مدنية، مائة وعشرون آية أو اثنتان أو ثلاث وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع كلمات وحروفها أحد عشر ألفاً وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ بسم الله ﴾ الذي له الأمر كله فلا يسأل عما يفعل ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص خلص عباده بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
ﰡ
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم | شدّوا العِناجَ وشدوا فوقه الكرَبَا |
فائدة : روي عن ابن مسعود قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها قوله تعالى :﴿ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ﴾ ﴿ وما عملتم من الجوارح مكلبين ﴾ ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾ ﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ وتمام الطهر في قوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ ﴿ والسارق والسارقة ﴾ ﴿ ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ الآية ﴿ وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ ( المائدة، ١٠٣ ) وقوله تعالى :﴿ شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ وزيد عليها تاسع عشر وهو قوله تعالى :﴿ وإذا ناديتم إلى الصلاة ﴾ ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة وأما في سورة الجمعة فهو مخصوص بالجمعة وهو في هذه السورة عام في جميع الصلوات والبهيمة كل حيّ لا يميز أي : من شأنه أنه لا يميز فلا يدخل في ذلك المجنون ونحوه، والأنعام : الإبل والبقر والغنم وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء وبقر الوحش.
تنبيه : إضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان كقولك : ثوب خز ومعناه البهيمة من الأنعام.
فإن قيل : لم أفرد البهيمة وجمع الأنعام ؟ أجيب : بإرادة الجنس وقوله تعالى :﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾ أي : تحريمه في قوله تعالى :﴿ حرّمت عليكم الميتة ﴾ الآية استثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم عرض من الموت ونحوه وقوله تعالى :﴿ غير محلي الصيد ﴾ حال من ضمير لكم وقوله تعالى :﴿ وأنتم حرم ﴾ مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في محل جمع حرام وهو المحرم ﴿ إنّ الله يحكم ما يريد ﴾ من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق لا يجب عليه مراعاة مصلحة ولا حكمة كما تقوله المعتزلة، فلا يسأل عن تخصيص ولا تفصيل فما فهمتم حكمته فذاك ومالا فكلوه إليه وارغبوا في أن يلهمكم حكمته.
﴿ يبتغون فضلاً من ربهم ﴾ وهو الثواب ﴿ ورضواناً ﴾ أي : وأن يرضى عنهم والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين، أي : لا تتعرضوا لقومٍ هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرّض لمثلهم، وقيل : معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم لأنهم كانوا يظنون ذلك فوصفوا به بناء على ظنهم ولأنّ الكافر لا نصيب له في الرضوان كقوله تعالى :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ ( الدخان، ٤٩ ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً فنهى الله تعالى المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى :
﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾ فعلى الأوّل الآية محكمة قال الحسن : ليس في المائدة منسوخ، وعلى الثاني قال البيضاوي : فالآية منسوخة أي : لما فيها من حرمة القتال في الشهر الحرام، ومن حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام والأوّل منسوخ بقوله تعالى :﴿ اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ( التوبة، ٥ ) والثاني بقوله تعالى :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ ( التوبة، ٢٨ ) فقوله : منسوخ منزل على هذا، لكن إذا قلنا بشمول آمين للمسلمين والمشركين إنما يكون النسخ في حق المشركين خاصة وهو في الحقيقة تخصيص لا نسخ ففي تسميته نسخاً تسمح، وقرأ شعبة بضم الراء والباقون بالكسر.
﴿ وإذا حللتم ﴾ أي : من الإحرام وقوله تعالى :﴿ فاصطادوا ﴾ أمر إباحة أباح لهم الاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا كما في قوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ﴾ ( الجمعة، ١٠ ) ﴿ ولا يجرمنكم ﴾ أي : يحملنَّكم أو يكسبنَّكم ﴿ شنآن قوم ﴾ أي : شدّة بغضهم، وقرأ ابن عامر وشعبة بسكون النون بعد الشين والباقون بنصبها وقوله تعالى :﴿ أن صدّوكم ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن الشرطية والباقون بفتحها أي : لأجل أن صدوكم في عام الحديبية أو غيره ﴿ عن المسجد الحرام ﴾ وقوله تعالى :﴿ أن تعتدوا ﴾ أي : يشتد عدْوُكم عليهم بأن تنتقموا منهم بالقتل وغيره، ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يتعدّى إلى واحد وإلى اثنين ككسب ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ﴾ أي : بفعل ما أمرتم به ﴿ ولا تعاونوا ﴾ فيه حذف إحدى التاءين في الأصل ﴿ على الإثم ﴾ أي : المعاصي للتشفي ﴿ والعدوان ﴾ أي : التعدي في حدود الله للانتقام ﴿ واتقوا الله ﴾ أي : خافوا عقابه بأن تطيعوه ﴿ إنّ الله شديد العقاب ﴾ لمن خالفه فانتقامه أشد.
﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ أي : أكلها بيان ما يتلى عليكم والميتة ما فارقته الروح من غير ذكاة شرعية ﴿ والدم ﴾ أي : المسفوح قال تعالى :﴿ أو دماً مسفوحاً ﴾ وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها ﴿ ولحم الخنزير ﴾ قال العلماء : الغذاء يصير جزءاً من جوهر المتغذي ولا بد أن يحصل للمتغذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المنهيات فحرّم أكله على الإنسان لئلا يتكيّف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المنهيات، وأورثهم عدم الغيرة فإنّ الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي له ولا يتعرّض له لعدم الغيرة.
﴿ وما أهل لغير الله به ﴾ أي : رفع الصوت به لغير الله بأن ذبح على اسم غيره، والإهلال : رفع الصوت ومنه يقال : فلان أهل بالحج إذا لبى وكانوا يقولون عند الذبح : باسم اللات والعزى، قال ابن عادل : وقدم هنا لفظ الجلالة في قوله لغير الله به وأخرت في البقرة لأنها هناك فاصلة أو تشبه الفاصلة بخلافها هنا لأنّ بعدها معطوفات ﴿ والمنخنقة ﴾ وهي التي ماتت بالخنق سواء أفعل بها ذلك آدميّ أم اتفق لها ذلك ﴿ والموقوذة ﴾ وهي التي وقذت أي : ضربت حتى ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات ﴿ والمتردّية ﴾ أي : الساقطة من علو بان سقطت من جبل أو مشرف أو في بئر فماتت، ولو رمى صيداً في الهواء بسهم فأصابه فسقط على الأرض ومات حلّ لأنّ الوقوع على الأرض من ضرورته وإن سقط على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأنّ الذبح قد حصل قبل التردية.
تنبيه : دخلت الهاء في هذه الكلمات لأنّ المنخنقة هي الشاة المنخنقة كأنه قيل : حرّمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية وخصَّت الشاة لأنها من أعمّ ما يأكل الناس والكلام يُخرّج على الأعمّ ويكون المراد الكل وأما الهاء في قوله تعالى :﴿ والنطيحة ﴾ وهي التي تنطحها أخرى فتموت فِللْنَّقل من الوصفية إلى الاسمية وإلا فكان من حقها أن لا تدخلها تاء التأنيث كقتيل وجريح، وما في قوله تعالى :﴿ وما أكل السبع ﴾ بمعنى الذي وعائده محذوف أي : وما أكله السبع ولا بد من حذف، ولهذا قال الزمخشريّ : وما أكل بعضه السبع وهذا يدل على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ما اصطادته لم يحل أكله.
وقوله تعالى :﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ استثناء متصل أي : إلا ما أدركتم ذكاته وصار فيه حياة مستقرة من ذلك فهو حلال، وقيل : الاستثناء مخصوص بما أكل السبع وقيل : الاستثناء منقطع أي : ولكن ما ذكيتم من غيرها فحلال أو فكلوه، وكأنّ هذا القائل رأى أنها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالة قريبة منه فلم تفد تذكيتها عنده شيئاً، وقيل : الاستثناء من التحريم لا من المحرّمات أي : حرّم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال فيكون الاستثناء منقطعاً أيضاً، وأقلّ الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمريء وكمالها أن يقطع الودجين معهما، وهما عرقان في صفحتي العنق ويجوز بكل محدد يجرح من حديد أو قصب أو زجاج أو غيره إلا السن والظفر لقوله صلى الله عليه وسلم :( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر ).
وقوله تعالى :﴿ وما ذبح على النصب ﴾ في محل رفع عطفاً على الميتة أي : وحرم عليكم ذلك والنصب واحد الأنصاب، وهي حجارة، كانت حول الكعبة يذبح عليها تقرباً إليها وتعظيماً لها، وقيل : هي الأصنام لأنها تنصب لتعبد، وعلى : بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأنصاب، وقيل : هو جمع والواحد نصاب ويدل للأوّل قول الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه | ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا |
وقوله تعالى :﴿ ذلكم فسق ﴾ إشارة إلى ما ذكر تحريمه أي : خروج عن الطاعة، وقيل : إشارة إلى الاستقسام وكونه فسقاً ؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر بعلمه علام الغيوب، وقد قال تعالى :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ﴾ ( النمل، ٦٥ ) وضلال باعتقاد أنّ ذلك طريق إليه وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله عز وجل إن كان أراد بربي الله وما يدريه إنّ الله أمره أو نهاه، فالكهنة والمنجمون بهذه المثابة، وجهالة وشرك إن أراد به الصنم.
وقوله تعالى :﴿ اليوم ﴾ لم يرد به يوماً بعينه وإنما أراد الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، وقيل : الألف واللام للعهد، قيل : أراد يوم نزولها، وقيل : نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، وقيل : هو يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة سنة تسع، وقيل : ثمان، وقوله تعالى :﴿ يئس الذين كفروا من دينكم ﴾ فيه قولان أحدهما : يئسوا من أن يحلوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة، والثاني : يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم فترتدّوا عنه بعد طمعهم في ذلك، لما رأوا من قوته ؛ لأنه تعالى كان وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان بقوله تعالى :﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ ( التوبة، ٣٣ ) فحقق ذلك النصر وأزلل الخوف ﴿ فلا تخشوهم ﴾ أن يظهروا عليكم ﴿ واخشون ﴾ أجمع القرّاء السبعة على حذف الياء بعد النون لحذفها في الرسم أي : واخلصوا الخشية لي وحدي فإنّ دينكم قد اكتمل بدره وجل عن انمحاق محله وقدره ورضي به الآمر ومكّنه على رغم أنوف الأعداء وهو قادر وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل :
﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ أي : الذي أرسلت به أكمل خلقي محمداً صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية من كتابكم تقرأونها لو علينا معاشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال : أي أية ؟ قال :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ﴾ قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة، أشار عمر إلى أنّ ذلك اليوم كان عيداً، قال ابن عباس : كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروي أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :«ما يبكيك يا عمر ؟ » قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فلم يكمل شيء إلا نقص قال :«صدقت »، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل وكانت هجرته في الثاني عشر منه، فقوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ أي : الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا معنى قول ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وقتادة : اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل : أظهرت دينكم وأمتكم من عدوّكم.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ يقتضي أنّ الدّين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم أكثر عمره كان ناقصاً، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب : بأنّ الدين لم يكن ناقصاً بل كان أبداً كاملاً وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو بعد العدم وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله، وقيل : بدخول مكة آمنين ورضيت أي : اخترت لكم الإسلام ديناً من بين الأديان، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ﴾ ( آل عمران، ٨٥ ). وقوله تعالى :﴿ فمن اضطرّ ﴾ متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي، والمعنى : فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات ﴿ في مخمصة ﴾ أي : مجاعة ﴿ غير متجانف ﴾ أي : مائل ﴿ لإثم ﴾ أي : معصية بأن يأكل ذلك تلذّذاً ومجاوزاً حدّ الرخصة كقوله تعالى :﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ ( البقرة، ١٧٣ ) ﴿ فإنّ الله غفور ﴾ له ما أكل ﴿ رحيم ﴾ به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم.
وقوله تعالى :﴿ وما علمتم من الجوارح ﴾ معطوف على الطيبات أي : أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف للعلم به والجوارح جمع جارحة من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين، والهاء للمبالغة سميت ؛ بذلك ؛ لأنّ الجرح الكسب لأنها تكسب الصيد، ومنه قوله تعالى :﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ ( الأنعام، ٦٠ ) أي : كسبتم أو لأنها تجرح الصيد غالباً، وقوله تعالى :﴿ مكلبين ﴾ حال من ضمير علمتم أي : حال كونكم معلّمين هذه الكواسب الصيد والمكلب المؤدّب الجوارح ومغريها مأخوذ من الكلب بسكون اللام وهو الحيوان النابح ؛ لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فأخذ من لفظه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلباً ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فغاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ :( اللهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك ) فأكله الأسد، وقوله تعالى :﴿ تعلمونهنّ ﴾ حال ثانية من ضمير علمتم أو استئناف.
فإن قيل : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم ؟ أجيب : بأنّ فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح فقيهاً عالماً بالشرائط المعتبرة في الشرع لحل الصيد، وفي هذا فائدة جليلة وهي أنّ على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدّهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج في ذلك إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من أخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله ﴿ مما علمكم الله ﴾ أي : من علم التكليب لأنه إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. ﴿ فكلوا مما أمسكن ﴾ أي : الجوارح مستقرّاً إمساكها ﴿ عليكم ﴾ أي : على تعليمكم وإن قتلته بأن لم تأكل منه بخلاف غير المعلّمة فلا يحل صيدها وشروط التعليم فيها ثلاثة أشياء : إذا أرسلت استرسلت، وإذا زجرت انزجرت، وإذا أخذت الصيد أمسكته ولم تأكل منه، وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين، وإن أكل منه فلا تأكل، منه إنما أمسك على نفسه. وعن علي رضي الله تعالى عنه : إذا أكل البازي فلا تأكل وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وبعضهم لا يشترط ذلك في سباع الطير ؛ لأن تأدبها إلى هذا الحدّ متعذر وقال آخرون : لا يشترط مطلقاً وفي هذا الحديث إنّ صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلم من الجوارح.
﴿ واذكروا اسم الله عليه ﴾ في هذه الكناية ثلاثة أوجه أحدها : أنها تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل : واذكروا اسم الله عليه على الأكل ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :( سمّ الله وكل مما يليك ) الثاني : إنها تعود إلى ما علمتم أي : اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :( إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه ) الثالث : إنها تعود إلى ما أمسكن أي : اذكروا اسم الله تعالى على ما أدركتم ذكاته مما أمسكت عليكم الجوارح ﴿ واتقوا الله ﴾ أي : في محرماته ﴿ إنّ الله سريع الحساب ﴾ فيؤاخذكم بما جل ودق.
﴿ اليوم ﴾ الكلام فيه كالكلام فيما قبله ﴿ أحلّ لكم الطيبات ﴾ أي : المستلذات ﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي : ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ حل ﴾ أي : حلال ﴿ لكم ﴾ فأمّا من دخل في دينهم بعد المبعث فلا تحل ذبيحتهم، ولو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته، وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في تقريرهم بالجزية دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، قال صلى الله عليه وسلم :( سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) رواه الإمام مالك ﴿ وطعامكم ﴾ إياهم ﴿ حل لهم ﴾ فلا عليكم أن تطعموهم ولا تبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك.
﴿ والمحصنات من المؤمنات ﴾ أي : الحرائر ﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ وهم اليهود والنصارى أي : حل لكم أن تنكحوهنّ وإن كنّ حربيات. وقال ابن عباس : لا تحل الحربيات وأما الإماء المسلمات فيحل نكاحهنّ في الجملة بخلاف الإماء الكتابيات فلا يحل نكاحهنّ عندنا ويحل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
﴿ إذا آتيتموهنّ أجورهنّ ﴾ أي : مهورهنّ فتقييد الحلّ بإتيانها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وإنّ من تزوّج امرأة وعزم أن لا يعطي صداقها كان في صورة الزاني، وورد فيه حديث وتسميته بالأجر يدل على أنه لا حدّ لأقلّه كما إن أقل الأجر في الإجارة لا يتقدّر ﴿ محصنين ﴾ أي : قاصدين الإعفاف والعقاب. وقيل : متزوّجين ﴿ غير مسافحين ﴾ أي : معلنين بالزنا بهنّ ﴿ ولا متخذي أخدان ﴾ أي : مسرّين بالزنا منهنّ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى قال الشعبي : الزنا ضربان : السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا سراً والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ﴾ ( البقرة، ٢٢١ ) فبقي على التحريم ما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهنّ من جميع المشركات، حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وقرأ الكسائي بكسر صاد المحصنات والباقون بنصبها.
وقوله تعالى :﴿ ومن يكفر بالإيمان ﴾ اختلف المفسرون في معناه فقال ابن عباس ومجاهد : ومن يكفر بالإيمان أي : بالله الذي يجب الإيمان به وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأنه يقال : رب الإيمان ورب الشيء على سبيل المجاز، وقال الكلبي : ومن يكفر بالإيمان أي : بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله لأنّ الإيمان من لوازمها وإطلاق الشيء على لازمه مجاز مشهور، وقال قتادة : إنّ ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله هذه الآية :﴿ ومن يكفر ﴾ بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيماناً ؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتداً ﴿ فقد حبط ﴾ أي : فسد ﴿ عمله ﴾ الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى :﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ وقوله تعالى في آية أخرى :﴿ فيمت وهو كافر ﴾ ( البقرة، ٢١٧ ) أمّا من أسلم قبل الموت فإنّ ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردّة.
﴿ وامسحوا برؤوسكم ﴾ أي : ببعضها. لما روى مسلم :( إنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته ) واكتفى بمسح البعض لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية وهي الشعر الذي بين النزعتين والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه والباء إذا دخلت على متعدّد كما في الآية تكون للتبعيض أو على غيره كما في قوله تعالى :﴿ وليطوفوا بالبيت العتيق ﴾ ( الحج، ٢٩ ) تكون للإلصاق.
فإن قيل : صيغة الأمر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة فهلا أوجبتم التعميم أيضاً ؟ أجيب : بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر ببدله ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.
فإن قيل : المسح على الخف بدل فهلا وجب تعميمه كمُبْدَله ؟ أجيب : بقيام الإجماع على عدم وجوبه، ولا فرق بين أن يمسح على بشرة الرأس أو شعرها ولو شعرة واحدة في حدّ الرأس ؛ لأنّ ذلك يصدق عليها مسمى الرأس عرفاً إذ الرأس اسم لما رأس وعلا وقوله تعالى :﴿ وأرجلكم ﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي بنصب اللام عطفاً على وجوهكم. وقيل : على أيديكم والباقون بالكسر على الجوار ومنهم من عطف على المجرور على قراءة الجرّ والممسوح ليفيد مسح الخف، وعطف على المنصوب على قراءة النصف على المغسول ليفيد غسل الرجل المتجرّدة منه فيفيد كل من القراءتين غير ما أفادته الأخرى وقوله تعالى :﴿ إلى الكعبين ﴾ وهم العظمان الناتئان في كل رجل من جانبين عند مفصل الساق والقدم دل على دخولهما في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه وقد مرّ.
تنبيه : الفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح فيه دليل على وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ولو قطع بعض القدم وجب غسل الباقي وإن قطع فوق الكعب فلا فرض عليه، وندب غسل الباقي كما مرّ في اليد ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات.
﴿ وإن كنتم جنباً ﴾ من جماع وغيره ﴿ فاطهروا ﴾ أي : بالغسل لجميع البدن ؛ لأنه أطلق ولم يخص الأعضاء كما في الوضوء ﴿ وإن كنتم مرضى ﴾ أي : مرضاً يضره الماء ﴿ أو على سفر ﴾ أي : مسافرين سفراً مباحاً طويلاً أو قصيراً ﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾ أي : الموضع المطمئن من الأرض الذي يقضي فيه حاجته الإنسان التي لا بد منها سمي باسمه الخارج للمجاورة. قيل : وفي ذلك حكمة وهي شدة عجز الإنسان ليكف عن إعجابه وكبره وترفعه وفخره كما حكي أنّ بعض الأمراء لقي بعض البله فلم يفسح له فغضب وقال : كأنك لم تعرفني فقال : بلى والله إني لأعرفك أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وحقق الباقون الهمزتين معاً.
﴿ أو لامستم النساء ﴾ بالذكر أو غيره أمنيتم أم لا وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين اللام والميم والباقون بالألف ﴿ فلم تجدوا ماء ﴾ بعد طلبه لفقده حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره ﴿ فتيمّموا ﴾ أي : اقصدوا ﴿ صعيداً ﴾ أي : تراباً ﴿ طيباً ﴾ أي : طهوراً خالصاً ﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ مع المرفقين ﴿ منه ﴾ بضربتين والباء للإلصاق وبينت السنة أنّ المراد استيعاب العضوين بالمسح وتقدّم مثل هذه الآية في النساء في البيضاوي، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة.
﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم ﴾ في الدين ﴿ من حرج ﴾ أي : ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم ﴿ ولكن يريد ليطهركم ﴾ من الأحداث والذنوب فإنّ الوضوء يكفر الذنوب ﴿ وليُتِمّ نعمته عليكم ﴾ ببيان شرائع الدين ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ نعمه فيثيبكم، قال البيضاوي : والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وإنّ آلتيهما مائع وجامد وموجبهما حدث أصغر أو أكبر، وإنّ المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وإنّ الموعود عليه تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ واذكروا نعمة الله ﴾ يشعر بسبق النسيان وكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات ؟ أجيب : بأنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصار غاية ظهورها وكثرتها سبباً لوقوعها في محل النسيان ﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ ميثاقه ﴾ أي : عقده الوثيق ﴿ الذي واثقكم به ﴾ أي : بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره والمنشط مفعل من النشاط وهو الأمر الذي ينشط له والمكره مفعل من الكره وهو الأمر الذي تكرهه النفس وأضاف الميثاق الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسه كقوله :﴿ إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾ ( الفتح، ١٠ ) وأكد ذلك بأنكم التزمتموه ﴿ إذا ﴾ أي : حين ﴿ قلتم سمعنا وأطعنا ﴾ وفي ذلك تذكير بما أوجب الله له صلى الله عليه وسلم عليكم من الشكر بهدايته لكم إلى الإسلام ثم حذركم عن نقض تلك العهود بقوله :﴿ واتقوا الله ﴾ أي : في ميثاقه أن تنقضوه ﴿ إنّ الله ﴾ الذي له صفات الكمال ﴿ عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بذات الصدور ﴾ أي : بما في القلوب فبغيره أولى فيجازيكم عليها فضلاً عن جليات أعمالكم، وقيل : المراد بالميثاق هو الذي أخذه الله منهم حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى قاله مجاهد وقيل : المراد به الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله على التوحيد والشرائع قاله السدي، وأدغم أبو عمرو القاف في واثقكم في الكاف بخلاف عنه.
تنبيه : يؤخذ من هذا أن التكاليف مع كثرتها محصورة في نوعين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى :﴿ كونوا قوّامين ﴾ إشارة إلى التعظيم لأمر الله ومعنى القيام هو أن تقوم لله بالحق في كل ما يلزمك وقوله تعالى :﴿ شهداء بالقسط ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان، الأوّل : قال عطاء : لا تخاف في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني : أمرهم بالصدق في أفعالهم وأقوالهم، وتقدّم نظير هذه الآية في النساء، إلا أنّ هناك قدم لفظة القسط وهنا أخرّها، قال ابن عادل : فكان الغرض من ذلك والله أعلم إنّ آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة والتي هنا : جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ بالأمر بالقيام ؛ به لأنه أردع للمؤمنين ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه. وقال البيضاوي : وتكرير هذا الحكم إمّا لاختلاف السبب كما قيل : إنّ الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ولمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ ﴿ واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون ﴾ فيجازيكم به.
روي أنّ المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً وذلك بعسفان وهو وادٍ بينه وبين مكة مرحلتان في غزوة ذي أنمار فلما صلّوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا : إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف، رواه مسلم وغيره والآية إشارة إلى ذلك.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم أي : يطلب منهم مالاً قرضاً لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، لكن في رواية البيهقي أنّ المقتولين كانا معاهدين لا مسلمين وأن الخروج كان لبني النضير لا إلى قريظة فقالوا : نعم يا أبا القاسم وكانوا قد عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقالوا : قد آن لك أن تأتينا أو تسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحش : أنا، فجاء إلى رحا عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده فنزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً وقال :( لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسأل عني فقل : توجه إلى المدينة ) ففعل ذلك حتى تناهوا إليه ثم تبعوه، وقيل : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني ؟ قال :«الله » فأسقطه جبريل من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :«من منعك مني ؟ » فقال : لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فنزلت.
﴿ إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ﴾ ليفتكوا بكم يقال : بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به قال تعالى :﴿ ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ﴾ ( الممتحنة، ٢ ) ومعنى بسط اليد مدّها إلى المبطوش به، ألا ترى إلى قولهم : فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى ﴿ فكف أيديهم عنكم ﴾ أي : منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم ﴿ واتقوا الله ﴾ في جميع أموركم ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ فإنه الكافي لإيصال الخير ودفع الشر.
روي أنّ بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء بالمدّ أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبابرة وقال : إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا فيها، وإني ناصركم وأمر موسى صلوات الله وسلامه عليه أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به يوثقه عليهم واختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل له بهم النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا إجراماً عظيماً وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم، وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدّثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهودا ويوشع بن نون من سبط افراثيم بن يوسف وكانا من النقباء ﴿ وقال ﴾ لهم ﴿ الله إني معكم ﴾ أي : بالعون والنصرة ﴿ لإن ﴾ لام قسم ﴿ أقمتم الصلاة ﴾ التي هي وصلة العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها وآتيتم الزكاة التي تقرّب العبد إلى الله عز وجلّ ﴿ وآمنتم برسلي ﴾ أي : بجميع الرسل ﴿ وعزرتموهم ﴾ أي : نصرتموهم وقيل : التعزير التعظيم وقيل : هو الثناء بخير قاله يونس وهو قريب من الثاني.
فإن قيل : لم أخرّ الإيمان بالرسل عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدّم عليهما ؟ أجيب : بأنّ اليهود كانوا مقرّين بأنه لا بدّ في حصول النجاة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرّين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنّ بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا بدّ من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود وإلا لم يكن لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وأقرضتم الله قرضاً حسناً ﴾ داخل تحت إيتاء الزكاة فما فائدة إعادته ؟ أجيب : بأنّ المراد بالزكاة الواجبة وبالقرض الصدقة المندوبة وخصها تنبيهاً على شرفها وقرضاً يحتمل المصدر والمفعول به، ولما كان الإنسان محل النقصان فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صلاح العمل قال : سدّ الجواب القسم المدلول عليه باللام في لئن مسد جواب الشرط ﴿ لأكفرنّ ﴾ أي : لأسترنّ ﴿ عنكم سيآتكم ﴾ أي : فعلكم الذي من شأنه أن يسوء ﴿ ولأدخلنكم ﴾ فضلاً ورحمة مني ﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي : من شدّة الريّ ﴿ فمن كفر بعد ذلك ﴾ الميثاق ﴿ منكم فقد ضلّ ﴾ أي : ترك وضيع ﴿ سواء السبيل ﴾ أي : أخطأ طريق الحق والسواء في الأصل الوسط.
فإن قيل : من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضلّ سواء السبيل، أجيب : بأنّ الضلال بعد أظهر وأعظم لأنه الكفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره لأنه قد يكون له قبل ذلك شبهة يتوهم له معذرة، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام وقد تقدّم ولما نقضوا الميثاق مرّة بعد مرّة بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمهم صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم في سورة البقرة.
روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم.
وفي رواية البخاري أنه رجل من بني زريق حليف لليهود وكان منافقاً حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهنّ وذلك أشدّ السحر، ثم إنّ الله تعالى شفاه وأعلمه أنّ السحر في بئر ذروان فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها : أفلا أخرجته ؟ فقال :( لا أمّا أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرّاً فأمرت به فدفنته ) وهو في معجم الطبرانيّ الكبير وهذا لفظه، وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال :( كان رجل يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار فأتاه ملكان يعوذانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما : أتدري ما وجعه ؟ قال فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري فلو أرسل رجلاً لوجد الماء أصفر فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلها فبرئ، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه )، وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ امرأة يهودية سمّت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك فقال :( ما كان الله ليسلطك على ذلك أو قال عليّ ) قالوا : أفلا نقتلها ؟ قال :«لا » قال أنس : فما زلت أعرفها في لهوات النبيّ صلى الله عليه وسلم فانظر إلى عفوه صلى الله عليه وسلم واقتد به )، وفي ذلك غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر ربه تعالى، وقيل : فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.
فإن قيل : هلا قال من النصارى ؟ أجيب : بأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة الله تعالى لقولهم لعيسى :﴿ نحن أنصار الله ﴾ ( آل عمران، ٥٢ ) وليسوا موصوفين به قال الحسن : فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى ﴿ فنسوا ﴾ أي : تركوا ترك الناسي ﴿ حظاً ﴾ أي : نصيباً عظيماً يتنافس في مثله ﴿ مما ذكّروا به ﴾ أي : في الإنجيل من الإيمان ومن أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ونقضوا الميثاق ﴿ فأغرينا ﴾ أي : أوقعنا ﴿ بينهم ﴾ أي : النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية وكذا بينهم وبين اليهود ﴿ العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ أي : بتفرّقهم واختلاف أهوائهم فكل فرقة تكفر الأخرى وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية والباقون بتحقيقهما ﴿ وسوف ينبئهم الله ﴾ أي : يجزيهم في الآخرة ﴿ بما كانوا يصنعون ﴾ فيجازيهم عليه.
وجملة الكلام : إنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم من الأنبياء إلى أن ادعوا ذلك.
﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ فلم يعذبكم بذنوبكم ﴾ أي : فإن صحّ ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم ولا يعذب الأب ولده ولا الحبيب حبيبه وقد عذّبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودة، وقرأ البزّي في الوقف فَلِمَهْ بخلاف عنه ﴿ بل أنتم بشر من ﴾ جملة ﴿ من خلق ﴾ه الله تعالى من البشر لكم ما لهم وعليكم ما عليهم ﴿ يغفر لمن يشاء ﴾ أي : ممن خلقه منكم ومن غيركم تفضلاً منه تعالى ﴿ ويعذب من يشاء ﴾ كذلك كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين لا اعتراض عليه، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام من يغفر والياء في الميم من يعذب بخلاف عنه ورقق ورش الراء على أصله ﴿ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ﴾ أي : وأنتم مما بينهما فمن كان هكذا وقدرته هكذا كيف يستحق عليه البشر الضعيف حقاً واجباً وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته الناقصة ديناً لازماً ﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ﴾ ( الكهف، ٥ ) ثم قال :﴿ وإليه المصير ﴾ أي : المرجع فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
يقال : فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حركته وصار أقلّ مما كان عليه وسميت المدّة بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بترك الشرائع واختلفوا في مدّة الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال أبو عثمان النهدي : ستمائة سنة، وقال قتادة : خمسمائة وستون سنة وقال معمر والكلبيّ : خمسمائة وستة وأربعون سنة وعن الكلبيّ : بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبيّ، وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسيّ، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكون إليه قال البقاعي : ولعله عبّر بالمضارع في يبيّن إشارة إلى أنّ دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه فكلما درست سنة منح الله تعالى بعالم يردّ الناس إليها بالكتاب العزيز المعجز القائم أبداً فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبيّ مجدّد إلا عند الفتنة التي لا تطيقها العلماء وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج.
ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ أن ﴾ أي : كراهة أن ﴿ تقولوا ﴾ أي : إذا حشرتم وسئلتم عن إهمالكم ﴿ ما جاءنا من بشير ﴾ أيّ بشير فمن زائدة لتأكد النفي أي : يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز ﴿ ولا نذير ﴾ أي : يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم وقوله تعالى :﴿ فقد جاءكم بشير ونذير ﴾ متعلق بمحذوف أي : لا تعتذروا بما جاءنا من بشير ولا نذير فلا جاءكم بشير ونذير ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ أي : فيقدر على الإرسال تَتْراً واحداً بعد واحد على التعاقب كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قال :( كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً ) وقال أبو عبد الرحمن الجيلي : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المسلمين المهاجرين ؟ فقال عبد الله له : يا هذا ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم قال : فأنت غنيّ من الأغنياء قال : ألك خادم ؟ قال : نعم قال : أنت من الملوك. وقال السديّ : وجعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه نهر جارٍ فهو ملك.
وثالثها : قوله تعالى :﴿ وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ﴾ وذلك، لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام كفلق البحر لهم وأهلك عدوّهم وأورثهم أموالهم وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأخرج لهم المياه الغزيرة من الحجر وأظلّ فوقهم الغمام، ولم يجتمع الملك والنبوّة لقوم كما اجتمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله تعالى وهم أحباب الله وأنصار دينه، وقيل : المراد بالعالمين عالمو زمانهم. وقال الكلبيّ : إن جعلت العالمين عامّاً وجب تخصيص «ما » لئلا يلزم أنهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمّة من الكرامة والفضل وغير ذلك وإن خصصته بعالمي زمانهم ف«ما » باقية على عمومها إذ لا محذور.
﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة ﴾ أي : المطهرة وهي أرض بيت المقدس سمّيت بذلك لأنها كانت مسكن الأنبياء والمؤمنين وقال مجاهد : هي الطور وما حوله. وقال الكلبيّ : هي دمشق وفلسطين وبعض الأردُنّ وهو بضم الدال وتشديد النون اسم نهر أو كورة بالشأم قاله الجوهريّ، وقال قتادة : هي الشأم كلها ﴿ التي كتب الله لكم ﴾ أي : في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقال السديّ : أمركم بدخولها.
فإن قيل : على القول الأوّل : كيف كتبها لهم بعد قوله تعالى بعد ﴿ فإنها محرمة عليهم ﴾ ؟ أجيب : بأجوبة أوّلها : قال ابن عباس : إنها كانت هبة ثم حرّمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم، ثانيها : اللفظ وإن كان عاماً لكم المراد به الخصوص فكأنها كتبت لبعضهم وحرّمت على بعضهم، ثالثها : إنّ الوعد بقوله تعالى :﴿ كتب الله لكم ﴾ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط، رابعها : إنها محرّمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون حصل ما كتب ﴿ ولا ترتدّوا على أدباركم ﴾ أي : ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من العدوّ ﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾ أي : في سعيكم، وذلك أنّ قوم موسى لما أخرجوا من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشأم.
قال الكلبيّ : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له : انظر ما أدرك بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريّتك، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشأم أرض الموعد، ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض فلما دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساماً عظيمة، قال ابن عادل : قال المفسرون فأخذهم أحد أولئك الجبارين وجعلهم في كمّه مع فاكهة قد حملها، من بساتينه، وأتى بهم للملك ونثرهم بين يديه وقال تعجيباً للملك : هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف هؤلاء النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلين منهم وهما يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا فتى موسى وكان من سبط يهوذا فإنهما سهّلا الأمر وقالا : هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسامهم عظيمة إلا أنّ قلوبهم ضعيفة، وأمّا العشرة الباقية من النقباء فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، ويقولون لأصحابهم : قالوا : نجعل علينا رؤساء وننصرف إلى مصر.
فذلك قوله تعالى :﴿ قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين ﴾
﴿ قال رجلان من الذين يخافون ﴾ أي : مخالفة أمر الله تعالى ﴿ أنعم الله عليهما ﴾ أي : بالتوفيق والعصمة ﴿ ادخلوا عليهم الباب ﴾ أي : باب قرية الجبّارين ولا تخشوهم فإنا رأيناهم وأجسادهم عظيمة بلا قلوب ﴿ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ﴾ أي : لأنّ الله تعالى منجز وعده ﴿ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ﴾ به ومصدّقين بوعده فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما.
فإن قيل : كيف ينزل المنّ والسلوى في حال العقوبة ؟ أجيب : بأنه سبب البقاء وهو أبقى للعقوبة فهو كإقامة الحدود مع بقاء الخطاب، واختلفوا هل كان موسى وهارون عليهما السلام فيهم أو لا ؟ قال البغويّ : الأصحّ أنهما كانا فيهم إلا أنه كان ذلك راحة لهما وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم، وهو أبلغ في الإجابة أن يشاهدوهما في حال العقوبة فلا يصيبهما ما أصابهم ولم يدخل الأرض المقدّسة أحد ممن قال لن ندخلها بل هلكوا في التيه، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم واختلفوا هل مات موسى وهارون في التيه أم لا ؟ قال البيضاويّ : الأكثرون إنهما كانا معهم في التيه وإنهما ماتا فيه، مات هارون قبل موسى وموسى بعده بسنة، قال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موسى وكانا خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل فقالوا : قتله لحبّنا إياه وكان محببّاً في بني إسرائيل فتضرّع موسى إلى ربه فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى هارون فإني باعثه فانطلق بهم إلى قبره فناداه يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا ولكن مت قال : فعد إلى مضجعك وانصرفوا وعاش موسى صلى الله عليه وسلم بعده سنة.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( جاء ملك الموت إلى موسى فقال له : أجب أمر ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فقال ملك الموت : يا رب إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال : فردّ الله عينه وقال : ارجع إلى عبدي وقل له : الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة قال : ثم مه قال : ثم تموت قال : الآن من قريب ؟ قال : رب أدنني من الأرض المقدّسة رمية حجر ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ) قال وهب : خرج موسى ليقضي حاجة فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم : يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر فقالوا : لعبد كريم على ربه فقال : إنّ هذا العبد لمن الله بمنزلة ما رأيت كاليوم أحسن منه مضجعاً فقالت الملائكة : يا صفيّ الله تحب أن يكون لك ؟ قال : وددت قالوا : فانزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربك قال : فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل نفس فقبض الله تعالى روحه ثم سوّت عليه الملائكة التراب وقيل : إنّ ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض الله روحه وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله تعالى يوشع عليه السلام نبياً فأخبرهم أنّ الله تعالى قد أمرهم بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق وأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر وفتحوها في الشهر السابع ودخلوها فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال : اللهمّ اردد الشمس عليّ وقال للشمس : إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فردّت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين.
وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً :( إنّ الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس ) ثم تتبّع ملوك الشأم فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشأم وصارت الشأم كلها لبني إسرائيل وفرق عمّاله في نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى الله تعالى إلى يوشع إنّ فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلمّ ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر، وكان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن في جبل إبراهيم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة وتدبر أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعاً وعشرين سنة فسبحان الباقي بعد فناء خلقه.
ولما ندم موسى عليه السلام على الدعاء عليهم قال تعالى :﴿ فلا تأس على القوم الفاسقين ﴾ فبين تعالى أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
فإن قيل : كيف كان قول هابيل إنما يتقبل الله من المتقين جواباً لقوله لأقتلنك ؟ أجيب : بأنه لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ومالك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول فأجابه بكلام حليم مختصر جامع لمعانٍ وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محظوظاً لا في إزالة حظ المحسود فإنّ ذلك مما يضرّه ولا ينفعه وأنّ الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متَّقٍ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك وقد كنت وكنت فقال : إني أسمع الله يقول :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾.
فإن قيل : كيف قال : أريد أن تبوء بإثمي وإثمك وإرادة القتل والمعصية لا تجوز ؟ أجيب : بأنّ ذلك ليس بحقيقةِ إرادة، لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً وإن لم يكن مريداً حقيقة ﴿ وذلك جزاء الظالمين ﴾ أي : الراسخين في وصف الظلم وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاء لي بإحساني في إيثاري حياتك على حياتي وذلك جزاء المحسنين.
وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض وشربت الأرض الدم فسأله آدم عليه السلام بعد مجيئه من مكة عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً فقال : بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك قال : فأين دمه إن كنت قتلته فحرّم الله عز وجل على الأرض من يومئذٍ أن تشرب دماً بعده أبداً، وعن الواقدي : أنّ السودان كلهم من ولده وعن محمد بن إسحاق : كان نوح نائماً فرآه ابنه حام عرياناً فلم يستره فاسودّ في الوقت فالسودان من ولده ورآه ابنه سام فستره.
وروي أنّ آدم صلوات الله وسلامه عليه مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه لما أتى من مكة إلى الهند رثاه بشعر وهو :
تغيرت البلاد ومن عليها | فوجه الأرض مغبرّ قبيح |
تغير كل ذي طعم ولون | وقل بشاشة الوجه المليح |
وروي أنه رثاه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يقول الشعر فنظر إلى المرثية فإذا هي سجع فقال : إنّ هذا يقوم منه شعر فرد المقدّم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدّم فوزنه شعراً وزيد فيه أبيات منها :
أرى طول الحياة عليّ غماً | فهل أنا من حياتي مستريح |
ومالي لا أجود بسكب دمع | وهابيل تضمنه الضريح |
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل ).
﴿ ومن أحياها ﴾ أي : بسبب من الأسباب كإنقاذ من هلكة أو غرق أو دفع من يريد أن يقتلها ظلماً ﴿ فكأنما أحيا الناس جميعاً ﴾ قال ابن عباس : من حيث عدم انتهاك حرمتها وصونها قال سليمان بن علي : قلت للحسن يا أبا سعيد أهي لنا أي : هذه الآية كما كانت لبني إسرائيل ؟ قال : إي، والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا اه. ومما يحسن إيراده هنا ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقيل : إنه للشافعيّ رحمه الله تعالى :
الناس من جهة التمثيل أكفاء | أبوهم آدم والأمّ حوّاء |
نفس كنفس وأرواح مشاكلة | وأعظم خلقت فيهم وأعضاء |
فإن يكن لهم في أصلهم حسب | يفاخرون به فالطين والماء |
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لمن استهدى أدلاء |
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه | وللرجال على الأفعال أسماء |
وضدّ كل امرئ ما كان يجهله | والجاهلون لأهل العلم أعداء |
ففز بعلم تعش حياً به أبداً | فالناس موتى وأهل العلم أحياء |
ونزل في العرنيين ( لما قدموا المدينة وهم مرضى أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل ).
﴿ إلا الذين تابوا ﴾
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم | ألا كلّ ذي لب إلى الله وَاسِلَ |
فإن قيل : قال تعالى :﴿ لا يذوقون فيها برداً ﴾ ( النبأ، ٢٤ ) فهو ينافي ما ذكر أجيب : بأن المراد بالبرد في الآية النوم فلا منافاة.
﴿ والسارق والسارقة ﴾ موصولة مبتدأ أي : والذي سرق والتي سرقت ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو ﴿ فاقطعوا أيديهما ﴾ أي : يمين كلّ واحد منهما من الكوع كما بيّنته السنة كما بيّنت أنه لا بدّ أن يكون المسروق ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه، وأنه إذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ثم اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى ثم بعد ذلك يعزر.
ثم علّل تعالى ذلك بقوله :﴿ جزاء بما كسبا ﴾ أي : فعلا من ذلك ثم علّل تعالى هذا الجزاء بقوله :﴿ نكالاً ﴾ أي : عقوبة لهما ﴿ من الله ﴾ وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال :﴿ والله عزيز ﴾ أي : غالب على أمره ﴿ حكيم ﴾ أي : بالغ الحكم والحكمة في خلقه.
﴿ ألم تعلم ﴾ الاستفهام للتقرير والخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل : معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطاباً لكل أحد من الناس ﴿ أنّ الله له ملك السماوات والأرض ﴾ أي : أنّ الملك خالص له عن جميع الشوائب ﴿ يعذب من يشاء ﴾ تعذيبه ﴿ ويغفر لمن يشاء ﴾ المغفرة له ﴿ والله على كلّ شيء قدير ﴾ أي : ومنه التعذيب والمغفرة فليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوّه.
روي أنّ شريفاً في خيبر زنا بشريفة وكانا محصنين وحدّهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما وقالوا : إنّ هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكن الضرب فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم أي : تسويد الوجه من الحُمّة بالضم والتشديد وهي السواد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما في كتابك ؟ فقال :( هل ترضون بقضائي ؟ ) فقالوا : نعم، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا ؟ ) قالوا : نعم فقال : هو أي رجل فيكم ؟ فقالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بن عمران في التوراة، قال :«فأرسلوا إليه » ففعلوا فأتاهم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنت ابن صوريا ؟ » قال : نعم قال :«أعلم اليهود » قال : كذلك يزعمون قال :«تجعلونه بيني وبينكم ؟ » قالوا : نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ؟ ) قال : نعم فوثب عليه سفلة اليهود فقال : خفت إن كذبت أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيّ الأميّ العربيّ الذي بشر به المرسلون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده وقال :( اللهمّ إني أول من أحيا أمرك إذا ما أتوه فأنزل الله عز وجل ﴿ يا أيها الرسول ﴾ الآية.
وروي أنّ اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ ) قالوا : نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام : كذبتم إنّ فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهما يده على آية الرجم وقرأ ما بعدها فقال له عبد الله : ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرّجم قالوا : صدقت يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : فرأيت الرجل يقي بيده عن المرأة الحجارة ).
فائدة : كانت آية الرجم في القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها، روى البيهقي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في خطبته : إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم وسيأتي الكلام في سورة الأحزاب أنّ هذه الآية كانت فيها.
﴿ ومن يرد الله فتنته ﴾ أي : إضلاله أو فضيحته ﴿ فلن تملك ﴾ أي : لن تستطيع ﴿ له من الله شيئاً ﴾ في دفعها إذا لم تملك أنت، وأنت أقرب الخلق إلى الله تعالى فمن يملك ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء من الهدى ﴿ الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ﴾ أي : من الكفر ولو أراده لكان وهذا كما ترى نصّ على فساد قول المعتزلة بأنه أراد ذلك ﴿ لهم في الدنيا خزي ﴾ أي : ذلٌّ بالفضيحة والجزية والخوف من المؤمنين ﴿ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ وهو الخلود في النار والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله تعالى :﴿ ومن الذين ﴾ وإلا فللفريقين.
﴿ سماعون للكذب ﴾ كرره للتأكيد ﴿ أكَّالون للسحت ﴾ وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال الله تعالى :﴿ يمحق الله الربا ﴾ ( البقرة، ٢٧٦ ) والربا باب منه وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام، وعن الحسن رحمه الله تعالى : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب وعنه صلى الله عليه وسلم :( كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بضم الحاء والباقون بالسكون.
﴿ فإن جاؤوك ﴾ أي : لتحكم فيهم ﴿ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ هذا تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا هل نسخ هذا التخيير أم لا ؟ فقال أكثر أهل العلم : هو محكم ثابت وليس في سورة المائدة منسوخ، وحكّام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاؤوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعيّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وقال قوم : يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بينهم والآية منسوخة نسخها قوله تعالى :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ ( المائدة، ٤٩ ) وهو قول مجاهد وعكرمة ومرويّ ذلك أيضاً عن ابن عباس وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى :﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾ ( المائدة، ٢ ) نسخها قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ ( التوبة، ٥ ) وقوله تعالى :﴿ فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ ( المائدة، ٤٢ ) نسخها قوله تعالى :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ ( المائدة، ٤٩ ) ومذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ الذمّيين وإن اختلفت ملتهما كيهوديّ ونصرانيّ يجب الحكم بينهما عند الترافع، وكذا الذمي مع المعاهد بخلاف المعاهدين فإنّ الحكم لا يجب بينهما ؛ لأنهم لم يلتزموا بأحكامنا ولا التزمنا دفع بعضهم عن بعض فيحمل التخيير على هذا، والآية الأخرى على أهل الذمّة ويعلم من ذلك أنّ الحكم بين الحربيين لا يجب بطريق الأولى ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدّهما وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمه ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعاً ﴿ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً ﴾ بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإنّ الله تعالى يعصمك من الناس ﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ﴾ أي : بالعدل الذي أمر الله تعالى به ﴿ إنّ الله يحب ﴾ أي : يثيب ﴿ المقسطين ﴾ أي : العادلين في الحكم.
﴿ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ﴾ استفهام تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أنّ الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي هو عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا منه ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم ﴿ ثم يتولون ﴾ أي : يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم ﴿ من بعد ذلك ﴾ التحكيم وهذا داخل في حكم التعجب فإنه معطوف على يحكمونك ﴿ وما أولئك ﴾ أي : السعداء من الله ﴿ بالمؤمنين ﴾ أي : بكتابهم لإعراضهم عنه أوّلاً أو بك وبه.
وقرأ الكسائي هذه الألفاظ الخمسة وهي : العين بالعين إلى آخرها بالرفع على أنها جمل معطوفة على «أنّ » وما في حيزها باعتبار المعنى، وكأنه قيل : كتبنا عليهم النفس بالنفس والعين بالعين فإنّ الكتابة والقراءة يقعان على الجمل كالقول أو مستأنفة ووافق الكسائي ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في الجروح فقط والباقون بالنصب في الجميع وسكن نافع الذال من الأذن وقرأ الباقون برفعها.
﴿ فمن تصدّق به ﴾ أي : القصاص بأن مكن من نفسه ﴿ فهو ﴾ أي : التصدّق بالقصاص ﴿ كفارة له ﴾ أي : لما أتاه فلا يعاقب ثانياً في الآخرة وقيل : فمن تصدّق به من أصحاب الحق فالتصدُق به كفارة للمتصدِق يكفر الله تعالى به من سيآته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : تهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق به. وقيل : فهو كفارة للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله ﴾ أي : في القصاص وغيره ﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ أي : الذين تركوا العدل فضلّوا فصاروا كمن يمشي في الظلام فإن كان تديُّناً بالترك كان نهاية للظلم وهو الكفر وإلا كان عصياناً لأنّ الله تعالى أحق أن يخشى ويرجى.
ولما كان الذي نزل قبله كثيراً بين المراد بقوله :﴿ من التوراة ﴾ أي : لما فيها من الأحكام فالأول : صفة لعيسى عليه الصلاة والسلام والثاني : صفة لكتابه أي : فهو والتوراة والإنجيل يتصادقون فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما لم يتخالفوا في شيء بل هو متخلق بجميع ما أتى به ﴿ وهدى وموعظة للمتقين ﴾ أي : كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به.
لما كانت الكتب السماوية من شدّة تصادقها كالشيء الواحد عبّر تعالى بالمفرد فقال :﴿ من الكتاب ﴾ أي : الكتب المنزّلة التي جاء بها الأنبياء من قبل، فاللام الأولى في الكتاب للعهد ؛ لأنه عني به القرآن والثانية للجنس لأنه عني به جنس الكتب المنزلة ﴿ ومهيمناً عليه ﴾ أي : رقيباً على سائر الكتب أي : يحفظها من التغيير والتبديل ويشهد لها بالصحة والثبات ﴿ فاحكم بينهم ﴾ أي : بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك ﴿ بما أنزل الله ﴾ إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك ﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾ فيما خالفه عادلاً ﴿ عما جاءك من الحق ﴾ بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه.
﴿ لكل جعلنا منكم ﴾ أيّها الأمم ﴿ شرعة ﴾ أي : ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية والشرعة هي الطريقة إلى الماء، شبّه بها الدّين لأنها موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية ﴿ ومنهاجاً ﴾ أي : طريقاً واضحاً في الدين ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع وأمثاله مما يدل على أنا لسنا متعبدين بالشرائع المتقدّمة وأنّ كل رسول غير متعبد بشرع من قبله وهو محمول على الفروع وما دلّ على الاجتماع كآية شرع لكم من الدين محمول على الأصول.
﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمّة ﴾ أي : جماعة ﴿ واحدة ﴾ أي : متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ﴿ ولكن ﴾ لم يشأ ذلك بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة ﴿ ليبلوكم ﴾ أي : ليختبركم ﴿ فيما آتاكم ﴾ من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود المطيع منكم والعاصي ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ أي : ابتدروها انتهازاً للفرصة بغاية الجهد فقل : من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه، وقوله تعالى :﴿ إلى الله مرجعكم جميعاً ﴾ أي : بالبعث استئناف فيه تعليل للأمر بالاستباق، ووعد للمبادرين ووعيد للمقصرين ﴿ فينبئكم ﴾ أي : يخبركم ﴿ بما كنتم فيه تختلفون ﴾ أي : من أمر الدين ويجزي كلاً منكم بعمله.
﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ عطف على الكتاب أي : أنزلنا إليك الكتاب والحكم أو على الحق أي : أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون وأن احكم والباقون بضمها ﴿ ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن ﴾ أي : لئلا يفتنوك أي : يضلوك ويصرفوك ﴿ عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾.
روي أنّ أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ فإن تولوا ﴾ أي : عن الحكم المنزل وأرادوا غيره ﴿ فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ﴾ أي : بالعقوبة في الدنيا ﴿ ببعض ذنوبهم ﴾ أي : التي أتوها ومنها التولي ويجازيهم على جميعها في الآخرة ﴿ وإنّ كثيراً من الناس ﴾ أي : هم وغيرهم ﴿ لفاسقون ﴾ أي : خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات.
تنبيه : اختلف في سبب نزول هذه الآية فقال قوم : نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وذلك أنهما اختصما فقال عبادة : إنّ لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من موالاتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتدّت على طائفة من الناس وتخوّفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي آخذ منه أماناً إني أخاف أن تدال علينا اليهود وقال الآخر : أمّا أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشأم وآخذ منه أماناً فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا فجعل إصبعه على حلقه يعني أنه الذبح أي : يقتلكم فنزلت.
﴿ ويقول الذين آمنوا ﴾ قرأه عاصم وحمزة والكسائي بالرفع على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعاً بغير واو على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ وقرأ بالنصب أبو عمرو عطفاً على يأتي باعتبار المعنى وكأنه قال : عسى الله أن يأتي بالفتح، ويقول الذين آمنوا ﴿ أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ أي : غاية اجتهادهم فيها ﴿ إنهم لمعكم ﴾ في الدين أي : يقوله المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وتبجعاً بما منّ الله تعالى عليهم من الإخلاص، أو يقولون لليهود : فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله :﴿ وإن قوتلتم لننصرنكم ﴾ ( الحشر آية : ١١ ) ﴿ حبطت ﴾ أي : بطلت ﴿ أعمالهم ﴾ أي : الصالحة ﴿ فأصبحوا ﴾ أي : فصاروا ﴿ خاسرين ﴾ الدنيا بالفضيحة والآخرة بالعقاب.
الأولى : بنو مدلج وكان رئيسهم ذو الحمار بالحاء المهملة، قال التفتازاني : كان له حمار يقول له : قف فيقف وسر فيسير وكانت النساء أي : نساء أصحابه يتعطرون بروث حماره، وقيل : يعقدون روثه بخمرهنّ فسمي ذو الخمار أيضاً بالخاء المعجمة، وذو هنا وفيما قبله بالواو وعلى الحكاية وهو العنسي بفتح العين وسكون النون منسوب إلى عنس وهو يزيد بن مذحج بن أدد بن كعب العنسي ويلقب بالأسود كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وإلى سادات اليمن وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : وأتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك ) قيل : ومن هو ؟ قال :«فيروز » فَسُرّ المسلمون فبشر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول وكان ذلك أوّل فتح جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والفرقة الثانية : بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر وزعم أنه اشترك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في النبوّة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله : أمّا بعد فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعثه إليه مع رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ) ثم أجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب :( أمّا بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد في جيش كبير حتى أهلكه الله تعالى على يد وحشيّ غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حرب شديد، وكان وحشيّ يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد في جاهليتي وإسلامي.
الفرقة الثالثة : بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة أحد من ارتد وادّعى النبوّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوّل من قوتل بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الردّة فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليه فهزمهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمرّ على وجهه هارباً نحو الشأم، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.
وسبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، الأولى : فزارة قوم عيينة بن حصن، والثانية : غطفان قوم قرّة بن سلمة، والثالثة : بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، والرابعة : بنو يربوع قوم مالك بن نويرة، والخامسة : بعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها لمسيلمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري :
أمت سجاح ووالاها مسيلمة | كذابة في بني الدنيا وكذاب |
واختلف في ( القوم ) في قوله تعالى :﴿ فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ﴾ قال قتادة بن غنم الأزدي : لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قوم هذا » وأشار إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه وكانوا من اليمن، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الإيمان يمان والحكمة يمانية ) وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء أي : لم يعلم ممن هم قاله الجوهري : فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية. وقيل : هم الأنصار وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب على عاتق سلمان رضي الله تعالى عنه فقال :«هذا وذووه »، ثم قال :«لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس » والراجع إلى من محذوف تقديره : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم أو ما أشبه ذلك ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظّمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم ومحبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه ﴿ أذلة على المؤمنين ﴾ أي : عاطفين عليهم متذللين لهم جمع ذليل، وأمّا ذلول فجمعه ذلل ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غبي عنه لأنه ذلولاً لا يجمع على أذلة.
فإن قيل : هلا قال أذلة للمؤمنين ؟ أجيب : بأنه تضمن معنى الحنو والعطف كأنه قال : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع وأنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو للمقابلة في قوله تعالى :﴿ أعزة على الكافرين ﴾ أي : شداد متغلبين عليهم من عزّه إذا غلبه، وقوله تعالى :﴿ يجاهدون في سبيل الله ﴾ حال من الضمير في أعزة أو صفة أخرى لقوم، وقوله تعالى :﴿ ولا يخافون لومة لائم ﴾ يحتمل أن تكون الواو للحال على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط، وإن يكون للعطف على يجاهدون بمعنى : إنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في دينه واللومة المرّة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى الأوصاف المذكورة وقوله تعالى :﴿ فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ أي : يمنحه ويوفق له فيبذل الإنسان جهده في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته ﴿ والله واسع ﴾ أي : كثير الفضل ﴿ عليم ﴾ أي : بمن هو أهله.
ونزل لما قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله إنّ قومنا هجرونا.
ونزل في رفاعة بن زيد وسويد بن حارث اللذين أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهما.
﴿ وإذا ناديتم ﴾ معطوف على الذين قبله أي : ولا تتخذوا الذين إذا ناديتم أي : دعوتم ﴿ إلى الصلاة ﴾ بالأذان ﴿ اتخذوها ﴾ أي : الصلاة ﴿ هزواً ولعباً ﴾ بأن يستهزؤوا بها ويتضاحكوا ويقولوا : صاحوا كصياح العير، وفي هذا دليل على أنّ الأذان مشروع للصلوات المكتوبات.
روى الطبراني أنّ نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أنّ محمداً رسول الله قال : أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شرره في البيت فأحرقه وأهله ﴿ ذلك ﴾ أي : الاتخاذ ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب إنهم ﴿ قوم لا يعقلون ﴾ أي : فإنّ السفه يؤدّي إلى الجهل بالحق والهزء به والعقل يمنع منه ونزل لما سأل نفر من اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به من الرسل فقال : أومن بالله وما أنزل إلينا الآية، فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم.
فإن قيل : المثوبة مختصة بالإحسان كما أنّ العقوبة مختصة بالشر أجيب : بأنّ ذلك على سبيل التهكم كما في قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ ( آل عمران، ٢١ ) وقوله تعالى :﴿ من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير ﴾ ( المائدة، ٦٠ ) بدل من بشر على حذف مضاف قبل لفظ ذلك أو قبل لفظ من لعنه وتقديره : بشر من أهل ذلك من لعنه الله أو بشر من ذلك دين من لعنه الله لأنّ الدّين المشار إليه غير مطابق لقوله :( من لعنه الله ) في معنى يشترك فيه لفظ شر فيقدر أهل قبل ( ذلك ) أو دين قبل ( من ) ليطابق.
فإن قيل : هذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشرّ ومعلوم إنه ليس كذلك أجيب : بأنه إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، فإنهم حكموا بأنّ اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم : هب أنّ الأمر كذلك لكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شرّ من ذلك والذين لعنهم الله في هذه الآية هم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى، وقيل : كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير.
روي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون : يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم وقوله تعالى :﴿ وعبد الطاغوت ﴾ عطف على صلة من كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت وقرأ حمزة بضم باء عبد وكسر تاء الطاغوت على أنه اسم جمع لعبد عطف على من والباقون بنصب الباء من ( عبد ) والتاء من ( الطاغوت ) والطاغوت الشيطان أو العجل لأنه معبود من دون الله ولأنّ عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الطاغوت الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى.
تنبيه : روعي في ( منهم ) معنى ( من ) وفيما قبلها لفظها وهم اليهود ﴿ أولئك ﴾ أي : الملعونون الممسوخون ﴿ شرّ مكاناً ﴾ لأنّ مأواهم النار وجعلت الشرارة للمكان وهي لأهله وفيه مبالغة ليست في قولك أولئك شر و( مكاناً ) تمييز ﴿ وأضل عن سواء السبيل ﴾ أي : طريق الحق وأصل السواء الوسط.
فإن قيل : ذكر ( شر ) و( أضلّ ) يقتضي مشاركة المؤمنين والكفار في الشرّ والضلال وإنّ الكفار أشرّ وأضل مع أنّ المؤمنين لم يشاركوا الكفار في شيء من ذلك أجيب : بأنّ مكان هؤلاء في الآخرة شر وأضل من مكان المؤمنين في الدنيا لما يلحقهم فيها من الشرّ والضلال الحاصل لهم بالهموم الدنيوية كسماع الأذى وغيره، أو إنّ ذلك على سبيل التنزل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً بالحجة وهذا أولى.
﴿ وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد ﴾ أي : قالوا ذلك والحال إنهم قد ﴿ دخلوا ﴾ إليكم متلبسين ﴿ بالكفر وهم قد خرجوا ﴾ من عندكم متلبسين ﴿ به ﴾ أي : الكفر كما دخلوا لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك ﴿ والله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾ من الكفر وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم وفي هذا وعيد لهم.
فإن قيل : لم عبّر في الأوّل بيعملون وفي الثاني بيصنعون ؟ أجيب : بأنّ كل عامل لا يسمّى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب ولذلك ذم بهذا خواصهم ولأنّ ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية لأنّ النفس تلتذ بها وتميل إليها، ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغ الذمّ فيدخل في الذمّ كل من كان قادراً على النهي عن المنكر من العلماء أو غيرهم وتركه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي أشد آية نزلت في القرآن، وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
فإن قيل : قد تقدّم أنّ قوله :﴿ يد الله مغلولة ﴾ عبارة عن البخل فما تفعل في قوله تعالى :﴿ غلت أيديهم ﴾ ومن حقه أن يطابق ما تقدّمه ؟ أجيب : بأنه يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وأنكدهم والمطابقة على هذا ظاهرة ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم كما قال تعالى :﴿ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل ﴾ ( غافر، ٧١ ) وعلى هذا تكون المطابقة حاصلة من حيث لفظ ( مغلولة ) و( غلت ) من حيث ملاحظة أنّ الأصل في القول الشنيع أن يقابل بالدعاء على قائله ﴿ ولعنوا ﴾ أي : أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم ﴿ بما قالوا ﴾ فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله :﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود وإنّ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه جميعاً ﴿ ينفق كيف يشاء ﴾ أي : هو مختار في إنفاقه يضيق تارة ويوسع أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته لا اعتراض عليه وقيل : القائل هذه المقالة فنحاص بن عازوراء فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله : أشركهم الله تعالى فيها.
﴿ وليزيدنّ كثيراً منهم ﴾ أي : ممن أراد الله فتنته ثم ذكر فاعل الزيادة فقال :﴿ ما أنزل إليك من ربك ﴾ من القرآن ﴿ طغياناً ﴾ أي : تمادياً في الجحود ﴿ وكفراً ﴾ بآيات الله فيزدادون على كفرهم وطغيانهم طغياناً وكفراً مما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء ﴿ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ﴾ فكل فرقة منهم تخالف الأخرى فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم.
﴿ كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ﴾ أي : كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس بالفاء الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وقيل : كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم، وعن قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس ﴿ ويسعون في الأرض فساداً ﴾ أي : ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم وإثارة الحرب والفتن وهتك المحارم ﴿ والله لا يحبّ المفسدين ﴾ أي : فلا يجازيهم إلا شراً.
﴿ يا أيها الرسول بلغ ﴾ جميع ﴿ ما أنزل إليك من ربك ﴾ أي : لا تكتم شيئاً منه خوفاً أن تنال بمكروه ﴿ وإن لم تفعل ﴾ أي : وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك ﴿ فما بلغت رسالته ﴾ أي : لأنّ كتمان بعضها ككتمان كلها أي : ولأنّ بعضها ليس بالأولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن كتمت آية لم تبلغ رسالتي واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل : نزلت في عتب اليهود وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزؤون به ويقولون : تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك نزلت هذه الآية وقيل : نزلت في الجهاد وذلك أنّ المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً من حثهم على الجهاد وقيل : لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى :﴿ يا أيها النبيّ قل لأزواجك ﴾ ( الأحزاب، ٢٨ ) فلم يعرضها عليهنّ خوفاً من اختيارهنّ الدنيا فنزلت وقيل غير ذلك وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بألف بعد اللام وكسر التاء والباقون بغير ألف ونصب التاء ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ أي : يحفظك ويمنعك منهم.
فإن قيل : أليس قد شج وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وأوذي بضروب من الأذى ؟ أجيب : بأنّ معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك، وفي هذا تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلايا فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل : نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.
وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :( بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت ) وعن أنس رضي الله تعالى عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال :( انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس ) قال البيضاويّ وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد بالتبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه اه.
قال بعض العارفين : ولهذا قال تعالى :﴿ بلغ ما أنزل إليك ﴾ ولم يقل ما تعرّفنا به إليك، واعلم أنّ المراد من الناس ههنا الكفار بدليل قوله تعالى :﴿ إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ أي : لا يمكنهم مما يريدون.
وروي ( أنه عليه الصلاة والسلام نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابيّ وهو نائم وأخذ سيفه واخترطه وقال : من يمنعك مني يا محمد ؟ قال :«الله تعالى » فرعدت يد الأعرابيّ وسقط من يده وضرب رأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ).
فإن قيل : بم رفع ( الصابئون ) وكان حقه والصابئين ؟ أجيب : بأنه رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في خبر إنّ مع اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك وأنشد سيبويه شاهداً له :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم | بغاة ما بقينا في شقاق |
فإن قيل : ما فائدة هذا التقديم والتأخير ؟ أجيب : بأنّ الصابئين أشدّ العرب المذكورين في هذه الآية ضلالاً وما سموا صابئين إلا لأنهم صبؤوا عن الأديان كلها أي : خرجوا فكأنه قال : هؤلاء الفرق الذين آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك، وقيل : منصوب بالفتحة فكما جوّز بالفتحة مع الياء في بنين وسنين جوّز مع الواو كما هنا وقوله تعالى :﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً ﴾ في محل رفع بالابتداء وخبره ﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ في الآخرة والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والجملة خبر إن.
فإن قيل : كيف قيل : الذين آمنوا من آمن ؟ أجيب : بأنّ المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون أو أنّ المراد مِنْ مَنْ ثبت على الإيمان واستقام ولم تخالجه ريبة فيه.
﴿ أفلا يتوبون ﴾ أي : يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده ﴿ إلى الله ويستغفرونه ﴾ أي : يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقريع والتهديد ﴿ والله غفور ﴾ أي : بالغ المغفرة يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿ رحيم ﴾ أي : بالغ الإكرام لمن أقبل عليه فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
فائدة : مريم من أزواج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة. ولما بين سبحانه وتعالى أقصى ما لهما من الكمالات بين أنّ ذلك لا يوجب لهما الألوهية بقوله :﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾ لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام فكيف يكون إلهاً، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات والإله لا يكون محتاجاً وقيل : هذا كناية عن الحدث لأنّ من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ومن كانت هذه صفته كيف يكون إلهاً ؟ ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة في أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادّعوا فيهما اتبعه التعجب بقوله :﴿ انظر ﴾ متعجباً ﴿ كيف نبين لهم الآيات ﴾ على وحدانيتنا ﴿ ثم انظر أنى ﴾ أي : كيف ﴿ يؤفكون ﴾ أي : يصرفون عن الحق مع قيام البرهان.
فإن قيل : ما معنى التراخي في قوله تعالى :﴿ ثم انظر ﴾ ؟ أجيب : بأنّ معناه التفاوت بين العجبين أي : أنّ بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب.
فإن قيل : إذا كان المراد السيد عيسى فلِمَ عبّر بما دون ( من ) مع أنّ المراد من يعقل ؟ أجيب : بأنه أتى ب( ما ) نظراً إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية أو أن المراد كل ما عبد من دون الله تعالى سواء كان ممن يعقل أم لا ﴿ والله هو السميع ﴾ لأقوالكم ﴿ العليم ﴾ بأحوالكم فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر والاستفهام للإنكار.
﴿ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ﴾ في غلوهم وهم أسلافهما الذين قد ضلّوا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في شريعتهم ﴿ وأضلوا كثيراً ﴾ أي : من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظنّ حقاً ﴿ وضلوا ﴾ أي : بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ عن سواء السبيل ﴾ أي : طريق الحق وهو الإسلام والسواء في الأصل الوسط والأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، قال أبو عبيدة : لم يذكر الهوى إلا في موضع الشر لا يقال : فلان يهوى الخير إنما يقال : يريد الخير ويحبه وقيل : سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال : كل هوى ضلالة.
﴿ كانوا لا يتناهون ﴾ أي : لا ينهى بعضهم بعضاً ﴿ عن منكر ﴾ أي : معاودة منكر ﴿ فعلوه ﴾ أو عن مثل منكر أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له وإنما قدر ما ذكر لأنّ التناهي عن منكر قد مضى محال ﴿ لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ أي : يفعلونه والمخصوص بالذم محذوف أي : فعلهم هذا قال بعض المفسرين : فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبثهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب.
ثم علل سبحانه وتعالى سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بقوله تعالى :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ﴾ أي : علماء ﴿ ورهباناً ﴾ أي : عباداً ﴿ وأنهم لا يستكبرون ﴾ عن اتباع الحق كما استكبر اليهود والمشركون من أهل مكة، نزلت في وفد النجاشي القادمين من الحبشة لا في كل النصارى لأنهم في عداوتهم للمسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب ديارهم وهدم مساجدهم وحرق مصاحفهم، قال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله تعالى منهم من شاء ومنع الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال :( إنّ ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحداً فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً ) وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولهم : قيصر وكسرى فخرج إليه سراً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة من جملتهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وتتابع المسلمون إليهما فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك أرسلوا إلى النجاشي بالهدايا ليردّهم إليهم فعصهم الله تعالى وانصرفوا خائبين، وأقام المسلمون هناك بحسن دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا دينه في سنة ست من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوّجه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها فأرسل النجاشي إلى أمّ حبيبة جارية تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسرت بذلك وأذنت لخالد بن سعيد أن يزوّجها وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي فأنفذ إليها أربعمائة دينار، قالت أمّ حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم ووافى جعفر بن أبي طالب وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشأم فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكوا وأسلموا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى.
﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ﴾ من القرآن ﴿ ترى أعينهم تفيض من الدمع ﴾ أي : جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها ﴿ مما عرفوا من الحق ﴾ ( من ) الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا من الحق أو التبعيض فإنه بعض الحق والمعنى : إنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله، وقال ابن عباس : يريد النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرئ عليهم ثم دعا بجعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين وأمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم كهيعص فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة قالوا : آمنا كما قال تعالى :﴿ يقولون ربنا آمنا ﴾ أي : صدقنا نبيك وكتابك ﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ أي : أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة دليله قوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ ( البقرة، ١٤٣ ) وإذا نظرت مكاتبات النبيّ صلى الله عليه وسلم ازددت بصيرة في صدق هذه الآية فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن أو كان ليناً ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية في الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم ولم يجز رسوله بشيء قال البقاعي : السرّ في ذلك أنه لما كان عيسى عليه الصلاة والسلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان المنتمون إليه -ولو كانوا كفرة- أقرب الأمم مودّة لاتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقالوا في جواب من عيّرهم بالإسلام من اليهود.
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف يوم القيامة لأصحابه فبالغ وأشبع في الكلام في الإنذار فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون وهم : أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إني لم أومر بذلك » ثم قال :«إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ثم جمع الناس وخطبهم وقال :( ما بال أقوام يحرّمون النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة صوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ) فأنزل الله تعالى هذه الآية فقالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا فأنزل الله تعالى ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ ( البقرة، ٢٢٥ ) الآية.
وروي ( أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوز وكان يعجبه الحلواء والعسل ) وقال :«المؤمن حلو يحب الحلاوة » وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال له : إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال : نم على فراشك وكفر عن يمينك » وعن الحسن : أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السبخي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج والفالوز وغير ذلك فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن أهو صائم فقالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان فقال : يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم، وعنه أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوز يقول : لا أؤدي شكره قال : أفيشرب الماء البارد ؟ قال : نعم قال : إنه جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوز، وعنه أنّ الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال تعالى :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ﴾ ( الطلاق، ٧ ) ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوه ولا عذر قوماً ذواهاً عنهم فعصوه.
وروي أنّ عثمان بن مظعون أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ائذن لي في الاختصاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس منا من خصى ولا من اختصى إن خصاء أمتي الصيام ) فقال : يا رسول الله ائذن لي بالسياحة فقال :( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) قال : يا رسول الله ائذن لي في الترهب قال :( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة ).
وروي أنّ رجلاً قال : يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت فأخذتني شهوة فحرّمت اللحم فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا تعارض بين الخبرين لأنّ الشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة بعضها أقرب من بعض.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل نهياً شديداً وقال :( تزوّجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).
روي أنّ الحسن سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد دعني أجب عنك فقال :
ولست بمأخوذ بلغو تقوله | إذا لم تعمد عاقدات العزائم |
﴿ إطعام عشرة مساكين ﴾ أي : لكل مسكين مدّ عندنا ونصف صاع عند أبي حنيفة رحمه الله ﴿ من أوسط ﴾ أي : أعدل ﴿ ما تطعمون أهليكم ﴾ من برّ أو غيره لا من أعلاه ولا من أدناه ﴿ أو كسوتهم ﴾ بما يسمى كسوة كقميص وعمامة وإزار وسراويل ومقنعة من صوف وقطن وكتان وحرير ولو لرجل وإن لم يجز له لبسه لوقوع اسم الكسوة عليه رديئاً كان أو جيداً ويجزئ لبد أو فروة اعتبر في البلد لبسهما ولا يكفي دفع ما ذكر لمسكين واحد وعليه الشافعيّ ولا يكفي المكعب والنعل والخف والقلنسوة والتبان وهو سراويل قصيرة لا تبلغ الركبة ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة ﴿ أو تحرير رقبة ﴾ أي : مؤمنة كما في كفارتي القتل والظهار حملاً للمطلق على المقيد وجوّز أبو حنيفة عتق الكافرة في كل كفارة إلا القتل، وخرج بالتخيير بين هذه الثلاثة أنه لا يجزئ أن يطعم خمسة ويكسو خمسة كما لا يجزئ إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة ﴿ فمن لم يجد ﴾ أي : بأن عجز عن أحد ما ذكر ﴿ فصيام ثلاثة أيام ﴾ أي : فكفارته صيام ثلاثة أيام ولا يجب تتابعها.
فإن قيل : قرئ شاذاً متتابعات والقراءة الشاذة كخبر الواحد في وجوب العلم كما أوجبنا قطع يد السارق اليمنى بالقراءة الشاذة في قوله تعالى :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما ﴾ ( المائدة، ٣٨ ) ولأنّ من عادة الشافعي رحمه الله تعالى حمل المطلق على المقيد من جنسه وهو الظهار والقتل أجيب : بأنّ اليمين نسخ فيها متتابعات تلاوة وحكماً فلا يستدل بها بخلاف آية السرقة فإنها نسخت تلاوة لا حكماً وبأنّ المطلق ههنا متردّد بين أصلين يجب التتابع في أحدهما وهو كفارة الظهار والقتل ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان فلم يكن أحد الأصلين في التتابع بأولى من الآخر ويسنّ تتابعها خروجاً من خلاف أبي حنيفة فإنه شرط تتابعها.
تنبيه : المراد بالعجز أن لا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة كمن يجد كفايته وكفاية من تلزمه مؤنته فقط ولا يجد ما يفضل عن ذلك وضابط ذلك : أنّ من جاز له أن يأخذ سهم الفقراء والمساكين من الزكاة والكفارات جاز له أن يكفر بالصوم لأنه فقير في الأخذ فكذا في الإعطاء ﴿ ذلك ﴾ أي : المذكور ﴿ كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ أي : وحنثتم ﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾ أي : من أن تنكثوها ما لم تكن من فعل برّ أو إصلاح بين الناس كما مرّ في سورة البقرة ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ما بين لكم ما ذكر ﴿ يبين الله لكم آياته ﴾ أي : أعلام شريعته ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي : يحصل منكم شكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية.
واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بأن صدّر الجملة بإنما وقرنهما بالأصنام والأزلام وسماهما رجساً وجعلهما من عمل الشيطان تنبيهاً على أن الاشتغال بهما شر خالص أو غالب وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعل الاجتناب سبباً يرجى منه الفلاح.
﴿ إنما يريد الشيطان ﴾ أي : بتزيين الشرب والقمار لكم ﴿ أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ﴾ أي : إذا أتيتموهما لما يحصل فيهما من الشرّ والفتن، أمّا العداوة في الخمر فإنّ الشارب إذا سكر عربد كما فعل الأنصاري الذي شج رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل، وأمّا العداوة في الميسر فقال قتادة : كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال مغتاظاً على حرفائه ﴿ ويصدّكم ﴾ بالاشتغال بهما ﴿ عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾ وذلك لأنّ من اشتغل بشرب الخمر والقمار ألهاه ذلك عن ذكر الله وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف، تقدّم رجل منهم يصلي بهم صلاة المغرب بعدما ما شربوا فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد بحذف لا، وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهاً على أنهما المقصودان بالبيان وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله صلى الله عليه وسلم :( شارب الخمر كعابد الوثن ) رواه البزار ورواه ابن حبان بلفظ ( مدمن الخمر كعابد الوثن ) قال : ويشبه أن يكون فيمن يستحلها وهو كذلك وخص الصلاة بالذكر للإفراد بالتعظيم والإشعار بأنّ الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر ثم أعاد الحثّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباً على ما تقدّم من أنواع الصوارف بقوله تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ إيذاناً بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأنّ الأعذار قد انقطعت فلفظه الاستفهام ومعناه أمر كقوله تعالى :﴿ فهل أنتم شاكرون ﴾ ( الأنبياء، ٨٠ ).
ولما نزل تحريم الخمر قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر نزل.
ونزل عام الحديبية وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصيد فكانت الوحوش تغشى رحالهم فهموا بأخذها.
وقوله :﴿ هدياً ﴾ حال من ( جزاء ) وقوله تعالى :﴿ بالغ الكعبة ﴾ أي : يبلغ به الحرم فيذبح فيه ويتصدّق به على مساكينه ولا يجوز أن يذبح حيث كان وهو نعت لما قبله وإن أضيف إلى معرفة لأنّ إضافته لفظية لا تفيد تعريفاً فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته ﴿ أو ﴾ عليه ﴿ كفارة طعام مساكين ﴾ في الحرم من غالب قوت البلد مما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مدّ، وقرأ نافع وابن عامر كفارة بغير تنوين وخفض ميم طعام والباقون بالتنوين ورفع ميم طعام أي : هي طعام ﴿ أو ﴾ عليه ﴿ عدل ﴾ أي : مثل ﴿ ذلك ﴾ أي : الطعام ﴿ صياماً ﴾ يصومه في كل موضع يتيسر له عن كلّ مدّ يوماً، ف( أو ) للتخيير لأنه الأصل فيها، قال البقاعي : والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل.
وقوله تعالى :﴿ ليذوق وبال أمره ﴾ متعلق بمحذوف أي : فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى :﴿ فأخذناه أخذاً وبيلاً ﴾ ( المزمل، ١٦ ) أي : ثقيلاً والطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة ولا يستمر ﴿ عفا الله عما سلف ﴾ أي : من قتل الصيد قبل تحريمه فلا يؤاخذكم به ﴿ ومن عاد ﴾ إلى تعمد شيء من ذلك بعد النهي وقوله تعالى :﴿ فينتقم الله منه ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً ﴾ ( الجن، ١٣ ) أي : ينتقم الله تعالى منه في الآخرة وإذا تكرّر من المحرم قتل الصيد تعدّدت عليه الكفارة عند عامّة العلماء.
وعن ابن عباس وشريح : لا كفارة عليه تعلقاً بظاهر الآية فإنه لم يذكر الكفارة قالا : لأنّ الانتقام من العائد يمنع وجوب الكفارة ﴿ والله ﴾ الذي له صفات الكمال ﴿ عزيز ﴾ أي : غالب على أمره ﴿ ذو انتقام ﴾ أي : ممن أصبر على عصيانه.
﴿ أحلّ لكم ﴾ أيها الناس حلالاً كنتم أو محرمين ﴿ صيد البحر ﴾ أي : ما صيد منه وهو ما لا يعيش إلا في الماء كالسمك بخلاف ما يعيش فيه وفي البرّ عند الشافعيّ رحمه الله تعالى وذهب قوم إلى أنّ جميع ما في البحر حلال وظاهر الآية حجة له. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لا يحلّ منه إلا السمك، وقوله تعالى :﴿ وطعامه ﴾ عطف على صيد البحر أي : وأحلّ لكم طعام البحر وهو ما يقذفه من السمك ميتاً قال صلى الله عليه وسلم : في البحر :( هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته ) رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما وصححوه وقال قتادة : صيده طريه وطعامه مالحه، وقيل : الضمير للصيد وطعامه أكله وعلى هذا فالصيد بمعنى الاصطياد والمعنى : أحلّ لكم اصطياد الصيد وأكل المصيد من الأنهار والبرك وغيرهما من جميع المياه كالبحر.
وقوله تعالى :﴿ متاعاً ﴾ مفعول أي : أحلّ ﴿ لكم ﴾ تمتيعاً لكم تأكلونه طرياً ﴿ وللسيارة ﴾ أي : المسافرين منكم يتزوّدونه قديداً كما تزوّد موسى صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى الخضر الحوت ﴿ وحرّم عليكم صيد البرّ ﴾ أي : اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا يعيش إلا فيه وما يعيش فيه وفي البحر فإن صيد الحلال حل للمحرم أكله لقوله صلى الله عليه وسلم :( لحم الصيد حلال لكم ما لم تصطادون أو يصد لكم ) ﴿ ما دمتم حرماً ﴾ أي : محرمين وقد ذكر تعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاث مواضع من هذه السورة قوله تعالى :﴿ غير محلي الصيد وأنتم حرم ﴾ ( المائدة، ١ ) إلى قوله تعالى :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ ( المائدة، ٢ ) وقوله تعالى :﴿ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾ ( المائدة، ٩٥ ) وقوله تعالى :﴿ وحرم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً ﴾ ( المائدة، ٩٦ ) تشديداً على المحرم أنه لا يتعاطى ذلك وأكد ذلك بقوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ أي : في ذلك الاصطياد وغيره ﴿ الذي إليه تحشرون ﴾ فإنه مجازيكم بأعمالكم.
﴿ والشهر الحرام ﴾ أي : الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أي : صير الأشهر الحرم قياماً للناس يأمنون فيها من القتال ﴿ والهدي ﴾ أي : الذي لم يقلد ﴿ والقلائد ﴾ أي : الهدى الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء ومرّ الكلام عليه في أوّل السورة ﴿ ذلك ﴾ أي : الجعل المذكور وهو الأربعة الأشياء التي جعلها الله قياماً للناس ﴿ لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ﴾ فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها دليل على علمه بما في الوجود وما هو كائن وقوله تعالى :﴿ وإنّ الله بكل شيء عليم ﴾ تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق.
﴿ اعلموا أنّ الله شديد العقاب ﴾ فيه وعيد لأعدائه ممن انتهك محارمه وقوله تعالى :﴿ وإنّ الله غفور ﴾ فيه وعد لأوليائه ممن حافظ عليها ﴿ رحيم ﴾ بهم.
﴿ ما على الرسول إلا البلاغ ﴾ فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط ﴿ والله يعلم ما تبدون ﴾ أي : تظهرون من العمل ﴿ وما تكتمون ﴾ أي : تخفون منه فيجازيكم به.
﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾ حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها رغب به في صالح العمل وحلال المال ﴿ ولو أعجبك كثرة الخبيث ﴾ إذ لا عبرة بالقلة والكثرة بل بالجودة والرداءة فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال تعالى :﴿ فاتقوا الله ﴾ أي : في ترك الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى وآثِروا الطيب وإن قلّ في الحس لكثرته في المعنى ﴿ يا أولي الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول السليمة ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد ﴾ أي : تظهر ﴿ لكم تسؤكم ﴾ أي : لما فيها من المشقة فقيل : سبب نزولها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه إنهم لما سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه المسألة أي : بالغوا في السؤال فغضب وصعد المنبر وقال :( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ) وشرع يكرّر ذلك وإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي ؟ فقال :«حذافة » فقال عمر رضي الله تعالى عنه : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه قد صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط في آخره ) فنزلت هذه الآية.
وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله أنا حديث عهد بجاهلية اعف عنا يعف الله عنك فسكن غضبه، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضاً قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال :( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل : من أبي ؟ قال : فلان فنزلت هذه الآية. وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي ؟ يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال صلى الله عليه وسلم :( لا أسأل عن شيء إلا وأجيب ) فقال رجل : أين أنا ؟ قال :( في النار ) وقال آخر : من أبي ؟ قال :«حذافة » وكان يدعى لغيره فنزلت هذه الآية. وقيل غير ذلك ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردّها إلى شيء واحد لما مرّ عند قوله تعالى :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ ( المائدة، ٨٧ ) من أنّ الأمر الواحد قد تتعدّد أسبابه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى والباقون بتحقيقهما. ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أنّ هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه قال تعالى :﴿ وإن تسألوا عنها ﴾ أي : تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها ﴿ حين ينزل القرآن تبد لكم ﴾ المعنى : إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلى الله عليه وسلم ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ثم عفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها )، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقوله تعالى :﴿ عفا الله عنها ﴾ استئناف أي : عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مسألتها أو صفة أخرى أي : عن أشياء عفا الله عنها ولا يكلف بها.
روي أنه لما نزل ﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ ( آل عمران، ٩٧ ) قال سراقة بن مالك : ألكل عام فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثاً فقال :( لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ).
﴿ والله غفور ﴾ يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام ﴿ حليم ﴾ لا يعجل على العاصي بالعقوبة.
﴿ قد سألها قوم ﴾ الضمير فيه للمسألة التي دلّ عليها تسألوا ولذلك لم يعدّ بعن أو الأشياء بحذف الجار وقوله تعالى :﴿ من قبلكم ﴾ قال البيضاويّ : متعلق بسألها وليس صفة لقوم فإن ظرف الزمان لا يكون صفة لجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها اه. قال أبو حيان : هذا محله في ظرف الزمان المجرّد من الوصف أمّا إذا لم يتجرّد عنه فيصح أن يكون صفة للجثة أو حالاً منها أو خبراً عنها، وقبل وبعد وصفان في الأصل فإذا قلت : جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي : تقدّم عليه ولذا صح وقوعه صلة للموصول ولو لم يلحظ فيه الوصف ولو كان ظرف زمان مجرّداً لم يجز أن يقع صلة قال تعالى :﴿ والذين من قبلكم ﴾ ( البقرة، ٢١ ) ولا يجوز والذين اليوم وممن سألها قبلهم ثمود سألوا صالحاً الناقة وسأل قوم عيسى المائدة ﴿ ثم أصبحوا ﴾ أي : صاروا ﴿ بها ﴾ أي : بسببها ﴿ كافرين ﴾ حيث لم يأتمروا بما سألوا جحوداً.
﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ ردّ وإنكار لما ابتدعته أهل الجاهلية.
روي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر يجزوا أذنها أي : شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ وقيل : إنهم كانوا ينظرون إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى يجزوا أذنها أي : شقوها وتركوها، وحرم على النساء لبنها ومنافعها وكانت منافعها خاصة للرجال وإذا ماتت حلت للرجال والنساء.
وأما السائبة فكان الرجل منهم يقول : إن شفيت أو ردّ غائبي فناقتي سائبة ثم يسيبها فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا تركب ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وقيل : كانت الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فإن نتجت بعد ذلك أنثى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع أمّها في الإبل فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمّها فهي البحيرة بنت السائبة.
وأمّا الوصيلة فمن الغنم كانت إذا ولدت سبعة أبطن نظر فإن كان السابع ذكراً ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وقيل : إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وكان ابن الأنثى حراماً على النساء فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعاً.
وأمّا الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال : إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وإذا مات أكله الرجال والنساء.
وروي ( أنه صلى الله عليه وسلم قال لأكثم الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجرّ قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك أنه أوّل من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ) فقال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال :( لا إنك مؤمن وهو كافر ) ومعنى ﴿ ما جعل الله ﴾ أي : ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير ولا التسيب ولا غير ذلك ﴿ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ﴾ في قولهم : إنّ الله أمرنا بها ﴿ وأكثرهم لا يعقلون ﴾ أنّ ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم.
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ﴾ أي : كافينا ﴿ ما وجدنا عليه آباءنا ﴾ إذ لا مستند لهم سوى ذلك قال الله تعالى :﴿ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ﴾ أي : إلى الحق والاستفهام للإنكار أي : أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين. وقرأ هشام والكسائيّ قيل بضم القاف قبل الياء والباقون بالكسر.
وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ﴾ الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه ). وفي رواية ( لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لهم ).
قال أبو عبيدة : خاف الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه يتأوّل الناس الآية غير متأوّلها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف فأعلمهم أنها ليست كذلك، قال أبو ثعلبة الخشني : سألت عن هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت الأمر لا بدّ لك منه فعليك نفسك ودع أمر العامة وإن وراءكم أيام الصبر فمن صبر فيهنّ قبض على الجمر وإنّ وراءكم أياماً للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله ) قال ابن المبارك وزادني غيره قال يا رسول الله :( أجر خمسين منهم ؟ قال :( أجر خمسين منكم ).
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ هذه الآية قرئت عنده فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه وبسط لعذره وعنه ليس هذا زمان تأويلها قيل : فمتى ؟ قال : إذا حال دونها السيف والسوط والحبس.
وروي :( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل ). وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ولاموه فنزلت : عليكم أنفسكم وعليكم من أسماء الفعل بمعنى الزموا أنفسكم ولذلك نصب أنفسكم ﴿ إلى الله مرجعكم جميعاً ﴾ الضال والمهتدي ﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ فيجازيكم به، وفي ذلك وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أنّ أحداً لا يؤاخذ بذنب أحد غيره.
وقيل : المراد بها اليمين بمعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، قال القرطبي :
ورد لفظ الشهادة في القرآن على أنواع مختلفة بمعنى الحضور قال تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ ( البقرة، ١٨٥ ) وبمعنى قضى قال تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴾ ( آل عمران، ١٨ ) وبمعنى أقرّ قال تعالى :﴿ والملائكة يشهدون ﴾ ( النساء، ١٦٦ ) وبمعنى حكم قال تعالى :﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾ ( يوسف، ٢٦ ) وبمعنى حلف قال تعالى :﴿ فشهادة أحدهم أربع شهادات ﴾ ( النور، ٦ ) وبمعنى وصى قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ أي : أسبابه ﴿ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ﴾ وهذا خبر بمعنى الأمر أي : ليشهد وإضافة شهادة ل«بين » على الاتساع و( حين ) بدل من إذا أو ظرف لحضر واثنان فاعل شهادة أو خبر مبتدأ محذوف أي : الشاهد اثنان ومن فسر الغير بأهل الذمّة جعله منسوخاً فإنّ شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً، وقد اتفق الأكثرون على أنه لا نسخ في سورة المائدة، وعن مكحول نسخها قوله تعالى :﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ ( الطلاق، ٢ ) وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر.
﴿ إن أنتم ضربتم ﴾ أي : سافرتم ﴿ في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ﴾ أي : قاربتم الأجل وقوله تعالى :﴿ تحبسونهما ﴾ أي : توقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران ﴿ من بعد الصلاة ﴾ أي : صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل : أيّ صلاة كانت ﴿ فيقسمان ﴾ أي : يحلفان ﴿ بالله ﴾ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره : إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كانا الوصيين فلا إثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه ﴿ إن ارتبتم ﴾ أي : شككتم فيما أخبرا به عن الواقعة ثم ذكر المقسم عليه بقوله :﴿ لا نشتري به ثمناً ﴾ أي : بهذا الذي ذكرناه ثمناً أي : لم نذكره ليحصل لنا به غرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة وليس قصدنا به إلا إقامة الحق ﴿ ولو كان ﴾ أي : القسم له ﴿ ذا قربى ﴾ أي : لنا ﴿ ولا نكتم شهادة الله ﴾ أي : التي أمرنا بإقامتها ﴿ إنا إذا ﴾ أي : إذا كتمناها ﴿ لمن الآثمين ﴾.
ومعنى الآيتين : أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته أو يوصي إليهما احتياطاً فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإن الشاهد لا يحلف ولا تعارض يمينه بيمين الوارث، وثابت إن كانا وصيين وردّ اليمين إلى الورثة إمّا لظهور خيانة الوصيين فإنّ تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها، وهي ما روي أنّ رجلاً من بني سهم خرج مع تميم الداري وعدي بن زيد إلى الشام للتجارة وكانا حينئذٍ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً فلما قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما بها وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ثم قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة ودفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا فأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاؤوا تميماً وعدياً فقالوا : هل باع صاحبنا شيئاً ؟ قالا : لا قالوا : هل اتجر تجارة قالا : لا قالوا : فهل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا لا قالوا : فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا منها إناء من فضة مموّهاً بالذهب ثلثمائة مثقال من فضة قالا : ما ندري إنما أوصى لنا بشيء وأمرنا أن ندفعه لكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجترآ على الإنكار وحلفا فأنزل تعالى الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ الآية فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميماً وعدياً فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئاً مما دفع إليهما فحلفا على ذلك وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما، ثم وجد الإناء في أيديهما، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك فقالا : إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا : ألم تزعما أنّ صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه ؟ قالا : لم يكن عندنا بينة وكرهنا أن نقر لكم فكتمنا لذلك فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فإن عثر فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان وحلفا وتقدّم أنّ تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.
﴿ يوم يجمع الله الرسل ﴾ أي : يوم القيامة منصوب بإضمار اذكر. وقيل : بدل من مفعول واتقوا بدل اشتمال ﴿ فيقول ﴾ لهم توبيخاً لقومهم كما أنّ سؤال الموءودة لتوبيخ الوائد ﴿ ماذا ﴾ أي : الذي ﴿ أجبتم ﴾ به حين دعوتم إلى التوحيد ﴿ قالوا لا علم لنا ﴾ أي : لا علم لنا بما أنت تعلمه ﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾ فتعلم ما أجابونا وأظهروا لنا وما لم نعلم مما أضمروا في قلوبهم.
﴿ إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ﴾ أي : اشكرها منصوب بإضمار اذكر، وقيل : بدل من يوم يجمع وهو على طريقة : ونادى أصحاب الجنة، والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة يومئذٍ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهروا عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة وقوله تعالى :﴿ إذ أيدتك ﴾ أي : قوّيتك ظرف ل( نعمتي ) أو حال منه ﴿ بروح القدس ﴾ أي : جبريل عليه السلام فكان له في الصغر حفظ لم يكن لغيره وقوله تعالى :
﴿ تكلم الناس ﴾ حال من الكاف في أيدتك ﴿ في المهد ﴾ أي : طفلاً ﴿ وكهلاً ﴾ أي : تكلمهم في الطفولية والكهولة على السواء والمعنى : إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهول في كمال العقل والتكلم به، وبه استدل على أنه ينزل قبل الساعة ؛ لأنه رفع قبل الكهولة كما سبق في آل عمران ﴿ وإذ علمتك الكتاب ﴾ أي : الخط الذي هو مبدأ العلم ﴿ والحكمة ﴾ أي : الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم ﴿ والتوراة ﴾ أي : المنزلة على موسى صلى الله عليه وسلم ﴿ والإنجيل ﴾ أي : المنزل عليك ﴿ وإذ تخلق من الطين ﴾ أي : هذا الجنس ﴿ كهيئة ﴾ أي : كصورة ﴿ الطير ﴾ والكاف اسم بمعنى مثل مفعول ﴿ بإذني ﴾ أي : بأمري ﴿ فتنفخ فيها ﴾ أي : في الصورة المهيأة ﴿ فتكون ﴾ تلك الصورة التي هيأتها ﴿ طيراً بإذني ﴾ أي : بإرادتي، وقرأ نافع بالمدّ بعد الطاء وبعد الألف همزة مكسورة وورش يرقق الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء ﴿ وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ﴾ وسبق تفسيرهما في سورة آل عمران ﴿ وإذ تخرج الموتى ﴾ أي : من قبورهم أحياء ﴿ بإذني وإذ كففت بني إسرائيل ﴾ أي : اليهود ﴿ عنك ﴾ أي : حين هموا بقتلك وقوله تعالى :﴿ إذ جئتهم ﴾ ظرف ل( كففت ) ﴿ بالبينات ﴾ أي : المعجزات ﴿ فقال الذين كفروا منهم إن ﴾ أي : ما ﴿ هذا ﴾ الذي جئت به ﴿ إلا سحر مبين ﴾ أي : بيّن ظاهر، وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء إشارة إلى عيسى عليه السلام، والباقون بكسر السين وسكون الحاء ولا ألف بعدها إشارة إلى ما جاء به.
﴿ إذ قال الحواريون ﴾ منصوب ب( اذكر ). وقيل : ظرف ل( قالوا ) فيكون تنبيهاً على أنّ ادعاءهم الإخلاص مع قولهم :﴿ يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك ﴾ قرأ الكسائي بالتاء على الخطاب وإدغام لام هل فيها على أصله، وفتح الباء الموحدة من ربك أي : هل تستطيع ربك أي : سؤال ربك والمعنى : هل تسأل ذلك من غير صارف ؟ وقرأ الباقون بالياء على الغيبة ورفع الباء أي : يجيبك ربك إذا سألته ﴿ أن ينزل علينا مائدة ﴾ وهي الطعام ويقال أيضاً للخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان : شيء يوضع عليه الطعام للأكل هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين أي : تميل، وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى مفعولة أي : تميد أيدي الآكلين إليها كقولهم : عيشة راضية أي : مرضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقولهم :﴿ من السماء ﴾ أي : لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدّمنا من الأمم لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة ﴿ قال ﴾ عيسى عليه الصلاة والسلام مجيباً لهم ﴿ اتقوا الله ﴾ أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ بكمال قدرته تعالى وصحة نبوّتي أو صدقتكم في ادعائكم الإيمان فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
وروي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً، وقيل : إنّ عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ثم قال : اللهمّ ربنا الخ. . وقيل : العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً وقوله :﴿ لأوّلنا وآخرنا ﴾ بدل من لنا بإعادة العامل أي : عيداً لأهل زماننا ولمن جاء بعدنا وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وقوله :﴿ وآية ﴾ عطف على عيداً وقوله :﴿ منك ﴾ صفة لها أي آية كائنة منك دالّة على كمال قدرتك وصحة نبوّتي ﴿ وارزقنا ﴾ المائدة والشكر عليها ﴿ وأنت خير الرازقين ﴾ أي : من يرزق ؛ لأنه تعالى خالق الرزق ومعطيه بلا غرض.
واختلف العلماء هل نزلت المائدة أو لا ؟ فقال مجاهد والحسن : لم تنزل فإنّ الله تعالى لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستغفروا وقالوا : لا نريدها فلم تنزل، وقوله تعالى :﴿ إني منزلها عليكم ﴾ أي : إن سألتم والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت لقوله تعالى :﴿ إني منزلها عليكم ﴾ ولتواتر الأخبار في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في صفتها فقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسيّ : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه السلام مسحاً وبكى وقال :﴿ اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة ﴾ الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة، فقام فتوضأ وصلى وكشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس أي : بلا قشر كالفلوس ولا شوك تسيل دهناً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد، فقال شمعون الصفار وهو رأس الحواريين : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة ؟ فقال : ليس شيئاً مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بقدرته، كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله فقال : يا روح الله كن أوّل من يأكل منها فقال : معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها، من سألها فخافوا أن يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين وقال : كلوا من رزق الله لكم الهناء ولغيركم البلاء، فأكلوا وصدروا عنها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة من فقير وزمن ومريض ومبتلى كلهم شبعان والسمكة كهيئتها حين نزلت، ثم طارت المائدة صعوداً وهم ينظرون إليها حتى توارت فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى، وندم من لم يأكل فلبثت أربعين صباحاً تنزل ضحاً فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء أي : زالت الشمس طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم، وكانت تنزل غِبَّاً تنزل يوماً ولا تنزل يوماً كناقة ثمود، وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشياً حيث كانوا كالمنّ والسلوى لبني إسرائيل، وقال وهب بن منبه : أنزل الله تعالى أقراصاً من شعير وحيتاناً فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم، وقال عطية العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء، وقال الكلبي : كان عليها خبز أرز وبقل، وقال قتادة : كان عليها ثمر من ثمار الجنة، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم، وقال كعب الأحبار : نزلت منكسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كلّ الطعام ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها كانت تنزل تارة كذا وتارة كذا.
قيل : لما نزلت قالوا : يا رسول الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة احيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية، ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا فمسخ منهم ثلثمائة وثلاثون رجلاً من ليلتهم على فراشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون، في الطرفات والكناسات يأكلون العذرة في الحشوش، فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطوف بعيسى وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.
وفي حديث :( أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادّخروا فمسخوا قردة وخنازير ).
فإن قيل : ما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى عليه السلام لم يقله ؟ أجيب : بأنه ذكر لتوبيخ قومه كما مرّ، ولتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله إعلاماً واستعظاماً لا استخباراً واستفهاماً، وأيضاً أراد الله عز وجل أن يقرّ عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك. قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب ارتعدت فرائصه ومفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم ثم ﴿ قال ﴾ وهو يرعد مجيباً لله ﴿ سبحانك ﴾ أي : أنزهك عن أن يكون لك شريك ﴿ ما يكون ﴾ أي : ما ينبغي ﴿ لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ خبر ليس «ولي » للتبيين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ( لي ) الأولى بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما ﴾ أخفيه ﴿ في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾ أي : ما أخفيته عني من الأشياء وقوله : في نفسك للمشاكلة. وقيل : المراد بالنفس الذات وقوله :﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾ تقرير لجملتي ﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ﴾ باعتبار منطوق ﴿ إنك أنت علام الغيوب ﴾ ومفهومه لأنه يدل بمنطوقه على أنه تعالى لا يعلم الغيب غيره فيكون تقريراً لقوله تعالى :﴿ ولا أعلم ما في نفسك ﴾ وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
قال : ولما كان عيسى صادقاً في الدنيا والآخرة نفعه صدقه. ثم بيّن تعالى ثوابهم فقال :﴿ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ وأكد معنى ذلك بقوله تعالى :﴿ أبداً ﴾ ولما كان ذلك لا يتمّ إلا برضا الله تعالى قال :﴿ رضي الله عنهم ﴾ بطاعته ﴿ ورضوا عنه ﴾ بثوابه ﴿ ذلك ﴾ أي : هذا الأمر العليّ لا غيره ﴿ الفوز العظيم ﴾ وأمّا الكاذبون في الدنيا فلا ينفعهم صدقهم في ذلك اليوم كالكفار لما يؤمنون عند رؤية العذاب.