفضيل في محل ليس في الجانب الآخر منه شيء كقوله تعالى :( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر وأحسن مقيلا ) ( الفرقان : ٢٤ ) وكم مثله في كلام البلغاء ﴿ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ﴾ فيجازيكم به.
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾ مستأنفة مبنية لثاني مفعولي وعد أو أوعد واقع على تلك الجملة كأنه قال : وعدهم هذا القول.
﴿ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ فلا ينفكون عنها.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ ﴾ متعلق بنعمة الله ﴿ قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم ﴾ : بالقتل ﴿ فكفّ أيديهم عنكم ﴾ رد مضرتها عنكم ﴿ واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ فمن توكل عليه كفاه الله أربه، نزلت لما أراد قوم من العرب أن يكبوا على رسول الله وأصحابه صلى الله عليه وسلم إذا اشتغلوا بصلاة العصر، فأخبرهم جبريل وجاء بصلاة الخوف. أو في قوم من اليهود صنعوا طعاما ليقتلوهم فأوحى الله إليهم بشأنهم. أو في بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأسه عليه الصلاة والسلام الرحا إذا جلس تحت الجدار فأطلعه على كيدهم، أو في قوم أرسلوا أعرابيا لقصده فجاءه وهو صلى الله عليه وسلم راقد تحت شجرة فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من يمنعك مني ؟ فقال الله فأسقطه جبريل من يده وأخذه الرسول.
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ لما أمر المؤمنين بالوفاء بعهده وأمرهم بالحق والعدل وذكرهم نعمه شرع يبين لهم كيفية أخذ العهود على من كان قبلهم وطردهم ولعنهم لما نقضوها ليتعظ المؤمنون ﴿ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ﴾ كفيلا ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد ﴿ وقال الله إني معكم ﴾ بالنصرة ﴿ لئن ﴾ أي : والله لئن ﴿ أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسلي ﴾ صدقتموهم بما جاءوا به ﴿ وعزّرتموهم ﴾ نصرتموهم وعظمتموهم ﴿ وأقرضتم الله قرضا حسنا ﴾ بأن تنفقوا في سبيل الخيرات نصب بالمصدر أو بالمفعول الثاني ﴿ لأُكفّرن ﴾ جواب القسم سد مسد جواب الشرط ﴿ عنكم سيئاتكم ولأّدخلنّكم جنات تجري من تحتها ﴾ تحت غرفها ﴿ الأنهار فمن كفر بعد ذلك ﴾ الميثاق ﴿ منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ صراط الحق فإن الضلال بعده أظهر وأعظم وأقبح.
﴿ وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾ يابسة غليظة لا تنتفع بالمواعظ وقرئ قسية أي : مغشوشة ﴿ يحرّفون الكلم ﴾ كلام الله ﴿ عن مواضعه ﴾ يبدلون نعت محمد أو يأولون الآيات بسوء تأويل ﴿ ونسُوا حظا مما ذُكّروا به ﴾ تركوا نصيبهم من التوراة فلم يعملوا بها أو زلت بعض آياتها عن حفظهم ﴿ ولا تزال ﴾ يا محمد ﴿ تطّلع على خائنة منهم ﴾ خيانة وغدر فاعل بمعنى المصدر ﴿ إلا قليلا منهم ﴾ لم يخونوا استثناء من ضمير منهم ﴿ فاعف عنهم واصفح ﴾ نسخ بآية السيف، وقيل : معناه إن تابوا أو عاهدوا والتزموا الجزية ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾ تعليل للأمر بالعفو.
﴿ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ﴾ كما أخذنا من اليهود، سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله ﴿ فنسُوا حظا ﴾ : نصيبا وافيا ﴿ مما ذكّروا به ﴾ من اتباع محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ فأغرينا ﴾ ألصقنا وأوقعنا ﴿ بينهم ﴾ بين اليهود والنصارى أو بين فرق النصارى وهم كذلك ﴿ العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبّئُهم الله بما كانوا يصنعون ﴾ بشنيع صنيعهم بأقطع جزاء.
﴿ يا أهل الكتاب ﴾ عام لكل كتابي ﴿ قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا مما كنتم تُخفون من الكتاب ﴾ كآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد ﴿ ويعفو عن كثير ﴾ لا يتعرض لكثير مما حرفوه وأخفوه لأنه لا يحتاج إلى بيانه ﴿ قد جاءكم من الله نور ﴾ أي : قرآن أو محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ وكتاب مبين يهدي به ﴾ أي : بالنور والكتاب المبين، فإنهما واحد أو في حكم الواحد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ يا أهل الكتاب ﴾ عام لكل كتابي ﴿ قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا مما كنتم تُخفون من الكتاب ﴾ كآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد ﴿ ويعفو عن كثير ﴾ لا يتعرض لكثير مما حرفوه وأخفوه لأنه لا يحتاج إلى بيانه ﴿ قد جاءكم من الله نور ﴾ أي : قرآن أو محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ وكتاب مبين يهدي به ﴾ أي : بالنور والكتاب المبين، فإنهما واحد أو في حكم الواحد.
﴿ الله من اتبع رضوانه ﴾ : من آمن منهم ﴿ سُبل السلام ﴾ طرق السلامة والنجاة ﴿ ويُخرجهم من الظلمات ﴾ : أنواع الكفر ﴿ إلى النور ﴾ إلى الإيمان ﴿ بإذنه ﴾ بإرادته وتوفيقه ﴿ ويهديهم إلى صراط مستقيم ﴾ : يوصلهم إلى رحمة الله.
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ اليعقوبية من النصارى قالوا : المسيح هو الله ﴿ قل فمن يملك من الله شيئا ﴾ : من يستطيع إمساك شيء من قدرة الله ﴿ إن أراد أن يُهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ﴾أي : هو وجميع الخلائق مقهور تحت قدرته قابل للفناء فلا يكون إلها ﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلُق ما يشاء والله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على إيجاد شيء من غير أصل ومادة ولا أب وأم.
﴿ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله ﴾ أي : هو كالأب لنا في العطوفة أو وجدوا في التوراة يا أبناء أحبارى فبدلوا بيا أبناء أبكارى، وقيل : نحن أبناء رسل الله وقيل : جمع ابن الله للابن وأشياعه والابن بزعم الفريقين عزير وعيسى كقول أقارب الملك : نحن الملوك ﴿ وأحبّاؤه قل فلم يعذّبكم بذنوبكم ﴾ : في الدنيا والآخرة، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه أقبح لتعذيب والوالد لا يعذب ولده بل يؤدبه ويزكيه ﴿ بل أنتم بشر ممن خلق ﴾ : كسائر المخلوقات ﴿ يغفر لمن يشاء ﴾ وهو من آمن برسله ﴿ ويعذّب من يشاء ﴾ من مات على الكفر لا مزية لكم على سائر الخلق ﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ﴾ فيجازي المحسن والمسيء.
﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم ﴾ : الدين ﴿ على فترة من الرسل ﴾ أي جاء على حين فتور من الوحي أو حال من ضمير يبين ﴿ أن تقولوا ﴾ كراهة أن تقولوا ﴿ ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾ فتعتذروا به ﴿ فقد جاءكم بشير ونذير ﴾ أي : لا تعتذروا فقد جاءكم ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فقادر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال على فترة، وعلى عقاب العاصي وثواب المطيع.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ﴾ كما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن إبراهيم حتى ختم بعيسى ﴿ وجعلكم ملوكا ﴾ أصحاب خدم وحشم وهم أول من ملك الخدم أو كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم سمي ملكا، قيل : ملكوا أنفسهم بعد ما كانوا مملوكين في أيدي القبط ﴿ وآتاكم ما لم يُؤت أحدا من العالمين ﴾ من فلق البحر والمن والسلوى أو من الفضل والشرف على عالمي زمانهم.
﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة ﴾ بيت المقدس أو الطور وما حوله أو الشام، فإنه مقر الأنبياء مطهر من الشرك ﴿ التي كتب الله لكم ﴾ : وعدكموها الله أنه وراثة من آمن منكم ﴿ ولا ترتدّوا على أدباركم ﴾ لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة وجاهدوهم فإنكم غالبون ﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾ ثواب الدارين.
﴿ قالوا يا موسى إن فيها قوما جبّارين ﴾ متغلبين أقوياء ﴿ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ﴾.
﴿ قال رجلان ﴾ يوشع وكالبُ ﴿ من الذين يخافون ﴾ أمر الله وعقابه وقيل : هما من الجبابرة أسلما واتبعا موسى فمعناه يخافون أي بنو إسرائيل منهم ﴿ أنعم الله عليهما ﴾ بالعصمة هو الثبات صفة ثانية لرجلين أو اعتراض ﴿ ادخلوا عليهم الباب ﴾ باب قريتهم أي : ازحفوا عليهم ﴿ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ﴾ لما جربنا ضعف قلوبهم ولتيقُن إنجاز وعد الله في نصرة نبيه ﴿ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ﴾ به مصدقين لوعده.
﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ﴾ تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول ﴿ ما داموا فيها ﴾ بيان للأبد ﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا ﴾ : الجبارين ﴿ إنا هاهنا قاعدون ﴾ قال بعض الصحابة يوم بدر :( إنا لا نقوله كما قالت بنو إسرائيل، بل نقول اذهب أنت وربك إنا معكم مقاتلون ).
﴿ قال ﴾ : موسى لبث الحزن إلى الله ﴿ رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ﴾ عطف على نفسي ﴿ فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين ﴾ اقض بيننا وبينهم بما نستحق أو خلصنا من صحبتهم.
﴿ قال ﴾ الله ﴿ فإنها ﴾ أي : الأرض المقدسة ﴿ محرّمة عليهم ﴾ : دخولها ﴿ أربعين سنة ﴾ ظرف لمحرمة فيكون التحريم مؤقتا فقد نقل عن بعض السلف أن موسى سار بمن بقي من التيه بعد الأربعين ففتح بيت المقدس أو ظرف لقوله ﴿ يتيهون ﴾ أي : يسيرون متحيرين ﴿ في الأرض ﴾ فيكون التحريم مؤبدا وقد نقل عن كثير من السلف أن موسى وهارون ماتا في التيه ولم يبق أحد من أهل التيه –سوى يوشع وكالب- إلا مات فيه، ويوشع سار بأولادهم وفتح الشام ﴿ فلا تأس ﴾ : لا تحزن ﴿ على القوم الفاسقين ﴾ هذا تسلية لموسى فإنهم مستحقون لما عاملناهم.
﴿ واتل عليم نبأ ابني آدم ﴾ : هابيل وقابيل ﴿ بالحق ﴾ أي : تلاوة متلبسة بالصدق ﴿ إذ قرّبا قُربانا ﴾ ظرف للنبأ. والقربان : اسم لكل ما يتقرب به إلى الله من ذبيحة وغيرها ﴿ فتُقبّل من أحدهما ﴾ هابيل ﴿ ولم يُتقبّل من الآخر ﴾ قابيل كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه فبينما هما قاعدان فقالا : نقرب قربانا فقرب هابيل خير غنمه وقرب الآخر أبغض زرعه، فجاءت نار من السماء وأكلت الشاة وتركت الزرع وكان هذا علامة القبول والرد وهذا الكبش الذي فدى به إسماعيل أتى به من الجنة فحسد قابيل أخاه ﴿ قال لأقتُلنّك قال ﴾ هابيل ﴿ إنما يتقبّل الله من المتقين ﴾ أي : لم تقتلني ولا ذنب لي وإنما أتيت من قبل نفسك بتركك التقوى.
﴿ لئن بسطت إليّ يدك لتقتُلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ﴾ لا أقابلك على صنيعك الفاشل بمثله ﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾ كان هابيل أشد وأقوى لكن منعه الورع.
﴿ إني أريد أن تبوء بإثمي ﴾ بإثم قتلي ﴿ وإثمك ﴾ الذي عملته قبل ذلك فلم يتقبل من أجله قربانك أي : ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما وقيل : معناه إثمي لو بسطت يدي إليك وإثمك ببسطك يدك إليّ ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم فإن على البادي إثم سبه ومثل إثم صاحبه، لأنه الباعث، والإثم محطوط عن صاحبه، لأنه دافع مكافئ عن عرضه إذا لم يخرج عن حد المكافأة ﴿ فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ﴾ وهذا الكلام من هابيل موعظة لأخيه وزجر له، قال ابن عباس رضي الله عنهما : خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر، وقيل : هو يعلم أن أخاه ظالم وإرادة جزاء الظالم حسن.
﴿ فطوّعت له نفسه قتل أخيه ﴾ سهلته ووسعت له ﴿ فقتله فأصبح من الخاسرين ﴾ : في الدنيا والآخرة.
﴿ فبعث الله غُرابا يبحث في الأرض ﴾ لما قتله تحير في أمره لم يدر ما صنع به فبعث الله غرابا إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى واراه ﴿ ليُريه ﴾ : الله أو الغراب ﴿ كيف يواري سوءة أخيه ﴾ أي : جسده، فإنه مما يستقبح أن يرى، وكيف : حال من ضمير يوارى، والجملة ثاني مفعولي ليريه ﴿ قال يا ويلتي ﴾ كلمة جزع والألف بدل من ياء المتكلم أي : احضري يا هلاكي فهذا أوانك ﴿ أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأُواري ﴾ عطف على أكون أو جواب استفهام ؛ لأنه للإنكار بمعنى النفي أي : إن لم أعجز واريت ﴿ سوءة أخي فأصبح من النادمين ﴾ على قتله قيل اسود جسده وتبرأ منه أبواه، وقد ذكر أكثر المفسرين إن الله قد شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى وكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر فكانت هابيل دميمة وأخت قابيل جميلة فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك، وأمرهما بأن يقربا قربانا فمن تقبل منه فهي له فتقبل من هابيل فحسد. هذا ما نقلوه والذي صح عن ابن عباس ما نقلناه أولا وهو يشعر بل يدل على أن قربناهما لا عن سبب ولا عن بداءة في امرأة، وهو ظاهر القرآن فلذلك اخترناه.
﴿ من أجل ذلك ﴾ أي : بسبب قتله أخاه ظلما ﴿ كتبنا على بني إسرائيل ﴾ حكمنا وقضينا عليهم ﴿ أنه من قتل نفسا بغير نفس ﴾ أي : بغير قتل نفس يوجب القصاص ﴿ أو فساد في الأرض ﴾ أو بغير فساد فيها كالشرك وقطع الطريق ﴿ فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ أي : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس أو لأنه يقتل قصاصا كما لو قتل الجميع أو كما قتل الناس وزرا أو إثما ﴿ ومن أحياها ﴾ حرم قتلها وكف عنها أو عفا عن قاتل أو أنجاها عن هلكة ﴿ فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ حيي الناس منه جميعا وحرم قتل جميع الناس أو في الأجر والثواب والمقصود تعظيم القتل والإحياء في القلوب ﴿ ولقد جاءتهم ﴾ أي : بني إسرائيل ﴿ رُسلنا بالبينات ﴾ بالمعجزات الظاهرات على صدقهم ﴿ ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك ﴾ : إرسال الرسل مع البينات ﴿ في الأرض لمُسرفون ﴾ : في مثل القتل.
﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴾ يحاربون أولياءهما من قاطع الطريق وغيره ﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾ : مفسدين أو كأنه قال : يفسدون في الأرض فسادا أو يسعون في الفساد، والفساد يطلق على أنواع الشر قال بعضهم نزلت في بعض أهل الكتاب بينهم وبين النبي –صلى الله عليه وسلم– ميثاق فنقضوا وأفسدوا في الأرض أو في جماعة مرضوا في المدينة فداواهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم– من ألبان الإبل وأبوالها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل فلما أخذوا قطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقوا في الرمضاء حتى ماتوا فعلى هذا تكون تعليما لرسول الله –صلى الله عليه وسلم– ولهذا ما سمر بعد ذلك عينا ﴿ أن يُقتّلوا ﴾ أي من غير صلب إن أفردوا القتل ﴿ أو يُصلّبوا ﴾ مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال ﴿ أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ﴾ أيدي اليمنى وأرجل اليسرى إن أخذوا المال فقط ﴿ أو يُنفوا من الأرض ﴾ إن اقتصروا على الإخافة والنفي هو أن يطلبهم الإمام فيقام عليهم الحد أو يهربوا من دار الإسلام أو ينفى من بلد وهكذا وقال بعضهم لا يخرجون من أرض الإسلام أو المراد من النفي السجن أو يخرج من بلده إلى آخر فيسجن فيه حتى تظهر توبته وقال كثير من السلف : إن الإمام مخير بين هذه العقوبات الأربعة في كل قاطع طريق فيكون أو للتخيير لا للتفصيل ﴿ ذلك لهم خِزي ﴾ فضيحة ﴿ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ هذا يدل على أن الآية نزلت في جمع من المشركين وإلا فالجمهور على أن من أذنب ذنبا وعوقب في الدنيا فهو كفارة له.
﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ على قول من قال هي في أهل الشرك فظاهر لأن من آمن ما بقي عليه شيء وأما المحاربون المسلمون إذا تابوا قبل القدرة سقط عنهم حد الله لا حقوق بني آدم وكثير من السلف يدل على أنه يسقط حقوق بني آدم، أيضا إلا إذا أخذ مالا معينا فيجب الضمان ﴿ فاعلموا أن الله غفور رحيم ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ أي : القربة بطاعته ﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ بمحاربة أعداء الله ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ : لكي تفوزوا.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ ﴾ ليجعلوه فدية لأنفسهم، واللام متعلق بثبت الدال عليه ( وإفراد ضمير لإجرائه مجرى اسم الإشارة أو لأنه من قبيل إني قيار بها لغريب لا أن ومثله مفعول معه ﴿ من عذاب يوم القيامة ما تُقبّل منهم ﴾ جواب لو ولو بما في حيزه خبر إن ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ : مؤلم.
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ أي : أيمانهما وتقديره عند سيبويه : حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، فيكون جملتين وجملة عند المبرد والفاء للسببية أي : الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا. ﴿ جزاء بما كسبنا نكالا ﴾ عقوبة ﴿ من الله ﴾ منصوبان على المفعول له ﴿ والله عزيز ﴾ في الانتقام ﴿ حكيم ﴾ فيما حكم من القطع.
﴿ فمن تاب من بعد ظلمه ﴾ سرقته ﴿ وأصلح ﴾ العمل ﴿ فإن الله يتوب عليه ﴾ يقبل توبته ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقط عنه على الأصح.
﴿ ألم تعلم أن الله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ أي : لا تهتم بمسارعتهم فيه.
﴿ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ﴾ متعلق بقالوا ﴿ ولم تؤمن قلوبهم ﴾ وهم المنافقون ﴿ ومن الذين هادوا ﴾ اليهود عطف على من الذين ﴿ سمّاعون ﴾ أي : هم سماعون أو تقديره : ومن اليهود قوم سماعون ﴿ للكذب ﴾ أي : قابلون له يقبلون من أحبارهم ما يفترونه وقيل : سماعون كلامك لأجل الكذب أي : ليكذبوا ويفترون عليك ﴿ سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك ﴾ : أي : يسمعون من جمع من اليهود لا يأتون مجلسك ويقبلون كلامهم أو معناه سماعون منك لأجله، وقيل : سماعون الثاني للتأكيد، ولقوم متعلق بالكذب أي : سماعون ليكذبوا لقوم لم يأتوا مجلسك تجافيا عنك وتكبرا ﴿ يُحرّفون الكلم من بعد مواضعه ﴾ : من بعد أن وضعه الله مواضعه إما لفظا وإما معنى بحمله على غير مراده، الجملة صفة لقوم أو مستأنفة أو خبر محذوف، وكذلك قوله ﴿ يقولون إن أوتيتم هذا فخُذوه ﴾ أي : إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه ﴿ وإن لم تُؤتوه ﴾ بل يفتى بخلافه ﴿ فاحذروا ﴾ قبوله. ( نزلت في رجل وامرأة محصنين من اليهود زنيا وهم قد بدلوا الرجم في التوراة بمائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبا فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتوا وقالوا : إن حكم بمثل ما قلنا اعملوا أو يكون نبي من أنبياء الله قد حكم بذلك فيكون حجة بينكم وبين الله، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه فأمر عليه الصلاة والسلام بالرجم وألزمهم أنه حكم التوراة فرجما ) ﴿ ومن يُرد الله فتنته ﴾ : ضلالته ﴿ فلن تملك له من الله شيئا ﴾ في دفع الفتنة عنه ﴿ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم ﴾ من خبائث الشرك ﴿ لهم في الدنيا خزي ﴾ : فضيحة وهتك ستر للمنافقين وجزية وخذلان لليهود ﴿ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾.
﴿ سمّاعون للكذب ﴾ كرره للتأكيد. ﴿ أكّالون للسُّحت ﴾ : الحرام كالرشى، فإنه مسحوت البركة ﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ تخيير في الحكم والإعراض ﴿ وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئا ﴾ فإن الله يعصمك من الناس قال كثير من السلف : الآية منسوخة بقوله :( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ( المائدة : ٤٨ ) ﴿ وإن حكمت فاحكُم بينهم بالقسط ﴾ أي : العدل وإن كانوا ظلمة مستحقين للتعذيب ﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾ : يرضى عنهم ويعظمهم.
﴿ وكيف ﴾ حال من فاعل ﴿ يُحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ﴾ تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أن الحكم في كتابهم المؤمن به منصوص ﴿ ثم يتولّون من بعد ذلك ﴾ : التحكيم فلا يقبلون حكمك المطابق لما في كتابهم عطف على يحكمونك ﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾ : لا بك ولا بكتابك.
ثم مدح التوراة بقوله :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ﴾ : يهدي إلى الحق ﴿ ونور ﴾ : به ينكشف المبهم ﴿ يحكم به النبيّون ﴾ : أنبياء بني إسرائيل ﴿ الذين أسلموا ﴾ فيه تعريض باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء ﴿ للذين هادوا ﴾ متعلق بأنزلنا أو بيحكم أي : لأجل اليهود ﴿ والربّانيون والأحبار ﴾ عطف على ( النبيون )، وهم الزهاد والعلماء ﴿ بما استُحفظوا من كتاب الله ﴾ : بسبب أمر الله إياهم بحفظ كتابه، وإظهاره وضمير ما محذوف ومن للتبيين ﴿ وكانوا عليه شهداء ﴾ : رقباء لئلا يبدل أو بأنه من عند الله ﴿ فلا تخشوا الناس واخشونِ ﴾ نهي للحكام عن المداهنة خشية الناس ﴿ ولا تشتروا ﴾ : تستبدلوا ﴿ بآياتي ثمنا قليلا ﴾ : الرشوة والجاه ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ نزلت في أهل الكتاب دون من أساء من هذه الأمة أو من تركه عمدا وأجاز وهو يعلم فهو من الكافرين، فيكون في المسلمين أو ليس بكفر ينقل عن الملة والدين، ولكن كفر دون كفر.
﴿ وكتبنا عليهم ﴾ : فرضنا على اليهود ﴿ فيها ﴾ : في التوراة ﴿ إن النفس ﴾ مقتولة ﴿ بالنفس والعين ﴾ مفقوءة ﴿ بالعين والأنف ﴾ مجدوع ﴿ بالأنف والأُذن ﴾ مصلومة ﴿ بالأُذن والسِّن ﴾ مقلوعة ﴿ بالسّن والجروح قصاص ﴾أي : ذات قصاص فيما يمكن الاقتصاص منه، وأما ما لا يمكن القصاص ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته فلا قصاص فيه، ومن قرأ والعين بالعين بالرفع وكذلك الباقي فيكون عطفا على أن وما في حيزه أي : كتبنا عليهم فيها العين بالعين ﴿ فمن تصدّق به ﴾ : بالقصاص بأن عفا عنه ﴿ فهو ﴾ أي : التصدق ﴿ كفّارة له ﴾ : للمتصدق يكفر الله به ذنوبه أو للجاني لا يؤاخذه الله به كما أن القصاص كفارة له ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾ لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم بالعدل نزلت لما اصطلحوا أن لا يقتل شريف بوضيع ورجل بامرأة.
﴿ وقفّينا على آثارهم ﴾ أي : وأتبعناهم فحذف المفعول لدلالة الظرف عليه والضمير للنبيين ﴿ بعيسى ابن مريم ﴾ مفعول ثان متعدي إليه بالباء﴿ مصدّقا لما بين يديه من التوراة ﴾ : حاكما بما فيها ﴿ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ﴾ إلى الحق ﴿ ونور ﴾ يستضاء به في إزالة الشبهات، والجملة أعني :( فيه هدى ) في موضع نصب على الحال ﴿ ومُصدّقا لما بين يديه من التوراة ﴾ لا يخالفه إلا في قليل ﴿ وهدى وموعظة للمتقين ﴾ زاجرا عن ارتكاب المحارم لمن اتقى الله وخاف عقابه.
﴿ وليحكُم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ﴾ عطف على وآتيناه الإنجيل أي : وآتيناه الإنجيل، وقلنا لهم : ليحكم ومن قرأ ليحكم بكسر اللام وفتح الميم فتقديره وآتيناه ليحكم ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾ : الخارجون عن طاعة ربهم.
﴿ وأنزلنا إليك الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ بالحق ﴾ متلبسا به ﴿ مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ﴾ : من جنس الكتب المنزلة ﴿ ومهيمنا عليه ﴾ : رقيبا على سائر الكتب وشهيدا. فكل خبر يوافقه فحق وما خالفه منها فمحرف باطل أو حاكما على ما قبله من الكتب ﴿ فاحكم بينهم ﴾ بين أهل الكتاب ﴿ بما أنزل الله ﴾ إليك ﴿ ولا تتّبع أهواءهم ﴾ بالانحراف ﴿ عما جاءك من الحق ﴾ ولتضمن لا تتبع معنى الانحراف تعلق به عن أو حال عن الفاعل أي : مائلا عما جاءك ﴿ لكل جعلنا منكم ﴾ أيها الناس ﴿ شِرعة ﴾ سبيلا :﴿ ومنهاجا ﴾ : سنة السنن هي مختلفة في التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة يحل الله فيها أشياء هي حرام في غيرها ليتميز المطيع من العاصي ﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ﴾ جماعة متفقين على دين وطريقة واحدة في جميع الأعصار ومفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه ﴿ ولكن ﴾ أراد ﴿ ليبلُوكم ﴾ : ليختبركم ﴿ في ما آتاكم ﴾ من الشرائع المختلفة في كل عصر هل تعملون بها وتعتقدون حكمتها ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ ابتدروا وسارعوا إلى الأعمال الصالحة ﴿ إلى الله مرجعكم ﴾ أيها الناس ﴿ جميعا فيُنبّئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ بالجزاء فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين.
﴿ وأن احكم ﴾ عطف على الكتاب أو على الحق أي : أنزلنا إليك الحكم أو أنزلنا إليك الكتاب بأن احكم أو تقديره وأمرنا أن احكم ﴿ بينهم بما أنزل الله ﴾ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم ويردهم إلى حكامهم فأمر أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يردهم إلى حكامهم ﴿ ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم ﴾ أهل الكتاب ﴿ أن يفتِنوك ﴾ بدل اشتمال من هم أو مفعول له أي : مخافة أن يفتنوك ويضلوك ﴿ عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ نزلت حين قالت رؤساء اليهود ننطلق إلى محمد لعلنا نفتنه، فقالوا قد تعلم أنا إن ابتعناك اتبعناك الناس ولنا خصومة فاقض لنا على خصمنا إن جئنا نتحاكم إليك فنؤمن بك ﴿ فإن تولّوا ﴾ عما حكمت ﴿ فاعلم أنما يريد الله أن يُصيبهم ببعض ذنوبهم ﴾ لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت نكالهم ﴿ وإن كثيرا من الناس لفاسقون ﴾ : خارجون عن طاعة ربهم.
﴿ أفحُكم الجاهلية يبغون ﴾ أي : يريدون، وعن حكم الله يعدلون ﴿ ومن أحسن من الله حكما ﴾ تمييز ﴿ لقوم يوقنون ﴾ أي : عندهم فاللام للبيان أي : هذا الخطاب وهذا الاستفهام لمن له اليقين بأنه أعدل العادلين وارحم الراحمين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ فلا تعاشروهم معاشرة الأجانب ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ فهم متفقون على مخالفتكم ومعاداتكم ﴿ ومن يتولّهم منكم فإنه منهم ﴾ يحشر معهم ﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ فاحذر عن موالاة من ظلم نفسه فإنهم الظالمون.
﴿ فترى الذين في قلوبهم مرض ﴾ : شك ونفاق كابن أبي ابن سلول وأضرابه ﴿ يسارعون فيهم ﴾ في محبتهم ﴿ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ﴾ بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار ﴿ فعسى الله أن يأتي بالفتح ﴾ للمسلمين على أعدائهم ﴿ أو أمر من عنده ﴾ كضرب الجزية عليهم وهتك ستر المنافقين ﴿ فيصبحوا ﴾ هؤلاء المنافقون ﴿ على ما أسرّوا في أنفسهم ﴾ من النفاق ودس أخبار المسلمين على أعدائهم ﴿ نادمين ﴾.
﴿ ويقول الذين آمنوا ﴾ قرئ بالنصب عطف على يأتي بتقدير الضمير أي : عسى الله أن يقول الذين آمنوا به أو باعتبار أن قولهم لما كان مسببا عن الإتيان بالفتح أقيم مقامه مبالغة في اتحاده معه وبالرفع كلام مبتدأ وبغير أو على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذ ؟ ﴿ أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لَمعكم ﴾ يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجبا من كذبهم وحلفهم بالباطل أهؤلاء الذين أقسموا بأغلظ الأيمان إنهم أولياؤكم ومعاونوكم على الكفار أي : يجتهدون جهد أو مصدر من لفظ اقسموا لأنه بمعناه ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ بطل كل عمل خير لهم ﴿ فأصبحوا خاسرين ﴾ في الدنيا والآخرة وهو من قول الله تعالى.
﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ﴾ قد ارتد عن الإسلام قبائل العرب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنه ﴿ فسوف يأتي الله بقوم ﴾ بدلهم ومكانهم ﴿ يحبّهم ﴾ يهديهم ويثبتهم ﴿ ويحبّونه ﴾ هم أبو بكر وأصحابه أو أهل اليمن أو الأشعريون ﴿ أذلة على المؤمنين ﴾ : متذللين لهم عاطفين عليهم خافضين لهم أجنحتهم ﴿ أعزة على الكافرين ﴾ : شداد متغلبين عليهم ﴿ يجاهدون في سبيل الله ﴾ صفة أخرى لقوم ﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾ لا كالمنافقين يخافون ويراقبون لوم الكفار ﴿ ذلك ﴾ أي : ذلك الأوصاف ﴿ فضل الله يُؤتيه من يشاء والله واسع ﴾ : كثير الفضل ﴿ عليم ﴾ بمن هو أهله.
﴿ إنما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ أي : ليس اليهود بأوليائكم بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين ﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ بدل من الذين آمنوا أو مرفوع، أو منصوب على المدح ﴿ ويؤتون الزكاة وهم راكعون ﴾ متخشعون في صلاتهم وزكاتهم، أو حال من الذين بمعنى أنهم دائمون للركوع أي لصلاة التطوع أو حال من فاعل يؤتون، فإن عليا رضي الله عنه أعطى خاتمة في ركوعه لسائل فنزلت ﴿ ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا ﴾.
﴿ ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا ﴾ أي : من يتخذهم أولياء ﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ﴾ أي : فإنهم الغالبون : كأنه قال فهم حزب الله وجنده وحزب الله هم الغالبون.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ﴾ قرئ والكفار بالجر فيكونون داخلين في المستهزئين، وبالنصب عطف على الذين اتخذوا ﴿ واتقوا الله ﴾ في اتخاذ هؤلاء أولياء ﴿ إن كنتممؤمنين ﴾ بشرعه ودينه الذي اتخذه هؤلاء هزوا.
﴿ وإذا ناديتم ﴾ الناس ﴿ إلى الصلاة اتخذوها ﴾ أي : المناداة ﴿ هُزوا ولعبا ﴾ تضاحكوا فيما بينهم يحكونه ويستهزءونه ﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ فإن العقل يمنع من الاستهزاء بأمر معقول مشروع.
﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقِمون ﴾ : تنكرون وتعيبون ﴿ منا إلا أن آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل من قبل ﴾ قيل : نزلت في اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به فقال :( نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل ) إلى قوله ( ونحن له مسلمون ) فقالوا لما سمعوا ذكر عيسى والله لا نعلم دينا شرا من دينكم ﴿ وأن أكثركم فاسقون ﴾ عطف على ( أن آمنا ) وحاصله : أنكم ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون عنه، أو عطف على علة محذوفة تقديره : تنكرون منا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ويجوز أن يكون حالا من فاعل تنقمون.
﴿ قل هل أُنبّئكم بشر من ذلك ﴾ : المنقوم ﴿ مثوبة عند الله ﴾ تمييز عن شر أي جاء ثابتا عنده، وهو من باب : تحيتهم بينهم ضرب وجيع. فإن المثوبة مختصة بالخير ﴿ من لعنه الله ﴾ أي : هو دين من لعنه الله فلا بد من حذف مضاف هنا أو في قوله بشر من ذلك أي : من أهل ذلك ﴿ وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ﴾ عطف على لعنه والطاغوت : العجل أو الكهنة أو الشيطان ﴿ أولئك شر مكانا ﴾ فيه مبالغة ليست في قوله أولئك شر قيل : لأن مكانهم سقر ﴿ وأضل عن سواء السبيل ﴾ : قصد الطريق المتوسط والمراد من صيغتي الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين.
﴿ وإذا جاءوكم قالوا آمنا ﴾ يعني منافقي اليهود ﴿ وقد دخلوا ﴾ حال من ضمير قالوا ﴿ بالكفر ﴾ حال من فاعل دخلوا ﴿ وهم قد خرجوا به ﴾ أي : دخلوا كافرين وخرجوا كافرين لم يؤثر فيهم كلامك ﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾ : من الكفر وفيه وعيد.
﴿ وترى كثيرا منهم ﴾ : من منافقيهم أو من اليهود ﴿ يسارعون في الإثم ﴾ : المحارم أو الكذب ﴿ والعدوان ﴾ : الاعتداء على الناس أو مجاوزة الحد في المعاصي ﴿ وأكلهم السُّحت ﴾ : الحرام خص بالذكر للمبالغة ﴿ لبئس ما كانوا يعملون ﴾ : شيئا عملوه.
﴿ لولا ينهاهم الرّبانيون ﴾ : زهادهم ﴿ والأحبار ﴾ : علماؤهم ﴿ عن قولهم الإثم ﴾ : كذبهم وافتراءهم ﴿ وأكلهم السُّحت لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ : من عدم النكير عليهم التحضيض لهم على النهي عن ذلك، فإن لولا إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.
﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة ﴾ مجاز عن البخل أي هو مسك كف الله عنهم نعمة الدنيا حين جحدوا القرآن بعد ما كانوا في خصب ورخاء فقالوا ذلك ﴿ غُلّت أيديهم ﴾ أي : هم البخلاء أو دعا عليهم بالبخل قيل : هي من الغل في النار ﴿ ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ﴾ ليس له بخل أصلا وله غاية الجود وتثنية اليد تدل عليها، وقيل يداه أي : نعمة الدنيا والآخرة ﴿ ينفق كيف يشاء ﴾ تأكيد لذلك أي هو مختار يوسع ويقتر بحسب مشيئته وإرادته ﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أُنزل ﴾ فاعل يزيدن ﴿ إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ : كلما نزلت آية كفروا وازدادوا طغيانا وكفرا ﴿ وألقينا بينهم ﴾ : بين طوائف اليهود ﴿ العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ فلا يتفق كلمتهم ﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب ﴾ : مع المسلمين ﴿ أطفأها الله ﴾ بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم ﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾ : للفساد أو يسعون بمعنى يفسدون ﴿ والله لا يحب المفسدين ﴾ : لا يرضى عنهم ولا يعزّهم.
﴿ ولو أن أهل الكتاب ﴾ مع هذه الجرائم ﴿ آمنوا ﴾ : بالقرآن ﴿ واتقوا ﴾ : معاصيهم ﴿ لكفّرنا عنهم سيئاتهم ﴾ : الماضية ﴿ ولأدخلناهم جنات النعيم ﴾
﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ﴾ : بأن يصدقوا ولا يحرفوا ويعملوا بالأحكام. ﴿ وما أُنزل إليهم من ربهم ﴾ أي : القرآن أو كتب الأنبياء مطلقا ﴿ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ : لأنزل عليهم المطر وأخرج لهم نبات الأرض، أو من الأشجار والزروع أو من غير كد وتعب قيل أراد به التوسعة كقولهم : فلان بالخير من قرنه إلى قدمه ﴿ منهم أمة مقتصدة ﴾ : جماعة غير غالية ولا مقصرة كمؤمني أهل الكتاب ﴿ وكثير منهم ﴾ : مقول في شأنه ﴿ ساء ما يعملون ﴾ : بئس ما يعملونه، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم.
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي : جميعه غير خائف من شيء ﴿ وإن لم تفعل ﴾ : ولم تبلغ جميعه وكتمت آية منه ﴿ فما بلّغت رسالته ﴾ : وماذا أديت شيئا منها كمن أضاع ركن صلاة، أو فكأنك ما بلغت شيئا منها، فإن كتمان البعض والكل سواء في الشناعة ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ أي : أنا ناصرك وحافظ روحك فلا تخف أحدا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس من قبل ذلك، فلما نزلت تلك الآية تركت الحراسة ويجاهد الأعداء بعيب دينهم وسب آلهتهم بلا خوف. قيل : المائدة آخر ما نزل من القرآن فلا يشكل بشج رأسه الأشرف صلى الله عليه وسلم، أو المراد حفظ روحه ﴿ إن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ أي : بلغ غليهم رسالتك والله الهادي وليس عليك هداهم قيل معناه : لا يمكنهم مما يريدون بك من الهلاك. قيل : الأمر بتبليغ كل ما قصد منه اطلاع الناس فإن من الأسرار ما يحرم إفشاؤه.
﴿ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء ﴾ أي : دين يصح أن يسمى شيئا ﴿ حتى تُقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ﴾ أي : تؤمنوا بجميع الكتب وتصدقوها ولا تكتموا شيئا منها فمن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وليزيدن كثيرا منهم ما أُنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ﴾ كرره ليتعقب عليه قوله :﴿ فلا تأس ﴾ : لا تحزن ﴿ على القوم الكافرين ﴾ لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإنهم الأشقياء وضرر كفرهم لا يلحق بغيرهم.
﴿ إن الذين آمنوا ﴾ : باللسان كالمنافقين أو المراد منه المسلمون ﴿ والذين هادوا والصابئون ﴾ مرفوع بالابتداء وخبره محذوف أي والصابئون كذلك وهو اعتراض مشعر بأنهم مع كمال ضلالهم إن آمنوا يتاب عليهم فغيرهم من باب الأولى وهم طائفة من النصارى أو من عبدة الملائكة أو قوم يعرفون الله وحده وليست لهم شريعة، وقيل : غير ذلك ﴿ والنصارى من آمن بالله ﴾ : بقلبه أو ثبت على الإيمان مبتدأ خبره ( فلا خوف ) والجملة خبر إن وضمير اسمها محذوف أي : من آمن منهم أو بدل من اسم إن وخبره فلا خوف ﴿ واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ : على ما فات عنهم من الدنيا.
﴿ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا ﴾ : ليذكروهم ﴿ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى ﴾ : تشتهي ﴿ أنفسهم ﴾ جملة شرطية وقوله :﴿ فريقا ﴾ : من الأنبياء ﴿ كذّبوا وفريقا يقتلون ﴾ دال على وجوب الشرط وهو استكبروا، وقوله :( فريقا كذبوا ) مستأنفة كأنه قيل : كيف فعلوا برسلهم ؟ وجملة الشرط والجزاء صفة ( رسلا ) أي كلما جاءهم رسول منهم.
﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة ﴾ أي : حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم شر بما صنعوا ومن قرأ ( ألا تكون ) بالرفع يكون أن مخفف من المثقلة ﴿ فعموا ﴾ : عن الدين والدلائل ﴿ وصمّوا ﴾ : عن سماع الحق حين عبدوا العجل ﴿ ثم تاب الله عليهم ﴾ أي : ثم تابوا فقبل الله توبتهم ﴿ ثم عموا وصمُّوا ﴾ كرة أخرى ﴿ كثير منهم ﴾ بدل من ضمير الجمع ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ : فيجازيهم.
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ أي : إني مخلوق مثلكم فاعبدوا خالق الكل ﴿ إنه من يشرك بالله ﴾ : في عبادته ﴿ فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه ﴾ : منزله ﴿ النار وما للظالمين من أنصار ﴾ : ما لهم أحد ينصرهم لأنهم ظلمة.
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ﴾ أي : أحد ثلاثة من الآلهة هو والمسيح وأمه ﴿ وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ﴾ أي : ولم يوحدوا ﴿ ليمسّن الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ وضع الظاهر موضع الضمير ليعلم أن ترتب العذاب لكفرهم، ومن للبيان.
﴿ أفلا يتوبون إلى الله ﴾ بالانتهاء عن تلك العقيدة الوخيمة بعد هذا التهديد ﴿ ويستغفرونه والله غفور رحيم ﴾ : يغفر لهم ويرحم عليهم بعد التوبة مع هذا الذنب الجسيم.
﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ﴾ : ما هو إلا رسول كالرسل السابقة ﴿ وأُمّه صدّيقة ﴾ : صدقت بكلمات ربها وكتبه ﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾ : يحتاجان إليه، فكيف يكونان إلهين ! ! ﴿ انظر كيف نُبيّن لهم الآيات ثم انظر أنّى يؤفكون ﴾ أي : كيف يصرفون عن الحق وتدبر الآيات.
﴿ قل ﴾ : يا محمد لمن يعبد غير الله ومنهم النصارى ﴿ أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ﴾ : لا يملك أن يدفع عنكم ضر المصائب ولا أن يوصل إليكم نفع الصحة والسعة ﴿ والله هو السميع ﴾ : بالأقوال ﴿ العليم ﴾ : بالعقائد فيجازى عنها.
﴿ قل يا أهل الكتاب لا تغلُوا في دينكم ﴾ : لا تتجاوزوا عن الحد فيه ﴿ غير الحق ﴾ : حال كون دينكم غير الحق أي باطلا وقيل : صفة مصدر أي غلوّا باطلا فإن غلو الحق وهو التفحص عن حقائقه محمود ﴿ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ﴾ أي : أئمتهم الذين ضلوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وأضلوا ﴾ : خلقا ﴿ كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ﴾ أي : استمروا على الضلال أو بعد بعثته أو ضلوا قبل عن مقتضى العقل ثم عن مقتضى الشرع.
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وأصحاب المائدة لم يؤمنوا قال عيسى : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير أو ملعونون في الزبور والإنجيل على لسانهما ﴿ ذلك ﴾ أي : اللعن ﴿ بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ أي : بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم.
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ : لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه قيل : أي لا ينتهون من تناهى عن الأمر إذا امتنع ﴿ لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ تعجيب مؤكد بالقسم.
﴿ ترى كثيرا منهم ﴾ : من أهل الكتب ﴿ يتولّون ﴾ : يوالون ﴿ الذين كفروا ﴾ فإن المنافقين يوالون المشركين ﴿ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ﴾ ما بعد أن هو المخصوص بالذم كأنه قال : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم أي موجب سخطه ﴿ وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبيّ ﴾ أي : محمد عليه الصلاة والسلام.
﴿ وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ﴾ إذ الإيمان يمنع عن ذلك ﴿ ولكن كثيرا منهم فاسقون ﴾ : خارجون عن طاعة الله.
﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ فإنهم متفقون في الانهماك في حسدهم وعنادهم ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾ نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ عليهم القرآن بكوا وأسلموا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبره وقيل : غير ذلك ﴿ ذلك بأن منهم قسّيسين ﴾ أي : علماء ﴿ ورهبانا ﴾ أي : عبادا ﴿ وأنهم لا يستكبرون ﴾ كما يتكبر المشركون واليهود.
﴿ وإذا سمعوا ﴾ عطف على يستكبرون بيان لرقة أفئدتهم ﴿ ما أُنزل إلى الرسول ﴾ : محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ ترى أعينهم تفيض من الدمع ﴾ جعلت أعينهم من كثرة البكاء كأنها تسيل بأنفسها ﴿ مما عرفوا من الحق ﴾ من الأولى للابتداء والثانية للتبيين ﴿ يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ من الذين شهدوا بأنه حق أو من أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم شاهدون يوم القيامة لنبيهم أنه قد بلّغ، وللرسل أنهم قد بلغوا.
﴿ وما لنا لا نؤمن ﴾ نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فأجابوا. أي : أي شيء حصل لنا ؟ وقوله : لا نؤمن حال من ضمير ( لنا ) أي : غير مؤمنين ﴿ بالله ﴾ : بتوحيده ﴿ وما جاءنا من الحق ونطمع أن يُدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ﴾ : أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ونطمع حال وعامله عامل الحال الأولى، لكن مقيدا بالحال الأولى بتقدير : ونحن نطمع وعطف على لا نؤمن أو حال من فاعل لا نؤمن.
﴿ فأثابهم الله ﴾ : أعطاهم ﴿ بما قالوا ﴾ : سألوا ربهم وتمنوا ﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ : من تحت غرفها ﴿ خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ﴾ : الذين أحسنوا القول والعمل.
﴿ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾ التكذيب بالآيات وإن كان داخلا في الكفر لكن كفرهم لأجل تكذيبهم آيات ربهم والكلام في بيان المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أيك ما طاب ولذ منه ﴿ ولا تعتدوا ﴾ : لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليها، أو لا تجاوزوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم، أو لا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر الكفاية ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾ : لا يرضى عمن تجاوز الحد في الأمور نزلت في جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه تبتلوا واعتزلوا النساء وطيبات الطعام واللباس وهموا بالإخصاء ولذلك قيل الاعتداء : الإخصاء.
﴿ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ﴾ من ابتدائية متعلقة بكلوا وحلالا مفعوله أو للتبعيض مفعول كلوا وحلالا حال من الموصول ﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴾ قيل لما نزلت الآية في منعهم عما اتفقوا عليه من الإخصاء وغيره قالوا : يا رسول الله : إنا قد حلفنا على ذلك فنزل قوله ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾.
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ : هو قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله، وبلى والله، أو في الهزل أو في المعصية أو على غلبة الظن أو في الغضب أو في النسيان أو هو في ترك المأكل والملبس ﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان ﴾ : بما صممتم عليه وقصدتموه إذا حنثتم ﴿ فكفّارته ﴾ أي : كفارة نكثه التي تذهب إثمه ﴿ إطعام عشرة مساكين ﴾ : وهو من لا يجد ما يكفيه ﴿ من أوسط ﴾ صفية إطعام أو تقديره إطعاما من أوسط أو طعاما من أوسط ﴿ ما تطعمون أهليكم ﴾ : أي من أعدله ومن أمثله، قال كثير من السلف : لكل واحد مد من بر ومعه إدامه، وقال بعضهم : نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما وعند الشافعي مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك أو ﴿ كسوتهم ﴾ عطف على إطعام أي : ما يقع عليه اسم الكسوة أو كسوة تجوز صلاته فيها وقيل غير ذلك ﴿ أو تحرير رقبة ﴾ : مؤمنة عند الشافعي فالحانث مخير بين هذه الثلاثة ﴿ فمن لم يجد ﴾ : واحدا منها بأن لم يفضل ما يطعم عشرة مساكين من قوته وقوت عياله في يومه وليلته ﴿ فصيام ثلاثة أيام ﴾ أي : فكفارته ذلك، والتتابع ليس بشرط عند الشافعي ﴿ ذلك ﴾ أي : المذكور ﴿ كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ يعني : حنثتم ﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾ لا تتركوها بغير تكفير أو لا تحلفوا أو عن الحنث إذا لم يكن على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن الأفضل الحنث والكفارة حينئذ ﴿ كذلك ﴾ : مثل ذلك البيان ﴿ يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ﴾ : نعمه فيزيدنكم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ﴾ : هو القمار بجميع أنواعه ﴿ والأنصاب ﴾ : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها ﴿ والأزلام ﴾ : هي قداح كانوا يستقسمون بها وقد مر ﴿ رجس ﴾ : سخط وإثم خبر للخمر وخبر الباقي محذوف أو تقديره تعاطي الخمر والميسر رجس ﴿ من عمل الشيطان ﴾ ؛ لأنه مسبب من تسويله ﴿ فاجتنبوه ﴾ أي : الرجس ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ : لكي تفلحوا بالاجتناب عنه.
﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم ﴾ : يمنعكم ﴿ عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾ ذكر الأنصاب والأزلام اللذين هما من الكفر مع الخمر والميسر كأنه للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة، ولذلك خصهما بإعادة الذكر ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ من أبلغ عبارة في النهي كأنه قال قد تلوت عليكم من أنواع الصوارف فهل أنتم معها منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه ولم ينفعكم الزجر ؟ !
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ﴾ : مخالفتهما ﴿ فإن توليتم ﴾ عن الطاعة ﴿ فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ فلا ضرر له، وإنما ضررتم به أنفسكم، ولما نزل تحريم الخمر قالوا كيف بمن كان يشربها قبل التحريم وبعض الذين قتلوا يوم أحد شهداء والخمر في بطونهم فأنزل الله تعالى ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ﴾.
﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ﴾ : إثم ﴿ فيما طعموا ﴾ : مما لم يحرم عليهم ﴿ إذا ما اتقوا ﴾ : الحرام ﴿ وآمنوا وعملوا الصالحات ﴾ : وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحات ﴿ ثم اتقوا ﴾ ما رحم عليهم بعد ﴿ وآمنوا ﴾ بتحريمه ﴿ ثم اتقوا ﴾ استمروا على اتقاء المعاصي ﴿ وأحسنوا ﴾ : العمل ومعناه في الأول : اتقوا الشرك وآمنوا ثم اتقوا أي : داموا على ذلك وآمنوا وثبتوا عليه وازدادوا إيمانا ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا العمل ﴿ والله يحب المحسنين ﴾ فلا يؤاخذهم بشيء.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ ﴾ : يختبرنكم ﴿ بشيء من الصيد ﴾ هذا في عمرة الحديبية المسلمون محرمون والصيد من الوحش والطير تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط ﴿ تناله أيديكم ﴾ : تتمكنون من أخذه باليد، لأن فيه صغارا وفراخا ﴿ ورماحكم ﴾ : تحتاجون إلى مزاولة الرمح لأن فيه الكبار ﴿ ليعلم الله ﴾ : ليرى الله وليتميز ﴿ من يخافه بالغيب ﴾ : من يخاف الله ولم يره أو من يخاف عقاب الله وهو غائب غير شاهد ﴿ فمن اعتدى بعد ذلك ﴾ : الإعلام والإنذار ﴿ فله عذابأليم ﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم ﴾أي : محرمون جمع حرام ﴿ ومن قتله منكم متعمدا ﴾ : ذاكرا لإحرامه، والأصح عند السلف والخلف أن العمد والخطأ سيان في لزوم الكفارة دون الإثم والآية فيهما ولذلك قيده بمتعمد، أو يدل عليها صريحا قوله :( ومن عاد فينتقم الله ) ﴿ فجزاء ﴾ : أي فعليه أو فواجبه جزاء ﴿ مثل ما قتل ﴾ صفة جزاء ﴿ من النّعم ﴾ بيان للمثل ومن قرأ فجزاء بالإضافة فمن إضافة المصدر إلى المفعول والمثل غير زائد، لأنه بصدد بيان أن الجزاء ما هو لا بيان أن عليه جزاء ما قتل، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة على الأصح المنقول عن السلف ﴿ يحكم به ﴾ : الجزاء ﴿ ذواعدل ﴾ : رجلان صالحان فإن الأنواع تتشابه، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، ﴿ منكم ﴾ : من المسلمين فما حكم الصحابة بالمثلية فهو المتبع وإلا فلابد من عدلين يحكمان، هذا هو الأصح، ﴿ هديا ﴾ حال من ضمير به، ﴿ بالغ الكعبة ﴾، صفة هديا، وبالإضافة لفظية أي : واصلا إليه بأن يذبح فيه، ويتصدق به، ﴿ أو كفارة ﴾، عطف على جزاء، ﴿ طعام مساكين ﴾ بدل منه أو تقديره هي طعام وظاهره التخيير وعليه الأكثرون، وقال بعض من السلف : إن لم يجد هديا يعدل على أن يقوم مثل ما قتل، فيشتري بثمنه طعاما لكل مسكين مد فإن لم يجد يصوم، ﴿ أو عدل ذلك صياما ﴾ أي : ما ساواه من الصوم فيصوم عن إطعام كل مسكين يوما وصياما تمييز للعدل، ﴿ ليذوق وبال أمره ﴾ : ثقل أمره، وجزاء معصيته أي : أوجبنا عليه ذلك ليذوق، ﴿ عفا الله عما سلف ﴾ : قبل التحريم، ﴿ ومن عاد ﴾ : إلى مثل ذلك، ﴿ فينتقم الله منه ﴾ : في الآخرة أي : فهو ينتقم الله منه ليصح دخول الفاء وعليه مع ذلك الكفارة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا كفارة عليه فإن الأمر أشد، ﴿ والله عزيز ذو انتقام ﴾ : على المصر بالمعاصي.
﴿ أُحل لكم صيد البحر ﴾ : مما لا يعيش إلا في الماء في جميع الأحوال ﴿ وطعامه ﴾ أي : ما يتزود منه يابسا مالحا أو ما لفظه ميتا، ﴿ متاعا لكم وللسّيارة ﴾ : منفعة للمقيم، والمسافر، وهو مفعول ﴿ وحُرّم عليكم صيد البر ﴾ أي : مصيدها، وعن بعضهم المراد بالصيد في الموضعين فعله ﴿ ما دمتم حُرما ﴾ وأما أكل لحم صيد غير المحرم لا لأجله في حال الإحرام فالأصح الجواز بدليل الحديث، ﴿ واتقوا الله الذي إليه تُحشرون ﴾.
﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام ﴾، عطف بيان للكعبة على جهة المدح. ﴿ قياما للناس ﴾ : في أمر دينهم ودنياهم به الحج وبه يلوذ الخائف، وهو ثاني مفعولي جعل، ﴿ والشهر الحرام ﴾، عطف على الكعبة جعل الأشهر الحرم قياما للناس فيه الحج، والأمن من القتال، ﴿ والهدي ﴾ : ما أهدى إلى الكعبة، ﴿ والقلائد ﴾ : ذوات القلائد من الهدي ما قلد به الهدي من نعل، أو لحاء شجر أي : علامة يعلم منها أنه هدي، وكانوا يؤمنون بتقليد الهدي فبه يحصل القيام، ﴿ ذلك ﴾ أي : الجعل وقيل إشارة إلى ما في السورة من أخبار الغيب ﴿ لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ﴾، فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل الوقوع، وجلب المنافع دليل كمال علمه أو لتعلموا أنا نعلم مصالح دينكم ودنياكم، فتستدلوا بهذا على أنه عالم بما في السماوات والأرض، ﴿ وأن الله بكل شيء عليم ﴾، تعميم بعد تخصيص.
﴿ اعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ : لمن انتهك محارمه، ﴿ وأن الله غفور رحيم ﴾ لمن حافظ عليها.
﴿ ما على الرسول إلا البلاغ ﴾ : فإذا بلغ ليس لكم عذر في التفريط، ﴿ والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون ﴾ : من تصديق وتكذيب.
﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾ : الحرام والحلال، ﴿ ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾ : فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ﴿ فاتقوا الله ﴾ : في الخبيث ﴿ يا أولي الألباب ﴾ : أرباب العقول السليمة، ﴿ لعلكم تُفلحون ﴾ : راجين أن تبلغوا الفلاح.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا ﴾ : رسول الله صلى الله عليه وسلم. ﴿ عن أشياء إن تُبد لكم ﴾ : تظهر لكم، ﴿ تسؤكم ﴾ : تغمكم وتضركم. الشرطية وما عطف عليها من الشرطية الأخرى صفة أشياء نزلت لما سئل من يطعن في نسبه من أبي فعينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال آخر أين أبي ؟ قال : في النار أو نزلت لما نزل وجوب الحج، فقال :( في كل عام، فقال : ولو قلت نعم لوجبت فاتركوني ما تركتكم ) ﴿ وإن تسألوا عنها حين يُنزّل القرآن تُبد لكم ﴾ أي : وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، ﴿ عفا الله عنها ﴾ أي : عما سلف من مسألتكم، فلا تعودوا لمثلها فهي استئناف أو صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها، ﴿ والله غفور حليم ﴾ : لا يعاجلكم بالعقوبة.
﴿ قد سألها ﴾ أي : عن الأشياء بالحذف والإيصال، وقيل الضمير إلى المسألة التي دل عليها ( لا تسألوا ) فيكون في موقع الصدر وليس من قبيل سألته درهما، لأنهم ما طلبوه، بل سألوا عنه، ﴿ قوم من قبلكم ﴾ متعلق بسألها، ﴿ ثم أصبحوا بها ﴾ : أي : بالأشياء أو بسببها ﴿ كافرين ﴾ ؛ لأنهم تركوها وهجروها وقد ورد ( اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ).
﴿ ما جعل الله من بحيرة ﴾ أي ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير، فلا يطلب غلا مفعولا واحدا أو من زائدة، وهي ناقة ولدت خمسة أبطن بحروا أي : شقوا أذنها وتركوا الحمل، والركوب عليها، ﴿ ولا سائبة ﴾ : هي ناقة لا تركب، ولا تحبس عن كلاء وماء لنذر صاحبها إن حصل ما أراد من شفاء المريض، أو غيره أنها سائبة، ﴿ ولا وصيلة ﴾ : الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظر إن كان السابع ميتا فهو للرجال دون النساء، وإن كان ذكرا فهو مذبوح للرجال، وإن كان أنثى تركوها فلم يذبح، وإن كان ذكرا وأنثى خلوا الذكر أيضا من أجل أنثى، وقالوا : وصلت أخاها ولبنها للرجال ﴿ ولا حام ﴾ : هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، وقد قيل في تفسير كل واحد غير ما نقلنا، ﴿ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ﴾ : في تحريمهم هذه الأنعام، ﴿ وأكثرهم لا يعقلون ﴾ : جهلة كالأنعام، بل هم أضل أو أكثرهم مقلدون لرؤسائهم لا يعرفون أن ذلك افتراء منهم.
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ﴾ : في الفرائض والسنن، ﴿ قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ : من سننهم السيئة، ﴿ أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ﴾، الواو للحال والهمزة للإنكار أي : أحسبهم وجدان آبائهم على هذا المثال، ولو كان الحال أن آباءهم جهلة ضلال.
﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ﴾ الجار والمجرور اسم فعل أي : الزموا صلاحها، ﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، فيه رخصة في ترك الحسنة إذا علم عدم قبولها أو فيها مفسدة وإضرار له منها اتفقت كلمة السلف على ذلك، والأحاديث تدل عليه أو معنى إذا اهتديتم إذا ائتمرتم بالمعروف، وأمرتم به، وانتهيتم عن المنكر، ونهيتم عنه حسب طاقتكم أو المراد المنع عن هلاك النفس أسفا على ما عليه الكفرة والفسقة كقوله :( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ( فاطر : ٨ )، وهو استئناف أو جواب للأمر أي : إن لزمتم أنفسكم لا يضركم، والقياس الفتح لكن أوثرت ضمة الراء لاتباع الضاد، ﴿ إلى الله مرجعكم جميعا فيُنبّئكم بما كنتم تعملون ﴾، وعد ووعيد للفريقين.
﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ﴾ إضافة إلى الظرف على الاتساع، ﴿ إذا حضر أحدكم الموت ﴾، ظرف للشهادة، وحضوره : ظهور أماراته، ﴿ حين الوصية ﴾، بدل من الظرف وفيه دليل على أن الوصية مما لا ينبغي التساهل فيها، ﴿ اثنان ﴾، خبر شهادة أي : شهادة بينكم شهادة اثنين أو فاعلها أي : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، ﴿ ذوا عدل منكم ﴾ : من المسلمين، وقيل من أقاربكم وهما صفتان لاثنان، ﴿ أو آخران ﴾، عطف على اثنان، ﴿ من غيركم ﴾ : من غير المسلمين أو من غير أقاربكم، ﴿ إن أنتم ضربتم في الأرض ﴾ : أي : شهادة غير المسلم إذا كنتم في السفر يعني : لم تجدوا مسلما، ﴿ فأصابتكم مصيبة الموت ﴾، عطف على ضربتم، وجواب الشرط محذوف أي : إن كنتم في سفر ولم تجدوا مسلمين، فيجوز إشهاد غير المسلمين، ﴿ تحسبونهما ﴾ : تقفونهما صفة للآخران، أو استئناف كأنه جواب ما قيل كيف نعمل إن ارتبنا في الشاهدين ؟ ! ﴿ من بعد الصلاة ﴾ أي : صلاة العصر، فإن أهل الكتاب أيضا يعظمونها أو بعد صلاة ما، أو بعد صلاتهم، ﴿ فيُقسمان بالله إن ارتبتم ﴾ أي : إن ارتاب أحد الوارثين فيهما حبسهما للحلف، ﴿ لا نشتري به ﴾ : بالقسم، ﴿ ثمنا ﴾، الجملة مقسم عليه أي : لا نستبدل به عرضا من الدنيا أي : لا نحلف كاذب، ﴿ ولو كان ﴾ : من نقسم له، ﴿ ذا قربى ﴾ : قريبا منا لا نحلف له كاذبا أي نحن رجال عادتنا الصدق لنا أو علينا، ﴿ ولا نكتم شهادة الله ﴾ : أي : الشهادة التي أمر الله بإقامتها، ﴿ إنا إذا لمن الآثمين ﴾ : إن كتمنا.
﴿ فإن عُثر ﴾ : اطلع ﴿ على أنهما ﴾ أي : آخرين ﴿ استحقا إثما ﴾ : استوجبا إثما بيمينهما الكاذبة، ﴿ فآخران ﴾ : فشاهدان آخران، ﴿ يقومان مقامهما ﴾، خبر لقوله فآخران، ﴿ من الذين استحق عليهم ﴾ : من الذين جنى عليهم، وهم الورثة، فضمير استحق للإثم أي ارتكب الذنب بالقياس إليهم، ﴿ الأوليان ﴾ أي : أحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما استئناف كأنه قيل من هما قال : هم الأوليان، أو بدل من آخران، ومن قرأ الأولين فهو صفة، أو بدل من الذين، ومن قرأ استحق غير مجهول، فهو فاعل أي : من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، ﴿ فيُقسمان بالله ﴾، عطف على يقومان، ﴿ لشهادتُنا أحق ﴾ : بالاعتبار، ﴿ من شهادتهما ﴾، أو أصدق، ﴿ وما اعتدينا ﴾ : ما تجاوزنا عن الحق فيها، ﴿ إنا إذا لمن الظالمين ﴾ : إن اعتدينا.
﴿ ذلك ﴾ أي : الحكم الذي تقدم، ﴿ أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ أي : أقرب أن يأتي الشهداء بشهادتهم على نحو تلك الحادثة، فلا يغيروها، ﴿ أو يخافون أن تُردّ أيمان ﴾ : على المدعين، وهم أولياء الميت، ﴿ بعد أيمانهم ﴾ : إذا ظهر للأولياء أمارات كذب الشاهدين، فيفتضحوا أي : أقرب إلى أحد الأمرين أداء الشهادة على الصدق أو الامتناع عن أدائها بالكذب، ﴿ واتقوا الله واسمعوا ﴾ : بسمع إجابة ما أمرناكم، ﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ : أي إن لم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهديهم، ومحصل الآية أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد على وصيته اثنين من المسلمين أو من قرابته، فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب فيهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت أيضا، فإن اطلع بأمارة، ومظنة على كذبهما أقسم آخران من أولياء الميت، هكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآيات غير واحد من أئمة السلف والتابعين، وهو مذهب الإمام أحمد، والقاضي شريح في خاصة مثل هذه الواقعة، وقال بعضهم حكم الآية منسوخ إن أريد من الغير الكافرون فإن شهادة الكافر كانت بدأ الإسلام ثم نسخت، وقال بعضهم المراد من الشهادة الوصاية وكون الوصي اثنين للتأكيد فإنهم قالوا : لا نعلم حكما يحلف فيه الشاهد وهو خلاف الظاهر المتبادر، وسبب نزول الآية أن رجلا من المسلمين خرج مسافرا معه رجلان من أهل الكتاب، ومات بأرض ليس بها مسلم فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة مموها بالذهب، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأحلفهما بعد صلاة العصر فحلفا على أنهما اطلعا على الإناء، ثم وجد الإناء عند من اشترى منهما، فقام رجلان من أوليائه فحلفا أن الإناء لنا وأخذا.
﴿ يوم يجمع الله الرسل ﴾ أي : اذكر يوم جمعهم، وقيل ظرف للايهدى، أو بدل اشتمال من مفعول اتقوا، ﴿ فيقول ﴾ : لهم، ﴿ ماذا أُجبتم ﴾ أي إجابة أجبتم، إجابة إقرار أو إنكار، ﴿ قالوا لا علم لنا ﴾ : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا أو بالنسبة إلى علمك، ﴿ إنك أنت علاّم الغيوب ﴾ : فتعلم ما نعلم، وما لا نعلم، وهذا السؤال لتوبيخ الأمم.
﴿ إذ قال الله ﴾، بدل من يوم الجمع أو بتقدير اذكر، ﴿ يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك ﴾ : قويتك ظرف نعمتي، أو حال منهما، ﴿ بروح القُدس ﴾ : جبريل، وقيل بكلام ونفس يحيي به الدين، والموتى، ﴿ تكلم الناس ﴾ : بدعوتهم إلى الله تعالى، ﴿ في المهد وكهلا ﴾، عطف على محل في المهد فإنه حال قالوا، وما وصل إلى سن من الكهولة، ففيه إشارة إلى نزوله من السماء، وهو آية من آياته، ﴿ وإذ علّمتك الكتاب ﴾ : الخط، ﴿ والحكمة ﴾ : الفهم، ﴿ والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ﴾ : تشكله وتصوره على هيئة طائر، ﴿ بإذني ﴾ : لك في ذلك، ﴿ فتنفخ فيها ﴾ : في تلك الصورة، ﴿ فتكون طيرا ﴾ : تطير، ﴿ بإذني ﴾ : وأمري ﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تُخرج الموتى بإذني ﴾ : بأن تدعوهم فيقومون من قبورهم بإرادة الله وقدرته، ﴿ وإذ كففت بني إسرائيل عنك ﴾ أي : عن قتلك، ﴿ إذ جئتهم بالبينات ﴾، ظرف لكففت، ﴿ فقال الذين كفروا منهم إن هذا ﴾ أي : ما هذا، ﴿ إلا سحر مبين ﴾.
﴿ وإذ أوحيت ﴾ : ألهمت أو بلسانك ﴿ إلى الحواريين ﴾ : أصحابه، وأنصاره، ﴿ أن آمنوا بالله وبرسولي قالوا آمنا واشهد ﴾ : يا الله أو يا أيها الرسول، ﴿ بأننا مسلمون ﴾ : منقادون مخلصون.
﴿ إذ قال الحواريون ﴾، منصوب باذكر ﴿ يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ﴾، وهذا كما تقول : هل تستطيع أن تجيء معي ؟ عالما باستطاعته أي هل تفعل أم لا ؟ أو بمعنى هل يعطيك ربك بإجابة سؤالك فيكون أطاع واستطاع بمعنى كأجاب واستجاب، وقيل : شكوا أي في قدرة الله، ولذلك أجابهم عيسى عليه السلام بقوله :( اتقوا الله )، ومن قرأ هل تستطيع بالتاء، وربك بالنصب، فمعناه هل تستطيع سؤال ربك ؟ ﴿ أن ينزل علينا مائدة من السماء قال ﴾ : عيسى، ﴿ اتقوا الله ﴾ : في سؤالها، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي : لا يليق اقتراح الآيات بعد الإيمان.
﴿ قالوا نريد أن تأكل منها ﴾، فأجابوا بأن طلبها لأجل الحاجة لا أنا نطلب آية، ﴿ وتطمئن قلوبنا ﴾ : بزيادة علمنا، ﴿ ونعلم ﴾ : علم مشاهدة بعد ما علمناه علم إيمان، ﴿ أن قد صدقتنا ﴾ : فيما وعدتنا أو في نبوتك، ﴿ ونكون عليها من الشاهدين ﴾ أي : من الشاهدين على تلك المائدة الدالة على نبوتك أومن الشاهدين عليها عند من لم يحضرها من بني إسرائيل، وعليها متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين.
﴿ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا ﴾، نداء ثان فإن اللهم لا يوصف، ولا يبدل منه، ﴿ أنزل علينا مائدة ﴾ أي : خوان إذا كان فيه الطعام، ﴿ من السماء تكون لنا عيدا ﴾، العيد اسم ليوم فيه سرور مخصوص فضمير تكون للمائدة على حذف مضافين أي : تكون يوم نزولها أو اسم سرور يعود فلا حذف، لكن في الإسناد مجاز، ﴿ لأولنا ﴾، بدل من لنا، ﴿ وآخرنا ﴾ : لمتقدمينا ومتأخرينا أو يأكل منها أولنا وآخرنا ﴿ وآية منك ﴾ : على كمال قدرتك، وصحة نبوتي، ﴿ وارزُقنا وأنت خير الرازقين ﴾.
﴿ قال الله ﴾ : مجيبا له ﴿ إني منزّلها عليكم فمن يكفر بعد ﴾ : بعد نزولها، ﴿ منكم فإني أعذّبه عذابا ﴾ : تعذيبا، ﴿ لا أعذّبه ﴾، الضمير للمصدر فيكون في موقع المفعول المطلق ويقوم مقام العائد فإن لا أعذبه صفة عذابا أو من باب الحذف والإيصال أي : لا أعذب به، ﴿ أحدا من العالمين ﴾ : عالمي زمانهم والأصح أن المائدة نزلت وكفروا بها فمسخوا قردة وخنازير قيل ما مسخ أحد قبلهم خنزيرا، فالعالمين مطلق قال عبد الله بن عمر : أشد الناس عتابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
﴿ وإذ قال الله ﴾ : يوم القيامة تقريعا وتوبيخا للنصارى على رؤوس الأشهاد، ﴿ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، صفة إلهين أو متعلق باتخذوني، ﴿ قال سبحانك ﴾ : أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك، ﴿ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ : ما ينبغي أن أقولا قولا لا يحق لي أن أقوله فمتعلق لي بحق المقدر قبله، فإن تقديم صلة الجار على المجرور ممتنع، ﴿ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ : تعلم ما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه، ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( ١١٦ ) ﴾.
﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾، تصريح بنفي المستفهم عنه ﴿ أن اعبدوا الله ربي وربكم ﴾، بدل من ضمير به، والمبدل ليس في حكم المطروح بالكلية أو عطف بيان له، ﴿ وكنت عليهم شهيدا ﴾ : مشاهدا لأحوالهم، ﴿ ما دمت فيهم فلما توفّيتني ﴾، بالرفع إلى السماء، والتوفي أخذ الشيء وافيا،
﴿ كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ : المراقب لأحوالهم، ﴿ وأنت على كل شيء شهيد ﴾ : مطلع عليه.
﴿ إن تعذّبهم فإنهم عبادك ﴾ : لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه، ﴿ وإن تغفر لهم ﴾ مع كفرهم ﴿ فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ : القوي القادر على التواب، والعقاب لا تثيب ولا تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة، والمغفرة وإن كانت قطعية الانتفاء في الكفار بحسب الوعيد، لكن يحتمل الوقوع، واللاوقوع بحسب العقل فجاز استعمال إن فيه، ومسألة الكلام أن غفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قيل معناه، إن تعذبهم أي : من يكفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم أي : من اسلم منهم.
﴿ قال الله ﴾ : مجيبا لرسوله فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى، ﴿ هذا يوم ينفع الصادقين ﴾ : المستمرين، ﴿ صدقهم ﴾ : في دنياهم إلى آخرتهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما معناه ينفع الموحدين توحيدهم، والمشار إليه يوم القيامة، ومن قرأ يوم بالنصب فيكون ظرفا لقال، والمشار إليه قوله ( يا عيسى ابن مريم أأنت ) إلخ، ﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ : هذا نفعهم، ﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾
﴿ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن ﴾ : خلقا وملكا فلا شك في كذب زعم النصارى، ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ : فلا يكون إلا هو وحده إلها لأنه لو كان متعددا لا بد أن يكون كل واحد قادرا على كل شيء، وهذا محال.